سورة
الإسراء
مقدمة
السورة
هذه السورة
مكية، إلا ثلاث آيات: قوله عز وجل ( وإن كادوا ليستفزونك ) [
الإسراء: 76 ] حين جاء
رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد ثقيف، وحين قالت اليهود: ليست هذه بأرض
الأنبياء. وقوله عز وجل: ( وقل رب
أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق ) [
الإسراء: 80 ] وقوله
تعالى ( إن ربك
أحاط بالناس ) [ الإسراء: 60 ] الآية. وقال مقاتل: وقوله عز
وجل ( إن
الذين أوتوا العلم من قبله ) [ الإسراء: 107 ] الآية. وقال ابن مسعود رضي الله
عنه في بني إسرائيل والكهف ومريم: إنهن من العتاق الأول، وهن من تلادي؛ يريد من
قديم كسبه.
الآية:
1 ( سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من
المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع
البصير )
قوله
تعالى: « سبحان » ( سبحان ) اسم موضوع موضع المصدر، وهو غير
متمكن؛ لأنه لا يجرى بوجوه الإعراب، ولا تدخل عليه الألف واللام، ولم يجر منه فعل،
ولم ينصرف لأن في آخره زائدتين، تقول: سبحت تسبيحا وسبحانا، مثل كفرت اليمين
تكفيرا وكفرانا. ومعناه التنزيه والبراءة لله عز وجل من كل نقص. فهو ذكر عظيم لله
تعالى لا يصلح لغيره؛ فأما قول ا لشاعر:
أقول لما
جاءني فخره سبحان من علقمة الفاخر
فإنما ذكره
على طريق النادر. وقد روى طلحة بن عبيدالله الفياض أحد العشرة أنه قال للنبي صلى
الله عليه وسلم: ما معنى سبحان الله؟ فقال: ( تنزيه الله من كل سوء ) . والعامل فيه على مذهب سيبويه الفعل الذي من معناه لا من
لفظه، إذ لم يجر من لفظه فعل، وذلك مثل قعد القرفصاء، واشتمل الصماء؛ فالتقدير
عنده: أنزه الله تنزيها؛ فوقع ( سبحان
الله ) مكان
قولك تنزيها.
قوله
تعالى: « أسرى
بعبده » « أسرى » فيه لغتان: سرى وأسرى؛ كسقى
وأسقى، كما تقدم. قال:
أسرت عليه
من الجوزاء سارية تزجي الشمال عليه جامد البرد
وقال آخر:
حي النضيرة
ربة الخدر أسرت إلي ولم تكن تسري
فجمع بين
اللغتين في البيتين. والإسراء: سير الليل؛ يقال: سريت مسرى وسرى، وأسريت إسراء؛
قال الشاعر:
وليلة ذات
ندى سريت ولم يلتني من سراها ليت
وقيل: أسرى
سار من أول الليل، وسرى سار من آخره؛ والأول أعرف.
قوله
تعالى: « بعبده » قال العلماء: لو كان للنبي صلى
الله عليه وسلم اسم أشرف منه لسماه به في تلك الحالة العلية. وفي معناه أنشدوا:
يا قوم
قلبي عند زهراء يعرفه السامع والرائي
لا تدعني
إلا بيا عبدها فإنه أشرف أسمائي
وقد تقدم.
قال القشيري: لما رفعه الله تعالى إلى حضرته السنية، وأرقاه فوق الكواكب العلوية،
ألزمه اسم العبودية تواضعا للأمة.
ثبت
الإسراء في جميع مصنفات الحديث، وروي عن الصحابة في كل أقطار الإسلام فهو من
المتواتر بهذا الوجه. وذكر النقاش: ممن رواه عشرين صحابيا. روى الصحيح عن أنس بن
مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( أتيت بالبراق وهو دابة أبيض طويل فوق الحمار ودون البغل يضع
حافره عند منتهى طرفه - قال - فركبته حتى أتيت بيت المقدس - قال - فربطته بالحلقة
التي تربط بها الأنبياء - قال - ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين ثم خرجت فجاءني
جبريل عليه السلام بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن فقال جبريل اخترت
الفطرة - قال - ثم عرج بنا إلى السماء... ) وذكر الحديث. ومما ليس في الصحيحين ما خرجه الآجري
والسمرقندي، قال الآجري عن أبي سعيد الخدري في قوله تعالى « سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من
المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله » قال أبو سعيد: حدثنا رسول الله
صلى الله عليه وسلم عن ليلة أسري به، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أتيت بدابة هي أشبه الدواب
بالبغل له أذنان يضطربان وهو البراق الذي كانت الأنبياء تركبه قبل فركبته فانطلق
تقع يداه عند منتهى بصره فسمعت نداء عن يميني يا محمد على رسلك حتى أسألك فمضيت
ولم أعرج عليه ثم سمعت نداء عن يساري يا محمد على رسلك فمضيت ولم أعرج عليه ثم
استقبلتني امرأة عليها من كل زينة الدنيا رافعة يديها تقول على رسلك حتى أسألك
فمضيت ولم أعرج ثم أتيت بيت المقدس الأقصى فنزلت عن الدابة فأوثقته في الحلقة التي
كانت الأنبياء توثق بها ثم دخلت المسجد وصليت فيه فقال لي جبريل عليه السلام ما
سمعت يا محمد فقلت نداء عن يميني يا محمد على رسلك حتى أسألك فمضيت ولم أعرج فقال
ذلك داعي اليهود ولو وقفت لتهودت أمتك - قال - ثم سمعت نداء عن يساري على رسلك حتى
أسألك فمضيت ولم أعرج عليه فقال ذلك داعي النصارى أما إنك لو وقفت لتنصرت أمتك -
قال - ثم استقبلتني امرأة عليها من كل زينة الدنيا رافعة يديها تقول على رسلك
فمضيت ولم أعرج عليها فقال تلك الدنيا لو وقفت لاخترت الدنيا على الآخرة - قال -
ثم أتيت بإناءين أحدهما فيه لبن والآخر فيه خمر فقيل لي خذ فاشرب أيهما شئت فأخذت
اللبن فشربته فقال لي جبريل أصبت الفطرة ولو أنك أخذت الخمر غوت أمتك ثم جاء
بالمعراج الذي تعرج فيه أرواح بني آدم فإذا هو أحسن ما رأيت أو لم تروا إلى الميت
كيف يحد بصره إليه فعرج بنا حتى أتينا باب السماء الدنيا فاستفتح جبريل فقيل من
هذا قال جبريل قالوا ومن معك قال محمد قالوا وقد أرسل إليه؟ قال نعم ففتحوا لي
وسلموا علي وإذا ملك يحرس السماء يقال له إسماعيل معه سبعون ألف ملك مع كل ملك
مائة ألف - قال - وما يعلم جنود ربك إلا هو... ) وذكر الحديث إلى أن قال: ( ثم مضينا إلى السماء الخامسة وإذا أنا بهارون بن عمران
المحب في قومه وحوله تبع كثير من أمته فوصفه النبي صلى الله عليه وسلم وقال طويل
اللحية تكاد لحيته تضرب في سرته ثم مضينا إلى السماء السادسة فإذا أنا بموسى فسلم
علي ورحب بي - فوصفه النبي صلى الله عليه وسلم فقال - رجل كثير الشعر ولو كان عليه
قميصان خرج شعره منهما... ) الحديث.
وروى
البزار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بفرس فحمل عليه، كل خطوة منه أقصى
بصره... وذكر الحديث. وقد جاء في صفة البراق من حديث ابن عباس قال قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: ( بينا
أنا نائم في الحجر إذ أتاني آت فحركني برجله فاتبعت الشخص فإذا هو جبريل عليه
السلام قائم على باب المسجد معه دابة دون البغل وفوق الحمار وجهها وجه إنسان وخفها
خف حافر وذنبها ذنب ثور وعرفها عرف الفرس فلما أدناها مني جبريل عليه السلام نفرت
ونفشت عرفها فمسحها جبريل عليه السلام وقال يا برقة لا تنفري من محمد فوالله ما
ركبك ملك مقرب ولا نبي مرسل أفضل من محمد صلى الله عليه وسلم ولا أكرم على الله
منه قالت قد علمت أنه كذلك وأنه صاحب الشفاعة وإني أحب أن أكون في شفاعته فقلت أنت
في شفاعتي إن شاء الله تعالى... ) الحديث.
وذكر أبو سعيد عبدالملك بن محمد النيسابوري عن أبي سعيد الخدري قال: لما مر النبي
صلى الله عليه وسلم بإدريس عليه السلام في السماء الرابعة قال: مرحبا بالأخ الصالح
والنبي الصالح الذي وعدنا أن نراه فلم نره إلا الليلة قال فإذا فيها مريم بنت
عمران لها سبعون قصرا من لؤلؤ ولأم موسى بن عمران سبعون قصرا من مرجانة حمراء
مكللة باللؤلؤ أبوابها وأسرتها من عرق واحد فلما عرج المعراج إلى السماء الخامسة
وتسبيح أهلها سبحان من جمع بين الثلج والنار من قالها مرة واحدة كان له مثل ثوابهم
استفتح الباب جبريل عليه السلام ففتح له فإذا هو بكهل لم ير قط كهل أجمل منه عظيم
العينين تضرب لحيته قريبا من سرته قد كان أن تكون شمطه وحوله قوم جلوس يقص عليهم
فقلت يا جبريل من هذا قال هارون المحب في قومه.. ) وذكر الحديث.
فهذه نبذة
مختصرة من أحاديث الإسراء خارجة عن الصحيحين، ذكرها أبو الربيع سليمان ابن سبع
بكمالها في كتاب ( شفاء
الصدور ) له. ولا
خلاف بين أهل العلم وجماعة أهل السير أن الصلاة إنما فرضت على النبي صلى الله عليه
وسلم بمكة في حين الإسراء حين عرج به إلى السماء. واختلفوا في تاريخ الإسراء وهيئة
الصلاة، وهل كان إسراء بروحه أو جسده؛ فهذه ثلاث مسائل تتعلق بالآية، وهي مما
ينبغي الوقوف عليها والبحث عنها، وهي أهم من سرد تلك الأحاديث، وأنا أذكر ما وقفت
عليه فيها من أقاويل العلماء واختلاف الفقهاء بعون الله تعالى.
فأما المسألة
الأولى: وهي هل كان إسراء بروحه أو جسده؛ اختلف في ذلك السلف والخلف، فذهبت طائفة
إلى أنه إسراء بالروح، ولم يفارق شخصه مضجعه، وأنها كانت رؤيا رأى فيها الحقائق،
ورؤيا الأنبياء حق. ذهب إلى هذا معاوية وعائشة، وحكي عن الحسن وابن إسحاق. وقالت
طائفة: كان الإسراء بالجسد يقظة إلى بيت المقدس، وإلى السماء بالروح؛ واحتجوا
بقوله تعالى: « سبحان
الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى » فجعل المسجد الأقصى غاية
الإسراء. قالوا: ولو كان الإسراء بجسده إلى زائد على المسجد الأقصى لذكره، فإنه
كان يكون أبلغ في المدح. وذهب معظم السلف والمسلمين إلى أنه كان إسراء بالجسد وفي
اليقظة، وأنه ركب البراق بمكة، ووصل إلى بيت المقدس وصلى فيه ثم أسري بجسده. وعلى
هذا تدل الأخبار التي أشرنا إليها والآية. وليس في الإسراء بجسده وحال يقظته
استحالة، ولا يعدل عن الظاهر والحقيقة إلى التأويل إلا عند الاستحالة، ولو كان
مناما لقال بروح عبده ولم يقل بعبده. وقوله « ما زاغ البصر وما طغى » [
النجم: 17 ] يدل على
ذلك. ولو كان مناما لما كانت فيه آية ولا معجزة، ولما قالت له أم هانئ: لا تحدث
الناس فيكذبوك، والأفضل أبو بكر بالتصديق، ولما أمكن قريشا التشنيع والتكذيب، وقد
كذبه قريش فيما أخبر به حتى ارتد أقوام كانوا آمنوا، فلو كان بالرؤيا لم يستنكر،
وقد قال له المشركون: إن كنت صادقا فخبرنا عن عيرنا ابن لقيتها؟ قال: ( بمكان كذا وكذا مررت عليها
ففزع فلان ) فقيل له:
ما رأيت يا فلان، قال: ما رأيت شيئا! غير أن الإبل قد نفرت. قالوا: فأخبرنا متى
تأتينا العير؟ قال: ( تأتيكم
يوم كذا وكذا ) . قالوا:
أية ساعة؟ قال: ( ما
أدري، طلوع الشمس من ها هنا أسرع أم طلوع العير من ها هنا ) . فقال رجل: ذلك اليوم؟ هذه
الشمس قد طلعت. وقال رجل: هذه عيركم قد طلعت، واستخبروا النبي صلى الله عليه وسلم
عن صفة بيت المقدس فوصفه لهم ولم يكن رآه قبل ذلك. روى الصحيح عن أبي هريرة قال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لقد رأيتني في الحجر وقريش تسألني عن مسراي فسألتني عن
أشياء من بيت المقدس لم أثبتها فكربت كربا ما كربت مثله قط - قال - فرفعه الله لي
أنظر إليه فما سألوني عن شيء إلا أنبأتهم به... ) الحديث. وقد اعترض قول عائشة ومعاوية ( إنما أسري بنفس رسول الله صلى
الله عليه وسلم ( بأنها كانت صغيرة لم تشاهد، ولا حدثت عن النبي صلى الله عليه
وسلم. وأما معاوية فكان كافرا في ذلك الوقت غير مستشهد للحال، ولم يحدث عن النبي
صلى الله عليه وسلم. ومن أراد الزيادة على ما ذكرنا فليقف على ( كتاب الشفاء )
للقاضي عياض يجد من ذلك الشفاء. وقد احتج لعائشة بقوله تعالى: « وما جعلنا الرؤيا التي أريناك
إلا فتنة للناس » [ الإسراء: 60 ] فسماها رؤيا. وهذا يرده قوله
تعالى: « سبحان
الذي أسرى بعبده ليلا » ولا
يقال في النوم أسرى. وأيضا فقد يقال لرؤية العين: رؤيا، على ما يأتي بيانه في هذه
السورة. وفي نصوص الأخبار الثابتة دلالة واضحة على أن الإسراء كان بالبدن، وإذا
ورد الخبر بشيء هو مجوز في العقل في قدرة الله تعالى فلا طريق إلى الإنكار، لا
سيما في زمن خرق العوائد، وقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم معارج؛ فلا يبعد أن
يكون البعض بالرؤيا، وعليه يحمل قوله عليه السلام في الصحيح: ( بينا أنا عند البيت
بين النائم واليقظان... ) الحديث. ويحتمل أن يرد من الإسراء إلى نوم. والله أعلم.
في تاريخ
الإسراء، وقد اختلف العلماء في ذلك أيضا، واختلف في ذلك على ابن شهاب؛ فروى عنه
موسى بن عقبة أنه أسري به إلى بيت المقدس قبل خروجه إلى المدينة بسنة. وروى عنه
يونس عن عروة عن عائشة قالت: توفيت خديجة قبل أن تفرض الصلاة. قال ابن شهاب: وذلك
بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بسبعة أعوام. وروي عن الوقاصي قال: أسري به بعد
مبعثه بخمس سنين. قال ابن شهاب: وفرض الصيام بالمدينة قبل بدر، وفرضت الزكاة والحج
بالمدينة، وحرمت الخمر بعد أحد. وقال ابن إسحاق: أسري به من المسجد الحرام إلى
المسجد الأقصى وهو بيت المقدس، وقد فشا الإسلام بمكة في القبائل. وروى عنه يونس بن
بكير قال: صلت خديجة مع النبي صلى الله عليه وسلم. وسيأتي. قال أبو عمر: وهذا يدلك
على أن الإسراء كان قبل الهجرة بأعوام؛ لأن خديجة قد توفيت قبل الهجرة بخمس سنين
وقيل بثلاث وقيل بأربع. وقول ابن إسحاق مخالف لقول ابن شهاب، على أن ابن شهاب قد
اختلف عنه كما تقدم. وقال الحربي: أسري به ليلة سبع وعشرين من شهر ربيع الآخر قبل
الهجرة بسنة. وقال أبو بكر محمد بن علي ابن القاسم الذهبي في تاريخه: أسري به من
مكة إلى بيت المقدس، وعرج به إلى السماء بعد مبعثه بثمانية عشر شهرا. قال أبو عمر:
لا أعلم أحدا من أهل السير قال ما حكاه الذهبي، ولم يسند قول إلى أحد ممن يضاف
إليه هذا العلم منهم، ولا رفعه إلى من يحتج به عليهم.
وأما فرض
الصلاة وهيئتها حين فرضت، فلا خلاف بين أهل العلم وجماعة أهل السير أن الصلاة إنما
فرضت بمكة ليلة الإسراء حين عرج به إلى السماء، وذلك منصوص في الصحيح وغيره. وإنما
اختلفوا في هيئتها حين فرضت؛ فروي عن عائشة رضي الله عنها أنها فرضت ركعتين
ركعتين، ثم زيد في صلاة الحضر فأكملت أربعا، وأقرت صلاة السفر على ركعتين. وبذلك
قال الشعبي وميمون بن مهران ومحمد بن إسحاق. قال الشعبي: إلا المغرب. قال يونس بن
بكير: وقال ابن إسحاق ثم إن جبريل عليه السلام أتى النبي صلى الله عليه وسلم حين
فرضت عليه الصلاة يعني في الإسراء فهمز له بعقبه في ناحية الوادي فانفجرت عين ماء
فتوضأ جبريل ومحمد ينظر عليهما السلام فوضأ وجهه واستنشق وتمضمض ومسح برأسه وأذنيه
ورجليه إلى الكعبين ونضح فرجه، ثم قام يصلي ركعتين بأربع سجدات، فرجع رسول الله
صلى الله عليه وسلم وقد أقر الله عينه وطابت نفسه وجاءه ما يحب من أمر الله تعالى،
فأخذ بيد خديجة ثم أتى بها العين فتوضأ كما توضأ جبريل ثم ركع ركعتين وأربع سجدات
هو وخديجة، ثم كان هو وخديجة يصليان سواء. وروي عن ابن عباس أنها فرضت في الحضر
أربعا وفي السفر ركعتين. وكذلك قال نافع بن جبير والحسن بن أبي الحسن البصري، وهو
قول ابن جريج، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يوافق ذلك. ولم يختلفوا في أن
جبريل عليه السلام هبط صبيحة ليلة الإسراء عند الزوال، فعلم النبي صلى الله عليه
وسلم الصلاة ومواقيتها. وروى يونس بن بكير عن سالم مولى أبي المهاجر قال سمعت
ميمون بن مهران يقول: كان أول الصلاة مثنى، ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
أربعا فصارت سنه، وأقرت الصلاة للمسافر وهي تمام. قال أبو عمر: وهذا إسناد لا يحتج
بمثله، وقوله ( فصارت سنة ) قول منكر، وكذلك استثناء الشعبي المغرب وحدها ولم يذكر
الصبح قول لا معنى له. وقد أجمع المسلمون أن فرض الصلاة في الحضر أربع إلا المغرب
والصبح ولا يعرفون غير ذلك عملا ونقلا مستفيضا، ولا يضرهم الاختلاف فيما كان أصل
فرضها.
قد مضى
الكلام في الأذان في « المائدة
» والحمد
لله. ومضى في « آل عمران
» أن أول
مسجد وضع في الأرض المسجد الحرام، ثم المسجد الأقصى. وأن بينهما أربعين عاما من
حديث أبي ذر، وبناء سليمان عليه السلام المسجد الأقصى ودعاؤه له من حديث عبدالله
بن عمرو ووجه الجمع في ذلك؛ فتأمله هناك فلا معنى للإعادة. ونذكر هنا قوله صلى
الله عليه وسلم: ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد إلى المسجد الحرام وإلى
مسجدي هذا وإلى مسجد إيلياء أو بيت المقدس ) . خرجه مالك من حديث أبي هريرة. وفيه
ما يدل على فضل هذه المساجد الثلاثة على سائر المساجد؛ لهذا قال العلماء: من نذر
صلاة في مسجد لا يصل إليه إلا برحلة وراحلة فلا يفعل، ويصلي في مسجده، إلا في
الثلاثة المساجد المذكورة فإنه من نذر صلاة فيها خرج إليها. وقد قال مالك وجماعة
من أهل العلم فيمن نذر رباطا في ثغر يسده: فإنه يلزمه الوفاء حيث كان الرباط لأنه
طاعة الله عز وجل. وقد زاد أبو البختري في هذا الحديث مسجد الجند، ولا يصح وهو
موضوع، وقد تقدم في مقدمة الكتاب.
قوله
تعالى: « إلى
المسجد الأقصى » سمي
الأقصى لبعد ما بينه وبين المسجد الحرام، وكان أبعد مسجد عن أهل مكة في الأرض يعظم
بالزيارة، ثم قال: « الذي
باركنا حوله » قيل:
بالثمار وبمجاري الأنهار. وقيل: بمن دفن حوله من الأنبياء والصالحين؛ وبهذا جعله
مقدسا. وروى معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( يقول الله تعالى
يا شام أنت صفوتي من بلادي وأنا سائق إليك صفوتي من عبادي ) . « لنريه من آياتنا » هذا من باب تلوين الخطاب.
والآيات
التي أراه الله من العجائب التي أخبر بها الناس، وإسراؤه من مكة إلى المسجد الأقصى
في ليلة وهو مسيرة شهر، وعروجه إلى السماء ووصفه الأنبياء واحدا واحدا، حسبما ثبت
في صحيح مسلم وغيره. « إنه هو
السميع البصير » تقدم.
الآية:
2 ( وآتينا
موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا من دوني وكيلا )
أي كرمنا
محمدا صلى الله عليه وسلم بالمعراج، وأكرمنا موسى بالكتاب وهو التوراة. « وجعلناه » أي ذلك الكتاب. وقيل موسى.
وقيل معنى الكلام: سبحان الذي أسرى بعبده ليلا وأتى موسى الكتاب؛ فخرج من الغيبة
إلى الإخبار عن نفسه جل وعز. وقيل: إن معنى سبحان الذي أسرى بعبده ليلا، معناه
أسرينا، يدل عليه ما بعده من قوله: « لنريه من آياتنا » [
الإسراء: 1 ] فحمل « وآتينا موسى الكتاب » على المعنى. « ألا تتخذوا » قرأ أبو عمرو ( يتخذوا )
بالياء. الباقون بالتاء. فيكون من باب تلوين الخطاب. « وكيلا » أي شريكا؛ عن مجاهد. وقيل:
كفيلا بأمورهم؛ حكاه الفراء. وقيل: ربا يتوكلون عليه في أمورهم؛ قاله الكلبي. وقال
الفراء: كافيا؛ والتقدير: عهدنا إليه في الكتاب ألا تتخذوا من دوني وكيلا. وقيل:
التقدير لئلا تتخذوا. والوكيل: من يوكل إليه الأمر.
الآية:
3 ( ذرية
من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا )
أي يا
ذرية من حملنا، على النداء؛ قال مجاهد ورواه عنه ابن أبي نجيح. والمراد بالذرية كل
من احتج عليه بالقرآن، وهم جميع من على الأرض؛ ذكره المهدوي. وقال الماوردي: يعني
موسى وقومه من بني إسرائيل، والمعنى يا ذرية من حملنا مع نوح لا تشركوا. وذكر نوحا
ليذكرهم نعمة الإنجاء من الغرق على آبائهم. وروى سفيان عن حميد عن مجاهد أنه قرأ (
ذرية ) بفتح الذال وتشديد الراء والياء. وروى هذه القراءة عامر بن الواجد عن زيد
بن ثابت. وروي عن زيد بن ثابت أيضا « ذرية » بكسر
الذال وشد الراء. ثم بين أن نوحا كان عبدا شكورا يشكر الله على نعمه ولا يرى الخير
إلا من عنده. قال قتادة: كان إذا لبس ثوبا قال: بسم الله، فإذا نزعه قال: الحمد
لله. كذا روى عنه معمر. وروى معمر عن منصور عن إبراهيم قال: شكره إذا أكل قال: بسم
الله، فإذا فرغ من الأكل قال: الحمد لله. قال سلمان الفارسي: لأنه كان يحمد الله
على طعامه. وقال عمران بن سليم: إنما سمى نوحا عبدا شكورا لأنه كان إذا أكل قال:
الحمد لله الذي أطعمني ولو شاء لأجاعني، وإذا شرب قال: الحمد لله الذي سقاني ولو
شاء لأظمأني، وإذا اكتسى قال: الحمد لله الذي كساني ولو شاء لأعراني، وإذا احتذى
قال: الحمد لله الذي حذاني ولو شاء لأحفاني، وإذا قضى حاجته قال: الحمد لله الذي
أخرج عني الأذى ولو شاء لحبسه في. ومقصود الآية: إنكم من ذرية نوح وقد كان عبدا
شكورا فأنتم أحق بالاقتداء به دون آبائكم الجهال. وقيل: المعنى أن موسى كان عبدا
شكورا إذ جعله الله من ذرية نوح. وقيل: يجوز أن يكون « ذرية » مفعولا ثانيا « لتتخذوا » ويكون قوله: « وكيلا » يراد به الجمع فيسوغ ذلك في
القراءتين جميعا أعني الياء والتاء في « تتخذوا » . ويجوز
أيضا في القراءتين جميعا أن يكون « ذرية » بدلا من قوله « وكيلا » لأنه بمعنى الجمع؛ فكأنه قال
لا تتخذوا ذرية من حملنا مع نوح. ويجوز نصبها بإضمار أعني وأمدح، والعرب قد تنصب
على المدح والذم. ويجوز رفعها على البدل من المضمر في « تتخذوا » في قراءة من قرأ بالياء؛ ولا
يحسن ذلك لمن قرأ بالتاء لأن المخاطب لا يبدل منه الغائب. ويجوز جرها على البدل من
بني إسرائيل في الوجهين. فأما « أن » من قوله « ألا تتخذوا » فهي على قراءة من قرأ بالياء
في موضع نصب بحذف الجار، التقدير: هديناهم لئلا يتخذوا. ويصلح على قراءة التاء أن
تكون زائدة والقول مضمر كما تقدم. ويصلح أن تكون مفسرة بمعنى أي، لا موضع لها من
الإعراب، وتكون « لا » للنهي فيكون خروجا من الخبر
إلى النهي.
الآية:
4 ( وقضينا
إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا )
قوله
تعالى: « وقضينا
إلى بني إسرائيل في الكتاب » قرأ
سعيد بن جبير وأبو العالية « في الكتب
» على لفظ
الجمع. وقد يرد لفظ الواحد ويكون معناه الجمع؛ فتكون القراءتان بمعنى واحد. ومعنى « قضينا » أعلمنا وأخبرنا؛ قاله ابن
عباس: وقال قتادة: حكمنا؛ وأصل القضاء الإحكام للشيء والفراغ منه، وقيل: قضينا أوحينا؛
ولذلك قال: « إلى بني
إسرائيل » . وعلى
قول قتادة يكون « إلى » بمعنى على؛ أي قضينا عليهم
وحكمنا. وقاله ابن عباس أيضا. والمعنى بالكتاب اللوح المحفوظ. « لتفسدن » وقرأ ابن عباس « لتفسدن » . عيسى الثقفي « لتفسدن » . والمعنى في القراءتين قريب؛
لأنهم إذا أفسدوا فسدوا، والمراد بالفساد مخالفة أحكام التوراة. « في الأرض » يريد أرض الشام وبيت المقدس
وما والاها. « مرتين
ولتعلن » اللام
في « لتفسدن
ولتعلن » لام قسم
مضمر كما تقدم. « علوا
كبيرا » أراد
التكبر والبغي والطغيان والاستطالة والغلبة والعدوان.
الآية:
5 ( فإذا جاء
وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا
مفعولا )
قوله
تعالى: « فإذا جاء
وعد أولاهما » أي أولى
المرتين من فسادهم. « بعثنا
عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد » هم أهل
بابل، وكان عليهم بختنصر في المرة الأولى حين كذبوا إرمياء وجرحوه وحبسوه؛ قاله
ابن عباس وغيره. وقال قتادة: أرسل عليهم جالوت فقتلهم، فهو وقومه أولو بأس شديد.
وقال مجاهد: جاءهم جند من فارس يتجسسون أخبارهم ومعهم بختنصر فوعى حديثهم من بين
أصحابه، ثم رجعوا إلى فارس ولم يكن قتال، وهذا في المرة الأولى، فكان منهم جوس خلال
الديار لا قتل؛ ذكره القشيري أبو نصر. وذكر المهدوي عن مجاهد أنه جاءهم بختنصر
فهزمه بنو إسرائيل، ثم جاءهم ثانية فقتلهم ودمرهم تدميرا. ورواه ابن أبي نجيح عن
مجاهد؛ ذكره النحاس. وقال محمد بن إسحاق في خبر فيه طول: إن المهزوم سنحاريب ملك
بابل، جاء ومعه ستمائة ألف راية تحت كل راية مائة ألف فارس فنزل ح ومنا الذي لاقى
بسيف محمد فجاس به الأعداء عرض العساكر
وقال
قطرب: نزلوا؛ قال:
فجسنا
ديارهم عنوة وأبنا بسادتهم موثقينا
« وكان
وعدا مفعولا » أي قضاء
كائنا لا خلف فيه.
الآية:
6 ( ثم رددنا
لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا )
قوله
تعالى: « ثم رددنا
لكم الكرة عليهم » أي
الدولة والرجعة؛ وذلك لما تبتم وأطعتم. ثم قيل: ذلك بقتل داود جالوت أو بقتل غيره،
على الخلاف في من قتلهم. «
وأمددناكم بأموال وبنين » حتى عاد
أمركم كما كان. « وجعلناكم
أكثر نفيرا » أي أكثر
عددا ورجالا من عدوكم. والنفير من نفر مع الرجل من عشيرته؛ يقال: نفير ونافر مثل
قدير وقادر ويجوز أن يكون النفير جمع نفر كالكليب والمعيز والعبيد؛ قال الشاعر:
فاكرم
بقحطان من والد وحمير أكرم بقوم نفيرا
والمعنى:
أنهم صاروا بعد هذه الوقعة الأولى أكثر انضماما وأصلح أحوالا؛ جزاء من الله تعالى
لهم على عودهم إلى الطاعة.
الآية:
7 ( إن
أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤوا وجوهكم
وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا )
قوله
تعالى: « إن
أحسنتم أحسنتم لأنفسكم » أي نفع
إحسانكم عائد عليكم. « وإن
أسأتم فلها » أي
فعليها؛ نحو سلام لك، أي سلام عليك. قال:
فخر
صريعا لليدين وللفم
أي على
اليدين وعلى الفم. وقال الطبري: اللام بمعنى إلى، يعني وإن أسأتم فإليها، أي
فإليها ترجع الإساءة؛ لقوله تعالى: « بأن ربك أوحى لها » [
الزلزلة: 5 ] أي
إليها. وقيل: فلها الجزاء والعقاب. وقال الحسين بن الفضل: فلها رب يغفر الإساءة.
ثم يحتمل أن يكون هذا خطابا لبني إسرائيل في أول الأمر؛ أي أسأتم فحل بكم القتل
والسبي والتخريب ثم أحسنتم فعاد إليكم الملك والعلو وانتظام الحال. ويحتمل أنه
خوطب بهذا بنو إسرائيل في زمن محمد صلى الله عليه وسلم؛ أي عرفتم استحقاق أسلافكم
للعقوبة على العصيان فارتقبوا مثله. أو يكون خطابا لمشركي قريش على هذا الوجه. « فإذا جاء وعد الآخرة » من إفسادكم؛ وذلك أنهم قتلوا
في المرة الثانية يحيى بن زكريا عليهما السلام، قتله ملك من بني إسرائيل يقال له
لاخت؛ قاله القتبي. وقال الطبري: اسمه هردوس، ذكره في التاريخ؛ حمله على قتله
امرأة اسمها أزبيل. وقال السدي: كان ملك بني إسرائيل يكرم يحيى بن زكريا ويستشيره
في الأمر، فاستشاره الملك أن يتزوج بنت امرأة له فنهاه عنها وقال: إنها لا تحل لك؛
فحقدت أمها على يحيى عليه السلام، ثم ألبست ابنتها ثيابا حمرا رقاقا وطيبتها
وأرسلتها إلى الملك وهو على شرابه، وأمرتها أن تتعرض له، وإن أرادها أبت حتى
يعطيها ما تسأله؛ فإذا أجاب سألت أن يؤتى برأس يحيى بن زكريا في طست من ذهب؛ ففعلت
ذلك حتى أتى برأس يحيى بن زكريا والرأس تتكلم حتى وضع بين يديه وهو يقول: لا تحل
لك؛ لا تحل لك؛ فلما أصبح إذا دمه يغلي، فألقى عليه التراب فغلى فوقه، فلم يزل
يلقى عليه التراب حتى بلغ سور المدينة وهو في ذلك يغلي؛ ذكره الثعلبي وغيره. وذكر
ابن عساكر الحافظ في تاريخه عن الحسين بن علي قال: كان ملك من هذه الملوك مات وترك
امرأته وابنته فورث ملكه أخوه، فأراد أن يتزوج امرأة أخيه، فاستشار يحيى بن زكريا
في ذلك، وكانت الملوك في ذلك الزمان يعملون بأمر الأنبياء، فقال له: لا تتزوجها
فإنها بغي؛ فعرفت ذلك المرأة أنه قد ذكرها وصرفه عنها، فقالت: من أين هذا! حتى
بلغها أنه من قبل يحيى، فقالت: ليقتلن يحيى أو ليخرجن من ملكه، فعمدت إلى ابنتها
وصنعتها، ثم قالت: اذهبي إلى عمك عند الملأ فإنه إذا رآك سيدعوك ويجلسك في حجره،
ويقول سليني ما شئت، فإنك لن تسأليني شيئا إلا أعطيتك، فإذا قال لك ذلك فقولي: لا
أسأل إلا رأس يحيى. قال: وكانت الملوك إذا تكلم أحدهم بشيء على رؤوس الملأ ثم لم
يمض له نزع من ملكه؛ ففعلت ذلك. قال: فجعل يأتيه الموت من قتله يحيى، وجعل يأتيه
الموت من خروجه من ملكه، فاختار ملكه فقتله. قال: فساخت بأمها الأرض. قال ابن جدعان:
فحدثت بهذا الحديث ابن المسيب فقال أفما أخبرك كيف كان قتل زكريا؟ قلت لا؛ إن
زكريا حيث قتل ابنه انطلق هاربا منهم واتبعوه حتى أتى على شجرة ذات ساق فدعته
إليها فانطوت عليه وبقيت من ثوبه هدبة تكفتها الرياح، فانطلقوا إلى الشجرة فلم
يجدوا أثره بعدها، ونظروا بتلك الهدبة فدعوا بالمنشار فقطعوا الشجرة فقطعوه معها.
قلت: وقع
في التاريخ الكبير للطبري فحدثني أبو السائب قال حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن
المنهال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: ( بعث عيسى بن مريم يحيى بن زكريا في
اثني عشر من الحواريين يعلمون الناس، قال: كان فيما نهوهم عنه نكاح ابنة الأخ،
قال: وكان لملكهم ابنة أخ تعجبه... ) وذكر الخبر بمعناه. وعن ابن عباس قال: ( بعث
يحيى بن زكريا في اثني عشر من الحواريين يعلمون الناس، وكان فيما يعلمونهم ينهونهم
عن نكاح بنت الأخت، وكان لملكهم بنت أخت تعجبه، وكان يريد أن يتزوجها، وكان لها كل
يوم حاجة يقضيها، فلما بلغ ذلك أمها أنهم نهوا عن نكاح بنت الأخت قالت لها: إذا
دخلت على الملك فقال ألك حاجة فقولي: حاجتي أن تذبح يحيى بن زكريا؛ فقال: سليني
سوى هذا! قالت: ما أسألك إلا هذا. فلما أبت عليه دعا بطست ودعا به فذبحه، فندرت
قطرة من دمه على وجه الأرض فلم تزل تغلي حتى بعث الله عليهم بختنصر فألقى في نفسه
أن يقتل على ذلك الدم منهم حتى يسكن ذلك الدم، فقتل عليه منهم سبعين ألفا، في
رواية خمسة وسبعين ألفا. قال سعيد بن المسيب: هي دية كل نبي. وعن ابن عباس قال: (
أوحى الله إلى محمد صلى الله عليه وسلم إني قتلت بيحيى بن زكريا سبعين ألفا، وإني
قاتل بابن ابنتك سبعين ألفا وسبعين ألفا ) . وعن سمير بن عطية قال: قتل على الصخرة
التي في بيت المقدس سبعون نبيا منهم يحيى بن زكريا. وعن زيد بن واقد قال: رأيت رأس
يحيى عليه السلام حيث أرادوا بناء مسجد دمشق أخرج من تحت ركن من أركان القبة التي
تلي المحراب مما يلي الشرق، فكانت البشرة والشعر على حاله لم يتغير. وعن قرة بن
خالد قال: ما بكت السماء على أحد إلا على يحيى بن زكريا والحسين بن علي؛ وحمرتها
بكاؤها. وعن سفيان بن عيينة قال: أوحش ما يكون ابن آدم في ثلاثة مواطن: يوم ولد
فيخرج إلى دار هم، وليلة يبيت مع الموتى فيجاور جيرانا لم ير مثلهم، ويوم يبعث
فيشهد مشهدا لم ير مثله؛ قال الله تعالى ليحيى في هذه الثلاثة مواطن: « وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت
ويوم يبعث حيا » [ مريم: 15 ] . كله من التاريخ المذكور.
واختلف
فيمن كان المبعوث عليهم في المرة الآخرة؛ فقيل: بختنصر. وقاله القشيري أبو نصر، لم
يذكر غيره. قال السهيلي: وهذا لا يصح؛ لأن قتل يحيى كان بعد رفع عيسى، وبختنصر كان
قبل عيسى ابن مريم عليهما السلام بزمان طويل.، وقبل الإسكندر؛ وبين الإسكندر وعيسى
نحو من ثلاثمائة سنة، ولكنه أريد بالمرة الأخرى حين قتلوا شعيا، فقد كان بختنصر إذ
ذاك حيا، فهو الذي قتلهم وخرب بيت المقدس واتبعهم إلى مصر. وأخرجهم منها. وقال
الثعلبي: ومن روى أن بختنصر هو الذي غزا بني إسرائيل عند قتلهم يحيى بن زكريا فغلط
عند أهل السير والأخبار؛ لأنهم مجمعون على أن بختنصر إنما غزا بني إسرائيل عند
قتلهم شعيا وفي عهد إرمياء. قالوا: ومن عهد إرمياء وتخريب بختنصر بيت المقدس إلى
مولد يحيى بن زكريا عليهما السلام أربعمائة سنة وإحدى وستون سنة، وذلك أنهم يعدون
من عهد تخريب بيت المقدس إلى عمارته في عهد كوسك سبعين سنة، ثم من بعد عمارته إلى
ظهور الإسكندر على بت المقدس ثمانية وثمانين سنة، ثم من بعد مملكة الإسكندر إلى
مولد يحيى ثلاثمائة وثلاثا وستين سنة.
قلت: ذكر
جميعه الطبري في التاريخ رحمه الله. قال الثعلبي: والصحيح من ذلك ما ذكره محمد بن
إسحاق قال: لما رفع الله عيسى من بين أظهرهم وقتلوا يحيى - وبعض الناس يقول: لما
قتلوا زكريا - بعث الله إليهم ملكا من ملوك بابل يقال له: خردوس، فسار إليهم بأهل
بابل وظهر عليهم بالشأم، ثم قال لرئيس جنوده: كنت حلفت بإلهي لئن أظهرني الله على
بيت المقدس لأقتلنهم حتى تسيل دماؤهم في وسط عسكري، وأمر أن يقتلهم حتى يبلغ ذلك
منهم، فدخل الرئيس بيت المقدس فوجد فيها دماء تغلي، فسألهم فقالوا: دم قربان
قربناه فلم يتقبل منا منذ ثمانين سنة. قال ما صدقتموني، فذبح على ذلك الدم سبعمائة
وسبعين رجلا من رؤسائهم فلم يهدأ، فأتى بسبعمائة غلام من غلمانهم فذبحوا على الدم
فلم يهدأ، فأمر بسبعة آلاف من سبيهم وأزواجهم فذبحهم على الدم فلم يبرد، فقال: يا
بني إسرائيل، أصدقوني قبل ألا أترك منكم نافخ نار من أنثى ولا من ذكر إلا قتلته.
فلما رأوا الجهد قالوا: إن هذا دم نبي منا كان ينهانا عن أمور كثيرة من سخط الله
فقتلناه، فهذا دمه، كان اسمه يحيى بن زكريا، ما عصى الله قط طرفة عين ولا هم
بمعصية. فقال: الآن صدقتموني، وخر ساجدا ثم قال: لمثل هذا ينتقم منكم، وأمر بغلق
الأبواب وقال: أخرجوا من كان ها هنا من جيش خردوس، وخلا في بني إسرائيل وقال: يا
نبي الله يا يحيى بن زكريا قد علم ربي وربك ما قد أصاب قومك من أجلك، فاهدأ بإذن
الله قبل ألا أبقي منهم أحدا. فهدأ دم يحيى بن زكريا بإذن الله عز وجل، ورفع عنهم
القتل وقال: رب إني آمنت بما آمن به بنو إسرائيل وصدقت به؛ فأوحى الله تعالى إلى
رأس من رؤوس الأنبياء: إن هذا الرئيس مؤمن صدوق. ثم قال: إن عدو الله خردوس أمرني
أن أقتل منكم حتى تسيل دماؤكم وسط عسكره، وإني لا أعصيه، فأمرهم فحفروا خندقا وأمر
بأموالهم من الإبل والخيل والبغال والحمير والبقر والغنم فذبحوها حتى سال الدم إلى
العسكر، وأمر بالقتلى الذين كانوا قتلوا قبل ذلك فطرحوا على ما قتل من مواشيهم، ثم
انصرف عنهم إلى بابل، وقد كاد أن يفني بني إسرائيل.
قلت: قد
ورد في هذا الباب حديث مرفوع فيه طول من حديث حذيفة، وقد كتبناه في كتاب التذكرة
مقطعا في أبواب في أخبار المهدي، نذكر منها هنا ما يبين معنى الآية ويفسرها حتى لا
يحتاج معه إلى بيان، قال حذيفة: قلت يا رسول الله، لقد كان بيت المقدس عند الله
عظيما جسيم الخطر عظيم القدر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( هو من أجل
البيوت ابتناه الله لسليمان بن داود عليهما السلام من ذهب وفضة ودر وياقوت وزمرد )
: وذلك أن سليمان بن داود لما بناه سخر الله له الجن فأتوه بالذهب والفضة من المعادن،
وأتوه بالجواهر والياقوت والزمرد، وسخر الله تعالى له الجن حتى بنوه من هذه
الأصناف. قال حذيفة: فقلت يا رسول الله، وكيف أخذت هذه الأشياء من بيت المقدس.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن بني إسرائيل لما عصوا الله وقتلوا الأنبياء
سلط الله عليهم بختنصر وهو من المجوس وكان ملكه سبعمائة سنة، وهو قوله: « فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا
عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا » فدخلوا بيت المقدس وقتلوا
الرجال وسبوا النساء والأطفال وأخذوا الأموال وجميع ما كان في بيت المقدس من هذه
الأصناف فاحتملوها على سبعين ألفا ومائة ألف عجلة حتى أودعوها أرض بابل، فأقاموا
يستخدمون بني إسرائيل ويستملكونهم بالخزي والعقاب والنكال مائة عام، ثم إن الله عز
وجل رحمهم فأوحى إلى ملك من ملوك فارس أن يسير إلى المجوس في أرض بابل، وأن يستنقذ
من في أيديهم من بني إسرائيل؛ فسار إليهم ذلك الملك حتى دخل أرض بابل فاستنقذ من
بقي من بني إسرائيل من أيدي المجوس واستنقذ ذلك الحلي الذي كان في بيت المقدس ورده
الله إليه كما كان أول مرة وقال لهم: يا بني إسرائيل إن عدتم إلى المعاصي عدنا
عليكم بالسبي والقتل، وهو قوله: « عسى ربكم
أن يرحمكم وإن عدتم عدنا » [ الإسراء: 8 ] فلما رجعت بنو إسرائيل إلى
بيت المقدس عادوا إلى المعاصي فسلط الله عليهم ملك الروم قيصر، وهو قوله: « فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤوا
وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبير » فغزاهم في البر والبحر فسباهم
وقتلهم وأخذ أموالهم ونساءهم، وأخذ حلي جميع بيت المقدس واحتمله على سبعين ألفا
ومائة ألف عجلة حتى أودعه في كنيسة الذهب، فهو فيها الآن حتى يأخذه المهدي فيرده
إلى بيت المقدس، وهو ألف سفينة وسبعمائة سفينة يرسى بها على يافا حتى تنقل إلى بيت
المقدس وبها يجمع الله الأولين والآخرين... وذكر الحديث.
قوله
تعالى: « فإذا جاء
وعد الآخرة » أي من
المرتين؛ وجواب « إذا » محذوف، تقديره بعثناهم؛ دل
عليه « بعثنا » الأول. « ليسوؤوا وجوهكم » أي بالسبي والقتل فيظهر أثر
الحزن في وجوهكم؛ فـ « ليسوؤوا
» متعلق
بمحذوف؛ أي بعثنا عبادا ليفعلوا بكم ما يسوء وجوهكم. قيل: المراد بالوجوه السادة؛
أي ليذلوهم. وقرأ الكسائي « لنسوء » بنون وفتح الهمزة، فعل مخبر عن
نفسه معظم، اعتبارا بقوله « وقضينا -
وبعثنا - ورددنا » . ونحوه
عن علي. وتصديقها قراءة أُبَي ( لنسوءن ) بالنون وحرف التوكيد. وقرأ أبو بكر
والأعمش وابن وثاب وحمزة وابن عامر ( ليسوء ) بالياء على التوحيد وفتح الهمزة؛
ولها وجهان: أحدهما: ليسوء الله وجوهكم. والثاني: ليسوء الوعد وجوهكم. وقرأ
الباقون « ليسوؤوا
» بالياء
وضم الهمزة على الجمع؛ أي ليسوء العباد الذين هم أولو بأس شديد وجوهكم. « وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول
مرة وليتبروا » أي
ليدمروا ويهلكوا. وقال قطرب: يهدموا؛ قال الشاعر:
فما
الناس إلا عاملان فعامل يتبر ما يبني وآخر رافع
« ما علوا
» أي
غلبوا عليه من بلادكم « تتبيرا » .
الآية:
8 ( عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم
عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا )
قوله
تعالى: « عسى ربكم
أن يرحمكم » وهذا مما
أخبروا به في كتابهم. و « عسى » وعد من الله أن يكشف عنهم. و « عسى » من الله واجبة. « أن يرحمكم » بعد انتقامه منكم، وكذلك كان؛
فكثر عددهم وجعل منهم الملوك. « وإن عدتم
عدنا » قال
قتادة: فعادوا فبعث الله عليهم محمدا صلى الله عليه وسلم؛ فهم يعطون الجزية
بالصغار؛ وروي عن ابن عباس. وهذا خلاف ما تقدم في الحديث وغيره 0 وقال القشيري:
وقد حل العقاب ببني إسرائيل مرتين على أيدي الكفار، ومرة على أيدي المسلمين. وهذا
حين عادوا فعاد الله عليهم. وعلى هذا يصح قول قتادة. « وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا » أي محبسا وسجنا، من الحصر وهو
الحبس. قال الجوهري: يقال حصره يحصره حصرا ضيق عليه وأحاط به. والحصير: الضيق
البخيل. والحصير: البارية. والحصير: الجنب، قال الأصمعي: هو ما بين العرق الذي
يظهر في جنب البعير والفرس معترضا فما فوقه إلى منقطع الجنب. والحصير: الملك؛ لأنه
محجوب. قال لبيد:
وقماقم غلب
الرقاب كأنهم جن لدى باب الحصير قيام
ويروى:
ومقامة غلب
الرقاب...
على أن
يكون ( غلب ) به لا من ( مقامة ) كأنه قال: ورب غلب الرقاب. وروي
عن أبي عبيدة:
. .. لدى
طرف الحصير قيام
أي عند طرف
البساط للنعمان بن المنذر. والحصير: المحبس؛ قال الله تعالى: « وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا » . قال القشيري: ويقال للذي يفرش
حصير؛ لحصر بعضه على بعض بالنسج. وقال الحسن: أي فراشا ومهادا؛ ذهب إلى الحصير
الذي يفرش، لأن العرب تسمي البساط الصغير حصيرا. قال الثعلبي: وهو وجه حسن.
الآيتان:
9 - 10 ( إن هذا القرآن يهدي للتي هي
أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا، وأن الذين لا
يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذابا أليما )
قوله
تعالى: « إن هذا
القرآن يهدي للتي هي أقوم » لما ذكر
المعراج ذكر ما قضى إلى بني إسرائيل، وكان ذلك دلالة على نبوة محمد صلى الله عليه
وسلم، ثم بين أن الكتاب الذي أنزله الله عليه سبب اهتداء. ومعنى « للتي هي أقوم » أي الطريقة التي هي أسد وأعدل
وأصوب؛ فـ « التي » نعت لموصوف محذوف، أي الطريقة
إلى نص أقوم. وقال الزجاج: للحال التي هي أقوم الحالات، وهي توحيد الله والإيمان
برسله. وقاله الكلبي والفراء.
قوله
تعالى: « ويبشر
المؤمنين الذين يعملون الصالحات » تقدم. « أن لهم » في موضع نصب بـ « بشر » وقال الكسائي وجماعة من
البصريين: « أن » في موضع خفض بإضمار الباء. أي
بأن لهم. « أجرا
كبيرا » أي الجنة.
« وأن
الذين لا يؤمنون بالآخرة » أي
ويبشرهم بأن لأعدائهم العقاب. والقرآن معظمه وعد ووعيد. وقرأ حمزة والكسائي « ويَبْشُر » مخففا بفتح الياء وضم الشين، وقد
ذكر.
الآية:
11 ( ويدع الإنسان بالشر دعاءه
بالخير وكان الإنسان عجولا )
قوله
تعالى: « ويدع
الإنسان بالشر » قال ابن
عباس وغيره: هو دعاء الرجل على نفسه وولده عند الضجر بما لا يحب أن يستجاب له:
اللهم أهلكه، ونحوه. « دعاءه
بالخير » أي كدعائه
ربه أن يهب له العافية؛ فلو استجاب الله دعاءه على نفسه بالشر هلك لكن بفضله لا
يستجيب له في ذلك. نظيره: « ولو يعجل
الله للناس الشر استعجالهم بالخير » [ يونس:
11 ] وقد
تقدم. وقيل: نزلت في النضر بن الحارث، كان يدعو ويقول: « اللهم إن كان هذا هو الحق من
عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم » [ الأنفال: 32 ] . وقيل: هو أن يدعو في طلب
المحظور كما يدعو في طلب المباح، قال الشاعر وهو ابن جامع:
أطوف
بالبيت فيمن يطوف وارفع من مئزري المسبل
وأسجد
بالليل حتى الصباح واتلو من المحكم المنزل
عسى فارج
الهم عن يوسف يسخر لي ربة المحمل
قال
الجوهري: يقال ما على فلان محمل مثال مجلس أي معتمد. والمحمل أيضا: واحد محامل
الحاج. والمحمل مثال المرجل: علاقة السيف. وحذفت الواو من « ويدع الإنسان » في اللفظ والحظ ولم تحذف في
المعنى لأن موضعها رفع فحذفت لاستقبالها اللام الساكنة؛ كقوله تعالى: « سندع الزبانية » [ العلق: 18 ] « ويمح الله الباطل » [ الشورى: 24 ] « وسوف يؤت الله المؤمنين » [ النساء: 146 ] « يناد المناد » [ ق: 41 ] « فما تغن النذر » [ القمر: 5 ] . « وكان الإنسان عجولا » أي طبعه العجلة، فيعجل بسؤال
الشر كما يعجل بسؤال الخير. وقيل: أشار به إلى آدم عليه السلام حين نهض قبل أن
يركب فيه الروح على الكمال. قال سلمان: أول ما خلق الله تعالى من آدم رأسه فجعل
ينظر وهو يخلق جسده، فلما كان عند العصر بقيت رجلاه لم ينفخ فيهما الروح فقال: يا
رب عجل قبل الليل؛ فذلك قوله: « وكان
الإنسان عجولا » . وقال
ابن عباس: لما انتهت النفخة إلى سرته نظر إلى جسده فذهب لينهض فلم يقدر؛ فذلك
قوله: « وكان
الإنسان عجولا » . وقال
ابن مسعود: لما دخل الروح في عينيه نظر إلى ثمار الجنة؛ فذلك حين يقول: « خلق الإنسان من عجل » ذكره البيهقي. وفي صحيح مسلم عن
أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لما صور الله تعالى آدم في
الجنة تركه ما شاء الله أن يتركه فجعل إبليس يطيف به ينظر ما هو فلما رآه أجوف عرف
أنه خلق خلقا لا يتمالك ) وقد
تقدم. وقيل: سلم عليه السلام أسيرا إلى سودة فبات يئن فسألته فقال: أنيني لشدة
القد والأسر؛ فأرخت من كتافه فلما نامت هرب؛ فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم
فقال: ( قطع
الله يديك ) فلما
أصبحت كانت تتوقع الآفة؛ فقال عليه السلام: ( إني سألت الله تعالى أن يجعل دعائي على من لا يستحق من أهلي
لأني بشر أغضب كما يغضب البشر ) ونزلت
الآية؛ ذكره القشيري أبو نصر رحمه الله. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( اللهم
إنما محمد بشر يغضب كما يغضب البشر وإني قد اتخذت عندك عهدا لن تخلفينه فأيما مؤمن
آذيته أو سببته أو جلدته فاجعلها له كفارة وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة ) . وفي الباب عن عائشة وجابر.
وقيل: معنى « وكان
الإنسان عجولا » أي يؤثر
العاجل وإن قل، على الآجل وإن جل.
الآية:
12 ( وجعلنا الليل والنهار آيتين
فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد
السنين والحساب وكل شيء فصلناه تفصيلا )
قوله
تعالى: « وجعلنا
الليل والنهار آيتين » أي
علامتين على وحدانيتنا ووجودنا وكمال علمنا وقدرتنا. والآية فيهما: إقبال كل واحد
منهما من حيث لا يعلم، وإدباره إلى حيث لا يعلم. ونقصان أحدهما بزيادة الآخر
وبالعكس آية أيضا. وكذلك ضوء النهار وظلمة الليل. وقد مضى هذا. « فمحونا آية الليل » ولم يقل: فمحونا الليل، فلما
أضاف الآية إلى الليل والنهار دل على أن الآيتين المذكورتين لهما لا هما. و « محونا » معناه طمسنا. وفي الخبر أن الله
تعالى أمر جبريل عليه السلام فأمر جناحه على وجه القمر فطمس عنه الضوء وكان كالشمس
في النور، والسواد الذي يرى في القمر من أثر المحو. قال ابن عباس: جعل الله الشمس
سبعين جزءا والقمر سبعين جزءا، فمحا من نور القمر تسعة وستين جزءا فجعله مع نور
الشمس، فالشمس على مائة وتسع وثلاثين جزءا والقمر على جزء واحد. وعنه أيضا: خلق الله
شمسين من نور عرشه، وجعل ما سبق في علمه أن يكون شمسا مثل الدنيا على قدرها ما بين
مشارقها إلى مغاربها، وجعل القمر دون الشمس؛ فأرسل جبريل عليه السلام فأمر جناحه
على وجهه ثلاث مرات وهو يومئذ شمس فطمس ضوءه وبقي نوره؛ فالسواد الذي ترونه في
القمر أثر المحو، ولو تركه شمسا لم يعرف الليل من النهار ذكر عنه الأول الثعلبي
والثاني المهدوي؛ وسيأتي مرفوعا. وقال علي رضي الله عنه وقتادة: يريد بالمحو
اللطخة السوداء التي في القمر، ليكون ضوء القمر أقل من ضوء الشمس فيتميز به الليل
من النهار. « وجعلنا
آية النهار مبصرة » أي جعلنا
شمسه مضيئة للأبصار. قال أبو عمرو بن العلاء: أي يبصر بها. قال الكسائي: وهو من
قول العرب أبصر النهار إذا أضاء، وصار بحالة يبصر بها. وقيل: هو كقولهم خبيث مخبث
إذا كان أصحابه خبثاء. ورجل مضعف إذا كانت دوابه ضعافا؛ فكذلك النهار مبصرا إذا
كان أهله بصراء. « لتبتغوا
فضلا من ربكم » يريد
التصرف في المعاش. ولم يذكر السكون في الليل اكتفاء بما ذكر في النهار. وقد قال في
موضع آخر: « هو الذي
جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا » [ يونس:
67 ] . « ولتعلموا عدد السنين والحساب » أي لو لم يفعل ذلك لما عرف الليل
من النهار، ولا كان يعرف الحساب والعدد. « وكل شيء فصلناه تفصيلا » أي من أحكام التكليف؛ وهو كقوله: « تبيانا لكل شيء » [ النحل: 89 ] « ما فرطنا في الكتاب من شيء » [ الأنعام: 38 ] . وعن ابن عباس أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: ( لما
أبرم الله خلقه فلم يبق من خلقه غير آدم خلق شمسا من نور عرشه وقمرا فكانا جميعا
شمسين فأما ما كان في سابق علم الله أن يدعها شمسا فخلقها مثل الدنيا ما بين
مشارقها ومغاربها وأما ما كان في علم الله أن يخلقها قمرا فخلقها دون الشمس في
العظم ولكن إنما يرى صغرهما من شدة ارتفاع السماء وبعدها من الأرض فلو ترك الله
الشمس والقمر كما خلقهما لم يعرف الليل من النهار ولا كان الأجير يدري إلى متى
يعمل ولا الصائم إلى متى يصوم ولا المرأة كيف تعتد ولا تدرى أوقات الصلوات والحج
ولا تحل الديون ولا حين يبذرون ويزرعون ولا متى يسكنون للراحة لأبدانهم وكأن الله
نظر إلى عباده وهو أرحم بهم من أنفسهم فأرسل جبريل فأمر جناحه على وجه القمر ثلاث
مرات وهو يومئذ شمس فطمس عنه الضوء وبقي فيه النور فذلك قوله « وجعلنا الليل والنهار آيتين » الآية.
الآيتان:
13 - 14 ( وكل
إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا، اقرأ كتابك
كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا )
قوله
تعالى: « وكل
إنسان ألزمناه طائره في عنقه » قال
الزجاج: ذكر العنق عبارة عن اللزوم كلزوم القلادة للعنق. وقال ابن عباس: « طائره » عمله وما قدر عليه من خير وشر،
وهو ملازمه أينما كان. وقال مقاتل والكلبي: خيره وشره معه لا يفارقه حتى يحاسب به.
وقال مجاهد: عمله ورزقه، وعنه: ما من مولود يولد إلا وفي عنقه ورقة فيها مكتوب شقي
أو سعيد. وقال الحسن: « ألزمناه
طائره » أي
شقاوته وسعادته وما كتب له من خير وشر وما طار له من التقدير، أي صار له عند
القسمة في الأزل. وقيل: أراد به التكليف، أي قدرناه إلزام الشرع، وهو بحيث لو أراد
أن يفعل ما أمر به وينزجر عما زجر به أمكنه ذلك. « ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا » يعني كتاب طائره الذي في عنقه.
وقرأ الحسن وأبو رجاء ومجاهد: « طيره » بغير ألف؛ ومنه ما روي في
الخبر ( اللهم لا خير إلا خيرك ولا طير إلا طيرك ولا رب غيرك ) . وقرأ ابن عباس
والحسن ومجاهد وابن محيصن وأبو جعفر ويعقوب « ويخرج » بفتح
الياء وضم الراء، على معنى ويخرج له الطائر كتابا؛ فـ « كتابا » منصوب على الحال. ويحتمل أن
يكون المعنى: ويخرج الطائر فيصير كتابا. وقرأ يحيى بن وثاب « ويخرج » بضم الياء وكسر الراء؛ وروي عن
مجاهد؛ أي يخرج الله. وقرأ شيبة ومحمد بن السميقع، وروي أيضا عن أبي جعفر: « ويخرج » بضم الياء وفتح الراء على
الفعل المجهول، ومعناه: ويخرج له الطائر كتابا. الباقون « ونخرج » بنون مضمومة وكسر الراء؛ أي
ونحن نخرج. احتج أبو عمرو في هذه القراءة بقوله « ألزمناه » . وقرأ
أبو جعفر والحسن وابن عامر « يلقاه » بضم الياء وفتح اللام وتشديد
القاف، بمعنى يؤتاه. الباقون بفتح الياء خفيفة، أي يراه منشورا. وقال « منشورا » تعجيلا للبشرى بالحسنة والتوبيخ
بالسيئة. وقال أبو السوار العدوي وقرأ هذه الآية « وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه » قال: هما نشرتان وطية؛ أما ما
حييت يا ابن آدم فصحيفتك المنشورة فأمل فيها ما شئت؛ فإذا مت طويت حتى إذا بعثت
نشرت. « اقرأ
كتابك » قال
الحسن: يقرأ الإنسان كتابه أميا كان أو غير أمي. « كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا » أي محاسبا. وقال بعض الصلحاء:
هذا كتاب، لسانك قلمه، وريقك مداده، وأعضاؤك قرطاسه، أنت كنت المملي على حفظتك، ما
زيد فيه ولا نقص منه، ومتى أنكرت منه شيئا يكون فيه الشاهد منك عليك.
الآية:
15 ( من
اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كنا
معذبين حتى نبعث رسولا )
قوله
تعالى: « من اهتدى
فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها » أي إنما كل أحد يحاسب عن نفسه لا عن غيره؛ فمن اهتدى فثواب
اهتدائه له، ومن ضل فعقاب كفره عليه. « ولا تزر وازرة وزر أخرى » تقدم في الأنعام. وقال ابن عباس: نزلت في الوليد بن
المغيرة، قال لأهل مكة: اتبعون واكفروا بمحمد وعلي أوزاركم، فنزلت هذه الآية؛ أي
إن الوليد لا يحمل آثامكم وإنما إثم كل واحد عليه. يقال: وزر يزر وزرا، ووزرة، أي
أثم. والوزر: الثقل المثقل والجمع أوزار؛ ومنه « يحملون أوزارهم على ظهورهم » [
الأنعام: 31 ] أي
أثقال ذنوبهم. وقد وزر إذا حمل فهو وازر؛ ومنه وزير السلطان الذي يحمل ثقل دولته.
والهاء في قوله كناية عن النفس، أي لا تؤخذ نفس آثمة بإثم أخرى، حتى أن الوالدة
تلقي ولدها يوم القيامة فتقول: يا بني ألم يكن حجري لك وطاء، ألم يكن ثديي لك
سقاء، ألم يكن بطني لك وعاء، فيقول: بلى يا أمه فتقول: يا بني فإن ذنوبي أثقلتني
فاحمل عني منها ذنبا واحدا فيقول: إليك عني يا أمه فإني بذنبي عنك اليوم مشغول.
مسألة:
نزعت عائشة رضي الله عنها بهذه الآية في الرد على ابن عمر حيث قال: إن الميت ليعذب
ببكاء أهله. قال علماؤنا: وإنما حملها على ذلك أنها لم تسمعه، وأنه معارض للآية.
ولا وجه لإنكارها، فإن الرواة لهذا المعنى كثير، كعمر وابنه والمغيرة بن شعبة
وقيلة بنت مخرمة، وهم جازمون بالرواية؛ فلا وجه لتخطئتهم. ولا معارضة بين الآية والحديث؛
فإن الحديث محمله على ما إذا كان النوح من وصية الميت وسنته، كما كانت الجاهلية
تفعله، حتى قال طرفة:
إذا مت
فانعيني بما أنا أهله وشقي علي الجيب يا بنت معبد
وقال:
إلى
الحول ثم اسم السلام عليكما ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر
وإلى هذا
نحا البخاري. وقد ذهب جماعة من أهل العلم منهم داود إلى اعتقاد ظاهر الحديث، وأنه
إنما يعذب بنوحهم؛ لأنه أهمل نهيهم عنه قبل موته وتأديبهم بذلك، فيعذب بتفريطه في
ذلك؛ وبترك ما أمره الله به من قوله: « قوا أنفسكم وأهليكم نارا » [
التحريم: 6 ] لا
بذنب غيره، والله أعلم.
قوله
تعالى: « وما كنا
معذبين حتى نبعث رسولا » أي لم
نترك الخلق سدى، بل أرسلنا الرسل. وفي هذا دليل على أن الأحكام لا تثبت إلا
بالشرع، خلافا للمعتزلة القائلين بأن العقل يقبح ويحسن ويبيح ويحظر. وقد تقدم في
البقرة القول فيه. والجمهور على أن هذا في حكم الدنيا؛ أي أن الله لا يهلك أمة
بعذاب إلا بعد الرسالة إليهم والإنذار. وقالت فرقة: هذا عام في الدنيا والآخرة،
لقوله تعالى: « كلما
ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا » [ الملك: 8 ] . قال ابن عطية: والذي يعطيه
النظر أن بعثه آدم عليه السلام بالتوحيد وبث المعتقدات في بنيه مع نصب الأدلة
الدالة على الصانع مع سلامة الفطر توجب على كل أحد من العالم الإيمان واتباع شريعة
الله، ثم تجدد ذلك في زمن نوح عليه السلام بعد غرق الكفار. وهذه الآية أيضا يعطي
احتمال ألفاظها نحو هذا في الذين لم تصلهم رسالة، وهم أهل الفترات الذين قد قدر
وجودهم بعض أهل العلم. وأما ما روي من أن الله تعالى يبعث إليهم يوم القيامة وإلى
المجانين والأطفال فحديث لم يصح، ولا يقتضي ما تعطيه الشريعة من أن الآخرة ليست
دار تكليف. قال المهدوي: وروي عن أبي هريرة أن الله عز وجل يبعث يوم القيامة رسولا
إلى أهل الفطرة والأبكم والأخرس والأصم؛ فيطيعه منهم من كان يريد أن يطيعه في
الدنيا، وتلا الآية؛ رواه معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن أبي هريرة، ذكره النحاس.
قلت: هذا
موقوف، وسيأتي مرفوعا في آخر سورة [ طه ] إن شاء
الله تعالى؛ ولا يصح. وقد استدل قوم في أن أهل الجزائر إذا سمعوا بالإسلام وآمنوا
فلا تكليف عليهم فيما مضى؛ وهذا صحيح، ومن لم تبلغه الدعوة فهو غير مستحق للعذاب
من جهة العقل، والله أعلم.
الآية:
16 ( وإذا
أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا )
أخبر
الله تعالى في الآية التي قبل أنه لم يهلك القرى قبل ابتعاث الرسل، لا لأنه يقبح
منه ذلك إن فعل، ولكنه وعد منه، ولا خلف في وعده. فإذا أراد إهلاك قرية مع تحقيق
وعده على ما قاله تعالى أمر مترفيها بالفسق والظلم فيها فحق عليها القول بالتدمير.
يعلمك أن من هلك هلك بإرادته، فهو الذي يسبب الأسباب ويسوقها إلى غاياتها ليحق
القول السابق من الله تعالى.
« أمرنا » قرأ أبو عثمان النهدي وأبو
رجاء وأبو العالية، والربيع ومجاهد والحسن « أمرنا »
بالتشديد، وهي قراءة علي رضي الله عنه؛ أي سلطنا شرارها فعصوا فيها، فإذا فعلوا
ذلك أهلكناهم. وقال أبو عثمان النهدي « أمرنا » بتشديد
الميم، جعلناهم أمراء مسلطين؛ وقاله ابن عزيز. وتأمر عليهم تسلط عليهم. وقرأ الحسن
أيضا وقتادة وأبو حيوة الشامي ويعقوب وخارجة عن نافع وحماد بن سلمة عن ابن كثير
وعلى وابن عباس باختلاف عنهما « آمرنا » بالمد والتخفيف، أي أكثرنا جبابرتها
وأمراءها؛ قاله الكسائي. وقال أبو عبيدة: آمرته بالمد وأمرته، لغتان بمعنى كثرته؛
ومنه الحديث ( خير المال مهرة مأمورة أو سكة مأبورة ) أي كثيرة النتاج والنسل.
وكذلك قال ابن عزيز: آمرنا وأمرنا بمعنى واحد؛ أي أكثرنا. وعن الحسن أيضا ويحيى بن
يعمر « أمرنا » بالقصر وكسر الميم على فعلنا،
ورويت عن ابن عباس. قال قتادة والحسن: المعنى أكثرنا؛ وحكى نحوه أبو زيد وأبو
عبيد، وأنكره الكسائي وقال: لا يقال من الكثرة إلا آمرنا بالمد؛ قال وأصلها « أأمرنا » فخفف، حكاه المهدوي. وفي
الصحاح: وقال أبو الحسن أمر ماله بالكسر أي كثر. وأمر القوم أي كثروا؛ قال الشاعر:
أمرون لا
يرثون سهم القعدد
وآمر
الله ماله: بالمد: الثعلبي: ويقال للشيء الكثير أمر، والفعل منه: أمر القوم يأمرون
أمرا إذا كثروا. قال ابن مسعود: كنا نقول في الجاهلية للحي إذا كثروا: أمر أمر بني
فلان؛ قال لبيد:
كل بني
حرة مصيرهم قل وإن أكثرت من العدد
إن
يغبطوا يهبطوا وإن أمروا يوما يصيروا للهلك والنكد
قلت: وفي
حديث هرقل الحديث الصحيح: ( لقد أمِر أمْرُ ابن أبي كبشة، إنه ليخافه ملك بني
الأصفر ) أي كثر. وكله غير متعد ولذلك أنكره الكسائي، والله اعلم. قال المهدوي:
ومن قرأ « أمر » فهي لغة، ووجه تعدية « أمر » أنه شبهه بعمر من حيث كانت
الكثرة أقرب شيء إلى العمارة، فعدي كما عدي عمر. الباقون « أمرنا » من الأمر؛ أي أمرناهم بالطاعة
إعذارا وإنذارا وتخويفا ووعيدا. « ففسقوا
فيها » أي
فخرجوا عن الطاعة عاصين لنا. « فحق
عليها القول » فوجب،
عليها الوعيد؛ عن ابن عباس. وقيل: « أمرنا » جعلناهم
أمراء؛ لأن العرب تقول: أمير غير مأمور، أي غير مؤمر. وقيل: معناه بعثنا
مستكبريها. قال هارون: وهي قراءة أُبَي « بعثنا أكابر مجرميها ففسقوا » ذكره الماوردي. وحكى النحاس:
وقال هارون في قراءة أبي « وإذا
أردنا أن نهلك قرية بعثنا فيها أكابر مجرميها فمكروا فيها فحق عليها القول » . ويجوز أن يكون « أمرنا » بمعنى أكثرنا؛ ومنه ( خير
المال مهرة مأمورة ) على ما تقدم. وقال قوم: مأمورة اتباع لمأبورة؛ كالغدايا
والعشايا. وكقوله: ( ارجعن مأزورات غير مأجورات ) . وعلى هذا لا يقال: أمرهم الله،
بمعنى كثرهم، بل يقال: آمره وأمره. واختار أبو عبيد وأبو حاتم قراءة العامة. قال
أبو عبيد: وإنما اخترنا « أمرنا » لأن المعاني الثلاثة تجتمع
فيها من الأمر والإمارة والكثرة. والمترف: المنعم؛ وخصوا بالأمر لأن غيرهم تبع
لهم.
قوله
تعالى: « فدمرناها
» أي
استأصلناها بالهلاك. « تدميرا » وذكر المصدر للمبالغة في
العذاب الواقع بهم. وفي الصحيح من حديث بنت جحش زوج النبي صلى الله عليه وسلم
قالت: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فزعا محمرا وجهه يقول: ( لا إله إلا
الله ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه ) وحلق
بإصبعه الإبهام والتي تليها. قالت: فقلت يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال:
( نعم إذا كثر الخبث ) . وقد تقدم الكلام في هذا الباب، وأن المعاصي إذا ظهرت ولم
تغير كانت سببا لهلاك الجميع؛ والله اعلم.
الآية:
17 ( وكم
أهلكنا من القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا )
قوله
تعالى: « وكم
أهلكنا من القرون من بعد نوح » أي كم
من قوم كفروا حل بهم البوار. يخوف كفار مكة، وقد تقدم. « وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا
بصيرا » « خبيرا » عليما بهم. « بصيرا » يبصر أعمالهم؛ وقد تقدم.
الآيتان:
18 - 19 ( من كان يريد العاجلة عجلنا له
فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا، ومن أراد الآخرة
وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا )
قوله
تعالى: « من كان
يريد العاجلة » يعني
الدنيا، والمراد الدار العاجلة؛ فعبر بالنعت عن المنعوت. « عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد
» أي لم
نعطه منها إلا ما نشاء ثم نؤاخذه بعمله، وعاقبته دخول النار. « مذموما مدحورا » أي مطردا مبعدا من رحمة الله.
وهذه صفة المنافقين الفاسقين، والمرائين المداجين، يلبسون الإسلام والطاعة لينالوا
عاجل الدنيا من الغنائم وغيرها، فلا يقبل ذلك العمل منهم في الآخرة ولا يعطون في
الدنيا إلا ما قسم لهم. وقد تقدم في « هود » أن هذه
الآية تقيد الآيات المطلقة؛ فتأمله. « ومن أراد الآخرة » أي الدار الآخرة. « وسعى لها سعيها » أي عمل لها عملها من الطاعات. « وهو مؤمن » لأن الطاعات لا تقبل إلا من
مؤمن. « فأولئك
كان سعيهم مشكورا » أي مقبولا
غير مردود. وقيل: مضاعفا؛ أي تضاعف لهم الحسنات إلى عشر، وإلى سبعين وإلى سبعمائة
ضعف، وإلى أضعاف كثيرة؛ كما روي عن أبي هريرة وقد قيل له: أسمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول: ( إن الله
ليجزي على الحسنة الواحدة ألف ألف حسنة ) ؟ فقال سمعته يقول: ( إن الله ليجزي على الحسنة الواحدة ألفي ألف حسنة ) .
الآيات:
20 - 22 ( كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء
ربك وما كان عطاء ربك محظورا، انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات
وأكبر تفضيلا، لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا )
قوله
تعالى: « كلا نمد
هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك » اعلم أنه
يرزق المؤمنين والكافرين. « وما كان
عطاء ربك محظورا » أي محبوسا
ممنوعا؛ من حظر يحظر حظرا وحظارا. ثم قال تعالى: « انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض » في الرزق والعمل؛ فمن مقل ومكثر.
« وللآخرة
أكبر درجات وأكبر تفضيلا » أي
للمؤمنين؛ فالكافر وإن وسع عليه في الدنيا مرة، وقتر على المؤمن مرة فالآخرة لا
تقسم إلا مرة واحدة بأعمالهم؛ فمن فاته شيء منها لم يستدركه فيها. وقوله: « لا تجعل مع الله إلها آخر » الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم
والمراد أمته. وقيل: الخطاب للإنسان. « فتقعد » أي تبقى. « مذموما مخذولا » لا ناصر لك ولا وليا.
الآيتان:
23 - 24 ( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه
وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا
تنهرهما وقل لهما قولا كريما، واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما
ربياني صغيرا )
قوله
تعالى: « وقضى » أي أمر وألزم وأوجب. قال ابن
عباس والحسن وقتادة: وليس هذا قضاء حكم بل هو قضاء أمر. وفي مصحف ابن مسعود « ووصى » وهي قراءة أصحابه وقراءة ابن
عباس أيضا وعلي وغيرهما، وكذلك عند أبي بن كعب. قال ابن عباس: إنما هو « ووصى ربك » فالتصقت إحدى الواوين فقرئت « وقضى ربك » إذ لو كان على القضاء ما عصى
الله أحد. وقال الضحاك: تصحفت على قوم « وصى بقضي » حين
اختلطت الواو بالصاد وقت كتب المصحف. وذكر أبو حاتم عن ابن عباس مثل قول الضحاك.
وقال عن ميمون بن مهران أنه قال: إن على قول ابن عباس لنورا؛ قال الله تعالى: « شرع لكم من الدين ما وصى به
نوحا والذي أوحينا إليك » [ الشورى: 13 ] ثم أبى أبو حاتم أن يكون ابن
عباس قال ذلك. وقال: لو قلنا هذا لطعن الزنادقة في مصحفنا، ثم قال علماؤنا
المتكلمون وغيرهم: القضاء يستعمل في اللغة على وجوه: فالقضاء بمعنى الأمر؛ كقوله
تعالى: « وقضى ربك
ألا تعبدوا إلا إياه » معناه
أمر. والقضاء بمعنى الخلق؛ كقوله: « فقضاهن سبع سماوات في يومين » [ فصلت: 12 ] يعني خلقهن. والقضاء بمعنى
الحكم؛ كقوله تعالى: « فاقض ما
أنت قاض » يعني احكم
ما أنت تحكم. والقضاء بمعنى الفراغ؛ كقوله: « قضى الأمر الذي فيه تستفتيان » [ يوسف: 41 ] أي فرغ منه؛ ومنه قوله تعالى « فإذا قضيتم مناسككم » [ البقرة: 200 ] . وقوله تعالى: « فإذا قضيت الصلاة » . والقضاء بمعنى الإرادة؛ كقوله
تعالى: « إذا قضى
أمرا فإنما يقول له كن فيكون » [ آل عمران: 47 ] . والقضاء بمعنى العهد؛ كقوله
تعالى: « وما كنت
بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر » [
القصص: 44 ] .
فإذا كان
القضاء يحتمل هذه المعاني فلا يجوز إطلاق القول بأن المعاصي بقضاء الله؛ لأنه إن
أريد به الأمر فلا خلاف أنه لا يجوز ذلك، لأن الله تعالى لم يأمر بها، فإنه لا
يأمر بالفحشاء. وقال زكريا بن سلام: جاء رجل إلى الحسن فقال إنه طلق امرأته ثلاثا.
فقال: إنك قد عصيت ربك وبانت منك. فقال الرجل: قضى الله ذلك علي فقال الحسن وكان
فصيحا: ما قضى الله ذلك أي ما أمر الله به، وقرأ هذه الآية: « وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه » .
أمر الله
سبحانه بعبادته وتوحيده، وجعل بر الوالدين مقرونا بذلك، كما قرن شكرهما بشكره
فقال: « وقضى ربك
ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا » . وقال: « أن اشكر
لي ولوالديك إلي المصير » [ لقمان: 14 ] . وفي صحيح البخاري عن عبدالله
قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي العمل أحب إلى الله عز وجل؟ قال: ( الصلاة على وقتها ) قال: ثم أي؟ قال: ( ثم بر الوالدين ) قال ثم أي؟ قال: ( الجهاد في سبيل الله ) فأخبر صلى الله عليه وسلم أن بر
الوالدين أفضل الأعمال بعد الصلاة التي هي أعظم دعائم الإسلام. ورتب ذلك بـ ( ثم ) التي تعطي الترتيب والمهلة.
من البر
بهما والإحسان إليهما ألا يتعرض لسبهما ولا يعقهما؛ فإن ذلك من الكبائر بلا خلاف،
وبذلك وردت السنة الثابتة؛ ففي صحيح مسلم عن عبدالله بن عمرو أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال: ( إن من
الكبائر شتم الرجل والديه ) قالوا:
يا رسول الله، وهل يشتم الرجل والديه؟ قال ( نعم. يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه ) .
عقوق
الوالدين مخالفتهما في أغراضهما الجائزة لهما؛ كما أن برهما موافقتهما على
أغراضهما. وعلى هذا إذا أمرا أو أحدهما ولدهما بأمر وجبت طاعتهما فيه، إذا لم يكن
ذلك الأمر معصية، وإن كان ذلك المأمور به من قبيل المباح في أصله، وكذلك إذا كان
من قبيل المندوب. وقد ذهب بعض الناس إلى أن أمرهما بالمباح يصيره في حق الولد
مندوبا إليه وأمرهما بالمندوب يزيده تأكيدا في ندبيته.
روى
الترمذي عن عمر قال: كانت تحتي امرأة أحبها، وكان أبي يكرهها فأمرني أن أطلقها
فأبيت، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: ( يا عبدالله بن عمر طلق امرأتك ) . قال هذا حديث حسن صحيح.
روى الصحيح
عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من أحق الناس بحسن
صحابتي؟ قال: ( أمك ) قال: ثم من؟ قال: ( ثم أمك ) قال: ثم من؟ قال: ( ثم أمك ) قال: ثم من؟ قال: ( ثم أبوك ) . فهذا الحديث يدل على أن محبة
الأم والشفقة عليها ينبغي أن تكون ثلاثة أمثال محبة الأب؛ لذكر النبي صلى الله
عليه وسلم الأم ثلاث مرات وذكر الأب في الرابعة فقط. وإذا توصل هذا المعنى شهد له
العيان. وذلك أن صعوبة الحمل وصعوبة الوضع وصعوبة الرضاع والتربية تنفرد بها الأم
دون الأب؛ فهذه ثلاث منازل يخلو منها الأب. وروي عن مالك أن رجلا قال له: إن أبي
في بلد السودان، وقد كتب إلي أن أقدم عليه، وأمي تمنعني من ذلك؛ فقال: أطع أباك،
ولا تعص أمك. فدل قول مالك هذا أن برهما متساو عنده. وقد سئل الليث عن هذه المسألة
فأمره بطاعة الأم؛ وزعم أن لها ثلثي البر. وحديث أبي هريرة يدل على أن لها ثلاثة
أرباع البر؛ وهو الحجة على من خالف. وقد زعم المحاسبي في ( كتاب الرعاية ) له أنه لا خلاف بين العلماء أن
للأم ثلاثة أرباع البر وللأب الربع؛ على مقتضى حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والله
اعلم.
لا يختص بر
الوالدين بأن يكونا مسلمين، بل إن كانا كافرين يبرهما ويحسن إليهما إذا كان لهما
عهد؛ قال الله تعالى: « لا
ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم » [ الممتحنة: 8 ] . وفي صحيح البخاري عن أسماء
قالت: قدمت أمي وهي مشركة في عهد قريش ومدتهم إذ عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم
مع أبيها، فاستفتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: إن أمي قدمت وهي راغبة
أفأصلها؟ قال: ( نعم صلي
أمك ) . وروي
أيضا عن أسماء قالت: أتتني أمي راغبة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فسأل النبي
صلى الله عليه وسلم أأصلها؟ قال: ( نعم ) . قال
ابن عينية: فأنزل الله عز وجل فيها: « لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين » [ الممتحنة: 8 ] الأول معلق والثاني مسند.
من الإحسان
إليهما والبر بهما إذا لم يتعين الجهاد ألا يجاهد إلا بإذنهما. روى الصحيح عن
عبدالله بن عمرو قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الجهاد
فقال: ( أحي
والداك ) ؟ قال
نعم. قال: ( ففيهما
فجاهد ) . لفظ
مسلم. في غير الصحيح قال: نعم؛ وتركتهما يبكيان. قال: ( اذهب فأضحكهما كما أبكيتهما ) . وفي خبر آخر أنه قال: ( نومك مع أبويك على فراشهما
يضاحكانك ويلاعبانك أفضل لك من الجهاد معي ) . ذكره ابن خويز منداد. ولفظ البخاري في كتاب بر الوالدين:
أخبرنا أبو نعيم أخبرنا سفيان عن عطاء بن السائب عن أبيه عن عبدالله بن عمرو قال:
جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يبايعه على الهجرة، وترك أبويه يبكيان فقال:
( ارجع
إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما ) . قال
ابن المنذر: في هذا الحديث النهي عن الخروج بغير إذن الأبوين ما لم يقع النفير؛
فإذا وقع وجب الخروج على الجميع. وذلك بين في حديث أبي قتادة أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم بعث جيش الأمراء...؛ فذكر قصة زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وابن
رواحة وأن منادي وسول الله صلى الله عليه وسلم نادى بعد ذلك: أن الصلاة جامعة؛
فاجتمع الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ( أيها الناس، اخرجوا فأمدوا إخوانكم ولا يتخلفن أحد ) فخرج الناس مشاة وركبانا في حر
شديد. فدل قوله: ( اخرجوا
فأمدوا إخوانكم ) أن العذر
في التخلف عن الجهاد إنما هو ما لم يقع النفير؛ مع قوله عليه السلام: ( فإذا استنفرتم فانفروا ) .
قلت: وفي
هذه الأحاديث دليل على أن المفروض أو المندوبات متى اجتمعت قدم الأهم منها. وقد
استوفى هذا المعنى المحاسبي في كتاب الرعاية.
واختلفوا
في الوالدين المشركين هل يخرج بإذنهما إذا كان الجهاد من فروض الكفاية؛ فكان
الثوري يقول: لا يغزو إلا بإذنهما. وقال الشافعي: له أن يغزو بغير إذنهما. قال ابن
المنذر: والأجداد آباء، والجدات أمهات فلا يغزو المرء إلا بإذنهم، ولا أعلم دلالة
توجب ذلك لغيرهم من الأخوة وسائر القرابات. وكان طاوس يرى السعي على الأخوات أفضل
من الجهاد في سبيل الله عز وجل.
من تمام
برهما صلة أهل ودهما؛ ففي الصحيح عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول: ( إن من
أبر صلة الرجل أهل ود أبيه بعد أن يولي ) . وروى أبو أسيد وكان بدريا قال: كنت مع النبي صلى الله عليه
وسلم جالسا فجاءه رجل من الأنصار فقال: يا رسول الله، هل بقي من بر والدي من بعد
موتهما شيء أبرهما به؟ قال: ( نعم.
الصلاة عليهما والاستغفار لهما وإنفاذ عهدهما بعدهما وإكرام صديقهما وصلة الرحم
التي لا رحم لك إلا من قبلهما فهذا الذي بقي عليك ) . وكان صلى الله عليه وسلم يهدي لصدائق خديجة برا بها ووفاء
لها وهي زوجته، فما ظنك بالوالدين.
قوله
تعالى: « إما
يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما » خص حالة الكبر لأنها الحالة التي يحتاجان فيها إلى بره لتغير
الحال عليهما بالضعف والكبر؛ فألزم في هذه الحالة من مراعاة أحوالهما أكثر مما
ألزمه من قبل، لأنهما في هذه الحالة قد صارا كلا عليه، فيحتاجان أن يلي منهما في
الكبر ما كان يحتاج في صغره أن يليا منه؛ فلذلك خص هذه الحالة بالذكر. وأيضا فطول
المكث للمرء يوجب الاستثقال للمرء عادة ويحصل الملل ويكثر الضجر فيظهر غضبه على
أبويه وتنتفخ لهما أوداجه، ويستطيل عليهما بدالة البنوة وقلة الديانة، وأقل
المكروه ما يظهره بتنفسه المتردد من الضجر. وقد أمر أن يقابلهما بالقول الموصوف
بالكرامة، وهو السالم عن كل عيب فقال: « فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما » . روى مسلم عن أبي هريرة قال قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( رغم
أنفه رغم أنفه رغم أنفه ) قيل: من
يا رسول الله؟ قال: ( من أدرك
والديه عند الكبر أحدهما أو كليهما ثم لم يدخل الجنة ) . وقال البخاري في كتاب
الوالدين: حدثنا مسدد حدثنا بشر بن المفضل حدثنا عبدالرحمن بن إسحاق عن أبي سعيد
المقبري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل
علي. رغم أنف رجل أدرك أبويه عند الكبر أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة. ورغم أنف رجل
دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له ) . حدثنا ابن أبي أويس حدثنا أخي عن سليمان بن بلال عن محمد
بن هلال عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة السالمي عن أبيه رضي الله عنه قال: إن كعب
بن عجرة رضي الله عنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أحضروا المنبر ) فلما خرج رقي إلى المنبر، فرقي
في أول درجة منه قال آمين ثم رقي في الثانية فقال آمين ثم لما رقى في الثالثة قال
آمين، فلما فرغ ونزل من المنبر قلنا: يا رسول الله، لقد سمعنا منك اليوم شيئا ما
كنا نسمعه منك؟ قال: (
وسمعتموه ) ؟ قلنا
نعم. قال: ( إن
جبريل عليه السلام اعترض فال: بعد من أدرك رمضان فلم يغفر له فقلت آمين فلما رقيت
في الثانية قال بعد من ذكرت عنده فلم يصل عليك فقلت آمين فلما رقيت في الثالثة قال
بعد من أدرك عنده أبواه الكبر أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة قلت آمين ) . حدثنا أبو نعيم حدثنا سلمة بن
وردان سمعت أنسا رضي الله عنه يقول: ارتقى رسول الله صلى الله عليه وسلم على
المنبر درجة فقال آمين ثم ارتقى درجة فقال آمين ثم ارتقى الدرجة الثالثة فقال
آمين، ثم استوى وجلس فقال أصحابه: يا رسول الله، علام أمنت؟ قال: ( أتاني جبريل عليه السلام فقال
رغم أنف من ذكرت عنده فلم يصل عليك فقلت آمين ورغم أنف من أدرك أبويه أو أحدهما
فلم يدخل الجنة فقلت آمين ) الحديث.
فالسعيد الذي يبادر اغتنام فرصة برهما لئلا تفوته بموتهما فيندم على ذلك. والشقي
من عقهما، لا سيما من بلغه الأمر ببرهما.
قوله
تعالى: « فلا تقل
لهما أف » أي لا تقل
لهما ما يكون فيه أدنى تبرم. وعن أبي رجاء العطاردي قال: الأف الكلام القذع الرديء
الخفي. وقال مجاهد: معناه إذا رأيت منهما في حال الشيخ الغائط والبول الذي رأياه
منك في الصغر فلا تقذرهما وتقول أف. والآية أعم من هذا. والأف والتف وسخ الأظفار.
ويقال لكل ما يضجر ويستثقل: أف له. قال الأزهري: والتف أيضا الشيء الحقير. وقرئ « أف » منون مخفوض؛ كما تخفض الأصوات
وتنون، تقول: صه ومه. وفيه عشر لغات: أف، وإف، وأف، وأفا وأف، وأفه، وإف لك ( بكسر الهمزة ) ، وأف ( بضم الهمزة وتسكين الفاء ) ، وأفا ( مخففة الفاء ) . وفي الحديث: ( فألقى طرف ثوبه على أنفه ثم
قال أف أف ) . قال
أبو بكر: معناه استقذار لما شم. وقال بعضهم: معنى أف الاحتقار والاستقلال؛ أخذ من
الأف وهو القليل. وقال القتبي: أصله نفخك الشيء يسقط عليك من رماد وتراب وغير ذلك،
وللمكان تريد إماطة شيء لتقعد فيه؛ فقيلت هذه الكلمة لكل مستثقل. وقال أبو عمرو بن
العلاء: الأف وسخ بين الأظفار، والتف قلامتها. وقال الزجاج: معنى أف النتن. وقال
الأصمعي: الأف وسخ الأذن، والتف وسخ الأظفار؛ فكثر استعماله حتى ذكر في كل ما
يتأذى به. وروي من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: ( لو علم
الله من العقوق شيئا أردا من « أف » لذكره فليعمل البار ما شاء أن
يعمل فلن يدخل النار. وليعمل العاق ما شاء أن يعمل فلن يدخل الجنة ) . قال علماؤنا: وإنما صارت قولة
« أف » للأبوين أردأ شيء لأنه رفضهما
رفض كفر النعمة، وجحد التربية ورد الوصية التي أوصاه في التنزيل. و « أف » كلمة مقولة لكل شيء مرفوض؛ ولذلك
قال إبراهيم لقومه: « أف لكم
ولما تعبدون من دون الله » [ الأنبياء: 67 ] أي رفض لكم ولهذه الأصنام معكم.
قوله
تعالى: « ولا
تنهرهما » النهر:
الزجر والغلظة. « وقل لهما
قولا كريما » أي لينا
لطيفا، مثل: يا أبتاه ويا أماه، من غير أن يسميهما ويكنيهما؛ قال عطاء. وقال ابن
البداح التجيبي: قلت لسعيد بن المسيب كل ما في القرآن من بر الوالدين قد عرفته إلا
قوله: « وقل لهما
قولا كريما » ما هذا
القول الكريم؟ قال ابن المسيب: قول العبد المذنب السيد الفظ الغليظ.
قوله
تعالى: « واخفض
لهما جناح الذل من الرحمة » هذه
استعارة في الشفقة والرحمة بهما والتذلل لهما تذلل الرعية للأمير والعبيد للسادة؛
كما أشار إليه سعيد بن المسيب. وضرب خفض الجناح ونصبه مثلا لجناح الطائر حين ينتصب
بجناحه لولده. والذل: هو اللين. وقراءة الجمهور بضم الذال، من ذل يذل ذلا وذلة
ومذلة فهو ذال وذليل. وقرأ سعيد بن جبير وابن عباس وعروة بن الزبير « الذل » بكسر الذال، ورويت عن عاصم؛ من
قولهم: دابة ذلول بينة الذل. والذل في الدواب المنقاد السهل دون الصعب. فينبغي
بحكم هذه الآية أن يجعل الإنسان نفسه مع أبويه في خير ذلة، في أقواله وسكناته
ونظره، ولا يحد إليهما بصره فإن تلك هي نظرة الغاضب.
الخطاب في
هذه الآية للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به أمته؛ إذ لم يكن له عليه السلام في
ذلك الوقت أبوان. ولم يذكر الذل في قوله تعالى: « واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين » [ الشعراء: 215 ] وذكره هنا بحسب عظم الحق
وتأكيده. و « من » في قوله: « من الرحمة » لبيان الجنس، أي إن هذا الخفض
يكون من الرحمة المستكنة في النفس، لا بأن يكون ذلك استعمالا. ويصح أن يكون
لانتهاء الغاية،
قوله
تعالى: « وقل رب
ارحمهما » أمر تعالى
عباده بالترحم على آبائهم والدعاء لهم، وأن ترحهما كما رحماك وترفق بهما كما رفقا
بك؛ إذ ولياك صغيرا جاهلا محتاجا فآثراك على أنفسهما، وأسهرا ليلهما، وجاعا
وأشبعاك، وتعريا وكسواك، فلا تجزيهما إلا أن يبلغا من الكبر الحد الذي كنت فيه من
الصغر، فتلي منهما ما وليا منك، ويكون لهما حينئذ فضل التقدم. قال صلى الله عليه
وسلم: ( لا يجزي
ولد والدا إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه ) . وسيأتي في سورة [ مريم ] الكلام
على هذا الحديث. والآية « وقل رب
أرحمهما » نزلت في
سعد بن أبي وقاص، فإنه أسلم، فألقت أمه نفسها في الرمضاء متجردة، فذكر ذلك لسعد
فقال: لتمت، فنزلت الآية
قوله
تعالى: « كما
ربياني » خص
التربية بالذكر ليتذكر العبد شفقة الأبوين وتبعهما في التربية، فيزيده ذلك إشفاقا
لهما وحنانا عليهما، وهذا كله في الأبوين المؤمنين. وقد نهى القرآن عن الاستغفار
للمشركين الأموات ولو كانوا أولي قربى، كما تقدم. وذكر عن ابن عباس وقتادة أن هذا
كله منسوخ بقوله: « ما كان
للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين - إلى قوله - أصحاب الجحيم » [ التوبة: 113 ] فإذا كان والدا المسلم ذميين
استعمل معهما ما أمره الله به هاهنا؛ إلا الترحم لهما بعد موتهما على الكفر؛ لأن
هذا وحده نسخ بالآية المذكورة. وقيل: ليس هذا موضع نسخ، فهو دعاء بالرحمة الدنيوية
للأبوين المشركين ما داما حيين، كما تقدم. أو يكون عموم هذه الآية خص بتلك، لا
رحمة الآخرة، لا سيما وقد قيل إن قوله: « وقل رب أرحمهما » نزلت في سعد بن أبي وقاص، فإنه أسلم، فألقت أمه نفسها في
الرمضاء متجردة، فذكر ذلك لسعد فعال: لتمت، فنزلت الآية. وقيل: الآية خاصة في
الدعاء للأبوين المسلمين. والصواب أن ذلك عموم كما ذكرنا، وقال ابن عباس قال النبي
صلى الله عليه وسلم: ( من أمسى
مرضيا لوالديه وأصبح أمسى وأصبح وله بابان مفتوحان من الجنة وإن واحدا فواحدا. ومن
أمسى وأصبح مسخطا لوالديه أمسى وأصبح وله بابان مفتوحان إلى النار وإن واحدا
فواحدا ) فقال
رجل: يا رسول الله، وإن ظلماه؟ قال: ( وإن ظلماه وإن ظلماه وإن ظلماه ) . وقد روينا بالإسناد المتصل عن
جابر بن عبدالله رضي الله تعالى عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم
فقال: يا رسول الله، إن أبي أخذ مالي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم للرجل: ( فأتني بأبيك ) فنزل جبريل عليه السلام على
النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ( إن الله
عز وجل يقرئك السلام ويقول لك إذا جاءك الشيخ فاسأله عن شيء قاله في نفسه ما سمعته
أذناه ) فلما جاء
الشيخ قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما بال ابنك يشكوك أتريد أن تأخذ ماله ) ؟ فقال: سله يا رسول الله، هل
أنفقه إلا على إحدى عماته أو خالاته أو على نفسي! فقال له رسول الله صلى الله عليه
وسلم: ( إيه،
دعنا من هذا أخبرني عن شيء قلته في نفسك ما سمعته أذناك ) ؟ فقال الشيخ: والله يا رسول
الله، ما زال الله عز وجل يزيدنا بك يقينا، لقد قلت في نفسي شيئا ما سمعته أذناي.
قال: ( قل وأنا
أسمع ) قال قلت:
غذوتك
مولودا ومنتك يافعا تعل بما أجني عليك وتنهل
إذا ليلة
ضافتك بالسقم لم أبت لسقمك إلا ساهرا أتململ
كأني أنا
المطروق دونك بالذي طرقت به دوني فعيني تهمل
تخاف الردى
نفسي عليك وإنها لتعلم أن الموت وقت مؤجل
فلما بلغت
السن والغاية التي إليها مدى ما كنت فيك أؤمل
جعلت جزائي
غلظة وفظاظة كأنك أنت المنعم المتفضل
فليتك إذ
لم ترع حق أبوتي فعلت كما الجار المصاقب يفعل
فأوليتني
حق الجوار ولم تكن علي بمال دون مالك تبخل
قال:
فحينئذ أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بتلابيب ابنه وقال: ( أنت ومالك لأبيك ) . قال الطبراني: اللخمي لا يروى
- يعني هذا الحديث - عن ابن المنكدر بهذا التمام والشعر إلا بهذا الإسناد؛ وتفرد
به عبيدالله بن خلصة. والله اعلم.
الآية:
25 ( ربكم أعلم بما في نفوسكم إن
تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفورا )
قوله
تعالى: « ربكم
أعلم بما في نفوسكم » أي من
اعتقاد الرحمة بهما والحنو عليهما، أو من غير ذلك من العقوق، أو من جعل ظاهر برهما
رياء. وقال ابن جبير: يريد البادرة التي تبدر، كالفلتة والزلة، تكون من الرجل إلى
أبويه أو أحدهما، لا يريد بذلك بأسا؛ قال الله تعالى: « إن تكونوا صالحين » أي صادقين في نية البر بالوالدين
فإن الله يغفر البادرة. وقوله: « فإنه كان
للأوابين غفورا » وعد
بالغفران مع شرط الصلاح والأوبة بعد الأوبة إلى طاعة الله سبحانه وتعالى. قال سعيد
بن المسيب: هو العبد يتوب ثم يذنب ثم يتوب ثم يذنب. وقال ابن عباس رضي الله عنه:
الأواب: الحفيظ الذي إذا ذكر خطاياه استغفر منها. وقال عبيد بن عمير: هم الذين
يذكرون ذنوبهم في الخلاء ثم يستغفرون الله عز وجل. وهذه الأقوال متقاربة. وقال عون
العقيلي: الأوابون هم الذين يصلون صلاة الضحى. وفي الصحيح: ( صلاة الأوابين حين ترمض الفصال
) . وحقيقة
اللفظ من آب يؤوب إذا رجع.
الآيتان:
26 - 27 ( وآت ذا القربى حقه والمسكين
وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا، إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه
كفورا )
قوله
تعالى: « وآت ذا
القربى حقه » أي كما
راعيت حق الوالدين فصل الرحم، ثم تصدق على المسكين وابن السبيل. وقال علي بن
الحسين في قوله تعالى: « وآت ذا
القربى حقه » : هم
قرابة النبي صلى الله عليه وسلم، أمر صلى الله عليه وسلم بإعطائهم حقوقهم من بيت المال،
أي من سهم ذوي القربى من الغزو والغنيمة، ويكون خطابا للولاة أو من قام مقامهم.
والحق في هذه الآية ما يتعين من صلة الرحم، وسد الخلة، والمواساة عند الحاجة
بالمال، والمعونة بكل وجه.
قوله
تعالى: « ولا تبذر
» أي لا
تسرف في الإنفاق في غير حق. قال الشافعي رضي الله عنه: والتبذير إنفاق المال في
غير حقه، ولا تبذير في عمل الخير. وهذا قول الجمهور. وقال أشهب عن مالك: التبذير
هو أخذ المال من حقه ووضعه في غير حقه، وهو الإسراف، وهو حرام لقوله تعالى: « إن المبذرين كانوا إخوان
الشياطين » وقوله: « إخوان » يعني أنهم في حكمهم؛ إذ المبذر
ساع في إفساد كالشياطين، أو أنهم يفعلون ما تسول لهم أنفسهم، أو أنهم يقرنون بهم
غدا في النار؛ ثلاثة أقوال. والإخوان هنا جمع أخ من غير النسب؛ ومنه قوله تعالى: « إنما المؤمنون إخوة » [ الحجرات: 10 ] . وقوله تعالى: « وكان الشيطان لربه كفورا » أي احذروا متابعته والتشبه به في
الفساد. والشيطان اسم الجنس. وقرأ الضحاك « إخوان الشيطان » على الانفراد، وكذلك ثبت في مصحف أنس بن مالك رضي الله عنه.
من أنفق
مال في الشهوات زائدا على قدر الحاجات وعرضه بذلك للنفاد فهو مبذر. ومن أنفق ربح
مال في شهواته وحفظ الأصل أو الرقبة فليس بمبذر. ومن أنفق درهما في حرام فهو مبذر،
ويحجر عليه في نفقته الدرهم في الحرام، ولا يحجر عليه إن بذله في الشهوات إلا إذا
خيف عليه النفاد.
الآية:
28 ( وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة
من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا )
وهو أنه
سبحانه وتعالى خص نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: « وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها » . وهو تأديب عجيب وقول لطيف
بديع، أي لا تعرض عنهم إعراض مستهين عن ظهر الغنى والقدرة فتحرمهم. وإنما يجوز أن
تعرض عنهم عند عجز يعرض وعائق يعوق، وأنت عند ذلك ترجو من الله سبحانه وتعالى فتح
باب الخير لتتوصل به إلى مواساة السائل؛ فإن قعد بك الحال فقل لهم قولا ميسورا.
في سبب
نزولها؛ فال ابن زيد: نزلت الآية في قوم كانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه
وسلم فيأبى أن يعطيهم؛ لأنه كان يعلم منهم نفقة المال في فساد، فكان يعرض عنهم
رغبة في الأجر في منعهم لئلا يعينهم على فسادهم. وقال عطاء الخراساني في قوله
تعالى « وإما
تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها » قال: ليس هذا في ذكر الوالدين، جاء ناس من مزينة إلى النبي
صلى الله عليه وسلم يستحملونه؛ فقال: ( لا أجد ما أحملكم عليه ) فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا؛ فأنزل الله تعالى: « وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من
ربك ترجوها » . والرحمة
الفيء. والضمير في « عنهم » عائد على من تقدم ذكرهم من
الآباء والقرابة والمساكين وأبناء السبيل.
قوله
تعالى: « فقل لهم
قولا ميسورا » أمره
بالدعاء لهم، أي يسر فقرهم عليهم بدعائك لهم. وقيل: ادع لهم دعاء يتضمن الفتح لهم
والإصلاح. وقيل: المعنى « وإما
تعرضن » أي إن
أعرضت يا محمد عن إعطائهم لضيق يد فقل لهم قولا ميسورا؛ أي أحسن القول وأبسط
العذر، وادع لهم بسعة الرزق، وقل إذا وجدت فعلت وأكرمت؛ فإن ذلك يعمل في مسرة نفسه
عمل المواساة. وكان عليه الصلاة والسلام إذا سئل وليس عنده ما يعطي سكت انتظارا
لرزق يأتي من الله سبحانه وتعالى كراهة الرد، فنزلت هذه الآية، فكان صلى الله عليه
وسلم إذا سئل وليس عنده ما يعطي قال: ( يرزقنا الله وإياكم من فضله ) . فالرحمة على هذا التأويل
الرزق المنتظر. وهذا قول ابن عباس ومجاهد وعكرمة. و « قولا ميسورا » أي لينا لطيفا طيبا، مفعول بمعنى
الفاعل، من لفظ اليسر كالميمون، أي وعدا جميلا، على ما بيناه. ولقد أحسن من قال:
إلا تكن
وَرِقٌ يوما أجود بها للسائلين فإني لين العود
لا يعدم
السائلون الخير من خلقي إما نوالي وإما حسن مردودي
تقول: يسرت
لك كذا إذا أعددته.
الآية:
29 ( ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك
ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا )
قوله
تعالى: « ولا تجعل
يدك مغلولة إلى عنقك » هذا مجاز
عبر به عن البخيل الذي لا يقدر من قلبه على إخراج شيء من ماله؛ فضرب له مثل الغل
الذي يمنع من التصرف باليد. وفي صحيح البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه
قال: ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل البخيل والمتصدق كمثل رجلين عليهما
جبتان من حديه قد اضطرت أيديهما إلى ثديهما وتراقيهما فجعل المتصدق كلما تصدق
بصدقة انبسطت عنه حتى تغشى أنامله وتعفو أثره وجعل البخيل كلما هم بصدقة قلصت
وأخذت كل حلقة بمكانها. قال أبو هريرة رضي الله عنه: فأنا رأيت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول بأصبعيه هكذا في جيبه فلو رأيته يوسعها ولا تتوسع.
قوله
تعالى: « ولا
تبسطها كل البسط » ضرب بسط
اليد مثلا لذهاب المال، فإن قبض الكف يحبس ما فيها، وبسطها يذهب ما فيها. وهذا كله
خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته، وكثيرا ما جاء في القرآن؛ فإن النبي
صلى الله عليه وسلم لما كان سيدهم وواسطتهم إلى ربهم عبر به عنهم على عادة العرب
في ذلك. وأيضا فإنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يدخر شيئا لغد، وكان يجوع حتى يشد
الحجر على بطنه من الجوع. وكان كثير من الصحابة ينفقون في سبيل الله جميع أموالهم،
فلم يعنفهم النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليهم لصحة يقينهم وشدة بصائرهم.
وإنما نهى الله سبحانه وتعالى عن الإفراط في الإنفاق، وإخراج ما حوته يده من المال
من خيف عليه الحسرة على ما خرج من يده، فأما من وثق بموعود الله عز وجل وجزيل
ثوابه فيما أنفقه فغير مراد بالآية، والله اعلم. وقيل: إن هذا الخطاب للنبي صلى
الله عليه وسلم في خاصة نفسه، علمه فيه كيفية الإنفاق، وأمره بالاقتصاد. قال جابر
وابن مسعود: جاء غلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أمي تسألك كذا وكذا.
فقال: ( ما
عندنا اليوم شيء ) . قال:
فتقول لك اكسني قميصك؛ فخلع قميصه فدفعه إليه وجلس في البيت عريانا. وفي رواية
جابر: فأذن بلال للصلاة وانتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج، واشتغلت
القلوب، فدخل بعضهم فإذا هو عار؛ فنزلت هذه الآية. وكل هذا في إنفاق الخير. وأما
إنفاق الفساد فقليله وكثيره حرام، كما تقدم.
نهت هذه
الآية عن استفراغ الوجد فيما يطرأ أولا من سؤال المؤمنين؛ لئلا يبقى من يأتي بعد
ذلك لا شيء له، أو لئلا يضيع المنفق عياله. ونحوه من كلام الحكمة: ما رأيت قط سرفا
إلا ومعه حق مضيع. وهذه من آيات فقه الحال فلا يبين حكمها إلا باعتبار شخص شخص من
الناس.
قوله
تعالى: « فتقعد
ملوما محسورا » قال ابن
عرفة: يقول لا تسرف ولا تتلف مالك فتبقى محسورا منقطعا عن النفقة والتصرف؛ كما
يكون البعير الحسير، وهو الذي ذهبت قوته فلا انبعاث به؛ ومنه قوله تعالى: « ينقلب إليك البصر خاسئا وهو
حسير » [ الملك: 4 ] أي كليل منقطع. وقال قتادة: أي
نادما على ما سلف منك؛ فجعله من الحسرة، وفيه بعد؛ لأن الفاعل من الحسرة حسر وحسران
ولا يقال محسور. والملوم: الذي يلام على إتلاف ماله، أو يلومه من لا يعطيه.
الآيتان:
30 - 31 ( إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء
ويقدر إنه كان بعباده خبيرا بصيرا، ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم
وإياكم إن قتلهم كان خطأ كبيرا )
قد مضى
الكلام في هذه الآية في الأنعام، والحمد لله. والإملاق: الفقر وعدم الملك. أملق
الرجل أي لم يبق له إلا الملقات؛ وهي الحجارة العظام الملس. قال الهذلي يصف صائدا:
أتيح لها
أقيدر ذو حَشيف إذا سامت على الملقات ساما
الواحدة
ملقة. والأقيدر تصغير الأقدر، وهو الرجل القصير. والحشيف من الثياب: الخلق. وسامت
مرت. وقال شمر: أملق لازم ومتعد، أملق إذا افتقر، وأملق الدهر ما بيده. قال أوس:
وأملق ما
عندي خطوب تَنَبَّل
قوله
تعالى: « خطئا » قراءة الجمهور بكسر الخاء وسكون
الطاء وبالهمزة والقصر. وقرأ ابن عامر « خطأ » بفتح الخاء
والطاء والهمزة مقصورة، وهي قراءة أبي جعفر يزيد. وهاتان قراءتان مأخوذتان من « خطئ » إذا أتى الذنب على عمد. قال ابن
عرفة: يقال خطئ في ذنبه خطأ إذا أثم فيه، وأخطأ إذا سلك سبيل خطأ عامدا أو غير
عامد. قال: ويقال خطئ في معنى أخطأ. وقال الأزهري: يقال خطئ يخطأ خطئا إذا تعمد
الخطأ؛ مثل أثم يأثم إثما. وأخطأ إذا لم يتعمد إخطاء وخطأ. قال الشاعر:
دعيني إنما
خطئي وصوبي علي وإن ما أهلكت مال
والخطأ
الاسم يقوم مقام الإخطاء، وهو ضد الصواب. وفيه لغتان: القصر وهو الجيد، والمد وهو
قليل، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما « خطأ » بفتح
الخاء وسكون الطاء وهمزة. وقرأ ابن كثير بكسر الخاء وفتح الطاء ومد الهمزة. قال
النحاس: ولا أعرف لهذه القراءة وجها، ولذلك جعلها أبو حاتم غلطا. قال أبو علي: هي
مصدر من خاطأ يخاطئ، وإن كنا لا نجد خاطأ، ولكن وجدنا تخاطأ، وهو مطاوع خاطأ،
فدلنا عليه؛ ومنه قول الشاعر:
تخاطأت
النبل أحشاءه وأخر يومي فلم أعجل
وقول الآخر
في وصف مهاة:
تخاطأه
القناص حتى وجدته وخرطومه في منقع الماء راسب
الجوهري:
تخاطأه أي أخطأه؛ وقال أوفى بن مطر المازني:
ألا أبلغا
خلتي جابرا بأن خليلك لم يقتل
تخاطأت
النبل أحشاءه وأخر يومي فلم يعجل
وقرأ الحسن
« خطاء » بفتح الخاء والطاء والمد في
الهمزة. قال أبو حاتم: لا يعرف هذا في اللغة وهي غلط غير جائز. وقال أبو الفتح:
الخطأ من أخطأت بمنزلة العطاء من أعطيت، هو اسم بمعنى المصدر، وعن الحسن أيضا « خطى » بفتح الخاء والطاء منونة من غير
همز.
الآية:
32 ( ولا تقربوا الزنى إنه كان
فاحشة وساء سبيلا )
قال
العلماء: قوله تعالى « ولا
تقربوا الزنى » أبلغ من
أن يقول: ولا تزنوا؛ فإن معناه لا تدنوا من الزنى. والزنى يمد ويقصر، لغتان. قال
الشاعر:
كانت فريضة
ما تقول كما كان الزناء فريضة الرجم
و « سبيلا » نصب على التمييز؛ التقدير: وساء
سبيله سبيلا. أي لأنه يؤدي إلى النار. والزنى من الكبائر، ولا خلاف فيه وفي قبحه
لا سيما بحليلة الجار. وينشأ عنه استخدام ولد الغير واتخاذه ابنا وغير ذلك من
الميراث وفساد الأنساب باختلاط المياه. وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم
أتى بامرأة مُجح على باب فسطاط فقال: ( لعله يريد أن يُلم بها ) فقالوا: نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لقد هممت أن ألعنه لعنا يدخل
معه قبره كيف يورثه وهو لا يحل له كيف يستخدمه وهو لا يحل له ) .
الآية:
33 ( ولا تقتلوا النفس التي حرم
الله إلا بالحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان
منصورا )
قوله
تعالى: « ولا
تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوما » أي بغير سبب يوجب القتل. « فقد جعلنا لوليه » أي لمستحق دمه. قال ابن خويز
منداد: الولي يجب أن يكون ذكرا؛ لأنه أفرده بالولاية بلفظ التذكير. وذكر إسماعيل
بن إسحاق في قوله تعالى: « فقد
جعلنا لوليه » ما يدل
على خروج المرأة عن مطلق لفظ الولي، فلا جرم، ليس للنساء حق في القصاص لذلك ولا
أثر لعفوها، وليس لها الاستيفاء. وقال المخالف: إن المراد ها هنا بالولي الوارث؛
وقد قال تعالى: «
والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض » [
التوبة: 71 ] ، وقال: « والذين آمنوا ولم يهاجروا ما
لكم من ولايتهم من شيء » ، [ الأنفال: 72 ] ، وقال: « وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض
في كتاب الله » [ الأنفال: 75 ] فاقتضى ذلك إثبات القود لسائر
الورثة؛ وأما ما ذكروه من أن الولي في ظاهره على التذكير وهو واحد، كأن ما كان
بمعنى الجنس يستوي المذكر والمؤنث فيه، وتتمته في كتب الخلاف. « سلطانا » أي تسليطا إن شاء قتل وإن شاء
عفا، وإن شاء أخذ الدية؛ قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والضحاك وأشهب
والشافعي. وقال ابن وهب قال مالك: السلطان أمر الله. ابن عباس: السلطان الحجة.
وقيل: السلطان طلبه حتى يدفع إليه. قال ابن العربي: وهذه الأقوال متقاربة، وأوضحها
قول مالك: إنه أمر الله. ثم إن أمر الله عز وجل لم يقع نصا فاختلف العلماء فيه؛
فقال ابن القاسم عن مالك وأبي حنيفة: القتل خاصة. وقال أشهب: الخيرة؛ كما ذكرنا
آنفا، وبه قال الشافعي. وقد مضى في سورة « البقرة » هذا
المعنى.
قوله
تعالى: « فلا يسرف
في القتل » فيه ثلاثة
أقوال: لا يقتل غير قاتله؛ قاله الحسن والضحاك ومجاهد وسعيد بن جبير. الثاني: لا
يقتل بدل وليه اثنين كما كانت العرب تفعله. الثالث: لا يمثل بالقاتل؛ قاله طلق بن
حبيب، وكله مراد لأنه إسراف منهي عنه. وقد مضى في « البقرة » القول في
هذا مستوفى. وقرأ الجمهور « يسرف » بالياء، يريد الولي، وقرأ ابن
عامر وحمزة والكسائي « تسرف » بالتاء من فوق، وهي قراءة حذيفة.
وروى العلاء بن عبدالكريم عن مجاهد قال: هو للقاتل الأول، والمعنى عندنا فلا تسرف
أيها القاتل. وقال الطبري: هو على معنى الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والأئمة
من بعده. أي لا تقتلوا غير القاتل. وفي حرف أبي « فلا تسرفوا في القتل » .
قوله
تعالى: « إنه كان
منصورا » أي معانا،
يعني الولي. فإن قيل: وكم من ولي مخذول لا يصل إلى حقه. قلنا: المعونة تكون بظهور
الحجة تارة وباستيفائها أخرى، وبمجموعهما ثالثة، فأيها كان فهو نصر من الله سبحانه
وتعالى. وروى ابن كثير عن مجاهد قال: إن المقتول كان منصورا. النحاس: ومعنى قوله
إن الله نصره بوليه. وروي أنه في قراءة أُبَي « فلا تسرفوا في القتل إن ولي المقتول كان منصورا » . قال النحاس: الأبين بالياء
ويكون للولي؛ لأنه إنما يقال: لا يسرف إن كان له أن يقتل، فهذا للولي. وقد يجوز
بالتاء ويكون للولي أيضا، إلا أنه يحتاج فيه إلى تحويل المخاطبة. قال الضحاك: هذا
أول ما نزل من القرآن في شأن القتل، وهي مكية.
الآية:
34 ( ولا تقربوا مال اليتيم إلا
بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا )
قوله
تعالى: « ولا
تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده » قد مضى الكلام فيه في الأنعام.
قوله
تعالى: « وأوفوا
بالعهد » قد مضى
الكلام فيه في غير موضع. قال الزجاج: كل ما أمر الله به ونهى عنه فهو من العهد. « إن العهد كان مسؤولا » عنه، فحذف؛ كقوله: « ويفعلون ما يؤمرن » [ التحريم: 6 ] به وقيل: إن العهد يسأل تبكيتا
لناقضه فيقال: نقضت، كما تسأل الموؤودة تبكيتا لوائدها.
الآية:
35 ( وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا
بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلا )
قوله
تعالى: « وأوفوا
الكيل إذا كلتم » تقدم
الكلام فيه أيضا في الأنعام. وتقتضي هذه الآية أن الكيل على البائع، وقد مضى في
سورة « يوسف » فلا معنى للإعادة. والقسطاس ( بضم القاف وكسرها ) : الميزان بلغة الروم؛ قاله ابن
عزيز. وقال الزجاج: القسطاس: الميزان صغيرا كان أو كبيرا. وقال مجاهد: القسطاس
العدل، وكان يقول: هي لغة رومية، وكأن الناس قيل لهم: زنوا بمعدلة في وزنكم. وقرأ
ابن كثير وأبو عمرو ونافع وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر « القسطاس » بضم القاف. وحمزة والكسائي وحفص
عن عاصم ( بكسر
القاف ) وهما
لغتان.
قوله
تعالى: « ذلك خير
» أي وفاء
الكيل وإقامة الوزن خير عند ربك وأبرك. « وأحسن تأويلا » أي عاقبة. قال الحسن: ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال: ( لا يقدر
رجل على حرام ثم يدعه ليس لديه إلا مخافة الله تعالى إلا أبدله الله في عاجل
الدنيا قبل الآخرة ما هو خير له من ذلك ) .
الآية:
36 ( ولا تقف ما ليس لك به علم إن
السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا )
قوله
تعالى: « ولا تقف
» أي لا
تتبع ما لا تعلم ولا يعنيك. قال قتادة: لا تقل رأيت وأنت لم تر، وسمعت وأنت لم
تسمع، وعلمت وأنت لم تعلم؛ وقاله ابن عباس رضي الله عنهما. قال مجاهد: لا تذم أحدا
بما ليس لك به علم؛ وقاله ابن عباس رضي الله عنهما أيضا. وقال محمد ابن الحنفية:
هي شهادة الزور. وقال القتبي: المعنى لا تتبع الحدس والظنون؛ وكلها متقاربة. وأصل
القفو البهت والقذف بالباطل؛ ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: ( نحن بنو النضر ابن كنانة لا
نقفو أمنا ولا ننتفي من أبينا ) أي لا
نسب أمنا. وقال الكميت:
فلا أرمي
البريء بغير ذنب ولا أقفو الحواصن إن قفينا
يقال:
قفوته أقفوه، وقفته أقوفه، وقفيته إذا اتبعت أثره. ومنه القافة لتتبعهم الآثار
وقافية كل شيء آخره، ومنه قافية الشعر؛ لأنها تقفو البيت. ومنه اسم النبي صلى الله
عليه وسلم المقفي؛ لأنه جاء آخر الأنبياء. ومنه القائف، وهو الذي يتبع أثر الشبه.
يقال: قاف القائف يقوف إذا فعل ذلك. وتقول: فقوت للأثر، بتقديم الفاء على القاف.
ابن عطية: ويشبه أن يكون هذا من تلعب العرب في بعض الألفاظ؛ كما قالوا: رعملي في
لعمري. وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت: قفا وقاف، مثل عتا وعات. وذهب منذر بن سعيد
إلى أن قفا وقاف مثل جبذ وجذب. وبالجملة فهذه الآية تنهى عن قول الزور والقذف، وما
أشبه ذلك من الأقوال الكاذبة والرديئة. وقرأ بعض الناس فيما حكى الكسائي « تقف » بضم القاف وسكون الفاء. وقرأ
الجراح « والفاد » بفتح الفاء، وهي لغة لبعض الناس،
وأنكرها أبو حاتم وغيره.
قال ابن
خويز منداد: تضمنت هذه الآية الحكم بالقافة؛ لأنه لما قال: « ولا تقف ما ليس لك به علم » دل على جواز ما لنا به علم، فكل
ما علمه الإنسان أو غلب على ظنه جاز أن يحكم به، وبهذا احتججنا على إثبات القرعة
والخرص؛ لأنه ضرب من غلبة الظن، وقد يسمى علما اتساعا. فالقائف يلحق الولد بأبيه
من طريق الشبه بينهما كما يلحق الفقيه الفرع بالأصل من طريق الشبه. وفي الصحيح عن
عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل علي مسرورا تبرق أسارير وجهه فقال: ( ألم تري أن مُجززا نظر إلى زيد
بن حارثة وأسامة بن زيد عليهما قطيفة قد غطيا رؤوسهما وبدت أقدامهما فقال إن بعض
هذه الأقدام لمن بعض ) . وفي
حديث يونس بن يزيد: ( وكان
مجززا قائفا ) .
قال الإمام
أبو عبدالله المازري: كانت الجاهلية تقدح في نسب أسامة لكونه أسود شديد السواد،
وكان زيد أبوه أبيض من القطن، هكذا ذكره أبو داود عن أحمد بن صالح. قال القاضي
عياض: وقال غير أحمد كان زيد أزهر اللون، وكان أسامة شديد الأدمة؛ وزيد بن حارثة
عربي صريح من كلب، أصابه سباء، حسبما يأتي في سورة « الأحزاب » إن شاء الله تعالى.
استدل
جمهور العلماء على الرجوع إلى القافة عند التنازع في الولد، بسرور النبي صلى الله
عليه وسلم بقول هذا القائف؛ وما كان عليه السلام بالذي يسر بالباطل ولا يعجبه. ولم
يأخذ بذلك أبو حنيفة وإسحاق والثوري وأصحابهم متمسكين بإلغاء النبي صلى الله عليه
وسلم الشبه في حديث اللعان؛ على ما يأتي في سورة [ النور ] إن شاء
الله تعالى.
واختلف
الآخذون بأقوال القافة، هل يؤخذ بذلك في أولاد الحرائر والإماء أو يختص بأولاد
الإماء، على قولين؛ فالأول: قول الشافعي ومالك رضي الله عنهما في رواية ابن وهب
عنه، ومشهور مذهبه قصره على ولد الأمة. والصحيح ما رواه ابن وهب عنه وقال الشافعي
رضي الله عنه؛ لأن الحديث الذي هو الأصل في الباب إنما وقع في الحرائر، فإن أسامة
وأباه حران فكيف يلغى السبب الذي خرج عليه دليل الحكم وهو الباعث عليه، هذا مما لا
يجوز عند الأصوليين. وكذلك اختلف هؤلاء، هل يكتفي بقول واحد من القافة أو لا بد من
اثنين لأنها شهادة؛ وبالأول قال ابن القاسم وهو ظاهر الخبر بل نصه. وبالثاني قال
مالك والشافعي رضي الله عنهما.
قوله
تعالى: « إن السمع
والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا » أي يسأل كل واحد منهم عما اكتسب، فالفؤاد يسأل عما افتكر فيه
واعتقده، والسمع والبصر عما رأس من ذلك وسمع. وقيل: المعنى أن الله سبحانه وتعالى
يسأل الإنسان عما حواه سمعه وبصره وفؤاده؛ ونظيره قوله صلى الله عليه وسلم: ( كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته
) فالإنسان
راع على جوارحه؛ فكأنه قال كل هذه كان الإنسان عنه مسؤولا، فهو على حذف مضاف.
والمعنى الأول أبلغ في الحجة؛ فإنه يقع تكذيبه من جوارحه، وتلك غاية الخزي؛ كما
قال: « اليوم
نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون » [ يس:60 ] ، وقوله « شهد عليهم سمعهم وأبصارهم
وجلودهم بما كانوا يعملون » [ فصلت:20 ] . وعبر عن السمع والبصر والفؤاد
بأولئك لأنها حواس لها إدراك، وجعلها في هذه الآية مسؤولة، فهي حالة من يعقل،
فلذلك عبر عنها بأولئك. وقال سيبويه رحمه الله في قوله تعالى: « رأيتهم لي ساجدين » [ يوسف: 4 ] : إنما قال: « رأيتهم » في نجوم، لأنه لما وصفها بالسجود
وهو من فعل من يعقل عبر عنها بكناية من يعقل؛ وقد تقدم. وحكى الزجاج أن العرب تعبر
عما يعقل وعما لا يعقل بأولئك، وأنشد هو والطبري:
ذم المنازل
بعد منزلة اللوى والعيش بعد أولئك الأيام
وهذا أمر
يوقف عنده. وأما البيت فالرواية فيه « الأقوام » والله
اعلم.
الآيتان:
37 - 38 ( ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن
تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا، كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها )
قوله
تعالى: « ولا تمش
في الأرض مرحا » هذا نهي
عن الخيلاء وأمر بالتواضع. والمرح: شدة الفرح. وقيل: التكبر في المشي. وقيل: تجاوز
الإنسان قدره. وقال قتادة: هو الخيلاء في المشي. وقيل: هو البطر والأشر. وقيل: هو
النشاط وهذه الأقوال متقاربة ولكنها منقسمة قسمين: أحدهما مذموم والآخر محمود؛
فالتكبر والبطر والخيلاء وتجاوز الإنسان قدره مذموم والفرح والنشاط محمود. وقد وصف
الله تعالى نفسه بأحدهما؛ ففي الحديث الصحيح ( لله أفرج بتوبة العبد من رجل... ) الحديث. والكسل مذموم شرعا
والنشاط ضده. وقد يكون التكبر وما في معناه محمودا، وذلك على أعداء الله والظلمة.
أسند أبو حاتم بن حبان عن ابن جابر بن عتيك عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم أنه قال: ( من
الغيرة ما يبغض الله عز وجل ومنها ما يحب الله عز وجل ومن الخيلاء ما يحب الله عز
وجل ومنها ما يبغض الله فأما الغيرة التي يحب الله الغيرة في الدين والغيرة التي
يبغض الله الغيرة في غير دينه والخيلاء التي يحب الله اختيال الرجل بنفسه عند
القتال وعند الصدقة والاختيال الذي يبغض الله الخيلاء في الباطل ) وأخرجه أبو داود في مصنفه
وغيره. وأنشدوا:
ولا تمش
فوق الأرض إلا تواضعا فكم تحتها قوم همو منك أرفع
وإن كنت في
عز وحرز ومَنعة فكم مات من قوم همو منك أمنع
إقبال
الإنسان على الصيد ونحوه ترفعا دون حاجة إلى ذلك داخل في هذه الآية، وفيه تعذيب
الحيوان وإجراؤه لغير معنى. وأما الرجل يستريح في اليوم النادر والساعة من يومه،
ويجم فيها نفسه في التطرح والراحة ليستعين بذلك على شغل من البر، كقراءة علم أو
صلاة، فليس بداخل في هذه الآية.
قوله
تعالى: « مرحا » قراءة الجمهور بفتح الراء.
وقراءة فرقة فيما حكى يعقوب بكسر الراء على بناء اسم الفاعل. والأول أبلغ، فإن
قولك: جاء زيد ركضا أبلغ من قولك: جاء زيد راكضا؛ فكذلك قولك مرحا. والمرح المصدر
أبلغ من أن يقال مرحا.
قوله
تعالى: « إنك لن
تخرق الأرض » يعني لن
تتولج باطنها فتعلم ما فيها « ولن تبلغ
الجبال طولا » أي لن
تساوي الجبال بطولك ولا تطاولك، ويقال: خرق الثوب أي شقه، وخرق الأرض قطعها.
والخرق: الواسع من الأرض. أي لن تخرق الأرض بكبرك ومشيك عليها. « ولن تبلغ الجبال طولا » بعظمتك، أي بقدرتك لا تبلغ هذا
المبلغ، بل أنت عبد ذليل، محاط بك من تحتك ومن فوقك، والمحاط محصور ضعيف، فلا يليق
بك التكبر. والمراد بخرق الأرض هنا نقبها لا قطعها بالمسافة؛ والله اعلم. وقال
الأزهري: معناه لن تقطعها. النحاس: وهذا أبين؛ لأنه مأخوذ من الخرق وهي الصحراء
الواسعة. ويقال: فلان أخرق من فلان، أي أكثر سفرا وعزة ومنعة. ويروي أن سبأ دوخ
الأرض بأجناده شرقا وغربا وسهلا وجبلا، وقتل سادة وسبى - وبه سمي سبأ - ودان له
الخلق، فلما رأى ذلك انفرد عن أصحابه ثلاثة أيام ثم خرج إليهم فقال: إني لما نلت
ما لم ينل أحد رأيت الابتداء بشكر هذه النعم، فلم أر أوقع في ذلك من السجود للشمس
إذا أشرقت، فسجدوا لها، وكان ذلك أول عبادة الشمس؛ فهذه عاقبة الخيلاء والتكبر
والمرح؛ نعوذ بالله من ذلك.
قوله
تعالى: « كل ذلك
كان سيئه عند ربك مكروها » « ذلك » إشارة إلى جملة ما تقدم ذكره مما
أمر به ونهى عنه. « ذلك » يصلح للواحد والجمع والمؤنث
والمذكر. وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي ومسروق « سيئة » على إضافة سيئ إلى الضمير، ولذلك
قال: « مكروها » نصب على خبر كان. والسيء: هو
المكروه، وهو الذي لا يرضاه الله عز وجل ولا يأمر به. وقد ذكر الله سبحانه وتعالى
في هذه الآي من قوله: « وقضى ربك
- إلى قوله - كان سيئة » [ الإسراء: 23 ] مأمورات بها ومنهيات عنها، فلا
يخبر عن الجميع بأنه سيئة فيدخل المأمور به في المنهي عنه. واختار هذه القراءة أبو
عبيد. ولأن في قراءة أُبَي « كل ذلك
كان سيئاته » فهذه لا
تكون إلا للإضافة. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو « سيئة » بالتنوين؛
أي كل ما نهى الله ورسوله عنه سيئة. وعلى هذا انقطع الكلام عند قوله: « وأحسن تأويلا » [ النساء: 59 ] ثم قال: « ولا تقف ما ليس لك به علم » [ الإسراء: 36 ] ، « ولا تمش » ، ثم قال: « كل ذلك كان سيئة » بالتنوين. وقيل: إن قوله « ولا تقتلوا أولادكم » [ الأنعام: 151 ] إلى هذه الآية كان سيئة لا حسنة
فيه، فجعلوا « كلا » محيطا بالمنهي عنه دون غيره.
وقوله: « مكروها » ليس نعتا لسيئة، بل هو بدل منه؛
والتقدير: كان سيئة وكان مكروها. وقد قيل: إن « مكروها » خبر ثان
لكان حمل على لفظه كل، و « سيئة » محمول على المعنى في جميع هذه
الأشياء المذكورة قبل. وقال بعضهم: وهو نعت لسيئة؛ لأنه لما كان تأنيثها غير حقيقي
جاز أن توصف بمذكر. وضعف أبو علي الفارسي هذا وقال: إن المؤنث إذا ذكر فإنما ينبغي
أن يكون ما بعده مذكرا، وإنما التساهل أن يتقدم الفعل المسند إلى المؤنث وهو في
صيغة ما يسند إلى المذكر؛ ألا ترى قول الشاعر:
فلا مزنة
ودقت ودقها ولا أرض أبقل إبقالها
مستقبح
عندهم. ولو قال قائل: أبقل أرض لم يكن قبيحا. قال أبو علي: ولكن يجوز في قوله « مكروها » أن يكون بدلا من « سيئة » . ويجوز أن يكون حالا من الضمير
الذي في « عند ربك
» ويكون « عند ربك » في موضع الصفة لسيئة.
استدل
العلماء بهذه الآية على ذم الرقص وتعاطيه. قال الإمام أبو الوفاء بن عقيل: قد نص
القرآن على النهي عن الرقص فقال: « ولا تمشي
في الأرض مرحا » وذم
المختال. والرقص أشد المرح والبطر. أو لسنا الذين قسنا النبيذ على الخمر لاتفاقهما
في الإطراب والسكر، فما بالنا لا نقيس القضيب وتلحين الشعر معه على الطنبور
والمزمار والطبل لاجتماعهما. فما أقبح من ذي لحية، وكيف إذا كان شيبة، يرقص ويصفق
على إيقاع الألحان والقضبان، وخصوصا إن كانت أصوات لنسوان ومردان، وهل يحسن لمن
بين يديه الموت والسؤال والحشر والصراط، ثم هو إلى إحدى الدارين، يشمس بالرقص شمس
البهائم، ويصفق تصفيق النسوان، ولقد رأيت مشايخ في عمري ما بان لهم سن من التبسم
فضلا عن الضحك مع إدمان مخالطتي لهم وقال أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله: ولقد
حدثني بعض المشايخ عن الإمام الغزالي رضي الله عنه أنه قال: الرقص حماقة بين
الكتفين لا تزول إلا باللعب. وسيأتي لهذا الباب مزيد بيان في « الكهف » وغيرها إن شاء الله تعالى.
الآية:
39 ( ذلك مما أوحى إليك ربك من
الحكمة ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا )
الإشارة بـ
« ذلك » إلى هذه الآداب والقصص والأحكام
التي تضمنتها هذه الآيات المتقدمة التي نزل بها جبريل عليه السلام. أي هذه من
الأفعال المحكمة التي تقتضيها حكمة الله عز وجل في عباده، وخلقها لهم من محاسن
الأخلاق والحكمة وقوانين المعاني المحكمة والأفعال الفاضلة. ثم عطف قوله « ولا تجعل » على ما تقدم من النواهي. والخطاب
للنبي صلى الله عليه وسلم المراد كل من سمع الآية من البشر. والمدحور: المهان
المبعد المقصى. وقد تقدم في هذه السورة. ويقال في الدعاء: اللهم ادحر عنا الشيطان؛
أي أبعده.
الآية:
40 ( أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ
من الملائكة إناثا إنكم لتقولون قولا عظيما )
قوله
تعالى: « أفأصفاكم
ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا » هذا يرد على من قال من العرب: الملائكة بنات الله، وكان لهم
بنات أيضا مع النبيين، ولكنه أراد: أفأخلص لكم البنين دونه وجعل البنات مشتركة
بينكم وبينه. « إنكم
لتقولون قولا عظيما » أي في
الإثم عند الله عز وجل.
الآية:
41 ( ولقد صرفنا في هذا القرآن
ليذكروا وما يزيدهم إلا نفورا )
قوله
تعالى: « ولقد
صرفنا » أي بينا.
وقيل كررنا. والتصريف: صرف الشيء من جهة إلى جهة. والمراد بهذا التصريف البيان
والتكرير. وقيل: المغايرة؛ أي غايرنا بين المواعظ ليذكروا ويعتبروا ويتعظوا.
وقراءة العامة « صرفنا » بالتشديد على التكثير حيث وقع.
وقرأ الحسن بالتخفيف. قال الثعلبي: سمعت أبا القاسم الحسين يقول بحضرة الإمام
الشيخ أبي الطيب: لقوله تعالى: « صرفنا » معنيان؛ أحدهما لم يجعله نوعا
واحدا بل وعدا ووعيدا ومحكما ومتشابها ونهيا وأمرا وناسخا ومنسوخا وأخبارا
وأمثالا؛ مثل تصريف الرياح من صبا ودبور وجنوب وشمال، وصريف الأفعال من الماضي
والمستقبل والأمر والنهي والفعل والفاعل والمفعول ونحوها. والثاني أنه لم ينزل مرة
واحدة بل نجوما؛ نحو قوله « وقرآنا
فرقناه » [ الإسراء: 106 ] ومعناه: أكثرنا صرف جبريل عليه
السلام إليك. وقوله « في هذا
القرآن » قيل « في » زائدة، والتقدير: ولقد صرفنا هذا
القرآن؛ مثل « وأصلح لي
في ذريتي » [ الأحقاف: 15 ] أي أصلح ذريتي. وقوله « في هذا القرآن » يعني الأمثال والعبر والحكم
والمواعظ والأحكام والإعلام.
قوله
تعالى: « ليذكروا
»
قراءة يحيى
والأعمش وحمزة والكسائي « ليذكروا
» مخففا،
وكذلك في الفرقان « ولقد
صرفناه بينهم ليذكروا » [ الفرقان:50 ] . الباقون بالتشديد. واختاره
أبو عبيد؛ لأن معناه ليتذكروا وليتعظوا. قال المهدوي: من شدد « ليذكروا » أراد التدبر. وكذلك من قرأ « ليذكروا » . ونظير الأول « ولقد وصلنا لهم القول لعلهم
يتذكرون » [ القصص: 51 ] والثاني: « واذكروا ما فيه » [ البقرة: 63 ]
قوله
تعالى: « وما
يزيدهم »
أي التصريف
والتذكير.
قوله
تعالى: « إلا
نفورا »
أي تباعدا
عن الحق وغفلة عن النظر والاعتبار؛ وذلك لأنهم اعتقدوا في القرآن أنه حيلة وسحر
وكهانة وشعر.
الآيتان:
42 - 43 ( قل لو كان معه آلهة كما يقولون
إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا، سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا )
قوله
تعالى: « قل لو كان
معه آلهة » هذا متصل
بقوله تعالى: « ولا تجعل
مع الله إلها آخره » [ الإسراء 22 ] وهو رد على عُباد الأصنام. « كما يقولون » قرأ ابن كثير وحفص « يقولون » بالياء. الباقون « تقولون » بالتاء على الخطاب. « إذا لابتغوا » يعني الآلهة. « إلى ذي العرش سبيلا » قال ابن العباس رضي الله تعالى
عنهما: لطلبوا مع الله منازعة وقتالا كما تفعل ملوك الدنيا بعضهم ببعض. وقال سعيد
بن جبير رضي الله تعالى عنه: المعنى إذاً لطلبوا طريقا إلى الوصول إليه ليزيلوا
ملكه، لأنهم شركاؤه. وقال قتادة: المعنى إذا لابتغت الآلهة القربة إلى ذي العرش
سبيلا، والتمست الزلفة عنده لأنهم دونه، والقوم اعتقدوا أن الأصنام تقربهم إلى
الله زلفى، فإذا اعتقدوا في الأصنام أنها محتاجة إلى الله سبحانه وتعالى فقد بطل
أنها آلهة. « سبحانه
وتعالى عما يقولون علوا كبيرا » نزه
سبحانه نفسه وقدسه ومجده عما لا يليق به. والتسبيح: التنزيه. وقد تقدم.
الآية:
44 ( تسبح له السماوات السبع والأرض
ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا )
قوله
تعالى: « تسبح له
السماوات السبع والأرض ومن فيهن » أعاد على
السماوات والأرض ضمير من يعقل، لما أسند إليها فعل العاقل وهو التسبيح. وقوله: « ومن فيهن » يريد الملائكة والإنس والجن، ثم
عمّ بعد ذلك الأشياء كلها في قوله: « وإن من شيء إلا يسبح بحمده » . واختلف في هذا العموم، هل هو مخصص أم لا؛ فقالت فرقة: ليس
مخصوصا والمراد به تسبيح الدلالة، وكل محدث يشهد على نفسه بأن الله عز وجل خالق
قادر. وقالت طائفة: هذا التسبيح حقيقة، وكل شيء على العموم يسبح تسبيحا لا يسمعه
البشر ولا يفقهه، ولو كان ما قاله الأولون من أنه أثر الصنعة والدلالة لكان أمرا
مفهوما، والآية تنطق بأن هذا التسبيح لا يفقه. وأجيبوا بأن المراد بقوله: « لا تفقهون » الكفار الذين يعرضون عن الاعتبار
فلا يفقهون حكمة الله سبحانه وتعالى في الأشياء. وقالت فرقة: قوله « من شيء » عموم، ومعناه الخصوص في كل حي
ونام، وليس ذلك في الجمادات. ومن هذا قول عكرمة: الشجرة تسبح والاسطوان لا يسبح.
وقال يزيد الرقاشي للحسن وهما في طعام وقد قدم الخوان: أيسبح هذا الخوان يا أبا
سعيد؟ فقال: قد كان يسبح مرة؛ يريد أن الشجرة في زمن ثمرها واعتدالها كانت تسبح،
وأما الآن فقد صار خوانا مدهونا.
قلت:
ويستدل لهذا القول من السنة بما ثبت عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي
صلى الله عليه وسلم مر على قبرين فقال: ( إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير أما أحدهما فكان يمشي
بالنميمة وأما الآخر فكان لا يستبرئ من البول ) قال: فدعا بعسيب رطب فشقه اثنين، ثم غرس على هذا واحدا وعلى
هذا واحدا ثم قال: ( لعله
يخفف عنهما ما لم ييبسا ) . فقوله
عليه الصلاة والسلام. ( ما لم
ييبسا ) إشارة
إلى أنهما ما داما رطبين يسبحان، فإذا يبسا صارا جمادا. والله اعلم. وفي مسند أبي
داود الطيالسي: فتوضع على أحدهما نصفا وعلى الآخر نصفا وقال: ( لعله أن يهون عليهما العذاب ما
دام فيهما من بلوتهما شيء ) . قال
علماؤنا: ويستفاد من هذا غرس، الأشجار وقراءة القرآن على القبور، وإذا خفف عنهم
بالأشجار فكيف بقراءة الرجل المؤمن القرآن. وقد بينا هذا المعنى في كتاب التذكرة
بيانا شافيا، وأنه يصل إلى الميت ثواب ما يهدى إليه. والحمد لله على ذلك. وعلى
التأويل الثاني لا يحتاج إلى ذلك؛ فإن كل شيء من الجماد وغيره يسبح.
قلت:
ويستدل لهذا التأويل وهذا القول من الكتاب بقوله سبحانه وتعالى: « واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه
أواب. إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق » [ ص: 17 ] ، وقوله: « وإن منها لما يهبط من خشية الله
» [ البقرة: 74 ] - على قول مجاهد - ، وقوله: « وتخر الجبال هدا. أن دعوا
للرحمن ولدا » [ مريم:90 ] . وذكر ابن المبارك في ( دقائقه ) أخبرنا مسعر عن عبدالله بن واصل
عن عوف بن عبدالله قال قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: إن الجبل يقول للجبل:
يا فلان، هل مر بك اليوم ذاكر لله عز وجل؟ فإن قال نعم سر به. ثم قرأ عبدالله « وقالوا اتخذ الرحمن ولدا » الآية. قال: أفتراهن يسمعن الزور
ولا يسمعن الخير. وفيه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ما من صباح ولا رواح إلا
تنادي بقاع الأرض بعضها بعضا. يا جاراه؛ هل مر بك اليوم عبد فصلى لله أو ذكر الله
عليك؟ فمن قائلة لا، ومن قائلة نعم، فإذا قالت نعم رأت لها بذلك فضلا عليها. وقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا يسمع
صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شجر ولا حجر ولا مدر ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة ) . رواه ابن ماجه في سننه، ومالك
في موطئه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. وخرج البخاري عن عبدالله رضي الله
عنه قال: لقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل. في غير هذه الرواية عن ابن مسعود
رضي الله تعالى عنه: كنا نأكل مع وسول الله صلى الله عليه وسلم الطعام ونحن نسمع
تسبيحه. وفي صحيح مسلم عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: ( إني
لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن ) . قيل: إنه الحجر الأسود، والله
اعلم. والأخبار في هذا المعنى كثيرة؛ وقد أتينا على جملة منها في اللمع اللؤلئية
في شرح العشرينيات النبوية للفاداري رحمه الله، وخبر الجذع أيضا مشهور في هذا
الباب خرجه البخاري في موضع من كتابه. وإذا ثبت ذلك في جماد واحد جاز في جميع
الجمادات، ولا استحالة في شيء من ذلك؛ فكل شيء يسبح للعموم. وكذا قال النخعي
وغيره: هو عام فيما فيه روح وفيما لا روح فه حتى صرير الباب. واحتجوا بالأخبار
التي ذكرنا. وقيل: تسبيح الجمادات أنها تدعو الناظر إليها إلى أن يقول: سبحان
الله! لعدم الإدراك منها. وقال الشاعر:
تُلقى
بتسبيحة من حيث ما انصرفت وتستقر حشا الرائي بترعاد
أي يقول من
رآها: سبحان خالقها. فالصحيح أن الكل يسبح للأخبار الدالة على ذلك لو كان ذلك
التسبيح تسبيح دلالة فأي تخصيص لداود، وإنما ذلك تسبيح المقال بخلق الحياة
والإنطاق بالتسبيح كما ذكرنا. وقد نصت السنة على ما دل عليه ظاهر القرآن من تسبيح
كل شيء فالقول به أولى. والله اعلم. وقرأ الحسن وأبو عمرو ويعقوب وحفص وحمزة
والكسائي وخلف « تفقهون » بالتاء لتأنيث الفاعل. الباقون
بالياء، واختاره أبو عبيد، قال: للحائل بين الفعل والتأنيث. « إنه كان حليما » عن ذنوب عباده في الدنيا. « غفورا » للمؤمنين في الآخرة.
الآية:
45 ( وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك
وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا )
عن أسماء
بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما قالت: لما نزلت سورة « تبت يدا أبي لهب » أقبلت العوراء أم جميل بنت حرب
ولها ولولة وفي يدها فِهر وهي تقول:
مذمما
عصينا وأمره أبينا ودينه قلينا
والنبي صلى
الله عليه وسلم قاعد في المسجد ومعه أبو بكر رضي الله عنه؛ فلما رآها أبو بكر قال:
يا رسول الله، لقد أقبلت وأنا أخاف أن تراك! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إنها لن تراني ) وقرأ قرآنا فاعتصم به كما قال.
وقرأ « وإذا
قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا » . فوقفت على أبي بكر رضي الله
عنه ولم تر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا أبا بكر، أخبرت أن صاحبك
هجاني! فقال: لا ورب هذا البيت ما هجاك. قال: فولت وهي تقول: قد علمت قريش أني
ابنة سيدها. وقال سعيد بن جبير رضي الله عنه: لما نزلت « تبت يدا أبي لهب وتب » [ المسد: 1 ] جاءت امرأة أبي لهب إلى النبي
صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر رضي الله عنه، فقال أبو بكر: لو تنحيت عنها لئلا
تسمعك ما يؤذيك، فإنها امرأة بذية. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إنه سيحال بيني وبينها ) فلم تره. فقالت لأبي بكر: يا
أبا بكر، هجانا صاحبك! فقال: والله ما ينطق بالشعر ولا يقوله. فقالت: وإنك لمصدقه؛
فاندفعت راجعة. فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله، أما رأتك؟ قال: ( لا ما زال ملك ببني وبينها
يسترني حتى ذهبت ) . وقال
كعب رضي الله عنه في هذه الآية: كان النبي صلى الله عليه وسلم يستتر من المشركين
بثلاث آيات: الآية التي في الكهف « إنا
جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا » ، [ الكهف: 57 ] ، والآية في النحل « أولئك الذين طبع الله على
قلوبهم وسمعهم وأبصارهم » [ النحل: 108 ] ، والآية التي في الجاثية « أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله
الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة » [ الجاثية: 23 ] الآية. فكان النبي صلى الله
عليه وسلم إذا قرأهن يستتر من المشركين. قال كعب رضي الله تعالى عنه: فحدثت بهن
رجلا من أهل الشام، فأتى أرض الروم فأقام بها زمانا، ثم خرج هاربا فخرجوا في طلبه
فقرأ بهن فصاروا يكونون معه على طريقه ولا يبصرونه. قال الثعلبي: وهذا الذي يروونه
عن كعب حدثت به رجلا من أهل الري فأسر بالديلم، فمكث زمانا ثم خرج هاربا فخرجوا في
طلبه فقرأ بهن حتى جعلت ثيابهن لتلمس ثيابه فما يبصرونه.
قلت: ويزاد
إلى هذه الآية أول سورة يس إلى قوله « فهم لا يبصرون » . فإن في السيرة في هجرة النبي صلى الله عليه وسلم ومقام علي
رضي الله عنه في فراشه قال: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ حفنة من تراب
في يده، وأخذ الله عز وجل على أبصارهم عنه فلا يرونه، فجعل ينثر ذلك التراب على
رؤوسهم وهو يتلو هذه الآيات من يس: « يس. والقرآن الحكيم. إنك لمن المرسلين. على صراط مستقيم.
تنزيل العزيز الرحيم - إلى قوله - وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا
فأغشيناهم فهم لا يبصرون » [ يس: 6 ] . حتى فرغ رسول الله صلى الله
عليه وسلم من هذه الآيات، ولم يبق منهم رجل إلا وقد وضع على رأسه ترابا، ثم انصرف
إلى حيث أراد أن يذهب.
قلت: ولقد
اتفق لي ببلادنا الأندلس بحصن منثور من أعمال قرطبة مثل هذا. وذلك أني هربت أمام
العدو وانحزت إلى ناحية عنه، فلم ألبث أن خرج في طلبي فارسان وأنا في فضاء من الأرض
قاعد ليس يسترني عنهما شيء، وأنا أقرأ أول سورة يس وغير ذلك من القرآن؛ فعبرا علي
ثم رجعا من حيث جاءا وأحدهما يقول للآخر: هذا ديبله؛ يعنون شيطانا. وأعمى الله عز
وجل أبصارهم فلم يروني، والحمد لله حمدا كثيرا على ذلك. وقيل: الحجاب المستور طبع
الله على قلوبهم حتى لا يفقهوه ولا يدركوا ما فيه من الحكمة؛ قاله قتادة. وقال
الحسن: أي أنهم لإعراضهم عن قراءتك وتغافلهم عنك كمن بينك وبينه حجاب في عدم رؤيته
لك حتى كأن على قلوبهم أغطية. وقيل: نزلت في قوم كانوا يؤذون رسول الله صلى الله
عليه وسلم إذا قرأ القرآن، وهم أبو جهل وأبو سفيان والنضر بن الحارث وأم جميل
امرأة أبي لهب وحويطب؛ فحجب الله سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم عن
أبصارهم عند قراءة القرآن، وكانوا يمرون به ولا يرونه؛ قاله الزجاج وغيره. وهو
معنى القول الأول بعينه، وهو الأظهر في الآية، والله اعلم. وقوله: « مستورا » فيه قولان: أحدهما - أن الحجاب
مستور عنكم لا ترونه. والثاني: أن الحجاب ساتر عنكم ما وراءه؛ ويكون مستورا به
بمعنى ساتر.
الآية:
46 ( وجعلنا على قلوبهم أكنة أن
يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا )
قوله
تعالى: « وجعلنا
على قلوبهم أكنة » « أكنة » جمع كنان، وهو ما ستر الشيء. وقد
تقدم في « الأنعام
» . « أن يفقهوه » أي لئلا يفقهوه، أو كراهية أن
يفقهوه، أي أن يفهموا ما فيه من الأوامر والنواهي والحكم والمعاني. وهذا رد على
القدرية. « وفي
آذانهم وقرا » أي صمما
وثقلا. وفي الكلام إضمار، أي أن يسمعوه. « وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده » أي قلت: لا إله إلا الله وأنت
تتلو القرآن. وقال أبو الجوزاء أوس بن عبدالله: ليس شيء أطرد للشياطين من القلب من
قول لا إله إلا الله، ثم تلا « وإذا
ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا » . وقال علي بن الحسين: هو قوله بسم الله الرحمن الرحيم. وقد
تقدم هذا في البسملة. « ولوا على
أدبارهم نفورا » قيل: يعني
بذلك المشركين. وقيل الشياطين. و « نفورا » جمع نافر؛ مثل شهود جمع شاهد،
وقعود جمع قاعد، فهو منصوب على الحال. ويجوز أن يكون مصدوا على غير الصدر؛ إذ كان
قوله « ولوا » بمعنى نقروا، فيكون معناه نفورا
نفورا.
الآية:
47 ( نحن أعلم بما يستمعون به إذ
يستمعون إليك وإذ هم نجوى إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا )
قوله
تعالى: « نحن أعلم
بما يستمعون به إذ يستمعون إليك » قيل:
الباء زائدة في قوله « به » أي يستمعونه. وكانوا يستمعون من
النبي صلى الله عليه وسلم القرآن ثم ينفرون فيقولون: هو ساحر ومسحور؛ كما أخبر
الله تعالى به عنهم؛ قاله قتادة وغيره. « وإذ هم نجوى » أي متناجون في أمرك. قال قتادة: وكانت نجواهم قولهم إنه مجنون
وإنه ساحر وإنه يأتي بأساطير الأولين، وغير ذلك. وقيل: نزلت حين دعا عتبة أشراف
قريش إلى طعام صنعه لهم، فدخل عليهم النبي صلى الله عليه وسلم وقرأ عليهم القرآن
ودعاهم إلى الله؛ فتناجوا؛ يقولون ساحر ومجنون. وقيل: أمر النبي صلى الله عليه
وسلم عليا أن يتخذ طعاما ويدعو إليه أشراف قريش من المشركين؛ ففعل ذلك علي ودخل
عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرأ عليهم القرآن ودعاهم إلى التوحيد، وقال:
( قولوا
لا إله إلا الله لتطيعكم العرب وتدين لكم العجم ) فأبوا، وكانوا يستمعون من النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون
بينهم متناجين: هو ساحر وهو مسحور؛ فنزلت الآية. وقال الزجاج: النجوى اسم للمصدر؛
أي وإذ هم ذو نجوى، أي سرار. « إذ يقول
الظالمون » أبو جهل
والوليد بن المغيرة وأمثالهما. « إن
تتبعون إلا رجلا مسحورا » أي مطبوبا
قد خبله السحر فاختلط عليه أمره، يقولون ذلك لينفروا عنه الناس. وقال مجاهد: « مسحورا » أي مخدوعا؛ مثل قوله: « فأني تسحرون » [ المؤمنون: 89 ] أي من أين تخدعون. وقال أبو
عبيدة: « مسحورا » معناه أن له سحرا، أي رئة، فهو
لا يستغني عن الطعام والشراب؛ فهو مثلكم وليس بملك. وتقول العرب للجبان: قد انتفخ
سحره. ولكل من أكل من آدمي وغيره أو شرب مسحور ومسحر. قال لبيد:
فإن
تسألينا فيم نحن فإننا عصافير من هذا الأنام المسحر
وقال امرؤ
القيس:
أرانا
موضعين لأمر غيب ونسحر بالطعام وبالشراب
أي نغذي
ونعلل. وفي الحديث عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: من هذه التي تساميني من
أزواج النبي صلى الله عليه وسلم؛ وقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سحري
ونحري.
الآية:
48 ( انظر كيف ضربوا لك الأمثال
فضلوا فلا يستطيعون سبيلا )
قوله
تعالى: « انظر كيف
ضربوا لك الأمثال » عجّبه من
صنعهم كيف يقولون تارة ساحر وتارة مجنون وتارة شاعر. « فضلوا فلا يستطيعون سبيلا » أي حيلة في صد الناس عنك. وقيل:
ضلوا عن الحق فلا يجدون سبيلا، أي إلى الهدى. وقيل: مخرجا؛ لتناقض كلامهم في
قولهم: مجنون، ساحر، شاعر.
الآية:
49 ( وقالوا أئذا كنا عظاما ورفاتا
أئنا لمبعوثون خلقا جديدا )
قوله
تعالى: « وقالوا
أئذا كنا عظاما ورفاتا » أي قالوا
وهم يتناجون لما سمعوا القرآن وسمعوا أمر البعث: لو لم يكن مسحورا مخدوعا لما قال
هذا. قال ابن عباس: الرفات الغبار. مجاهد: التراب. والرفات ما تكسر وبلي من كل
شيء؛ كالفتات والحطام والرضاض؛ عن أبي عبيدة والكسائي والفراء والأخفش. تقول منه:
رفت الشيء رفتا، أي حطم؛ فهو مرفوت. « أئنا لمبعوثون خلقا جديدا » « أئنا » استفهام والمراد به الجحد
والإنكار. و « خلقا » نصب لأنه مصدر؛ أي بعثا جديدا.
وكان هذا غاية الإنكار منهم.
الآيتان:
50 - 51 ( قل كونوا حجارة أو حديدا، أو
خلقا مما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة فسينغضون إليك
رؤوسهم ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا )
أي قل لهم
يا محمد كونوا على جهة التعجيز حجارة أو حديدا في الشدة والقوة. قال الطبري: أي إن
عجبتم من إنشاء الله لكم عظاما ولحما فكونوا أنتم حجارة أو حديدا إن قدرتم. وقال
علي بن عيسى: معناه أنكم لو كنتم حجارة أو حديدا لم تفوتوا الله عز وجل إذا
أرادكم؛ إلا أنه خرج مخرج الأمر، لأنه أبلغ في الإلزام. وقيل: معناه لو كنتم حجارة
أو حديدا لأعادكم كما بدأكم، ولأماتكم ثم أحياكم. وقال مجاهد: المعنى كونوا ما
شئتم فستعادون. النحاس: وهذا قول حسن؛ لأنهم لا يستطيعون أن يكونوا حجارة، وإنما
المعنى أنهم قد أقروا بخالقهم وأنكروا البعث فقيل لهم استشعروا أن تكونوا ما شئتم،
فلو كنتم حجارة أو حديدا لبعثتم كما خلقتم أول مرة. « أو خلقا مما يكبر في صدوركم » قال مجاهد: يعني السماوات والأرض
والجبال لعظمها في النفوس. وهو معنى قول قتادة. يقول: كونوا ما شئتم، فإن الله
يميتكم ثم يبعثكم. وقال ابن عباس وابن عمر وعبدالله بن عمرو بن العاص وابن جبير
ومجاهد أيضا وعكرمة وأبو صالح والضحاك: يعني الموت؛ لأنه ليس شيء أكبر في نفس ابن
آدم منه؛ قال أمية بن أبي الصلت:
وللموت خلق
في النفوس فظيع
يقول: إنكم
لو خلقتم من حجارة أو حديد أو كنتم الموت لأميتنكم ولأبعثنكم؛ لأن القدرة التي بها
أنشأتكم بها نعيدكم. وهو معنى قوله: « فسيقولون من يعيدنا » . وفي الحديث أنه ( يؤتى بالموت يوم القيامة في صورة كبش أملح فيذبح بين الجنة
والنار ) . وقيل:
أراد به البعث؛ لأنه كان أكبر في صدورهم؛ قاله الكلبي. « فطركم » خلقكم وأنشأكم. « فسينغضون إليك رؤوسهم » أي يحركون رؤوسهم استهزاء؛ يقال:
نغض رأسه ينغض وينغض نغضا ونغوضا؛ أي تحرك. وأنغض رأسه أي حركه، كالمتعجب من
الشيء؛ ومنه قوله تعالى: « فسينغضون
إليك رؤوسهم » . قال
الراجز:
أنغض نحوي
رأسه وأقنعا
ويقال
أيضا: نغض فلان رأسه أي حركه؛ يتعدى ولا يتعدى، حكاه الأخفش. ويقال: نغضت سنه؛ أي
حركت وانقلعت. قال الراجز:
ونغضت من
هرم أسنانها
وقال آخر:
لما رأتني
انغضت لي الرأسا
وقال آخر:
لا ماء في
المقراة إن لم تنهض بمسد فوق المحال النغض
المحال
والمحالة: البكرة العظيمة التي يستقي بها الإبل. « ويقولون متى هو » أي البعث والإعادة وهذا الوقت. « قل عسى أن يكون قريبا » أي هو قريب؛ لأن عسى واحب؛ نظيره
« وما
يدريك لعل الساعة تكون قريبا » [ الأحزاب: 63 ] و « لعل الساعة قريب » [ الشورى: 17 ] . وكل، ما هو آت فهو قريب.
الآية:
52 ( يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده
وتظنون إن لبثتم إلا قليلا )
قوله
تعالى: « يوم
يدعوكم » الدعاء:
النداء إلى المحشر بكلام تسمعه الخلائق، يدعوهم الله تعالى فيه بالخروج. وقيل:
بالصيحة التي يسمعونها؛ فتكون داعية لهم إلى الاجتماع في أرض القيامة. قال صلى
الله عليه وسلم: ( إنكم
تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم فأحسنوا أسماءكم ) . « فتستجيبون بحمده » أي باستحقاقه الحمد على الإحياء.
وقال أبو سهل: أي والحمد لله؛ كما قال:
فإني بحمد
الله لا ثوب فاجر لبست، ولا من غدرة أتقنع
وقيل:
حامدين لله تعالى بألسنتكم. قال سعيد بن جبير: تخرج الكفار من قبورهم وهم يقولون
سبحانك وبحمدك؛ ولكن لا ينفعهم اعتراف ذلك اليوم. وقال ابن عباس: « بحمده » بأمره؛ أي تقرون بأنه خالقكم.
وقال قتادة: بمعرفته وطاعته. وقيل: المعنى بقدرته. وقيل: بدعائه إياكم. قال
علماؤنا: وهو الصحيح؛ فإن النفخ في الصور إنما هو سبب لخروج أهل القبور؛ بالحقيقة
إنما هو خروج الخلق بدعوة الحق، قال الله تعالى: « يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده » فيقومون يقولون سبحانك اللهم
وبحمدك. قال: فيوم القيامة يوم يبدأ بالحمد ويختم به؛ قال الله تعالى: « يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده » وقال في آخر « وقضى بينهم بالحق وقيل الحمد
لله رب العالمين » [ الزمر: 75 ] . « وتظنون إن لبثتم إلا قليلا » يعني بين النفختين؛ وذلك أن العذاب
يكف عن المعذبين بين النفختين، وذلك أربعون عاما فينامون؛ فذلك قوله تعالى: « من بعثنا من مرقدنا » [ يس: 52 ] فيكون خاصا للكفار. وقال مجاهد:
للكافرين هجعة قبل يوم القيامة يجدون فيها طعم النوم، فإذا صيح بأهل القبور قاموا
مذعورين. وقال قتادة: المعنى أن الدنيا تحاقرت في أعينهم وقلت حين رأوا يوم
القيامة. الحسن: « وتظنون
إن لبثتم إلا قليلا » في الدنيا
لطول لبثكم في الآخرة.
الآية:
53 ( وقل لعبادي يقولوا التي هي
أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا )
قوله
تعالى: « وقل
لعبادي يقولوا التي هي أحسن » تقدم
إعرابه. والآية نزلت في عمر بن الخطاب. وذلك أن رجلا من العرب شتمه، وسبه عمر وهم
بقتله، فكادت تثير فتنة فأنزل الله تعالى فيه: « وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن » ذكره الثعلبي والماوردي وابن
عطية والواحدي. وقيل: نزلت لما قال المسلمون: ايذن لنا يا رسول الله في قتالهم فقد
طال إيذاؤهم إيانا، فقال: ( لم أومر
بعد بالقتال ) فأنزل
الله تعالى: « وقل
لعبادي يقولوا التي هي أحسن » ؛ قاله
الكلبي. وقيل: المعنى قل لعبادي الذين اعترفوا بأني خالقهم وهم يعبدون الأصنام، يقولوا
التي هي أحسن من كلمة التوحيد والإقرار بالنبوة. وقيل: المعنى وقل لعبادي المؤمنين
إذا جادلوا الكفار في التوحيد، أن يقولوا الكلمة التي هي أحسن. كما قال: « ولا تسبوا الذين يدعون من دون
الله فيسبوا الله عدوا بغير علم » [ الأنعام: 108 ] . وقال الحسن: هو أن يقول
للكافر إذا تشطط: هداك الله! يرحمك الله! وهذا قبل أن أمروا بالجهاد. وقيل: المعنى
قل لهم يأمروا بما أمر الله به وينهوا عما نهى الله عنه؛ وعلى هذا تكون الآية عامة
في المؤمن والكافر، أي قل للجميع. والله أعلم. وقالت طائفة: أمر الله تعالى في هذه
الآية المؤمنين فيما بينهم خاصة، بحسن الأدب وإلانة القول، وخفض الجناح وإطراح
نزغات الشيطان؛ وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( وكونوا عباد الله إخوانا ) . وهذا أحسن، وتكون الآية محكمة.
قوله
تعالى: « إن
الشيطان ينزغ بينهم » أي
بالفساد وإلقاء العداوة والإغواء. وقد تقدم في آخر « الأعراف » [ ويوسف ] . يقال: نزغ بيننا أي أفسد؛
قاله اليزيدي. وقال غيره: النزغ الإغراء. « إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا » أي شديد العداوة. وقد تقدم في « البقرة » . وفي الخبر ( أن قوما جلسوا يذكرون الله، عز
وجل فجاء الشيطان ليقطع مجلسهم فمنعته الملائكة فجاء إلى قوم جلسوا قريبا منهم لا
يذكرون الله فحرش بينهم فتخاصموا وتواثبوا فقال هؤلاء الذاكرون قوموا بنا نصلح بين
إخواننا فقاموا وقطعوا مجلسهم وفرح بذلك الشيطان ) . فهذا من بعض عداوته.
الآية:
54 ( ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم
أو إن يشأ يعذبكم وما أرسلناك عليهم وكيلا )
قوله
تعالى: « ربكم
أعلم بكم إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم » هذا خطاب للمشركين، والمعنى: إن يشأ يوفقكم للإسلام فيرحمكم،
أو يميتكم على الشرك فيعذبكم؛ قاله ابن جريج. و « اعلم » بمعنى
عليم؛ نحو قولهم: الله أكبر، بمعنى كبير. وقيل: الخطاب للمؤمنين؛ أي إن يشأ يرحمكم
بأن يحفظكم من كفار مكة، أو إن يشأ يعذبكم بتسليطهم عليكم؛ قاله الكلبي. « وما أرسلناك عليهم وكيلا » أي وما وكلناك في منعهم من الكفر
ولا جعلنا إليك إيمانهم. وقيل: ما جعلناك كفيلا لهم تؤخذ بهم؛ قاله الكلبي. وقال
الشاعر:
ذكرت أبا
أروى فبت كأنني برد الأمور الماضيات وكيل
أي كفيل.
الآية:
55 ( وربك أعلم بمن في السماوات
والأرض ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبورا )
قوله
تعالى: « وربك
أعلم بمن في السماوات والأرض » أعاد بعد
أن قال: « ربكم
اعلم بكم » ليبين أنه
خالقهم وأنه جعلهم مختلقين في أخلاقهم وصورهم وأحوالهم ومالهم « ألا يعلم من خلق » [ الملك: 14 ] . وكذا النبيون فضل بعضهم على
بعض عن علم منه بحالهم. وقد مضى القول في هذا في ( البقرة ) . « وآتينا داود زبورا » الزبور: كتاب ليس فيه حلال ولا
حرام، ولا فرائض ولا حدود؛ وإنما هو دعاء وتحميد وتمجيد. أي كما آتينا داود الزبور
فلا تنكروا أن يؤتى محمد القرآن. وهو في محاجة اليهود.
الآية:
56 ( قل ادعوا الذين زعمتم من دونه
فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا )
قوله
تعالى: « قل ادعوا
الذين زعمتم من دونه » لما
ابتليت قريش بالقحط وشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزل الله هذه الآية؛
أي ادعوا الذين تعبدون من دون الله وزعمتم أنهم آلهة. وقال الحسن: يعني الملائكة
وعيسى وعزيرا. ابن مسعود: يعني الجن. « فلا يملكون كشف الضر عنكم » أي القحط سبع سنين، على قول مقاتل. « ولا تحويلا » من الفقر إلى الغنى ومن السقم
إلى الصحة.
الآية:
57 ( أولئك الذين يدعون يبتغون إلى
ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا )
قوله
تعالى: « أولئك
الذين يدعون » « أولئك » مبتدأ « الذين » صفة « أولئك » وضمير الصلة محذوف؛ أي يدعونهم.
يعني أولئك المدعوون. و « يبتغون » خبر، أو يكون حالا، و « الذين يدعون » خبر؛ أي يدعون إليه عبادا إلى
عبادته. وقرأ ابن مسعود « تدعون » بالتاء على الخطاب. الباقون
بالياء على الخبر. ولا خلاف في « يبتغون » أنه بالياء. وفي صحيح مسلم من
كتاب التفسير عن عبدالله بن مسعود في قوله عز وجل: « أولئك الذين يدعون يبتغون إلى
ربهم الوسيلة » قال: نفر
من الجن أسلموا وكانوا يعبدون، فبقي الذين كانوا يعبدون على عبادتهم وقد أسلم
النفر من الجن. في رواية قال: نزلت في نفر من العرب كانوا يعبدون نفرا من الجن
فأسلم الجنيون والإنس الذين كانوا يعبدونهم لا يشعرون؛ فنزلت « أولئك الذين يدعون يبتغون إلى
ربهم الوسيلة » . وعنه
أيضا أنهم الملائكة كانت تعبدهم قبائل من العرب؛ ذكره الماوردي. وقال ابن عباس
ومجاهد: عزير وعيسى. و « يبتغون » يطلبون من الله الزلفة والقربة،
ويتضرعون إلى الله تعالى في طلب الجنة، وهي الوسيلة. أعلمهم الله تعالى أن
المعبودين يبتغون القربة إلى ربهم. والهاء والميم في « ربهم » تعود على العابدين أو على
المعبودين أو عليهم جميعا. وأما « يدعون » فعلى العابدين. « ويبتغون » على المعبودين. « أيهم أقرب » ابتداء وخبر. ويجوز أن يكون « أيهم أقرب » بدلا من الضمير في « يبتغون » ، والمعنى يبتغي أيهم أقرب
الوسيلة إلى الله. « ويرجون
رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا » أي مخوفا لا أمان لأحد منه؛ فينبغي أن يحذر منه ويخاف. وقال
سهل بن عبدالله: الرجاء والخوف زمانان على الإنسان، فإذا استويا استقامت أحواله،
وإن رجح أحدهما بطل الآخر.
الآية:
58 ( وإن من قرية إلا نحن مهلكوها
قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابا شديدا كان ذلك في الكتاب مسطورا )
قوله
تعالى: « وإن من
قرية إلا نحن مهلكوها » أي
مخربوها. « قبل يوم القيامة
أو معذبوها عذابا شديدا » قال
مقاتل: أما الصالحة فبالموت، وأما الطالحة فبالعذاب. وقال ابن مسعود: إذا ظهر
الزنى والربا في قرية أذن الله في هلاكهم. فقيل: المعنى وإن من قرية ظالمة؛ يقوي
ذلك قوله: « وما كنا
مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون » [ القصص: 59 ] . أي فليتق المشركون، فإنه ما
من قرية كافرة إلا سيحل بها العذاب. « كان ذلك في الكتاب » أي في اللوح. « مسطورا » أي
مكتوبا. والسطر: الخط والكتابة وهو في الأصل مصدر. والسطر ( بالتحريك ) ، مثله. قال جرير:
من شاء
بايعته مالي وخُلعته ما تكمل التيم في ديوانهم سطرا
الخلعة ( بضم الخاء ) : خيار المال. والسطر جمع
أسطار؛ مثل سبب وأسباب، ثم يجمع على أساطير. وجمع السطر أسطر وسطور؛ مثل أفلس
وفلوس. والكتاب هنا يراد به اللوح المحفوظ.
الآية:
59 ( وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا
أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا
تخويفا )
قوله
تعالى: « وما
منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون » في الكلام حذف، والتقدير: وما منعنا أن نرسل بالآيات التي
اقترحوها إلا أن يكذبوا بها فيهلكوا كما فعل بمن كان قبلهم. قال معناه قتادة وابن
جريج وغيرهما. فأخر الله تعالى العذاب عن كفار قريش لعلمه أن فيهم من يؤمن وفيهم
من يولد مؤمنا. وقد تقدم في « الأنعام
» وغيرها
أنهم طلبوا أن يحول الله لهم الصفا ذهبا وتتنحى الجبال عنهم؛ فنزل جبريل وقال: ( إن شئت كان ما سأل قومك ولكنهم
إن لم يؤمنوا لم يمهلوا وإن شئت استأنيت بهم ) . فقال: ( لا بل
استأن بهم ) . و « أن » الأولى في محل نصب بوقوع المنع
عليهم، و « أن » الثانية في محل رفع. والباء في « بالآيات » زائدة. ومجاز الكلام: وما منعنا
إرسال الآيات إلا تكذيب الأولين، والله تعالى لا يكون ممنوعا عن شيء؛ فالمعنى
المبالغة في أنه لا يفعل، فكأنه قد منع عنه. ثم بين ما فعل بمن سأل الآيات فلم
يؤمن بها فقال: « وآتينا
ثمود الناقة مبصرة » أي آية
دالة مضيئة نيرة على صدق صالح، وعلى قدرة الله تعالى. وقد تقدم ذلك. « فظلموا بها » أي ظلموا بتكذيبها. وقيل: جحدوا
بها وكفروا أنها من عند الله فاستأصلهم الله بالعذاب. « وما نرسل بالآيات إلا تخويفا » فيه خمسة أقوال: الأول: العبر
والمعجزات التي جعلها الله على أيدي الرسل من دلائل الإنذار تخويفا للمكذبين.
الثاني: أنها آيات الانتقام تخويفا من المعاصي. الثالث: أنها تقلب الأحوال من صغر
إلى شباب ثم إلى تكهل ثم إلى مشيب، لتعتبر بتقلب أحوالك فتخاف عاقبة أمرك؛ وهذا
قول أحمد بن حنبل رضي الله عنه. الرابع: القرآن. الخامس: الموت الذريع؛ قاله
الحسن.
الآية:
60 ( وإذ قلنا لك إن ربك أحاط
بالناس وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن
ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا )
قوله
تعالى: « وإذ قلنا
لك إن ربك أحاط بالناس » قال ابن
عباس: الناس هنا أهل مكة، وإحاطته بهم إهلاكه إياهم؛ أي أن الله سيهلكهم. وذكره
بلفظ الماضي لتحقق كونه. وعني بهذا الإهلاك الموعود ما جرى يوم بدر ويوم الفتح.
وقيل: معنى « أحاط
بالناس » أي أحاطت
قدرته بهم، فهم في قبضته لا يقدرون على الخروج من مشيئته؛ قاله مجاهد وابن أبي
نجيح. وقال الكلبي: المعنى أحاط علمه بالناس. وقيل: المراد عصمته من الناس أن
يقتلوه حتى يبلغ رسالة ربه؛ أي وما أرسلناك عليهم حفيظا، بل عليك التبليغ، فبلغ
بجدك فإنا نعصمك منهم ونحفظك، فلا تهبهم، وامض لما آمرك به من تبليغ الرسالة،
فقدرتنا محيطة بالكل؛ قال معناه الحسن وعروة وقتادة وغيرهم.
قوله
تعالى: « وما
جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس » لما بين أن إنزال آيات القرآن تتضمن التخويف ضم إليه ذكر آية
الإسراء، وهي المذكورة في صدر السورة. وفي البخاري والترمذي عن ابن عباس في قوله
تعالى: « وما
جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس » قال: هي رؤيا عين أريها النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري
به إلى بيت المقدس. قال: « والشجرة
الملعونة في القرآن » هي شجرة
الزقوم. قال أبو عيسى الترمذي: هذا حديث صحيح. وبقول ابن عباس قالت عائشة ومعاوية
والحسن ومجاهد وقتادة وسعيد بن جبير والضحاك وابن أبي نجيح وابن زيد. وكانت الفتنة
ارتداد قوم كانوا أسلموا حين أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه أسري به. وقيل:
كانت رؤيا نوم. وهذه الآية تقضي بفساده، وذلك أن رؤيا المنام لا فتنة فيها، وما
كان أحد لينكرها. وعن ابن عباس قال: الرؤيا التي في هذه الآية هي رؤيا رسول الله
صلى الله عليه وسلم أنه يدخل مكة في سنة الحديبية، فرد فافتتن المسلمون لذلك،
فنزلت الآية، فلما كان العام المقبل دخلها، وأنزل الله تعالى « لقد صدق الله رسوله الرؤيا
بالحق » [ الفتح: 27 ] . وفي هذا التأويل ضعف؛ لأن
السورة مكية وتلك الرؤيا كانت بالمدينة. وقال في رواية ثالثة: إنه عليه السلام رأى
في المنام بني مروان ينزون على منبره نزو القردة، فساءه ذلك فقيل: إنما هي الدنيا
أعطوها، فسري عنه، وما كان له بمكة منبر ولكنه يجوز أن يرى بمكة رؤيا المنبر
بالمدينة. وهذا التأويل الثالث قاله أيضا سهل بن سعد رضي الله عنه. قال سهل إنما
هذه الرؤيا هي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرى بني أمية ينزون على منبره
نزو القردة، فاغتم لذلك، وما استجمع ضاحكا من يومئذ حتى مات صلى الله عليه وسلم.
فنزلت الآية مخبرة أن ذلك من تملكهم وصعودهم يجعلها الله فتنة للناس وامتحانا.
وقرأ الحسن بن على في خطبته في شأن بيعته لمعاوية: « وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع
إلى حين » [ الأنبياء: 111 ] . قال ابن عطية: وفي هذا
التأويل نظر، ولا يدخل في هذه الرؤيا عثمان ولا عمر بن عبدالعزيز ولا معاوية.
قوله
تعالى: « والشجرة
الملعونة في القرآن » فيه تقديم
وتأخير؛ أي ما جعلنا الرؤيا التي أريناك والشجرة الملعونة في القرآن إلا فتنة
للناس. وفتنتها أنهم لما خوفوا بها قال أبو جهل استهزاء: هذا محمد يتوعدكم بنار
تحرق الحجارة، ثم يزعم أنها تنبت الشجر والنار تأكل الشجر، وما نعرف الزقوم إلا
التمر والزبد، ثم أمر أبو جهل جارية فأحضرت تمرا وزبدا وقال لأصحابه: تزقموا. وقد
قيل: إن القائل ما نعلم الزقوم إلا التمر والزبد ابن الزبعرى حيث قال: كثر الله من
الزقوم في داركم، فإنه التمر بالزبد بلغة اليمن. وجائز أن يقول كلاهما ذلك. فافتتن
أيضا لهذه المقالة بعض الضعفاء، فأخبر الله تعالى نبيه عليه السلام أنه إنما جعل
الإسراء وذكر شجرة الزقوم فتنة واختبارا ليكفر من سبق عليه الكفر ويصدق من سبق له
الإيمان. كما روي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قيل له صبيحة الإسراء: إن صاحبك
يزعم أنه جاء البارحة من بيت المقدس فقال: إن كان قال ذلك فلقد صدق. فقيل له:
أتصدقه قبل أن تسمع منه؟ فقال: أين عقولكم؟ أنا أصدقه بخبر السماء، فكيف لا أصدقه
بخبر بيت المقدس، والسماء أبعد منها بكثير.
قلت: ذكر
هذا الخبر ابن إسحاق، ونصه: قال كان من الحديث فيما بلغني عن مسراه صلى الله عليه
وسلم عن عبدالله بن مسعود وأبي سعيد الخدري وعائشة ومعاوية بن أبي سفيان والحسن بن
أبي الحسن وابن شهاب الزهري وقتادة وغيرهم من أهل العلم وأم هانئ بنت أبي طالب، ما
اجتمع في هذا الحديث، كل يحدث عنه بعض ما ذكر من أمره حين أسري به صلى الله عليه
وسلم، وكان في مسراه وما ذكر عنه بلاء وتمحيص وأمر من أمر الله عز وجل في قدرته
وسلطانه فيه عبرة لأولي الألباب، وهدى ورحمة وثبات لمن آمن وصدق وكان من أمر الله
تعالى على يقين؛ فأسرى به صلى الله عليه وسلم كيف شاء وكما شاء ليريه من آياته ما
أراد، حتى عاين ما عاين من أمره وسلطانه العظيم، وقدرته التي يصنع بها ما يريد.
وكان عبدالله بن مسعود فيما بلغني عنه يقول: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم
بالبراق - وهي الدابة التي كانت تحمل عليها الأنبياء قبله تضع حافرها في منتهى
طرفها - فحمل عليها، ثم خرج به صاحبه يُرى الآيات فيما بين السماء والأرض، حتى
انتهى إلى بيت المقدس، فوجد فيه إبراهيم وموسى وعيسى في نفر من الأنبياء قد جمعوا
له فصلى بهم ثم أتي بثلاثة آنية: إناء فيه لبن وإناء فيه خمر؛ وإناء فيه ماء. قال:
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( فسمعت قائلا يقول حين عُرضَت عليّ إن أخذ الماء فغرق وغرقت
أمته وإن أخذ الخمر فغوي وغوت أمته وإن أخذ اللبن فهُدي وهُديت أمته قال فأخذت
إناء اللبن فشربت فقال له جبريل هُديت وهُديت أمتك يا محمد ) . قال ابن إسحاق: وحدثت عن
الحسن أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( بينما أنا نائم في الحجر جاءني
جبريل عليه السلام فهمزني بقدمه فجلست فلم أر شيئا ثم عدت لمضجعي فجاءني الثانية
فهمزني بقدمه فجلست فلم أر شيئا فعدت لمضجعي فجاءني الثالثة فهمزني بقدمه فجلست
فأخذ بعضدي فقمت معه فخرج إلى باب المسجد فإذا دابة أبيض بين البغل والحمار في
فخديه جناحان يحفز بهما رجليه يضع حافره في منتهى طرفه فحملني عليه ثم خرج معي لا
يفوتني ولا أفوته ) . قال
ابن إسحاق: وحدثت عن قتادة أنه قال: حدثت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لما دنوت منه لأركبه شمس فوضع
جبريل يده على معرفته ثم قال ألا تستحي يا براق مما تصنع فوالله ما ركبك عبد لله
قبل محمد أكرم عليه منه قال فاستحيا حتى أرفض عرقا ثم قر حتى ركبته ) .
قال الحسن
في حديثه: فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومضى معه جبريل حتى انتهى إلى بيت
المقدس، فوجد فيه إبراهيم وموسى وعيسى في نفر من الأنبياء، فأمهم رسول الله صلى
الله عليه وسلم فصلى بهم ثم أتى بإناءين: في أحدهما خمر وفي الآخر لبن، قال: فأخذ
رسول الله صلى الله عليه وسلم إناء اللبن فشرب منه وترك إناء الخمر. قال: فقال له
جبريل: هديت الفطرة وهديت أمتك وحرمت عليكم الخمر. ثم انصرف رسول الله صلى الله
عليه وسلم إلى مكة، فلما أصبح غدا على قريش فأخبرهم الخبر؛ فقال أكثر الناس: هذا
والله الأمر البين والله إن العير لتطرد شهرا من مكة إلى الشام، مدبرة شهرا ومقبلة
شهرا، فيذهب ذلك محمد في ليلة واحدة ويرجع إلى مكة قال: فارتد كثير ممن كان أسلم،
وذهب الناس إلى أبي بكر فقالوا: هل لك يا أبا بكر في صاحبك يزعم أنه قد جاء هذه
الليلة بيت المقدس، وصلى فيه ورجع إلى مكة. قال فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه:
إنكم تكذبون عليه. فقالوا: بلى، ها هو ذا في المسجد يحدث به الناس. فقال أبو بكر:
والله لئن كان قاله لقد صدق فما يعجبكم من ذلك فوالله إنه ليخبرني إن الخبر ليأتيه
من السماء إلى الأرض في ساعة من ليل أو نهار فأصدقه، فهذا أبعد مما تعجبون منه. ثم
أقبل حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله، أحدثت هؤلاء
أنك جئت بيت المقدس هذه الليلة؟ قال ( نعم ) قال: يا
نبي الله، فصفه لي فإني قد جئته؟ فقال الحسن: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
( رفع لي
حتى نظرت إليه ) فجعل
رسول الله صلى الله عليه وسلم يصفه لأبي بكر ويقول أبو بكر رضي الله عنه: صدقت،
أشهد أنك رسول الله. كلما وصف له منه شيئا قال: صدقت، أشهد أنك رسول الله. قال:
حتى إذا انتهى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه: ( وأنت يا أبا بكر الصديق ) فيومئذ سماه الصديق. قال الحسن:
وأنزل الله تعالى فيمن ارتد عن الإسلام لذلك: « وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة
الملعونة قي القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا » . فهذا حديث الحسن عن مسرى رسول
الله صلى الله عليه وسلم وما دخل فيه من حديث قتادة. وذكر باقي الإسراء عمن تقدم
في السيرة. وقال ابن عباس: هذه الشجرة بنو أمية، وأن النبي صلى الله عليه وسلم نفى
الحكم. وهذا قول ضعيف محدث والسورة مكية، فيبعد هذا التأويل؛ إلا أن تكون هذه
الآية مدنية، ولم يثبت ذلك. وقد قالت عائشة لمروان: لعن الله أباك وأنت في صلبه
فأنت بعض من لعنة الله. ثم قال: « والشجرة
الملعونة في القرآن » ولم يجر
في القرآن لعن هذه الشجرة، ولكن الله لعن الكفار وهم آكلوها. والمعنى: والشجرة
الملعونة في القرآن آكلوها. ويمكن أن يكون هذا على قول العرب لكل طعام مكروه ضار:
ملعون. وقال ابن عباس: الشجرة الملعونة هي هذه الشجرة التي تلتوي على الشجر
فتقتله، يعني الكشوث. « ونخوفهم
» أي
بالزقوم. « فما
يزيدهم » التخويف
إلا الكفر.
الآيتان:
61 - 62 ( وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم
فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طينا، قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن
أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا )
قوله
تعالى: « وإذ قلنا
للملائكة اسجدوا لآدم » تقدم ذكر
كون الشيطان عدو الإنسان، فانجر الكلام إلى ذكر آدم. والمعنى: اذكر بتمادي هؤلاء
المشركين وعتوهم على ربهم قصة إبليس حين عصى ربه وأبى السجود، وقال ما قال، وهو ما
أخبر الله تعالى في قوله تعالى: « فسجدوا
إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طينا » أي من طين. وهذا استفهام إنكار. وقد تقدم القول في خلق آدم في
« البقرة » و « الأنعام » مستوفى. « قال أرأيتك » أي قال إبليس. والكاف توكيد
للمخاطبة. « هذا الذي
كرمت علي » أي فضلته
علي. ورأى جوهر النار خيرا من جوهر الطين ولم يعلم أن الجواهر متماثلة. وقد تقدم
هذا في « الأعراف
» . و « هذا » نصب بـ « أرأيت » . « الذي » نعته. والإكرام: اسم جامع لكل ما
يحمد. وفي الكلام حذف تقديره: أخبرني عن هذا الذي فضلته علي، لم فضلته وقد خلقتني
من نار وخلقته من طين؟ فحذف لعلم السامع. وقيل: لا حاجة إلى تقدير الحذف؛ أي أترى
هذا الذي كرمته علي لأفعلن به كذا وكذا. ومعنى « لأحتنكن » في قول
ابن عباس: لأستولين عليهم. وقاله الفراء. مجاهد: لأحتوينهم. ابن زيد: لأضلنهم.
والمعنى متقارب؛ أي لأستأصلن ذريته بالإغواء والإضلال، ولأجتاحنهم. وروي عن العرب:
إحتنك الجراد الزرع إذا ذهب به كله. وقيل: معناه لأسوقنهم حيث شئت وأقودنهم حيث
أردت. ومن قولهم: حنكت الفرس أحنكه وأحنكه حنكا إذا جعلت في فيه الرسن. وكذلك
إحتنكه. والقول الأول قريب من هذا؛ لأنه إنما يأتي على الزرع بالحنك. وقال الشاعر:
أشكو إليك
سنة قد أجحفت جهدا إلى جهد بنا وأضعفت
واحتنكت
أموالنا واجتلفت
« إلا
قليلا » يعني
المعصومين، وهم الذين ذكرهم الله في قوله: « إن عبادي ليس لك عليهم سلطان » [ الإسراء: 65 ] وإنما قال إبليس ذلك ظنا؛. كما
قال الله تعالى: « ولقد صدق
عليهم إبليس ظنه » [ سبأ: 20 ] أو علم من طبع البشر تركب
الشهوة فيهم؛ أو بنى على قول الملائكة: « أتجعل فيها من يفسد فيها » [
البقرة: 30 ] . وقال
الحسن: ظن ذلك لأنه وسوس إلى آدم عليه السلام فلم يجد له عزما.
الآية:
63 ( قال اذهب فمن تبعك منهم فإن
جهنم جزاؤكم جزاء موفورا )
قوله
تعالى: « قال اذهب
» هذا أمر
إهانة؛ أي اجهد جهدك فقد أنظرناك « فمن تبعك
منهم » أي أطاعك
من ذرية آدم. « فإن جهنم
جزاؤكم جزاء موفورا » أي وافرا؛
عن مجاهد وغيره. وهو نصب على المصدر، يقال: وفرته أفره وفرا، ووفر المال بنفسه يفر
وفورا فهو وافر؛ فهو لازم ومتعد.
الآية:
64 ( واستفزز من استطعت منهم بصوتك
وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا
غرورا )
قوله
تعالى: « واستفزز
» أي استزل
واستخف. وأصله القطع، ومنه تفزز الثوب إذا انقطع. والمعنى استزله بقطعك إياه عن
الحق. واستفزه الخوف أي استخفه. وقعد مستفزا أي غير مطمئن. « واستفزز » أمر تعجيز، أي أنت لا تقدر على
إضلال أحد، وليس لك على أحد سلطان فافعل ما شئت. « بصوتك » وصوته كل
داع يدعو إلى معصية الله تعالى؛ عن ابن عباس. مجاهد: الغناء والمزامير واللهو.
الضحاك: صوت المزمار. وكان آدم عليه السلام أسكن أولاد هابيل أعلى الجبل، وولد
قابيل أسفله، وفيهم بنات حسان، فزمر اللعين فلم يتمالكوا أن انحدروا فزنوا ذكره
الغزنوي. وقيل: « بصوتك » بوسوستك.
قوله
تعالى: « وأجلب
عليهم بخيلك ورجلك » أصل
الإجلاب السوق بجلبة من السائق؛ يقال: أجلب إجلابا. والجلب والجلبة: الأصوات؛ تقول
منه: جلبوا بالتشديد. وجلب الشيء يجلبه ويجلبه جلبا وجلبا. وجلبت الشيء إلى نفسي
واجتلبته بمعنى. وأجلب على العدو إجلابا؛ أي جمع عليهم. فالمعنى أجمع عليهم كل ما
تقدر عليه من مكايدك وقال أكثر المفسرين: يريد كل راكب وماش في معصية الله تعالى.
وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة: إن له خيلا ورجلا من الجن والإنس. فما كان من راكب
وماش يقاتل في معصية الله فهو من خيل إبليس ورجالته. وروى سعيد بن جبير ومجاهد عن
ابن عباس قال: كل خيل سارت في معصية الله، وكل رجل مشى في معصية الله، وكل مال
أصيب من حرام، وكل ولد بغية فهو للشيطان. والرجل جمع راجل؛ مثل صحب وصاحب. وقرأ
حفص « ورجلك » بكسر الجيم وهما لغتان؛ يقال:
رجل ورجل بمعنى راجل. وقرأ عكرمة وقتادة « ورجالك » على
الجمع.
قوله
تعالى: « وشاركهم
في الأموال والأولاد » أي اجعل
لنفسك شركة في ذلك. فشركته في الأموال إنفاقها في معصية الله؛ قاله الحسن. وقيل:
هي التي أصابوها من غير حلها؛ قاله مجاهد. ابن عباس: ما كانوا يحرمونه من البحيرة
والسائبة والوصيلة والحام. وقاله قتادة. الضحاك: ما كانوا يذبحونه لآلهتهم.
والأولاد قيل: هم أولاد الزنى، قاله مجاهد والضحاك وعبدالله بن عباس. وعنه أيضا هو
ما قتلوا من أولادهم وأتوا فيهم من الجرائم. وعنه أيضا: هو تسميتهم عبد الحارث
وعبد العزى وعبد اللات وعبد الشمس ونحوه. وقيل: هو صبغة أولادهم في الكفر حتى
هودوهم ونصروهم، كصنع النصارى بأولادهم بالغمس في الماء الذي لهم؛ قال قتادة. وقول
خامس - روى عن مجاهد قال: إذا جامع الرجل ولم يسم انطوى الجان على إحليله فجامع
معه، فذلك قوله تعالى: « لم
يطمثهن إنس قبلهم ولا جان » وسيأتي.
وروى من حديث عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن فيكم مغرِّبين ) قلت: يا رسول الله، وما
المغربون؟ قال: ( الذين
يشترك فيهم الجن ) . رواه
الترمذي الحكيم في نوادر الأصول. قال الهروي: سموا مغربين لأنه دخل فيهم عرق غريب.
قال الترمذي الحكيم: فللجن مساماة بابن آدم في الأمور والاختلاط؛ فمنهم من يتزوج
فيهم، وكانت بلقيس ملكة سبأ أحد أبويها من الجن. وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
قوله
تعالى: « وعدهم » أي منّهم الأماني الكاذبة، وأنه
لا قيامة ولا حساب، وأنه إن كان حساب وجنة ونار فأنتم أولى بالجنة من غيركم يقويه
قوله تعالى: « يعديهم
ويمنيهم وما بعدهم الشيطان إلا غرورا » أي باطلا. وقبل « وعدهم » أي عدهم
النصر على من أرادهم بسوء. وهذا الأمر للشيطان تهدد ووعيد له. وقيل: استخفاف به
وبمن اتبعه.
في الآية
ما يدل على تحريم المزامير والغناء واللهو؛ لقوله: « واستفزز من استطعت منهم بصوتك
وأجلب عليهم » على قول
مجاهد. وما كان من صوت الشيطان أو فعله وما يستحسنه فواجب التنزه عنه. وروى نافع
عن ابن عمر أنه سمع صوت زمارة فوضع أصبعيه في أذنيه، وعدل راحلته عن الطريق وهو
يقول: يا نافع! أتسمع؟ فأقول نعم؛ فمضى حتى قلت له لا، فوضع يديه وأعاد راحلته إلى
الطريق وقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع صوت زمارة راع فصنع مثل هذا.
قال علماؤنا: إذا كان هذا فعلهم في حق صوت لا يخرج عن الاعتدال، فكيف بغناء أهل
هذا الزمان وزمرهم. وسيأتي لهذا مزيد بيان في سورة [ لقمان ] إن شاء الله تعالى.
الآية:
65 ( إن عبادي ليس لك عليهم سلطان
وكفى بربك وكيلا )
قوله
تعالى: « إن عبادي
ليس لك عليهم سلطان » قال ابن
عباس: هم المؤمنون. وقد تقدم الكلام فيه. « وكفى بربك وكيلا » أي عاصما من القبول من إبليس، وحافظا من كيده وسوء مكره.
الآية:
66 ( ربكم الذي يزجي لكم الفلك في
البحر لتبتغوا من فضله إنه كان بكم رحيما )
قوله
تعالى: « ربكم
الذي يزجي لكم الفلك في البحر » الإزجاء:
السوق؛ ومنه قوله تعالى: « ألم تر
أن الله يزجي سحابا » . وقال
الشاعر:
يا أيها
الراكب المزجي مطيته سائل بنى أسد ما هذه الصوت
وإزجاء
الفلك: سوقه بالريح اللينة. والفلك هنا جمع، وقد تقدم. والبحر الماء الكثير عذبا
كان أو ملحا، وقد غلب هذا الاسم على الملح. وهذه الآية توقيف على آلاء الله وفضله
عند عباده؛ أي ربكم الذي أنعم عليكم بكذا وكذا فلا تشركوا به شيئا. « لتبتغوا من فضله » أي في التجارات. وقد تقدم. « إنه كان بكم رحيما » .
الآية:
67 ( وإذا مسكم الضر في البحر ضل من
تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا )
قوله
تعالى: « وإذا
مسكم الضر في البحر » « الضر » لفظ يعم خوف الغرق والإمساك عن
الجري. وأهوال حالاته اضطرابه وتموجه. « ضل من تدعون إلا إياه » « ضل » معناه تلف وفقد؛ وهي عبارة تحقير
لمن يدعي إلها من دون الله. المعنى في هذه الآية: أن الكفار إنما يعتقدون في
أصنامهم أنها شافعة، وأن لها فضلا. وكل واحد منهم بالفطرة يعلم علما لا يقدر على
مدافعته أن الأصنام لا فعل لها في الشدائد العظام، فوقفهم الله من ذلك على حالة
البحر حيث تنقطع الحيل. « فلما
نجاكم إلى البر أعرضتم » أي عن
الإخلاص. « وكان
الإنسان كفورا » الإنسان
هنا الكافر. وقيل: وطبع الإنسان كفورا للنعم إلا من عصمه الله؛ فالإنسان لفظ
الجنس.
الآية:
68 ( أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر
أو يرسل عليكم حاصبا ثم لا تجدوا لكم وكيلا )
قوله
تعالى: « أفأمنتم
أن يخسف بكم جانب البر » بين أنه
قادر على هلاكهم في البر وإن سلموا من البحر. والخسف: أن تنهار الأرض بالشيء؛
يقال: بئر خسيف إذا انهدم أصلها. وعين خاسف أي غارت حدقتها في الرأس. وعين من
الماء خاسفو أي غاز ماؤها. وخسفت الشمس أي غابت عن الأرض. وقال أبو عمرو: والخسيف
البئر التي تحفر في الحجارة فلا ينقطع ماؤها كثرة. والجمع خسف. وجانب البر: ناحية
الأرض؛ وسماه جانبا لأنه يصير بعد الخسف جانبا. وأيضا فإن البحر جانب والبر جانب.
وقيل: إنهم كانوا على ساحل البحر، وساحله جانب البر، وكانوا فيه آمنين من أهوال
البحر، فحذرهم ما أمنوه من البر كما حذرهم ما خافوه من البحر. « أو يرسل عليكم حاصبا » يعني ريحا شديدة، وهي التي ترمي
بالحصباء، وهي الحصى الصغار؛ قاله أبو عبيدة والقتبي. وقال قتادة: يعني حجارة من
السماء تحصبهم، كما فعل بقوم لوط. ويقال للسحابة التي ترمي بالبرد: صاحب، وللريح
التي تحمل التراب والحصباء حاصب وحصبة أيضا. قال لبيد:
جرت عليها
أن خوت من أهلها أذيالها كل عصوف حصبه
وقال
الفرزدق:
مستقبلين
شمال الشام يضربنا بحاصب كنديف القطن منثور
« ثم لا
تجدوا لكم وكيلا » أي حافظا
ونصيرا يمنعكم من بأس الله.
الآية:
69 ( أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة
أخرى فيرسل عليكم قاصفا من الريح فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا به
تبيعا )
قوله
تعالى: « أم أمنتم
أن يعيدكم فيه تارة أخرى » يعني في
البحر. « فيرسل
عليكم قاصفا من الريح » القاصف: الريح
الشديدة التي تكسر بشدة؛ من قصف الشيء يقصفه؛ أي كسره بشدة. والقصف: الكسر؛ يقال:
قصفت الريح السفينة. وريح قاصف: شديدة. ورعد قاصف: شديد الصوت. يقال: قصف الرعد
وغيره قصيفا. والقصيف: هشيم الشجر. والتقصف التكسر. والقصف أيضا: اللهو واللعب؛
يقال: إنها مولدة. « فيغرقكم
بما كفرتم » أي
بكفركم. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو « نخسف بكم
» « أو نرسل عليكم » « أن نعيدكم » « فنرسل عليكم » « فنغرقكم » بالنون في
الخمسة على التعظيم، لقوله: « علينا » الباقون بالياء؛ لقوله في الآية
قبل: « إياه » . وقرأ أبو جعفر وشيبة ورويس
ومجاهد « فتغرقكم
» بالتاء
نعتا للريح. وعن الحسن وقتادة « فيغرقكم
» بالياء مع
التشديد في الراء. وقرأ أبو جعفر « الرياح » هنا وفي كل القرآن. وقيل: إن
القاصف المهلكة في البر، والعاصف المغرقة في البحر؛ حكاه الماوردي. « ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا
» قال
مجاهد: ثائرا. النحاس: وهو من الثأر. وكذلك يقال لكل من طلب بثأر أو غيره: تبيع
وتابع؛ ومنه « فاتباع
بالمعروف » [ البقرة: 178 ] أي مطالبة.
الآية:
70 ( ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم
في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا )
قوله
تعالى: « ولقد
كرمنا بني آدم » الآية.
لما ذكر من الترهيب ما ذكر بين النعمة عليهم أيضا. « كرمنا » تضعيف كرم؛ أي جعلنا لهم كرما أي
شرفا وفضلا. وهذا هو كرم نفي النقصان لا كرم المال. وهذه الكرامة يدخل فيها خلقهم
على هذه الهيئة في امتداد القامة وحسن الصورة، وحملهم في البر والبحر مما لا يصح
لحيوان سوى بني آدم أن يكون يتحمل بإرادته وقصده وتدبيره. وتخصيصهم بما خصهم به من
المطاعم والمشارب والملابس، وهذا لا يتسع فيه حيوان اتساع بني آدم؛ لأنهم يكسبون
المال خاصة دون الحيوان، ويلبسون الثياب ويأكلون المركبات من الأطعمة. وغاية كل
حيوان يأكل لحما نيئا أو طعاما غير مركب. وحكى الطبري عن جماعة أن التفضيل هو أن
يأكل بيده وسائر الحيوان بالفم. وروي عن ابن عباس؛ ذكره المهدوي والنحاس؛ وهو قول
الكلبي ومقاتل؛ ذكره الماوردي. وقال الضحاك: كرمهم بالنطق والتمييز. عطاء: كرمهم
بتعديل القامة وامتدادها. يمان: بحسن الصورة. محمد بن كعب: بأن جعل محمدا صلى الله
عليه وسلم منهم. وقيل أكرم الرجال باللحى والنساء بالذوائب. وقال محمد بن جرير
الطبري: بتسليطهم على سائر الخلق، وتسخير سائر الخلق لهم. وقيل: بالكلام والخط.
وقيل: بالفهم والتمييز. والصحيح الذي يعول عليه أن التفضيل إنما كان بالعقل الذي
هو عمدة التكليف، وبه يعرف الله ويفهم كلامه، ويوصل إلى نعيمه وتصديق رسله؛ إلا
أنه لما لم ينهض بكل المراد من العبد بعثت الرسل وأنزلت الكتب. فمثال الشرع الشمس،
ومثال العقل العين؛ فإذا فتحت وكانت سليمة رأت الشمس وأدركت تفاصيل الأشياء. وما
تقدم من الأقوال بعضه أقوى من بعض. وقد جعل الله في بعض الحيوان خصالا يفضل بها
ابن آدم أيضا؛ كجري الفرس وسمعه وإبصاره، وقوة الفيل وشجاعة الأسد وكرم الديك.
وإنما التكريم والتفضيل بالعقل كما بيناه. والله اعلم.
قالت فرقة:
هذه الآية تقتضي تفضيل الملائكة على الإنس والجن من حيث إنهم المستثنون في قوله
تعالى: « ولا
الملائكة المقربون » [ النساء: 171 ] . وهذا غير لازم من الآية، بل
التفضيل فيها بين الإنس والجن؛ فإن هذه الآية إنما عدد الله فيها على بني آدم ما
خصهم به من سائر الحيوان، والجن هو الكثير المفضول، والملائكة هم الخارجون عن
الكثير المفضول، ولم تتعرض الآية لذكرهم، بل يحتمل أن الملائكة أفضل، ويحتمل
العكس، ويحتمل التساوي، وعلى الجملة فالكلام لا ينتهي في هذه المسألة إلى القطع.
وقد تحاشى قوم من الكلام في هذا كما تحاشوا من الكلام في تفضيل بعض الأنبياء على
بعض؛ إذ في الخبر ( لا
تخايروا بين الأنبياء ولا تفضلوني على يونس بن متى ) . وهذا ليس بشيء؛ لوجود النص في
القرآن في التفضيل بين الأنبياء. وقد بيناه في « البقرة » ومضى فيها
الكلام في تفضيل الملائكة والمؤمن.
قوله
تعالى: « ورزقناهم
من الطيبات » يعني لذيذ
المطاعم المشارب. قال مقاتل: السمن والعسل والزبد والتمر والحلوى، وجعل رزق غيرهم
ما لا يخفى عليكم من التبن والعظام وغيرها. « وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا » أي على البهائم والدواب والوحش
والطير بالغلبة والاستيلاء، والثواب والجزاء والحفظ والتمييز وإصابة الفراسة.
هذه الآية
ترد ما روي عن عائشة رضي الله عنها، قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( احرموا أنفسكم طيب الطعام
فإنما قوى الشيطان أن يجري في العروق منها ) . وبه يستدل كثير من الصوفية في ترك أكل الطيبات، ولا أصل
له؛ لأن القرآن يرده، والسنة الثابتة بخلافه، على ما تقرر في غير موضع. وقد حكى
أبو حامد الطوسي قال: كان سهل يقتات من ورق النبق مدة. وأكل دقاق ورق التين ثلاث
سنين. وذكر إبراهيم بن البنا قال: صحبت ذا النون من إخميم إلى الإسكندرية، فلما
كان وقت إفطاره أخرجت قرصا وملحا كان معي، وقلت: هلم. فقال لي: ملحك مدقوق؟ قلت
نعم. قال: لست تفلح! فنظرت إلى مزوده وإذا فيه قليل سويق شعير يسف منه. وقال أبو
يزيد: ما أكلت شيئا مما يأكله بنو آدم أربعين سنة. قال علماؤنا: وهذا مما لا يجوز
حمل النفس عليه؛ لأن الله تعالى أكرم الآدمي بالحنطة وجعل قشورها لبهائمهم، فلا
يصح مزاحمة الدواب في أكل التبن، وأما سويق الشعير فإنه يورث القولنج، وإذا اقتصر
الإنسان على خبز الشعير والملح الجريش فإنه ينحرف مزاجه؛ لأن خبز الشعير بارد
مجفف، والملح يابس قابض يضر الدماغ والبصر. وإذا مالت النفس إلى ما يصلحها فمنعت
فقد قوومت حكمة البارئ سبحانه بردها، ثم يؤثر ذلك في البدن، فكان هذا الفعل مخالفا
للشرع والعقل. ومعلوم أن البدن مطية الآدمي، ومتى لم يرفق بالمطية لم تبلغ. وروي
عن إبراهيم بن أدهم أنه اشترى زبدا وعسلا وخبز حُوارى، فقيل له: هذا كله؟ فقال:
إذا وجدنا أكلنا أكل الرجال، وإذا عدمنا صبرنا صبر الرجال. وكان الثوري يأكل اللحم
والعنب والفالوذج ثم يقوم إلى الصلاة. ومثل هذا عن السلف كثير. وقد تقدم منه ما
يكفي في المائدة والأعراف وغيرهما. والأول غلو في الدين إن صح عنهم « ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها
عليهم » [ الحديد:27 ] .
الآية:
71 ( يوم ندعوا كل أناس بإمامهم فمن
أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرؤون كتابهم ولا يظلمون فتيلا )
قوله
تعالى: « يوم ندعو
كل أناس بإمامهم » روى
الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: « يوم ندعو كل أناس بإمامهم » قال: ( يدعي أحدهم فيعطي كتابه
بيمينه، ويمد له في جسمه ستون ذراعا، ويبيض وجهه ويجعل على رأسه تاج من لؤلؤ
يتلألأ فينطلق إلى أصحابه فيرونه من بعيد فيقولون اللهم ائتنا بهذا وبارك لنا في
هذا حتى يأتيهم فيقول أبشروا لكل منكم مثل هذا - قال - وأما الكافر فيسود وجهه
ويمد له في جسمه ستون ذرعا على صورة آدم ويلبس تاجا فيراه أصحابه فيقولون نعوذ
بالله من شر هذا! اللهم لا تأتنا بهذا. قال: فيأتيهم فيقولون اللهم أخره. فيقول
أبعدكم الله فإن لكل رجل منكم مثل هذا ) . قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب. ونظير هذا قوله: « وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعي
إلى كتابهم اليوم تجزون ما كنتم تعملون » . والكتاب يسمى إماما؛ لأنه يرجع إليه في تعرف أعمالهم. وقال
ابن عباس والحسن وقتادة والضحاك: « بإمامهم
» أي
بكتابهم، أي بكتاب كل إنسان منهم الذي فيه عمله؛ دليله « فمن أوتي كتابه بيمينه » . وقال ابن زيد: بالكتاب المنزل
عليهم. أي يدعي كل إنسان بكتابه الذي كان يتلوه؛ فيدعي أهل التوراة بالتوراة، وأهل
القرآن بالقرآن؛ فيقال: يأهل القرآن، ماذا عملتم، هل امتثلتم أوامره هل اجتنبتم
نواهيه! وهكذا. وقال مجاهد: « بإمامهم
» بنبيهم،
والإمام من يؤتم به. فيقال: هاتوا متبعي إبراهيم عليه السلام، هاتوا متبعي موسى
عليه السلام، هاتوا متبعي الشيطان، هاتوا متبعي الأصنام. فيقوم أهل الحق فيأخذون
كتابهم بأيمانهم، ويقوم أهل الباطل فيأخذون كتابهم بشمالهم. وقاله قتادة. وقال على
رضى الله عنه: بإمام عصرهم. وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: « يوم ندعو كل أناس بإمامهم » فقال: ( كل يدعي بإمام زمانهم وكتاب
ربهم وسنة نبيهم فيقول هاتوا متبعي إبراهيم هاتوا متبعي موسى هاتوا متبعي عيسى
هاتوا متبعي محمد - عليهم أفضل الصلوات والسلام - فيقوم أهل الحق فيأخذون كتابهم
بأيمانهم، ويقول: هاتوا متبعي الشيطان هاتوا متبعي رؤساء الضلالة إمام هدى وإمام
ضلالة ) . وقال
الحسن وأبو العالية: « بإمامهم
» أي
بأعمالهم. وقاله ابن عباس. فيقال: أين الراضون بالمقدور، أين الصابون عن المحذور.
وقيل: بمذاهبهم؛ فيدعون بمن كانوا يأتمون به في الدنيا: يا حنفي، يا شافعي، يا
معتزلي، يا قدري، ونحوه؛ فيتبعونه في خير أو شر أو على حق أو باطل، وهذا معنى قوله
أبي عبيدة. وقد تقدم. وقال أبو هريرة: يدعي أهل الصداقة من باب الصداقة، وأهل
الجهاد من باب الجهاد...، الحديث بطوله. أبو سهل: يقال أين فلان المصلي والصوام،
وعكسه الدفاف والنمام. وقال محمد بن كعب: « بإمامهم » بأمهاتهم.
وإمام جمع آم. قالت الحكماء: وفي ذلك ثلاثة أوجه من الحكمة؛ أحدها - لأجل عيسى.
والثاني - إظهار لشرف الحسن والحسين. والثالث - لئلا يفتضح أولاد الزنى.
قلت: وفي
هذا القول نظر؛ فإن في الحديث الصحيح عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: ( إذا جمع
الله الأولين والآخرين يوم القيام يرفع لكل غادر لواء فيقال هذه غدرة فلان بن فلان
) خرجه
مسلم والبخاري. فقوله: « هذه غدرة
فلان ابن فلان » دليل على
أن الناس يدعون في الآخرة بأسمائهم وأسماء آبائهم، وهذا يرد على من قال: إنما
يدعون بأسماء أمهاتهم لأن في ذلك سترا على آبائهم. والله أعلم.
قوله
تعالى: « فمن أوتي
كتابه بيمينه » هذا يقوي
قول من قال: « بإمامهم
» بكتابهم
ويقويه أيضا قوله: « وكل شيء
أحصيناه في إمام مبين » [ يس:12 ] . « فأولئك يقرؤون كتابهم ولا
يظلمون فتيلا » الفتيل
الذي في شق النواة. وقد مضى في « النساء » .
الآية:
72 ( ومن كان في هذه أعمى فهو في
الآخرة أعمى وأضل سبيلا )
قوله
تعالى: « ومن كان
في هذه أعمى » أي في
الدنيا عن الاعتبار وإبصار الحق. « فهو في
الآخرة » أي في أمر
الآخرة « أعمى » وقال عكرمة: جاء نفر من أهل
اليمن إلى ابن عباس فسألوه عن هذه الآية فقال: اقرؤوا ما قبلها « ربكم الذي يزجي لكم الفلك في
البحر - إلى - تفضيلا » . قال ابن
عباس: من كان في هذه النعم والآيات التي رأى أعمى فهو عن الآخرة التي لم يعاين
أعمى وأضل سبيلا. وقيل: المعنى من عمى عن النعم التي أنعم الله بها عليه في الدنيا
فهو عن نعم الآخرة أعمى. وقيل: المعنى من كان في الدنيا التي أمهل فيها وفسح له
ووعد بقبول التوبة أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا. وقيل: ومن كان في الدنيا
أعمى عن حجج الله بعثه الله يوم القيامة أعمى؛ كما قال: « ونحشره يوم القيامة أعمى » الآيات. وقال: « ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم
عميا وبكما وصما مأواهم جهنم » . وقيل:
المعنى في قوله « فهو في
الآخرة أعمى » في جميع
الأقوال: أشد عمى؛ لأنه من عمى القلب، ولا يقال مثله في عمى العين. قال الخليل
وسيبويه: لأنه خلقة بمنزلة اليد والرجل، فلم يقل ما أعماه كما لا يقال ما أيداه.
الأخفش: لم يقل فيه ذلك لأنه على أكثر من ثلاثة أحرف، وأصله أعمى. وقد أجاز بعض
النحويين ما أعماه وما أعشاه؛ لأن فعله عمى وعشى. وقال الفراء: حدثني بالشام شيخ
بصرى أنه سمع العرب تقول: ما أسود شعره. قال الشاعر:
ما في
المعالي لكم ظل ولا ثمر وفي المخازى لكم أشباح أشياخ
أما الملوك
فأنت اليوم ألأمهم لؤما وأبيضهم سربال طباخ
وأمال أبو
بكر وحمزة والكسائي وخلف الحرفين « أعمى » و « أعمى » وفتح الباقون. وأمال أبو عمرو
الأول وفتح الثاني. « وأضل
سبيلا » يعني أنه
لا يجد طريقا إلى الهداية.
الآية:
73 ( وإن كادوا ليفتنونك عن الذي
أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا )
قوله
تعالى: « وإن
كادوا ليفتنونك » قال سعيد
بن جبير: كان النبي صلى الله عليه وسلم يستلم الحجر الأسود في طوافه، فمنعته قريش
وقالوا: لا ندعك تستلم حتى تُلِم بآلهتنا. فحدث نفسه وقال: ( ما علي أن أُلِم بها بعد أن
يدعوني أستلم الحجر والله يعلم أني لها كاره ) فأبى الله تعالى ذلك وأنزل عليه هذه الآية؛ قال مجاهد
وقتادة. وقال ابن عباس في رواية عطاء: نزلت في وفد ثقيف، أتوا النبي صلى الله عليه
وسلم فسألوه شططا وقالوا: متعنا بآلهتنا سنة حتى نأخذ ما يهدى لها، فإذا أخذناه
كسرناها وأسلمنا، وحرم وادينا كما حرمت مكة، حتى تعرف العرب فضلنا عليهم؛ فهم رسول
الله صلى الله عليه وسلم أن يعطيهم ذلك فنزلت هذه الآية. وقيل: هو قول أكابر قريش
للنبي صلى الله عليه وسلم: اطرد عنا هؤلاء السقاط والموالي حتى نجلس معك ونسمع
منك؛ فهم بذلك حتى نهي عنه. وقال قتادة ذكر لنا أن قريشا خلوا برسول الله صلى الله
عليه وسلم ذات ليلة إلى الصبح يكلمونه ويفخمونه، ويسودونه ويقاربونه؛ فقالوا: إنك
تأتي بشيء لا يأتي به أحد من الناس، وأنت سيدنا يا سدنا؛ وما زالوا به حتى كاد
يقاربهم في بعض ما يريدون، ثم عصمه الله من ذلك، وأنزل الله تعالى هذه الآية.
ومعنى « ليفتنونك
» أي
يزيلونك. يقال: فتنت الرجل عن رأيه إذا أزلته عما كان عليه؛ قاله الهروي. وقيل
يصرفونك، والمعنى واحد. « عن الذي
أوحينا إليك » أي حكم
القرآن؛ لأن في إعطائهم ما سألوه مخالفة لحكم القرآن. « لتفتري علينا غيره » أي لتختلق علينا غير ما أوحينا
إليك، وهو قول ثقيف: وحرم وادينا كما حرمت مكة، شجرها وطيرها ووحشها، فإن سألتك
العرب لم خصصتهم فقل الله أمرني بذلك حتى يكون عذرا لك. « وإذا لاتخذوك خليلا » أي لو فعلت ما أرادوا لاتخذوك
خليلا، أي والوك وصافوك؛ مأخوذ من النخلة ( بالضم ) وهي
الصداقة لممايلته لهم. وقيل: « لاتخذوك
خليلا » أي فقيرا.
مأخوذ من الخلة ( بفتح
الخاء ) وهي
الفقر لحاجته إليهم.
الآيتان:
74 - 75 ( ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن
إليهم شيئا قليلا، إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا )
قوله
تعالى: « ولولا أن
ثبتناك » أي على
الحق وعصمناك من موافقتهم. « لقد كدت
تركن إليهم » أي تميل. « شيئا قليلا » أي ركونا قليلا. قال قتادة: لما
نزلت هذه الآية قال عليه السلام: ( اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين ) . وقيل: ظاهر الخطاب للنبي صلى
الله عليه وسلم وباطنه إخبار عن ثقيف. والمعنى: وإن كادوا ليركنونك، أي كادوا
يخبرون عنك بأنك ملت إلى قولهم؛ فنسب فعلهم إليه مجازا واتساعا؛ كما تقول لرجل:
كدت تقتل نفسك، أي كاد الناس يقتلونك بسبب ما فعلت؛ ذكره المهدوي. وقيل ما كان منه
هم بالركون إليهم، بل المعنى: ولولا فضل الله عليك لكان منك ميل إلى موافقتهم،
ولكن تم فضل الله عليك فلم تفعل؛ ذكره القشيري. وقال ابن عباس: كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم معصوما، ولكن هذا تعريف للأمة لئلا يركن أحد منهم إلى المشركين في
شيء من أحكام الله تعالى وشرائعه.
وقوله: « إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف
الممات » أي لو
ركنت لأذقناك مثلي عذاب الحياة في الدنيا ومثلي عذاب الممات في الآخرة؛ قاله ابن
عباس ومجاهد وغيرهما. وهذا غاية الوعيد. وكلما كانت الدرجة أعلى كان العذاب عند
المخالفة أعظم. قال الله تعالى: « يا نساء
النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين » [ الأحزاب: 30 ] وضعف الشيء مثله مرتين، وقد
يكون الضعف النصيب؛ كقوله عز وجل: « لكل ضعف » [ الأعراف: 38 ] أي نصيب. وقد تقدم في الأعراف.
الآية:
76 ( وإن كادوا ليستفزونك من الأرض
ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا )
هذه الآية
قيل إنها مدنية؛ حسبما تقدم في أول السورة. قال ابن عباس: حسدت اليهود مقام النبي
صلى الله عليه وسلم بالمدينة فقالوا: إن الأنبياء إنما بعثوا بالشام، فإن كنت نبيا
فالحق بها؛ فإنك إن خرجت إليها صدقناك وآمنا بك؛ فوقع ذلك في قلبه لما يحب من
إسلامهم، فرحل من المدينة على مرحلة فأنزل الله هذه الآية. وقال عبدالرحمن بن غنم:
غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك لا يريد إلا الشام، فلما نزل تبوك نزل
« وإن
كانوا ليستفزونك من الأرض » بعد ما
ختمت السورة، وأمر بالرجوع. وقيل: إنها مكية. قال مجاهد وقتادة: نزلت في همّ أهل
مكة بإخراجه، ولو أخرجوه لما أمهلوا ولكن الله أمره بالهجرة فخرج، وهذا أصح؛ لأن
السورة مكية، ولأن ما قبلها خبر عن أهل مكة، ولم يجر لليهود ذكر. وقول: « من الأرض » يريد أرض مكة. كقوله: « فلن أبرح الأرض » [ يوسف: 80 ] أي أرض مصر؛ دليله « وكأين من قرية هي أشد قوة من
قريتك التي أخرجتك » [ محمد: 13 ] يعني مكة. معناه: هم أهلها
بإخراجه؛ فلهذا أضاف إليها وقال « أخرجتك » . وقيل: هم الكفار كلهم أن
يستخفوه من أرض العرب بتظاهرهم عليه فمنعه الله، ولو أخرجوه من أرض العرب لم
يمهلوا، وهو معنى قوله: « وإذا لا
يلبثون خلافك » وقرأ عطاء
بن أبي رباح « لا
يلبثون » الباء
مشددة. « خلفك » نافع وابن كثير وأبو بكر وأبو
عمرو، ومعناه بعدك. وقرأ ابن عامر وحفص وحمزة والكسائي « خلافك » واختاره أبو حاتم، اعتبارا بقوله:
« فرح
المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله » [
التوبة: 81 ] ومعناه
أيضا بعدك؛ قال الشاعر:
عفت الديار
خلافهم فكأنما بسط الشواطب بينهن حصيرا
بسط
البواسط؛ في الماوردي. يقال: شطبت المرأة الجريد إذا شقته لتعمل منه الحصر. قال
أبو عبيد ثم تلفيه الشاطبة إلى المنقية. وقيل: « خلفك » بمعنى
بعدك. « وخلافك » بمعنى مخالفتك؛ ذكره ابن
الأنباري. « إلا
قليلا » فيه
وجهان: أحدهما - أن المدة التي لبثوها بعده ما بين إخراجهم له إلى قتلهم يوم بدر؛
وهذا قول من ذكر أنهم قريش. الثاني - ما بين ذلك وقتل بنى قريظة وجلاء بن النضير؛
وهذا قول من ذكر أنهم اليهود.
الآية:
77 ( سنة من قد أرسلنا قبلك من
رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا )
قوله
تعالى: « سنة من
قد أرسلنا قبلك من رسلنا » أي يعذبون
كسنة من قد أرسلنا؛ فهو بإضمار يعذبون؛ فلما سقط الخافض عمل الفعل؛ قاله الفراء.
وقيل: انتصب على معنى سننا سنة من قد أرسلنا. وقيل: هو أرسلنا؛ فلا يوقف على هذا
التقدير على قوله: « إلا
قليلا » ويوقف على
الأول والثاني. « قبلك من
رسلنا » وقف حسن. « ولا تجد لسنتنا تحويلا » أي لا خلف في وعدها.
الآية:
78 ( أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى
غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا )
قوله
تعالى: « أقم
الصلاة لدلوك الشمس » لما ذكر
مكايد المشركين أمر نبيه عليه السلام بالصبر والمحافظة على الصلاة، وفيها طلب
النصر على الأعداء. ومثله « ولقد
نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون، فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين » . وتقدم القول في معنى إقامة
الصلاة في أول سورة « البقرة » . وهذا الآية بإجماع من المفسرين
إشارة إلى الصلوات المفروضة. واختلف العلماء في الدلوك على قولين: أحدهما - أنه
زوال الشمس عن كبد السماء؛ قاله عمر وابنه وأبو هريرة وابن عباس وطائفة سواهم من
علماء التابعين وغيرهم. الثاني - أن الدلوك هو المغرب؛ قاله علي وابن مسعود وأبي
بن كعب، وروى عن ابن عباس. قال الماوردي: من جعل الدلوك اسما لغروبها فلأن الإنسان
يدلك عينيه براحته لتبينها حالة المغيب، ومن جعله اسما لزوالها فلأنه يدلك عينيه
لشدة شعاعها. وقال أبو عبيد: دلوكها غروبها. ودلكت براح يعني الشمس؛ أي غابت وأنشد
قطرب:
هذا مقام
قدمي رباح ذبب حتى دلكت براح
براح بفتح
الباء على وزن حزام وقطام ورقاس اسم من أسماء الشمس. ورواه الفراء بكسر الباء وهو
جمع راحة وهي الكف؛ أي غابت وهو ينظر إليها وقد جعل كفه على حاجبه. ومنه قوله العجاج:
والشمس قد
كادت تكون دنفا أدفعها بالراح كي تزحلفا
قال ابن
الأعرابي: الزحلوفة مكان منحدر أملس، لأنهم يتزحلفون فيه. قال: والزحلفة كالدحرجة
والدفع؛ يقال: زحلفته فتزحلف. ويقال: دلكت الشمس إذا غابت. قال ذو الرمة:
مصابيح
ليست باللواتي تقودها نجوم ولا بالآفلات الدوالك
قال ابن
عطية: الدلوك هو الميل - في اللغة - فأول الدلوك هو الزوال وآخره هو الغروب. ومن
وقت الزوال إلى الغروب يسمى دلوكا، لأنها في حالة ميل. فذكر الله تعالى الصلوات
التي تكون في حالة الدلوك وعنده؛ فيدخل في ذلك الظهر والعصر والمغرب، ويصح أن تكون
المغرب داخلة في غسق الليل. وقد ذهب قوم إلى أن صلاة الظهر يتمادى وقتها من الزوال
إلى الغروب؛ لأنه سبحانه علق وجوبها على الدلوك، وهذا دلوك كله؛ قاله الأوزاعي
وأبو حنيفة في تفصيل. وأشار إليه مالك والشافعي في حالة الضرورة.
قوله
تعالى: « إلى غسق
الليل » روى مالك
عن ابن عباس قال: دلوك الشمس ميلها، وغسق الليل اجتماع الليل وظلمته. وقال أبو
عبيدة: الغسق سواد الليل. قال ابن قيس الرقيات:
إن هذا
الليل قد غسقا واشتكيت الهم والأرقا
وقد قيل:
غسق الليل مغيب الشفق. وقيل: إقبال ظلمته. قال زهير:
ظلت تجود
يدها وهي لاهية حتى إذا جنح الإظلام والغسق
يقال: غسق
الليل غسوقا. والغسق اسم بفتح السين. وأصل الكلمة من السيلان؛ يقال: غسقت العين
إذا سالت، تغسق. وغسق الجرح غسقانا، أي سال منه ماء أصفر. وأغسق المؤذن، أي أخر
المغرب إلى غسق الليل. وحكى الفراء: غسق الليل وأغسق، وظلم أظلم، ودجا وأدجى، وغبس
وأغبس، وغبش وأغبش. وكان الربيع بن خثيم يقول لمؤذنه في يوم غيم: أغسق أغسق. يقول:
أخر المغرب حتى يغسق الليل، وهو إظلامه.
اختلف
العلماء في آخر وقت المغرب؛ فقيل: وقتها وقت واحد لا وقت لها إلا حين تحجب الشمس،
وذلك بين في إمامة جبريل؛ فإنه صلاها باليومين لوقت واحد وذلك غروب الشمس، وهو
الظاهر من مذهب مالك عند أصحابه. وهو أحد قولي الشافعي في المشهور عنه أيضا وبه
قال الثوري. وقال مالك في الموطأ: فإذا غاب الشفق فقد خرجت من وقت المغرب ودخل وقت
العشاء. وبهذا قال أبو حنيفة وأصحابه والحسن بن حي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وداود؛
لأن وقت الغروب إلى الشفق غسق كله. ولحديث أبي موسى، وفيه: أن النبي صلى الله عليه
وسلم صلى بالسائل المغرب في اليوم الثاني فأخر حتى كان سقوط الشفق. خرجه مسلم.
قالوا: وهذا أولى من أخبار إمامة جبريل؛ لأنه متأخر بالمدنية وإمامة جبريل بمكة،
والمتأخر أولى من فعله وأمره؛ لأنه ناسخ لما قبله. وزعم ابن العربي أن هذا القول
هو المشهور من مذهب مالك، وقوله في موطئه الذي أقرأه طول عمره وأملاه في حياته.
والنكتة في
هذا أن الأحكام المتعلقة بالأسماء هل تتعلق بأوائلها أو بآخرها أو يرتبط الحكم
بجميعها؟ والأقوى في النظر أن يرتبط الحكم بأوائلها لئلا يكون ذكرها لغوا فإذا
ارتبط بأوائلها جرى بعد ذلك النظر في تعلقه بالكل إلى الآخر.
قلت: القول
بالتوسعة أرجح. وقد خرج الإمام الحافظ أبو محمد عبدالغني بن سعيد من حديث الأجلح
بن عبدالله الكندي عن أبي الزبير عن جابر قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم
من مكة قريبا من غروب الشمس فلم يصل المغرب حتى أتى سرف، وذلك تسعة أميال. وأما
القول بالنسخ فليس بالبين وإن كان التاريخ معلوما؛ فإن الجمع ممكن. قال علماؤنا:
تحمل أحاديث جبريل على الأفضلية في وقت المغرب، ولذلك اتفقت الأمة فيها على
تعجيلها والمبادرة إليها في حين غروب الشمس. قال ابن خويز منداد: ولا نعلم أحدا من
المسلمين تأخر بإقامة المغرب في مسجد جماعة عن وقت غروب الشمس. وأحاديث التوسعة
تبين وقت الجواز، فيرتفع التعارض ويصح الجمع، وهو أولى من الترجيح باتفاق
الأصوليين؛ لأن فيه إعمال كل واحد من الدليلين، والقول بالنسخ أو الترجيح فيه
إسقاط أحدهما. والله اعلم.
قوله
تعالى: « وقرآن
الفجر » انتصب « قرآن » من وجهين: أحدهما أن يكون معطوفا
على الصلاة؛ المعنى: وأقم قرآن الفجر أي صلاة الصبح؛ قاله الفراء. وقال أهل
البصرة. انتصب على الإغراء؛ أي فعليك بقرآن الفجر؛ قال الزجاج. وعبر عنها بالقرآن
خاصة دون غيرها من الصلوات؛ لأن القرآن هو أعظمها، إذ قراءتها طويلة مجهور بها
حسبما هو مشهور مسطور؛ عن الزجاج أيضا.
قلت: وقد
استقر عمل المدينة على استحباب إطالة القراءة في الصبح قدرا لا يضر بمن خلفه -
يقرأ فيها بطوال المفصل، ويليها في ذلك الظهر والجمعة - وتخفيف القراءة في المغرب
وتوسطها في العصر والعشاء. وقد قيل في العصر: إنها تخفف كالمغرب. وأما ما ورد في
صحيح مسلم وغيره من الإطالة فيما استقر فيه التقصير، أو من التقصير فيما استقرت
فيه الإطالة؛ كقراءته في الفجر المعوذتين - كما رواه النسائي - وكقراءة الأعراف
والمرسلات والطور في المغرب، فمتروك بالعمل. ولإنكاره على معاذ التطويل، حين أم
قومه في العشاء فافتتح سورة البقرة. خرجه الصحيح. وبأمره الأئمة بالتخفيف فقال: ( أيها الناس إن منكم منفرين
فأيكم أمّ الناس فليخفف فإن فيهم الصغير والكبير والمريض والسقيم والضعيف وذا
الحاجة ) . وقال:
( فإذا
صلى أحدكم وحده فليطول ما شاء ) . كله
مسطور في صحيح الحديث.
قوله
تعالى: « وقرآن
الفجر » دليل على
أن لا صلاة إلا بقراءة؛ لأنه سمى الصلاة قرآنا. وقد اختلف العلماء في القراءة في
الصلاة فذهب جمهورهم إلى وجوب قراءة أم القرآن للإمام والفذّ في كل ركعة. وهو
مشهور قول مالك. وعنه أيضا أنها واجبة في جل الصلاة. وهو قول إسحاق. وعنه أيضا تجب
في ركعة واحدة؛ قاله المغيرة وسحنون. وعنه أن القراءة لا تجب في شيء من الصلاة.
وهو أشذ الروايات عنه. وحكي عن مالك أيضا أنها تجب في نصف الصلاة، وإليه ذهب
الأوزاعي. وعن الأوزاعي أيضا وأيوب أنها تجب على الإمام والفذ والمأموم على كل
حال. وهو أحد قولي الشافعي. وقد مضى في « الفاتحة » مستوفى.
قوله
تعالى: « كان
مشهودا » روى
الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: « وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان
مشهودا » قال: ( تشهده ملائكة الليل وملائكة
النهار ) هذا حديث
حسن صحيح. ورواه علي بن مسهر عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة وأبي سعيد عن
النبي صلى الله عليه وسلم. وروى البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: ( فضل
صلاة الجميع على صلاة الواحد خمس وعشرون درجة وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار
في صلاة الصبح ) . يقول
أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم « وقرآن
الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا » . ولهذا
المعنى أيضا قال مالك والشافعي: التغليس بالصبح أفضل. وقال أبو حنيفة: الأفضل
الجمع بين التغليس والإسفار، فإن فاته ذلك فالإسفار أولى من التغليس. وهذا مخالف
لما كان عليه السلام يفعله من المداومة على التغليس، وأيضا فإن فيه تفويت شهود
ملائكة الليل. والله اعلم.
استدل بعض
العلماء بقوله صلى الله عليه وسلم: ( تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار ) على أن صلاة الصبح ليست من صلاة
الليل ولا من صلاة النهار.
قلت: وعلى
هذا فلا تكون صلاة العصر أيضا لا من صلاة الليل ولا من صلاة النهار؛ فإن في الصحيح
عن النبي صلى الله عليه وسلم الفصيح عليه السلام فيما رواه أبو هريرة: ( يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل
وملائكة بالنهار فيجتمعون في صلاة العصر وصلاة الفجر ) الحديث. ومعلوم أن صلاة العصر
من النهار فكذلك تكون صلاة الفجر من الليل وليس كذلك، وإنما هي من النهار كالعصر
بدليل الصيام والإيمان، وهذا واضح.
الآية:
79 ( ومن الليل فتهجد به نافلة لك
عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا )
قوله
تعالى: « ومن
الليل فتهجد به » « من » للتبعيض. والفاء في قوله « فتهجد » ناسقة على مضمر، أي قم فتهجد. « به » أي بالقرآن. والتهجد من الهجود
وهو من الأضداد. يقال: هجد نام، وهجد سهر؛ على الضد. قال الشاعر:
ألا زارت
وأهل منى هجود وليت خيالها بمنى يعود
آخر:
ألا طرقتنا
والرفاق هجود فباتت بعلات النوال تجود
يعني
نياما. وهجد وتهجد بمعنى. وهجدته أي أنمته، وهجدته أي أيقظته. والتهجد التيقظ بعد
رقدة، فصار اسما للصلاة؛ لأنه ينتبه لها. فالتهجد القيام إلى الصلاة من النوم. قال
معناه الأسود وعلقمة وعبدالرحمن بن الأسود وغيرهم. وروى إسماعيل بن إسحاق القاضي
من حديث الحجاج بن عمر صاحب النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: أيحسب أحدكم إذا
قام من الليل كله أنه قد تهجد! إنما التهجد الصلاة بعد رقدة ثم الصلاة بعد رقدة ثم
الصلاة بعد رقدة. كذلك كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: الهجود
النوم. يقال: تهجد الرجل إذا سهر، وألقى الهجود وهو النوم. ويسمى من قام إلى
الصلاة متهجدا؛ لأن المتهجد هو الذي يلقى الهجود الذي هو النوم عن نفسه. وهذا
الفعل جار مجرى تحوب وتحرج وتأثم وتحنث وتقذر وتنجس؛ إذا ألقى ذلك عن نفسه. ومثله
قوله تعالى: « فظلتم
تفكهون » معناه
تندمون؛ أي تطرحون الفكاهة عن أنفسكم، وهي انبساط النفوس وسرورها. يقال: رجل فكه
إذا كان كثير السرور والضحك. والمعنى في الآية: ووقتا من الليل اسهر به في صلاة
وقراءة.
قوله
تعالى: « نافلة لك
» أي كرامة
لك؛ قاله مقاتل. واختلف العلماء في تخصيص النبي صلى الله عليه وسلم بالذكر دون
أمته؛ فقيل: كانت صلاة الليل فريضة عليه لقوله: « نافلة لك » أي فريضة
زائدة على الفريضة الموظفة على الأمة.
قلت: وفي
هذا التأويل بعد لوجهين: أحدهما - تسمية الفرض بالنفل، وذلك مجاز لا حقيقة. الثاني
- قوله صلى الله عليه وسلم: ( خمس
صلوات فرضهن الله على العباد ) وقوله
تعالى: ( هن خمس
وهن خمسون لا يبدل القول لذي ) وهذا نص،
فكيف يقال افترض عليه صلاة زائدة على خمس، هذا ما لا يصح؛ وإن كان قد روى عنه عليه
السلام: ( ثلاث
على فريضة ولأمتي تطوع قيام الليل والوتر والسواك ) . وقيل: كانت صلاة الليل تطوعا منه وكانت في الابتداء واجبة
على الكل، ثم نسخ الوجوب فصار قيام الليل تطوعا بعد فريضة؛ كما قالت عائشة، على ما
يأتي مبينا في سورة [
المزمل ] إن شاء
الله تعالى. وعلى هذا يكون الأمر بالتنفل على جهة الندب ويكون الخطاب للنبي صلى
الله عليه وسلم؛ لأنه مغفور له. فهو إذا تطوع بما ليس بواجب عليه كان ذلك زيادة في
الدرجات. وغيره من الأمة تطوعهم كفارات وتدارك لخلل يقع في الفرض؛ قال معناه مجاهد
وغيره. وقيل: عطية؛ لأن العبد لا ينال من السعادة عطاء أفضل من التوفيق في
العبادة.
قوله
تعالى: « عسى أن
يبعثك ربك مقاما محمودا » اختلف في
المقام المحمود على أربعة أقوال:
[ الأول ] وهو أصحها - الشفاعة للناس يوم
القيامة؛ قاله حذيفة بن اليمان. وفي صحيح البخاري عن ابن عمر قال: إن الناس يصيرون
يوم القيامة جثا كل أمة تتبع نبيها تقول: يا فلان اشفع، حتى تنتهي الشفاعة إلى
النبي صلى الله عليه وسلم، فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود. وفي صحيح مسلم عن
أنس قال حدثنا محمد صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا كان يوم القيامة ماج الناس بعضهم إلى بعض فيأتون آدم
فيقولون له اشفع لذريتك فيقول لست لها ولكن عليكم بإبراهيم عليه السلام فإنه خليل
الله فيأتون إبراهيم فيقول لست لها ولكن عليكم بموسى فإنه كليم الله فيؤتى موسى
فيقول لست لها ولكن عليكم بعيسى عليه السلام فإنه روح الله وكلمته فيؤتى عيسى
فيقول لست لها ولكن عليكم بمحمد صلى الله عليه وسلم فأوتي فأقول أنا لها... ) وذكر الحديث. وروى الترمذي عن
أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه في قوله: « عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا
» سئل عنها
قال: ( هي
الشفاعة ) قال: هذا
حديث حسن صحيح.
إذا ثبت أن
المقام المحمود هو أمر الشفاعة الذي يتدافعه الأنبياء عليهم السلام، حتى ينتهي
الأمر إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فيشفع هذه الشفاعة لأهل الموقف ليعجل
حسابهم ويراحوا من هول موقفهم، وهي الخاصة به صلى الله عليه وسلم؛ ولأجل ذلك قال:
( أنا سيد
ولد آدم ولا فخر ) . قال
النقاش: لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث شفاعات: العامة، وشفاعة في السبق إلى
الجنة، وشفاعة في أهل الكبائر. ابن عطية: والمشهور أنهما شفاعتان فقط: العامة،
وشفاعة في إخراج المذنبين من النار. وهذه الشفاعة الثانية لا يتدافعها الأنبياء بل
يشفعون ويشفع العلماء. وقال القاضي أبو الفضل عياض: شفاعات نبينا صلى الله عليه
وسلم يوم القيامة خمس شفاعات: العامة. والثانية في إدخال قوم الجنة دون حساب.
الثالثة في قوم من موحدي أمته استوجبوا النار بذنوبهم فيشفع فيها نبينا صلى الله
عليه وسلم، ومن شاء الله أن يشفع ويدخلون الجنة. وهذه الشفاعة هي التي أنكرتها المبتدعة:
الخوارج والمعتزلة، فمنعتها على أصولهم الفاسدة، وهي الاستحقاق العقلي المبنى على
التحسين والتقبيح. الرابعة فيمن دخل النار من المذنبين فيخرجون بشفاعة نبينا صلى
الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء والملائكة وإخوانهم المؤمنين. الخامسة في زيادة
الدرجات في الجنة لأهلها وترفيعها، وهذه لا تنكرها المعتزلة ولا تنكر شفاعة الحشر
الأول.
قال القاضي
عياض: وعرف بالنقل المستفيض سؤال السلف الصالح لشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم
ورغبتهم فيها، وعلى هذا لا يلتفت لقول من قال: إنه يكره أن تسأل الله أن يرزقك
شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنها لا تكون إلا للمذنبين، فإنها قد تكون كما
قدمنا لتخفيف الحساب وزيادة الدرجات. ثم كل عاقل معترف بالتقصير محتاج إلى العفو
غير معتد بعمله مشفق أن يكون من الهالكين، ويلزم هذا القائل ألا يدعو بالمغفرة
والرحمة؛ لأنها لأصحاب الذنوب أيضا، وهذا كله خلاف ما عرف من دعاء السلف والخلف.
روى البخاري عن جابر بن عبدالله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من قال حين يسمع النداء اللهم
رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما
محمودا الذي وعدته، حلت له شفاعتي يوم القيامة ) .
القول
الثاني: أن المقام المحمود إعطاؤه لواء الحمد يوم القيامة.
قلت: وهذا
القول لا تنافر بينه وبين الأول؛ فإنه يكون بيده لواء الحمد ويشفع روى الترمذي عن
أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أنا سيد ولد آدم يوم القيامة
ولا فخر وبيدي لواء الحمد ولا فخر وما من نبي آدم فمن سواه إلا تحت لوائي... « الحديث. »
القول
الثالث: ما حكاه الطبري عن فرقة، منها مجاهد، أنها قالت: المقام المحمود هو أن
يجلس الله تعالى محمد صلى الله عليه وسلم معه على كرسيه؛ وروت في ذلك حديثا. وعضد
الطبري جواز ذلك بشطط من القول، وهو لا يخرج إلا على تلطف في المعنى، وفيه بعد.
ولا ينكر مع ذلك أن يروى، والعلم يتأوله. وذكر النقاش عن أبي داود السجستاني أنه
قال: من أنكر هذا الحديث فهو عندنا متهم، ما زال أهل العلم يتحدثون بهذا، من أنكر
جوازه على تأويله. قال أبو عمر: ومجاهد، وإن كان أحد الأئمة، يتأول القرآن فإن له
قولين مهجورين عند أهل العلم: أحدهما هذا والثاني في تأويل قوله تعالى: « وجوه يومئذ ناضرة. إلى ربها
ناظرة » [ القيامة: 22 ] تنتظر الثواب؛ ليس من النظر.
قلت. ذكر
هذا في باب ابن شهاب في حديث التنزيل. وروي عن مجاهد أيضا في هذه الآية قال: يجلسه
على العرش. وهذا تأويل غير مستحيل؛ لأن الله تعالى كان قبل خلقه الأشياء كلها
والعرش قائما بذاته، ثم خلق الأشياء من غير حاجة إليها، بل إظهارا لقدرته وحكمته،
وليعرف وجوده وتوحيده وكمال قدرته وعلمه بكل أفعاله المحكمة، وخلق لنفسه عرشا استوى
عليه كما شاء من غير أن صار له مماسا، أو كان العرش له مكانا. قيل: هو الآن على
الصفة التي كان عليها من قبل أن يخلق المكان والزمان؛ فعلى هذا القول سواء في
الجواز أقعد محمد على العرش أو على الأرض؛ لأن استواء الله تعالى على العرش ليس
بمعنى الانتقال والزوال وتحويل الأحوال من القيام والقعود والحال التي تشغل العرش،
بل هو مستو على عرشه كما أخبر عن نفسه بلا كيف. وليس إقعاده محمدا على العرش موجبا
له صفة الربوبية أو مخرجا له عن صفة العبودية، بل هو رفع لمحله وتشريف له على
خلقه. وأما قوله في الإخبار: ( معه ) فهو بمنزلة قوله: « إن الذين عند ربك » ، و « رب ابن لي عندك بيتا في الجنة » [ التحريم: 11 ] . « وإن الله لمع المحسنين » [ العنكبوت: 69 ] ونحو ذلك. كل ذلك عائد إلى
الرتبة والمنزلة والحظوة والدرجة الرفيعة، لا إلى المكان.
الرابع:
إخراجه من النار بشفاعته من يخرج؛ قاله جابر بن عبدالله. ذكره مسلم. وقد ذكرناه في
كتاب التذكرة والله الموفق.
اختلف
العلماء في كون القيام بالليل سببا للمقام المحمود على قولين: أحدهما: أن البارئ
تعالى يجعل ما شاء من فعله سببا لفضله من غير معرفه بوجه الحكمة فيه، أو بمعرفة
وجه الحكمة. الثاني: أن قيام الليل فيه الخلوة مع البارئ والمناجاة دون الناس،
فأعطى الخلوة به ومناجاته في قيامه وهو المقام المحمود. ويتفاضل فيه الخلق بحسب
درجاتهم، فأجلهم فيه درجة محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإنه يعطي ما لا يعطي أحد
ويشفع ما لا يشفع أحد. و « عسى » من الله عز وجل واجبة. و « مقاما » نصب على الظرف. أي في مقام أو
إلى مقام. وذكر الطبري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (
المقام المحمود هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي ) . فالمقام الموضع الذي يقوم فيه
الإنسان للأمور الجليلة كالمقامات ببن يدي الملوك.
الآية:
80 ( وقل رب
أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا )
قيل:
المعنى أمتني إماتة صدق، وابعثني يوم القيامة مبعث صدق؛ ليتصل بقوله: « عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا
» . كأنه
لما وعده ذلك أمره أن يدعو لينجز له الوعد. وقيل: أدخلني في المأمور وأخرجني من
المنهي. وقيل: علمه ما يدعو به في صلاته وغيرها من إخراجه من بين المشركين وإدخاله
موضع الأمن؛ فأخرجه من مكة وصيره إلى المدينة. وهذا المعنى رواه الترمذي عن ابن
عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم بمكة ثم أمر بالهجرة فنزلت « وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني
مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا » قال: هذا حديث حسن صحيح. وقال الضحاك: هو خروجه من مكة
ودخوله مكة يوم الفتح آمنا. أبو سهل: حين رجع من تبوك وقد قال المنافقون: « ليخرجن الأعز منها الأذل » [ المنافقون: 8 ] يعني إدخال عز وإخراج نصر إلى
مكة. وقيل: المعنى أدخلني في الأمر الذي أكرمتني به من النبوة مدخل صدق وأخرجني
منه مخرج صدق إذا أمتني؛ قال معناه مجاهد. والمدخل والمخرج ( بضم الميم ) بمعنى
الإدخال والإخراج؛ كقوله: « أنزلني
منزلا مباركا » [ المؤمنون: 29 ] أي إنزالا لا أرى فيه ما
أكره. وهي قراءة العامة. وقرأ الحسن وأبو العالية ونصر بن عاصم « مدخل » و « مخرج » . بفتح الميمين بمعنى الدخول
والخروج؛ فالأول رباعي وهذا ثلاثي. وقال ابن عباس: أدخلني القبر مدخل صدق عند
الموت وأخرجني مخرج صدق عند البعث. وقيل: أدخلني حيثما أدخلتني بالصدق وأخرجني
بالصدق؛ أي لا تجعلني ممن يدخل بوجه ويخرج بوجه؛ فإن ذا الوجهين لا يكون وجيها
عندك. وقيل: الآية عامة في كل ما يتناول من الأمور ويحاول من الأسفار والأعمال،
وينتظر من تصرف المقادير في الموت والحياة. فهي دعاء، ومعناه: رب اصلح لي وردي في
كل الأمور وصدري. وقوله: « واجعل لي
من لدنك سلطانا نصيرا » قال
الشعبي وعكرمة: أي حجة ثابتة. وذهب الحسن إلى أنه العز والنصر وإظهار دينه على
الدين كله. قال: فوعده الله لينزعن ملك فارس والروم وغيرها فيجعله له.
الآية:
81 ( وقل
جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا )
روى
البخاري والترمذي عن ابن مسعود قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة عام الفتح
وحول الكعبة ثلاثمائة وستون نصبا، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يطعنها بمخصرة في
يده - وربما قال بعود - ويقول: ( جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا. جاء
الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد ) لفظ الترمذي. وقال: هذا حديث حسن صحيح. وكذا في
حديث مسلم ( نصبا ) . وفي رواية ( صنما ) . قال علماؤنا: إنما كانت بهذا العدد
لأنهم كانوا يعظمون في يوم صنما ويخصون أعظمها بيومين. وقوله: ( فجعل يطعنها بعود
في يده ) يقال إنها كانت مثبتة بالرصاص وأنه كلما طعن منها صنما في وجهه خر لقفاه،
أو في قفاه خر لوجهه. وكان يقول: ( جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا )
حكاه أبو عمر والقاضي عياض. وقال القشيري: فما بقي منها صنم إلا خر لوجهه، ثم أمر
بها فكسرت.
في هذه
الآية دليل على كسر نصب المشركين وجميع الأوثان إذا غلب عليهم، ويخل بالمعنى كسر
آلة الباطل كله، وما لا يصلح إلا لمعصية الله كالطنابير والعيدان والمزامير التي
لا معنى لها إلا اللهو بها عن ذكر الله تعالى. قال ابن المنذر: وفي معنى الأصنام
الصور المتخذة من المدر والخشب وشبهها، وكل ما يتخذه الناس مما لا منفعة فيه إلا
اللهو المنهي عنه. ولا يجوز بيع شيء منه إلا الأصنام التي تكون من الذهب والفضة
والحديد والرصاص، إذا غيرت عما هي عليه وصارت نقرا أو قطعا فيجوز بيعها والشراء
بها. قال المهلب: وما كسر من آلات الباطل وكان في حبسها بعد كسرها منفعة فصاحبها
أولى بها مكسورة؛ إلا أن يرى الإمام حرقها بالنار على معنى التشديد والعقوبة في
المال. وقد تقدم حرق ابن عمر رضي الله عنه. وقد هم النبي صلى الله عليه وسلم
بتحريق دور من تخلف عن صلاة الجماعة. وهذا أصل في العقوبة في المال مع قوله عليه
السلام في الناقة التي لعنتها صاحبتها: ( دعوها فإنها ملعونة ) فأزال ملكها عنها
تأديبا لصاحبتها، وعقوبة لها فيما دعت عليه بما دعت به. وقد أراق عمر بن الخطاب
رضي الله عنه لبنا شيب بماء على صاحبه.
ما ذكرنا
من تفسير الآية ينظر إلى قوله صلى الله عليه وسلم: ( والله لينزلن عيسى بن مريم
حكما عادلا فليكسرن الصليب وليقتلن الخنزير وليضعن الجزية ولتتركن القلاص فلا يسعى
عليها... ) الحديث. خرجه الصحيحان. ومن هذا الباب هتك النبي صلى الله عليه وسلم
الستر الذي فيه الصور، وذلك أيضا دليل على إفساد الصور وآلات الملاهي كما ذكرنا.
وهذا كله يحظر المنع من اتخاذها ويوجب التغيير على صاحبها. إن أصحاب هذه الصور
يعذبون يوم القيامة ويقال لهم: أحيوا ما خلقتم؛ وحسبك! وسيأتي هذا المعنى في « النمل » إن شاء الله تعالى. قوله
تعالى: « وقل جاء
الحق » أي
الإسلام. وقيل: القرآن؛ قال مجاهد. وقيل: الجهاد. « وزهق الباطل » قيل الشرك. وقيل الشيطان؛ قاله مجاهد. والصواب تعميم اللفظ
بالغاية الممكنة، فيكون التفسير جاء الشرع بجميع ما انطوى فيه. « وزهق الباطل » : بطل الباطل. ومن هذا زهوق
النفس وهو بطلانها. يقال زهقت نفسه تزهق زهوقا، وأزهقتها. « إن الباطل كان زهوقا » أي لا بقاء له والحق الذي
يثبت.
الآية:
82 ( وننزل
من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا )
قوله
تعالى: « وننزل » قرأ الجمهور بالنون. وقرأ
مجاهد « وينزل » بالياء خفيفة، ورواها المروزي
عن حفص. و « من » لابتداء الغاية، ويصح أن تكون
لبيان الجنس؛ كأنه قال: وننزل ما فيه شفاء من القرآن. وفي الخبر ( من لم يستشف
بالقرآن فلا شفاه الله ) . وأنكر بعض المتأولين أن تكون « من » للتبعيض؛ لأنه يحفظ من أن
يلزمه أن بعضه لا شفاء فيه. ابن عطية: وليس يلزمه هذا، بل يصح أن تكون للتبعيض
بحسب أن إنزاله إنما هو مبعض، فكأنه قال: وننزل من القرآن شيئا شفاء؛ ما فيه كله
شفاء. وقيل: شفاء في الفرائض والأحكام لما فيه من البيان.
اختلف
العلماء في كونه شفاء على قولين: أحدهما: أنه شفاء للقلوب بزوال الجهل عنها وإزالة
الريب، ولكشف غطاء القلب من مرض الجهل لفهم المعجزات والأمور الدالة على الله
تعالى. الثاني: شفاء من الأمراض الظاهرة بالرقي والتعوذ ونحوه. وقد روى الأئمة -
واللفظ للدارقطني - عن أبي سعيد الخدري قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
في سرية ثلاثين راكبا قال: فنزلنا على قوم من العرب فسألناهم أن يضيفونا فأبوا؛
قال: فلدغ سيد الحي، فأتونا فقالوا: فيكم أحد يرقي من العقرب؟ في رواية ابن قتة:
إن الملك يموت. قال: قلت أنا نعم، ولكن لا أفعل حتى تعطونا. فقالوا: فإنا نعطيكم
ثلاثين شاة. قال: فقرأت عليه « الحمد
لله رب العالمين » سبع
مرات فبرأ. في رواية سليمان بن قتة عن أبي سعيد: فأفاق وبرأ. فبعث إلينا بالنزل
وبعث إلينا بالشاء، فأكلنا الطعام أنا وأصحابي وأبوا أن يأكلوا من الغنم، حتى
أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته الخبر فقال: ( وما يدريك أنها رقية )
قلت: يا رسول الله، شيء ألقي في روعي. قال: ( كلوا وأطعمونا من الغنم ) خرجه في كتاب
السنن.
وخرج في
( كتاب المديح ) من حديث السري بن يحيى قال: حدثني المعتمر بن سليمان عن ليث بن
أبي سليم عن الحسن عن أبي أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ينفع
بإذن الله تعالى من البرص والجنون والجذام والبطن والسل والحمى والنفس أن تكتب
بزعفران أو بمشق - يعني المغرة - أعوذ بكلمات الله التامة وأسمائه كلها عامة من شر
السامة والغامة ومن شر العين اللامة ومن شر حاسد إذا حسد ومن أبي فروة وما ولد ) .
كذا قال، ولم يقل من شر أبي قترة. العين اللامة: التي تصيب بسوء. تقول: أعيذه من
كل هامة لامة. وأما قوله: أعيذه من حادثات اللمة فيقول: هو الدهر. ويقال الشدة.
والسامة: الخاصة. يقال: كيف السامة والعامة. والسامة السم. ومن أبي فروة وما ولد.
وقال: ثلاثة وثلاثون من الملائكة أتوا ربهم عز وجل فقالوا: وصب بأرضنا. فقال: خذوا
تربة من أرضكم فامسحوا نواصيكم. أو قال: نوصيكم رقية محمد صلى الله عليه وسلم لا
أفلح من كتمها أبدا أو أخذ عليها صفدا. ثم تكتب فاتحة الكتاب وأربع آيات من أول « البقرة » ، والآية التي فيها تصريف
الرياح وآية الكرسي والآيتين اللتين بعدها، وخواتيم سورة « البقرة » من موضع « لله ما في السماوات وما في
الأرض » [ البقرة: 284 ] إلى آخرها، وعشرا من أول « آل عمران » وعشرا من آخرها، وأول آية من « النساء » ، وأول آية من « المائدة » ، وأول آية من « الأنعام » ، وأول آية من « الأعراف » ، والآية التي في « الأعراف » « إن ربكم الله الذي خلق السماوات
والأرض » [ الأعراف: 54 ] حتى تختم الآية؛ والآية التي
في « يونس » من موضع « قال موسى ما جئتم به السحر إن
الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين » [ يونس:
81 ] .
والآية التي في « طه ] » وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا
إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى « [ طه:
69 ] ، وعشرا
من أول [
الصافات ] ، و » قل هو الله أحد « [ الإخلاص: 1 ] ، والمعوذتين. تكتب في إناء
نظيف ثم تغسل ثلاث مرات بماء نظيف ثم يحثو منه الوجع ثلاث حثوات ثم يتوضأ منه
كوضوئه للصلاة ويتوضأ قبل وضوئه للصلاة حتى يكون على طهر قبل أن يتوضأ به ثم يصب
على رأسه وصدره وظهره ولا يستنجي به ثم يصلي ركعتين ثم يستشفي الله عز وجل؛ يفعل
ذلك ثلاثة أيام، قدر ما يكتب في كل يوم كتابا. في رواية: ومن شر أبي قترة وما ولد.
وقال: ( فامسحوا
نواصيكم ) ولم يشك.
وروى البخاري عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفث على نفسه في المرض
الذي مات فيه بالمعوذات فلما ثقل كنت أنفث عليه بهن وأمسح بيد نفسه لبركتها. فسألت
الزهري كيف كان ينفث؟ قال: كان ينفث على يديه ثم يمسح بهما وجهه. وروى مالك عن ابن
شهاب عن عروه عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى قرأ على
نفسه المعوذتين وتفل أو نفث. قال أبو بكر بن الأنباري: قال اللغويون تفسير » نفث « نفخ نفحا ليس معه ريق. ومعنى » تفل « نفخ نفخا معه ريق. قال الشاعر:
»
فإن يبرأ
فلم أنفث عليه وإن يفقد فحق له الفقود
وقال ذو
الرمة:
ومن جوف
ماء عرمض الحول فوقه متى يحس منه مائح القوم يتفل
أراد ينفخ
بريق. وسيأتي ما للعلماء في النفث في سورة الفلق إن شاء الله تعالى.
روى ابن
مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكره الرقي إلا بالمعوذات. قال الطبري:
وهذا حديث لا يجوز الاحتجاج بمثله في الدين؛ إذ في نقلته من لا يعرف. ولو كان
صحيحا لكان إما غلطا وإما منسوخا؛ لقوله عليه السلام في الفاتحة ( ما أدراك أنها رقية ) . وإذا جاز الرقي بالمعوذتين
وهما سورتان من القرآن كانت الرقية بسائر القرآن مثلهما في الجواز إذ كله قرآن.
وروي عنه عليه السلام أنه قال: ( شفاء
أمته في ثلاث آية من كتاب الله أو لعقة من عسل أو شرطة من محجم ) . وقال رجاء الغنوي: ومن لم
يستشف بالقرآن فلا شفاء له.
واختلف
العلماء في النشرة، وهي أن يكتب شيئا من أسماء الله أو من القرآن ثم يغسله بالماء
ثم يمسح به المريض أو يسقيه، فأجازها سعيد بن المسيب. قيل له: الرجل يؤخذ عن
امرأته أيُحل عنه ويُنشر؟ قال: لا بأس به، وما ينفع لم ينه عنه. ولم ير مجاهد أن
تكتب آيات من القران ثم تغسل ثم يسقاه صاحب الفزع. وكانت عائشة تقرأ بالمعوذتين في
إناء ثم تأمر أن يصب على المريض. وقال المازري أبو عبدالله: النشرة أمر معروف عند
أهل التعزيم؛ وسميت بذلك لأنها تنشر عن صاحبها أي تحل. ومنعها الحسن وإبراهيم
النخعي، قال النخعي: أخاف أن يصيبه بلاء؛ وكأنه ذهب إلى أنه ما يجيء به القرآن فهو
إلى أن يعقب بلاء أقرب منه إلى أن يفيد شفاء. وقال الحسن: سألت أنسا فقال: ذكروا
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها من الشيطان. وقد روى أبو داود من حديث جابر بن
عبدالله قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النشرة فقال: ( من عمل الشيطان ) . قال ابن عبدالبر. وهذه آثار
لينة ولها وجوه محتملة، وقد قيل: إن هذا محمول على ما إذا كانت خارجة عما في كتاب
الله وسنة رسوله عليه السلام، وعى المداواة المعروفة. والنشرة من جنس الطب فهي
غسالة شيء له فضل، فهي كوضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال صلى الله عليه
وسلم: ( لا بأس
بالرقى ما لم يكن فيه شرك ومن استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل ) .
قلت: قد
ذكرنا النص في النشرة مرفوعا وأن ذلك لا يكون إلا من كتاب الله فليعتمد عليه.
قال مالك:
لا بأس بتعليق الكتب التي فيها أسماء الله عز وجل على أعناق المرضى على وجه التبرك
بها إذا لم يرد معلقها بتعليقها مدافعة العين. وهذا معناه قبل أن ينزل به شيء من
العين. وعلى هذا القول جماعة أهل العلم، لا يجوز عندهم أن يعلق على الصحيح من
البهائم أو بني آدم شيء من العلائق خوف نزول العين، وكل ما يعلق بعد نزول البلاء
من أسماء الله عز وجل وكتابه رجاء الفرج والبرء من الله تعالى، فهو كالرقى المباح
الذي وردت السنة بإباحته من العين وغيرها. وقد روى عبدالله بن عمرو قال قال وسول
الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا فزع
أحدكم في نومه فليقل أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وسوء عقابه ومن شر الشياطين
وأن يحضرون ) . وكان
عبدالله يعلمها ولده من أدرك منهم، ومن لم يدرك كتبها وعلقها عليه. فإن قيل: فقد
روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من علق شيئا وكل إليه ) . ورأى ابن مسعود على أم ولده تميمة مربوطة فجبذها جبذا
شديدا فقطعها وقال: إن آل ابن مسعود لأغنياء عن الشرك، ثم قال: إن التمائم والرقى
والتولة من الشرك. قيل: ما التولة؟ قال: ما تحببت به لزوجها. وروي عن عقبة بن عامر
الجهني قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( من علق تميمة فلا أتم الله له
ومن علق ودعة فلا ودع الله له قلبا ) . قال الخليل بن أحمد: التميمة قلادة فيها عوذ، والودعة خرز.
وقال أبو عمر: التميمة في كلام العرب القلادة، ومعناه عند أهل العلم ما علق في
الأعناق من القلائد خشية العين أو غيرها أن تنزل أو لا تنزل قبل أن تنزل. فلا أتم
الله عليه صحته وعافيته، ومن تعلق ودعة - وهي مثلها في المعنى - فلا ودع الله له؛
أي فلا بارك الله له ما هو فيه من العافية. والله اعلم. وهذا كله تحذير مما كان
أهل الجاهلية يصنعونه من تعليق التمائم والقلائد، ويظنون أنها تقيهم وتصرف عنهم
البلاء، وذلك لا يصرفه إلا الله عز وجل، وهو المعافي والمبتلي، لا شريك له. فنهاهم
رسول الله صلى الله عليه وسلم عما كانوا يصنعون من ذلك في جاهليتهم. وعن عائشة
قالت: ما تعلق بعد نزول البلاء فليس من التمائم. وقد كره بعض أهل العلم تعليق
التميمة على كل حال قبل نزول البلاء وبعده. والقول الأول أصح في الأثر والنظر إن
شاء الله تعالى. وما روي عن ابن مسعود يجوز أن يريد بما كره تعليقه غير القرآن
أشياء مأخوذة عن العراقيين والكهان؛ إذ الاستشفاء بالقرآن معلقا وغير معلق لا يكون
شركا، وقوله عليه السلام: ( من علق
شيئا وكل إليه ) فمن علق
القرآن ينبغي أن يتولاه الله ولا يكله إلى غيره؛ لأنه تعالى هو المرغوب إليه
والمتوكل عليه في الاستشفاء بالقرآن. وسئل ابن المسيب عن التعويذ أيعلق؟ قال: إذا
كان في قصبة أو رقعة يحرز فلا بأس به. وهذا على أن المكتوب قرآن. وعن الضحاك أنه
لم يكن يرى بأسا أن يعلق الرجل الشيء من كتاب الله إذا وضعه عند الجماع وعند
الغائط. ورخص أبو جعفر محمد بن علي في التعويذ يعلق على الصبيان. وكان ابن سيرين
لا يرى بأسا بالشيء من القرآن يعلقه الإنسان.
قوله
تعالى: « ورحمة
للمؤمنين » تفريج
الكروب وتطهير العيوب وتكفير الذنوب مع ما تفضل به تعالى من الثواب في تلاوته؛ كما
روى الترمذي عن عبدالله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من قرأ حرفا من كتاب الله فله
به حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول آلم حرف بل ألف حرف ولام حرف وميم حرف ) . قال هذا حديث حسن صحيح غريب.
وقد تقدم. « ولا يزيد
الظالمين إلا خسارا » لتكذيبهم.
قال قتادة: ما جالس أحد القرآن إلا قام عنه بزيادة أو نقصان، ثم قرأ « وننزل من القرآن ما هو شفاء
ورحمة للمؤمنين » الآية.
ونظير هذه الآية قوله: « قل هو
للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليه عمى » [ فصلت: 44 ] .
الآية:
83 ( وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض
ونأى بجانبه وإذا مسه الشر كان يؤوسا )
قوله
تعالى: « وإذا
أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه » أي هؤلاء الذين يزيدهم القرآن خسارا صفتهم الإعراض عن تدبر
آيات الله والكفران لنعمه. وقيل: نزلت في الوليد بن المغيرة. ومعنى « نأى بجانبه » أي تكبر وتباعد. وناء مقلوب منه؛
والمعنى: بعد عن القيام بحقوق الله عز وجل؛ يقال: نأى الشيء أي بعد. ونأيته ونأيت
عنه بمعنى، أي بعدت. وأنأيته فانتأى؛ أي أبعدته فبعد. وتناؤوا تباعدوا. والمنتأى:
الموضع البعيد. قال النابغة:
فإنك
كالليل الذي هو مدركي وإن خلت أن المنتأى عنك واسع
وقرأ ابن
عامر في رواية ابن ذكوان « ناء » مثل باع، الهمزة مؤخرة، وهو على
طريقة القلب من نأى؛ كما يقال: راء ورأى. وقيل: هو من النوء وهو النهوض والقيام.
وقد يقال أيضا للوقوع والجلوس نوء؛ وهو من الأضداد. وقرئ « ونئى » بفتح النون وكسر الهمزة. والعامة
« نأي » في وزن رأى. « وإذا مسه الشر كان يؤوسا » أي إذا ناله شدة من فقر أو سقم
أو بؤس يئس وقنط؛ لأنه لا يثق بفضل الله تعالى.
الآية:
84 ( قل كل يعمل على شاكلته فربكم
أعلم بمن هو أهدى سبيلا )
قوله
تعالى: « قل كل
يعمل على شاكلته » قال ابن
عباس: ناحيته. وقال الضحاك. مجاهد: طبيعته. وعنه: حدته. ابن زيد: على دينه. الحسن
وقتادة: نيته. مقاتل: جبلته. الفراء: على طريقته ومذهبه الذي جبل عليه. وقيل. قل
كل يعمل على ما هو أشكل عنده وأولى بالصواب في اعتقاده. وقيل: هو مأخوذ من الشكل؛
يقال: لست على شكلي ولا شاكلتي. قال الشاعر:
كل امرئ
يشبهه فعله ما يفعل المرء فهو أهله
فالشكل هو
المثل والنظير والضرب. كقوله تعالى: « وآخر من شكله أزواج » [ ص: 58
] . الشكل
( بكسر
الشين ) :
الهيئة. يقال: جارية حسنة الشكل. وهذه الأقوال كلها متقاربة. والمعنى: أن كل أحد
يعمل على ما يشاكل أصله وأخلاقه التي ألفها، وهذا ذم للكافر ومدح للمؤمن. والآية
والتي قبلها نزلتا في الوليد بن المغيرة؛ ذكره المهدوي. « فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا » أي بالمؤمن والكافر وما سيحصل من
كل واحد منهم. وقيل: « أهدى
سبيلا » أي أسرع
قبولا. وقيل: أحسن دينا. وحكي أن الصحابة رضوان الله عليهم تذاكروا القرآن فقال
أبو بكر الصديق رضي الله عنه: قرأت القرآن من أوله إلى آخره فلم أر فيه آية أرجى
وأحسن من قوله تعالى: « بسم الله
الرحمن الرحيم. حم. تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم.. غافر الذنب وقابل التوب
شديد العقاب ذي الطول » [ غافر: 1 ] قدم غفران الذنوب على قبول
التوبة، وفي هذا إشارة للمؤمنين. وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه: قرأت جميع
القرآن من أوله إلى آخره فلم أر آية أحسن وأرجى من قوله تعالى: « نبئ عبادي أني أنا الغفور
الرحيم » [ الحجر: 49 ] . وقال علي بن أبي طالب رضي
الله عنه: قرأت القرآن من أوله إلى آخره فلم أر آية أحسن وأرجى من قوله تعالى: « قل يا عبادي الذين أسرفوا على
أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم » [ الزمر: 53 ] .
قلت: وقرأت
القرآن من أوله إلى آخره فلم أر آية أحسن وأرجى من قوله تعالى: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم
بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون » [
الأنعام: 82 ] .
الآية:
85 ( ويسألونك عن الروح قل الروح من
أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا )
روى
البخاري ومسلم والترمذي عن عبدالله قال: بينا أنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في
حرث وهو متكئ على عسيب إذ مر اليهود فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح. فقال: ما
رابكم إليه؟ وقال بعضهم: لا يستقبلكم بشيء تكرهونه. فقالوا: سلوه. فسألوه عن الروح
فأمسك النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرد عليهم شيئا؛ فعلمت أنه يوحى إليه، فقمت
مقامي، فلما نزل الوحي قال: « ويسألونك
عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا » لفظ البخاري. وفي مسلم: فأسكت
النبي صلى الله عليه وسلم. وفيه: وما أوتوا. وقد اختلف الناس في الروح المسؤول
عنه، أي الروح هو؟ فقيل: هو جبريل؛ قاله قتادة. قال: وكان ابن عباس يكتمه. وقيل هو
عيسى. وقيل القرآن، على ما يأتي بيانه في آخر الشورى. وقال علي بن أبي طالب: هو
ملك من الملائكة له سبعون ألف وجه، في كل وجه سبعون ألف لسان، في كل لسان سبعون
ألف لغة، يسبح الله تعالى بكل تلك اللغات، يخلق الله تعالى من كل تسبيحة ملكا يطير
مع الملائكة إلى يوم القيامة. ذكره الطبري. قال ابن عطية: وما أظن القول يصح عن
علي رضي الله عنه.
قلت: أسند
البيهقي أخبرنا أبو زكريا عن أبي إسحاق أخبرنا أبو الحسن الطرائفي حدثنا عثمان بن
سعيد حدثنا عبدالله بن صالح عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في
قوله: « ويسألونك
عن الروح » يقول:
الروح ملك. وبإسناده عن معاوية بن صالح حدثني أبو هران [ بكسر الهاء ] يزيد بن سمرة عمن حدثه عن علي
بن أبي طالب أنه قال في قوله تعالى: « ويسألونك عن الروح » فال: هو ملك من الملائكة له سبعون ألف وجه... الحديث بلفظه
ومعناه. وروى عطاء عن ابن عباس قال: الروح ملك له أحد عشر ألف جناح وألف وجه، يسبح
الله إلى يوم القيامة؛ ذكره النحاس. وعنه: جند من جنود الله لهم أيد وأرجل يأكلون
الطعام؛ ذكره الغزنوي. وقال الخطابي: وقال بعضهم، هو ملك من الملائكة بصفة وضعوها
من عظم الخلقة. وذهب أكثر أهل التأويل إلى أنهم سألوه عن الروح الذي يكون به حياة
الجسد. وقال أهل النظر منهم: إنما سألوه عن كيفية الروح ومسلكه في بدن الإنسان،
وكيف امتزاجه بالجسم واتصال الحياة به، وهذا شيء لا يعلمه إلا الله عز وجل. وقال
أبو صالح: الروح خلق كخلق بني آدم وليسوا ببني آدم، لهم أيد وأرجل. والصحيح
الإبهام لقوله: « قل الروح
من أمر ربي » أي هو أمر
عظيم وشأن كبير من أمر الله تعالى، مبهما له وتاركا تفصيله؛ ليعرف الإنسان على
القطع عجزه عن علم حقيقة نفسه مع العلم بوجودها. وإذا كان الإنسان في معرفة نفسه
هكذا كان بعجزه عن إدراك حقيقة الحق أولى. وحكمة ذلك تعجيز العقل عن إدراك معرفة
مخلوق مجاور له، دلالة على أنه عن إدراك خالقه أعجز.
قوله
تعالى: « وما أوتيتم
من العلم إلا قليلا » اختلف
فيمن خوطب بذلك؛ فقالت فرقة: السائلون فقط. وقال قوم: المراد اليهود بجملتهم. وعلى
هذا هي قراءة ابن مسعود « وما
أوتوا » ورواها عن
النبي صلى الله عليه وسلم. وقالت فرقة: المراد العالم كله. وهو الصحيح، وعليه
قراءة الجمهور « وما أوتيتم
» . وقد
قالت اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم: كيف لم نؤت من العلم إلا قليلا وقد أوتينا
التوراة وهي الحكمة، ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا؟ فعارضهم رسول الله صلى
الله عليه وسلم بعلم الله فغلبوا. وقد نص رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله في
بعض الأحاديث: ( كلا ) يعني أن المراد « بما أوتيتم » جميع العالم. وذلك أن يهود قالت
له: نحن عنيت أم قومك. فقال: ( كلا ) . وفي هذا المعنى نزلت « ولو أن ما في الأرض من شجرة
أقلام » [ لقمان: 27 ] . حكى ذلك الطبري رحمه الله وقد
قيل: إن السائلين عن الروح هم قريش، قالت لهم اليهود: سلوه عن أصحاب الكهف وعن ذي
القرنين وعن الروح فإن أخبركم عن اثنين وأمسك عن واحدة فهو نبي؛ فأخبرهم خبر أصحاب
الكهف وخبر ذي القرنين على ما يأتي. وقال في الروح: « قل الروح من أمر ربي » أي من الأمر الذي لا يعلمه إلا
الله. ذكره المهدوي وغيره من المفسرين عن ابن عباس.
الآية [ 86 ] في الصفحة التالية ...
الآيتان:
86 - 87 ( ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا
إليك ثم لا تجد لك به علينا وكيلا، إلا رحمة من ربك إن فضله كان عليك كبيرا )
قوله
تعالى: « ولئن
شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك » يعني
القرآن. أي كما قدرنا على إنزاله نقدر على إذهابه حتى ينساه الخلق. ويتصل هذا بقوله:
« وما
أوتيتم من العلم إلا قليلا » أي ولو
شئت أن أذهب بذلك القليل لقدرت عليه. « ثم لا تجد لك به علينا وكيلا » أي ناصرا يرده عليك. « إلا رحمة من ربك » يعني لكن لا نشاء ذلك رحمة من
ربك؛ فهو استثناء ليس من الأول. وقيل: إلا أن يرحمك ربك فلا يذهب به. « إن فضله كان عليك كبيرا » إذ جعلك سيد ولد آدم. وأعطاك
المقام المحمود وهذا الكتاب العزيز. وقال عبدالله بن مسعود: أول ما تفقدون من
دينكم الأمانة، وآخر ما تفقدون الصلاة، وأن هذا القرآن كأنه قد نزع منكم، تصبحون
يوما وما معكم منه شيء. فقال رجل: كيف يكون ذلك يا أبا عبدالرحمن وقد ثبتناه في
قلوبنا وأثبتناه في مصاحفنا، نعلمه أبناءنا ويعلمه أبناؤنا أبناءهم إلى يوم
القيامة! قال: يسري به في ليلة فيذهب بما في المصاحف وما في القلوب، فتصبح الناس
كالبهائم. ثم قرأ عبدالله « ولئن
شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك » الآية.
أخرجه أبو بكر بن أبي شيبة بمعناه قال: أخبرنا أبو الأحوص عن عبدالعزيز ابن رفيع
عن شداد بن معقل قال: قال عبدالله - يعني ابن مسعود - : إن هذا القرآن الذي بين
أظهركم يوشك أن ينزع منكم. قال: قلت كيف ينزع منا وقد أثبته الله في قلوبنا
وثبتناه في مصاحفنا! قال: يسرى عليه في ليلة واحدة فينزع ما في القلوب ويذهب ما في
المصاحف ويصبح الناس منه فقراء. ثم قرأ « لئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك » وهذا إسناد صحيح. وعن ابن عمر:
لا تقوم الساعة حتى يرجع القرآن من حيث نزل، له دوي كدوي النحل، فيقول الله ما
بالك. فيقول: يا رب منك خرجت وإليك أعود، أتلى فلا يعمل بي، أتلى ولا يعمل بي..
قلت: قد
جاء معنى هذا مرفوعا من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص وحذيفة. قال حذيفة قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: ( يدرس
الإسلام كما يدرس وشي الثوب حتى لا يدري ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة فيسرى
على كتاب الله تعالى في ليلة فلا يبقى منه في الأرض آية وتبقى طوائف من الناس
الشيخ الكبير والعجوز يقولون أدركنا آباءنا على هذه الكلمة لا إله إلا الله. وهم
لا يدرون ما صلاة ولا صيام ولا نسك ولا صدقة ) . قال له صلة: ما تغني عنهم لا إله إلا الله! وهم لا يدرون
ما صلاة ولا صيام ولا نسك ولا صدقة؛ فأعرض عنه حذيفة؛ ثم رددها ثلاثا، كل ذلك يعرض
عنه حذيفة. ثم أقبل عليه حذيفة فقال: يا صلة! تنجيهم من النار، ثلاثا. خرجه ابن
ماجة في السنن. وقال عبدالله بن عمر: خرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو معصوب
الرأس من وجع فضحك، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ( أيها الناس ما هذه الكتب التي
تكتبون أكتاب غير كتاب الله يوشك أن يغضب الله لكتابه فلا يدع ورقا ولا قلبا إلا
أخذ منه ) قالوا:
يا رسول الله، فكيف بالمؤمنين والمؤمنات يومئذ؟ قال: ( من أراد الله به خيرا أبقى في
قلبه لا إله إلا الله ) ذكره
الثعلبي والغزنوي وغيرهما في التفسير.
الآية:
88 ( قل لئن اجتمعت الإنس والجن على
أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا )
أي عونا
ونصيرا؛ مثل ما يتعاون الشعراء على بيت شعر فيقيمونه. نزلت حين قال الكفار: لو
نشاء لقلنا مثل هذا؛ فأكذبهم الله تعالى. وقد مضى القول في إعجاز القرآن في أول
الكتاب والحمد لله. و « لا يأتون
» جواب
القسم في « لئن » وقد يجزم على إرادة الشرط. قال
الشاعر:
لئن كان ما
حدثته اليوم صادقا أقم في نهار القيظ للشمس باديا
الآية:
89 ( ولقد صرفنا للناس في هذا
القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا )
قوله
تعالى: « ولقد
صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل » أي وجهنا القول فيه بكل مثل يجب به الاعتبار؛ من الآيات
والعبر والترغيب والترهيب، والأوامر والنواهي وأقاصيص الأولين، والجنة والنار
والقيامة. « فأبى
أكثر الناس إلا كفورا » يريد أهل
مكة، بين لهم الحق وفتح لهم وأمهلهم حتى تبين لهم أنه الحق، فأبوا إلا الكفر وقت
تبين الحق. قال المهدوي: ولا حجة للقدري في قولهم: لا يقال أبى إلا لمن أبى فعل ما
هو قادر عليه؛ لأن الكافر وإن كان غير قادر على الإيمان بحكم الله عليه بالإعراض
عنه وطبعه على قلبه، فقد كان قادرا وقت الفسحة والمهلة على طلب الحق وتمييزه من
الباطل.
الآيات:
90 - 93 ( وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر
لنا من الأرض ينبوعا، أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا،
أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا، أو يكون لك
بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه قل
سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا )
قوله
تعالى: « وقالوا
لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا » الآية نزلت في رؤساء قريش مثل عتبة وشيبة ابني ربيعة، وأبي
سفيان والنضر بن الحارث، وأبي جهل وعبدالله بن أبي أمية، وأمية بن خلف وأبي
البختري، والوليد بن المغيرة وغيرهم. وذلك أنهم لما عجزوا عن معارضة القرآن ولم
يرضوا به معجزة، اجتمعوا - فيما ذكر ابن إسحاق وغيره - بعد غروب الشمس عند ظهر
الكعبة، ثم قال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم فكلموه وخاصموه
حتى تعذروا فيه، فبعثوا إليه أن أشراف قومك قد اجتمعوا إليك ليكلموك فأتهم، فجاءهم
رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يظن أن قد بدا لهم فيما كلمهم فيه بدو، وكان
رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصا يحب رشدهم ويعز عليه عنتهم، حتى جلس إليهم
فقالوا له: يا محمد! إنا فد بعثنا إليك لنكلمك، وإنا والله ما نعلم رجلا من العرب
أدخل على قومه ما أدخلت على قومك؛ لقد شتمت الآباء وعبت الدين وشتمت الآلهة وسفهت
الأحلام وفرقت الجماعة، فما بقي أمر قبيح إلا قد جئته فيما بيننا وبينك، أو كما
قالوا له. فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالا جمعنا لك من أموالنا حتى
تكون أكثرنا مالا، وإن كنت إنما تطلب به الشرف فينا فنحن نسودك علينا، وإن كنت
تريد به ملكا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه قد غلب عليك - وكانوا
يسمون التابع من الجن رئيا - فربما كان ذلك بذلنا أموالنا في طلب الطب لك حتى
نبرئك منه أو نعذر فيك. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما بي ما تقولون ما جئت بما
جئتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم ولكن الله بعثني إليكم
رسولا وأنزل علي كتابا وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا فبلغتكم رسالات ربي ونصحت
لكم فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه علي أصبر
لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم ) أو كما قال صلى الله عليه وسلم. قالوا: يا محمد، فإن كنت غير
قابل منا شيئا مما عرضناه عليك، فإنك قد علمت أنه ليس من الناس أحد أضيق بلدا ولا
أقل ماء ولا أشد عيشا منا، فسل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به، فليسير عنا هذه
الجبال التي قد ضيقت علينا، وليبسط لنا بلادنا وليخرق لنا فيها أنهارا كأنهار
الشام، وليبعث لنا من مضى من آبائنا؛ وليكن فيمن يبعث لنا قصي بن كلاب؛ فإنه كان
شيخ صدق فنسألهم عما تقول، أحق هو أم باطل، فإن صدقوك وصنعت ما سألناك صدقناك،
وعرفنا به منزلتك من الله تعالى، وأنه بعثك رسولا كما تقول. فقال لهم صلوات الله
عليه وسلامه: ( ما بهذا
بعثت إليكم إنما جئتكم من الله تعالى بما بعثني به وقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم
فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم
الله بيني وبينكم ) . قالوا:
فإذا لم تفعل هذا لنا فخذ لنفسك! سل ربك أن يبعث معك ملكا يصدقك بما تقول ويراجعنا
عنك، وأسأله فليجعل لك جنانا وقصورا وكنوزا من ذهب وفضة يغنيك بها عما نراك تبتغي؛
فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمس، حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت
رسولا كما تزعم. فقال لهم رسول الله: ( ما أنا بفاعل وما أنا بالذي يسأل ربه هذا وما بعثت بهذا
إليكم ولكن الله بعثني بشيرا ونذيرا - أو كما قال - فإن تقبلوا مني ما جئتكم به
فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني
وبينكم ) قالوا:
فأسقط السماء علينا كسفا كما زعمت أن ربك إن شاء فعل؛ فإنا لن نؤمن لك إلا أن
تفعل. قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ذلك إلى الله عز وجل إن شاء أن يفعله بكم فعل ) قالوا: يا محمد، فما علم ربك
أنا سنجلس معك ونسألك عما سألنا عنه ونطلب منك ما نطلب، فيتقدم إليك فيعلمك بما
تراجعنا به، ويخبرك ما هو صانع في ذلك بنا إذ لم نقبل منك ما جئتنا به. إنه قد
بلغنا إنما يعلمك هذا رجل من اليمامة يقال له الرحمن، وإنا والله لا نؤمن بالرحمن
أبدا، فقد أعذرنا إليك يا محمد، وإنا والله لا نتركك وما بلغت منا حتى نهلكك أو
تهلكنا. وقال قائلهم: نحن نعبد الملائكة وهي بنات الله. وقال قائلهم: لن نؤمن لك
حتى تأتي بالله والملائكة قبيلا.
فلما قالوا
ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قام عنهم وقام معه عبدالله بن أبي أمية بن
المغيرة بن عبدالله بن عمر بن مخزوم، وهو ابن عمته، هو لعاتكة بنت عبدالمطلب، فقال
له: يا محمد عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم، ثم سألوك لأنفسهم أمورا
ليعرفوا بها منزلتك من الله كما تقول، ويصدقوك ويتبعوك فلم تفعل ثم سألوك أن تأخذ
لنفسك ما يعرفون به فضلك عليهم ومنزلتك من الله فلم تفعل ثم سألوك أن تعجل لهم بعض
ما تخوفهم به من العذاب فلم تفعل - أو كما قال له - فوالله لا أؤمن بك أبدا حتى
تتخذ إلى السماء سلما، ثم ترقى فيه وأنا أنظر حتى تأتيها، ثم تأتي معك بصك معه
أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول. وايم الله لو فعلت ذلك ما ظننت أني
أصدقك ثم انصرف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانصرف رسول الله صلى الله عليه
وسلم إلى أهله حزينا أسفا لما فاته مما كان يطمع به من قومه حين دعوه، ولما رأى من
مباعدتهم إياه، كله لفظ ابن إسحاق. وذكر الواحدي عن عكرمة عن ابن عباس: فأنزل الله
تعالى « وقالوا
لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا » . « ينبوعا » يعني العيون؛ عن مجاهد. وهي
يفعول، من نبع ينبع. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي « تفجر لنا » مخففة؛
واختاره أبو حاتم لأن الينبوع واحد. ولم يختلفوا في تفجر الأنهار أنه مشدد. قال
أبو عبيد: والأولى مثلها. قال أبو حاتم. ليست مثلها، لأن الأولى بعدها ينبوع وهو
واحد، والثانية بعدها الأنهار وهي جمع، والتشديد يدل على التكثير. أجيب بأن « ينبوعا » وإن كان واحدا فالمراد به الجمع،
كما قال مجاهد. الينبوع عين الماء، والجمع الينابيع. وقرأ قتادة « أو يكون لك جنة » . « خلالها » أي وسطها. « أو تسقط السماء » قراءة العامة. وقرأ مجاهد « أو يسقط السماء » على إسناد الفعل إلى السماء. « كسفا » قطعا، عن ابن عباس وغيره. والكسف
( بفتح
السين ) جمع
كسفة، وهي قراءة نافع وابن عامر وعاصم. الباقون « كسفا » بإسكان
السين. قال الأخفش: من قرأ كسْفا من السماء جعله واحدا، ومن قرأ كسَفا جعله جمعا.
قال المهدوي: ومن أسكن السين جاز أن يكون جمع كسفة وجاز أن يكون مصدرا، من كسفت الشيء
إذا غطيته. فكأنهم قالوا: أسقطها طبقا علينا. وقال الجوهري. الكسفة القطعة من
الشيء؛ يقال: أعطني كسفة من ثوبك، والجمع كسف وكسف. ويقال: الكسفة واحد.
قوله
تعالى: « أو تأتي
بالله والملائكة قبيلا » أي
معاينة؛ عن قتادة وابن جريج. وقال الضحاك وابن عباس: كفيلا. قال مقاتل: شهيدا.
مجاهد: هو جمع القبيلة؛ أي بأصناف الملائكة قبيلة قبيلة. وقيل: ضمناء يضمنون لنا
إتيانك به. « أو يكون
لك بيت من زخرف » أي من
ذهب؛ عن ابن عباس وغيره. وأصله الزينة. والمزخرف المزين. وزخارف الماء طرائقه.
وقال مجاهد: كنت لا أدري ما الزخرف حتى رأيته في قراءة ابن مسعود « بيت من ذهب » أي نحن لا ننقاد لك مع هذا الفقر
الذي نرى. « أو ترقى
في السماء » أي تصعد؛
يقال: رقيت في السلم أرقى رقيا ورقيا إذا صعدت. وارتقيت مثله. « ولن نؤمن لرقيك » أي من أجل رقيك، وهو مصدر؛ نحو
مضى يمضي مضيا، وهوى يهوي هويا، كذلك رقي يرقي رقيا. « حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه » أي كتابا من الله تعالى إلى كل
رجل منا؛ كما قال تعالى: « بل يريد
كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة » [
المدثر: 52 ] . « قل سبحان ربي » وقرأ أهل مكة والشام « قال سبحان ربي » يعني النبي صلى الله عليه وسلم؛
أي قال ذلك تنزيها لله عز وجل عن أن يعجز عن شيء وعن أن يعترض عليه في فعل. وقيل:
هذا كله تعجب عن فرط كفرهم واقتراحاتهم. الباقون « قل » على
الأمر؛ أي قل لهم يا محمد « هل كنت » أي ما أنا « إلا بشرا رسولا » اتبع ما يوحى إلي من ربي، ويفعل
الله ما يشاء من هذه الأشياء التي ليست في قدرة البشر، فهل سمعتم أحدا من البشر
أتى بهذه الآيات وقال بعض الملحدين: ليس هذا جوابا مقنعا، وغلطوا؛ لأنه أجابهم
فقال: إنما أنا بشر لا أقدر على شيء مما سألتموني، وليس لي أن أتخير على ربي، ولم
تكن الرسل قبلي يأتون أممهم بكل ما يريدونه ويبغونه، وسبيلي سبيلهم، وكانوا
يقتصرون على ما آتاهم الله من آياته الدالة على صحة نبوتهم، فإذا أقاموا عليهم
الحجة لم يجب لقومهم أن يقترحوا غيرها، ولو وجب على الله أن يأتيهم بكل ما
يقترحونه من الآيات لوجب عليه أن يأتيهم بمن يختارونه من الرسل، ولوجب لكل إنسان
أن يقول: لا أومن حتى أوتى بآية خلاف ما طلب غيري. وهذا يؤول إلى أن يكون التدبير
إلى الناس. وإنما التدبير إلى الله تعالى.
الآية:
94 ( وما منع الناس أن يؤمنوا إذ
جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا )
قوله
تعالى: « وما منع
الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى » يعني
الرسل والكتب من عند الله بالدعاء إليه. « إلا أن قالوا » قالوا جهلا منهم. « أبعث الله بشرا رسولا » أي الله أجل من أن يكون رسوله من البشر. فبين الله تعالى فرط
عنادهم لأنهم قالوا: أنت مثلنا فلا يلزمنا الانقياد، وغفلوا عن المعجزة. « فأن » الأولى في محل نصب بإسقاط حرف
الخفض. و « أن » الثانية في محل رفع « بمنع » أي وما منع الناس من أن يؤمنوا
إذ جاءهم الهدى إلا قولهم أبعث الله بشرا رسولا.
الآية:
95 ( قل لو كان في الأرض ملائكة
يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا )
أعلم الله
تعالى أن الملك إنما يرسل إلى الملائكة؛ لأنه لو أرسل ملكا إلى الآدميين لم يقدروا
أن يروه على الهيئة التي خلق عليها، وإنما أقدر الأنبياء على ذلك وخلق فيهم ما
يقدرون به، ليكون ذلك آية لهم ومعجزة. وقد تقدم في « الأنعام » نظير هذه الآية؛ وهو قوله: « وقالوا لولا أنزل علبه ولو
أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون. ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا » [ الأنعام: 9 ] وقد تقدم الكلام فيه.
الآية:
96 ( قل كفى بالله شهيدا بيني
وبينكم إنه كان بعباده خبيرا بصيرا )
يروى أن
كفار قريش قالوا حين سمعوا قوله « هل كنت
إلا بشرا رسولا » : فمن
يشهد لك أنك رسول الله. فنزل « قل كفى
بالله شهيدا بيني وبينكم إنه كان بعباده خبيرا بصيرا » .
الآية:
97 ( ومن يهد الله فهو المهتد ومن
يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما
مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا )
قوله تعالى:
« ومن يهد
الله فهو المهتدي » أي لو
هداهم الله لاهتدوا. « ومن يضلل
فلن تجد لهم أولياء من دونه » أي لا
يهديهم أحد. « ونحشرهم
يوم القيامة على وجوههم » فيه
وجهان: أحدهما: أن ذلك عبارة عن الإسراع بهم إلى جهنم؛ من قول العرب: قدم القوم
على وجوههم إذا أسرعوا. الثاني: أنهم يسحبون يوم القيامة على وجوههم إلى جهنم كما
يفعل في الدنيا بمن يبالغ في هوانه وتعذيبه. وهذا هو الصحيح؛ لحديث أنس أن رجلا
قال: يا رسول الله، الذين يحشرون على وجوههم، أيحشر الكافر على وجهه؟ قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم ( أليس
الذي أمشاه على الرجلين قادرا على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة ) : قال قتادة حين بلغه: بلى وعزة
ربنا. أخرجه البخاري ومسلم. وحسبك. « عميا وبكما وصما » قال ابن عباس والحسن: أي عمي عما يسرهم، بكم عن التكلم بحجة،
صم عما ينفعهم؛ وعلى هذا القول حواسهم باقية على ما كانت عليه. وقيل: إنهم يحشرون
على الصفة التي وصفهم الله بها؛ ليكون ذلك زيادة في عذابهم، ثم يخلق ذلك لهم في
النار، فأبصروا؛ لقوله تعالي: « ورأى
المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها » [
الكهف: 53 ] ،
وتكلموا، لقوله تعالى: « دعوا
هنالك ثبورا » [ الفرقان: 13 ] ، وسمعوا؛ لقوله تعالى: « سمعوا لها تغيظا وزفيرا » [ الفرقان: 12 ] . وقال مقاتل بن سليمان: إذا
قيل لهم « اخسؤوا
فيها ولا تكلمون » [ المؤمنون: 108 ] صاروا عميا لا يبصرون صما لا
يسمعون بكما لا يفقهون. وقيل: عموا حين دخلوا النار لشدة سوادها، وانقطع كلامهم
حين قيل لهم: اخسؤوا فيها ولا تكلمون. وذهب الزفير والشهيق بسمعهم فلم يسمعوا
شيئا. « مأواهم
جهنم » أي
مستقرهم ومقامهم. « كلما خبت
» أي سكنت؛
عن الضحاك وغيره. مجاهد طفئت. يقال: خبت النار تخبو خبوا أي طفئت، وأخبيتها أنا. « زدناهم سعيرا » أي نار تتلهب. وسكون التهابها من
غير نقصان في آلامهم ولا تخفيف عنهم من عذابهم. وقيل: إذا أرادت أن تخبو. كقوله: « وإذا قرأت القرآن » [ الإسراء: 45 ] .
الآيتان:
98 - 99 ( ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا
بآياتنا وقالوا أئذا كنا عظاما ورفاتا أئنا لمبعوثون خلقا جديدا، أولم يروا أن
الله الذي خلق السماوات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم وجعل لهم أجلا لا ريب فيه
فأبى الظالمون إلا كفورا )
قوله
تعالى: « ذلك
جزاؤهم بأنهم كفروا بآياتنا » أي ذلك
العذاب جزاء كفرهم. « وقالوا
أئذا كنا عظاما ورفاتا » أي ترابا.
« أئنا
لمبعوثون خلقا جديدا » فأنكروا
البعث فأجابهم الله تعالى فقال: « أو لم
يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم وجعل لهم أجلا لا
ريب فيه » قيل: في
الكلام تقديم وتأخير، أي أو لم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض، وجعل لهم
أجلا لا ريب فيه قادر على أن يخلق مثلهم. والأجل: مدة قيامهم في الدنيا ثم موتهم،
وذلك ما لا شك فيه إذ هو مشاهد. وقيل: هو جواب قولهم: « أو تسقط السماء كما زعمت علينا
كسفا » [ الإسراء: 92 ] . وقيل: وهو يوم القيامة. « فأبى الظالمون إلا كفورا » أي أبى المشركون إلا جحودا بذلك
الأجل وبآيات الله. وقيل: ذلك الأجل هو وقت البعث، ولا ينبغي أن يشك فيه.
الآية:
100 ( قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة
ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا )
قوله
تعالى: « قل لو
أنتم تملكون خزائن رحمة ربي » أي خزائن
الأرزاق. وقيل: خزائن النعم، وهذا أعم. « إذا لأمسكتم خشية الإنفاق » من البخل، وهو جواب قولهم: « لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا » [ الإسراء: 90 ] حتى نتوسع في المعيشة. أي لو
توسعتم لبخلتم أيضا. وقيل: المعنى لو ملك أحد المخلوقين خزائن الله لما جاد بها
كجود الله تعالى؛ لأمرين: أحدهما: أنه لا بد أن يمسك منها لنفقته وما يعود
بمنفعته. الثاني: أنه يخاف الفقر ويخشى العدم. والله تعالى يتعالى في جوده عن
هاتين الحالتين. والإنفاق في هذه الآية بمعنى الفقر؛ قاله ابن عباس وقتادة. وحكى
أهل اللغة أنفق وأصرم وأعدم وأقتر إذا قل ماله. « وكان الإنسان قتورا » أي بخيلا مضيقا. يقال: قتر على عياله يقتر ويقتر قترا وقتورا
إذا ضيق عليهم في النفقة، وكذلك التقتير والإقتار، ثلاث لغات. واختلف في هذه الآية
على قولين: أحدهما: أنها نزلت في المشركين خاصة؛ قاله الحسن. والثاني: أنها عامة،
وهو قول الجمهور؛ وذكره الماوردي.
الآية:
101 ( ولقد آتينا موسى تسع آيات
بينات فاسأل بني إسرائيل إذ جاءهم فقال له فرعون إني لأظنك يا موسى مسحورا )
قوله
تعالى: « ولقد
آتينا موسى تسع آيات بينات » اختلف في
هذه الآيات؛ فقيل: هي بمعنى آيات الكتاب؛ كما روى الترمذي والنسائي عن صفوان بن
عسال المرادي أن يهوديين قال أحدهما لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا النبي نسأله؛ فقال:
لا تقل له نبي فإنه إن سمعنا كان له أربعة أعين؛ فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم
فسألاه عن قول الله تعالى: « ولقد
آتينا موسى تسع آيات بينات » فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: ( لا
تشركوا بالله شيئا ولا تزنوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا تسرقوا
ولا تسحروا ولا تمشوا ببريء إلى سلطان فيقتله ولا تأكلوا الربا ولا تقذفوا محصنة
ولا تفروا من الزحف - شك شعبة - وعليكم يا معشر اليهود خاصة ألا تعدوا في السبت ) فقبلا يديه ورجليه وقالا: نشهد
أنك نبي. قال: ( فما
يمنعكما أن تسلما ) قالا: إن
داود دعا الله ألا يزال في ذريته نبي وإنا نخاف إن أسلمنا أن تقتلنا اليهود. قال
أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. وقد مضى في « البقرة » . وقيل:
الآيات بمعنى المعجزات والدلالات. قال ابن عباس والضحاك: الآيات التسع العصا واليد
واللسان والبحر والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم؛ آيات مفصلات. وقال الحسن
والشعبي: الخمس المذكورة في « الأعراف
» ؛ يعنيان
الطوفان وما عطف عليه، واليد والعصا والسنين والنقص من الثمرات. وروي نحوه عن
الحسن؛ إلا أنه يجعل السنين والنقص من الثمرات واحدة، وجعل التاسعة تلقف العصا ما
يأفكون. وعن مالك كذلك؛ إلا أنه جعل مكان السنين والنقص من الثمرات؛ البحر والجبل.
وقال محمد بن كعب: هي الخمس التي في « الأعراف » والبحر
والعصا والحجر والطمس على أموالهم. وقد تقدم شرح هذه الآيات مستوفى والحمد لله. « فاسأل بني إسرائيل إذ جاءهم » أي سلهم يا محمد إذ جاءهم موسى
بهذه الآيات، حسبما تقدم بيانه في « يونس » . وهذا
سؤال استفهام ليعرف اليهود صحة ما يقول محمد صلى الله عليه وسلم. « فقال له فرعون إني لأظنك يا
موسى مسحورا » أي ساحرا
بغرائب أفعالك؛ قاله الفراء وأبو عبيدة. فوضع المفعول موضع الفاعل؛ كما تقول: هذا
مشؤوم وميمون، أي شائم ويامن. وقيل مخدوعا. وقيل مغلوبا؛ قاله مقاتل. وقيل غير
هذا؛ وقد تقدم. وعن ابن عباس وأبي نهيك أنهما قرآ « فسأل بني إسرائيل » على الخبر؛ أي سأل موسى فرعون أن يخلي بني إسرائيل ويطلق
سبيلهم ويرسلهم معه.
الآية:
102 ( قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء
إلا رب السماوات والأرض بصائر وإني لأظنك يا فرعون مثبورا )
قوله
تعالى: « قال لقد
علمت ما أنزل هؤلاء » يعني
الآيات التسع. و « أنزل » بمعنى أوجد. « إلا رب السماوات والأرض بصائر » أي دلالات يستدل بها على قدرته
ووحدانيته. وقراءة العامة « علمت » بفتح التاء، خطابا لفرعون. وقرأ
الكسائي بضم التاء، وهي قراءة علي رضي الله عنه؛ وقال: والله ما علم عدو الله ولكن
موسى هو الذي يعلم، فبلغت ابن عباس فقال: إنها « لقد علمتَ » ، واحتج
بقوله تعالى: « وجحدوا
بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا » [ النمل:
14 ] . ونسب
فرعون إلى العناد. وقال أبو عبيد: والمأخوذ به عندنا فتح التاء، وهو الأصح للمعنى
الذي احتج به ابن عباس؛ ولأن موسى لا يحتج بقوله: علمت أنا، وهو الرسول الداعي،
ولو كان مع هذا كله تصح به القراءة عن علي لكانت حجة، ولكن لا تثبت عنه، إنما هي
عن كلثوم المرادي وهو مجهول لا يعرف، ولا نعلم أحدا قرأ بها غير الكسائي. وقيل:
إنما أضاف موسى إلى فرعون العلم بهذه المعجزات؛ لأن فرعون قد علم مقدار ما يتهيأ
للسحرة فعله، وأن مثل ما فعل موسى لا يتهيأ لساحر، وأنه لا يقدر على فعله إلا من
يفعله، الأجسام ويملك السماوات والأرض. وقال مجاهد: دخل موسى على فرعون في يوم شات
وعليه قطيفة له، فألقى موسى عصاه فإذا هي ثعبان، فرأى فرعون جانبي البيت بين
فُقميها، ففزع وأحدث في قطيفته. « وإني
لأظنك يا فرعون مثبورا » الظن هنا
بمعنى التحقيق. والثبور: الهلال والخسران أيضا. قال الكميت:
ورأت قضاعة
في الأيا من رأي مثبور وثابر
أي مخسور
وخاسر، يعني في انتسابها إلى اليمن. وقيل: ملعونا. رواه المنهال عن سعيد بن جبير
عن ابن عباس. وقال أبان بن تغلب. وأنشد:
يا قومنا
لا تروموا حربنا سقها إن السفاه وإن البغي مثبور
أي ملعون.
وقال ميمون بن مهران عن ابن عباس: « مثبورا » ناقص
العقل. ونظر المأمون رجلا فقال له: يا مثبور؛ فسأل عنه قال. قال الرشيد قال
المنصور لرجل: مثبور؛ فسألته فقال: حدثني ميمون بن مهران... فذكره. وقال قتادة
هالكا. وعنه أيضا والحسن ومجاهد. مهلكا. والثبور: الهلاك؛ يقال: ثبر الله العدو
ثبورا أهلكه. وقيل: ممنوعا من الخير حكى أهل اللغة: ما ثبرك عن كذا أي ما منعك
منه. وثبره الله ثبرا. قال ابن الزبعرى:
إذ أجاري
الشيطان في سنن الغـ ـي ومن مال ميله مثبور
الضحاك: « مثبورا » مسحورا. رد عليه مثل ما قال له
باختلاف اللفظ. وقال ابن زيد: « مثبورا » مخبولا لا عقل له.
الآيتان:
103 - 104 ( فأراد أن يستفزهم من الأرض
فأغرقناه ومن معه جميعا، وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد
الآخرة جئنا بكم لفيفا )
قوله
تعالى: « فأراد أن
يستفزهم من الأرض » أي أراد
فرعون أن يخرج موسى وبني إسرائيل من أرض مصر بالقتل أو الإبعاد؛ فأهلكه الله عز
وجل. « وقلنا من
بعده لبني إسرائيل » أي من بعد
إغراقه « اسكنوا
الأرض » أي أرض
الشام ومصر. « فإذا جاء
وعد الآخرة » أي
القيامة. « جئنا بكم
لفيفا » أي من
قبوركم مختلطين من كل موضع، قد اختلط المؤمن بالكافر لا يتعارفون ولا ينحاز أحد
منكم إلى قبيلته وحيه. وقال ابن عباس وقتادة: جئنا بكم جميعا من جهات شتى. والمعنى
واحد. قال الجوهري: واللفيف ما اجتمع من الناس من قبائل شتى؛ يقال: جاء القوم
بلفهم ولفيفهم، أي وأخلاطهم. وقوله تعالى « جئنا بكم لفيفا » أي مجتمعين مختلطين. وطعام لفيف إذا كان مخلوطا من جنسين
فصاعدا. وفلان لفيف فلان أي صديقه. قال الأصمعي: اللفيف جمع وليس له واحد، وهو مثل
الجميع. والمعنى: أنهم يخرجون وقت الحشر من القبور كالجراد المنتشر، مختلطين لا
يتعارفون. وقال الكلبي: « فإذا جاء
وعد الآخرة » يعني مجيء
عيسى عليه السلام من السماء.
الآية:
105 ( وبالحق أنزلناه وبالحق نزل وما
أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا )
قوله
تعالى: « وبالحق
أنزلناه وبالحق نزل » هذا متصل
بما سبق من ذكر المعجزات والقرآن. والكناية ترجع إلى القرآن. ووجه التكرير في قوله
« وبالحق
نزل » يجوز أن
يكون معنى الأول: أوجبنا إنزاله بالحق. ومعنى الثاني: ونزل وفيه الحق؛ كقوله خرج
بثيابه، أي وعليه ثيابه. وقيل الباء في « وبالحق » الأول
بمعنى مع، أي مع الحق؛ كقولك ركب الأمير بسيفه أي مع سيفه. « وبالحق نزل » أي بمحمد صلى الله عليه وسلم، أي
نزل عليه، كما تقول نزلت بزيد. وقيل: يجوز أن يكون المعنى وبالحق قدرنا أن ينزل،
وكذلك نزل.
الآية:
106 ( وقرآنا فرقناه لتقرأه على
الناس على مكث ونزلناه تنزيلا )
قوله
تعالى: « وقرآنا
فرقناه » مذهب
سيبويه أن « قرآنا » منصوب بفعل مضمر يفسره الظاهر.
وقرأ جمهور الناس « فرقناه » بتخفيف الراء، ومعناه بيناه
وأوضحناه، وفرقنا فيه بين الحق والباطل؛ قاله الحسن. وقال ابن عباس: فصلناه. وقرأ
ابن عباس وعلي وابن مسعود وأبي بن كعب وقتادة وأبو رجاء والشعبي « فرقناه » بالتشديد، أي أنزلناه شيئا بعد
شيء لا جملة واحدة؛ إلا أن في قراءة ابن مسعود وأبي « فرقناه عليك » .
واختلف في
كم نزل القرآن من المدة؛ فقيل: في خمس وعشرين سنة. ابن عباس: في ثلاث وعشرين. أنس:
في عشرين. وهذا بحسب الخلاف في سن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا خلاف أنه نزل
إلى السماء الدنيا جملة واحدة. وقد مضى هذا في « البقرة » . « على مكث » أي تطاول في المدة شيئا بعد شيء.
ويتناسق هذا القرآن على قراءة ابن مسعود، أي أنزلناه آية آية وسورة سورة. وأما على
القول الأول فيكون « على مكث
» أي على
ترسل في التلاوة وترتيل؛ قاله مجاهد وابن عباس وابن جريج. فيعطي القارئ القراءة
حقها من ترتيلها وتحسينها وتطييبها بالصوت الحسن ما أمكن من غير تلحين ولا تطريب
مؤد إلى تغيير لفظ القرآن بزيادة أو نقصان فإن ذلك حرام على ما تقدم أول الكتاب.
وأجمع القراء على ضم الميم من « مكث » إلا ابن محيصن فإنه قرأ « مكث » بفتح الميم. ويقال: مكث ومكت
ومكث؛ ثلاث لغات. قال مالك: « على مكث
» على تثبت
وترسل. « ونزلناه
تنزيلا » مبالغة
وتأكيد بالمصدر للمعنى المتقدم، أي أنزلناه نجما بعد نجم؛ ولو أخذوا بجميع الفرائض
في وقت واحد لنفروا.
الآية:
107 ( قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن
الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا )
قوله تعالى:
« قل آمنوا
به أو لا تؤمنوا » يعني
القرآن. وهذا من الله عز وجل على وجه التبكيت لهم والتهديد لا على وجه التخيير. « إن الذين أوتوا العلم من قبله » أي من قبل نزول القرآن وخروج
النبي صلى الله عليه وسلم، وهم مؤمنو أهل الكتاب؛ في قول ابن جريج وغيره. قال ابن
جريج: معنى « إذا يتلى
عليهم » كتابهم.
وقيل القرآن. « يخرون
للأذقان سجدا » وقيل: هم
قوم من ولد إسماعيل تمسكوا بدينهم إلى أن بعث الله تعالى النبي عليه السلام، منهم
زيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل. وعلى هذا ليس يريد أوتوا الكتاب بل يريد أوتوا
علم الدين. وقال الحسن: الذين أوتوا العلم أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وقال
مجاهد: إنهم ناس من اليهود؛ وهو أظهر لقوله « من قبله » . « إذا يتلى عليهم » يعني القرآن في قول مجاهد. كانوا
إذا سمعوا ما أنزل الله تعالى من القرآن سجدوا وقالوا: « سبحان ربنا إن كان وعد ربنا
لمفعولا » . وقيل:
كانوا إذا تلوا كتابهم وما أنزل عليه من القرآن خشعوا وسجدوا وسبحوا، وقالوا: هذا
هو المذكور في التوراة، وهذه صفته، ووعد الله به واقع لا محالة، وجنحوا إلى
الإسلام؛ فنزلت الآية فيهم. وقالت فرقة: المراد بالذين أوتوا العلم من قبله محمد
صلى الله عليه وسلم، والضمير في « قبله » عائد على القرآن حسب الضمير في
قوله « قل آمنوا
به » . وقيل:
الضميران لمحمد صلى الله عليه وسلم، واستأنف ذكر القرآن في قوله: « إذا يتلى عليهم » .
الآية:
108 ( ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد
ربنا لمفعولا )
دليل على
جواز التسبيح في السجود. وفي صحيح مسلم وغيره عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في سجوده وركوعه ( سبحانك اللهم وبحمدك اللهم
اغفر لي ) .
الآية:
109 ( ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم
خشوعا )
قوله
تعالى: « ويخرون
للأذقان يبكون » هذه
مبالغة في صفتهم ومدح لهم. وحق لكل من توسم بالعلم وحصل منه شيئا أن يجري إلى هذه
المرتبة، فيخشع عند استماع القرآن ويتواضع ويذل. وفي مسند الدارمي أبي محمد عن
التيمي قال: من أوتي من العلم ما لم يبكه لخليق ألا يكون أوتي علما؛ لأن الله
تعالى نعت العلماء، ثم تلا هذه الآية. ذكره الطبري أيضا. والأذقان جمع ذقن، وهو
مجتمع اللحيين. وقال الحسن: الأذقان عبارة عن اللحى؛ أي يضعونها على الأرض في حال
السجود، وهو غاية التواضع. واللام بمعنى على؛ تقول سقط لفيه أي على فيه. وقال ابن
عباس: « ويخرون
للأذقان سجدا » أي
للوجوه، وإنما خص الأذقان بالذكر لأن الذقن أقرب شيء من وجه الإنسان. قال ابن خويز
منداد: ولا يجوز السجود على الذقن؛ لأن الذقن ها هنا عبارة عن الوجه، وقد يعبر
بالشيء عما جاوره وببعضه عن جميعه؛ فيقال: خر لوجهه ساجدا وإن كان لم يسجد على خده
ولا عينه. ألا ترى إلى قوله:
فخر صريعا
لليدين وللفم
فإنما
أراد: خر صريعا على وجهه ويديه.
قوله
تعالى: « يبكون » فيه دليل على جواز البكاء في
الصلاة من خوف الله تعالي، أو على معصيته في دين الله، وأن ذلك لا يقطعها ولا
يضرها. ذكر ابن المبارك عن حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن مطرف بن عبدالله بن
الشخير عن أبيه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ولجوفه أزيز كأزيز
المرجل من البكاء. وفي كتاب أبي داود: وفي صدره أزيز كأزيز الرحى من البكاء.
واختلف
الفقهاء في الأنين؛ فقال مالك: الأنين لا يقطع الصلاة للمريض، وأكرهه للصحيح؛ وبه
قال الثوري. وروى ابن الحكم عن مالك: التنحنح والأنين والنفخ لا يقطع الصلاة. وقال
ابن القاسم: يقطع. وقال الشافعي: إن كان له حروف تسمع وتفهم يقطع الصلاة. وقال أبو
حنيفة: إن كان من خوف الله لم يقطع، وإن كان من وجع قطع. وروي عن أبي يوسف أن
صلاته في ذلك كله تامة؛ لأنه لا يخلو مريض ولا ضعيف من أنين. « ويزيدهم خشوعا » تقدم.
الآية:
110 ( قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن
أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك
سبيلا )
قوله
تعالى: « قل ادعوا
الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى » سبب نزول هذه الآية أن المشركين
سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوا ( يا الله يا رحمن ) فقالوا: كان محمد يأمرنا بدعاء إله واحد وهو يدعو إلهين؛
قاله ابن عباس. وقال مكحول: تهجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فقال في
دعائه: ( يا رحمن
يا رحيم ) فسمعه
رجل من المشركين، وكان باليمامة رجل يسمى الرحمن، فقال ذلك السامع: ما بال محمد
يدعو رحمان اليمامة. فنزلت الآية مبينة أنهما اسمان لمسمى واحد؛ فإن دعوتموه بالله
فهو ذاك، وإن دعوتموه بالرحمن فهو ذاك. وقيل: كانوا يكتبون في صدر الكتب: باسمك
اللهم؛ فنزلت « إنه من
سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم » [
النمل: 30 ] فكتب
رسول الله صلى الله عليه وسلم « بسم الله
الرحمن الرحيم » فقال
المشركون: هذا الرحيم نعرفه فما الرحمن؛ فنزلت الآية. وقيل: إن اليهود قالت: ما
لنا لا نسمع في القرآن اسما هو في التوراة كثير؛ يعنون الرحمن؛ فنزلت الآية. وقرأ
طلحة بن مصرف « أيا ما
تدعو فله الأسماء الحسنى » أي التي
تقتضي أفضل الأوصاف وأشرف المعاني. وحسن الأسماء إنما يتوجه بتحسين الشرع؛
لإطلاقها والنص عليها. وانضاف إلى ذلك أنها تقتضي معاني حسانا شريفة، وهي بتوقيف
لا يصح وضع اسم لله ينظر إلا بتوقيف من القرآن أو الحديث أو الإجماع. حسبما بيناه
في ( الكتاب
الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى ) .
قوله
تعالى: « ولا تجهر
بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا » اختلفوا في سبب نزولها على خمسة أقوال: الأول: ما روى ابن
عباس في قوله تعالى: « ولا تجهر
بصلاتك ولا تخافت بها » قال: نزلت
ورسول الله صلى الله عليه وسلم متوار بمكة، وكان إذا صلى بأصحابه رفع صوته
بالقرآن، فإذا سمع ذلك المشركون سبوا القرآن ومن أنزله ومن جاء به؛ فقال الله
تعالى « ولا تجهر
بصلاتك » فيسمع
المشركون قراءتك. « ولا
تخافت بها » عن
أصحابك. أسمعهم القرآن ولا تجهر ذلك الجهر. « وابتغ بين ذلك سبيلا » قال: يقول بين الجهر والمخافتة؛ أخرجه البخاري ومسلم والترمذي
وغيرهم. واللفظ لمسلم. والمخافتة: خفض الصوت والسكون؛ يقال للميت إذا برد: خفت.
قال الشاعر:
لم يبق إلا
نفس خافت ومقلة إنسانها باهت
رثى لها
الشامت مما بها يا ويح من يرثى له الشامت
الثاني: ما
رواه مسلم أيضا عن عائشة في قوله عز وجل: « ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها » قالت: أنزل هذا في الدعاء.
الثالث: قال ابن سيرين: كان الأعراب يجهرون بتشهدهم فنزلت الآية في ذلك.
قلت: وعلى
هذا فتكون الآية متضمنة لإخفاء التشهد، وقد قال ابن مسعود: من السنة أن تخفي
التشهد؛ ذكره ابن المنذر. الرابع: ما روي عن ابن سيرين أيضا أن أبا بكر رضي الله
عنه كان يِسُر قراءته، وكان عمر يجهر بها، فقيل لهما في ذلك؛ فقال أبو بكر: إنما
أناجي ربي، وهو يعلم حاجتي. إليه. وقال عمر: أنا أطرد الشيطان وأوقظ الوسنان؛ فلما
نزلت هذه الآية قيل لأبي بكر: ارفع قليلا، وقيل لعمر اخفض أنت قليلا؛ ذكره الطبري
وغيره. [
الخامس ] ما روي
عن ابن عباس أيضا أن معناها ولا تجهر بصلاة النهار، ولا تخافت بصلاة الليل؛ ذكره
يحيى بن سلام والزهراوي. فتضمنت أحكام الجهر والإسرار بالقراءة في النوافل
والفرائض، فأما النوافل فالمصلي مخير في الجهر والسر في الليل والنهار، وكذلك روي
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يفعل الأمرين جميعا. وأما الفرائض فحكمها في
القراءة معلوم ليلا ونهارا. [ وقول
سادس ] قال
الحسن: يقول الله لا ترائي بصلاتك تحسنها في العلانية ولا تسيئها في السر. وقال
ابن عباس: لا تصل مرائيا للناس ولا تدعها مخافة الناس.
عبر تعالى
بالصلاة هنا عن القراءة كما عبر بالقراءة عن الصلاة في قوله: « وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان
مشهودا » [ الإسراء: 78 ] لأن كل واحد منهما مرتبط
بالآخر؛ لأن الصلاة تشتمل على قراءة وركوع وسجود فهي من جملة أجزائها؛ فعبر بالجزء
عن الجملة وبالجملة عن الجزء على عادة العرب في المجاز وهو كثير؛ ومنه الحديث
الصحيح: ( قسمت
الصلاة بيني وبين عبدي ) أي قراءة
الفاتحة على ما تقدم.
الآية:
111 ( وقل الحمد لله الذي لم يتخذ
ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا )
قوله
تعالى: « وقل
الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا » هذه الآية
رادة على اليهود والنصارى والعرب في قولهم أفذاذا: عزيز وعيسى والملائكة ذرية الله
سبحانه؛ تعالى الله عن أقوالهم. « ولم يكن
له شريك في الملك » لأنه واحد
لا شريك له في ملكه ولا في عبادته. « ولم يكن له ولي من الذل » قال مجاهد: المعنى لم يحالف أحدا ولا ابتغى نصر أحد؛ أي لم
يكن له ناصر يجيره من الذل فيكون مدافعا. وقال الكلبي: لم يكن له ولي من اليهود
والنصارى؛ لأنهم أذل الناس، ردا لقولهم: نحن أبناء الله وأحباؤه. وقال الحسن بن
الفضل: « ولم يكن
له ولي من الذل » يعني لم
يذل فيحتاج إلى ولي ولا ناصر لعزته وكبريائه. « وكبره تكبيرا » أي عظمه عظمة تامة. ويقال: أبلغ لفظة للعرب في معنى التعظيم
والإجلال: الله أكبر؛ أي صفة بأنه أكبر من كل شيء. قال الشاعر:
رأيت الله
أكبر كل شيء محاولة وأكثرهم جنودا
وكان النبي
صلى الله عليه وسلم إذا دخل في الصلاة قال: ( الله أكبر ) وقد تقدم
أول الكتاب. وقال عمر بن الخطاب. قولُ العبدِ « الله أكبر » خير من
الدنيا وما فيها. وهذا الآية هي خاتمة التوراة. روى مطرف عن عبدالله بن كعب قال:
افتتحت التوراة بفاتحة سورة الأنعام وختمت بخاتمة هذه السورة. وفي الخبر أنها آية
العز؛ رواه معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم. وروى عمرو بن شعيب عن أبيه
عن جده قال كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أفصح الغلام من بني عبدالمطلب علمه « وقل الحمد لله الذي » الآية. وقال عبدالحميد. بن واصل:
سمعت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من قرأ وقل الحمد لله الآية كتب الله له من الأجر مثل الأرض
والجبل لأن الله تعالى يقول فيمن زعم أن له ولدا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق
الأرض وتخر الجبال هدا ) . وجاء
في الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر رجل شكا إليه الدين بأن يقرأ « قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن
» [ الإسراء: 110 ] - إلى آخر السورة ثم يقول:
توكلت على الحي الذي لا يموت؛ ثلاث مرات.
تمت سورة الإسراء،
والحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.