سورة
الفاتحة
الباب
الأول في فضائلها وأسمائها
روى
الترمذي عن أبي بن كعب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما أنزل الله في التوراة ولا
في الإنجيل مثل أم القرآن وهي السبع المثاني وهي مقسومة بيني وبين عبدي ولعبدي ما
سأل ) . أخرج
مالك عن العلاء بن عبدالرحمن بن يعقوب: أن أبا سعيد مولى ( عبدالله بن ) عامر بن كريز أخبره أن رسول
الله صلى الله عليه سلم نادى أبيّ بن كعب وهو يصلي، فذكر الحديث. قال ابن عبدالبر:
أبو سعيد لا يوقف له على اسم وهو معدود في أهل المدينة. روايته عن أبي هريرة
وحديثه هذا مرسل، وقد روي هذا الحديث عن أبي سعيد بن المعلى رجل من الصحابة لا
يوقف على اسمه أيضا، رواه عنه حفص بن عاصم وعبيد بن حنين.
قلت: كذا
قال في التمهيد: « لا
يوقف له على اسم » . وذكر
في كتاب الصحابة الاختلاف في اسمه. والحديث خرجه البخاري عن أبي سعيد بن المعلى
قال: كنت أصلي في المسجد فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجبه فقلت: يا
رسول الله إني كنت أصلي فقال: ألم يقل الله « استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم » [ الأنفال: 24 ] - ثم قال: - ( إني لأعلمنك سورة هي أعظم
السور في القرآن قبل أن تخرج من المسجد ثم أخذ بيدي فلما أراد أن يخرج قلت له: ألم
تقل لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن؟ قال: الحمد لله رب العالمين هي السبع
الثماني والقرآن العظيم الذي أوتيته ) . قال ابن عبدالبر وغيره: أبو سعيد بن المعلى من جلة
الأنصار وسادات الأنصار تفرد به البخاري واسمه رافع، ويقال: الحارث بن نفيع بن المعلى،
ويقال: أوس بن المعلى، ويقال: أبو سعيد بن أوس بن المعلى، توفي سنة أربع وسبعين
وهو ابن أربع وستين سنة وهو أول من صلى إلى القبلة حين حوّلت وسيأتي. وقد أسند
حديث أبيٍّ يزيد بن زريع قال: حدثنا روح بن القاسم عن العلاء بن عبدالرحمن عن أبيه
عن أبي هريرة قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي وهو يصلي فذكر الحديث
بمعناه.
وذكر ابن
الأنباري في كتاب الرد له: حدثني أبي حدثني أبو عبيدالله الوراق حدثنا أبو داود
حدثنا شيبان عن منصور عن مجاهد قال: إن إبليس - لعنه الله - رنّ أربع رنات: حين
لعن وحين أهبط من الجنة وحين بعث محمد صلى الله عليه وسلم وحين أنزلت فاتحة
الكتاب، وأنزلت بالمدينة.
اختلف
العلماء في تفضيل بعض السور والآي على بعض، وتفضيل بعض أسماء الله تعالى الحسنى
على بعض فقال قوم: لا فضل لبعض على بعض لأن الكل كلام الله وكذلك أسماؤه لا مفاضلة
بينها. ذهب إلى هذا الشيخ أبو الحسن الأشعري والقاضي أبو بكر بن الطيب وأبو حاتم
محمد بن حبان البستي وجماعة من الفقهاء. وروي معناه عن مالك. قال يحيى بن يحيى:
تفضيل بعض القرآن على بعض خطأ، وكذلك كره مالك أن تعاد سورة أو تردد دون غيرها.
وقال عن مالك في قول الله تعالى: « نأت بخير
منها أو مثلها » [ البقرة: 106 ] قال: محكمة مكان منسوخة. وروى
ابن كنانة مثل ذلك كله عن مالك. واحتج هؤلاء بأن قالوا: إن الأفضل يشعر بنقص
المفضول والذاتية في الكل واحدة وهي كلام الله وكلام الله تعالى لا نقص فيه. قال
البستي: ومعنى هذه اللفظة ( ما في
التوراة ولا في الإنجيل مثل أم القرآن ) : أن الله تعالى لا يعطي لقارئ التوراة والإنجيل من الثواب
مثل ما يعطي لقارئ أم القرآن إذ الله بفضله هذه الأمة على غيرها من الأمم وأعطاها
من الفضل على قراءة كلامه أكثر مما أعطى غيرها من الفضل على قراءة كلامه وهو فضل
منه لهذه الأمة. قال ومعنى قوله: ( أعظم سورة ) أراد به في الأجر لا أن بعض القرآن أفضل من بعض. وقال قوم
بالتفضيل وأن ما تضمنه قوله تعالى « إلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم » [ البقرة: 163 ] وآية الكرسي وآخر سورة الحشر
وسورة الإخلاص من الدلالات على وحدانيته وصفاته ليس موجودا مثلا في « تبت يدا أبي لهب » [ المسد: 1 ] وما كان مثلها.
والتفضيل
إنما هو بالمعاني العجيبة وكثرتها لا من حيث الصفة وهذا هو الحق. وممن قال
بالتفضيل إسحاق بن راهوية وغيره من العلماء والمتكلمين وهو اختيار القاضي أبي بكر
بن العربي وابن الحصار لحديث أبي سعيد بن المعلى وحديث أبي بن كعب أنه قال قال لي
رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يا
أبي أي آية معك في كتاب الله أعظم ) قال فقلت: « الله
لا إله إلا هو الحي القيوم » [ البقرة: 255 ] . قال: فضرب في صدري وقال: ( ليهنك العلم يا أبا المنذر ) أخرجه البخاري ومسلم.
قال ابن
الحصار: عجبي ممن يذكر الاختلاف مع هذه النصوص.
وقال ابن
العربي: قوله: ( ما
أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن مثلها ) وسكت عن سائر الكتب كالصحف
المنزلة والزبور وغيرها لأن هذه المذكورة أفضلها وإذا كان الشيء أفضل الأفضل صار
أفضل الكل. كقولك: زيد أفضل العلماء فهو أفضل الناس. وفي الفاتحة من الصفات ما ليس
لغيرها حتى قيل: إن جميع القرآن فيها. وهي خمس وعشرون كلمة تضمنت جميع علوم
القرآن. ومن شرفها أن الله سبحانه قسمها بينه وبين عبده ولا تصح القربة إلا بها
ولا يلحق عمل بثوابها وبهذا المعنى صارت أم القرآن العظيم كما صارت « قل هو الله أحد » تعدل ثلث القرآن إذ القرآن
توحيد وأحكام ووعظ و « قل هو
الله أحد » فيها
التوحيد كله وبهذا المعنى وقع البيان في قول عليه السلام لأبي. ( أي آية في القرآن أعظم ) قال: « الله لا إله إلا هو الحي
القيوم » [ البقرة: 255 ] . وإنما كانت أعظم آية لأنها
توحيد كلها كما صار قوله: ( أفضل
ما قلته أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له ) أفضل الذكر لأنها كلمات حوت
جميع العلوم في التوحيد والفاتحة تضمنت التوحيد والعبادة والوعظ والتذكير ولا
يستبعد ذلك في قدرة الله تعالى.
روى علي
بن أبي طالب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( فاتحة الكتاب وآية الكرسي
وشهد الله أنه لا إله إلا هو وقل اللهم مالك الملك هذه الآيات معلقات بالعرش ليس
بينهن وبين الله حجاب ) .
أسنده أبو عمرو الداني في كتاب البيان له.
في
أسمائها - وهي اثنا عشر اسما: ( الأول
) :
الصلاة، قال الله تعالى: ( قسمت
الصلاة بيني وبين عبدي نصفين )
الحديث. وقد تقدم. (
الثاني ) : [ سورة ] الحمد، لأن فيها ذكر الحمد
كما يقال: سورة الأعراف والأنفال والتوبة ونحوها. ( الثالث ) : فاتحة الكتاب، من غير خلاف
بين العلماء، وسميت بذلك لأنه تفتتح قراءة القرآن بها لفظا وتفتتح بها الكتابة في
المصحف خطاً وتفتتح بها الصلوات. ( الرابع ) : أم
الكتاب، وفي هذا الاسم خلاف جوزه الجمهور وكرهه أنس والحسن وابن سيرين. قال الحسن:
أم الكتاب الحلال والحرام، قال الله تعالى: « آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات » [ آل عمران: 7 ] . وقال أنس وابن سيرين: أم
الكتاب اسم اللوح المحفوظ. قال الله تعالى: « وإنه في أم الكتاب » . [
الزخرف: 4 ] . ( الخامس ) : أم القرآن، واختلف فيه أيضا
فجوزه الجمهور وكرهه أنس وابن سيرين والأحاديث الثابتة ترد هذين القولين. روى
الترمذي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( الحمد لله أم القران وأم
الكتاب والسبع المثاني ) قال:
هذا حديث حسن صحيح. وفي البخاري قال: وسميت أم الكتاب لأنه يبتدأ بكتابتها في
المصاحف ويبدأ بقراءتها في الصلاة. وقال يحيى بن يعمر: أم القرى: مكة، وأم خراسان:
مرو، وأم القرآن: سورة الحمد. وقيل: سميت أم القرآن لأنها أوله ومتضمنة لجميع
علومه، وبه سميت مكة أم القرى لأنها أول الأرض ومنها دحيت، ومنه سميت الأم أما
لأنها أصل النسل، والأرض أما في قول أمية بن أبي الصلت:
فالأرض
معقلنا وكانت أمنا فيها مقابرنا وفيها نولد
ويقال
لراية الحرب: أم، لتقدمها واتباع الجيش لها. وأصل أم أمهة، ولذلك تجمع على أمهات
قال الله تعالى: «
وأمهاتكم » . ويقال
أمات بغير هاء. قال:
فَرَجْتَ
الظلام بأمّاتكا
وقيل: إن
أمهات في الناس، وأمّات في البهائم، حكاه ابن فارس في المجمل.
( السادس ) : المثاني، سميت بذلك لأنها
تثنى في كل ركعة، وقيل: سميت بذلك لأنها استثنيت لهذه الأمة فلم تنزل على أحد
قبلها ذخرا لها. (
السابع ) :
القرآن العظيم، سميت بذلك لتضمنها جميع علوم القرآن وذلك أنها تشتمل على الثناء
على الله عز وجل بأوصاف كماله وجلاله وعلى الأمر بالعبادات والإخلاص فيها
والاعتراف بالعجز عن القيام بشيء منها إلا بإعانته تعالى وعلى الابتهال إليه في
الهداية إلى الصراط المستقيم وكفاية أحوال الناكثين وعلى بيانه عاقبة الجاحدين. ( الثامن ) : الشفاء، روى الدارمي عن أبي
سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( فاتحة الكتاب شفاء من كل سم ) . ( التاسع ) : الرقية، ثبت ذلك من حديث
أبى سعيد الخدري وفيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للرجل الذي رقى سيد
الحي: ( ما
أدراك أنها رقية ) فقال:
يا رسول الله شيء ألقى في روعي... الحديث. خرّجه الأئمة وسيأتي بتمامه. ( العاشر ) : الأساس، شكا رجل إلى الشعبي
وجع الخاصرة، فقال: عليك بأساس القرآن فاتحة الكتاب، سمعت ابن عباس يقول: لكل شيء
أساس وأساس الدنيا مكة لأنها منها دحيت، وأساس السماوات عَريباً وهي السماء
السابعة، وأساس الأرض عجيباً وهي الأرض السابعة السفلى، وأساس الجنان جنة عدن وهي
سرة الجنان عليها أسست الجنة، وأساس النار جهنم وهي الدركة السابعة السفلى عليها
أسست الدركات، وأساس الخلق آدم وأساس الأنبياء نوح وأساس بني إسرائيل يعقوب وأساس
الكتب القرآن وأساس القرآن الفاتحة وأساس الفاتحة بسم الله الرحمن الرحيم فإذا
اعتللت أو اشتكيت فعليك بالفاتحة تشفى. ( الحادي عشر ) : الوافية، قاله سفيان بن عيينة، لأنها لا تتنصف ولا تحتمل
الاختزال، ولو قرأ من سائر السور نصفها في ركعة ونصفها الآخر في ركعة لأجزأ ولو
نصفت الفاتحة في ركعتين لم يجز. (
الثاني عشر ) :
الكافية، قال يحيى بن أبي كثير: لأنها تكفي عن سواها ولا يكفي سواها عنها. يدل
عليه ما روى محمد بن خلاد الإسكندراني قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أم القرآن عوض من غيرها وليس
غيرها منها عوضا ) .
قال
المهلب: إن موضع الرقية منها إنما هو « إياك نعبد وإياك نستعين » [
الفاتحة: الآية 5 ] .
وقيل: السورة كلها رقية لقول عليه السلام للرجل لما أخبره: ( وما أدراك أنها رقية ) ولم يقل: أن فيها رقية، فدل
هذا على أن السورة بأجمعها رقية لأنها فاتحة الكتاب ومبدؤه ومتضمنة لجميع علومه
كما تقدم والله أعلم.
ليس في
تسميتها بالمثاني وأم الكتاب ما يمنع من تسمية غيرها بذلك، قال الله عز وجل: « كتابا متشابها مثاني » [ الزمر: 23 ] فأطلق على كتابه: مثاني لأن
الأخبار تثنى فيه. وقد سميت السبع الطول أيضا مثاني لأن الفرائض والقصص تثنى فيها.
قال ابن عباس: أوتى رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعا من المثاني قال: السبع
الطول. ذكره النسائي وهي من « البقرة
» إلى « الأعراف » ست واختلفوا في السابعة فقيل:
يونس وقيل: الأنفال والتوبة وهو قول مجاهد وسعيد بن جبير. وقال أعشى همدان:
فلجوا
المسجد وادعوا ربكم وادرسوا هذي المثاني والطُّوَل
وسيأتي
لهذا مزيد بيان في سورة « الحجر
» إن شاء
الله تعالى.
المثاني
جمع مثنى وهي التي جاءت بعد الأولى والطول جمع أطول. وقد سميت الأنفال من المثاني
لأنها تتلو الطول في القدر. وقيل: هي التي تزيد آياتها على المفضل وتنقص عن
المئين. والمئون: هي السور التي تزيد كل واحدة منها على مائة آية.
الباب
الثاني - في نزولها وأحكامها:
أجمعت
الأمة على أن فاتحة الكتاب سبع آيات إلا ما روي عن حسين الجعفي: أنها ست وهذا شاذ.
وإلا ما روي عن عمرو بن عبيد أنه جعل « إياك نعبد » آية وهي على عدة ثماني آيات وهذا شاذ. وقوله تعالى: « ولقد آتيناك سبعا من المثاني
» [ الحجر: 87 ] قوله: ( قسمت الصلاة ) الحديث يرد هذين القولين.
وأجمعت
الأمة أيضا على أنها من القرآن. فإن قيل: لو كانت قرآنا لأثبتها عبدالله بن مسعود
في مصحفه فلما لم يثبتها دل على أنها ليست من القرآن كالمعوذتين عنده.
فالجواب
ما ذكره أبو بكر الأنباري قال: حدثنا الحسن بن الحباب حدثنا سليمان بن الأشعث
حدثنا ابن أبي قدامة حدثنا جرير عن الأعمش قال: أظنه عن إبراهيم قال: قيل لعبدالله
بن مسعود: لِمَ لَمْ تكتب فاتحة الكتاب في مصحفك قال لو كتبتها لكتبتها مع كل
سورة. قال أبو بكر: يعني أن كل ركعة سبيلها أن تفتتح بأم القرآن قبل السورة
المتلوة بعدها فقال: اختصرت بإسقاطها ووثقت بحفظ المسلمين لها ولم أثبتها في موضع
فيلزمني أن أكتبها مع كل سورة، إذ كانت تتقدمها في الصلاة.
اختلفوا
أهي مكية أم مدنية؟ فقال ابن عباس وقتادة وأبو العالية الرياحي - واسمه رُفيع -
وغيرهم: هي مكية. وقال أبو هريرة ومجاهد وعطاء بن يسار والزهري وغيرهم: هي مدنية.
ويقال: نزل نصفها بمكة ونصفها بالمدينة. حكاه أبو الليث نصر بن محمد بن إبراهيم
السمرقندي في تفسيره. والأول أصح لقوله تعالى: « ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم » [ الحجر: 87 ] والحجر مكية بإجماع. ولا خلاف
أن فرض الصلاة كان بمكة. وما حفظ أنه كان في الإسلام قط صلاة بغير « الحمد لله رب العالمين » يدل على هذا قوله عليه السلام:
( لا
صلاة إلا بفاتحة الكتاب ) . وهذا
خبر عن الحكم لا عن الابتداء، والله أعلم.
وقد ذكر
القاضي ابن الطيب اختلاف الناس في أول ما نزل من القرآن فقيل: المدثر وقيل: اقرأ
وقيل: الفاتحة. وذكر البيهقي في دلائل النبوة عن أبي ميسرة عمرو بن شَرَحبيل أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لخديجة: ( إني إذا خلوت وحدي سمعت نداء وقد والله خشيت أن يكون هذا
أمراً ) قالت:
معاذ الله ما كان الله ليفعل بك فوالله إنك لتؤدي الأمانة وتصل الرحم وتصدق
الحديث. فلما دخل أبو بكر - وليس رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم - ذكرت خديجة
حديثه له قالت: يا عتيق اذهب مع محمد إلى ورقة بن نوفل. فلما دخل رسول الله صلى
الله عليه وسلم أخذ أبو بكر بيده فقال: انطلق بنا إلى ورقة فقال: ( ومن أخبرك ) . قال: خديجة فانطلقا إليه
فقصا عليه فقال: ( إذا
خلوت وحدي سمعت نداء خلفي يا محمد يا محمد فأنطلق هاربا في الأرض ) فقال: لا تفعل، إذا أتاك
فاثبت حتى تسمع ما يقول ثم ائتني فأخبرني. فلما خلا ناداه: يا محمد! قل « بسم الله الرحمن الرحيم الحمد
لله رب العالمين - حتى بلغ - ولا الضالين » ، قل: لا إله إلا الله. فأتى ورقة فذكر ذلك له، فقال له
ورقة: أبشر ثم أبشر، فأنا أشهد أنك الذي بشر به عيسى ابن مريم وأنك على مثل ناموس
موسى وأنك نبي مرسل وأنك سوف تؤمر بالجهاد بعد يومك هذا، وإن يدركني ذلك لأجاهدن
معك. فلما توفى ورقة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لقد رأيت القَسّ في الجنة
عليه ثياب الحرير لأنه آمن بي وصدقني ) يعني ورقة. قال البيهقي رضي الله عنه: هذا منقطع. يعني هذا
الحديث، فإن كان محفوظا فيحتمل أن يكون خبرا عن نزولها بعد ما نزل عليه « اقرأ باسم ربك » [ العلق: 1 ] و « يا أيها المدثر » [ المدثر: 1 ] .
قال ابن
عطية: ظن بعض العلماء أن جبريل عليه السلام لم ينزل بسورة الحمد لما رواه مسلم عن
ابن عباس قال: بينما جبريل قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم سمع نقيضا من فوقه
فرفع رأسه فقال: هذا باب من السماء فتح اليوم لم يفتح قط إلا اليوم فنزل منه ملك
فقال: هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم، فسلم وقال: أبشر بنورين
أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة لن تقرأ بحرف
منهما إلا أعطيته. قال ابن عطية: وليس كما ظن فإن هذا الحديث يدل على أن جبريل
عليه السلام تقدم الملك إلى النبي صلى الله عليه وسلم مُعْلِما به وبما ينزل معه،
وعلى هذا يكون جبريل شارك في نزولها والله أعلم.
قلت:
الظاهر من الحديث يدل على أن جبريل عليه السلام لم يعلم النبي صلى الله عليه وسلم
بشيء من ذلك. وقد بينا أن نزولها كان بمكة نزل بها جبريل عليه السلام لقوله تعالى:
« نزل به
الروح الأمين » [ الشعراء: 193 ] وهذا يقتضي جميع القرآن فيكون
جبريل عليه السلام نزل بتلاوتها بمكة ونزل الملك بثوابها بالمدينة. والله أعلم.
وقد قيل: إنها مكية مدنية نزل بها جبريل مرتين حكاه الثعلبي. وما ذكرناه أولى.
فانه جمع بين القرآن والسنة ولله الحمد والمنة.
قد تقدم
أن البسملة ليست بآية منها على القول الصحيح، وإذا ثبت ذلك فحكم المصلي إذا كبر أن
يصله بالفاتحة ولا يسكت، ولا يذكر توجيها ولا تسبيحا، لحديث عائشة وأنس المتقدمين
وغيرهما وقد جاءت أحاديث بالتوجيه والتسبيح والسكوت، قال بها جماعة من العلماء
فروي عن عمر بن الخطاب وعبدالله بن مسعود رضي الله عنهما أنهما كانا يقولان إذا
افتتحا الصلاة: سبحانك اللهم وبحمدك تبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك. وبه قال
سفيان وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي. وكان الشافعي يقول بالذي روي عن علي عن النبي
صلى الله عليه وسلم، أنه كان إذا افتتح الصلاة كبر ثم قال: ( وجهت وجهي ) الحديث، ذكره مسلم، وسيأتي
بتمامه في آخر سورة الأنعام، وهناك يأتي القول في هذه المسألة مستوفى إن شاء الله.
قال ابن
المنذر: ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا كبر في الصلاة سكت هنيهة قبل
أن يقرأ، يقول: ( اللهم
باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب اللهم نقني من خطاياي كما
ينقى الثوب الأبيض من الدنس اللهم أغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد ) واستعمل ذلك أبو هريرة. وقال
أبو سلمة بن عبدالرحمن: للإمام سكتتان فاغتنموا فيهما القراءة. وكان الأوزاعي
وسعيد بن عبدالعزيز وأحمد بن حنبل يميلون إلى حديث النبي في هذا الباب.
واختلف
العلماء في وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة فقال مالك وأصحابه: هي متعينة للإمام
والمنفرد في كل ركعة. قال ابن خويز مَنداد البصري المالكي: لم يختلف قول مالك أنه
من نسيها في صلاة ركعة من صلاة ركعتين أن صلاته تبطل ولا تجزيه. واختلف قوله فيمن
تركها ناسيا في ركعة من صلاة رباعية أو ثلاثية فقال مرة: يعيد الصلاة وقال مرة
أخرى: يسجد سجدتي السهو، وهي رواية ابن عبدالحكم وغيره عن مالك. قال ابن خويز
منداد وقد قيل: إنه يعيد تلك الركعة ويسجد للسهو بعد السلام. قال ابن عبدالبر:
الصحيح من القول إلغاء تلك الركعة ويأتي بركعة بدلا منها كمن أسقط سجدة سهوا. وهو
اختيار ابن القاسم. وقال الحسن البصري وأكثر أهل البصرة والمغيرة بن عبدالرحمن
المخزومي المدني: إذا قرأ بأم القرآن مرة واحدة في الصلاة أجزأه ولم تكن عليه
إعادة لأنها صلاة قد قرأ فيها بأم القرآن وهي تامة لقوله عليه السلام: ( لا صلاة لمن لم يقرأ بأم
القرآن ) وهذا
قد قرأ بها.
قلت:
ويحتمل لا صلاة لمن لم يقرأ بها في كل ركعة، وهو الصحيح على ما يأتي. ويحتمل لا
صلاة لمن لم يقرأ بها في أكثر عدد الركعات، وهذا هو سبب الخلاف والله أعلم.
وقال أبو
حنيفة والثوري والأوزاعي: إن تركها عامدا في صلاته كلها وقرأ غيرها أجزأه على
اختلاف عن الأوزاعي في ذلك. وقال أبو يوسف ومحمد بن الحسن: أقله ثلاث آيات أو آية
طويلة كآية الدين. وعن محمد بن الحسن أيضا قال: أسوغ الاجتهاد في مقدار آية ومقدار
كلمة مفهومة نحو: « الحمد
لله » ولا
أسوغه في حرف لا يكون كلاما.
وقال
الطبري: يقرأ المصلى بأم القرآن في كل ركعة فإن لم يقرأ بها لم يجزه إلا مثلها من
القرآن عدد آيها وحروفها. قال ابن عبدالبر: وهذا لا معنى له لأن التعيين لها والنص
عليها قد خصها بهذا الحكم دون غيرها ومحال أن يجيء بالبدل منها من وجبت عليه
فتركها وهو قادر عليها وإنما عليه أن يجيء بها ويعود إليها كسائر المفروضات
المتعينات في العبادات.
وأما
المأموم فإن أدرك الإمام راكعا فالإمام يحمل عنه القراءة لإجماعهم على أنه إذا
أدركه راكعا أنه يكبر ويركع ولا يقرأ شيئا وإن أدركه قائما فإنه يقرأ ولا ينبغي
لأحد أن يدع القراءة خلف إمامه في صلاة السر فإن فعل فقد أساء ولا شيء عليه عند
مالك وأصحابه. وأما إذا جهر الإمام فلا قراءة بفاتحة الكتاب ولا غيرها في المشهور
من مذهب مالك لقول الله تعالى: « وإذا
قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا » [ الأعراف: 204 ] وقول رسول الله صلى الله عليه
وسلم: ( ما لي
أنازع القرآن ) وقول
في الإمام: ( إذا
قرأ فأنصتوا ) وقول:
( من
كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة ) .
وقال
الشافعي فيما حكى عنه البويطي وأحمد بن حنبل: لا تجزئ أحدا صلاة حتى يقرأ بفاتحة
الكتاب في كل ركعة، إماما كان أو مأموما، جهر إمامه أو أسر. وكان الشافعي بالعراق
يقول في المأموم: يقرأ إذا أسر ولا يقرأ إذا جهر كمشهور مذهب مالك. وقال بمصر:
فيما يجهر فيه الإمام بالقراءة قولان: أحدهما أن يقرأ والآخر يجزئه ألا يقرأ
ويكتفي بقراءة الإمام. حكاه ابن المنذر. وقال ابن وهب وأشهب وابن عبدالحكم وابن
حبيب والكوفيون: لا يقرأ المأموم شيئا جهر إمامه أو أسر لقوله عليه السلام: ( فقراءة الإمام له قراءة ) وهذا عام ولقول جابر: من صلى
ركعة لم يقرأ فيها بأم القرآن فلم يصل إلا وراء الإمام.
الصحيح
من هذه الأقوال قول الشافعي وأحمد ومالك في القول الآخر وأن الفاتحة متعينة في كل
ركعة لكل أحد على العموم لقوله صلى الله عليه وسلم: ( لا صلاة لمن لم يقرأ فيها
بفاتحة الكتاب ) وقوله:
( من
صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القران فهي خداج ) ثلاثا. وقال أبو هريرة: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم
أن أنادي أنه: ( لا
صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب فما زاد ) أخرجه أبو داود. كما لا ينوب سجود ركعة ولا ركوعها عن ركعة
أخرى فكذلك لا تنوب قراءة ركعة عن غيرها، وبه قال عبدالله بن عون وأيوب السختياني
وأبو ثور وغيره من أصحاب الشافعي وداود بن علي، وروي مثله عن الأوزاعي وبه قال
مكحول.
وروي عن
عمر بن الخطاب وعبدالله بن عباس وأبي هريرة وأبي بن كعب وأبي أيوب الأنصاري
وعبدالله بن عمرو بن العاص وعبادة بن الصامت وأبي سعيد الخدري وعثمان بن أبي العاص
وخوّات بن جُبير أنهم قالوا: لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب. وهو قول ابن عمر والمشهور
من مذهب الأوزاعي، فهؤلاء الصحابة بهم القدوة وفيهم الأسوة كلهم يوجبون الفاتحة في
كل ركعة.
وقد أخرج
الإمام أبو عبدالله محمد بن يزيد بن ماجه القزويني في سننه ما يرفع الخلاف ويزيل
كل احتمال فقال: حدثنا أبو ريب حدثنا محمد بن فضيل وحدثنا سويد بن سعيد حدثنا علي
بن مسهر جميعا عن أبي سفيان السعدي عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم ( لا
صلاة لمن لم يقرأ في كل ركعة بالحمد لله وسورة في فريضة أو غيرها ) . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة
أنه عليه السلام قال للذي علمه الصلاة: ( وأفعل ذلك في صلاتك كلها ) وسيأتي. ومن الحجة في ذلك أيضا ما رواه أبو داود عن نافع بن
محمود بن الربيع الأنصاري قال: أبطأ عبادة بن الصامت عن صلاة الصبح فأقام أبو نعيم
المؤذن الصلاة فصلى أبو نعيم بالناس وأقبل عبادة بن الصامت وأنا معه حتى صففنا خلف
أبي نعيم وأبو نعيم يجهر بالقراءة فجعل عبادة يقرأ بأم القرآن، فلما انصرف قلت لعبادة:
سمعتك تقرأ بأم القرآن وأبو نعيم يجهر؟ قال: أجل! صلى بنا رسول الله صلى الله عليه
وسلم بعض الصلوات التي يجهر فيها بالقراءة فالتبست عليه فلما انصرف أقبل علينا
بوجهه فقال: ( هل
تقرؤون إذا جهرت بالقراءة ) فقال
بعضنا: إنا نصنع ذلك قال: ( فلا.
وأنا أقول ما لي ينازعني القرآن فلا تقرؤوا بشيء من القرآن إذا جهرت إلا بأم
القرآن ) . وهذا
نص صريح في المأموم. وأخرجه أبو عيسى الترمذي من حديث محمد بن إسحاق بمعناه وقال:
حديث حسن. والعمل على هذا الحديث في القراءة خلف الإمام عند أكثر أهل العلم من
أصحاب النبي والتابعين وهو قول مالك بن أنس وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق
يرون القراءة خلف الإمام. وأخرجه أيضا الدارقطني قال: هذا إسناد حسن، ورجاله كلهم
ثقات، وذكر أن محمود بن الربيع كان يسكن إيلياء، وأن أبا نعيم أول من أذن في بيت
المقدس. وقال أبو محمد عبدالحق: ونافع بن محمود لم يذكره البخاري في تاريخه ولا
ابن أبي حاتم ولا أخرج له البخاري ومسلم شيئا. وقال فيه أبو عمر: مجهول. وذكر
الدارقطني عن يزيد بن شريك قال: سألت عمر عن القراءة خلف الإمام فأمرني أن اقرأ
قلت: وإن كنت أنت؟ قال: وإن كنت أنا، قلت: وإن جهرت، قال: وإن جهرت. قال الدارقطني:
هذا إسناد صحيح. وروي عن جابر بن عبدالله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(
الإمام ضامن فما صنع فاصنعوا ) . قال
أبو حاتم: هذا يصح لمن قال بالقراءة خلف الإمام وبهذا أفتى أبو هريرة الفارسي أن
يقرأ بها في نفسه حين قال له: إني أحيانا أكون وراء الإمام، ثم استدل بقوله تعالى:
( قسمت
الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل ) . قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: (
اقرؤوا يقول العبد الحمد لله رب العالمين ) الحديث.
أما ما
استدل به الأولون بقول عليه السلام: ( وإذا قرأ فأنصتوا ) أخرجه مسلم من حديث أبي موسى الأشعري وقال: وفي حديث جرير
عن سليمان عن قتادة من الزيادة ( وإذا
قرأ فأنصتوا ) قال
الدارقطني: هذه اللفظة لم يتابع سليمان التيمي فيها عن قتادة، وخالفه الحفاظ من
أصحاب قتادة فلم يذكروها، منهم شعبة وهشام وسعيد بن أبي عروبة وهمام وأبو عوانة
ومعمر وعدي بن أبي عمارة. قال الدارقطني: فإجماعهم يدل على وَهَمِه. وقد روي عن
عبدالله بن عامر عن قتادة متابعة التيمي ولكن ليس هو بالقوي تركه القطّعان. وأخرج
أيضا هذه الزيادة أبو داود من حديث أبي هريرة وقال: هذه الزيادة ( إذا قرأ فأنصتوا ) ليست بمحفوظة. وذكر أبو محمد
عبدالحق: أن مسلما صحح حديث أبي هريرة وقال: هو عندي صحيح.
قلت:
ومما يدل على صحتها عنده إدخالها في كتابه من حديث أبي موسى وإن كانت مما لم
يجمعوا عليها. وقد صححها الإمام أحمد بن حنبل وابن المنذر. وأما قوله تعالى: « وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا
» [ الأعراف: 204 ] فإنه نزل بمكة وتحريم الكلام
في الصلاة نزل بالمدينة - كما قال زيد بن أرقم فلا حجة فيها فإن المقصود كان
المشركين على ما قال سعيد بن المسيب. وقد روى الدارقطني عن أبي هريرة أنها نزلت في
رفع الصوت خلف رسول الله. وقال: عبدالله بن عامر ضعيف. وأما قوله عليه السلام: ( ما لي أنازع القرآن ) فأخرجه مالك عن ابن شهاب عن
ابن أكيمة الليثي، واسمه فيما قال مالك: عمرو وغيره يقول عامر وقيل يزيد وقيل
عمارة وقيل عباد، يكنى أبا الوليد توفي سنة إحدى ومائة وهو ابن تسع وسبعين سنة، لم
يرو عنه الزهري إلا هذا الحديث الواحد وهو ثقة وروى عنه محمد بن عمرو وغيره.
والمعنى في حديثه: لا تجهروا إذا جهرت فإن ذلك تنازع وتجاذب وتخالج اقرؤوا في
أنفسكم. يبينه حديث عبادة وفتيا الفاروق وأبي هريرة الراوي للحديثين. فلو فهم
المنع جملة من قوله: ( ما لي
أنازع القرآن ) لما
أفتى بخلافه، وقول الزهري في حديث ابن أكيمة: فانتهى الناس عن القراءة مع رسول
الله فيما جهر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقراءة حين سمعوا ذلك من رسول
الله يريد بالحمد على ما بينا وبالله توفيقنا.
وأما
قوله صلى الله عليه وسلم: ( من
كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة ) فحديث ضعيف أسنده الحسن بن عمارة وهو متروك، وأبو حنيفة وهو
ضعيف، كلاهما عن موسى بن أبي عائشة عن عبدالله بن شداد عن جابر. أخرجه الدارقطني
وقال: رواه سفيان الثوري وشعبة وإسرائيل بن يونس وشريك وأبو خالد الدالاني وأبو
الأحوص وسفيان بن عيينة وجرير بن عبدالحميد وغيرهم عن موسى بن أبي عائشة عن
عبدالله بن شداد مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو الصواب. وأما قول جابر: من
صلى ركعة لم يقرأ فيها بأم القرآن فلم يصل إلا وراء الإمام، فرواه مالك عن وهب بن
كيسان عن جابر قوله. قال ابن عبدالبر: ورواه يحيى بن سلام صاحب التفسير عن مالك عن
أبي نعيم وهب بن كيسان عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم وصوابه موقوف على جابر
كما في الموطأ. وفيه من الفقه إبطال الركعة التي لا يقرأ فيها بأم القرآن، وهو
يشهد لصحة ما ذهب إليه ابن القاسم ورواه عن مالك في إلغاء الركعة والبناء على غيرها
ولا يعتد المصلي بركعة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب. وفيه أيضا أن الإمام قراءته
لمن خلفه قراءة، وهذا مذهب جابر وقد خالفه فيه غيره.
قال ابن
العربي: لما قال: ( لا
صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ) واختلف
الناس في هذا الأصل هل يحمل هذا النفي على التمام والكمال أو على الإجزاء؟ اختلفت
الفتوى بحسب اختلاف حال الناظر، ولما كان الأشهر في هذا الأصل والأقوى أن النفي
على العموم كان الأقوى من رواية مالك أن من لم يقرأ الفاتحة في صلاته بطلت. ثم
نظرنا في تكرارها في كل ركعة، فمن تأول قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( افعل ذلك في صلاتك كلها ) لزمه أن يعيد القراءة كما
يعيد الركوع والسجود. والله أعلم.
ما
ذكرناه في هذا الباب من الأحاديث والمعاني في تعيين الفاتحة يرد على الكوفيين
قولهم في أن الفاتحة لا تتعين، وأنها وغيرها من آي القرآن سواء. وقد عينها النبي
صلى الله عليه وسلم بقوله كما ذكرناه، وهو المبين عن الله تعالى مراده في قوله: « وأقيموا الصلاة » . وقد روى أبو داود عن أبي
سعيد الخدري قال: أمرنا أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر. فدل هذا الحديث على أن
قوله عليه السلام للأعرابي: ( اقرأ
ما تيسر معك من القرآن ) ما زاد
على الفاتحة، وهو تفسير قوله تعالى: « فاقرؤوا ما تيسر منه » [
المزمل: 20 ] وقد
روى مسلم عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « لا صلاة لمن لم يقرأ بأم
القران - زاد في رواية - فصاعدا » . وقوله
عليه السلام: ( هي
خداج - ثلاثا - غير تمام ) أي غير
مجزئة بالأدلة المذكورة. والخداج: النقص والفساد. قال الأخفش: خدجت الناقة إذا
ألقت ولدها لغير تمام، وأخدجت إذا قذفت به قبل وقت الولادة وإن كان تام الخلق.
والنظر
يوجب في النقصان ألا تجوز معه الصلاة، لأنها صلاة لم تتم ومن خرج من صلاته وهي لم
تتم فعليه إعادتها كما أمر، على حسب حكمها. ومن أدعى أنها تجوز مع إقراره بنقصها
فعليه الدليل، ولا سبيل إليه من وجه يلزم والله أعلم.
روي عن
مالك أن القراءة لا تجب في شيء في الصلاة وكذلك كان الشافعي يقول بالعراق فيمن
نسيها، ثم رجع عن هذا بمصر فقال: لا تجزئ صلاة من يحسن فاتحة الكتاب إلا بها ولا
يجزئه أن ينقص حرفا منها فإن لم يقرأها أو نقص منها حرفا أعاد صلاته وإن قرأ
بغيرها. وهذا هو الصحيح في المسألة، وأما ما روي عن عمر رحمه الله أنه صلى المغرب
فلم يقرأ فيها فذكر ذلك له فقال: كيف كان الركوع والسجود قالوا: حسن قال: لا بأس
إذاً، فحديث منكر اللفظ منقطع الإسناد، لأنه يرويه إبراهيم بن الحارث التيمي عن
عمر، ومرة يرويه إبراهيم عن أبي سلمة بن عبدالرحمن عن عمر، وكلاهما منقطع لا حجة
فيه وقد ذكره مالك في الموطأ وهو عند بعض الرواة وليس عند يحيى وطائفة معه، لأنه
رماه مالك من كتابه بأخرة، وقال ليس عليه العمل لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
( كل
صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج ) وقد روي عن عمر أنه أعاد تلك الصلاة وهو الصحيح عنه. روى
يحيى بن يحيى النيسابوري قال: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن إبراهيم النخعي عن
همام بن الحارث أن عمر نسي القراءة في المغرب فأعاد بهم الصلاة. قال ابن عبدالبر:
وهذا حديث متصل شهده همام من عمر، روي ذلك من وجوه. وروى أشهب عن مالك قال: سئل
مالك عن الذي نسي القراءة، أيعجبك ما قال عمر؟ فقال: أنا أنكر أن يكون عمر فعله -
وأنكر الحديث - وقال: يرى الناس عمر يصنع هذا في المغرب ولا يسبحون به! أرى أن
يعيد الصلاة من فعل هذا.
أجمع
العلماء على أن لا صلاة إلا بقراءة، على ما تقدم من أصولهم في ذلك. وأجمعوا على أن
لا توقيت في ذلك بعد فاتحة الكتاب إلا أنهم يستحبون ألا يقرأ مع فاتحة الكتاب إلا
سورة واحدة لأنه الأكثر مما جاء عن النبي. قال مالك: وسنة القراءة أن يقرأ في
الركعتين الأوليين بأم القرآن وسورة، وفي الأخريين بفاتحة الكتاب. وقال الأوزاعي:
يقرأ بأم القرآن فإن لم يقرأ بأم القران وقرأ بغيرها أجزأه، وقال: وإن نسي أن يقرأ
في ثلاث ركعات أعاد. وقال الثوري: يقرأ في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورة
ويسبح في الأخريين إن شاء، وإن شاء قرأ وإن لم يقرأ ولم يسبح جازت صلاته، وهو قول
أبي حنيفة وسائر الكوفيين. قال ابن المنذر: وقد روينا عن علي بن أبى طالب رضي الله
عنه أنه قال: اقرأ في الأوليين وسبح في الأخريين وبه قال النخعي. قال سفيان: فإن
لم يقرأ في ثلاث ركعات أعاد الصلاة لأنه لا تجزئه قراءة ركعة. قال: وكذلك إن نسي
أن يقرأ ركعة في صلاة الفجر. وقال أبو ثور: لا تجزئ صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب
في كل ركعة، كقول الشافعي المصري وعليه جماعة أصحاب الشافعي، وكذلك قال ابن خويز
منداد المالكي قال: قراءة الفاتحة واجبة عندنا في كل ركعة، وهذا هو الصحيح في
المسألة. روى مسلم عن أبي قتادة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا
فيقرأ في الظهر والعصر في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورتين، ويسمعنا الآية
أحيانا، وكان يطول في الركعة الأولى من الظهر ويقصر الثانية وكذلك في الصبح. وفي
رواية: ويقرأ في الركعتين الأخريين بفاتحة الكتاب وهذا نص صريح وحديث صحيح لما ذهب
إليه مالك. ونص في تعيّن الفاتحة في كل ركعة خلافا لمن أبى ذلك، والحجة في السنة
لا فيما خالفها.
ذهب
الجمهور إلى أن ما زاد على الفاتحة من القراءة ليس بواجب، لما رواه مسلم عن أبي
هريرة قال: في كل صلاة قراءة فما أسمعنا النبي صلى الله عليه وسلم أسمعناكم، وما
أخفى منا أخفينا منكم، فمن قرأ بأم القرآن فقد أجزأت عنه ومن زاد فهو أفضل. وفي
البخاري: وإن زدت فهو خير. وقد أبى كثير من أهل العلم ترك السورة لضرورة أو لغير ضرورة،
منهم عمران بن حصين وأبو سعيد الخدري وخوات بن جبير ومجاهد وأبو وائل وابن عمر
وابن عباس وغيرهم قالوا: لا صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب وشيء معها من
القرآن، فمنهم من حد آيتين، ومنهم من حد آية، ومنهم من لم يحد، وقال: شيء من
القرآن معها وكل هذا موجب لتعلم ما تيسر من القرآن على كل حال مع فاتحة الكتاب،
لحديث عبادة وأبي سعيد الخدري وغيرهما. وفي المدونة: وكيع عن الأعمش عن خيثمة قال:
حدثني من سمع عمر بن الخطاب يقول: لا تجزئ صلاة من لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب
وشيء معها. واختلف المذهب في قراءة السورة على ثلاثة أقوال: سنة فضيلة واجبة.
من تعذر
ذلك عليه بعد بلوغ مجهوده فلم يقدر على تعلم الفاتحة أو شيء من القرآن ولا علق منه
بشيء، لزمه أن يذكر الله في موضع القراءة بما أمكنه من تكبير أو تهليل أو تحميد أو
تسبيح أو تمجيد أو لا حول ولا قوة إلا بالله، إذا صلى وحده أو مع إمام فيما أسر
فيه الإمام، فقد روى أبو داود وغيره عن عبدالله بن أبي أوفى قال: جاء رجل إلى
النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني لا أستطيع أن آخذ من القرآن شيئا فعلمني ما
يجزئني منه قال: ( قل
سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله ) قال: يا رسول الله هذا لله،
فما لي؟ قال: ( قل
اللهم ارحمني وعافني واهدني وارزقني ) .
فإن عجز
عن إصابة شيء من هذا اللفظ فلا يدع الصلاة مع الإمام جهده فالإمام يحمل ذلك عنه إن
شاء الله، وعليه أبدا أن يجهد نفسه في تعلم فاتحة الكتاب فما زاد إلى أن يحول
الموت دون ذلك وهو بحال الاجتهاد فيعذره الله.
من لم
يواته لسانه إلى التكلم بالعربية من الأعجميين وغيرهم ترجم له الدعاء العربي
بلسانه الذي يفقه لإقامة صلاته، فإن ذلك يجزئه إن شاء الله تعالى.
لا تجزئ
صلاة من قرأ بالفارسية وهو يحسن العربية في قول الجمهور. وقال أبو حنيفة: تجزئه
القراءة بالفارسية وإن أحسن العربية لأن المقصود إصابة المعنى. قال ابن المنذر: لا
يجزئه ذلك، لأنه خلاف ما أمر الله به وخلاف ما علم النبي صلى الله عليه وسلم وخلاف
جماعات المسلمين. ولا نعلم أحدا وافقه على ما قال.
من افتتح
الصلاة كما أمر وهو غير عالم بالقراءة، فطرأ عليه العلم بها في أثناء الصلاة
ويتصور ذلك بأن يكون سمع من قرأها فعلقت بحفظه من مجرد السماع فلا يستأنف الصلاة،
لأنه أدى ما مضى على حسب ما أمر به فلا وجه لإبطاله. قاله في كتاب ابن سحنون.
الباب
الثالث: في التأمين:
ويسن
لقارئ القرآن أن يقول بعد الفراغ من الفاتحة بعد سكتة على نون « ولا الضالين » : آمين ليتميز ما هو قرآن مما
ليس بقرآن.
ثبت في
الأمهات من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا أمن الإمام فأمنوا، فإنه
من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه ) . قال علماؤنا رحمة الله
عليهم: فترتبت المغفرة للذنب على مقدمات أربع تضمنها هذا الحديث: الأولى: تأمين
الإمام، الثانية: تأمين من خلفه، الثالثة: تأمين الملائكة، الرابعة: موافقة
التأمين، قيل في الإجابة وقيل في الزمن وقيل في الصفة من إخلاص الدعاء لقوله عليه
السلام: ( ادعوا
الله وأنتم موقنون بالإجابة واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه ) .
روى أبو
داود عن أبي مصّبِّح المَقراني قال: كنا نجلس إلى أبي زهير النميري وكان من الصحابة،
فيحدث أحسن الحديث فإذا دعا الرجل منا بدعاء قال: اختمه بآمين. فإن آمين مثل
الطابع على الصحيفة. قال أبو زهير ألا أخبركم عن ذلك، خرجنا مع رسول الله صلى الله
عليه وسلم ذات ليلة، فأتينا على رجل قد ألح في المسألة فوقف النبي صلى الله عليه
وسلم يسمع منه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أوجب إن ختم ) فقال له رجل من القوم: بأي شيء يختم؟ قال: ( بآمين فإنه ختم بآمين فقد
أوجب ) فانصرف
الرجل الذي سأل النبي فأتى الرجل فقال له: اختم يا فلان وأبشر. قال ابن عبدالبر:
أبو زهير النميري اسمه يحيى بن نفير روى عن النبي صلى الله عليه وسلم ( لا تقتلوا الجراد فإنه جند
الله الأعظم ) . وقال
وهب بن منبه: آمين أربعة أحرف يخلق الله من كل حرف ملكا يقول: اللهم اغفر من قال
آمين [ في
النسخة: آمني ] . وفي
الخبر ( لقنني
جبريل آمين عند فراغي من فاتحة الكتاب، وقال إنه كالخاتم على الكتاب ) وفي حديث آخر: ( آمين خاتم رب العالمين ) . قال الهروي قال أبو بكر:
معناه أنه طابع الله على عباده، لأنه يدفع به عنهم الآفات والبلايا، فكان كخاتم
الكتاب الذي يصونه ويمنع من إفساده وإظهار ما فيه. وفي حديث آخر ( آمين درجة في الجنة ) . قال أبو بكر: معناه أنه حرف
يكتسب به قائله درجة في الجنة.
معنى
آمين عند أكثر أهل العلم: اللهم استجب لنا، وُضِع موضع الدعاء. وقال قوم: هو اسم
من أسماء الله، روي عن جعفر بن محمد ومجاهد وهلال بن يساف، ورواه ابن عباس عن
النبي صلى الله عليه وسلم ولم يصح، قاله ابن العربي. وقيل معنى آمين: كذلك فليكن،
قاله الجوهري. وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: سألت رسول الله صلى الله
عليه وسلم ما معنى آمين؟ قال: ( رب
افعل ) . وقال
مقاتل: هو قوة للدعاء واستنزال للبركة. وقال الترمذي: معناه لا تخيب رجاءنا.
وفي آمين
لغتان: المد على وزن فاعيل كياسين. والقصر على وزن يمين. قال الشاعر في المد:
يا رب لا
تسلبني حبها أبدا ويرحم الله عبدا قال آمينا
وقال
آخر:
آمين
آمين لا أرضى بواحدة حتى أبلغها ألفين آمينا
وقال آخر
في القصر:
تباعد
مني فطحل إذ سألته أمين فزاد الله ما بيننا بعدا
وتشديد
الميم خطأ، قاله الجوهري. وقد روي عن الحسن وجعفر الصادق التشديد، وهو قول الحسين
بن الفضل، من أمّ إذا قصد، أي نحن قاصدون نحوك ومنه قوله: « ولا آمين البيت الحرام » [ المائدة: 2 ] . حكاه أبو نصر عبدالرحيم بن
عبدالكريم القشيري. قال الجوهري: وهو مبني على الفتح مثل أين وكيف لاجتماع الساكنين.
وتقول منه: أمن فلان تأمينا.
اختلف
العلماء هل يقولها الإمام وهل يجهر بها، فذهب الشافعي ومالك في رواية المدنيين إلى
ذلك. وقال الكوفيون وبعض المدنيين: لا يجهر بها. وهو قول الطبري وبه قال ابن حبيب
من علمائنا. وقال ابن بكير: هو مخير. وروى ابن القاسم عن مالك أن الإمام لا يقول
آمين وإنما يقول ذلك من خلفه، وهو قول ابن القاسم والمصريين من أصحاب مالك. وحجتهم
حديث أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبنا فبين لنا سنتنا
وعلمنا صلاتنا فقال: ( إذا
صليتم فأقيموا صفوفكم ثم ليؤمكم أحدكم فإذا كبر فكبروا وإذا قال غير المغضوب عليهم
ولا الضالين فقولوا آمين يجبكم الله ) وذكر الحديث، أخرجه مسلم. ومثله حديث سُمَيّ عن أبي هريرة
وأخرجه مالك. والصحيح الأول لحديث وائل بن حجر قال: كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم إذا قرأ « ولا
الضالين » قال: « آمين » يرفع بها صوته، أخرجه أبو داود
والدارقطني وزاد « قال
أبو بكر: هذه سنة تفرد بها أهل الكوفة هذا صحيح والذي بعده » . وترجم البخاري « باب جهر الإمام بالتأمين » .
وقال
عطاء: « آمين » دعاء، أمن ابن الزبير ومن
وراءه حتى إن للمسجد للجّة. قال الترمذي: وبه يقول غير واحد من أهل العلم من أصحاب
النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم، يرون أن يرفع الرجل صوته بالتأمين ولا
يخفيها. وبه يقول الشافعي وأحمد وإسحاق. وفي الموطأ والصحيحين قال ابن شهاب: وكان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول « آمين » . وفي
سنن ابن ماجه عن أبي هريرة قال: ترك الناس آمين وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم
إذا قال: « غير
المغضوب عليهم ولا الضالين » قال: « آمين » حتى يسمعها أهل الصف الأول
فيرتج بها المسجد. وأما حديث أبي موسى وسمي فمعناهما التعريف بالموضع الذي يقال
فيه آمين، وهو إذا قال الإمام: « ولا
الضالين » ليكون
قولهما معا ولا يتقدموه بقول: آمين لما ذكرناه والله أعلم. ولقوله عليه السلام: ( إذا أمن الإمام فأمنوا ) . وقال ابن نافع في كتاب ابن
الحارث: لا يقولها المأموم إلا أن يسمع الإمام يقول: « ولا الضالين » . وإذا كان ببعد لا يسمعه فلا
يقل. وقال ابن عبدوس: يتحرى قدر القراءة ويقول: آمين.
قال
أصحاب أبي حنيفة: الإخفاء بآمين أولى من الجهر بها لأنه دعاء وقد قال الله تعالى: « ادعوا ربكم تضرعا وخفية » [ الأعراف: 5 ] . قالوا: والدليل عليه ما روي
في تأويل قوله تعالى: « قد
أجيبت دعوتكما » [ يونس: 89 ] . قال: كان موسى يدعو وهارون يؤمن
فسماهما الله داعيين.
الجواب:
أن إخفاء الدعاء إنما كان أفضل لما يدخله من الرياء. وأما ما يتعلق بصلاة الجماعة
فشهودها إشهار شعار ظاهر وإظهار حق يندب العباد إلى إظهاره، وقد ندب الإمام إلى
إشهار قراءة الفاتحة المشتملة على الدعاء والتأمين في آخرها فإذا كان الدعاء مما
يسن الجهر فيه فالتأمين على الدعاء تابع له وجار مجراه وهذا بيّن.
كلمة
آمين لم تكن قبلنا إلا لموسى وهارون عليهما السلام. ذكر الترمذي الحكيم في ( نوادر الأصول ) : حدثنا عبدالوارث بن عبدالصمد
قال حدثنا أبي قال حدثنا رزين مؤذن مسجد هشام بن حسان قال حدثنا أنس بن مالك قال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الله أعطى أمتي ثلاثا لم تعط أحدا قبلهم السلام وهو
تحية أهل الجنة وصفوف الملائكة وآمين إلا ما كان من موسى وهارون ) قال أبو عبدالله: معناه أن
موسى دعا على فرعون وأمن هارون فقال الله تبارك اسمه عندما ذكر دعاء موسى في
تنزيله: « قد
أجيبت دعوتكما » [ يونس: 89 ] ولم يذكر مقالة هارون، وقال
موسى: ربنا، فكان من هارون التأمين، فسماه داعيا في تنزيله، إذ صير ذلك منه دعوة.
وقد قيل: إن آمين خاص لهذه الأمة لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ما حسدتكم اليهود على شيء ما
حسدتكم على السلام والتأمين ) أخرجه
ابن ماجة من حديث حماد بن سلمة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن عائشة أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال. ..، الحديث. وأخرج أيضا من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله
عليه وسلم قال: ( ما
حسدتكم اليهود على شي ما حسدتكم على آمين فأكثروا من قول آمين ) . قال علماؤنا رحمة الله
عليهم: إنما حسدنا أهل الكتاب لأن أولها حمد لله وثناء عليه ثم خضوع له واستكانة،
ثم دعاء لنا بالهداية إلى الصراط المستقيم ثم الدعاء عليهم مع قولنا آمين.
الباب
الرابع - فيما تضمنته الفاتحة من المعاني والقراءات والإعراب وفضل الحامدين:
قوله
سبحانه وتعالى: « الحمد
لله » روى أبو
محمد عبدالغني بن سعيد الحافظ من حديث أبي هريرة وأبي سعيد الخدري عن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: ( إذا
قال العبد الحمد لله قال صدق عبدي الحمد لي ) . وروى مسلم عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: ( إن
الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها أو يشرب الشربة فيحمده عليها ) . وقال الحسن: ما من نعمة إلا
والحمد لله أفضل منها. وروى ابن ماجة عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: ( ما
أنعم الله على عبد نعمة فقال الحمد لله إلا كان الذي أعطاه أفضل مما أخذ ) . وفي ( نوادر الأصول ) عن أنس بن مالك قال قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: ( لو أن
الدنيا كلها بحذافيرها بيد رجل من أمتي ثم قال الحمد لله لكانت الحمد لله أفضل من
ذلك ) . قال
أبو عبدالله: معناه عندنا أنه قد أعطي الدنيا ثم أعطي على أثرها هذه الكلمة حتى
نطق بها، فكانت هذه الكلمة أفضل من الدنيا كلها لأن الدنيا فانية والكلمة باقية،
هي من الباقيات الصالحات قال الله تعالى: « والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا » [ مريم: 76 ] . وقيل في بعض الروايات: لكان
ما أعطى أكثر مما أخذ. فصير الكلمة إعطاء من العبد، والدنيا أخذا من الله فهذا في
التدبير. كذاك يجري في الكلام أن هذه الكلمة من العبد والدنيا من الله وكلاهما من
الله في الأصل الدنيا منه والكلمة منه أعطاه الدنيا فأغناه وأعطاه الكلمة فشرفه
بها في الآخرة. وروى ابن ماجة عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثهم:
( أن
عبدا من عباد الله قال يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك فعَضَلت
بالملكين فلم يدريا كيف يكتبانها فصعدا إلى السماء وقالا يا ربنا إن عبدك قد قال
مقالة لا ندري كيف نكتبها، قال الله عز وجل وهو أعلم بما قال عبده، ماذا قال عبدي؟
قالا يا رب إنه قد قال يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، فقال
الله لهما اكتباها كما قال عبدي حتى يلقاني فأجزيه بها ) .
قال أهل
اللغة: أعضل الأمر: اشتد واستغلق، والمعضّلات [ بتشديد الضاد ) : الشدائد. وعضّلت المرأة والشاة: إذا نشِب ولدها فلم يسهل
مخرجه، بتشديد الضاد أيضا فعلى هذا يكون: أعضلت الملكين أو عضلت الملكين بغير باء.
والله أعلم. وروي عن مسلم عن أبي مالك الأشعري قال قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: [
الطهور شطر الإيمان والحمد لله تملأ الميزان وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ
ما بين السماء والأرض ) وذكر
الحديث.
اختلف
العلماء أيما أفضل قول العبد: الحمد لله رب العالمين، أو قول لا إله إلا الله؟
فقالت طائفة: قوله الحمد لله رب العالمين أفضل لأن في ضمنه التوحيد الذي هو لا إله
إلا الله، ففي قوله توحيد وحمد، وفي قوله لا إله إلا الله توحيد فقط. وقالت طائفة:
لا إله إلا الله أفضل لأنها تدفع الكفر والإشراك وعليها يقاتل الخلق، قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: ( أمرت
أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ) . واختار هذا القول ابن عطية قال: والحاكم بذلك قول النبي
صلى الله عليه وسلم: ( أفضل
ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له ) .
أجمع
المسلمون على أن الله محمود على سائر نعمه وأن مما أنعم الله به الإيمان فدل على
أن الإيمان فعله وخلقه والدليل على ذلك قوله: « رب العالمين » . والعالمون جملة المخلوقات ومن جملتها الإيمان لا كما قال
القدرية: إنه خلق لهم على ما يأتي بيانه. الحمد في كلام العرب معناه الثناء
الكامل، والألف واللام لاستغراق الجنس من المحامد فهو سبحانه يستحق الحمد بأجمعه
إذ له الأسماء الحسنى والصفات العلا وقد جمع لفظ الحمد جمع القلة في قول الشاعر:
وأبلج
محمود الثناء خصصته بأفضل أقوالي وأفضل أحمدي
فالحمد
نقيض الذم، تقول: حمدت الرجل أحمده حمدا فهو حميد ومحمود والتحميد أبلغ من الحمد.
والحد أعم من الشكر والحمد: الذي كثرت خصال المحمودة. قال الشاعر:
إلى
الماجد القرم الجواد المحمد
وبذلك
سمي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الشاعر:
فشقّ له
من اسمه ليجله فذو العرش محمود وهذا محمد
والمحمدة:
خلاف المذمة. وأحمد الرجلُ: صار أمره إلى الحمد. وأحمدته: وجدته محمودا، تقول: أتيت
موضع كذا فأحمدته، أي صادفته محمودا موافقا، وذلك إذا رضيت سكناه أو مرعاه. ورجل
حُمَدَة - مثل هُمَزة - يكثر حمد الأشياء ويقول فيها أكثر مما فيها. وحَمَدة النار
- بالتحريك - : صوت التهابها.
ذهب أبو
جعفر الطبري وأبو العباس المبرد إلى أن الحمد والشكر بمعنى واحد سواء وليس بمرضي.
وحكاه أبو عبدالرحمن السلمي في كتاب « الحقائق » له عن
جعفر الصادق وابن عطاء. قال ابن عطاء: معناه الشكر لله إذ كان منه الامتنان على
تعليمنا إياه حتى حمدناه. واستدل الطبري على أنهما بمعنى بصحة قولك: الحمد لله
شكرا. قال ابن عطية: وهو في الحقيقة دليل على خلاف ما ذهب إليه لأن قولك شكرا إنما
خصصت به الحمد لأنه على نعمة من النعم. وقال بعض العلماء: إن الشكر أعم من الحمد
لأنه باللسان وبالجوارح والقلب والحمد إنما يكون باللسان خاصة. وقيل: الحمد أعم
لأن فيه معنى الشكر ومعنى المدح، وهو أعم من الشكر لأن الحمد يوضع موضع الشكر ولا
يوضع الشكر موضع الحمد. وروي عن ابن عباس أنه قال: الحمد لله كلمة كل شاكر، وإن
آدم عليه السلام قال حين عطس: الحمد لله. وقال الله لنوح عليه السلام: « فقل الحمد لله الذي نجانا من
القوم الظالمين » [ المؤمنون: 28 ] وقال إبراهيم عليه السلام: « الحمد لله الذي وهب لي على
الكبر إسماعيل وإسحاق » [ إبراهيم: 3 ] . وقال في قصة داود وسليمان: « وقالا الحمد لله الذي فضلنا
على كثير من عباده المؤمنين » [ النمل: 15 ] . وقال لنبيه صلى الله عليه
وسلم: « وقل
الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا » [ الإسراء: 111 ] . وقال أهل الجنة: « الحمد لله الذي أذهب عنا
الحزن » [ فاطر: 34 ] . « وآخر دعواهم أن الحمد لله رب
العالمين » [ يونس: 10 ] . فهي كلمة كل شاكر.
قلت:
الصحيح أن الحمد ثناء على الممدوح بصفاته من غير سبق إحسان، والشكر ثناء على المشكور
بما أولى من الإحسان. وعلى هذا الحد قال علماؤنا: الحمد أعم من الشكر، لأن الحمد
يقع على الثناء وعلى التحميد وعلى الشكر، والجزاء مخصوص إنما يكون مكافأة لمن
أولاك معروفا فصار الحمد أعم في الآية لأنه يزيد على الشكر. ويذكر الحمد بمعنى
الرضا يقال: بلوته فحمدته، أي رضيته. ومنه قوله تعالى: « مقاما محمودا » [ الإسراء: 79 ] . وقال عليه السلام: ( أحمد إليكم غسل الإحليل ) أي أرضاه لكم. ويذكر عن جعفر
الصادق في قوله « الحمد
لله » : من
حمده بصفاته كما وصف نفسه فقد حمد، لأن الحمد حاء وميم ودال، فالحاء من الوحدانية،
والميم من الملك، والدال من الديمومية، فمن عرفه بالوحدانية والديمومية والملك فقد
عرفه، وهذا هو حقيقة الحمد لله. وقال شقيق بن إبراهيم في تفسير « الحمد لله » قال: هو على ثلاثة أوجه: أولها
إذا أعطاك الله شيئا تعرف من أعطاك. والثاني أن ترضى بما أعطاك. والثالث ما دامت
قوته في جسدك ألا تعصيه، فهذه شرائط الحمد.
أثنى
الله سبحانه بالحمد على نفسه وافتتح كتابه بحمده، ولم يأذن في ذلك لغيره بل نهاهم
عن ذلك في كتابه وعلى لسان نبيه عليه السلام فقال: « فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن
اتقى » [ النجم: 32 ] . وقال عليه السلام: ( احثوا في وجوه المداحين
التراب ) رواه
المقداد. وسيأتي القول فيه في « النساء
» إن شاء
الله تعالى.
فمعنى « الحمد لله رب العالمين » أي سبق الحمد مني لنفسي أن
يحمد نفسه أحد من العالمين، وحمدي نفسي لنفسي في الأزل لم يكن بعلة، وحمدي الخلق
مشوب بالعلل. قال علماؤنا: فيستقبح من المخلوق الذي لم يعط الكمال أن يحمد نفسه
ليستجلب لها المنافع ويدفع عنها المضار. وقيل: لما علم سبحانه عجز عباده عن حمده
حمد نفسه بنفسه لنفسه في الأزل فاستفراغ طوق عباده هو محمل العجز عن حمده. ألا ترى
سيد المرسلين كيف أظهر العجز بقوله: ( لا أحصي ثناء عليك ) . وأنشدوا:
إذا نحن
أثنينا عليك بصالح فأنت كما نُثني وفوق الذي نثني
وقيل:
حَمِد نفسه في الأزل لما علم من كثره نعمه على عباده وعجزهم على القيام بواجب حمده
فحمد نفسه عنهم، لتكون النعمة أهنأ لديهم، حيث أسقط به ثقل المنة.
وأجمع
القراء السبعة وجمهور الناس على رفع الدال من « الحمد لله » . وروي عن سفيان بن عيينة ورؤبة بن العجّاج: « الحمد لله » بنصب الدال وهذا على إضمار
فعل. ويقال: « الحمد
لله » بالرفع
مبتدأ وخبر وسبيل الخبر أن يفيد فما الفائدة في هذا؟ فالجواب أن سيبويه قال: إذا
قال الرجل الحمد لله بالرفع ففيه من المعنى مثل ما في قولك: حمدت الله حمدا، إلا
أن الذي يرفع الحمد يخبر أن الحمد منه ومن جميع الخلق لله، والذي ينصب الحمد يخبر
أن الحمد منه وحده لله. وقال غير سيبويه. إنما يتكلم بهذا تعرضا لعفو الله ومغفرته
وتعظيما له وتمجيدا، فهو خلاف معنى الخبر وفيه معنى السؤال. وفي الحديث: ( من شغل بذكري عن مسألتي
أعطيته أفضل ما أعطي السائلين ) .
وقيل: إن مدحه عز وجل لنفسه وثناءه عليها ليعلم ذلك عباده فالمعنى على هذا: قولوا
الحمد لله. قال الطبري: « الحمد
لله » ثناء
أثنى به على نفسه وفي ضمنه أمر عباده أن يثنوا عليه فكأنه قال: قولوا الحمد لله،
وعلى هذا يجيء قولوا إياك. وهذا من حذف العرب ما يدل ظاهر الكلام عليه كما قال
الشاعر:
وأعلم
أنني سأكون رمسا إذا سار النواعج لا يسير
فقال
السائلون لمن حفرتم فقال القائلون لهم وزير
المعنى: المحفور
له وزير، فحذف لدلاك ظاهر الكلام عليه وهذا كثير. وروي عن ابن أبي عبَلة: « الحمد لله » بضم الدال واللام على إتباع
الثاني الأول وليتجانس اللفظ وطلب التجانس في اللفظ كثير في كلامهم نحو: أجودك وهو
منحدر من الجبل بضم الدال والجيم. قال:
... اضرب
الساقينُ أُمّك هابل
بضم
النون لأجل ضم الهمزة. وفي قراءة لأهل مكة « مُرُدفين » بضم
الراء إتباعا للميم، وعلى ذلك «
مُقُتلين » بضم
القاف. وقالوا: لإمِّك، فكسروا الهمزة اتباعا للاّم، وأنشد للنعمان بن بشير:
ويلِ
امِّها في هواء الجو طالبة ولا كهذا الذي في الأرض مطلوب
الأصل:
ويلٌ لأمها، فحذفت اللام الأولى واستثقل ضم الهمزة بعد الكسرة فنقلها للأم ثم أتبع
اللام الميم. وروي عن الحسن بن أبي الحسن وزيد بن علي: « الحمدِ لله » بكسر الدال على اتباع الأول
الثاني.
قوله
تعالى: « رب
العالمين » أي
مالكهم، وكل من ملك شيئا فهو ربه، فالرب: المالك. وفي الصحاح: والرب اسم من أسماء
الله تعالى ولا يقال في غيره إلا بالإضافة، وقد قالوه في الجاهلية للملك قال
الحارث بن حِلِّزة:
وهو الرب
والشهيد على يوم الحيارين والبلاء بلاء
والرب:
السيد: ومن قوله تعالى: « اذكرني
عند ربك » [ يوسف: 42 ] . وفي الحديث: ( أن تلد الأمة ربتها ) أي سيدتها وقد بيناه في كتاب
(
التذكرة ) .
والرب: المصلح والمدبر والجابر والقائم. قال الهروي وغيره: يقال لمن قام بإصلاح
شيء وإتمامه: قد ربه يربه فهو رب له وراب، ومنه سمي الربانيون لقيامهم بالكتب. وفي
الحديث: ( هل لك
من نعمة تربُّها عليه ) أي
تقوم بها وتصلحها. والرب: المعبود ومنه قول الشاعر:
أربٌّ
يبول الثعلبان برأسه لقد ذل من بالت عليه الثعالب
ويقال
على التكثير: رباه ورببه وربته، حكاه النحاس. وفي الصحاح: ورب فلان ولده يربه ربا
ورببه وترببه بمعنىً، أي رباه. والمربوب: المربى.
قال بعض العلماء:
إن هذا الاسم هو اسم الله الأعظم لكثرة دعوة الداعين به، وتأمل ذلك في القرآن كما
في آخر « آل
عمران » وسورة « إبراهيم » وغيرهما، ولما يشعر به هذا
الوصف من الصلاة بين الرب والمربوب مع ما يتضمنه من العطف والرحمة والافتقار في كل
حال.
واختلف
في اشتقاقه فقيل: إنه مشتق من التربية، فالله سبحانه وتعالى مدبر لخلقه ومربيهم
ومنه قوله تعالى: «
وربائبكم اللاتي في حجوركم » [ النساء: 23 ] . فسمى بنت الزوجة ربيبة
لتربية الزوج لها.
فعلى أنه
مدبر لخلقه ومربيهم يكون صفة فعل، وعلى أن الرب بمعنى المالك والسيد يكون صفة ذات.
متى
أدخلت الألف واللام على « رب » اختص الله تعالى به، لأنها
للعهد وإن حذفنا منه صار مشتركا بين الله وبين عباده، فيقال: الله رب العباد وزيد
رب الدار فالله سبحانه رب الأرباب يملك المالك والمملوك، وهو خالق ذلك ورازقه وكل
رب سواه غير خالق ولا رازق، وكل مملوك فمُمَلَّك بعد أن لم يكن، ومنتزع ذلك من يده
وإنما يملك شيئا دون شيء وصفة الله تعالى مخالفة لهذه المعاني فهذا الفرق بين صفة
الخالق والمخلوقين.
قوله
تعالى: «
العالمين » اختلف
أهل التأويل في «
العالمين » اختلافا
كثيراً، فقال قتادة: العالمون جمع عالم وهو كل موجود سوى الله تعالى ولا واحد له
من لفظه مثل رهط وقوم. وقيل: أهل كل زمان عالم قاله الحسين بن الفضل، لقوله تعالى:
« أتأتون
الذكران من العالمين » [ الشعراء: 165 ] أي من الناس. وقال العجاج:
فخِنْدِفٌ
هامة هذا العأْلَمِ
وقال
جرير بن الخَطَفي:
تَنَصَّفُه
البرية وهو سامٍ ويُضحي العالَمون له عيالا
وقال ابن
عباس: العالمون الجن والإنس، دليله قوله تعالى: « ليكون للعالمين نذيرا » [
الفرقان: 1 ] ولم
يكن نذيرا للبهائم. وقال الفراء وأبو عبيدة: العالم عبارة عمن يعقل، وهم أربعة أمم:
الإنس والجن والملائكة والشياطين. ولا يقال للبهائم: عالم، لأن هذا الجمع إنما هو
جمع من يعقل خاصة.
قال
الأعشى:
ما إن
سمعت بمثلهم في العالمينا
وقال زيد
بن أسلم: هم المرتزقون، ونحوه قول أبي عمرو بن العلاء: هم الروحانيون. وهو معنى
قول ابن عباس أيضا: كل ذي روح دب على وجه الأرض. وقال وهب بن منبه: إن لله عز وجل
ثمانية عشر ألف عالم، الدنيا عالم منها. وقال أبو سعيد الخدري: إن لله أربعين ألف
عالم، الدنيا من شرقها إلى غربها عالم واحد. وقال مقاتل: العالمون ثمانون ألف
عالم، أربعون ألف عالم في البر وأربعون ألف عالم في البحر. وروى الربيع بن أنس عن
أبي العالية قال: الجن عالم والإنس عالم وسوى ذلك للأرض أربع زوايا في كل زاوية
ألف وخمسمائة عالم خلقهم لعبادته.
قلت:
والقول الأول أصح هذه الأقوال، لأنه شامل لكل مخلوق وموجود دليله قوله تعالى: « قال فرعون وما رب العالمين. قال
رب السماوات والأرض وما بينهما » [ الشعراء: 23 ] ثم هو مأخوذ من العلم
والعلامة لأنه يدل على موجده. كذا قال الزجاج قال: العالم كل ما خلقه الله في
الدنيا والآخرة. وقال الخليل: العلم والعلامة والمعلم: ما دل على الشيء، فالعالم
دال على أن له خالقا ومدبرا وهذا واضح. وقد ذكر أن رجلا قال بين يدي الجنيد: الحمد
لله فقال له: أتمها كما قال الله قل رب العالمين فقال الرجل: ومن العالمين حتى
تذكر مع الحق؟ قال: قل يا أخي؟ فإن المحدث إذا قرن مع القديم لا يبقى له أثر.
يجوز
الرفع والنصب في « رب » فالنصب على المدح والرفع على
القطع، أي هو رب العالمين.
قوله
تعالى: « الرحمن
الرحيم » وصف
نفسه تعالى بعد « رب
العالمين » بأنه « الرحمن الرحيم » لأنه لما كان في اتصافه بـ « رب العالمين » ترهيب قرنه بـ « الرحمن الرحيم » لما تضمن من الترغيب، ليجمع في
صفاته بين الرهبة منه والرغبة إليه، فيكون أعون على طاعته وأمنع كما قال: « نبئ عبادي أني أنا الغفور
الرحيم. وأن عذابي هو العذاب الأليم » [
الحجر: 49، 50 ] .
وقال: « غافر
الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول » [
غافر: 3 ] . وفي
صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لو يعلم المؤمن ما عند الله
من العقوبة ما طمع بجنته أحد، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من
جنته أحد ) . وقد
تقدم ما في هذين الاسمين من المعاني فلا معنى لإعادته.
قوله
تعالى: « مالك
يوم الدين » قرأ
محمد بن السَّمَيقع بنصب مالك، وفيه أربع لغات: مالك ومَلِك ومَلْك - مخففة من
مَلِك - ومَليك. قال الشاعر:
وأيام
لنا غر طوال عصينا الملك فيها أن ندينا
وقال
آخر:
فاقنع
بما قسم المليك فإنما قسم الخلائق بيننا علامها
الخلائق:
الطبائع التي جبل الإنسان عليها. وروي عن نافع إشباع الكسرة في « مَلِكِ » فيقرأ « ملكي » على لغة من يشبع الحركات وهي
لغة للعرب ذكرها المهدوي وغيره.
اختلف
العلماء أيما أبلغ: ملك أو مالك؟ والقراءتان مرويتان عن النبي صلى الله عليه وسلم
وأبي بكر وعمر. ذكرهما الترمذي فقيل: « ملك » أعم
وأبلغ من « مالك » إذ كل ملك مالك وليس كل مالك
ملكا ولأن الملك نافذ على المالك في ملكه حتى لا يتصرف إلا عن تدبير الملك قال أبو
عبيدة والمبرد. وقيل: « مالك » أبلغ لأنه يكون مالكا للناس
وغيرهم فالمالك أبلغ تصرفا وأعظم إذ إليه إجراء قوانين الشرع، ثم عنده زيادة
التملك. وقال أبو علي: حكى أبو بكر بن السراج عن بعض من اختار القراءة بـ « مالك » أن الله سبحانه قد وصف نفسه
بأنه مالك كل شيء بقول: « رب
العالمين » فلا
فائدة في قراءة من قرأ « مالك » لأنها تكرار. قال أبو علي: ولا
حجة في هذا لأن في التنزيل أشياء على هذه الصورة تقدم العام ثم ذكر الخاص كقوله: « هو الله الخالق البارئ المصور
» فالخالق
يعم. وذكر المصور لما فيه من التنبيه على الصنعة ووجود الحكمة وكما قال تعالى: « وبالآخرة هم يوقنون » بعد قوله: « الذين يؤمنون بالغيب » . والغيب يعم الآخرة وغيرها
ولكن ذكرها لعظمها والتنبيه على وجوب اعتقادها والرد على الكفرة الجاحدين لها وكما
قال: « الرحمن
الرحيم » فذكر « الرحمن » الذي هو عام وذكر « الرحيم » بعده لتخصيص المؤمنين به في
قوله: « وكان
بالمؤمنين رحيما » . وقال
أبو حاتم: إن مالكا أبلغ في مدح الخالق من « ملك » و « ملك » أبلغ في مدح المخلوقين من مالك،
والفرق بينهما أن المالك من المخلوقين قد يكون غير ملك، وإذا كان الله تعالى مالكا
كان ملكا، واختار هذا القول القاضي أبو بكر بن العربي وذكر ثلاثة أوجه، الأول: أنك
تضيفه إلى الخاص والعام فتقول: مالك الدار والأرض والثوب كما تقول: مالك الملوك.
الثاني: أنه يطلق على مالك القليل والكثير وإذا تأملت هذين القولين وجدتهما واحدا.
والثالث: أنك تقول: مالك الملك ولا تقول: ملك الملك. قال ابن الحصار: إنما كان ذلك
لأن المراد من « مالك » الدلالة على الملك - بكسر
الميم - وهو لا يتضمن « الملك
» - بضم
الميم - و « ملك » يتضمن الأمرين جميعا فهو أولى
بالمبالغة. ويتضمن أيضا الكمال ولذلك استحق الملك على من دونه، ألا ترى إلى قوله
تعالى: « إن
الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم » [
البقرة: 247 ] ولهذا
قال عليه السلام: (
الإمامة في قريش ) وقريش
أفضل قبائل العرب والعرب أفضل من العجم وأشرف. ويتضمن الاقتدار والاختيار، وذلك
أمر ضروري في الملك، إن لم يكن قادرا مختارا نافذا حكمه وأمره، قهره عدوه وغلبه
غيره وازدرته رعيته، ويتضمن البطش والأمر والنهي والوعد والوعيد، ألا ترى إلى قول
سليمان عليه السلام: « ما لي
لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين. لأعذبنه عذابا شديدا » [ النمل: 20، 21 ] إلى غير ذلك من الأمور
العجيبة والمعاني الشريفة التي لا توجد في المالك.
قلت: وقد
احتج بعضهم على أن مالكا أبلغ لأن فيه زيادة حرف فلقارئه عشر حسنات زيادة عمن قرأ
ملك.
قلت: هذا
نظر إلى الصيغة لا إلى المعنى، وقد ثبتت القراءة بملك وفيه من المعنى ما ليس في
مالك على ما بينا والله أعلم.
لا يجوز
أن يتسمى أحد بهذا الاسم ولا يدعى به إلا الله تعالى، روى البخاري ومسلم عن أبي
هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يقبض الله الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه ثم يقول
أنا الملك أين ملوك الأرض ) وعنه
أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن أخنع اسم عند الله رجل تسمى ملك الأملاك - زاد مسلم -
لا مالك إلا الله عز وجل ) قال
سفيان: مثل: شاهان شاه. وقال أحمد بن حنبل: سألت أبا عمرو الشيباني عن أخنع فقال:
أوضع. وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أغيظ رجل على الله يوم
القيامة وأخبثه رجل ل [ كان
] يسمى
ملك الأملاك لا ملك إلا الله سبحانه ) . قال ابن الحصار: وكذلك « ملك يوم الدين » و « مالك
الملك » لا
ينبغي أن يختلف في أن هذا محرم على جميع المخلوقين كتحريم ملك الأملاك سواء، وأما
الوصف بمالك وملك فيجوز أن يوصف بهما من اتصف بمفهومهما، قال الله العظيم: « إن الله قد بعث لكم طالوت
ملكا » [ البقرة: 247 ] . وقال صلى الله عليه وسلم: ( ناس من أمتي عرضوا علي غزاة
في سبيل الله يركبون ثبج هذا البحر ملوكا على الأسرة أو مثل الملوك على الأسرة ) .
إن قال
قائل: كيف قال « مالك
يوم الدين » ويوم
الدين لم يوجد بعد، فكيف وصف نفسه بملك ما لم يوجده؟ قيل له: اعلم أن مالكا اسم
فاعل من ملك يملك، واسم الفاعل في كلام العرب قد يضاف إلى ما بعده وهو بمعنى الفعل
المستقبل، ويكون ذلك عندهم كلاما سديدا معقولا صحيحا، كقولك: هذا ضارب زيد غدا، أي
سيضرب زيدا. وكذلك: هذا حاج بيت الله في العام المقبل، تأويله سيحج في العام
المقبل أفلا ترى أن الفعل قد ينسب إليه وهو لم يفعله بعد، وإنما أريد به
الاستقبال، فكذلك قول عز وجل: « مالك
يوم الدين » على
تأويل الاستقبال، أي سيملك يوم الدين أو في يوم الدين إذا حضر.
ووجه
ثان: أن يكون تأويل المالك راجع إلى القدرة، أي إنه قادر في يوم الدين، أو على يوم
الدين وإحداثه، لأن المالك للشيء هو المتصرف في الشيء والقادر عليه والله عز وجل
مالك الأشياء كلها ومصرفها على إرادته، لا يمتنع عليه منها شيء.
والوجه
الأول أمس بالعربية وأنفذ في طريقها، قاله أبو القاسم الزجاجي.
ووجه
ثالث: فيقال لم خصص يوم الدين وهو مالك يوم الدين وغيره؟ قيل له: لأن في الدنيا
كانوا منازعين في الملك مثل فرعون ونمروذ وغيرهما وفي ذلك اليوم لا ينازعه أحد في
ملكه، وكلهم خضعوا له كما قال تعالى: « لمن الملك اليوم » [
غافر: 16 ] فأجاب
جميع الخلق: « لله
الواحد القهار » [ غافر: 16 ] فلذلك قال: مالك يوم الدين،
أي في ذلك اليوم لا يكون مالك ولا قاض ولا مجاز غيره سبحانه لا إله إلا هو. إن
وُصِف الله سبحانه بأنه ملك كان ذلك من صفات ذاته، وإن وصف بأنه مالك كان ذلك من
صفات فعله.
اليوم:
عبارة عن وقت طلوع الفجر إلى وقت غروب الشمس، فاستعير فيما بين مبتدأ القيامة إلى
وقت استقرار أهل الدارين فيهما. وقد يطلق اليوم على الساعة منه، قال الله تعالى: « اليوم أكملت لكم دينكم » [ المائدة: 3 ] وجمع يوم أيام وأصله أيوام
فأدغم،
وربما
عبروا عن الشدة باليوم يقال: يوم أيوم كما يقال: ليله ليلاء. قال الراجز:
نعم أخو
الهيجاء في اليوم اليمي
وهو
مقلوب منه أخر الواو وقدم الميم ثم قلبت الواو ياء حيث صارت طرفا، كما قالوا:
أدْلٍ في جمع دلو.
الدين: الجزاء
على الأعمال والحساب بها، كذلك قال ابن عباس وابن مسعود وابن جريج وقتادة وغيرهم،
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويدل عليه قوله تعالى: « يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق
» [ النور: 25 ] أي حسابهم. وقال: « اليوم تجزى كل نفس بما كسبت » [ غافر: 17 ] و « اليوم تجزون ما كنتم تعملون » [ الجاثية: 28 ] وقال: « أئنا لمدينون » [ الصافات: 53 ] أي مجزيون محاسبون. وقال
لبيد:
حصادك
يوما ما زرعت وإنما يدان الفتى يوما كما هو دائن
آخر:
إذا
رمونا رميناهم ودناهم مثل ما يقرضونا
آخر:
وأعلم يقينا
أن ملكك زائل وأعلم بأنّ كما تدين تدان
وحكى أهل
اللغة: دِنته بفعله دينا ( بفتح
الدال ) ودينا
(
بكسرها ) جزيته،
ومنه الديان في صفة الرب تعالى أي المجازي، وفي الحديث: ( الكيس من دان نفسه ) أي حاسب. وقيل: القضاء، وروي
عن ابن عباس أيضا ومنه قول طرفة:
لعمرك ما
كانت حمولة معبد على جدها حربا لدينِك من مضر
ومعاني
هذه الثلاثة متقاربة. والدين أيضا: الطاعة، ومنه قول عمرو بن كلثوم:
وأيام
لنا غر طوال عصينا المَلْك فيها أن ندينا
فعلى هذا
هو لفظ مشترك وهي:
قال
ثعلب: دان الرجل إذا أطاع، ودان إذا عصى، ودان إذا عز، ودان إذا ذل، ودان إذا قهر،
فهو من الأضداد. ويطلق الدين على العادة والشأن كما قال:
كدينك من
أم الحويرث قبلها
وقال
المثقب [
يذكر ناقته ] :
تقول إذا
درأتُ لها وضيني أهذا دينُه أبدا وديني
والدين:
سيرة الملك. قال زهير:
لئن حللت
بجو في بني أسد في دين عمرو وحالت بيننا فدَك
أراد في
موضع طاعة عمرو. والدين: الداء عن اللحياني. وأنشد:
يا دين
قلبك من سلمى وقد دينا
قوله
تعالى: « إياك
نعبد » رجع من
الغيبة إلى الخطاب على التلوين، لأن من أول السورة إلى ههنا خبرا عن الله تعالى
وثناء عليه كقوله « وسقاهم
ربهم شرابا طهورا » [ الإنسان: 21 ] . ثم قال: « إن هذا كان لكم جزاء » . وعكسه: « حتى إذا كنتم في الفلك وجرين
بهم » [ يونس: 22 ] على ما يأتي. و « نعبد » معناه نطيع والعبادة الطاعة
والتذلل. وطريق معبد إذا كان مذللا للسالكين قال الهروي. ونطق المكلف به إقرار
بالربوبية وتحقيق لعبادة الله تعالى، إذ سائر الناس يعبدون سواه من أصنام وغير
ذلك. « وإياك
نستعين » أي نطلب
العون والتأييد والتوفيق.
قال
السلمي في حقائقه: سمعت محمد بن عبدالله بن شاذان يقول: سمعت أبا حفص الفرغاني
يقول: من أقرَّ بـ « إياك
نعبد وإياك نستعين » فقد برئ
من الجبر والقدر.
إن قيل:
لم قدم المفعول على الفعل؟ قيل له: قدم اهتماما، وشأن العرب تقديم الأهم. يذكر أن
أعرابيا سبَّ آخر فأعرض المسبوب عنه، فقال له الساب: إياك أعني: فقال له الآخر:
وعنك أعرض، فقدما الأهم. وأيضا لئلا يتقدم ذكر العبد والعبادة على المعبود فلا
يجوز نعبدك ونستعينك ولا نعبد إياك ونستعين إياك، فيقدم الفعل على كناية المفعول
وإنما يتبع لفظ القرآن. وقال العجاج:
إياك
أدعو فتقبل مَلَقي واغفر خطاياي وكثّر ورقي
ويروى:
وثَمِّر. وأما قول الشاعر:
إليك حتى
بَلَغَتْ إياكا
فشاذ لا يقاس
عليه. والورق بكسر الراء من الدراهم، وبفتحها المال. وكرر الاسم لئلا يتوهم إياك
نعبد ونستعين غيرك.
الجمهور
من القراء والعلماء على شد الياء من « إياك » في
الموضعين. وقرأ عمرو بن قائد: « إياك » بكسر الهمزة وتخفيف الياء،
وذلك أنه كره تضعيف الياء لثقلها وكون الكسرة قبلها. وهذه قراءة مرغوب عنها، فإن
المعنى يصير: شمسك نعبد أو ضوءك وإياة الشمس ( بكسر الهمزة ) : ضوءها وقد تفتح. وقال:
سقته
إياة الشمس إلا لِثاتِه أُسِفّ فلم تَكدِم عليه بإثمد
فإن
أسقطت الهاء مددت. ويقال: الإياة للشمس كالهالة للقمر وهي الدارة حولها. وقرأ
الفضل الرقاشي: « أياك » ( بفتح الهمزة ) وهي لغة مشهورة. وقرأ أبو
السَّوار الغَنَوي: « هياك » في الموضعين وهي لغة قال:
فهِيّاك
والأمر الذي إن توسعت موارده ضاقت عليك مصادره
قوله
تعالى: « وإياك
نستعين » عطف
جملة على جملة. وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش: « نِستعين » بكسر
النون وهي لغة تميم وأسد وقيس وربيعة ليدل على أنه من استعان، فكسرت النون كما
تكسر ألف الوصل. وأصل « نستعين
» نستعون
قلبت حركة الواو إلى العين فصارت ياء، والمصدر استعانة والأصل استعوان، قلبت حركة
الواو إلى العين فانقلبت ألفا ولا يلتقي ساكنان فحذفت الألف الثانية لأنها زائدة،
وقيل الأولى لأن الثانية للمعنى ولزمت الهاء عوضا.
قوله
تعالى: « اهدنا
الصراط المستقيم » اهدنا
دعاء ورغبة من المربوب إلى الرب، والمعنى: دلنا على الصراط المستقيم وأرشدنا إليه
وأرنا طريق هدايتك الموصلة إلى أنسك وقربك. قال بعض العلماء: فجعل الله جل وعز عظم
الدعاء وجملته موضوعا في هذه السورة، نصفها فيه مجمع الثناء ونصفها فيه مجمع
الحاجات، وجعل هذا الدعاء الذي في هذه السورة أفضل من الذي يدعو به [ الداعي ] لأن هذا الكلام قد تكلم به رب
العالمين فأنت تدعو بدعاء هو كلامه الذي تكلم به، وفي الحديث: ( ليس شيء أكرم على الله من
الدعاء ) . وقيل
المعنى: أرشدنا باستعمال السنن في أداء فرائضك وقيل: الأصل فيه الإمالة ومنه قوله
تعالى: « إنا
هُدنا إليك » [ الأعراف: 156 ] أي ملنا، وخرج عليه السلام في
مرضه يتهادى بين اثنين، أي يتمايل. ومنه الهدية لأنها تمال من مِلك إلى مِلك. ومنه
الهدي للحيوان الذي يساق إلى الحرم، فالمعنى مل بقلوبنا إلى الحق. وقال الفضيل بن
عياض: « الصراط
المستقيم » طريق
الحج، وهذا خاص والعموم أولى. قال محمد بن الحنفية في قوله عز وجل « اهدنا الصراط المستقيم » : هو دين الله الذي لا يقبل من
العبادة غيره. وقال عاصم الأحول عن أبي العالية: « الصراط المستقيم » رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحباه من بعده. قال عاصم
فقلت للحسن: إن أبا العالية يقول: « الصراط المستقيم » رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحباه قال: صدق ونصح.
أصل
الصراط في كلام العرب الطريق، قال عامر بن الطفيل:
شحنَّا
أرضهم بالخيل حتى تركناهم أذل من الصراط
وقال
جرير:
أمير
المؤمنين على صراط إذا أعوج الموارد مستقيم
وقال
آخر: فصدّ عن نهج الصراط الواضح
حكى
النقّاش: الصراط الطريق بلغة الروم، فقال ابن عطية: وهذا ضعيف جدا. وقرئ: السراط ( بالسين ) من الاستراط بمعنى الابتلاع،
كأن الطريق يسترط من يسلكه. وقرئ بين الزاي والصاد. وقرئ بزاي خالصة والسين الأصل.
وحكى سلمة عن الفراء قال: الزراط بإخلاص الزاي لغة لعُذرة وكلب وبني القَيْن قال:
وهؤلاء يقولون [ في
أصدق ] :
أزدق. وقد قالوا: الأزْد والأسْد، ولسق به ولصق به. و « الصراط » نصب على المفعول الثاني لأن
الفعل من الهداية يتعدى إلى المفعول الثاني بحرف جر، قال الله تعالى: « فاهدوهم إلى صراط الجحيم » . [ الصافات: 23 ] . وبغير حرف كما في هذه
الآية. «
المستقيم » صفة لـ « الصراط » وهو الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف
ومنه قوله تعالى: « وأن
هذا صراطي مستقيما فاتبعوه » [ الأنعام: 153 ] وأصله مستقوم، نقلت الحركة
إلى القاف وانقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها.
قوله
تعالى: « صراط
الذين أنعمت عليهم » صراط
بدل من الأول بدل الشيء من الشيء، كقولك: جاءني زيد أبوك. ومعناه: أدم هدايتنا،
فإن الإنسان قد يهدى إلى الطريق ثم يقطع به. وقيل: هو صراط آخر، ومعناه العلم
بالله جل وعز والفهم عنه، قاله جعفر بن محمد. ولغة القرآن « الذين » في الرفع والنصب والجر وهذيل
تقول: اللذون في الرفع، ومن العرب من يقول: اللذو، ومنهم من يقول الذي، وسيأتي.
وفي « عليهم » عشر لغات، قرئ بعامتها: « عليهُم » بضم الهاء وإسكان الميم. « وعليهِم » بكسر الهاء وإسكان الميم. و « عليهمي » بكسر الهاء والميم وإلحاق ياء
بعد الكسرة. و « عليهمو
» بكسر
الهاء وضم الميم وزيادة واو بعد الضمة. و « عليهمو » بضم
الهاء والميم كلتيهما وإدخال واو بعد الميم. و « عليهم » بضم
الهاء والميم من غير زيادة واو. وهذه الأوجه الستة مأثورة عن الأئمة من القراء.
وأوجه أربعة منقولة عن العرب غير محكية عن القراء: « عليهمي » بضم الهاء وكسر الميم وإدخال
ياء بعد الميم، حكاها الحسن البصري عن العرب. و « عليهُمِ » بضم
الهاء وكسر الميم من غير زيادة ياء. و « عليهِمُ » بكسر
الهاء وضم الميم من غير إلحاق واو. و « عليهم » بكسر
الهاء والميم ولا ياء بعد الميم. وكلها صواب، قاله ابن الأنباري.
قرأ عمر
بن الخطاب وابن الزبير رضي الله عنهما « صراط من أنعمت عليهم » . واختلف الناس في المنعم عليهم، فقال الجمهور من المفسرين:
إنه أراد صراط النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. وانتزعوا ذلك من قوله تعالى:
« ومن
يطع الله والرسول فأولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء
والصالحين وحسن أولئك رفيقا » [ النساء: 69 ] . فالآية تقتضي أن هؤلاء على
صراط مستقيم، وهو المطلوب في آية الحمد وجميع ما قيل إلى هذا يرجع، فلا معنى
لتعديد الأقوال والله المستعان.
في هذه
الآية رد على القدرية والمعتزلة والإمامية، لأنهم يعتقدون أن إرادة الإنسان كافية
في صدور أفعال منه طاعة كانت أو معصية، لأن الإنسان عندهم خالق لأفعاله فهو غير
محتاج في صدورها عنه إلى ربه، وقد أكذبهم الله تعالى في هذه الآية إذ سألوه
الهداية إلى الصراط المستقيم فلو كان الأمر إليهم والاختيار بيدهم دون ربهم لما
سألوه الهداية، ولا كرروا السؤال في كل صلاة وكذلك تضرعهم إليه في دفع المكروه وهو
ما يناقض الهداية حيث قالوا: « صراط
الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين » [ الفاتحة: الآية ] . فكما سألوه أن يهديهم سألوه
ألا يضلهم، وكذلك يدعون فيقولون: « ربنا
لا تزغ قلوبنا بعد إن هديتنا » [ آل عمران: 8 ] الآية.
قوله
تعالى: « غير
المغضوب عليهم ولا الضالين » اختلف
في «
المغضوب عليهم » و « الضالين » من هم؟ فالجمهور أن المغضوب
عليهم اليهود والضالين النصارى، وجاء ذلك مفسرا عن النبي صلى الله عليه وسلم في
حديث عدي بن حاتم وقصة إسلامه، أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده والترمذي في جامعه.
وشهد لهذا التفسير أيضا قوله سبحانه في اليهود: « وباؤوا بغضب من الله » [
البقرة: 61 وآل عمران: 112 ] .
وقال: « وغضب
الله عليهم » [ الفتح: 6 ] وقال في النصارى: « قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا
وضلوا عن سواء السبيل » [ المائدة: 77 ] . وقيل: « المغضوب عليهم » المشركون. و « الضالين » المنافقون. وقيل: « المغضوب عليهم » هو من أسقط فرض هذه السورة في
الصلاة و «
الضالين » عن بركة
قراءتها. حكاه السلمي في حقائقه والماوردي في تفسيره وليس بشيء. قال الماوردي: وهذا
وجه مردود، لأن ما تعارضت فيه الأخبار وتقابلت فيه الآثار وانتشر فيه الخلاف لم
يجز أن يطلق عليه هذا الحكم. وقيل: « المغضوب عليهم » باتباع البدع و « الضالين » عن سنن
الهدى.
قلت:
وهذا حسن، وتفسير النبي صلى الله عليه وسلم أولى وأعلى وأحسن. و « عليهم » في موضع رفع لأن المعنى غضب
عليهم. والغضب في اللغة الشدة. ورجل غضوب أي شديد الخلق. والغضوب: الحية الخبيثة
لشدتها. والغضبة: الدرقة من جلد البعير، يطوى بعضها على بعض، سميت بذلك لشدتها.
ومعنى الغضب في صفة الله تعالى إرادة العقوبة، فهو صفة ذات وإرادة الله تعالى من صفات
ذاته أو نفس العقوبة ومنه الحديث: ( إن الصدقة لتطفئ غضب الرب ) فهو صفة فعل.
قوله
تعالى: « ولا
الضالين » الضلال
في كلام العرب هو الذهاب عن سنن القصد وطريق الحق، ومنه: ضل اللبن في الماء أي
غاب. ومنه: « أئذا
ضللنا في الأرض » [ السجدة: 10 ] أي غبنا بالموت وصرنا ترابا،
قال:
ألم تسأل
فتخبرك الديار عن الحي المضلَّل أين ساروا
والضُّلَضِلَة:
حجر أملس يردده الماء في الوادي. وكذلك الغضبة: صخرة في الجبل مخالفة لونه قال: أو
غضبة في هضبة ما أمنعا
قرأ عمر
بن الخطاب وأبي بن كعب « غير
المغضوب عليهم وغير الضالين » وروي
عنهما في الراء النصب والخفض في الحرفين، فالخفض على البدل من « الذين » أو من الهاء والميم في « عليهم » أو صفة للذين والذين معرفة ولا
توصف المعارف بالنكرات ولا النكرات بالمعارف، إلا أن الذين ليس بمقصود قصدهم فهو
عام فالكلام بمنزلة قولك: إني لأمر بمثلك فأكرمه أو لأن « غير » تعرفت لكونها بين شيئين لا وسط
بينهما كما تقول: الحي غير الميت والساكن غير المتحرك والقائم غير القاعد، قولان:
الأول للفارسي والثاني للزمخشري. والنصب في الراء على وجهين: على الحال من الذين
أو من الهاء والميم في عليهم كأنك قلت: أنعمت عليهم لا مغضوبا عليهم. أو على
الاستثناء كأنك قلت: إلا المغضوب عليهم. ويجوز النصب بأعني، وحكي عن الخليل.
قوله
تعالى: « لا » في « ولا الضالين » اختلف فيها فقيل هي زائدة،
قاله الطبري. ومنه قوله تعالى: « ما
منعك ألا تسجد » [ الأعراف: 12 ] . وقيل: هي تأكيد دخلت لئلا
يتوهم أن الضالين معطوف على الذين، حكاه مكي والمهدوي. وقال الكوفيون: « لا » بمعنى غير وهي قراءة عمر وأبي
وقد تقدم.
الأصل في
«
الضالين » :
الضاللين حذفت حركة اللام الأولى ثم أدغمت اللام في اللام فاجتمع ساكنان مدة الألف
واللام المدغمة. وقرأ أيوب السختياني: « ولا الضالين » بهمزة غير ممدودة كأنه فر من التقاء الساكنين، وهي لغة. حكى
أبو زيد قال: سمعت عمرو بن عبيد - يقرأ: « فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جأَنّ » [ الرحمن: 39 ] فظننته قد لحن حتى سمعت من
العرب: دأبة وشأبة. قال أبو الفتح: وعلى هذه اللغة قول كُثَيّر: إذا ما العوالي
بالعبيط احمأرت
نُجز
تفسير سورة الحمد، ولله الحمد والمنة.