سورة
إبراهيم
سورة
إبراهيم مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وجابر. وقال ابن عباس وقتادة: إلا آيتين
منها مدنيتين وقيل: ثلاث، نزلت في الذين حاربوا الله ورسوله وهي قوله تعالى: « ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت
الله كفرا » [ إبراهيم: 28 ] إلى قوله: « فإن مصيركم إلى النار » [ إبراهيم: 30 ] .
الآية:
1 ( الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج
الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد )
قوله
تعالى: « الر كتاب
أنزلناه إليك » تقدم
معناه. « لتخرج
الناس » أي
بالكتاب، وهو القرآن، أي بدعائك إليه. « من الظلمات إلى النور » أي من ظلمات الكفر الضلالة والجهل إلى نور الإيمان والعلم؛
وهذا على التمثيل؛ لأن الكفر بمنزلة الظلمة؛ والإسلام بمنزلة النور. وقيل: من
البدعة إلى السنة، ومن الشك إلى اليقين، والمعنى. متقارب. « بإذن ربهم » أي بتوفيقه إياهم ولطفه بهم،
والباء في « بإذن
ربهم » متعلقة بـ
« تخرج » وأضيف الفعل إلى النبي صلى الله
عليه وسلم لأنه الداعي والمنذر الهادي. « إلى صراط العزيز الحميد » هو كقولك: خرجت إلى زيد العاقل الفاضل من غير واو، لأنهما شيء
واحد؛ والله هو العزيز الذي لا مثل له ولا شبيه. وقيل: « العزيز » الذي لا يغلبه غالب. وقيل: « العزيز » المنيع في ملكه وسلطانه. « الحميد » أي المحمود بكل لسان، والممجد في
كل مكان على كل حال. وروى مقسم عن ابن عباس قال: كان قوم آمنوا بعيسى ابن مريم،
وقوم كفروا به، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم آمن به الذين كفروا بعيسى، وكفر
الذين آمنوا بعيسى؛ فنزلت هذه الآية، ذكره الماوردي.
الآية:
2 ( الله الذي له ما في السماوات
وما في الأرض وويل للكافرين من عذاب شديد )
قوله
تعالى: « الله
الذي له ما في السماوات وما في الأرض » أي ملكا وعبيدا واختراعا وخلقا. وقرأ نافع وابن عامر وغيرهما:
« الله » بالرفع على الابتداء « الذي » خبره. وقيل: « الذي » صفة، والخبر مضمر؛ أي الله الذي
له ما في السماوات وما في الأرض قادر على كل شيء. الباقون بالخفض نعتا للعزيز
الحميد فقدم النعت على المنعوت؛ كقولك: مررت بالظريف زيد. وقيل: على البدل من « الحميد » وليس صفة؛ لأن اسم الله صار
كالعلم فلا يوصف؛ كما لا يوصف بزيد وعمرو، بل يجوز أن يوصف به من حيث المعنى؛ لأن
معناه أنه المنفرد بقدرة الإيجاد. وقال أبو عمرو: والخفض على التقديم والتأخير،
مجازه: إلى صراط الله العزيز الحميد الذي له ما في السماوات وما في الأرض. وكان
يعقوب إذا وقف على « الحميد » رفع، وإذا وصل خفض على النعت. قال
ابن الأنباري: من خفض وقف على « وما في
الأرض » . « وويل للكافرين من عذاب شديد » قد تقدم معنى الويل في « البقرة » وقال الزجاج: هي كلمة تقال
للعذاب والهلكة. « من عذاب
شديد » أي من
جهنم.
الآية:
3 ( الذين يستحبون الحياة الدنيا
على الآخرة ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا أولئك في ضلال بعيد )
قوله
تعالى: « الذين
يستحبون الحياة الدنيا » أي
يختارونها على الآخرة، والكافرون يفعلون ذلك. فـ « الذين » في موضع
خفض صفة لهم. وقيل: في موضع رفع خبر ابتداء مضمر، أي هم الذين وقيل: « الذين يستحبون » مبتدأ وخبره. « أولئك » . وكل من آثر الدنيا وزهرتها،
واستحب البقاء في نعيمها على النعيم في الآخرة، وصد عن سبيل الله - أي صرف الناس
عنه وهو دين الله، الذي جاءت به الرسل، في قول ابن عباس وغيره - فهو داخل في هذه
الآية؛ وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( إن أخوف ما أخاف على أمتي الأئمة المضلون ) وهو حديث صحيح. وما أكثر ما هم
في هذه الأزمان، والله المستعان. وقيل: « يستحبون » أي
يلتمسون الدنيا من غير وجهها، لأن نعمة الله لا تلتمس إلا بطاعته دون معصيته. « ويبغونها عوجا » أي يطلبون لها زيغا وميلا
لموافقة أهوائهم، وقضاء حاجاتهم وأغراضهم. والسبيل تذكر وتؤنث. والموج بكسر العين
في الدين والأمر والأرضي، وفي كل ما لم يكن قائما؛ وبفتح العين في كل ما كان
قائما، كالحائط والرمح ونحوه؛ وقد تقدم في « آل عمران » وغيرها. « أولئك في ضلال بعيد » أي ذهاب عن الحق بعيد عنه.
الآية:
4 ( وما أرسلنا من رسول إلا بلسان
قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم )
قوله
تعالى: « وما
أرسلنا من رسول » أي قبلك
يا محمد « إلا
بلسان قومه » أي
بلغتهم، ليبينوا لهم أمر دينهم؛ ووحد اللسان وإن أضافه إلى القوم لأن المراد
اللغة؛ فهي اسم جنس يقع على القليل والكثير؛ ولا حجة للعجم وغيرهم في هذه الآية؛
لأن كل من ترجم له ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ترجمة يفهمها لزمته الحجة،
وقد قال الله تعالى: « وما
أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا » [ سبأ:
28 ] . وقال
صلى الله عليه وسلم: ( أرسل كل
نبي إلى أمته بلسانها وأرسلني الله إلى كل أحمر وأسود من خلقه ) . وقال صلى الله عليه وسلم: ( والذي نفسي بيده لا يسمع بي
أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب
النار ) . خرجه
مسلم، وقد تقدم. « فيضل
الله من يشاء ويهدي من يشاء » رد على
القدرية في نفوذ المشيئة، وهو مستأنف، وليس بمعطوف على « ليبين » لأن الإرسال إنما وقع للتبيين لا
للإضلال. ويجوز النصب في « يضل » لأن الإرسال صار سببا للإضلال؛
فيكون كقوله: « ليكون
لهم عدوا وحزنا » [ القصص: 8 ] وإنما صار الإرسال سببا للإضلال
لأنهم كفروا به لما جاءهم؛ فصار كأنه سبب لكفرهم « وهو العزيز الحكيم » تقدم معناه.
الآية:
5 ( ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن
أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور )
قوله
تعالى: « ولقد أرسلنا
موسى بآياتنا » أي بحجتنا
وبراهيننا؛ أي بالمعجزات الدالة على صدقه. قال مجاهد: هي التسع الآيات. « أن أخرج قومك من الظلمات إلى
النور » نظيره
قوله تعالى: لنبينا عليه السلام أول السورة: « لتخرج الناس من الظلمات إلى النور » : « أن » هنا بمعنى أي، كقوله تعالى: « وانطلق الملأ منهم أن امشوا » [ ص: 6 ] أي امشوا.
قوله
تعالى: « وذكرهم
بأيام الله » أي قل لهم
قولا يتذكرون به أيام الله تعالى. قال ابن عباس ومجاهد وقتادة: بنعم الله عليهم؛
وقاله أبي بن كعب ورواه مرفوعا؛ أي بما أنعم الله عليهم من النجاة من فرعون ومن التيه
إلى سائر النعم، وقد تسمى النعم الأيام؛ ومنه قول عمرو بن كلثوم:
وأيام لنا
غر طوال
وعن ابن
عباس أيضا ومقاتل: بوقائع الله في الأمم السالفة؛ يقال: فلان عالم بأيام العرب، أي
بوقائعها. قال ابن زيد: يعني الأيام التي انتقم فيها من الأمم الخالية؛ وكذلك روى
ابن وهب عن مالك قال: بلاؤه. وقال الطبري: وعظهم بما سلف في الأيام الماضية لهم،
أي بما كان في أيام الله من النعمة والمحنة؛ وقد كانوا عبيدا مستذلين؛ واكتفى بذكر
الأيام عنه لأنها كانت معلومة عندهم. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أبي بن كعب
قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( بينا موسى عليه السلام في قومه يذكرهم بأيام الله وأيام
الله بلاؤه ونعماؤه ) وذكر
حديث الخضر؛ ودل هذا على جواز الوعظ المرفق للقلوب، المقوي لليقين. الخالي من كل
بدعة، والمنزه عن كل ضلالة وشبهة. « إن في ذلك » أي في
التذكير بأيام الله « لآيات » أي دلالات. « لكل صبار » أي كثير الصبر على طاعة الله،
وعن معاصيه. « شكور » لنعم الله. وقال قتادة: هو
العبد؛ إذا أعطي شكر، وإذا ابتلي صبر. وروى عن النبي أنه قال: ( الإيمان نصفان نصف صبر ونصف
شكر - ثم تلا هذه الآية - « إن في
ذلك لآيات لكل صبار شكور » . ) ونحوه عن الشعبي موقوفا. وتواري
الحسن البصري عن الحجاج سبع سنين، فلما بلغه موته قال: اللهم قد أمته فأمت سنته،
وسجد شكرا، وقرأ: « إن في
ذلك لآيات لكل صبار شكور » . وإنما
خص بالآيات كل صبار شكور؛ لأنه يعتبر بها ولا يغفل عنها؛ كما قال: « إنما أنت منذر من يخشاها » [ النازعات: 45 ] وإن كان منذرا للجميع.
الآية:
6 ( وإذ قال موسى لقومه اذكروا
نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم
ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم )
تقدم معناه
في « البقرة » مستوفى والحمد لله.
الآية:
7 ( وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم
لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد )
قوله
تعالى: « وإذ تأذن
ربكم » قيل: هو
من قول موسى لقومه. وقيل: هو من قول الله؛ أي واذكر يا محمد إذ قال ربك كذا. و « تأذن » وأذن بمعنى أعلم؛ مثل أوعد
وتوعد؛ روي معنى ذلك عن الحسن وغيره. ومنه الأذان، لأنه إعلام؛ قال الشاعر:
فلم نشعر
بضوء الصبح حتى سمعنا في مجالسنا الأذينا
وكان ابن
مسعود يقرأ: « وإذ قال
ربكم » والمعنى
واحد. « لئن
شكرتم لأزيدنكم » أي لئن
شكرتم إنعامي لأزيدنكم من فضلي. الحسن: لئن شكرتم نعمتي لأزيدنكم من طاعتي. ابن
عباس: لئن وحدتم وأطعتم لأزيدنكم من الثواب، والمعنى متقارب في هذه الأقوال؛
والآية نص في أن الشكر سبب المزيد؛ وقد تقدم في « البقرة » ما
للعلماء في معنى الشكر. وسئل بعض الصلحاء عن الشكر لله فقال: ألا تتقوى بنعمه على
معاصيه. وحكي عن داود عليه السلام أنه قال: أي رب كيف أشكرك، وشكري لك نعمة مجددة
منك علي. قال: يا داود الآن شكرتني. قلت: فحقيقة الشكر على هذا الاعتراف بالنعمة
للمنعم. وألا يصرفها في غير طاعته؛ وأنشد الهادي وهو يأكل:
أنالك رزقه
لتقوم فيه بطاعته وتشكر بعض حقه
فلم تشكر
لنعمته ولكن قويت على معاصيه برزقه
فغص
باللقمة، وخنقته العبرة. وقال جعفر الصادق: إذا سمعت النعمة الشكر فتأهب للمزيد. « ولئن كفرتم إن عذابي لشديد » أي جحدتم حقي. وقيل: نعمي؛ وعد
بالعذاب على الكفر، كما وعد بالزيادة على الشكر، وحذفت الفاء التي في جواب الشرط
من « إن » للشهرة.
الآية:
8 ( وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن
في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد )
قوله
تعالى: « وقال
موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد » أي لا يلحقه بذلك نقص، بل هو
الغني. ( الحميد ) أي المحمود.
الآية:
9 ( ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم
قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات
فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا
إليه مريب )
قوله
تعالى: « ألم
يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود » النبأ الخبر، والجمع الأنباء؛ قال:
ألم يأتيك
والأنباء تنمي
ثم قيل: هو
من قول موسى. وقيل: من قول الله؛ أي واذكر يا محمد إذ قال ربك كذا. وقيل: هو
ابتداء خطاب من الله تعالى. وخبر قوم نوح وعاد وثمود مشهور قصه الله في كتابه.
وقوله: « والذين
من بعدهم لا يعلمهم إلا الله » أي لا
يحصي عددهم إلا الله، ولا يعرف نسبهم إلا الله، والنسابون وإن نسبوا إلى آدم فلا
يدعون إحصاء جميع الأمم، وإنما ينسبون البعض؛ ويمسكون عن نسب البعض؛ وقد روى عن
النبي صلى الله عليه وسلم لما سمع النسابين ينسبون إلى معد بن عدنان ثم زادوا
فقال: ( كذب
النسابون إن الله يقول: « لا
يعلمهم إلا الله » ) . وقد روي عن عروة بن الزبير
أنه قال: ما وجدنا أحدا يعرف ما بين عدنان وإسماعيل. وقال بن عباس: بين عدنان
وإسماعيل ثلاثون أبا لا يعرفون. وكان ابن مسعود يقول حين يقرأ: « لا يعلمهم إلا الله » . كذب النسابون. « جاءتهم رسلهم بالبينات » أي بالحجج والدلالات. « فردوا أيديهم في أفواههم » أي جعل أولئك القوم أيدي أنفسهم
في أفواههم ليعضوها غيظا مما جاء به الرسل؛ إذ كان فيه تسفيه أحلامهم، وشتم
أصنامهم؛ قاله بن مسعود، ومثله قاله عبدالرحمن بن زيد؛ وقرأ: « عضوا عليكم الأنامل من » الغيظ « [ آل عمران: 119 ] . وقال ابن عباس: لما سمعوا
كتاب الله عجبوا ورجعوا بأيديهم إلى أفواههم. وقال أبو صالح: كانوا إذا قال لهم
نبيهم أنا رسول الله إليكم أشاروا بأصابعهم إلى أفواههم: أن اسكت، تكذيبا له، وردا
لقوله؛ وهذه الأقوال الثلاثة متقاربة المعنى. والضميران للكفار؛ والقول الأول
أصحها إسنادا؛ قال أبو عبيد: حدثنا عبدالرحمن بن مهدي عن سفيان عن أبي إسحاق عن
أبي الأحوص عن عبدالله في قوله تعالى: « فردوا أيديهم في أفواههم » قال: عضوا
عليها غيظا؛ وقال الشاعر: »
لو أن سلمى
أبصرت تخددي ودقة في عظم ساقي ويدي
وبعد أهلي
وجفاء عودي عضت من الوجد بأطراف اليد
وقد مضى
هذا المعنى في « آل عمران
» مجودا،
والحمد لله. وقال مجاهد وقتادة: ردوا على الرسل قولهم وكذبوهم بأفواههم؛ فالضمير
الأول للرسل، والثاني للكفار. وقال الحسن وغيره: جعلوا أيديهم في أفواه الرسل ردا
لقولهم؛ فالضمير الأول على هذا للكفار، والثاني للرسل. وقيل معناه: أومأوا للرسل
أن يسكتوا. وقال مقاتل: أخذوا أيدي الرسل ووضعوها على أفواه الرسل ليسكتوهم
ويقطعوا كلامهم. وقيل: رد الرسل أيدي القوم في أفواههم. وقيل: إن الأيدي هنا
النعم؛ أي ردوا نعم الرسل بأفواههم، أي بالنطق والتكذيب، ومجيء الرسل بالشرائع
نعم؛ والمعنى: كذبوا بأفواههم ما جاءت به الرسل. و « في » بمعنى الباء؛ يقال: جلست في
البيت وبالبيت؛ وحروف الصفات يقام بعضها مقام بعض. وقال أبو عبيدة: هو ضرب مثل؛ أي
لم يؤمنوا ولم يجيبوا؛ والعرب تقول للرجل إذا أمسك عن الجواب وسكت: قد رد يده في
فيه. وقاله الأخفش أيضا. وقال القتبي: لم نسمع أحدا من العرب يقول: رد يده في فيه
إذا ترك ما أمر به؛ وقاله المغني: عضوا على الأيدي حنقا وغيظا؛ لقول الشاعر:
تردون في
فيه غش الحسو د حتى يعض علي الأكفا
يعني أنهم
يغيظون الحسود حتى يعض على أصابعه وكفيه. وقال آخر:
قد أفني
أنامل أزمة فأضحى يعض علي الوظيفا
وقالوا: -
يعني الأمم للرسل: « وقالوا
إنا كفرنا بما أرسلتم به » أي
بالإرسال على زعمكم، لا أنهم أقروا أنهم أرسلوا. « وإنا لفي شك » أي في ريب ومرية. « مما تدعوننا إليه » من التوحيد.
قوله تعالى:
« مريب » أي موجب للريبة؛ يقال: أربته إذ
فعلت أمرا من أوجب ريبة وشكا؛ أي نظن أنكم تطلبون الملك والدنيا.
الآية:
10 ( قالت رسلهم أفي الله شك فاطر
السماوات والأرض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى قالوا إن أنتم
إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين )
قوله
تعالى: « قالت
رسلهم أفي الله شك » استفهام
معناه الإنكار؛ أي لا شك في الله؛ أي في توحيده؛ قال قتادة. وقيل: في طاعته.
ويحتمل وجها ثالثا: أفي قدرة الله شك؟ ! لأنهم متفقون عليها ومختلفون فيما عداها؛
يدل عليه قوله: « فاطر
السماوات والأرض » خالقها
ومخترعها ومنشئها وموجدها بعد العدم؛ لينبه على قدرته فلا تجوز العبادة إلا له. « يدعوكم » أي إلى طاعته بالرسل والكتب. « ليغفر لكم من ذنوبكم » قال أبو عبيد: « من » زائدة. وقال سيبويه: هي للتبعيض؛
ويجوز أن يذكر البعض والمراد منه الجميع. وقيل: « من » للبدل
وليست بزائدة ولا مبعضة؛ أي لتكون المغفرة بدلا من الذنوب. « ويؤخركم إلى أجل مسمى » يعني الموت، فلا يعذبكم في
لدنيا. « قالوا إن
أنتم » أي ما
أنتم. « إلا بشر
مثلنا » في الهيئة
والصورة؛ تأكلون مما نأكل، وتشربون مما نشرب، ولستم ملائكة. « تريدون أن تصدونا عما كان يعبد
آباؤنا » من
الأصنام والأوثان « فأتونا
بسلطان مبين » أي بحجة
ظاهرة؛ وكان محالا منهم؛ فإن الرسل ما دعوا إلا ومعهم المعجزات.
الآية:
11 ( قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر
مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن
الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون )
قوله
تعالى: « قالت لهم
رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم » أي في
الصورة والهيئة كما قلتم. « ولكن
الله يمن على من يشاء من عباده » أي يتفضل
عليه بالنبوة. وقيل؛ بالتوفيق، والحكمة والمعرفة والهداية. وقال سهل بن عبدالله:
بتلاوة القرآن وفهم ما فيه.
قلت: وهذا
قول حسن، وقد خرج الطبري من حديث ابن عمر قال قلت لأبي ذر: يا عم أوصني؛ قال: سألت
رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سألتني فقال: ( ما من يوم ولا ليلة ولا ساعة إلا ولله فيه صدقة يمن بها على
من يشاء من عباده وما من الله تعالى على عباده بمثل أن يلهمهم ذكره ) . « وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان » أي بحجة وآية. « إلا بإذن الله » أي بمشيئته، وليس ذلك في قدرتنا؛
أي لا نستطيع أن نأتي بحجة كما تطلبون إلا بأمره وقدرته؛ فلفظه؛ لفظ الخبر، ومعناه
النفي، لأنه لا يحظر على أحد ما لا يقدر عليه. « وعلى الله فليتوكل المؤمنون » تقدم معناه.
الآية:
12 ( وما لنا ألا نتوكل على الله
وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون )
قوله
تعالى: « وما لنا
ألا نتوكل على الله » « ما » استفهام في موضع رفع بالابتداء،
و « لنا » الخبر؛ وما بعدها في موضع الحال؛
التقدير: أي شيء لنا في ترك التوكل على الله. « وقد هدانا سبلنا » أي الطريق الذي يوصل إلى رحمته، وينجي من سخطه ونقمته. « ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى
الله فليتوكل المتوكلون » « ولنصبرنَّ » لام قسم؛ مجازه: والله لنصبرن « على ما آذيتمونا » به، أي من الإهانة والضرب،
والتكذيب والقتل، ثقة بالله أنه يكفينا ويثيبنا. « وعلى الله فليتوكل المتوكلون » .
الآيتان:
13 - 14 ( وقال الذين كفروا لرسلهم
لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين،
ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد )
قوله
تعالى: « وقال
الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا » اللام لام قسم؛ أي والله لنخرجنكم. « أو لتعودن » أي حتى تعودوا أو إلا أن تعودوا؛
قاله الطبري وغيره. قال ابن العربي: وهو غير مفتقر إلى هذا التقدير؛ فإن « أو » على بابها من التخيير؛ خير
الكفار الرسل بين أن يعودوا في ملتهم أو يخرجوهم من أرضهم؛ وهذه سيرة الله تعالى
في رسله وعباده؛ ألا ترى إلى قوله: « وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون
خلافك إلا قليلا. سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا » [ الإسراء: 76 - 77 ] وقد تقدم هذا المعنى في « الأعراف » وغيرها. « في ملتنا » أي إلى ديننا، « فأوحى إليهم ربهم لنهلكن
الظالمين، ولنسكننكم الأرض من بعدهم »
قوله
تعالى: « ذلك لمن
خاف مقامي وخاف وعيد » أي مقامه
بين يدي يوم القيامة؛ فأضيف المصدر إلى الفاعل. والمقام مصدر كالقيام؛ يقال: قام
قياما ومقاما؛ وأضاف ذلك إليه لاختصاصه به. والمقام بفتح الميم مكان الإمامة،
وبالضم فعل الإقامة؛ و « ذلك لمن
خاف مقامي » أي قيامي
عليه، ومراقبتي له؛ قال الله تعالى: « أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت » . [ الرعد 33 ] وقال الأخفش: « ذلك لمن خاف مقامي » أي عذابي، « وخاف وعيد » أي القرآن وزواجره. وقيل: إنه
العذاب. والوعيد الاسم من الوعد.
الآية:
15 ( واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد )
قوله تعالى:
«
واستفتحوا » أي
واستنصروا؛ أي أذن للرسل في الاستفتاح على قومهم، والدعاء بهلاكهم؛ قاله ابن عباس
وغيره، وقد مضى في « البقرة » . ومنه الحديث: إن النبي صلى
الله عليه وسلم كان يستفتح بصعاليك المهاجرين، أي يستنصر. وقال ابن زيد: استفتحت
الأمم بالدعاء كما قالت قريش: « اللهم إن
كان هذا هو الحق من عندك » [ الأنفال: 32 ] الآية. وروي عن ابن عباس. وقيل
قال الرسول: ( إنهم
كذبوني فافتح بيني وبينهم فتحا ) وقالت
الأمم: إن كان هؤلاء صادقين فعذبنا، عن ابن عباس أيضا؛ نظيره « ائتنا بعذاب الله إن كنت من
الصادقين » [ العنكبوت: 29 ] « ائتنا بما تعدنا إن كنت من
المرسلين » [ الأعراف: 77 ] . « وخاب كل جبار عنيد » الجبار المتكبر الذي لا يري لأحد
عليه حقا؛ هكذا هو عند أهل اللغة؛ ذكره النحاس. والعنيد المعاند للحق والمجانب له،
عن ابن عباس وغيره؛ يقال: عند عن قومه أي تباعد عنهم. وقيل: هو من العند، وهو
الناحية وعاند فلان أي أخذ في ناحية معرضا؛ قال الشاعر:
إذا نزلت
فاجعلوني وسطا إني كبير لا أطيق العندا
وقال
الهروي: قوله تعالى: « جبار
عنيد » أي جائر
عن القصد؛ وهو العنود والعنيد والعاند؛ وفي حديث ابن عباس وسئل عن المستحاضة فقال:
إنه عرق عاند. قال أبو عبيد: هو الذي عند وبغى كالإنسان يعاند؛ فهذا العرق في كثرة
ما يخرج منه بمنزلته. وقال شمر: العاند الذي لا يرقأ. وقال عمر يذكر سيرته: أضم
العنود؛ قال الليث: العنود من الإبل الذي لا يخالطها إنما هو في ناحية أبدا؛ أراد
من هم بالخلاف أو بمفارقة الجماعة عطفت به إليها. وقال مقاتل: العنيد المتكبر.
وقال ابن كيسان: هو الشامخ بأنفه. وقيل: العنود والعنيد الذي يتكبر على الرسل
وبذهب عن طريق الحق فلا يسلكها؛ تقول العرب: شر الإبل العنود الذي يخرج عن الطريق.
وقيل: العنيد العاصي. وقال قتادة: العنيد الذي أبي أن يقول لا إله إلا الله.
قلت:
والجبار والعنيد في الآية بمعنى واحد، وإن كان اللفظ مختلفا، وكل متباعد عن الحق
جبار وعنيد أي متكبر. وقيل: إن المراد به في الآية أبو جهل؛ ذكره المهدوي. وحكى
الماوردي في كتاب « أدب
الدنيا والدين » أن الوليد
بن يزيد بن عبدالملك تفاءل يوما في المصحف فخرج له قوله عز وجل: « واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد » فمزق المصحف وأنشأ يقول:
أتوعد كل
جبار عنيد فها أنا ذاك جبار عنيد
إذا ما جئت
ربك يوم حشر فقل يا رب مزقني الوليد
فلم يلبث
إلا أياما حتى قتل شر قتلة، وصلب رأسه على قصره، ثم على سور بلده.
الآية:
16 ( من ورائه جهنم ويسقى من ماء
صديد )
قوله
تعالى: « من ورائه
جهنم » أي من
وراء ذلك الكافر جهنم، أي من بعد هلاكه. ووراء بمعنى بعد؛ قال النابغة:
حلفت فلم
أترك لنفسك ريبة وليس وراء الله للمرء مذهب
أي بعد
الله جل جلاله؛ وكذلك قوله تعالى: « ومن ورائه عذاب غليظ » أي من بعده؛ وقوله تعالى: « ويكفرون بما وراءه » [
البقرة: 91 ] أي بما
سواه؛ قاله الفراء. وقال أبو عبيد: بما بعده: وقيل: « من ورائه » أي من أمامه، ومنه قول الشاعر:
ومن ورائك
يوم أنت بالغه لا حاضر معجز عنه ولا بادي
وقال آخر:
أترجو بنو
مروان سمعي وطاعتي وقومي تميم والفلاة ورائيا
وقال لبيد:
ليس ورائي
إن تراخت منيتي لزوم العصا تحني عليها الأصابع
يريد
أمامي. وفي التنزيل: « كان
وراءهم ملك » [ الكهف: 79 ] أي أمامهم، وإلى هذا ذهب أبو
عبيدة وأبو علي قطرب وغيرهما. وقال الأخفش: هو كما يقال هذا الأمر من ورائك، أي
سوف يأتيك، وأنا من وراء فإن أي في طلبه وسأصل إليه. وقال النحاس في قول « من ورائه جهنم » أي من أمامه، وليس من الأضداد
ولكنه من تواري؛ أي استتر. وقال الأزهري: إن وراء تكون بمعنى خلف وأمام فهو من
الأضداد، وقاله أبو عبيدة أيضا، واشتقاقهما مما توارى واستتر، فجهنم توارى ولا
تظهر، فصارت من وراء لأنها لا ترى، حكاه ابن الأنباري وهو حسن.
قوله
تعالى: « ويسقى من
ماء صديد » أي من ماء
مثل الصديد، كما يقال للرجل الشجاع أسد، أي مثل الأسد، وهو تمثيل وتشبيه. وقيل: هو
ما يسيل من أجسام أهل النار من القيح والدم. وقال محمد بن كعب القرظي والربيع بن
أنس: هو غسالة أهل النار، وذلك ماء يسيل من فروج الزناة والزواني. وقيل: هو من ماء
كرهته تصد عنه، فيكون الصديد مأخوذا من الصد. وذكر ابن المبارك، أخبرنا صفوان بن
عمرو عن عبيدالله بن بسر عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: « ويسقي من ماء صديد يتجرعه » قال: ( يقرب إلى فيه فيكرهه فإذا أدني
منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه فإذا شربه قطع أمعاءه حتى تخرج من دبره يقول الله: « وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم » [ محمد: 15 ] ويقول الله: « وإن يستغيثوا يغاثوا بماء
كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب » ) [ الكهف: 29 ] ) خرجه الترمذي، وقال: حديث
غريب، وعبيدالله بن بسر الذي روى عنه صفوان بن عمرو حديث أبي أمامة لعله أن يكون
أخا عبدالله بن بسر.
الآية:
17 ( يتجرعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه
الموت من كل مكان وما هو بميت ومن ورائه عذاب غليظ )
قوله
تعالى: « يتجرعه » أي يتحساه جرعا لا مرة واحدة
لمرارته وحرارته. « ولا يكاد
يسيغه » أي
يبتلعه؛ يقال: جرع الماء واجترعه وتجرعه بمعنى. وساغ الشراب في الحلق يسوغ سوغا
إذا كان سلسا سهلا، وأساغه الله إساغة. و « يكاد » صلة؛ أي
يسيغه بعد إبطاء، قال الله تعالى: « وما كادوا يفعلون » [
البقرة: 71 ] أي فعلوا
بعد إبطاء، ولهذا قال: « يصهر به
ما في بطونهم والجلود » [ الحج: 20 ] فهذا يدل على الإساغة. وقال ابن
عباس: يجيزه ولا يمر به. « ويأتيه
الموت من كل مكان » قال ابن
عباس: أي يأتيه أسباب الموت من كل جهة عن يمينه وشماله، ومن فوقه وتحته ومن قدامه
وخلفه، كقول: « لهم من
فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل » [
الزمر: 16 ] . وقال
إبراهيم التيمي: يأتيه من كل مكان من جسده حتى من أطراف شعره؛ للآلام التي في كل مكان
من جسد. وقال الضحاك: إنه ليأتيه الموت من كل ناحية ومكان حتى من إبهام رجليه.
وقال الأخفش: يعني البلايا التي تصيب الكافر في النار سماها موتا، وهي من أعظم
الموت. وقيل: إنه لا يبقى عضو من أعضائه إلا وكل به نوع من العذاب؛ لو مات سبعين
مرة لكان أهون عليه من نوع منها في فرد لحظة؛ إما حية تنهشه؛ أو عقرب تلسعه، أو
نار تسفعه، أو قيد برجليه، أو غل في عنقه، أو سلسلة يقرن بها، أو تابوت يكون فيه،
أو زقوم أو حميم، أو غير ذلك من العذاب، وقال محمد بن كعب: إذا دعا الكافر في جهنم
بالشراب فرآه مات موتات، فإذا دنا منه مات موتات، فإذا شرب منه مات موتات؛ فذلك
قوله: « ويأتيه
الموت من كل مكان وما هو بميت » . قال
الضحاك: لا يموت فيستريح. وقال ابن جريج: تعلق روحه في حنجرته فلا تخرج من فيه
فيموت، ولا ترجع إلى مكانها من جوفه فتنفعه الحياة؛ ونظيره قوله: « لا يموت فيها ولا يحيا » [ طه: 74 ] . وقيل: يخلق الله في جسده آلا
ما كل واحد منها كألم الموت. وقيل:
قوله
تعالى: « وما هو
بميت » لتطاول
شدائد الموت به، وامتداد سكراته عليه؛ ليكون ذلك زيادة في عذابه.
قلت: ويظهر
من هذا أنه يموت، وليس كذلك؛ لقوله تعالى: « لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها » [ فاطر: 36 ] وبذلك وردت السنة؛ فأحوال
الكفار أحوال من استولى عليه سكرات الموت دائما، والله أعلم. « ومن ورائه » أي من أمامه. « عذاب غليظ » أي شديد متواصل الآلام غير فتور؛
ومنه قوله: « وليجدوا
فيكم غلظة » [ التوبة: 123 ] أي شدة وقوة. وقال فضيل بن عياض
في قول الله تعالى: « ومن
ورائه عذاب غليظ » قال: حبس
الأنفاس.
الآية:
18 ( مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم
كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء ذلك هو الضلال
البعيد )
قوله
تعالى: « مثل
الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد » اختلف النحويون في رفع « مثل » فقال
سيبويه: ارتفع بالابتداء والخبر مضمر؛ التقدير: وفيما يتلى عليكم أو يقص « مثل الذين كفروا بربهم » ثم ابتدأ فقال: « أعمالهم كرماد » أي كمثل رماد « اشتدت به الريح » . وقال الزجاج: أي مثل الذين
كفروا فيما يتلى عليكم أعمالهم كرماد، وهو عند الفراء على إلغاء المثل، التقدير:
والذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد. وعنه أيضا أنه على حذف مضاف؛ التقدير: مثل
أعمال الذين كفروا بربهم كرماد؛ وذكر الأول عنه المهدوي، والثاني القشيري والثعلبي
ويجوز أن يكون مبتدأ كما يقال: صفة فلان أسمر؛ فـ « مثل » بمعنى
صفة. ويجوز في الكلام جر « أعمالهم
» على بدل
الاشتمال من « الذين » واتصل هذا بقوله: « وخاب جبار عنيد » والمعنى: أعمالهم محبطة غير
مقبولة. والرماد ما بقي بعد احتراق الشيء؛ فضرب الله هذه الآية مثلا لأعمال الكفار
في أنه يمحقها كما تمحق الريح الشديدة الرماد في يوم عاصف. والعصف شدة الريح؛
وإنما كان ذلك لأنهم أشركوا فيها غير الله تعالى. وفي وصف اليوم بالعصوف ثلاثة
أقاويل: أحدها: أن العصوف وإن كان للريح فإن اليوم قد يوصف به؛ لأن الريح تكون
فيه، فجاز أن يقال: يوم عاصف، كما يقال: يوم حار ويوم بارد، والبرد والحر فيهما.
والثاني: أن يريد « في يوم
عاصف » الريح؛
لأنها ذكرت في أول الكلمة، كما قال الشاعر:
إذا جاء
يوم مظلم الشمس كاسف
يريد كاسف
الشمس فحذف؛ لأنه قد مر ذكره؛ ذكرهما الهروي. والثالث: أنه من نعت الريح؛ غير أنه
لما جاء بعد اليوم أتبع إعرابه كما قيل: جحر ضب خرب؛ ذكره الثعلبي والماوردي. وقرأ
ابن أبي إسحاق وإبراهيم بن أبي بكر « في يوم عاصف » . « لا
يقدرون » يعني
الكفار. « مما
كسبوا على شيء » يريد في
الآخرة؛ أي من ثواب ما عملوا من البر في الدنيا، لإحباطه بالكفر. « ذلك هو الضلال البعيد » أي الخسران الكبير؛ وإنما جعله
كبيرا بعيدا لفوات استدراكه بالموت.
الآية:
19 ( ألم تر أن الله خلق السماوات
والأرض بالحق إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد )
قوله
تعالى: « ألم تر
أن الله خلق السماوات والأرض بالحق » الرؤية هنا رؤية القلب؛ لأن المعنى: ألم ينته علمك إليه؛.
وقرأ حمزة والكسائي - « خالق
السماوات والأرض » . ومعنى « بالحق » ليستدل بها على قدرته. « إن يشأ يذهبكم » أيها الناس؛ أي هو قادر على
الإفناء كما قدر على إيجاد الأشياء؛ فلا تعصوه فإنكم إن عصيتموه « يذهبكم ويأت بخلق جديد » أفضل وأطوع منكم؛ إذ لو كانوا
مثل الأولين فلا فائدة في الإبدال.
الآية:
20 ( وما ذلك على الله بعزيز )
أي منيع
متعذر.
الآية:
21 ( وبرزوا لله جميعا فقال الضعفاء
للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء قالوا لو
هدانا الله لهديناكم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص )
قوله
تعالى: « وبرزوا
لله جميعا » أي برزوا
من قبورهم، يعني يوم القيامة. والبروز الظهور. والبراز المكان الواسع لظهوره؛ ومنه
امرأة برزة أي تظهر للناس؛ فمعنى، « برزوا » ظهروا من
قبورهم. وجاء بلفظ؛ الماضي ومعناه الاستقبال، وأتصل هذا بقوله: « وخاب كل جبار عنيد » أي وقاربوا لما استفتحوا
فأهلكوا، ثم بعثوا للحساب فبرزوا لله جميعا لا يسترهم عنه ساتر. « لله » لأجل أمر الله إياهم بالبروز. « فقال الضعفاء » يعني الأتباع « للذين استكبروا » وهم القادة. « إنا كنا لكم تبعا » يجوز أن يكون تبع مصدرا؛
التقدير: ذوي تبع. ويجوز أن يكون تابع؛ مثل حارس وحرس، وخادم وخدم، وراصد ورصد،
وباقر وبقر. « فهل أنتم
مغنون عنا من عذاب الله من شيء » أي دافعون
« عنا من
عذاب الله من شيء » أي شيئا،
و « من » صلة؛ يقال: أغنى عنه إذا دفع عنه
الأذى، وأغناه إذا أوصل إليه النفع. « قالوا لو هدانا الله لهديناكم » أي لو هدانا الله إلى الإيمان
لهديناكم إليه. وقيل: لو هدانا الله إلى طريق الجنة لهديناكم إليها. وقيل؛ لو
نجانا الله من العذاب لنجيناكم منه. « سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص » « سواء علينا » هذا ابتداء خبره « أجزعنا » أي: « سواء علينا » أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص « أي من مهرب وملجأ. ويجوز أن
يكون بمعنى المصدر، وبمعنى الاسم؛ يقال: حاص فلان عن كذا أي فر وزاغ يحيص حيصا
وحيوصا وحيصانا؛ والمعنى: ما لنا وجه نتباعد به عن النار. وروي عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه قال: ( يقول
أهل النار إذا أشتد بهم العذاب تعالوا نصبر فيصبرون خمسمائة عام فلما رأوا أن ذلك
لا ينفعهم قالوا هلم فلنجزع فيجزعون ويصيحون خمسمائة عام فلما رأوا أن ذلك لا
ينفعهم قالوا « سواء
علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص » ) . وقال
محمد بن كعب القرظي: ذكر لما أن أهل النار يقول بعضهم لبعض: يا هؤلاء! قد نزل بكم
من البلاء والعذاب ما قد ترون، فهلم فلنصبر؛ فلعل الصبر ينفعنا كما صبر أهل الطاعة
على طاعة الله فنفعهم الصبر إذ صبروا؛ فأجمعوا رأيهم على الصبر فصبروا؛ فطال صبرهم
فجزعوا، فنادوا: « سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص » أي منجي، فقام
إبليس عند ذلك فقال: » إن الله
وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم
فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم « يقول: لست بمغن عنكم شيئا » وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما
أشركتموني من قبل « الحديث
بطوله، وقد كتبناه في كتاب { التذكرة } بكماله.»
الآية:
22 ( وقال الشيطان لما قضي الأمر إن
الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم
فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت
بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم )
قوله
تعالى: « وقال
الشيطان لما قضي الأمر » قال
الحسن: يقف إبليس يوم القيامة خطيبا في جهنم على منبر من نار يسمعه الخلائق جميعا.
ومعنى: « لما قضي
الأمر » أي حصل
أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار، على ما يأتي بيانه في « مريم » عليها السلام. « إن الله وعدكم وعد الحق » يعني البعث والجنة والنار وثواب
المطيع وعقاب العاصي فصدقكم وعده، ووعدتكم أن لا بعث ولا جنة ولا نار ولا ثواب ولا
عقاب فأخلفتكم. وروي ابن المبارك من حديث عقبة بن عامر عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم في حديث الشفاعة قال: ( فيقول
عيسى أدلكم على النبي الأمي فيأتوني فيأذن الله لي أن أقوم فيثور مجلسي من أطيب
ريح شمها أحد حتى آتي ربي فيشفعني ويجعل لي نورا من شعر رأسي إلى ظفر قدمي ثم يقول
الكافرون قد وجه المؤمنون من يشفع لهم فمن يشفع لنا فيقولون ما هو غير إبليس هو
الذي أضلنا فيأتونه فيقولون قد وجد المؤمنون من يشفع لهم فاشفع لنا فإنك أضللتنا
فيثور مجلسه من أنتن ريح شمها أحد ثم يعظم نحيبهم ويقول عند ذلك: « إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم
فأخلفتكم » الآية ) . « وعد الحق » هو إضافة الشيء إلى نعته كقولهم:
مسجد الجامع؛ قال الفراء قال البصريون: وعدكم وعد اليوم الحق أو وعدكم وعد الوعد
الحق فصدقكم؛ فحذف المصدر لدلالة الحال. « وما كان لي عليكم من سلطان » أي من حجة وبيان؛ أي ما أظهرت لكم حجة على ما وعدتكم وزينته
لكم في الدنيا، « إلا أن
دعوتكم فاستجبتم لي » أي
أغويتكم فتابعتموني. وقيل: لم أقهركم على ما دعوتكم إليه. « إلا أن دعوتكم » هو استثناء منقطع؛ أي لكن دعوتكم
بالوسواس فاستجبتم لي باختياركم، « فلا
تلوموني ولوموا أنفسكم » وقيل: « وما كان لي عليكم من سلطان » أي على قلوبكم وموضع إيمانكم لكن
دعوتكم فاستجبتم لي؛ وهذا على أنه خطب العاصي المؤمن والكافر الجاحد؛ وفيه نظر؛
لقوله: « لما قضي
الأمر » فإنه يدل
على أنه خطب الكفار دون العاصين الموحدين؛ والله أعلم. « فلا تلوموني ولوموا أنفسكم » إذا جئتموني من غير حجة. « ما أنا بمصرخكم » أي بمغيثكم. « وما أنتم بمصرخي » أي بمغيثي. والصارخ والمستصرخ هو
الذي يطلب النصرة والمعاونة، والمصرخ هو المغيث. قال سلامة بن جندل.
كنا إذا ما
أتانا صارخ فزع وكان الصراخ له قرع الظنابيب
وقال أمية
بن أبي الصلت:
ولا تجزعوا
إني لكم غير مصرخ وليس لكم عندي غناء ولا نصر
يقال: صرخ
فلان أي استغاث يصرخ صرخا وصراخا وصرخة. واصطرخ بمعنى صرخ. والتصرخ تكلف الصراخ.
والمصرخ المغيث، والمستصرخ المستغيث؛ تقول منه: استصرخني فأصرخته. والصريخ صوت
المستصرخ. والصريخ أيضا الصارخ، وهو المغيث والمستغيث، وهو من الأضداد؛ قاله
الجوهري. وقراءة العامة « بمصرخي » بفتح الياء. وقرأ الأعمش وحمزة « بمصرخي » بكسر الياء. والأصل فيها
بمصرخيين فذهبت النون للإضافة، وأدغمت ياء الجماعة في ياء الإضافة، فمن نصب فلأجل
التضعيف، ولأن ياء الإضافة إذا سكن ما قبلها تعين فيها الفتح مثل: هواي وعصاي، فإن
تحرك ما قبلها جاز الفتح والإسكان، مثل: غلامي وغلامتي، ومن كسر فلالتقاء الساكنين
حركت إلى الكسر، لأن الياء أخت الكسرة. وقال الفراء: قراءة حمزة وهم منه، وقل من
سلم منهم عن خطأ. وقال الزجاج: هذه قراءة رديئة ولا وجه لها إلا وجه ضعيف. وقال
قطرب: هذه لغة بني يربوع يزيدون على ياء الإضافة ياء. القشيري: والذي يغني عن هذا
أن ما يثبت بالتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا يجوز أن يقال فيه هو خطأ أو
قبيح أو رديء، بل هو في القرآن فصيح، وفيه ما هو أفصح منه، فلعل هؤلاء أرادوا أن
غير هذا الذي قرأ به حمزة أفصح. « إني كفرت
بما أشركتموني من قبل » أي كفرت
بإشراككم إياي مع الله تعالى في الطاعة؛ فـ « ما » بمعنى
المصدر. وقال ابن جريج: إني كفرت اليوم بما كنتم تدعونه في الدنيا من الشرك بالله
تعالى. قتادة: إني عصيت الله. الثوري: كفرت بطاعتكم إياي في الدنيا. « إن الظالمين لهم عذاب أليم » . وفي هذه الآيات رد على القدرية
والمعتزلة والإمامية ومن كان على طريقهم؛ انظر إلى قول المتبوعين: « لو هدانا الله لهديناكم » وقول إبليس: « إن الله وعدكم وعد الحق » كيف اعترفوا بالحق في صفات الله
تعالى وهم في دركات النار؛ كما قال في موضع آخر: « كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها » [ الملك: 8 ] إلى قوله: « فاعترفوا بذنبهم » [ الملك: 11 ] واعترافهم في دركات لظى بالحق
ليس بنافع، وإنما ينفع الاعتراف صاحبه في الدنيا؛ قال الله عز وجل: « وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا
عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم » [
التوبة: 102 ] و « عسى » من الله واجبة.
الآية:
23 ( وأدخل الذين آمنوا وعملوا
الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها بإذن ربهم تحيتهم فيها سلام )
قوله
تعالى: « وأدخل
الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات » أي في جنات لأن دخلت لا يتعدى؛ كما لا يتعدى نقيضه وهو خرجت،
ولا يقاس عليه؛ قاله المهدوي. ولما أخبر تعالى بحال أهل النار أخبر بحال أهل الجنة
أيضا. وقراءة الجماعة « أدخل » على أنه فعل مبني للمفعول. وقرأ
الحسن « وأدخل » على الاستقبال والاستئناف. « بإذن ربهم » أي بأمره. وقيل: بمشيئته
وتيسيره. وقال: « بإذن
ربهم » ولم يقل:
بإذني تعظيما وتفخيما. « تحيتهم
فيها سلام » تقدم في « يونس » . والحمد لله.
الآية [ 24 ] في الصفحة التالية ...
الآيتان:
24 - 25 ( ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة
طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب
الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون )
قوله
تعالى: « ألم تر
كيف ضرب الله مثلا » لما ذكر
تعالى مثل أعمال الكفار وأنها كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف، ذكر مثل أقوال
المؤمنين وغيرها، ثم فسر ذلك المثل فقال: « كلمة طيبة » التمر،
فحذف لدلالة الكلام عليه. قال ابن عباس: الكلمة الطيبة لا إله إلا الله والشجرة
الطيبة المؤمن. وقال مجاهد وابن جريج: الكلمة الطيبة الإيمان. عطية العوفي والربيع
بن أنس: هي المؤمن نفسه. وقال مجاهد أيضا وعكرمة: الشجرة النخلة؛ فيجز أن يكون
المعنى: أصل الكلمة في قلب المؤمن - وهو الإيمان - شبهه بالنخلة في المنبت، وشبه
ارتفاع عمله في السماء بارتفاع فروع النخلة، وثواب الله له بالثمر. وروي من حديث
أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن مثل الإيمان كمثل شجرة ثابتة الإيمان عروقها والصلاة
أصلها والزكاة فروعها والصيام أغصانها والتأذي الله نباتها وحسن الخلق ورقها والكف
عن محارم الله ثمرتها ) . ويجوز
أن يكون المعنى: أصل النخلة ثابت في الأرض؛ أي عروقها تشرب من الأرض وتسقيها
السماء من فوقها، فهي زاكية نامية. وخرج الترمذي من حديث أنس بن مالك قال: أتي
رسول الله صلى الله عليه وسلم بقناع فيه رطب، فقال: ( مثل كلمة طيبة كشجرة طيبة
أصلها ثابت وفروعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها - قال - هي النخلة ومثل
كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار - قال - هي الحنظل ) . وروي عن أنس قوله وقال: وهو
أصح. وخرج الدارقطني عن ابن عمر قال: ( قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم « ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة
طيبة أصلها ثابت » فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أتدرون ما هي ) فوقع في نفسي أنها النخلة. قال
السهيلي ولا يصح فيها ما روي عن علي بن أبي طالب أنها جوزة الهند؛ لما صح عن النبي
صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر ( إن من الشجرة شجرة لا يسقط ورقها وهي مثل
المؤمن خبروني ما هي - ثم قال - هي النخلة ) خرجه مالك « الموطأ » من رواية ابن القاسم وغيره إلا
يحيى فإنه أسقطه من روايته. وخرجه أهل الصحيح وزاد فيه الحارث بن أسامة زيادة
تساوي رحلة؛ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( وهى النخلة لا تسقط ها أنملة
وكذلك المؤمن لا تسقط له دعوة ) . فبين معنى الحديث والمماثلة
قلت:
وذكر الغزنوي عنه عليه السلام: ( مثل المؤمن كالنخلة إن صاحبته نفعك وإن جالسته
نفعك وإن شاورته نفعك كالنخلة كل شيء منها ينتفع به ) . وقال: ( كلوا من عمتكم )
يعني النخلة خلقت من فضلة طينة آدم عليه السلام، وكذلك أنها برأسها تبقي، وبقلبها
تحيا، وثمرها بامتزاج الذكر والأنثى. وقد قيل: إنها لما كانت أشبه الأشجار
بالإنسان شبهت به؛ وذلك أن كل شجرة إذا قطع رأسها تشعبت الغصون من جوانب، والنخلة
إذا قطع رأسها يبست وذهبت أصلا؛ ولأنها تشبه الإنسان وسائر الحيوان في الالتقاح
لأنها لا تحمل حتى تلقح قال النبي صلى الله عليه وسلم: « خير المال سكة مأبورة ومهرة
مأمورة ) .
والإبار اللقاح وسيأتي في سورة » الحجر « بيانه. ولأنها من فضلة طينة
آدم. ويقال: إن الله عز وجل لما صور آدم من الطين فضلت قطعة طين فصورها بيده
وغرسها في جنة عدن. قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أكرموا عمتكم ) قالوا: ومن عمتنا يا رسول الله؟
قال: ( النخلة ) . » تؤتي أكلها كل حين « قال الربيع: » كل حين « غدوة وعشية كذلك يصعد عمل
المؤمن أول النهار وآخره؛ وقاله ابن عباس. وعنه » تؤتي أكلها كل حين « قال: هو شجرة جوزة الهند لا تتعطل من ثمرة، تحمل في كل شهر،
شبه عمل المؤمن لله عز وجل في كل وقت: لنخلة التي تؤتي أكلها في أوقات مختلفة.
وقال الضحاك: كل ساعة من ليل أو نهار شتاء وصيفا يوكل في جميع الأوقات، وكذلك المؤمن
لا يخلو من الخير في الأوقات كلها. وقال النحاس: وهذه الأقوال متقاربة غير
متناقضة، لأن الحين عند جميع أهل اللغة إلا من شذ منهم بمعنى الوقت يقع لقليل
الزمان وكثيره، وأنشد الأصمعي بيت النابغة: »
تناذرها
الراقون من سوء سمها تطلقه حينا وحينا تراجع
فهذا يبين
لك أن الحين بمعنى الوقت، فالإيمان ثابت في قلب المؤمن، وعمله وقوله وتسبيحه عال
مرتفع في السماء ارتفاع فروع النخلة، وما يكسب من بركة الإيمان وثوابه كما ينال من
ثمرة النخلة في أوقات السنة كلها، من الرطب والبسر والبلح والزهو والتمر والطلع.
وفي رواية عن ابن عباس: إن الشجرة شجرة في الجنة تثمر في كل وقت. و ( مثلا ) مفعول بـ « ضرب » ، « وكلمة » بدل منه، والكاف في قوله: ( كشجرة ) في موضع نصب على الحال من « كلمة » التقدير: كلمة طيبة مشبهة بشجرة
طيبة
قوله
تعالى: « تؤتي
أكلها كل حين » لما كانت
الأشجار تؤتي أكلها كل سنة مرة كان في ذلك بيان حكم الحين؛ ولهذا قلنا: من حلف ألا
يكلم فلانا حينا، ولا يقول كذا حينا إن الحين سنة. وقد ورد الحين في موضع آخر يراد
به أكثر من ذلك لقوله تعالى: « هل أتى
على الإنسان حين من الدهر » [ الإنسان: 1 ] قيل في « التفسير » : أربعون عاما. وحكى عكرمة أن
رجلا قال: إن فعلت كذا وكذا إلى حين فغلامه حر، فأتى عمر بن عبدالعزيز فسأل،
فسألني عنها فقلت: إن من الحين حينا لا يدرك، قوله: « وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع
إلى حين » [ الأنبياء: 111 ] فأرى أن تمسك ما بين صرام
النخلة إلى حملها، فكأنه أعجبه؛ وهو قول أبي حنيفة في الحين أنه ستة أشهر اتباعا
لعكرمة وغيره. وقد مضى ما للعلماء في الحين في « البقرة » مستوفى
والحمد لله. « ويضرب
الله الأمثال » أي
الأشباه « للناس
لعلهم يتذكرون » ويعتبرون؛
وقد تقدم.
الآية:
26 ( ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة
اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار )
الكلمة
الخبيثة كلمة الكفر. وقيل: الكافر نفسه. والشجرة الخبيثة شجرة الحنظل كما في حديث
أنس، وهو قول ابن عباس ومجاهد وغيرهما، وعن ابن عباس أيضا: أنها شجرة لم تخلق على
الأرض. وقيل: هي شجرة الثوم؛ عن ابن عباس أيضا. وقيل: الكمأة أو الطحلبة. وقيل:
الكشوث، وهي شجرة لا ورق لها ولا عروق في الأرض؛ قال الشاعر:
وهم كشوث
فلا أصل ولا ورق
« اجتثت من
فوق الأرض » اقتلعت من
أصلها؛ قال ابن عباس؛ ومنه قول لقيط:
والجلاء
الذي تجتث أصلكم فمن رأى مثل ذا يوما ومن سمعا
وقال
المؤرج: أخذت جثتها وهي نفسها، والجثة شخص الإنسان قاعدا أو قائما. وجثه قلعه،
واجتثه اقتلعه من فوق الأرض؛ أي ليس لها أصل راسخ يشرب بعروقه من الأرض. « ما لها من قرار » أي من أصل في الأرض. وقيل: من
ثبات؛ فكذلك الكافر لا حجة له ولا ثبات ولا خير فيه، وما يصعد له قول طيب ولا عمل
صالح. وروى معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة في قوله تعالى: « ضرب الله مثلا كلمة طيبة » قال: لا إله إلا الله « كشجرة طيبة » قال: المؤمن، « أصلها ثابت » لا إله إلا الله ثابتة في قلب
المؤمن؛ « ومثل
كلمة خبيثة » قال:
الشرك، « شجرة
خبيثة » قال:
المشرك؛ « اجتثت من
فوق الأرض ما لها من قرار » أي ليس
للمشرك أصل يعمل عليه. وقيل: يرجع المثل إلى الدعاء إلى الإيمان، والدعاء إلى
الشرك؛ لأن الكلمة يفهم منها القول والدعاء إلى الشيء.
الآية:
27 ( يثبت الله الذين آمنوا بالقول
الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء )
قوله
تعالى: « يثبت
الله الذين آمنوا بالقول الثابت » قال ابن
عباس: هو لا إله إلا الله. وروى النسائي عن البراء قال قال: « يثبت الله الذين آمنوا بالقول
الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة » نزلت في عذاب القبر؛ يقال: من ربك؟ فيقول: ربي الله وديني دين
محمد، فذلك قوله: « يثبت
الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة » .
قلت: وقد
جاء هكذا موقوفا في بعض طرق مسلم عن البراء أنه قول، والصحيح فيه الرفع كما في
صحيح مسلم وكتاب النسائي وأبي داود وابن ماجة وغيرهم، عن البراء عن النبي صلى الله
عليه وسلم؛ وذكر البخاري؛ حدثنا جعفر بن عمر، قال حدثنا شعبة عن علقمة بن مرثد عن
سعد بن عبيدة عن البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا أقعد المؤمن في قبره أتاه
آت ثم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فذلك قوله « يثبت الله الذين آمنوا بالقول
الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة » . وقد بينا هذا الباب في كتاب ( التذكرة ) وبينا هناك من
يفتن في قبره ويسأل، فمن أراد الوقوف عليه تأمله هناك. وقال سهل بن عمار: رأيت
يزيد بن هارون في المنام بعد موته، فقلت له: ما فعل الله بك؟ فقال: أتاني في قبري
ملكان فظان غليظان، فقالا: ما دينك ومن ربك ومن نبيك؟ فأخذت بلحيتي البيضاء وقلت:
ألمثلي يقال هذا وقد علمت الناس جوابكما ثمانين سنة؟! فذهبا وقالا: أكتبت عن حريز
بن عثمان؟ قلت نعم! فقالا: إنه كان يبغض عليا فأبغضه الله. وقيل: معنى، « يثبت الله » يديمهم الله على القول الثابت،
ومنه قول عبدالله بن رواحة:
يثبت
الله ما آتاك من حسن تثبيت موسى ونصرا كالذي نصرا
وقيل:
يثبتهم في الدارين جزاء لهم على القول الثابت. وقال القفال وجماعة: « في الحياة الدنيا » أي في القبر؛ لأن الموتى في
الدنيا إلى أن يبعثوا، « وفي
الآخرة » أي عند
الحساب؛ وحكاه الماوردي عن البراء قال: المراد بالحياة الدنيا المساءلة في القبر،
وبالآخرة المساءلة في القيامة: « ويضل
الله الظالمين » أي عن
حجتهم في قبورهم كما ضلوا في الدنيا بكفرهم فلا يلقنهم كلمة الحق، فإذا سئلوا في
قبورهم قالوا: لا ندري؛ فيقول: لا دريت ولا تليت؛ وعند ذلك يضرب بالمقامع على ما
ثبت في الأخبار؛ وقد ذكرنا ذلك في كتاب { التذكرة } . وقيل: يمهلهم حتى يزدادوا
ضلالا في الدنيا. « ويفعل
الله ما يشاء » من عذاب
قوم وإضلال قوم. وقيل: إن سبب نزول هذه الآية ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم
لما وصف مساءلة منكر ونكير وما يكون من جواب الميت قال عمر: يا رسول الله معي
عقلي؟ قال: ( نعم ) قال: كفيت إذا؛ فأنزل الله عز وجل هذه الآية.
الآية:
28 ( ألم تر
إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار )
قوله
تعالى: « ألم تر
إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا » أي
جعلوا بدل نعمة الله عليهم الكفر في تكذيبهم محمدا صلى الله عليه وسلم، حين بعثه
الله منهم وفيهم فكفروا، والمراد مشركو قريش وأن الآية نزلت فيهم؛ عن ابن عباس
وعلي وغيرهما. وقيل: نزلت في المشركين الذين قاتلوا النبي صلى الله عليه وسلم يوم
بدر. قال أبو الطفيل: سمعت عليا رضي الله عنه يقول: هم قريش الذين نحروا يوم بدر.
وقيل: نزلت في الأفجرين من قريش بني مخزوم وبني أمية، فأما بنو أمية فمتعوا إلى
حين؛ وأما بنو مخزوم فأهلكوا يوم بدر؛ قال علي بن أبي طالب وعمر بن الخطاب رضي
الله عنهما. وقول رابع: أنهم متنصرة العرب جبلة بن الأيهم وأصحابه حين لطم فجعل له
عمر القصاص بمثلها، فلم يرض وأنف فارتد متنصرا ولحق بالروم في جماعة من قومه؛ عن
ابن عباس وقتادة. ولما صار إلى بلد الروم ندم فقال:
تنصرت
الأشراف من عار لطمة وما كان فيها لو صبرت لها ضرر
تكنفني
منها لجاج ونخوة وبعت لها العين الصحيحة بالعور
فيا
ليتني أرعى المخاض ببلدة ولم أنكر القول الذي قاله عمر
وقال
الحسن: إنها عامة في جميع المشركين. « وأحلوا قومهم » أي أنزلوهم. قال ابن عباس: هم قادة المشركين يوم بدر. « وأحلوا قومهم » أي الذين اتبعوهم. « دار البوار » قيل: جهنم؛ قال ابن زيد. وقيل:
يوم بدر؛ قال علي بن أبي طالب ومجاهد. والبوار الهلاك؛ ومنه قول الشاعر:
فلم أر
مثلهم أبطال حرب غداة الحرب إذ خيف البوار
الآية:
29 ( جهنم
يصلونها وبئس القرار )
قوله
تعالى: « جهنم
يصلونها » بين أن
دار البوار جهنم كما قال ابن زيد، وعلى هذا لا يجوز الوقف على « دار البوار » لأن جهنم منصوبة على الترجمة
عن « دار
البوار » فلو
رفعها رافع بإضمار، على معنى: هي جهنم، أو بما عاد من الضمير في « يصلونها » لحسن الوقف على « دار البوار » . « وبئس القرار » أي المستقر.
الآية:
30 ( وجعلوا
لله أندادا ليضلوا عن سبيله قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار )
قوله
تعالى: « وجعلوا
لله أندادا » أي
أصناما عبدوها؛ وقد تقدم في « البقرة » . « ليضلوا عن سبيله » أي عن دينه. وقرأ ابن كثير
وأبو عمرو بفتح الياء، وكذلك في الحج « ليضل عن سبيل الله » [ الحج:
9 ] ومثله
في « لقمان » و « الزمر » وضمها الباقون على معنى ليضلوا
الناس عن سبيله، وأما من فتح فعلى معنى أنهم هم يضلون عن سبيل الله على اللزوم، أي
عاقبتم إلى الإضلال والضلال؛ فهذه لام العاقبة. « قل تمتعوا » وعيد
لهم، وهو إشارة إلى تقليل ما هم فيه من ملاذ الدنيا إذ هو منقطع. « فإن مصيركم إلى النار » أي مردكم ومرجعكم إلى عذاب
جهنم.
الآية:
31 ( قل
لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية من قبل أن يأتي
يوم لا بيع فيه ولا خلال )
قوله
تعالى: « قل
لعبادي الذين آمنوا » أي إن
أهل مكة بدلوا نعمة الله بالكفر، فقل لمن آمن وحقق عبوديته أن « يقيموا الصلاة » يعني الصلوات الخمس، أي قل لهم
أقيموا، والأمر معه شرط مقدر، تقول: أطع الله يدخلك الجنة؛ أي إن أطعته يدخلك
الجنة؛ هذا قول الفراء. وقال الزجاج: « يقيموا » مجزوم
بمعنى اللام، أي ليقيموا فأسقطت اللام لأن الأمر دل على الغائب بـ « قل » . قال: ويحتمل أن يقال: « يقيموا » جواب أمر محذوف؛ أي قل لهم
أقيموا الصلاة يقيموا الصلاة. « وينفقوا
مما رزقناهم سرا وعلانية » يعني
الزكاة؛ عن ابن عباس وغيره. وقال الجمهور: السر ما خفي والعلانية ما ظهر. وقال
القاسم بن يحيى: إن السر التطوع والعلانية الفرض، وقد مضى هذا المعنى في « البقرة » مجودا عند قوله: « إن تبدوا الصدقات فنعما هي » [ البقرة: 271 ] . « من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه
ولا خلال » وأمر تعالى
عباده بالإنفاق مما رزقهم الله وأنعم به عليهم وحذرهم من الإمساك إلى أن يجيء يوم
لا يمكن فيه بيع ولا شراء ولا استدراك نفقة، كما قال: « فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل
قريب فأصدق » [ المنافقون: 0 1 ] . والخلة: خالص المودة،
مأخوذة من تخلل الأسرار بين الصديقين جمع خلة كقلة وقلال. قال:
فلست
بمقلي الخلال ولا قالي
الآيتان:
32 - 33 ( الله
الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر
لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار، وسخر لكم الشمس والقمر دائبين
وسخر لكم الليل والنهار )
قوله
تعالى: « الله
الذي خلق السماوات والأرض » أي
أبدعها واخترعها على غير مثال سبق. « وأنزل من السماء » أي من السحاب. « ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم » أي من الشجر ثمرات « رزقا لكم » . « وسخر لكم الفلك لتجري في البحر
بأمره » تقدم
معناه في « البقرة » . « وسخر لكم الأنهار » يعني البحار العذبة لتشربوا
منها وتسقوا وتزرعوا، والبحار المالحة لاختلاف المنافع من الجهات. « وسخر لكم الشمس والقمر دائبين » أي في إصلاح ما يصلحانه من
النبات وغيره، والدؤوب مرور الشيء في العمل على عادة جارية. وقيل: دائبين في السير
امتثالا لأمر الله، والمعنى يجريان إلى يوم القيامة لا يفتران؛ روي معناه عن ابن
عباس. « وسخر لكم
الليل والنهار » أي
لتسكنوا في الليل ولتبتغوا من فضله في النهار، كما قال: « ومن رحمته جعل لكم الليل
والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله » [
القصص: 73 ] .
الآية:
34 ( وآتاكم من كل ما سألتموه وإن
تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار )
قوله
تعالى: « وآتاكم
من كل ما سألتموه » أي أعطاكم
من كل مسؤول سألتموه شيئا؛ فحذف؛ عن الأخفش. وقيل: المعنى وآتاكم من كل ما
سألتموه، ومن كل ما لم تسألوه فحذف، فلم نسأل شمسا ولا قمرا ولا كثيرا من نعمه
التي ابتدأنا بها. وهذا كما قال: « سرابيل
تقيكم الحر » [ النحل: 81 ] على ما يأتي. وقيل: « من » زائدة؛ أي أتاكم كل ما سألتموه.
وقرأ ابن عباس والضحاك وغيرهما « وآتاكم
من كل » بالتنوين « ما سألتموه » وقد رويت هذه القراءة عن الحسن
والضحاك وقتادة؛ هي على النفي أي من كل ما لم تسألوه؛ كالشمس والقمر وغيرهما.
وقيل: من كل شيء ما سألتموه أي الذي ما سألتموه. « وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها » أي نعم الله. « لا تحصوها » ولا تطيقوا عدها، ولا تقوموا
بحصرها لكثرتها، كالسمع والبصر وتقويم الصور إلى غير ذلك من العافية والرزق؛ نعم
لا تحصى وهذه النعم من الله، فلم تبدلون نعمة الله بالكفر؟! وهلا استعنتم بها على
الطاعة؟! « إن
الإنسان لظلوم كفار » الإنسان
لفظ جنس وأراد به الخصوص؛ قال ابن عباس: أراد أبا جهل. وقيل: جميع الكفار.
الآية:
35 ( وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا
البلد آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام )
قوله
تعالى: « وإذ قال
إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا » يعني مكة
وقد مضى في « البقرة » . « واجنبني وبني أن نعبد الأصنام » أي اجعلني جانبا عن عبادتها،
وأراد بقوله: ( بني ) بنيه من، صلبه وكانوا ثمانية،
فما عبد أحد منهم صنما. وقيل: هو دعاء لمن أراد الله أن يدعو له. وقرأ الجحدري
وعيسى « وأجنبني
» بقطع
الألف والمعنى واحد؛ يقال: جنبت ذلك الأمر؛ وأجنبته وجنبته إياه فتجانبه وأجتنبه
أي تركه. وكان إبراهيم التيمي يقول في قصصه: من يأمن البلاء بعد الخليل حين يقول « وأجنبني وبني أن نعبد الأصنام » كما عبدها أبي وقومي.
الآية:
36 ( رب إنهن أضللن كثيرا من الناس
فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم )
قوله
تعالى: « رب إنهن
أضللن كثيرا من الناس » لما كانت
سببا للإضلال أضاف الفعل إليهن مجازا؛ فإن الأصنام جمادات لا تفعل. « فمن تبعني » في التوحيد. « فإنه مني » أي من أهل ديني. « ومن عصاني » أي أصر على الشرك. « فإنك غفور رحيم » قيل: قال هذا قبل أن يعرفه الله
أن الله لا يغفر أن يشرك به. وقيل: غفور رحيم لمن تاب من معصيته قبل الموت. وقال
مقاتل بن حيان: « ومن
عصاني » فيما دون
الشرك.
الآية:
37 ( ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد
غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم
وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون )
روى
البخاري عن ابن عباس: ( أول ما
اتخذ النساء المنطق من قبل أم إسماعيل؛ اتخذت منطقا لتعفي أثرها على سارة، ثم جاء
بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه، حتى وضعهما عند البيت عند دوحة فوق زمزم
في أعلى المسجد؛ وليس، بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء، فوضعهما هنا لك؛ ووضع عندهما
جرابا فيه تمر، وسقاء فيه ماء، ثم قفى إبراهيم منطلقا فتبعته أم إسماعيل؛ فقالت:
يا إبراهيم! أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء، فقالت له ذلك
مرارا وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له: الله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت إذا لا
يضيعنا؛ ثم رجعت، فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند التثنية حيث لا يرونه، استقبل
بوجهه البيت ثم دعا بهذه الدعوات، ورفع يديه فقال: « ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد
غير ذي زرع » [ إبراهيم: 37 ] حتى بلغ « يشكرون » وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل
وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه
يتلوى - أو قال بتلبط - فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في
الأرض يليها، فقامت عليه، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدا، فلم تر أحدا، فهبطت
من الصفا، حتى إذا بلغت الوادي، رفعت طرف درعها، ثم سعت سعي الإنسان المجهود، ثم
جاوزت الوادي، ثم أتت المروة فقامت عليه، فنظرت هل ترى أحدا فلم تر أحدا، ففعلت
ذلك سبع مرات؛ قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( فذلك سعي الناس بينهم
) فلما أشرفت على المروة سمعت صوتا فقالت: صه! تريد نفسها، ثم تسمعت فسمعت أيضا
فقالت: قد أسمعت، إن كان عندك غواث! فإذا هي بالملك عند موضع زمزم فبحث بعقبه - أو
قال بجناحه - حتى ظهر الماء، فجعلت تحوضه وتقول بيدها هكذا، وجعلت تغرف من الماء
في سقائها وهو يفور بعد ما تغرف؛ قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم: (
يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم - أو قال: لو لم تغرف من الماء - لكانت زمزم عينا
معينا ) قال: فشربت وأرضعت ولدها فقال لها الملك: لا تخافي الضيعة فإن ها هنا بيت
الله يبنيه هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيع أهله ) وذكر الحديث بطوله.
مسألة: لا
يجوز لأحد أن يتعلق بهذا في طرح ولده وعياله بأرض مضيعة اتكالا على العزيز الرحيم،
واقتداء بفعل إبراهيم الخليل، كما تقول غلاة الصوفية في حقيقة التوكل، فإن إبراهيم
فعل ذلك بأمر الله لقوله الحديث: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم. وقد روي أن سارة لما
غارت من هاجر بعد أن ولدت إسماعيل خرج بها إبراهيم عليه السلام إلى مكة، فروي أنه
ركب البراق هو وهاجر والطفل فجاء في يوم واحد من الشام إلى بطن مكة، وترك ابنه
وأمته هنا لك وركب منصرفا من يومه، فكان ذلك كله بوحي من الله تعالى، فلما ولي دعا
بضمن هذه الآية.
لما أراد
الله تأسيس الحال، وتمهيد المقام، وخط الموضع للبيت المكرم، والبلد المحرم، أرسل
الملك فبحث عن الماء وأقامه مقام الغذاء، وفي الصحيح: أن أبا ذر رضي الله عنه
اجتزأ به ثلاثين بين يوم وليلة، قال أبو ذر: ما كان لي طعام إلا ماء زمزم فسمنت
حتى تكسرت عكني، وما أجد على كبدي سخفة جوع؛ وذكر الحديث. وروي الدارقطني عن ابن
عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ماء زمزم لما شرب له إن شربته تشتفي به شفاك الله وإن شربته
لشبعك أشبعك الله به وإن شربته لقطع ظمئك قطعه وهي هزمة جبريل وسقيا الله إسماعيل ) . وروي أيضا عن عكرمة قال: كان
ابن عباس إذا شرب من زمزم قال: اللهم إني أسألك علما نافعا، ورزقا واسعا، وشفاء من
كل داء. قال ابن العربي: وهذا موجود فيه إلى يوم القيامة لمن صحت نيته، وسلمت
طويته، ولم يكن به مكذبا، ولا يشربه مجربا، فإن الله مه المتوكلين، وهو يفضح
المجربين. وقال أبو عبدالله محمد بن علي الترمذي وحدثني أبي رحمه الله قال: دخلت
الطواف في ليلة ظلماء فأخذني من البول ما شغلني، فجعلت أعتصر حتى آذاني، وخفت إن
خرجت من المسجد أن أطأ بعض تلك الأقدام، وذلك أيام الحج؛ فذكرت هذا الحديث، فدخلت
زمزم فتضلعت منه، فذهب عني إلى الصباح. وروي عن عبدالله بن عمرو: إن في زمزم عينا
في الجنة من قبل الركن.
قوله
تعالى: « ومن
ذريتي » « من » في قوله تعالى: « من ذريتي » للتبعيض أي أسكنت بعض ذريتي؛
يعني إسماعيل وأمه، لأن إسحاق كان بالشام. وقيل: هي صلة؛ أي أسكنت ذريتي. « عند بيتك المحرم » يدل على أن البيت كان قديما على
ما روي قبل الطوفان، وقد مضى هذا المعنى في سورة « البقرة » . أضاف البيت
إليه لأنه لا يملكه غيره، ووصفه بأنه محرم، أي يحرم فيه ما يستباح في غيره من جماع
واستحلال. وقيل: محرم على الجبابرة، وأن تنتهك حرمته، ويستخف بحقه، قاله قتادة
وغيره. وقد مضى القول في هذا في « المائدة
» . « ربنا ليقيموا الصلاة » خصها من جملة الدين لفضلها فيه،
ومكانها منه، وهي عهد اله عند العباد؛ قال صلى الله عليه وسلم: ( خمس صلوات كتبهن الله على
العباد ) .
الحديث. واللام في « ليقيموا
الصلاة » لام كي؛
هذا هو الظاهر فيها وتكون متعلقة بـ « أسكنت » ويصح أن
تكون لام أمر، كأنه رغب إلى الله أن يأتمنهم وأن يوفقهم لإقامة الصلاة.
تضمنت هذه
الآية أن الصلاة بمكة أفضل من الصلاة بغيرها؛ لأن معنى « ربنا ليقيموا الصلاة » أي أسكنتهم عند بيتك المحرم
ليقيموا الصلاة فيه. وقد اختلف العلماء هل الصلاة بمكة أفضل أو في مسجد النبي صلى
الله عليه وسلم؟ فذهب عامة أهل الأثر إلى أن المسجد الحرام أفضل من الصلاة في مسجد
الرسول صلى الله عليه وسلم بمائة صلاة، واحتجوا بحديث عبدالله بن الزبيرة قال قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( صلاة في
مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام وصلاة في
المسجد الحرام أفضل من صلاة مسجدي هذا بمائة صلاة « . قال الإمام الحافظ أبو عمر: وأسند هذا الحديث حبيب المعلم
عن عطاء بن أبي رباح عن عبدالله بن الزبير وجوده، ولم يخلط في لفظه ولا في معناه،
وكان ثقة. قال ابن أبي. خيثمة سمعت يحيى بن معين يقول: حبيب المعلم ثقة. وذكر
عبدالله بن أحمد قال سمعت أبي يقول: حبيب المعلم ثقة ما أصح حديثه! وسئل أبو زرعة
الرازي عن حبيب المعلم فقال: بصري ثقة.»
قلت: وقد
خرج حديث حبيب المعلم هذا عن عطاء بن أبي رباح عن عبدالله بن الزبير عن النبي صلى
الله عليه وسلم الحافظ أبو حاتم محمد بن حاتم التميمي البستي في المسند الصحيح له،
فالحديث صحيح وهو الحجة عند التنازع والاختلاف. والحمد لله. قال أبو عمر: وقد روي
عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل حديث ابن الزبير؛ رواه موسى الجهني عن
نافع عن ابن عمرو؛ وموسى الجهني الكوفي ثقة، أثنى عليه القطان وأحمد ويحيى
وجماعتهم. وروى عنه شعبة. والثوري ويحيى بن سعيد. وروى حكيم بن سيف، حدثنا
عبيدالله بن عمر؛ عن عبدالكريم عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر بن عبدالله قال قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه
إلا المسجد الحرام وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف فيمن سواه ) . وحكيم
بن سيف هذا شيخ من أهل الرقة قد روى عنه أبو زرعة الرازي، وأخذ عنه ابن وضاح، وهو
عندهم شيخ صدوق لا بأس به. فإن كان حفظ فهما حديثان، وإلا فالقول قول حبيب المعلم.
وروى محمد بن وضاح، حدثنا يوسف بن عدي عن عمر بن عبيد عن عبدالملك عن عطاء عن ابن
عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة
في غيره من المساجد إلا المسجد الحرام فإن الصلاة فيه أفضل ) . قال أبو عمر: وهذا
كله نص في موضع الخلاف قاطع له عند من ألهم رشده، ولم تمل به عصيته. وذكر ابن حبيب
عن مطرف وعن أصبغ عن ابن وهب أنهما كانا يذهبان إلى تفضيل الصلاة في المسجد الحرام
على الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم على ما في هذا الباب. وقد اتفق مالك
وسائر العلماء على أن صلاة العيدين يبرز لهما في كل بلد إلا مكة فإنها تصلي في
المسجد الحرام. وكان عمر وعلي وابن مسعود وأبو الدرداء وجابر يفضلون مكة ومسجدها
وهم أولى بالتقليد ممن بعدهم؛ وإلى هذا ذهب الشافعي. وهو قول عطاء والمكيين
والكوفيين، وروي مثله عن مالك؛ ذكر ابن وهب في جامعه عن مالك أن آدم عليه السلام
لما أهبط إلى الأرض قال: يا رب هذه أحب إليك أن تعبد فيها؟ قال: بل مكة. والمشهور
عنه وعن أهل المدينة تفضيل المدينة، واختلف أهل البصرة والبغداديون في ذلك؛ فطائفة
تقول مكة، وطائفة تقول المدينة.
قوله
تعالى: « فاجعل
أفئدة من الناس تهوي إليهم » الأفئدة
جمع فؤاد وهي القلوب، وقد يعبر عن القلب بالفؤاد كما قال الشاعر:
وإن
فؤادا قادني بصبابة إليك على طول المدى لصبور
وقيل:
جمع وفد، والأصل أوفدة، فقدمت الفاء وقلبت الواو ياء كما هي، فكأنه قال: واجعل
وفودا من الناس تهوي إليهم؛ أي تنزع؛ يقال: هوي نحوه إذا مال، وهوت الناقة تهوي
هويا فهي هاوية إذا عدت عدوا شديدا كأنها في هواء بئر، وقوله: « تهوي إليهم » مأخوذ منه. قال ابن عباس
ومجاهد: لو قال أفئدة الناس لازدحمت عليه فارس والروم والترك والهند واليهود
والنصارى والمجوس، ولكن قال: « من الناس
» فهم
المسلمون؛ فقوله: « تهوي
إليهم » أي تحن
إليهم، وتحن إلى زيارة البيت. وقرأ مجاهد « تهوَى إليهم » أي تهواهم وتجلهم. « وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون » فاستجاب الله دعاءه، وأنبت لهم
بالطائف سائر الأشجار، وبما يجلب إليهم من الأمصار. وفي صحيح البخاري عن ابن عباس
الحديث الطويل وقد ذكرنا بعضه: ( فجاء إبراهيم بعد ما تزوج إسماعيل يطالع تركته
فلم يجد إسماعيل، فسأل امرأته عنه فقالت: خرج يبتغي لنا، ثم سألهم عن عيشهم
وهيئتهم فقالت: نحن بشر، نحن في ضيق وشدة؛ فشكت إليه، قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي
عليه السلام وقولي له يغير عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل كأنه أنس شيئا فقال: هل
جاءكم من أحد! قالت: نعم جاءنا شيخ كذا وكذا فسألني عنك فأخبرته، وسألني كيف
عيشتنا فأخبرته أنا في جهد وشدة، قال فهل أوصاك بشيء: قالت: أمرني أن أقرأ عليك
السلام، ويقول: غير عتبة بابك؛ قال: ذاك أبي وقد أمرني أن أفارقك ألحقي بأهلك؛
فطلقها وتزوج منهم أخرى، فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله ثم أتاهم بعد فلم يجده،
ودخل على امرأته فسألها عنه فقالت: خرج يبتغي لنا. قال: كيف أنتم؟ وسألها عن عيشهم
وهيئتهم فقالت: نحن بخير وسعة وأثنت على الله. قال ما طعامكم؟ قالت: اللحم. قال
فما شرابكم؟ قالت: الماء. قال: اللهم بارك لهم في اللحم والماء. قال النبي صلى
الله عليه وسلم: ( ولم يكن لهم يومئذ حب ولو كان لهم دعا لهم فيه ) . قال: فهما لا
يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه؛ وذكر الحديث. وقال ابن عباس: قول
إبراهيم « فاجعل
أفئدة من الناس تهوي إليهم » سأل أن
يجعل الله الناس يهوون السكنى بمكة، فيصير بيتا محرما، وكل ذلك كان والحمد لله.
وأول من سكنه جرهم. ففي البخاري - بعد قوله: وإن الله لا يضيع أهله - وكان البيت
مرتفعا من الأرض كالرابية تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وعن شماله، وكذلك حتى مرت
بهم رفقة من جرهم قافلين من طريق كذا، فنزلوا بأسفل مكة، فرأوا طائرا عائفا فقالوا:
إن هذا الطائر ليدور على ماء! لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء؛ فأرسلوا جريا أو
جريين فإذا هم بالماء، فأخبروهم بالماء فأقبلوا. قال: وأم إسماعيل عند الماء؛
فقالوا: أتأذنين لنا أن ننزل عندك؟ قالت: نعم ولكن لا حق لكم في الماء. قالوا:
نعم. قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( فألفي ذلك أم إسماعيل وهي تحب
الأنس ) فنزلوا وأرسلوا إلى أهلهم فنزلوا معهم حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم، شب
الغلام، وماتت أم إسماعيل، فجاء إبراهيم بعد ما تزوج إسماعيل يطالع تركته؛ الحديث.
الآية:
38 ( ربنا
إنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء )
قوله
تعالى: « ربنا إنك
تعلم ما نخفي وما نعلن » أي، ليس
يخفى عليك شيء من أحوالنا. وقال ابن عباس ومقاتل: تعلم جميع ما أخفيه وما أعلنه من
الوجه بإسماعيل وأمه حيث أسكنا بواد غير ذي زرع. « وما يخفي على الله من شيء في الأرض ولا في السماء » قيل: هو من قول إبراهيم. وقيل:
هو من قول الله تعالى لما قال إبراهيم: « ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن » قال الله: « وما يخفى على الله من شيء في
الأرض ولا في السماء » .
الآية:
39 ( الحمد
لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء )
أي على
كبر سني وسن امرأتي؛ قال ابن عباس: ولد له إسماعيل وهو ابن تسع وتسعين سنة. وإسحاق
وهو ابن مائة واثنتي عشرة سنة. وقال سعيد بن جبير: بشر إبراهيم بإسحاق بعد عشر
ومائة سنة. « إن ربي
لسميع الدعاء » .
الآيتان:
40 - 41 ( رب
اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء، ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين
يوم يقوم الحساب )
قوله
تعالى: « رب
اجعلني مقيم الصلاة » أي من
الثابتين على الإسلام والتزام أحكامه. « ومن ذريتي » أي
واجعل من ذريتي من يقيمها. « ربنا
وتقبل دعاء » أي
عبادتيكما قال: « وقال ربكم
ادعوني أستجب لكم » [ غافر: 60 ] . وقال عليه السلام: « الدعاء مخ العبادة ) وقد تقدم في » البقرة « . » ربنا اغفر لي ولوالدي
وللمؤمنين « قيل:
استغفر إبراهيم لوالديه قبل أن يثبت عنده أنهما عدوان لله. قال القشيري: ولا يبعد أن
تكون أمه مسلمة لأن الله ذكر عذره في استغفاره لأبيه دون أمه. قلت: وعلى هذا قراءة
سعيد بن جبير، » رب اغفر
لي ولوالدي « يعني.
أباه. وقيل: استغفر لهما طمعا في إيمانهما. وقيل: استغفر لهما بشرط أن يسلما.
وقيل: أراد آدم وحواء. وقد روي أن العبد إذا قال: اللهم اغفر لي ولوالدي وكان
أبواه قد ماتا كافرين انصرفت المغفرة إلى آدم وحواء لأنهما والدا الخلق أجمع.
وقيل: إنه أراد ولديه إسماعيل وإسحاق. وكان إبراهيم النخعي يقرأ: » ولولدي « يعني ابنيه، وقيل: إنه أراد
ولديه إسماعيل وإسحاق. وكان إبراهيم » وللمؤمنين « قال ابن
عباس: من أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: » للمؤمنين « كلهم وهو
أظهر. » يوم
يقوم الحساب « أي يوم
يقوم الناس للحساب.»
الآية:
42 ( ولا
تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار )
قوله
تعالى: « ولا
تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون » وهذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أجبه من أفعال
المشركين ومخالفتهم دين إبراهيم؛ أي أصبر إبراهيم، وأعلم المشركين أن تأخير العذاب
ليس للرضا بأفعالهم، بل سنة الله إمهال العصاة مدة. قال ميمون بن مهران: هذا وعبد
للظالم، وتعزية للمظلوم. « إنما
يؤخرهم » يعني
مشركي مكة يمهلهم ويؤخر بهم. وقراءة العامة « يؤخرهم » بالياء
واختاره أبو عبيد وأبو حاتم لقوله « ولا تحسبن الله » . وقرأ الحسن والسلمي وروي عن أبي عمرو أيضا « نؤخرهم » بالنون للتعظيم. « ليوم تشخص فيه الأبصار » أي لا تغمض من هول ما تراه في
ذلك اليوم، قاله الفراء. يقال: شخص الرجل بصره وشخص البصر نفسه أي سما وطمح من هول
ما يرى. قال ابن عباس: تشخص أبصار الخلائق يومئذ إلى الهواء لشدة الحيرة فلا
يرمضون.
الآية:
43 ( مهطعين مقنعي رؤوسهم لا يرتد
إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء )
قوله
تعالى: « مهطعين » أي مسرعين؛ قاله الحسن وقتادة
وسعيد بن جبير؛ مأخوذ من أهطع يهطع إذا أسرع ومنه قوله تعالى: « مهطعين إلى الداع » [ القمر: 8 ] أي مسرعين. قال الشاعر:
بدجلة
دارهم ولقد أراهم بدجلة مهطعين إلى السماع
وقيل:
المهطع الذي ينظر في ذل وخشوع؛ أي ناظرين من غير أن يطرفوا؛ قاله ابن عباس، وقال
مجاهد والضحاك: « مهطعين » أي مديمي النظر. وقال النحاس:
والمعروف في اللغة أن يقال: أهطع إذا أسرع؛ قال أبو عبيد: وقد يكون الوجهان جميعا
يعني الإسراع مع إدامة النظر. وقال ابن زيد: المهطع الذي لا يرفع رأسه. « مقنعي رؤوسهم » أي رافعي رؤوسهم ينظرون في ذل.
وإقناع الرأس رفعه؛ قال ابن عباس ومجاهد. قال ابن عرفة والقتبي وغيرهما: المقنع
الذي يرفع رأسه ويقبل ببصره على ما بين يديه؛ ومنه الإقناع في الصلاة وأقنع صوته
إذا رفعه. وقال الحسن: وجوه الناس يومئذ إلى السماء لا ينظر أحد إلى أحد. وقيل:
ناكسي رؤوسهم؛ قال المهدوي: ويقال أقنع إذا رفع رأسه، وأقنع إذا رأسه ذلة وخضوعا،
والآية محتملة الوجهين، وقاله المبرد، والقول الأول أعرف في اللغة؛ قال الراجز:
أنغض نحوي
رأسه وأقنعا كأنما أبصر شيئا أطمعا
وقال
الشماخ يصف إبلا:
يباكرن
العضاه بمقنعات نواجذهن كالحدأ الوقيع
يعني:
برؤوس مرفوعات إليها لتتناولهن. ومنه قيل: مقنعة لارتفاعها. ومنه قنع الرجل إذا
رضي؛ أي رفع رأسه عن السؤال. وقنع إذا سأل أي أتى ما يتقنع منه؛ عن النحاس. وفم
مقنع أي معطوفة أسنانه إلى داخل. ورجل مقنع بالتشديد؛ أي عليه بيضة قاله الجوهري. « لا يرتد إليهم طرفهم » أي لا ترجع إليهم أبصارهم من شدة
النظر فهي شاخصة النظر. يقال: طرف الرجل يطرف طرفا إذا أطبق جفنه على الآخر، فسمي
النظر طرفا لأنه به يكون. والطرف العين. قال عنترة:
وأغض طرفي
ما بدت جارتي حتى يواري جارتي مأواها
وقال جميل:
وأقصر طرفي
دون جمل كرامة لجمل وللطرف الذي أنا قاصره
قوله
تعالى: « وأفئدتهم
هواء » أي لا
تغني شيئا من شدة الخوف. ابن عباس: خالية من كل خير. السدي: خرجت قلوبهم من صدورهم
فنشبت في حلوقهم؛ وقال مجاهد ومرة وابن زيد: خاوية خربة متخرقة ليس فيها خير ولا
عقل؛ كقولك في البيت الذي ليس فيه شيء: إنما هو هواء؛ وقال ابن عباس: والهواء في
اللغة المجوف الخالي؛ ومنه قول حسان:
ألا أبلغ
أبا سفيان عني فأنت مجوفة نخب هواء
وقال زهير
يصف صغيرة الرأس:
كأن الرجل
منها فوق صعل من الظلمان جؤجؤه هواء
فارغ أي
خال؛ وفي التنزيل: « وأصبح فؤاد
أم موسى فارغا » [ القصص: 10 ] أي من كل شيء إلا من هم موسى.
وقيل: في الكلام إضمار؛ أي ذات هواء وخلاء.
الآية:
44 ( وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب
فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل أولم تكونوا
أقسمتم من قبل ما لكم من زوال )
قوله
تعالى: « وأنذر
الناس » قال ابن
عباس: أراد أهل مكة. « يوم
يأتيهم العذاب » وهو يوم
القيامة؛ أي خوفهم ذلك اليوم. وإنما خصهم بيوم العذاب وإن كان يوم الثواب، لأن
الكلام خرج مخرج التهديد للعاصي. « فيقول
الذين ظلموا » أي في ذلك
اليوم « ربنا
أخرنا » أي أمهلنا.
« إلى أجل
قريب » سألوه
الرجوع إلى الدنيا حين ظهر الحق في الآخرة. « نجب دعوتك ونتبع الرسل » أي إلى الإسلام فيجابوا: « أولم تكونوا أقسمتم من قبل » يعني في دار الدنيا. « ما لكم من زوال » قال مجاهد: هو قسم قريش أنهم لا يبعثون. ابن جريج: هو ما حكاه
عنهم في قوله: « وأقسموا
بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت » [
النحل: 38 ] . « ما لكم من زوال » فيه تأويلان: أحدهما: ما لكم من
انتقال عن الدنيا إلى الآخرة؛ أي لا تبعثون ولا تحشرون؛ وهذا قول مجاهد. الثاني: « ما لكم من زوال » أي من العذاب. وذكر البيهقي عن
محمد بن كعب القرظي قال: لأهل النار خمس دعوات يجيبهم الله أربعة، فإذا كان في
الخامسة لم يتكلموا بعدها أبدا، يقولون: « ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى
خروج من سبيل » [ غافر: 11 ] فيجيبهم الله « ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده
كفرتم وأن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير » [ غافر: 12 ] ثم يقولون: « ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا
نعمل صالحا إنا موقنون » [ السجدة: 12 ] فيجيبهم الله تعالى: « فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم
هذا إنا نسيناكم وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون » [ السجدة: 14 ] ثم يقولون: « ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب
دعوتك ونتبع الرسل » فيجيبهم
الله تعالى « أو لم
تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال » فيقولون: « ربنا
أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل » [ فاطر:
37 ] فيجيبهم
الله تعالى: « أو لم
نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير » [ فاطر: 37 ] . ويقولون: « ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا
قوما ضالين » [ المؤمنون: 106 ] فيجيبهم الله تعالى: « اخسؤوا فيها ولا تكلمون » [ المؤمنون: 108 ] فلا يتكلمون بعدها أبدا؛ خرجه
ابن المبارك في { دقائقه } بأطول من هذا - وقد كتبناه في كتاب { التذكرة } وزاد في
الحديث « وسكنتم
في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال. وقد
مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال » [ إبراهيم:44 - 45 ] قال هذه الثالثة، وذكر الحديث
وزاد بعد قوله: « اخسؤوا
فيها ولا تكلمون » [ المؤمنون: 108 ] فانقطع عند ذلك الدعاء والرجاء،
وأقبل بعضهم على بعض ينبح بعضهم في وجه بعضهم في وجه بعض، وأطبقت عليهم؛ وقال:
فحدثني الأزهر بن أبي الأزهر أنه ذكر له أن ذلك قوله: « هذا يوم لا ينطقون. ولا يؤذن
لهم فيعتذرون » [ المرسلات:35 - 36 ] .
الآية:
45 ( وسكنتم في مساكن الذين ظلموا
أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال )
قوله
تعالى: « وسكنتم
في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال » أي في بلاد ثمود ونحوها فهلا
اعتبرتم بمساكنهم، بعد ما تبين لكم ما فعلنا بهم، وبعد أن ضربنا لكم الأمثال في
القرآن. وقرأ أبو عبدالرحمن السلمي « ونبين لكم » بنون
والجزم على أنه مستقبل ومعناه الماضي؛ وليناسب قوله: « كيف فعلنا بهم » . وقراءة الجماعة، « وتبين » وهي مثلها في المعنى؛ لأن ذلك لا
تبين لهم إلا بتبيين الله إياهم.
الآية:
46 ( وقد مكروا مكرهم وعند الله
مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال )
قوله
تعالى: « وقد
مكروا مكرهم » أي بالشرك
بالله وتكذيب الرسل والمعاندة؛ عن ابن عباس وغيره. « وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم
لتزول منه الجبال » « إن » بمعنى « ما » أي ما كان مكرهم لتزول منه
الجبال لضعفه ووهنه؛ « وإن » بمعنى « ما » في القرآن في مواضع خمسة: أحدها
هذا. الثاني: « فإن كنت
في شك مما أنزلنا إليك » [ يونس: 94 ] . الثالث: « لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه
من لدنا إن كنا » [ الأنبياء: 17 ] أي ما كنا. الرابع: « قل إن كان للرحمن ولد » [ الزخرف: 81 ] . الخامس: « ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه
» [ الأحقاف: 26 ] . وقرا الجماعة « وإن كان » بالنون. وقرأ عمرو بن علي وابن
مسعود وأبي « وإن كاد
» بالدال.
والعامة على كسر اللام في « لتزول » على أنها لام الجحود وفتح اللام
الثانية نصيبا. وقرأ بن محيصن وابن جريج والكسائي « لتزول » بفتح
اللام الأول على أنها لام الابتداء ورفع الثانية « وإن » مخففة من
الثقيلة، ومعنى هذه القراءة استعظام مكرهم؛ أي ولقد عظم مكرهم حتى كادت الجبال
تزول منه؛ قال الطبري: الاختيار القراءة الأولى؛ لأنها لو كانت زالت لم تكن ثابتة؛
قال أبو بكر الأنباري: ولا حجة على مصحف المسلمين في الحديث الذي حدثناه أحمد بن
الحسين: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا وكيع بن الجراح عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن
عبدالرحمن بن دانيل قال سمعت علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: إن جبارا من
الجبابرة قال لا أنتهي حتى أعلم من في السماوات، فعمد إلى فراخ نسور، فأمر أن تطعم
اللحم، حتى اشتدت وعضلت واستعلجت أمر بأن يتخذ تابوت يسع فيه رجلين؛ وأن يجعل فيه
عصا في رأسها لحم شديد حمرته، وأن يستوثق من أرجل النسور بالأوتاد؛ وتشد إلى قوائم
التابوت، ثم جلس هو وصاحب له من التابوت وأثار النسور، فلما رأت اللحم طلبته،
فجعلت ترفع التابوت حتى بلغت به ما شاء الله؛ فقال الجبار لصاحبه: افتح الباب
فانظر ما ترى؟ فقال: أرى الجبال كأنها ذباب، فقال: أغلق الباب؛ ثم صعدت بالتابوت
ما شاء الله أن تصعد، فقال الجبار لصاحبه: افتح الباب فانظر ما ترى؟ فقال: ما أرى
إلا السماء وما تزداد منا إلا بعدا، فقال: نكس العصا فنكسها، فانقضت النسور. فلما
وقع التابوت على الأرض سمعت له هدة كادت الجبال تزول عن مراتبها منها؛ قال: فسمعت
عليا رضي الله عنه يقرأ « وإن كان
مكرهم لتزول » بفتح
اللام الأولى من « لتزول » وضم الثانية. وقد ذكر الثعلبي
هذا الخبر بمعناه، وأن الجبار هو النمرود الذي حاج إبراهيم في ربه، وقال عكرمة:
كان معه في التابوت غلام أمرد، وقد حمل القوس والنبل فرمى بهما فعاد إليه ملطخا
بالدماء وقال: كفيت نفسك إله السماء. قال عكرمة: تلطخ بدم سمكة من السماء، فذفت
نفسها إليه من بحر في الهواء معلق. وقيل: طائر من الطير أصابه السهم ثم أمر نمرود
صاحبه أن يضرب العصا وأن ينكس اللحم، فهبطت النسور بالتابوت، فسمعت الجبال حفيف التابوت
والنسور ففزعت، وظنت أنه قد حدث بها حدث من السماء، وأن الساعة قد قامت، فذلك
قوله: « وإن كان
مكرهم لتزول منه الجبال » . قال
القشيري: وهذا جائز بتقدير خلق الحياة في الجبال. وذكر الماوردي عن ابن عباس: أن
النمرود بن كنعان بنى الصرح في قرية الرس من سواد الكوفة، وجعل طول خمسة آلاف ذراع
وخمسين ذراعا، وعرضه ثلاثة آلاف ذراع وخمسة وعشرين ذراعا، وصعد منه مع النسور،
فلما علم أنه لا سبيل له إلى السماء اتخذه حصنا، وجمع فيه أهله وولده ليتحصن فيه.
فأتى الله بنيانه من القواعد، فتداعي الصرح عليهم فهلكوا جميعا، فهذا معنى « وقد مكروا مكرهم » وفي الجبال التي عني زوالها
بمكرهم وجهان: أحدهما: جبال الأرض. الثاني: الإسلام والقرآن، لأنه لثبوته ورسوخه
كالجبال. وقال القشيري: « وعند
الله مكرهم » أي هو
عالم بذلك فيجازيهم أو عند الله جزاء مكرهم فحذف المضاف. « وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال
» بكسر
اللام؛ أي ما كان مكرهم مكرا يكون له أثر وخطر عند الله تعالى، فالجبال مثل لأمر
النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: « وإن كان
مكرهم » في
تقديرهم « لتزول
منه الجبال » وتؤثر في
إبطال الإسلام. وقرئ « لتزول
منه الجبال » بفتح
اللام الأولى وضم الثانية؛ أي كان مكرا عظيما تزول منه الجبال، ولكن الله حفظ رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وهو كقوله تعالى: « ومكروا مكرا كبارا » [ نوح:
22 ] والجبال
لا تزول ولكن العبارة عن تعظيم الشيء هكذا تكون.
الآية:
47 ( فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله
إن الله عزيز ذو انتقام )
قوله
تعالى: « فلا
تحسبن الله مخلف وعده رسله » اسم الله
تعالى و « مخلف » مفعولا تحسب؛ و « رسله » مفعول « وعده » وهو على الاتساع، والمعنى: مخلف
وعده رسله؛ قال الشاعر:
ترى الثور
فيها مدخل الظل رأسه وسائره باد إلى الشمس أجمع
قال
القتبي: هو من المقدم الذي يوضحه التأخير، والمؤخر الذي يوضحه التقديم، وسواء في
قولك: مخلف وعده رسله، ومخلف رسله وعده. « إن الله عزيز ذو انتقام » أي من أعدائه. ومن أسمائه المنتقم وقد بيناه في « الكتاب الأسنى في شرح أسماء
الله الحسنى » .
الآية:
48 ( يوم تبدل الأرض غير الأرض
والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار )
قوله
تعالى: « يوم تبدل
الأرض غير الأرض » أي اذكر
يوم تبدل الأرض، فتكون متعلقة بما قبله. وقيل: هو صفة لقول: « يوم يقوم الحساب » [ إبراهيم: 41 ] . واختلف في كيفية تبديل الأرض،
فقال كثير من الناس: إن تبدل الأرض عبارة عن تغير صفاتها، وتسوية آكامها، ونسف
جبالها، ومد أرضها؛ ورواه ابن مسعود رضي الله عنه؛ خرجه ابن ماجة في سننه وذكره
ابن المبارك من حديث شهر بن حوشب، قال حدثني ابن عباس قال: إذا كان يوم القيامة
مدت الأرض مد الأديم وزيد في سعتها كذا وكذا؛ وذكر الحديث. وروي مرفوعا من حديث
أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( تبدل الأرض غير الأرض فيبسطها ويمدها مد الأديم العكاظي لا
ترى فيها عوجا ولا أمتا ثم يزجر الله الخلق زجرة فإذا هم في الثانية في مثل
مواضعهم من الأولى من كان في بطنها ففي بطنها ومن كان على ظهرها كان على ظهرها ) ذكره الغزنوي. وتبديل السماء
تكوير شمسها وقمرها، وتناثر نجومها؛ قال ابن عباس. وقيل: اختلاف أحوالها، فمرة
كالمهل ومرة كالدهان؛ حكاه ابن الأنباري؛ وقد ذكرنا هذا الباب مبينا في كتاب {
التذكرة } وذكرنا ما للعلماء في ذلك، وأن الصحيح إزالة هذه الأرض حسب ما ثبت عن
النبي صلى الله عليه وسلم. روى مسلم عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: كنت قائما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه حبر من أحبار اليهود فقال:
السلام عليك؛ وذكر الحديث، وفيه: فقال اليهودي أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير
الأرض والسماوات؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( في الظلمة دون الجسر ) . وذكر الحديث. وخرج عن عائشة
قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله: « يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات » فأين الناس يومئذ؟ قال: ( على الصراط ) . خرجه ابن ماجة بإسناد مسلم
سواء، وخرجه الترمذي عن عائشة وأنها هي لسائلة، قال: هذا حديث حسن صحيح؛ فهذه
الأحاديث تنص على أن السماوات والأرض تبدل وتزال، ويخلق الله أرضا أخرى يكون الناس
عليها بعد كونهم على الجسر. وفي صحيح مسلم عن سهل بن سعد قال قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: ( يحشر
الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصه النقي ليس فيها علم لأحد ) . وقال جابر: سألت أبا جعفر
محمد بن علي عن قول الله عز وجل: « يوم تبدل
الأرض غير الأرض » قال: تبدل
خبرة يأكل منها الخلق يوم القيامة، ثم قرأ: « وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام » [ الأنبياء: 8 ] . وقال ابن مسعود: إنه تبدل
بأرض غيرها بيضاء كالفضة لم يعمل عليها خطيئة. وقال ابن عباس: بأرض من فضة بيضاء.
وقال علي رضي الله عنه: تبدل الأرض يومئذ من فضة والسماء من ذهب وهذا تبديل للعين،
وحسبك. « وبرزوا
لله الواحد القهار » أي من
قبورهم، وقد تقدم.
الآية:
49 ( وترى المجرمين يومئذ مقرنين في
الأصفاد )
قوله
تعالى: « وترى
المجرمين » وهم
المشركون. « يومئذ » أي يوم القيامة. « مقرنين » أي مشدودين « في الأصفاد » وهي الأغلال والقيود، وأحدها صفد
وصفد. ويقال: صفدته صفدا أي قيدته والاسم الصفد، فإذا أردت التكثير قلت: صفدته
تصفيدا؛ قال عمرو بن كلثوم:
فآبوا
بالنهاب وبالسبايا وأبنا بالملوك مصفدينا
أي
مقيدينا. وقال حسان:
من كل
مأسور يشد صفاده صقر إذا لاقى الكريهة حام
أي غله،
وأصفدته إصفادا أعطيته. وقيل: صفدته وأصفدته جاريان في القيد والإعطاء جميعا؛ قال
النابغة:
فلم أعرض أبيت
اللعن بالصفد
فالصفد
العطاء؛ لأنه يقيد ويعبد، قال أبو الطيب:
وقيدت نفسي
في ذراك محبة ومن وجد الإحسان قيدا تقيدا
قيل: يقرن
كل كافر مع شيطان في غل، بيانه قوله: « احشروا الذين ظلموا وأزواجهم » [ الصافات: 22 ] يعني قرناءهم من الشياطين.
وقيل: إنهم الكفار يجمعون في الأصفاد كما اجتمعوا في الدنيا على المعاصي.
الآية:
50 ( سرابيلهم من قطران وتغشى
وجوههم النار )
قوله
تعالى: « سرابيلهم
من قطران » أي
قميصهم، عن ابن دريد وغيره، واحدها سربال، والفعل تسربلت وسربلت غيري؛ قال كعب بن
مالك:
تلقاكم عصب
حول النبي لهم من نسج داود في الهيجا سرابيل
« من قطران
» يعني
قطران الإبل الذي تهنأ به؛ قال الحسن. وذلك أبلغ لاشتعال النار فيهم. وفي الصحيح:
أن النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من فطران ودرع من
جرب. وروي عن حماد أنهم قالوا: هو النحاس. وقرأ عيسى بن عمر: « قطران » بفتح القاف وتسكين الطاء. وفيه
قراءة ثالثة: كسر القاف وجزم الطاء؛ ومنه قول أبي النجم:
جون كان
العرق المنتوحا لبسه القطران والمسوحا
وقراءة
رابعة: « من قطران
» رويت عن
ابن عباس وأبي هريرة وعكرمة وسعيد بن جبير ويعقوب؛ والقطر النحاس والصفر المذاب؛
ومنه قوله تعالى: « آتوني
أفرغ عليه قطرا » [ الكهف: 96 ] . والآن: الذي قد انتهى إلى
حره؛ ومنه قوله تعالى: « وبين
حميم آن » . [ الرحمن: 44 ] . « وتغشى وجوههم النار » أي تضرب « وجوههم النار » فتغشيها.
الآية:
51 ( ليجزي الله كل نفس ما كسبت إن
الله سريع الحساب )
قوله
تعالى: « ليجزي
الله كل نفس ما كسبت » أي بما
كسبت. « إن الله
سريع الحساب » تقدم.
الآية:
52 ( هذا بلاغ للناس ولينذروا به
وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولوا الألباب )
قوله
تعالى: « هذا بلاغ
للناس » أي هذا
الذي أنزلنا إليك بلاغ؛ أي تبليغ وعظة. « ولينذروا به » أي ليخوفوا عقاب الله عز وجل، وقرئ. « ولينذروا » بفتح الياء والذال، يقال: نذرت
بالشيء أنذر إذا علمت به فاستعددت له، ولم يستعملوا منه مصدرا كما لم يستعملوا من
عسى وليس، وكأنهم استغنوا بأن والفعل كقولك: سرني أن نذرت بالشيء. « وليعلموا أنما هو إله واحد
وليذكر أولو الألباب » أي
وليعلموا وحدانية الله بما أقام من الحجج والبراهين. « وليذكر أولو الألباب » أي وليتعظ أصحاب العقول. وهذه
اللامات في « ولينذروا
» « وليعلموا » « وليذكر » متعلقة
بمحذوف، التقدير: ولذلك أنزلناه. وروي يمان بن رئاب أن هذه الآية نزلت في أبي بكر
الصديق رضي الله عنه. وسئل بعضهم هل لكتاب الله عنوان؟ فقال: نعم؛ قيل: وأين هو؟
قال قوله تعالى: « هذا بلاغ
للناس ولينذروا به » إلى
آخرها. تم تفسير سورة إبراهيم عليه السلام والحمد لله.