سورة
النساء
وهي
مدنية إلا آية واحدة نزلت بمكة عام الفتح في عثمان بن طلحة الحجبي وهي قوله: « إن الله يأمركم أن تؤدوا
الأمانات إلى أهلها » [ النساء: 58 ] على ما يأتي بيانه. قال
النقاش: وقيل: نزلت عند هجرة النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة. وقد قال
بعض الناس: إن قوله تعالى: « يا
أيها الناس » حيث وقع
إنما هو مكي؛ وقاله علقمة وغيره، فيشبه أن يكون صدر السورة مكيا، وما نزل بعد
الهجرة فإنما هو مدني. وقال النحاس: هذه السورة مكية.
قلت:
والصحيح الأول، فإن في صحيح البخاري عن عائشة أنها قالت: ما نزلت سورة النساء إلا
وأنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ تعني قد بنى بها. ولا خلاف بين العلماء أن
النبي صلى الله عليه وسلم إنما بنى بعائشة بالمدينة. ومن تبين أحكامها علم أنها
مدنية لا شك فيها. وأما من قال: إن قوله. « يا أيها الناس » مكي حيث وقع فليس بصحيح؛ فإن البقرة مدنية وفيها قوله: « يا أيها الناس » في موضعين، وقد تقدم. والله
أعلم
الآية:
1 ( يا أيها الناس اتقوا ربكم
الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله
الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا )
قوله
تعالى: « يا
أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم » قد مضى في « البقرة
» اشتقاق « الناس » ومعنى التقوى والرب والخلق
والزوج والبث، فلا معنى للإعادة. وفي الآية تنبيه على الصانع. وقال « واحدة » على تأنيث لفظ النفس. ولفظ
النفس يؤنث وإن عني به مذكر. ويجوز في الكلام « من نفس واحد » وهذا على مراعاة المعنى؛ إذ المراد بالنفس آدم عليه السلام؛
قاله مجاهد وقتادة. وهي قراءة ابن أبي عبلة « واحد » بغير
هاء. « وبث » معناه فرق ونشر في الأرض؛ ومنه
« وزرابي
مبثوثة » [ الغاشية: 16 ] وقد تقدم في « البقرة » . و « منهما » يعني آدم وحواء. قال مجاهد:
خلقت حواء من مقصيرى آدم. وفي الحديث: ( خلقت المرأة من ضلع عوجاء ) ، وقد مضى في البقرة. « رجالا كثيرا ونساء » حصر ذريتهما في نوعين؛ فاقتضى أن الخنثى ليس بنوع، لكن له
حقيقة ترده إلى هذين النوعين وهي الآدمية فيلحق بأحدهما، على ما تقدم ذكره في « البقرة » من اعتبار نقص الأعضاء
وزيادتها.
قوله
تعالى: « واتقوا
الله الذي تساءلون به والأرحام » كرر
الاتقاء تأكيدا وتنبيها لنفوس المأمورين. و « الذي » في موضع
نصب على النعت. «
والأرحام » معطوف.
أي اتقوا الله أن تعصوه، واتقوا الأرحام أن تقطعوها. وقرأ أهل المدينة « تسّاءلون » بإدغام التاء في السين. وأهل
الكوفة بحذف التاء، لاجتماع تاءين، وتخفيف السين؛ لأن المعنى يعرف؛ وهو كقوله: « ولا تعاونوا على الإثم » [ المائدة: 2 ] و « تنزل » وشبهه. وقرأ إبراهيم النخعي
وقتادة والأعمش وحمزة «
الأرحام » بالخفض.
وقد تكلم النحويون في ذلك. فأما البصريون فقال رؤساؤهم: هو لحن لا تحل القراءة به.
وأما الكوفيون فقالوا: هو قبيح؛ ولم يزيدوا على هذا ولم يذكروا علة قبحه؛ قال
النحاس: فيما علمت.
وقال
سيبويه: لم يعطف على المضمر المخفوض؛ لأنه بمنزلة التنوين، والتنوين لا يعطف عليه.
وقال جماعة: هو معطوف على المكني؛ فإنهم كانوا يتساءلون بها، يقول الرجل: سألتك
بالله والرحم؛ هكذا فسره الحسن والنخعي ومجاهد، وهو الصحيح في المسألة، على ما
يأتي. وضعفه أقوام منهم الزجاج، وقالوا: يقبح عطف الاسم الظاهر على المضمر في
الخفض إلا بإظهار الخافض؛ كقوله « فخسفنا
به وبداره الأرض » [ القصص: 81 ] ويقبح « مررت به وزيد » . قال الزجاج عن المازني: لأن
المعطوف والمعطوف عليه شريكان. يحل كل واحد منهما محل صاحبه؛ فكما لا يجوز « مررت بزيد وك » كذلك لا يجوز « مررت بك وزيد » . وأما سيبويه فهي عنده قبيحة
ولا تجوز إلا في الشعر؛ كما قال:
فاليوم
قربت تهجونا وتشتمنا فاذهب فما بك والأيام من عجب
عطف « الأيام » على الكاف في « بك » بغير الباء للضرورة. وكذلك قول
الآخر:
نعلق في
مثل السواري سيوفنا وما بينها والكعب مهوى نفانف
عطف « الكعب » على الضمير في « بينها » ضرورة. وقال أبو علي: ذلك ضعيف
في القياس. وفي كتاب التذكرة المهدية عن الفارسي أن أبا العباس المبرد قال: لو
صليت خلف إمام يقرأ « ما
أنتم بمصرخي » [ إبراهيم: 22 ] و « اتقوا الله الذي تساءلون به
والأرحام » لأخذت
نعلي ومضيت. قال الزجاج: قراءة حمزة مع ضعفها وقبحها في العربية خطأ عظيم في أصول
أمر الدين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تحلفوا بآبائكم ) فإذا لم يجز الحلف بغير الله فكيف يجوز بالرحم. ورأيت
إسماعيل بن إسحاق يذهب إلى أن الحلف بغير الله أمر عظيم، وإنه خاص لله تعالى. قال
النحاس: وقول بعضهم «
والأرحام » قسم خطأ
من المعنى والإعراب؛ لأن الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم يدل على النصب. وروى
شعبة عن عون بن أبي جحيفة عن المنذر بن جرير عن أبيه قال: كنا عند النبي صلى الله
عليه وسلم حتى جاء قوم من مضر حفاة عراة، فرأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم
يتغير لما رأى من فاقتهم؛ ثم صلى الظهر وخطب الناس فقال: ( يا أيها الناس اتقوا ربكم،
إلى: والأرحام ) ؛ ثم
قال: ( تصدق
رجل بديناره تصدق رجل بدرهمه تصدق رجل بصاع تمره... ) وذكر الحديث. فمعنى هذا على
النصب؛ لأنه حضهم على صلة أرحامهم. وأيضا فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم ( من كان حالفا فليحلف بالله
أو ليصمت ) . فهذا
يرد قول من قال: المعنى أسألك بالله وبالرحم. وقد قال أبو إسحاق: معنى « تساءلون به » يعني تطلبون حقوقكم به. ولا
معنى للخفض أيضا مع هذا.
قلت: هذا
ما وقفت عليه من القول. لعلماء اللسان في منع قراءة « والأرحام » بالخفض، واختاره ابن عطية.
ورده الإمام أبو نصر عبدالرحيم بن عبدالكريم القشيري، واختار العطف فقال: ومثل هذا
الكلام مردود عند أئمة الدين؛ لأن القراءات التي قرأ بها أئمة القراء ثبتت عن
النبي صلى الله عليه وسلم تواترا يعرفه أهل الصنعة، وإذا ثبت شيء عن النبي صلى
الله عليه وسلم فمن رد ذلك فقد رد على النبي صلى الله عليه وسلم، واستقبح ما قرأ
به، وهذا مقام محذور، ولا يقلد فيه أئمة اللغة والنحو؛ فإن العربية تتلقى من النبي
صلى الله عليه وسلم، ولا يشك أحد في فصاحته. وأما ما ذكر من الحديث ففيه نظر؛ لأنه
عليه السلام قال لأبي العشراء: ( وأبيك
لو طعنت في خاصرته ) . ثم
النهي إنما جاء في الحلف بغير الله، وهذا توسل إلى الغير بحق الرحم فلا نهي فيه.
قال القشيري: وقد قيل هذا إقسام بالرحم، أي اتقوا الله وحق الرحم؛ كما تقول: افعل
كذا وحق أبيك. وقد جاء في التنزيل: « والنجم » ،
والطور، والتين، لعمرك « وهذا
تكلف »
وقلت: لا
تكلف فيه فإنه لا يبعد أن يكون «
والأرحام » من هذا
القبيل، فيكون أقسم بها كما أقسم بمخلوقاته الدالة على وحدانيته وقدرته تأكيدا لها
حتى قرنها بنفسه. والله أعلم. ولله أن يقسم بما شاء ويمنع ما شاء ويبيح ما شاء،
فلا يبعد أن يكون قسما. والعرب تقسم بالرحم. ويصح أن تكون الباء مرادة فحذفها كما
حذفها في قوله:
مشائيم
ليسوا مصلحين عشيرة ولا ناعب إلا ببين غرابها
فجر وإن
لم يتقدم باء. قال ابن الدهان أبو محمد سعيد بن مبارك: والكوفي يجيز عطف الظاهر
على المجرور ولا يمنع منه. ومنه قوله:
آبك أيه
بي أو مصدر من حمر الجلة جأب حشور
ومنه:
فاذهب
فما بك والأيام من عجب
وقول
الآخر:
وما
بينها والكعب غوط نفانف
ومنه:
فحسبك
والضحاك سيف مهند
وقول
الآخر:
وقد رام
آفاق السماء فلم يجد له مصعدا فيها ولا الأرض مقعدا
وقول
الآخر:
ما إن
بها والأمور من تلف ما حم من أمر غيبه وقعا
وقول
الآخر:
أمر على
الكتيبة لست أدري أحتفي كان فيها أم سواها
فـ « سواها » مجرور الموضع بفي. وعلى هذا
حمل بعضهم قوله تعالى: « وجعلنا
لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين » [
الحجر: 20 ] فعطف
على الكاف والميم. وقرأ عبدالله بن يزيد « والأرحام » بالرفع
على الابتداء، والخبر مقدر، تقديره: والأرحام أهل أن توصل. ويحتمل أن يكون إغراء؛
لأن من العرب من يرفع المغرى. وأنشد الفراء:
إن قوما
منهم عمير وأشباه عمير ومنهم السفاح
لجديرون
باللقاء إذا قال أخو النجدة السلاح السلاح
وقد قيل:
إن «
والأرحام » بالنصب
عطف على موضع به؛ لأن موضعه نصب، ومنه قوله:
فلسنا
بالجبال ولا الحديدا
وكانوا
يقولون: أنشدك بالله والرحم. والأظهر أنه نصب بإضمار فعل كما ذكرنا.
اتفقت
الملة على أن صلة الرحم واجبة وأن قطيعتها محرمة. وقد صح أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال لأسماء وقد سألته أأصل أمي ( نعم صلي أمك ) فأمرها بصلتها وهي كافرة. فلتأكيدها دخل الفضل في صلة
الكافر، حتى انتهى الحال بأبي حنيفة وأصحابه فقالوا بتوارث ذوي الأرحام إن لم يكن
عصبة ولا فرض مسمى، ويعتقون على من اشتراهم من ذوي رحمهم لحرمة الرحم؛ وعضدوا ذلك بما
رواه أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من ملك ذا رحم محرم فهو حر ) . وهو قول أكثر أهل العلم.
روي ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعبدالله بن مسعود، ولا يعرف لهما مخالف من
الصحابة. وهو قول الحسن البصري وجابر بن زيد وعطاء والشعبي والزهري، وإليه ذهب
الثوري وأحمد وإسحاق. ولعلمائنا في ذلك ثلاثة أقوال: الأول - أنه مخصوص بالآباء
والأجداد. الثاني - الجناحان يعني الإخوة. الثالث - كقول أبي حنيفة. وقال الشافعي:
لا يعتق عليه إلا أولاده وآباؤه وأمهاته، ولا يعتق عليه إخوته ولا أحد من ذوي
قرابته ولحمته. والصحيح الأول للحديث الذي ذكرناه وأخرجه الترمذي والنسائي. وأحسن
طرقه رواية النسائي له؛ رواه من حديث ضمرة عن سفيان عن عبدالله بن دينار عن ابن
عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من ملك ذا رحم محرم فقد عتق عليه ) . وهو حديث ثابت بنقل العدل
عن العدل ولم يقدح فيه أحد من الأئمة بعلة توجب تركه؛ غير أن النسائي قال في آخره:
هذا حديث منكر. وقال غيره: تفرد به ضمرة. وهذا هو معنى المنكر والشاذ في اصطلاح
المحدثين. وضمرة عدل ثقة، وانفراد الثقة بالحديث لا يضره. والله أعلم.
واختلفوا
من هذا الباب في ذوي المحارم من الرضاعة. فقال أكثر أهل العلم لا يدخلون في مقتضى
الحديث. وقال شريك القاضي بعتقهم. وذهب أهل الظاهر وبعض المتكلمين إلى أن الأب لا
يعتق على الابن إذا ملكه؛ واحتجوا بقوله عليه السلام: ( لا يجزي ولد والدا إلا أن
يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه ) .
قالوا: فإذا صح الشراء فقد ثبت الملك، ولصاحب الملك التصرف. وهذا جهل منهم بمقاصد
الشرع؛ فإن الله تعالى يقول: «
وبالوالدين إحسانا » [ الإسراء: 23 ] فقد قرن بين عبادته وبين
الإحسان للوالدين في الوجوب، وليس من الإحسان أن يبقى والده في ملكه وتحت سلطانه؛
فإذا يجب عليه عتقه إما لأجل الملك عملا بالحديث ( فيشتريه فيعتقه ) ، أو لأجل الإحسان عملا بالآية. ومعنى الحديث عند الجمهور
أن الولد لما تسبب إلى عتق أبيه باشترائه نسب الشرع العتق إليه نسبة الإيقاع منه.
وأما اختلاف العلماء فيمن يعتق بالملك، فوجه القول الأول ما ذكرناه من معنى الكتاب
والسنة، ووجه الثاني إلحاق القرابة القريبة المحرمة بالأب المذكور في الحديث، ولا
أقرب للرجل من ابنه فيحمل على الأب، والأخ يقاربه في ذلك لأنه يدلي بالأبوة؛ فإنه
يقول: أنا ابن أبيه. وأما القول الثالث فمتعلقه حديث ضمرة وقد ذكرناه. والله أعلم.
قوله
تعالى: « والأرحام
» الرحم
اسم لكافة الأقارب من غير فرق بين المحرم وغيره. وأبو حنيفة يعتبر الرحم المحرم في
منع الرجوع في الهبة، ويجوز الرجوع في حق بني الأعمام مع أن القطيعة موجودة
والقرابة حاصلة؛ ولذلك تعلق بها الإرث والولاية وغيرهما من الأحكام. فاعتبار
المحرم زيادة على نص الكتاب من غير مستند. وهم يرون ذلك نسخا، سيما وفيه إشارة إلى
التعليل بالقطيعة، وقد جوزوها في حق بني الأعمام وبني الأخوال والخالات. والله
أعلم.
قوله
تعالى: « إن
الله كان عليكم رقيبا » ( أي حفيظا ) ؛ عن ابن عباس ومجاهد. ابن
زيد: عليما. وقيل: « رقيبا
» حافظا؛
قيل: بمعنى فاعل. فالرقيب من صفات الله تعالى، والرقيب: الحافظ والمنتظر؛ تقول
رقبت أرقب رقبة ورقبانا إذا انتظرت. والمرقب: المكان العالي المشرف، يقف عليه
الرقيب. والرقيب: السهم الثالث من السبعة التي لها أنصباء. ويقال: إن الرقيب ضرب
من الحيات، فهو لفظ مشترك. والله أعلم.
الآية:
2 ( وآتوا اليتامى أموالهم ولا
تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا )
قوله
تعالى: « وآتوا
اليتامى أموالهم » وأراد
باليتامى الذين كانوا أيتاما؛ كقوله: « وألقي السحرة ساجدين » [
الأعراف: 120 ] ولا سحر
مع السجود، فكذلك لا يتم مع البلوغ. وكان يقال للنبي صلى الله عليه وسلم: « يتيم أبي طالب » استصحابا لما كان. « وآتوا » أي أعطوا. والإيتاء الإعطاء.
ولفلان أتو، أي عطاء. أبو زيد: أتوت الرجل آتوه إتاوة، وهي الرشوة. واليتيم من لم
يبلغ الحلم، وقد تقدم في « البقرة
» مستوفى.
وهذه الآية خطاب للأولياء والأوصياء. نزلت - في قول مقاتل والكلبي - في رجل من
غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم، فلما بلغ اليتيم طلب المال فمنعه عمه؛
فنزلت، فقال العم: نعوذ بالله من الحوب الكبير! ورد المال. فقال النبي صلى الله
عليه وسلم: ( من
يوق شح نفسه ورجع به هكذا فإنه يحل داره ) يعني جنته. فلما قبض الفتى المال أنفقه في سبيل الله، فقال
عليه السلام: ( ثبت
الأجر وبقي الوزر ) .
فقيل: كيف يا رسول الله؟ فقال: ( ثبت
الأجر للغلام وبقي الوزر على والده ) لأنه كان مشركا.
وإيتاء
اليتامى أموالهم يكون بوجهين: أحدهما - إجراء الطعام والكسوة ما دامت الولاية؛ إذ
لا يمكن إلا ذلك لمن لا يستحق الأخذ الكلى والاستبداد كالصغير والسفيه الكبير.
الثاني - الإيتاء بالتمكن وإسلام المال إليه، وذلك عند الابتلاء والإرشاد، وتكون
تسميته مجازا، المعنى: الذي كان يتيما، وهو استصحاب الاسم؛ كقوله تعالى: « وألقي السحرة ساجدين » [ الأعراف: 120 ] أي الذين كانوا سحرة. وكان
يقال للنبي صلى الله عليه وسلم: « يتيم
أبي طالب » . فإذا
تحقق الولي رشده حرم عليه إمساك ماله عنه وكان عاصيا. وقال أبو حنيفة: إذا بلغ
خمسا وعشرين سنة أعطي ماله كله على كل حال، لأنه يصير جدا.
قلت: لما
لم يذكر الله تعالى في هذه الآية إيناس الرشد وذكره في قوله تعالى: « وابتلوا اليتامى حتى إذا
بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم » [ النساء: 6 ] . قال أبو بكر الرازي الحنفي
في أحكام القرآن: لما لم يقيد الرشد في موضع وقيد في موضع وجب استعمالهما، فأقول:
إذا بلغ خمسا وعشرين سنة وهو سفيه لم يؤنس منه الرشد، وجب دفع المال إليه، وإن كان
دون ذلك لم يجب، عملا بالآيتين. وقال أبو حنيفة: لما بلغ رشده صار يصلح أن يكون
جدا فإذا صار يصلح أن يكون جدا فكيف يصح إعطاؤه المال بعلة اليتم وباسم اليتيم؟!
وهل ذلك إلا في غاية البعد؟. قال ابن العربي: وهذا باطل لا وجه له؛ لا سيما على
أصله الذي يرى المقدرات لا تثبت قياسا وإنما تؤخذ من جهة النص، وليس في هذه
المسألة. وسيأتي ما للعلماء في الحجر إن شاء الله تعالى.
قوله
تعالى: « ولا تتبدلوا
الخبيث بالطيب » أي لا
تتبدلوا الشاة السمينة من مال اليتيم بالهزيلة، ولا الدرهم الطيب بالزيف. وكانوا
في الجاهلية لعدم الدين لا يتحرجون عن أموال اليتامى، فكانوا يأخذون الطيب والجيد
من أموال اليتامى ويبدلونه بالرديء من أموالهم؛ ويقولون: اسم باسم ورأس برأس؛
فنهاهم الله عن ذلك. هذا قول سعيد بن المسيب والزهري والسدي والضحاك وهو ظاهر
الآية. وقيل: المعنى لا تأكلوا أموال اليتامى وهي محرمة خبيثة وتدعوا الطيب وهو
مالكم. وقال مجاهد وأبو صالح وباذان: لا تتعجلوا أكل الخبيث من أموالهم وتدعوا
انتظار الرزق الحلال من عند الله. وقال ابن زيد: كان أهل الجاهلية لا يورثون
النساء والصبيان ويأخذ الأكبر الميراث. عطاء: لا تربح على يتيمك الذي عندك وهو غر
صغير. وهذان القولان خارجان عن ظاهر الآية؛ فإنه يقال: تبدل الشيء بالشيء أي أخذه
مكانه. ومنه البدل.
قوله
تعالى: « ولا
تأكلوا أموالهم إلى أموالكم » قال
مجاهد: وهذه الآية ناهية عن الخلط في الإنفاق؛ فإن العرب كانت تخلط نفقتها بنفقة
أيتامها فنهوا عن ذلك، ثم نسخ بقوله « وإن تخالطوهم فإخوانكم » [
البقرة: 220 ] . وقال
ابن فورك عن الحسن: تأول الناس في هذه الآية النهي عن الخلط فاجتنبوه من قبل
أنفسهم، فخفف عنهم في آية البقرة. وقالت طائفة من المتأخرين: إن « إلى » بمعنى مع، كقوله تعالى: « من أنصاري إلى الله » [ الصف: 14 ] . وأنشد القتبي:
يسدون
أبواب القباب بضمر إلى عنن مستوثقات الأواصر
وليس
بجيد. وقال الحذاق: « إلى » على بابها وهي تتضمن الإضافة،
أي لا تضيفوا أموالهم وتضموها إلى أموالكم في الأكل. فنهوا أن يعتقدوا أموال
اليتامى كأموالهم فيتسلطوا عليها بالأكل والانتفاع.
قوله
تعالى: « إنه
كان حوبا كبيرا » « إنه » أي الأكل « كان حوبا كبيرا » ( أي إثما كبيرا ) ؛ عن ابن عباس والحسن
وغيرهما. يقال: حاب الرجل يحوب حوبا إذا أثم. وأصله الزجر للإبل؛ فسمي الإثم حوبا؛
لأنه يزجر عنه وبه. ويقال في الدعاء: اللهم اغفر حوبتي؛ أي إثمي. والحوبة أيضا
الحاجة. ومنه في الدعاء: إليك أرفع حوبتي؛ أي حاجتي. والحوب الوحشة؛ ومنه قوله
عليه السلام لأبي أيوب: ( إن
طلاق أم أيوب لحوب ) . وفيه
ثلاث لغات « حوبا » بضم الحاء وهي قراءة العامة
ولغة أهل الحجاز. وقرأ الحسن « حوبا » بفتح الحاء. وقال الأخفش: وهي
لغة تميم. مقاتل: لغة الحبش.
والحوب
المصدر، وكذلك الحيابة. والحوب الاسم. وقرأ أبي بن كعب « حابا » على المصدر مثل القال. ويجوز
أن يكون اسما مثل الزاد. والحوأب ( بهمزة بعد الواو ) . المكان الواسع. والحوأب ماء أيضا. ويقال: ألحق الله به
الحوبة أي المسكنة والحاجة؛ ومنه قولهم: بات بحيبة سوء. وأصل الياء الواو. وتحوب
فلان أي تعبد وألقى الحوب عن نفسه. والتحوب أيضا التحزن. وهو أيضا الصياح الشديد؛
كالزجر، وفلان يتحوب من كذا أي يتوجع وقال طفيل:
فذوقوا
كما ذقنا غداة محجر من الغيظ في أكبادنا والتحوب
الآية:
3 ( وإن خفتم ألا تقسطوا في
اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا
فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا )
قوله
تعالى: « وإن
خفتم » شرط،
وجوابه «
فانكحوا » . أي إن
خفتم ألا تعدلوا في مهورهن وفي النفقة عليهن « فانكحوا ما طاب لكم » أي غيرهن. وروى الأئمة واللفظ لمسلم عن عروة بن الزبير عن
عائشة في قول الله تعالى: « وإن
خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع » قالت: يا ابن أختي هي اليتيمة
تكون في حجر وليها تشاركه في ماله فيعجبه مالها وجمالها فيريد وليها أن يتزوجها من
غير أن يقسط في صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره، فنهوا أن ينكحوهن إلا أن
يقسطوا لهن ويبلغوا بهن أعلى سنتهن من الصداق وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من
النساء سواهن. وذكر الحديث. وقال ابن خويز منداد: ولهذا قلنا إنه يجوز أن يشتري
الوصي من مال اليتيم لنفسه، ويبيع من نفسه من غير محاباة. وللموكل النظر فيما
اشترى وكيله لنفسه أو باع منها. وللسلطان النظر فيما يفعله الوصي من ذلك. فأما
الأب فليس لأحد عليه نظر ما لم تظهر عليه المحاباة فيعترض عليه السلطان حينئذ؛ وقد
مضى في « البقرة
» القول
في هذا. وقال الضحاك والحسن وغيرهما: إن الآية ناسخة لما كان في الجاهلية وفي أول
الإسلام؛ من أن للرجل أن يتزوج من الحرائر ما شاء، فقصرتهن الآية على أربع. وقال
ابن عباس وابن جبير وغيرهما: (
المعنى وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فكذلك خافوا في النساء ) ؛ لأنهم كانوا يتحرجون في
اليتامى ولا يتحرجون في النساء و « خفتم » من الأضداد؛ فإنه يكون المخوف
منه معلوم الوقوع، وقد يكون مظنونا؛ فلذلك اختلف العلماء في تفسير هذا الخوف. فقال
أبو عبيدة: « خفتم » بمعنى أيقنتم. وقال آخرون: « خفتم » ظننتم. قال ابن عطية: وهذا
الذي اختاره الحذاق، وأنه على بابه من الظن لا من اليقين. التقدير من غلب على ظنه
التقصير في القسط لليتيمة فليعدل عنها. و « تقسطوا » معناه
تعدلوا. يقال: أقسط الرجل إذا عدل. وقسط إذا جار وظلم صاحبه. قال الله تعالى: « وأما القاسطون فكانوا لجهنم
حطبا » [ الجن: 15 ] يعني الجائرون. وقال عليه
السلام: (
المقسطون في الدين على منابر من نور يوم القيامة ) يعني العادلين. وقرأ ابن وثاب والنخعي « تقسطوا » بفتح التاء من قسط على تقدير
زيادة « لا » كأنه قال: وإن خفتم أن تجوروا.
قوله
تعالى: «
فانكحوا ما طاب لكم من النساء » إن قيل:
كيف جاءت « ما » للآدميين وإنما أصلها لما لا
يعقل؛ فعنه أجوبة خمسة: الأول - أن « من » و « ما » قد يتعاقبان؛ قال الله تعالى: « والسماء وما بناها » [ الشمس: 5 ] أي ومن بناها. وقال « فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم
من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع » [
النور:45 ] . فما
ههنا لمن يعقل وهن النساء؛ لقوله بعد ذلك « من النساء » مبينا لمبهم. وقرأ ابن أبي عبلة « من طاب » على ذكر من يعقل. الثاني: قال
البصريون: « ما » تقع للنعوت كما تقع لما لا
يعقل يقال: ما عندك؟ فيقال: ظريف وكريم. فالمعنى فانكحوا الطيب من النساء؛ أي
الحلال، وما حرمه الله فليس بطيب. وفي التنزيل « وما رب العالمين » فأجابه موسى على وفق ما سأل؛ وسيأتي. الثالث: حكى بعض الناس
أن « ما » في هذه الآية ظرفية، أي ما
دمتم تستحسنون النكاح قال ابن عطية: وفي هذا المنزع ضعف. جواب رابع: قال الفراء « ما » ههنا مصدر. وقال النحاس: وهذا
بعيد جدا؛ لا يصح فانكحوا الطيبة. قال الجوهري: طاب الشيء يطيب طيبة وتطيابا. قال
علقمة:
كأن
تطيابها في الأنف مشموم
جواب
خامس: وهو أن المراد بما هنا العقد؛ أي فانكحوا نكاحا طيبا. وقراءة ابن أبي عبلة
ترد هذه الأقوال الثلاثة. وحكى أبو عمرو بن العلاء أن أهل مكة إذا سمعوا الرعد
قالوا: سبحان ما سبح له الرعد. أي سبحان من سبح له الرعد. ومثله قولهم: سبحان ما
سخركن لنا. أي من سخركن. واتفق كل من يعاني العلوم على أن قوله تعالى: « وإن خفتم ألا تقسطوا في
اليتامى » ليس له
مفهوم؛ إذ قد أجمع المسلمون على أن من لم يخف القسط في اليتامى له أن ينكح أكثر من
واحدة: اثنتين أو ثلاثا أو أربعا كمن خاف. فدل على أن الآية نزلت جوابا لمن خاف
ذلك، وأن حكمها أعم من ذلك.
تعلق أبو
حنيفة بهذه الآية في تجويزه نكاح اليتيمة قبل البلوغ. وقال: إنما تكون يتيمة قبل
البلوغ، وبعد البلوغ هي امرأة مطلقة لا يتيمة؛ بدليل أنه لو أراد البالغة لما نهى
عن حطها عن صداق مثلها؛ لأنها تختار ذلك فيجوز إجماعا. وذهب مالك والشافعي
والجمهور من العلماء إلى أن ذلك لا يجوز حتى تبلغ وتستأمر؛ لقوله تعالى: « ويستفتونك في النساء » [ النساء: 127 ] والنساء اسم ينطلق على الكبار
كالرجال في الذكور، واسم الرجل لا يتناول الصغير؛ فكذلك اسم النساء، والمرأة لا يتناول
الصغيرة. وقد قال: « في
يتامى النساء » [ النساء: 127 ] والمراد به هناك اليتامى هنا؛
كما قالت عائشة رضي الله عنها. فقد دخلت اليتيمة الكبيرة في الآية فلا تزوج إلا
بإذنها، ولا تنكح الصغيرة إذ لا إذن لها، فإذا بلغت جاز نكاحها لكن لا تزوج إلا
بإذنها. كما رواه الدارقطني من حديث محمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر قال: زوجني
خالي قدامة بن مظعون بنت أخيه عثمان بن مظعون، فدخل المغيرة بن شعبة على أمها،
فأرغبها في المال وخطبها إليها، فرفع شأنها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال
قدامة: يا رسول الله ابنة أخي وأنا وصي أبيها ولم أقصر بها، زوجتها من قد علمت
فضله وقرابته. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إنها يتيمة واليتيمة أولى
بأمرها ) فنزعت
مني وزوجها المغيرة بن شعبة. قال الدارقطني: لم يسمعه محمد بن إسحاق من نافع،
وإنما سمعه من عمر بن حسين عنه. ورواه ابن أبي ذئب عن عمر بن حسين عن نافع عن
عبدالله بن عمر: أنه تزوج بنت خاله عثمان بن مظعون قال: فذهبت أمها إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقالت: إن ابنتي تكره ذلك. فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن
يفارقها ففارقها. وقال: ( ولا
تنكحوا اليتامى حتى تستأمروهن فإذا سكتن فهو إذنها ) . فتزوجها بعد عبدالله
المغيرة بن شعبة. فهذا يرد ما يقوله أبو حنيفة من أنها إذا بلغت لم تحتج إلى ولي،
بناء على أصله في عدم اشتراط الولي في صحة النكاح. وقد مضى في « البقرة » ذكره؛ فلا معنى لقولهم: إن هذا
الحديث محمول على غير البالغة لقوله ( إلا بإذنها ) فإنه كان لا يكون لذكر اليتيم معنى والله أعلم.
وفي
تفسير عائشة للآية من الفقه ما قال به مالك صداق المثل، والرد إليه فيما فسد من
الصداق ووقع الغبن في مقداره؛ لقولها: ( بأدنى من سنة صداقها ) . فوجب أن يكون صداق المثل معروفا لكل صنف من الناس على قدر
أحوالهم. وقد قال مالك: للناس مناكح عرفت لهم وعرفوا لها. أي صدقات وأكفاء. وسئل
مالك عن رجل زوج ابنته غنية من ابن أخ له فقير فاعترضت أمها فقال: إني لأرى لها في
ذلك متكلما. فسوغ لها في ذلك الكلام حتى يظهر هو من نظره ما يسقط اعتراض الأم
عليه. وروى « لا أرى
» بزيادة
الألف والأول أصح. وجائز لغير اليتيمة أن تنكح بأدنى من صداق مثلها؛ لأن الآية
إنما خرجت في اليتامى. هذا مفهومها وغير اليتيمة بخلافها.
فإذا
بلغت اليتيمة وأقسط الولي في صداقها جاز له أن يتزوجها، ويكون هو الناكح والمنكح
على ما فسرته عائشة. وبه قال أبو حنيفة والأوزاعي والثوري وأبو ثور، وقاله من
التابعين الحسن وربيعة، وهو قول الليث. وقال زفر والشافعي: لا يجوز له أن يتزوجها
إلا بإذن السلطان، أو يزوجها منه ولي لها هو أقعد بها منه؛ أو مثله في القعود؛
وأما أن يتولى طرفي العقد بنفسه فيكون ناكحا منكحا فلا. واحتجوا بأن الولاية شرط
من شروط العقد لقوله عليه السلام: ( لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل ) . فتعديد الناكح والمنكح
والشهود واجب؛ فإذا اتحد اثنان منهم سقط واحد من المذكورين. وفي المسألة قول ثالث،
وهو أن تجعل أمرها إلى رجل يزوجها منه. روي هذا عن المغيرة بن شعبة، وبه قال أحمد،
ذكره ابن المنذر.
قوله
تعالى: « ما طاب
لكم من النساء » معناه
ما حل لكم؛ عن الحسن وابن جبير وغيرهما. واكتفى بذكر من يجوز نكاحه؛ لأن المحرمات
من النساء كثير. وقرأ ابن إسحاق والجحدري وحمزة « طاب » « بالإمالة » وفي مصحف أبي « طيب » بالياء؛ فهذا دليل الإمالة. « من النساء » دليل على أنه لا يقال نساء إلا
لمن بلغ الحلم. وواحد النساء نسوة، ولا واحد لنسوة من لفظه، ولكن يقال امرأة.
قوله
تعالى: « مثنى
وثلاث ورباع » وموضعها
من الإعراب نصب على البدل من « ما » وهي نكرة لا تنصرف؛ لأنها
معدولة وصفة؛ كذا قال أبو علي. وقال الطبري: هي معارف؛ لأنها لا يدخلها الألف
واللام، وهي بمنزلة عمر في التعريف؛ قال الكوفي. وخطأ الزجاج هذا القول. وقيل: لم
ينصرف؛ لأنه معدول عن لفظه ومعناه، فأحاد معدول عن واحد واحد، ومثنى معدولة عن
اثنين اثنين، وثلاث معدولة عن ثلاثة ثلاثة، ورباع عن أربعة أربعة. وفي كل واحد
منها لغتان: فعال ومفعل؛ يقال أحاد وموحد وثناء ومثنى وثلاث ومثلث ورباع ومربع،
وكذلك إلى معشر وعشار. وحكى أبو إسحاق الثعلبي لغة ثالثة: أحد وثنى وثلث وربع مثل
عمر وزفر. وكذلك قرأ النخعي في هذه الآية. وحكى المهدوي عن النخعي وابن وثاب « ثلاث وربع » بغير ألف في ربع فهو مقصور من
رباع استخفافا؛ كما قال:
أقبل سيل
جاء من عند الله يحرد حرد الجنة المغلة
قال
الثعلبي: ولا يزاد من هذا البناء على الأربع إلا بيت جاء عن الكميت:
فلم
يستريثوك حتى رميـ ـت فوق الرجال خصالا عشارا
يعني طعنت
عشرة. وقال ابن الدهان: وبعضهم يقف على المسموع وهو من أحاد إلى رباع ولا يعتبر
بالبيت لشذوذه. وقال أبو عمرو بن الحاجب: ويقال أحاد وموحد وثناء ومثنى وثلاث
ومثلث ورباع ومربع. وهل يقال فيما عداه إلى التسعة أو لا يقال؟ فيه خلاف أصحها أنه
لم يثبت. وقد نص البخاري في صحيحه على ذلك. وكونه معدولا عن معناه أنه لا يستعمل
في موضع تستعمل فيه الأعداد غير المعدولة؛ تقول: جاءني اثنان وثلاثة، ولا يجوز
مثنى وثلاث حتى يتقدم قبله جمع، مثل جاءني القوم أحاد وثناء وثلاث ورباع من غير
تكرار. وهي في موضع الحال هنا وفي الآية، وتكون صفة؛ ومثال كون هذه الأعداد صفة
يتبين في قوله تعالى: « أولي
أجنحة مثنى وثلاث ورباع » [ فاطر: 1 ] فهي صفة للأجنحة وهي نكرة.
وقال ساعدة بن جؤية:
ولكنما
أهلي بواد أنيسه ذئاب تبغي الناس مثنى وموحد
وأنشد
الفراء:
قتلنا به
من بين مثنى وموحد بأربعة منكم وآخر خامس
فوصف
ذئابا وهي نكرة بمثنى وموحد، وكذلك بيت الفراء؛ أي قتلنا به ناسا، فلا تنصرف إذا
هذه الأسماء في معرفة ولا نكرة. وأجاز الكسائي والفراء صرفه في العدد على أنه
نكرة. وزعم الأخفش أنه إن سمى به صرفه في المعرفة والنكرة؛ لأنه قد زال عنه العدل.
اعلم أن
هذا العدد مثنى وثلاث ورباع لا يدل على إباحة تسع، كما قال من بعد فهمه للكتاب
والسنة، وأعرض عما كان عليه سلف هذه الأمة، وزعم أن الواو جامعة؛ وعضد ذلك بأن
النبي صلى الله عليه وسلم نكح تسعا، وجمع بينهن في عصمته. والذي صار إلى هذه
الجهالة، وقال هذه المقالة الرافضة وبعض أهل الظاهر؛ فجعلوا مثنى مثل اثنين، وكذلك
ثلاث ورباع. وذهب بعض أهل الظاهر أيضا إلى أقبح منها، فقالوا بإباحة الجمع بين
ثمان عشرة؛ تمسكا منه بأن العدل في تلك الصيغ يفيد التكرار والواو للجمع؛ فجعل
مثنى بمعنى اثنين اثنين وكذلك ثلاث ورباع. وهذا كله جهل باللسان والسنة، ومخالفة
لإجماع الأمة، إذ لم يسمع عن أحد من الصحابة ولا التابعين أنه جمع في عصمته أكثر
من أربع. وأخرج مالك في موطئه، والنسائي والدارقطني في سننهما أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال لغيلان بن أمية الثقفي وقد أسلم وتحته عشر نسوة: ( اختر منهن أربعا وفارق
سائرهن ) . في
كتاب أبي داود عن الحارث بن قيس قال: أسلمت وعندي ثمان نسوة، فذكرت ذلك للنبي صلى
الله عليه وسلم فقال: ( اختر
منهن أربعا ) . وقال
مقاتل: إن قيس بن الحارث كان عنده ثمان نسوة حرائر؛ فلما نزلت هذه الآية أمره رسول
الله صلى الله عليه وسلم أن يطلق أربعا ويمسك أربعا. كذا قال: « قيس بن الحارث » ، والصواب أن ذلك كان حارث بن
قيس الأسدي كما ذكر أبو داود. وكذا روى محمد بن الحسن في كتاب السير الكبير: أن
ذلك كان حارث بن قيس، وهو المعروف عند الفقهاء. وأما ما أبيح من ذلك للنبي صلى
الله عليه وسلم فذلك من خصوصياته؛ على ما يأتي بيانه في « الأحزاب » . وأما قولهم: إن الواو جامعة؛
فقد قيل ذلك، لكن الله تعالى خاطب العرب بأفصح اللغات. والعرب لا تدع أن تقول تسعة
وتقول اثنين وثلاثة وأربعة. وكذلك تستقبح ممن يقول: اعط فلانا أربعة ستة ثمانية،
ولا يقول ثمانية عشر. وإنما الواو في هذا الموضع بدل؛ أي انكحوا ثلاثا بدلا من
مثنى، ورباع بدلا من ثلاث؛ ولذلك عطف بالواو ولم يعطف بأو. ولو جاء بأو لجاز إلا
يكون لصاحب المثنى ثلاث، ولا لصاحب الثلاث رباع. وأما قولهم: إن مثنى تقتضي اثنين،
وثلاث ثلاثة، ورباع أربعة، فتحكم بما لا يوافقهم أهل اللسان عليه، وجهالة منهم.
وكذلك جهل الآخرين، بأن مثنى تقتضي اثنين اثنين، وثلاث ثلاثة ثلاثة، ورباع أربعة
أربعة، ولم يعلموا أن اثنين اثنين.، وثلاثا ثلاثا، وأربعا أربعا، حصر للعدد. ومثنى
وثلاث ورباع بخلافها. ففي العدد المعدول عند العرب زيادة معنى ليست في الأصل؛ وذلك
أنها إذا قالت: جاءت الخيل مثنى، إنما تعني بذلك اثنين اثنين؛ أي جاءت مزدوجة. قال
الجوهري: وكذلك معدول العدد. وقال غيره: إذا قلت جاءني قوم مثنى أو ثلاث أو أحاد
أو عشار، فإنما تريد أنهم جاؤوك واحدا واحدا، أو اثنين اثنين، أو ثلاثة ثلاثة، أو
عشرة عشرة، وليس هذا المعنى في الأصل؛ لأنك إذا قلت جاءني قوم ثلاثة ثلاثة، أو قوم
عشرة عشرة، فقد حصرت عدة القوم بقولك ثلاثة وعشرة. فإذا قلت جاؤوني رباع وثناء فلم
تحصر عدتهم. وإنما تريد أنهم جاؤوك أربعة أربعة أو اثنين اثنين. وسواء كثر عددهم
أو قل في هذا الباب، فقصرهم كل صيغة على أقل ما تقتضيه بزعمه تحكم.
وأما
اختلاف علماء المسلمين في الذي يتزوج خامسة وعنده أربع: فقال مالك والشافعي: عليه
الحد إن كان عالما. وبه قال أبو ثور. وقال الزهري: يرجم إذا كان عالما، وإن كان
جاهلا أدنى الحدين الذي هو الجلد، ولها مهرها ويفرق بينهما ولا يجتمعان أبدا.
وقالت طائفة: لا حد عليه في شيء من ذلك. هذا قول النعمان. وقال يعقوب ومحمد: يحد
في ذات المحرم ولا يحد في غير ذلك من النكاح. وذلك مثل أن يتزوج مجوسية أو خمسة في
عقدة أو تزوج متعة أو تزوج بغير شهود، أو أمة تزوجها بغير إذن مولاها. وقال أبو
ثور: إذا علم أن هذا لا يحل له يجب أن يحد فيه كله إلا التزوج بغير شهود. وفيه قول
ثالث قاله النخعي في الرجل ينكح الخامسة متعمدا قبل أن تنقضي عدة الرابعة من
نسائه: جلد مائة ولا ينفى. فهذه فتيا علمائنا في الخامسة على ما ذكره ابن المنذر
فكيف بما فوقها.
ذكر
الزبير بن بكار حدثني إبراهيم الحزامي عن محمد بن معن الغفاري قال: أتت امرأة إلى
عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ فقالت: يا أمير المؤمنين، إن زوجي يصوم النهار ويقوم
الليل وأنا أكره أن أشكوه، وهو يعمل بطاعة الله عز وجل. فقال لها: نعم الزوج زوجك:
فجعلت تكرر عليه القول وهو يكرر عليها الجواب. فقال له كعب الأسدي: يا أمير
المؤمنين، هذه المرأة تشكو زوجها في مباعدته إياها عن فراشه. فقال عمر: ( كما فهمت كلامها فاقض بينهما
) . فقال
كعب: علي بزوجها، فأتي به فقال له: إن امرأتك هذه تشكوك. قال: أفي طعام أم شراب؟
قال لا. فقالت المرأة:
يا أيها
القاضي الحكيم رشده ألهى خليلي عن فراشي مسجده
زهده في
مضجعي تعبده فاقض القضا كعب ولا تردده
نهاره
وليله ما يرقده فلست في أمر النساء أحمده
فقال
زوجها:
زهدني في
فرشها وفي الحجل أني امرؤ أذهلني ما قد نزل
في سورة
النحل وفي السبع الطول وفي كتاب الله تخويف جلل
فقال
كعب:
إن لها
عليك حقا يا رجل نصيبها في أربع لمن عقل
فأعطها
ذاك ودع عنك العلل
ثم قال:
إن الله عز وجل قد أحل لك من النساء مثنى وثلاث ورباع، فلك ثلاثة أيام ولياليهن
تعبد فيهن ربك. فقال عمر: ( والله
ما أدري من أي أمريك أعجب؟ أمن فهمك أمرهما أم من حكمك بينهما؟ اذهب فقد وليتك
قضاء البصرة ) . وروى
أبو هدبة إبراهيم بن هدبة حدثنا أنس بن مالك قال: أتت النبي صلى الله عليه وسلم
امرأة تستعدي زوجها، فقالت: ليس لي ما للنساء؛ زوجي يصوم الدهر. قال: ( لك يوم وله يوم، للعبادة يوم
وللمرأة يوم ) .
قوله
تعالى: « فإن
خفتم ألا تعدلوا » قال
الضحاك وغيره: في الميل والمحبة والجماع والعشرة والقسم بين الزوجات الأربع
والثلاث والاثنتين « فواحدة
» فمنع من
الزيادة التي تؤدي إلى ترك العدل في القسم وحسن العشرة. وذلك دليل على وجوب ذلك،
والله أعلم. وقرئت بالرفع، أي فواحدة فيها كفاية أو كافية. وقال الكسائي: فواحدة
تقنع. وقرئت بالنصب بإضمار فعل، أي فانكحوا واحدة.
قوله
تعالى: « أو ما
ملكت أيمانكم » يريد
الإماء. وهو عطف على « فواحدة
» أي إن
خاف ألا يعدل في واحدة فما ملكت يمينه. وفي هذا دليل على ألا حق لملك اليمين في
الوطء ولا القسم؛ لأن المعنى « فإن
خفتم ألا تعدلوا » في
القسم « فواحدة
أو ما ملكت أيمانكم » فجعل
ملك اليمين كله بمنزلة واحدة، فانتفى بذلك أن يكون للإماء حق في الوطء أو في
القسم. إلا أن ملك اليمين في العدل قائم بوجوب حسن الملكة والرفق بالرقيق. وأسند
تعالى الملك إلى اليمين إذ هي صفة مدح، واليمين مخصوصة بالمحاسن لتمكنها. ألا ترى
أنها المنفقة؟ كما قال عليه السلام: ( حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ) وهي المعاهدة المبايعة، وبها
سميت الألية يمينا، وهي المتلقية لرايات المجد؛ كما قال:
إذا ما
راية رفعت لمجد تلقاها عرابة باليمين
قوله
تعالى: « ذلك
أدنى ألا تعولوا » أي ذلك
أقرب إلى ألا تميلوا عن الحق وتجوروا؛ عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما. يقال: عال
الرجل يعول إذا جار ومال. ومنه قولهم: عال السهم عن الهدف مال عنه. قال ابن عمر: ( إنه لعائل الكيل والوزن ) ؛ قال الشاعر:
قالوا
اتبعنا رسول الله واطرحوا قول الرسول وعالوا في الموازين
أي
جاروا. وقال أبو طالب:
بميزان
صدق لا يغل شعيرة له شاهد من نفسه غير عائل
يريد غير
مائل. وقال آخر:
ثلاثة
أنفس وثلاث ذود لقد عال الزمان على عيالي
أي جار
ومال. وعال الرجل يعيل إذا افتقر فصار عالة. ومنه قوله تعالى: « وإن خفتم عيلة » [ التوبة: 28 ] . ومنه قول الشاعر:
وما يدري
الفقير متى غناه وما يدري الغني متى يعيل
وهو عائل
وقوم عيلة، والعيلة والعالة الفاقة، وعالني الشيء يعولني إذا غلبني وثقل علي، وعال
الأمر اشتد وتفاقم. وقال الشافعي: « ألا تعولوا » [
النساء: 3 ] ألا
تكثر عيالكم. قال الثعلبي: وما قال هذا غيره، وإنما يقال: أعال يعيل إذا كثر عيال.
وزعم ابن العربي أن عال على سبعة معان لا ثامن لها، يقال: عال مال، الثاني زاد،
الثالث جار، الرابع افتقر، الخامس أثقل؛ حكاه ابن دريد. قالت الخنساء:
ويكفي
العشيرة ما عالها
السادس
عال قام بمؤونة العيال؛ ومنه قوله عليه السلام: ( وابدأ بمن تعول ) . السابع عال غلب؛ ومنه عيل صبره. أي غلب. ويقال: أعال
الرجل كثر عيال. وأما عال بمعنى كثر عياله فلا يصح.
قلت: أما
قول الثعلبي « ما
قاله غيره » فقد
أسنده الدارقطني في سننه عن زيد بن أسلم، وهو قول جابر بن زيد؛ فهذان إمامان من
علماء المسلمين وأئمتهم قد سبقا الشافعي إليه. وأما ما ذكره ابن العربي من الحصر
وعدم الصحة فلا يصح. وقد ذكرنا: عال الأمر اشتد وتفاقم؛ حكاه الجوهري. وقال الهروي
في غريبه: « وقال
أبو بكر: يقال عال الرجل في الأرض يعيل فيها أي ضرب فيها. وقال الأحمر: يقال عالني
الشيء يعيلني عيلا ومعيلا إذا أعجزك » . وأما عال كثر عياله فذكره الكسائي وأبو عمر الدوري وابن
الأعرابي. قال الكسائي أبو الحسن علي بن حمزة: العرب تقول عال يعول وأعال يعيل أي
كثر عياله. وقال أبو حاتم: كان الشافعي أعلم بلغة العرب منا، ولعله لغة. قال
الثعلبي المفسر: قال أستاذنا أبو القاسم بن حبيب: سألت أبا عمر الدوري عن هذا وكان
إماما في اللغة غير مدافع فقال: هي لغة حمير؛ وأنشد:
وإن
الموت يأخذ كل حي بلا شك وإن أمشى وعالا
يعني وإن
كثرت ماشيته وعياله. وقال أبو عمرو بن العلاء: لقد كثرت وجوه العرب حتى خشيت أن
آخذ عن لاحن لحنا. وقرأ طلحة بن مصرف « ألا تعيلوا » وهي حجة الشافعي رضي الله عنه. قال ابن عطية: وقدح الزجاج
وغيره في تأويل عال من العيال بأن قال: إن الله تعالى قد أباح كثرة السواري وفي
ذلك تكثير العيال، فكيف يكون أقرب إلى ألا يكثر العيال. وهذا القدح غير صحيح؛ لأن
السراري إنما هي مال يتصرف فيه بالبيع، وإنما العيال القادح الحرائر ذوات الحقوق
الواجبة. وحكى ابن الأعرابي أن العرب تقول: عال الرجل إذا كثر عياله.
تعلق
بهذه الآية من أجاز للمملوك أن يتزوج أربعا، لأن الله تعالى قال: « فانكحوا ما طاب لكم من النساء
» يعني ما
حل « مثنى
وثلاث ورباع » ولم يخص
عبدا من حر. وهو قول داود والطبري وهو المشهور عن مالك وتحصيل مذهبه على ما في
موطئه، وكذلك روى عنه ابن القاسم وأشهب. وذكر ابن المواز أن ابن وهب روى عن مالك
أن العبد لا يتزوج إلا اثنتين؛ قال وهو قول الليث. قال أبو عمر: قال الشافعي وأبو
حنيفة وأصحابهما والثوري والليث بن سعد: لا يتزوج العبد أكثر من اثنتين؛ وبه قال
أحمد وإسحاق. وروي عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبدالرحمن بن عوف في العبد
لا ينكح أكثر من اثنتين؛ ولا أعلم لهم مخالفا من الصحابة. وهو قول الشعبي وعطاء
وابن سيرين والحكم وإبراهيم وحماد. والحجة لهذا القول القياس الصحيح على طلاقه
وحده. وكل من قال حده نصف حد الحر، وطلاقه تطليقتان، وإيلاؤه شهران، ونحو ذلك من
أحكامه فغير بعيد أن يقال: تناقض في قوله « ينكح أربعا » والله أعلم.
الآية:
4 ( وآتوا النساء صدقاتهن نحلة
فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا )
قوله
تعالى: « وآتوا
النساء صدقاتهن » الصدقات
جمع، الواحدة صدقة. قال الأخفش: وبنو تميم يقولون صدقة والجمع صدقات، وإن شئت فتحت
وإن شئت أسكنت. قال المازني: يقال صداق المرأة بالكسر، ولا يقال بالفتح. وحكى
يعقوب وأحمد بن يحيى بالفتح عن النحاس. والخطاب في هذه الآية للأزواج؛ قال ابن
عباس وقتادة وابن زيد وابن جريج. ( أمرهم الله تعالى بأن يتبرعوا بإعطاء المهور نحلة منهم
لأزواجهم ) .
وقيل: الخطاب للأولياء؛ قاله أبو صالح. وكان الولي يأخذ مهر المرأة ولا يعطيها
شيئا، فنهوا عن ذلك وأمروا أن يدفعوا ذلك إليهن. قال في رواية الكلبي: أن أهل
الجاهلية كان الولي إذا زوجها فإن كانت معه في العشرة لم يعطها من مهرها كثيرا ولا
قليلا، وإن كانت غريبة حملها على بعير إلى زوجها ولم يعطها شيئا غير ذلك البعير؛
فنزل: « وآتوا
النساء صدقاتهن نحلة » . وقال
المعتمر بن سليمان عن أبيه: زعم حضرمي المراد بالآية المتشاغرون الذين كانوا
يتزوجون امرأة بأخرى، فأمروا أن يضربوا المهور. والأول أظهر؛ فإن الضمائر واحدة
وهي بجملتها للأزواج فهم المراد؛ لأنه قال: « وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى » إلى قوله: « وآتوا النساء صدقاتهن نحلة » . وذلك يوجب تناسق الضمائر وأن
يكون الأول فيها هو الآخر.
هذه
الآية تدل على وجوب الصداق للمرأة، وهو مجمع عليه ولا خلاف فيه إلا ما روي عن بعض
أهل العلم من أهل العراق أن السيد إذا زوج عبده من أمته أنه لا يجب فيه صداق؛ وليس
بشيء؛ لقوله تعالى « وآتوا
النساء صدقاتهن نحلة » فعم.
وقال: «
فانكحوهن بإذن أهلهن وأتوهن أجورهن بالمعروف » [
النساء: 25 ] .
وأجمع العلماء أيضا أنه لا حد لكثيره، واختلفوا في قليله على ما يأتي بيانه في
قوله: « وآتيتم
إحداهن قنطارا » [ النساء: 20 ] . وقرأ الجمهور « صَدُقاتهن » بفتح الصاد وضم الدال. وقرأ
قتادة «
صُدْقاتهن » بضم
الصاد وسكون الدال. وقرأ النخعي وابن وثاب بضمهما والتوحيد « صُدُقَتَهُنّ »
قوله
تعالى: « نحلة » النِّحلة والنُّحلة، بكسر
النون وضمها لغتان. وأصلها من العطاء؛ نحلت فلانا شيئا أعطيته. فالصداق عطية من
الله تعالى للمرأة. وقيل: « نحلة » أي عن طيب نفس من الأزواج من
غير تنازع. وقال قتادة: معنى « نحلة » فريضة واجبة. ابن جريج وابن
زيد: فريضة مسماة. قال أبو عبيد: ولا تكون النحلة إلا مسماة معلومة. وقال الزجاج: « نحلة » تدينا. والنحلة الديانة
والملة. يقال. هذا نحلته أي دينه. وهذا يحسن مع كون الخطاب للأولياء الذين كانوا
يأخذونه في الجاهلية، حتى قال بعض النساء في زوجها:
لا يأخذ
الحلوان من بناتنا
تقول: لا
يفعل ما يفعله غيره. فانتزعه الله منهم وأمر به للنساء. و « نحلة » منصوبة على أنها حال من
الأزواج بإضمار فعل من لفظها تقديره أنحلوهن نحلة. وقيل: هي نصب وقيل على التفسير.
وقيل: هي مصدر على غير الصدر في موضع الحال.
قوله
تعالى: « فإن
طبن لكم عن شيء منه نفسا » مخاطبة للأزواج،
ويدل بعمومه على أن هبة المرأة صداقها لزوجها بكرا كانت أو ثيبا جائزة؛ وبه قال
جمهور الفقهاء. ومنع مالك من هبة البكر الصداق لزوجها وجعل ذلك للولي مع أن الملك
لها. وزعم الفراء أنه مخاطبة للأولياء؛ لأنهم كانوا يأخذون الصداق ولا يعطون
المرأة منه شيئا، فلم يبح لهم منه إلا ما طابت به نفس المرأة. والقول الأول أصح؛
لأنه لم يتقدم للأولياء ذكر، والضمير في « منه » عائد
على الصداق. وكذلك قال عكرمة وغيره. وسبب الآية فيما ذكر أن قوما تحرجوا أن يرجع
إليهم شيء مما دفعوه إلى الزوجات فنزلت « فإن طبن لكم » .
واتفق العلماء
على أن المرأة المالكة لأمر نفسها إذا وهبت صداقها لزوجها نفذ ذلك عليها، ولا رجوع
لها فيه. إلا أن شريحا رأى الرجوع لها فيه، واحتج بقوله: « فإن طبن لكم عنه شيء منه نفسا
» وإذا
كانت طالبة له لم تطب به نفسا. قال ابن العربي: وهذا باطل؛ لأنها قد طابت وقد أكل
فلا كلام لها؛ إذ ليس المراد صورة الأكل، وإنما هو كناية عن الإحلال والاستحلال،
وهذا بين.
فإن شرطت
عليه عند عقد النكاح ألا يتزوج عليها، وحطت عنه لذلك شيئا من صداقها، ثم تزوج
عليها فلا شيء لها عليه في رواية ابن القاسم؛ لأنها شرطت عليه ما لا يجوز شرطه.
كما اشترط أهل بريرة أن تعتقها عائشة والولاء لبائعها، فصحح النبي صلى الله عليه
وسلم العقد وأبطل الشرط. كذلك ههنا يصح إسقاط بعض الصداق عنه وتبطل الزيجة. قال
ابن عبدالحكم: إن كان بقي من صداقها مثل صداق مثلها أو أكثر لم ترجع عليه بشيء،
وإن كانت وضعت عنه شيئا من صداقها فتزوج عليها رجعت عليه بتمام صداق مثلها؛ لأنه
شرط على نفسه شرطا وأخذ عنه عوضا كان لها واجبا أخذه منه، فوجب عليه الوفاء لقوله
عليه السلام: (
المؤمنون عند شروطهم ) .
وفي
الآية دليل على أن العتق لا يكون صداقا؛ لأنه ليس بمال؛ إذ لا يمكن المرأة هبته
ولا الزوج أكله. وبه قال مالك وأبو حنيفة وزفر ومحمد والشافعي. وقال أحمد بن حنبل
وإسحاق ويعقوب: يكون صداقا ولا مهر لها غير العتق؛ على حديث صفية - رواه الأئمة -
أن النبي صلى الله عليه وسلم أعتقها وجعل عتقها صداقها. وروي عن أنس أنه فعله، وهو
راوي حديث صفية. وأجاب الأولون بأن قالوا: لا حجة في حديث صفية؛ لأن النبي صلى
الله عليه وسلم كان مخصوصا في النكاح بأن يتزوج بغير صداق، وقد أراد زينب فحرمت
على زيد فدخل عليها بغير ولي ولا صداق. فلا ينبغي الاستدلال بمثل هذا؛ والله أعلم.
قوله
تعالى: « نفسا » قيل: هو منصوب على البيان. ولا
يجيز سيبويه ولا الكوفيون أن يتقدم ما كان منصوبا على البيان، وأجاز ذلك المازني
وأبو العباس المبرد إذا كان العامل فعلا. وأنشد:
وما كان
نفسا بالفراق تطيب
وفي
التنزيل « خشعا
أبصارهم يخرجون » [ القمر: 7 ] فعلى هذا يجوز « شحما تفقأت. ووجها حسنت » . وقال أصحاب سيبويه: إن « نفسا » منصوبة بإضمار فعل تقديره أعني
نفسا، وليست منصوبة على التمييز؛ وإذا كان هذا فلا حجة فيه. وقال الزجاج. الرواية:
وما كان
نفسي...
واتفق
الجميع على أنه لا يجوز تقديم المميز إذا كان العامل غير متصرف كعشرين درهما.
قوله
تعالى: « فكلوه
» ليس
المقصود صورة الأكل، وإنما المراد به الاستباحة بأي طريق كان، وهو المعني بقوله في
الآية التي بعدها « إن
الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما » [
النساء: 10 ] . وليس
المراد نفس الأكل؛ إلا أن الأكل لما كان أوفى أنواع التمتع بالمال عبر عن التصرفات
بالأكل. ونظيره قوله تعالى: « إذا
نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع » [ الجمعة: 9 ] يعلم أن صورة البيع غير
مقصودة، وإنما المقصود ما يشغله عن ذكر الله تعالى مثل النكاح وغيره؛ ولكن ذكر
البيع لأنه أهم ما يشتغل به عن ذكر الله تعالى.
قوله
تعالى: « هنيئا
مريئا » منصوب
على الحال من الهاء في « كلوه » وقيل: نعت لمصدر محذوف، أي
أكلا هنيئا بطيب الأنفس. هنأه الطعام والشراب يهنوه، وما كان هنيئا؛ ولقد هنؤ،
والمصدر الهنء. وكل ما لم يأت بمشقة ولا عناء فهو هنيء. وهنيء اسم فاعل من هنؤ
كظريف من ظرف. وهنئ يهنأ فهو هنيء على فعل كزمن. وهنأني الطعام ومرأني على
الإتباع؛ فإذا لم يذكر « هنأني
» قلت:
أمرأني الطعام بالألف، أي انهضم. قال أبو علي: وهذا كما جاء في الحديث ( ارجعن مأزورات غير مأجورات ) . فقلبوا الواو من « موزورات » ألفا إتباعا للفظ مأجورات. وقال
أبو العباس عن ابن الأعرابي: يقال هنيء وهنأني ومرأني وأمرأني ولا يقال مرئني؛
حكاه الهروي. وحكى القشيري أنه يقال: هنئني ومرئني بالكسر يهنأني ويمرأني، وهو
قليل. وقيل: « هنيئا
» لا إثم
فيه، و « مريئا
» لا داء
فيه. قال كثير:
هنيئا
مريئا غير داء مخامر لعزة من أعراضنا ما استحلت
ودخل رجل
على علقمة وهو يأكل شيئا وهبته امرأته من مهرها فقال له: كل من الهنيء المريء.
وقيل: الهنيء الطيب المساغ الذي لا ينغصه شيء، والمريء المحمود العاقبة، التام
الهضم الذي لا يضر ولا يؤذي. يقول: لا تخافون في الدنيا به مطالبة، ولا في الآخرة
تبعة. يدل عليه ما روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن هذه الآية
« فإن
طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه » فقال: ( إذا جادت لزوجها بالعطية
طائعة غير مكرهة لا يقضي به عليكم سلطان، ولا يؤاخذكم الله تعالى به في الآخرة ) وروي عن علي بن أبي طالب رضي
الله عنه قال: ( إذا
اشتكى أحدكم شيئا فليسأل امرأته درهما من صداقها ثم ليشتر به عسلا فليشربه بماء
السماء؛ فيجمع الله عز وجل له الهنيء والمريء والماء المبارك ) . والله أعلم.
الآية:
5 ( ولا تؤتوا السفهاء أموالكم
التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا )
لما أمر
الله تعالى بدفع أموال اليتامى إليهم في قوله: « وآتوا اليتامى أموالهم » وإيصال الصدقات إلى الزوجات، بين أن السفيه وغير البالغ لا
يجوز دفع ماله إليه. فدلت الآية على ثبوت الوصي والولي والكفيل للأيتام. وأجمع أهل
العلم على أن الوصية إلى المسلم الحر الثقة العدل جائزة. واختلفوا في الوصية إلى
المرأة الحرة؛ فقال عوام أهل العلم: الوصية لها جائزة. واحتج أحمد بأن عمر رضي
الله عنه أوصى إلى حفصة. وروي عن عطاء بن أبي رباح أنه قال في رجل أوصى إلى امرأته
قال: لا تكون المرأة وصيا؛ فإن فعل حولت إلى رجل من قومه. واختلفوا في الوصية إلى
العبد؛ فمنعه الشافعي وأبو ثور ومحمد ويعقوب. وأجازه مالك والأوزاعي وابن
عبدالحكم. وهو قول النخعي إذا أوصى إلى عبده. وقد مضى القول في هذا في « البقرة » مستوفى.
قوله
تعالى: «
السفهاء » قد مضى
في « البقرة
» معنى
السفه لغة. واختلف العلماء في هؤلاء السفهاء، من هم؟ فروى سالم الأفطس عن سعيد بن
جبير قال: هم اليتامى لا تؤتوهم أموالكم. قال النحاس: وهذا من أحسن ما قيل في
الآية. وروى إسماعيل بن أبي خالد عن أبي مالك قال: هم الأولاد الصغار، لا تعطوهم
أموالكم فيفسدوها وتبقوا بلا شيء. وروى سفيان عن حميد الأعرج عن مجاهد قال: هم
النساء. قال النحاس وغيره: وهذا القول لا يصح؛ إنما تقول العرب في النساء سفائه أو
سفيهات؛ لأنه الأكثر في جمع فعيلة. ويقال: لا تدفع مالك مضاربة ولا إلى وكيل لا
يحسن التجارة. وروي عن عمر أنه قال: من لم يتفقه فلا يتجر في سوقنا؛ فذلك قوله
تعالى: « ولا
تؤتوا السفهاء أموالكم » يعني
الجهال بالأحكام. ويقال: لا تدفع إلى الكفار؛ ولهذا كره العلماء أن يوكل المسلم
ذميا بالشراء والبيع، أو يدفع إليه مضاربة. وقال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: ( السفهاء هنا كل من يستحق الحجر
) . وهذا
جامع. وقال ابن خويز منداد: وأما الحجر على السفيه فالسفيه له أحوال: حال يحجر
عليه لصغره، وحالة لعدم عقله بجنون أو غيره، وحالة لسوء نظره لنفسه في ماله. فأما
المغمى عليه فاستحسن مالك ألا يحجر عليه لسرعة زوال ما به. والحجر يكون مرة في حق
الإنسان ومرة في حق غيره؛ فأما المحجور عليه في حق نفسه من ذكرنا. والمحجور عليه
في حق غيره العبد والمديان والمريض في الثلثين، والمفلس وذات الزوج لحق الزوج،
والبكر في حق نفسها. فأما الصغير والمجنون فلا خلاف في الحجر عليهما. وأما الكبير
فلأنه لا يحسن النظر لنفسه في ماله، ولا يؤمن منه إتلاف ماله في غير وجه، فأشبه
الصبي؛ وفيه خلاف يأتي. ولا فرق بين أن يتلف ماله في المعاصي أو القرب والمباحات.
واختلف أصحابنا إذا أتلف ماله في القرب؛ فمنهم من حجر عليه، ومنهم من لم يحجر
عليه. والعبد لا خلاف فيه. والمديان ينزع ما بيده لغرمائه؛ لإجماع الصحابة، وفعل
عمر ذلك بأسيفع جهينة؛ ذكره مالك في الموطأ. والبكر ما دامت في الخدر محجور عليها؛
لأنها لا تحسن النظر لنفسها. حتى إذا تزوجت ودخل إليها الناس، وخرجت وبرز وجهها
عرفت المضار من المنافع. وأما ذات الزوج فلأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يجوز لامرأة ملك زوجها
عصمتها قضاء في مالها إلا في ثلثها ) .
قلت:
وأما الجاهل بالأحكام وإن كان غير محجور عليه لتنميته لماله وعدم تدبيره، فلا يدفع
إليه المال؛ لجهله بفاسد البياعات وصحيحها وما يحل وما يحرم منها. وكذلك الذمي
مثله في الجهل بالبياعات ولما يخاف من معاملته بالربا وغيره. والله أعلم.
واختلفوا
في وجه إضافة المال إلى المخاطبين على هذا، وهي للسفهاء؛ فقيل: أضافها إليهم لأنها
بأيديهم وهم الناظرون فيها فنسبت إليهم اتساعا؛ كقوله تعالى: « فسلموا على أنفسكم » [ النور: 61 ] وقوله « فاقتلوا أنفسكم » [ البقرة:54 ] . وقيل: أضافها إليهم لأنها
من جنس أموالهم؛ فإن الأموال جعلت مشتركة بين الخلق تنتقل من يد إلى يد، ومن ملك
إلى ملك، أي هي لهم إذا احتاجوها كأموالكم التي تقي أعراضكم وتصونكم وتعظم
أقداركم، وبها قوام أمركم.
وقول ثان
قاله أبو موسى الأشعري وابن عباس والحسن وقتادة: ( أن المراد أموال المخاطبين حقيقة ) . قال ابن عباس: ( لا تدفع مالك الذي هو سبب
معيشتك إلى امرأتك وابنك وتبقى فقيرا تنظر إليهم وإلى ما في أيديهم؛ بل كن أنت
الذي تنفق عليهم ) .
فالسفهاء على هذا هم النساء والصبيان؛ صغار ولد الرجل وامرأته. وهذا يخرج مع قول
مجاهد وأبي مالك في السفهاء.
ودلت
الآية على جواز الحجر على السفيه؛ لأمر الله عز وجل بذلك في قوله: « ولا تؤتوا السفهاء أموالكم » وقال « فإن كان الذي عليه الحق سفيها
أو ضعيفا » [ البقرة: 282 ] . فأثبت الولاية على السفيه
كما أثبتها على الضعيف. وكان معنى الضعيف راجعا إلى الصغير، ومعنى السفيه إلى
الكبير البالغ؛ لأن السفه اسم ذم ولا يذم الإنسان على ما لم يكتسبه، والقلم مرفوع
عن غير البالغ، فالذم والحرج منفيان عنه؛ قاله الخطابي.
واختلف العلماء
في أفعال السفيه قبل الحجر عليه؛ فقال مالك وجميع أصحابه غير ابن القاسم: إن فعل
السفيه وأمره كله جائز حتى يضرب الإمام على يده. وهو قول الشافعي وأبي يوسف. وقال
ابن القاسم: أفعال غير جائزة وإن لم يضرب عليه الإمام. وقال أصبغ: إن كان ظاهر
السفه فأفعاله مردودة، وإن كان غير ظاهر السفه فلا ترد أفعاله حتى يحجر عليه
الإمام. واحتج سحنون لقول مالك بأن قال: لو كانت أفعال السفيه مردودة قبل الحجر ما
أحتاج السلطان أن يحجر على أحد. وحجة ابن القاسم ما رواه البخاري من حديث جابر أن
رجلا أعتق عبدا ليس له مال غيره فرده النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن حجر عليه
قبل ذلك.
واختلفوا
في الحجر على الكبير؛ فقال مالك وجمهور الفقهاء: يحجر عليه. وقال أبو حنيفة: لا
يحجر على من بلغ عاقلا إلا أن يكون مفسدا لماله؛ فإذا كان كذلك منع من تسليم المال
إليه حتى يبلغ خمسا وعشرين سنة، فإذا بلغها سلم إليه بكل حال، سواء كان مفسدا أو
غير مفسد؛ لأنه يحبل منه لاثنتي عشرة سنة، ثم يولد له لستة أشهر فيصير جدا وأبا،
وأنا أستحي أن أحجر على من يصلح أن يكون جدا. وقيل عنه: إن في مدة المنع من المال
إذا بلغ مفسدا ينفذ تصرفه على الإطلاق، وإنما يمنع من تسليم المال احتياطا. وهذا
كله ضعيف في النظر والأثر. وقد روى الدارقطني: حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن الصواف
أخبرنا حامد بن شعيب أخبرنا شريح بن يونس أخبرنا يعقوب بن إبراهيم - هو أبو يوسف
القاضي - أخبرنا هشام بن عروة عن أبيه أن عبدالله بن جعفر أتى الزبير فقال: إني اشتريت
بيع كذا وكذا، وإن عليا يريد أن يأتي أمير المؤمنين فيسأله أن يحجر علي فيه. فقال
الزبير: أنا شريكك في البيع. فأتى علي عثمان فقال: إن ابن جعفر اشترى بيع كذا وكذا
فاحجر عليه. فقال الزبير: فأنا شريكه في البيع. فقال عثمان: كيف أحجر على رجل في
بيع شريكه فيه الزبير؟ قال يعقوب: أنا آخذ بالحجر وأراه، وأحجر وأبطل بيع المحجور
عليه وشراءه، وإذا اشترى أو باع قبل الحجر أجزت بيعه. قال يعقوب بن إبراهيم: وإن
أبا حنيفة لا يحجر ولا يأخذ بالحجر. فقول عثمان: كيف أحجر على رجل، دليل على جواز
الحجر على الكبير؛ فإن عبدالله بن جعفر ولدته أمه بأرض الحبشة، وهو أول مولود ولد
في الإسلام بها، وقدم مع أبيه على النبي صلى الله عليه وسلم عام خيبر فسمع منه
وحفظ عنه. وكانت خيبر سنة خمس من الهجرة. وهذا يرد على أبي حنيفة قوله. وستأتي
حجته إن شاء الله تعالى.
قوله
تعالى: « التي
جعل الله لكم قياما » أي
لمعاشكم وصلاح دينكم. وفي « التي » ثلاث لغات: التي واللت بكسر
التاء واللت بإسكانها. وفي تثنيتها أيضا ثلاث لغات: اللتان واللتا بحذف النون
واللتان بشد النون. وأما الجمع فتأتي لغاته في موضعه من هذه السورة إن شاء الله
تعالى.
والقيام
والقوام: ما يقيمك بمعنى. يقال: فلان قيام أهله وقوام بيته، وهو الذي يقيم شأنه،
أي يصلحه. ولما انكسرت القاف من قوام أبدلوا الواو ياء. وقراءة أهل المدينة « قيما » بغير ألف. قال الكسائي
والفراء: قيما وقواما بمعنى قياما، وانتصب عندهما على المصدر. أي ولا تؤتوا
السفهاء أموالكم التي تصلح بها أموركم فيقوموا بها قياما. وقال الأخفش: المعنى
قائمة بأموركم. يذهب إلى أنها جمع. وقال البصريون: قيما جمع قيمة؛ كديمة وديم، أي
جعلها الله قيمة للأشياء. وخطأ أبو علي هذا القول وقال: هي مصدر كقيام وقوام
وأصلها قوم، ولكن شذت في الرد إلى الياء كما شذ قولهم: جياد في جمع جواد ونحوه.
وقوما وقواما وقياما معناها ثباتا في صلاح الحال ودواما في ذلك. وقرأ الحسن
والنخعي « اللاتي
» جعل على
جمع التي، وقراءة العامة « التي » على لفظ الجماعة. قال الفراء:
الأكثر في كلام العرب « النساء
اللواتي، والأموال التي » وكذلك غير
الأموال؛ ذكره النحاس.
قوله
تعالى: «
وارزقوهم فيها واكسوهم » قيل:
معناه اجعلوا لهم فيها أو افرضوا لهم فيها. وهذا فيمن يلزم الرجل نفقته وكسوته من
زوجته وبنيه الأصاغر. فكان هذا دليلا على وجوب نفقة الولد على الوالد والزوجة على
زوجها. وفي البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:
( أفضل
الصدقة ما ترك غنى واليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول تقول المرأة
إما أن تطعمني وإما أن تطلقني ويقول العبد أطعمني واستعملني ويقول الابن أطعمني
إلى من تدعني ) ؟
فقالوا: يا أبا هريرة، سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا، هذا من
كيس أبي هريرة!. قال المهلب: النفقة على الأهل والعيال واجبة بإجماع؛ وهذا الحديث
حجة في ذلك.
قال ابن
المنذر: واختلفوا في نفقة من بلغ من الأبناء ولا مال له ولا كسب؛ فقالت طائفة: على
الأب أن ينفق على ولده الذكور حتى يحتلموا، وعلى النساء حتى يتزوجن ويدخل بهن. فإن
طلقها بعد البناء أو مات عنها فلا نفقة لها على أبيها. وإن طلقها قبل البناء فهي
على نفقتها.
ولا نفقة
لولد الولد على الجد؛ هذا قول مالك. وقالت طائفة: ينفق على ولد ولده حتى يبلغوا
الحلم والمحيض. ثم لا نفقة عليه إلا أن يكونوا زمنى، وسواء في ذلك الذكور والإناث
ما لم يكن لهم أموال، وسواء في ذلك ولده أو ولد ولده وإن سفلوا ما لم يكن لهم أب
دونه يقدر على النفقة عليهم؛ هذا قول الشافعي. وأوجبت طائفة النفقة لجميع الأطفال
والبالغين من الرجال والنساء إذا لم يكن لهم أموال يستغنون بها عن نفقة الوالد؛
على ظاهر قوله عليه السلام لهند: ( خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ) . وفي حديث أبي هريرة ( يقول الابن أطعمني إلى من
تدعني؟ ) يدل
على أنه إنما يقول ذلك من لا طاقة له على الكسب والتحرف. ومن بلغ سن الحلم فلا
يقول ذلك؛ لأنه قد بلغ حد السعي على نفسه والكسب لها، بدليل قوله تعالى: « حتى إذا بلغوا النكاح » [ النساء: 6 ] الآية. فجعل بلوغ النكاح حدا
في ذلك. وفي قوله: ( تقول
المرأة إما أن تطعمني وإما أن تطلقني ) يرد على من قال: لا يفرق بالإعسار ويلزم المرأة الصبر؛
وتتعلق النفقة بذمته بحكم الحاكم. هذا قول عطاء والزهري. وإليه ذهب الكوفيون
متمسكين بقوله تعالى: « وإن
كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة » [ البقرة: 280 ] . قالوا: فوجب أن ينظر إلى أن
يوسر. وقوله تعالى: «
وأنكحوا الأيامى منكم » [ النور: 32 ] الآية. قالوا: فندب تعالى إلى
إنكاح الفقير؛ فلا يجوز أن يكون الفقر سببا للفرقة وهو مندوب منعه إلى النكاح. ولا
حجة لهم في هذه الآية على ما يأتي بيانه في موضعها. والحديث نص في موضع الخلاف.
وقيل: الخطاب لولي اليتيم لينفق عليه من ماله الذي له تحت نظره؛ على ما تقدم من
الخلاف في إضافة المال. فالوصي ينفق على اليتيم على قدر ماله وحاله؛ فإن كان صغيرا
وماله كثير اتخذ له ظئرا وحواضن ووسع عليه في النفقة. وإن كان كبيرا قدر له ناعم
اللباس وشهي الطعام والخدم. وإن كان دون ذلك فبحسبه. وإن كان دون ذلك فخشن الطعام
واللباس قدر الحاجة. فإن كان اليتيم فقيرا لا مال له وجب على الإمام القيام به من
بيت المال؛ فإن لم يفعل الإمام وجب ذلك على المسلمين الأخص به فالأخص. وأمه أخص به
فيجب عليها إرضاعه والقيام به. ولا ترجع عليه ولا على أحد. وقد مضى في البقرة عند
قوله: «
والوالدات يرضعن أولادهن » [ البقرة: 233 ] .
قوله
تعالى: « وقولوا
لهم قولا معروفا » أراد
تليين الخطاب والوعد الجميل. واختلف في القول المعروف؛ فقيل: معناه ادعوا لهم:
بارك الله فيكم، وحاطكم وصنع لكم، وأنا ناظر لك، وهذا الاحتياط يرجع نفعه إليك.
وقيل: معناه وعدوهم وعدا حسنا؛ أي إن رشدتم دفعنا إليكم أموالكم. ويقول الأب لابنه:
مالي إليك مصيره، وأنت إن شاء الله صاحبه إذا ملكت رشدك وعرفت تصرفك.
الآية:
6 ( وابتلوا اليتامى حتى إذا
بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا
وبدارا أن يكبروا ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف فإذا دفعتم
إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم وكفى بالله حسيبا )
قوله
تعالى: «
وابتلوا اليتامى »
الابتلاء الاختبار؛ وقد تقدم. وهذه الآية خطاب للجميع في بيان كيفية دفع أموالهم.
وقيل: إنها نزلت في ثابت بن رفاعة وفي عمه. وذلك أن رفاعة توفي وترك ابنه وهو
صغير، فأتى عم ثابت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن ابن أخي يتيم في حجري
فما يحل لي من ماله، ومتى أدفع إليه ماله؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية.
واختلف
العلماء في معنى الاختبار؛ فقيل: هو أن يتأمل الوصي أخلاق يتيمه، ويستمع إلى
أغراضه، فيحصل له العلم بنجابته، والمعرفة بالسعي في مصالحه وضبط ماله، والإهمال
لذلك. فإذا توسم الخير قال علماؤنا وغيرهم: لا بأس أن يدفع إليه شيئا من ماله يبيح
له التصرف فيه، فإن نماه وحسن النظر فيه فقد وقع الاختبار، ووجب على الوصي تسليم
جميع ماله إليه. وإن أساء النظر فيه وجب عليه إمساك ماله عنده. وليس في العلماء من
يقول: إنه إذا اختبر الصبي فوجده رشيدا ترتفع الولاية عنه، وأنه يجب دفع ماله إليه
وإطلاق يده في التصرف؛ لقوله تعالى: « حتى إذا بلغوا النكاح » . وقال جماعة من الفقهاء: الصغير لا يخلو من أحد أمرين؛ إما
أن يكون غلاما أو جارية؛ فإن كان غلاما رد النظر إليه في نفقة الدار شهرا، أو
أعطاه شيئا نزرا يتصرف فيه؛ ليعرف كيف تدبيره وتصرفه، وهو مع ذلك يراعيه لئلا
يتلفه؛ فإن أتلفه فلا ضمان على الوصي. فإذا رآه متوخيا سلم إليه ماله وأشهد عليه.
وإن كانت جارية رد إليها ما يرد إلى ربة البيت من تدبير بيتها والنظر فيه، في
الاستغزال والاستقصاء على الغزالات في دفع القطن وأجرته، واستيفاء الغزل وجودته.
فإن رآها رشيدة سلم أيضا إليها مالها وأشهد عليها. وإلا بقيا تحت الحجر حتى يؤنس
رشدهما. وقال الحسن ومجاهد وغيرهما: اختبروهم في عقولهم وأديانهم وتنمية أموالهم.
قوله
تعالى: « حتى
إذا بلغوا النكاح » أي
الحلم؛ لقوله تعالى: « وإذا
بلغ الأطفال منكم الحلم » [ النور: 59 ] أي البلوغ، وحال النكاح.
والبلوغ يكون بخمسة أشياء: ثلاثة يشترك فيها الرجال والنساء، واثنان يختصان
بالنساء وهما الحيض والحبل. فأما الحيض والحبل فلم يختلف العلماء في أنه بلوغ، وأن
الفرائض والأحكام تجب بهما. واختلفوا في الثلاثة؛ فأما الإثبات والسن فقال
الأوزاعي والشافعي وابن حنبل: خمس عشرة سنة بلوغ لمن لم يحتلم. وهو قول ابن وهب
وأصبغ وعبدالملك بن الماجشون وعمر بن عبدالعزيز وجماعة من أهل المدينة، واختاره
ابن العربي. وتجب الحدود والفرائض عندهم على من بلغ هذا السن. قال أصبغ بن الفرج:
والذي نقول به إن حد البلوغ الذي تلزم به الفرائض والحدود خمس عشرة سنة؛ وذلك أحب
ما فيه إلي وأحسنه عندي؛ لأنه الحد الذي يسهم فيه في الجهاد ولمن حضر القتال.
واحتج بحديث ابن عمر إذ عرض يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة فأجيز، ولم يجز يوم
أحد؛ لأنه كان ابن أربع عشرة سنة. أخرجه مسلم. قال أبو عمر بن عبدالبر: هذا فيمن
عرف مولده، وأما من جهل مولده وعدة سنه أو جحده فالعمل فيه بما روى نافع عن أسلم
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كتب إلى أمراء الأجناد: ( ألا تضربوا الجزية إلا على
من جرت عليه المواسي ) . وقال
عثمان في غلام سرق: انظروا إن كان قد اخضر مئزره فاقطعوه. وقال عطية القرظي: عرض
رسول الله صلى الله عليه وسلم بني قريظة؛ فكل من أنبت منهم قتله بحكم سعد بن معاذ،
ومن لم ينبت منهم استحياه؛ فكنت فيمن لم ينبت فتركني. وقال مالك وأبو حنيفة
وغيرهما: لا يحكم لمن لم يحتلم حتى يبلغ ما لم يبلغه أحد إلا احتلم، وذلك سبع عشرة
سنة؛ فيكون عليه حينئذ الحد إذا أتى ما يجب عليه الحد. وقال مالك مرة: بلوغه أن
يغلظ صوته وتنشق أرنبته. وعن أبي حنيفة رواية أخرى: تسع عشرة سنة؛ وهي الأشهر.
وقال في الجارية: بلوغها لسبع عشرة سنة وعليها النظر. وروى اللؤلئي عنه ثمان عشرة
سنة. وقال داود: لا يبلغ بالسن ما لم يحتلم ولو بلغ أربعين سنة. فأما الإنبات
فمنهم من قال: يستدل به على البلوغ؛ روي عن ابن القاسم وسالم، وقال مالك مرة،
والشافعي في أحد قوليه، وبه قال أحمد وإسحاق وأبو ثور. وقيل: هو بلوغ؛ إلا أنه
يحكم به في الكفار فيقتل من أنبت ويجعل من لم ينبت في الذراري؛ قاله الشافعي في
القول الآخر؛ لحديث عطية القرظي. ولا اعتبار بالخضرة والزغب، وإنما يترتب الحكم
على الشعر. وقال ابن القاسم: سمعت مالكا يقول: العمل عندي على حديث عمر بن الخطاب:
لو جرت عليه المواسي لحددته. قال أصبغ: قال لي ابن القاسم وأحب إلي ألا يقام عليه
الحد إلا باجتماع الإنبات والبلوغ. وقال أبو حنيفة: لا يثبت بالإنبات حكم، وليس هو
ببلوغ ولا دلالة على البلوغ. وقال الزهري وعطاء: لا حد على من لم يحتلم؛ وهو قول
الشافعي، ومال إليه مالك مرة، وقال به بعض أصحابه. وظاهره عدم اعتبار الإنبات
والسن. قال ابن العربي: « إذا لم
يكن حديث ابن عمر دليلا في السن فكل عدد يذكرونه من السنين فإنه دعوى، والسن التي
أجازها رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى من سن لم يعتبرها، ولا قام في الشرع
دليل عليها، وكذلك اعتبر النبي صلى الله عليه وسلم الإنبات في بني قريظة؛ فمن
عذيري ممن ترك أمرين اعتبرهما النبي صلى الله عليه وسلم فيتأوله ويعتبر ما لم
يعتبره النبي صلى الله عليه وسلم لفظا، ولا جعل الله له في الشريعة نظرا » .
قلت: هذا
قوله هنا، وقال في سورة الأنفال عكسه؛ إذ لم يعرج على حديث ابن عمر هناك، وتأوله
كما تأول علماؤنا، وأن موجبه الفرق بين من يطيق القتال ويسهم له وهو ابن خمس عشرة
سنة، ومن لا يطيقه فلا يسهم له فيجعل في العيال. وهو الذي فهمه عمر بن عبدالعزيز
من الحديث. والله أعلم.
قوله
تعالى: « فإن
آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم » « آنستم
» أي
أبصرتم ورأيتم؛ ومنه قوله تعالى: « آنس من
جانب الطور نارا » [ 29 القصص ] أي أبصر ورأى. قال الأزهري:
تقول العرب اذهب فاستأنس هل ترى أحدا؛ معناه تبصر. قال النابغة:
... على
مستأنس وحد
أراد
ثورا وحشيا يتبصر هل يرى قانصا فيحذره. وقيل: آنست وأحسست ووجدت بمعنى واحد؛ ومنه
قوله تعالى: « فإن
آنستم منهم رشدا » أي
علمتم. والأصل فيه أبصرتم. وقراءة العامة « رشدا » بضم
الراء وسكون الشين. وقرأ السلمي وعيسى والثقفي وابن مسعود رضي الله عنهم « رشدا » بفتح الراء والشين، وهما
لغتان. وقيل: رشدا مصدر رشد. ورشدا مصدر رشد، وكذلك الرشاد. والله أعلم.
واختلف
العلماء في تأويل « رشدا » فقال الحسن وقتادة وغيرهما:
صلاحا في العقل والدين. وقال ابن عباس والسدي والثوري: ( صلاحا في العقل وحفظ المال ) . قال سعيد بن جبير والشعبي:
إن الرجل ليأخذ بلحيته وما بلغ رشده؛ فلا يدفع إلى اليتيم ماله وإن كان شيخا حتى
يؤنس منه رشده. وهكذا قال الضحاك: لا يعطى اليتيم وإن بلغ مائة سنة حتى يعلم منه
إصلاح ماله. وقال مجاهد: « رشدا » يعني في العقل خاصة. وأكثر
العلماء على أن الرشد لا يكون إلا بعد البلوغ، وعلى أنه إن لم يرشد بعد بلوغ الحلم
وإن شاخ لا يزول الحجر عنه؛ وهو مذهب مالك وغيره. وقال أبو حنيفة: لا يحجر على
الحر البالغ إذا بلغ مبلغ الرجال، ولو كان أفسق الناس وأشدهم تبذيرا إذا كان
عاقلا. وبه قال زفر بن الهذيل؛ وهو مذهب النخعي. واحتجوا في ذلك بما رواه قتادة عن
أنس أن حبان بن منقذ كان يبتاع وفي عقدته ضعف، فقيل: يا رسول الله احجر عليه؛ فإنه
يبتاع وفي عقدته ضعف. فاستدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ( لا تبع ) . فقال: لا أصبر. فقال له: ( فإذا بايعت فقل لا خلابة ولك
الخيار ثلاثا ) .
قالوا: فلما سأل القوم الحجر عليه لما كان في تصرفه من الغبن ولم يفعل عليه
السلام، ثبت أن الحجر لا يجوز. وهذا لا حجة لهم فيه؛ لأنه مخصوص بذلك على ما بيناه
في البقرة، فغيره بخلافه. وقال الشافعي: إن كان مفسدا لماله ودينه، أو كان مفسدا
لماله دون دينه حجر عليه، وإن كان مفسدا لدينه مصلحا لماله فعلى وجهين: أحدهما
يحجر عليه؛ وهو اختيار أبي العباس بن شريح. والثاني لا حجر عليه؛ وهو اختيار إسحاق
المروزي، والأظهر من مذهب الشافعي. قال الثعلبي: وهذا الذي ذكرناه من الحجر على
السفيه قول عثمان وعلي والزبير وعائشة وابن عباس وعبدالله بن جعفر رضوان الله
عليهم، ومن التابعين شريح، وبه قال الفقهاء: مالك وأهل المدينة والأوزاعي وأهل
الشام وأبو يوسف ومحمد وأحمد وإسحاق وأبو ثور. قال الثعلبي: وادعى أصحابنا الإجماع
في هذه المسألة.
إذا ثبت
هذا فاعلم أن دفع المال يكون بشرطين: إيناس الرشد والبلوغ، فإن وجد أحدهما دون
الآخر لم يجز تسليم المال، كذلك نص الآية. وهو رواية ابن القاسم وأشهب وابن وهب عن
مالك في الآية. وهو قول جماعة الفقهاء إلا أبا حنيفة وزفر والنخعي فإنهم أسقطوا
إيناس الرشد ببلوغ خمس وعشرين سنة. قال أبو حنيفة: لكونه جدا وهذا يدل على ضعف
قوله، وضعف ما احتج به أبو بكر الرازي في أحكام القرآن له من استعمال الآيتين حسب
ما تقدم؛ فإن هذا من باب المطلق والمقيد، والمطلق يرد إلى المقيد باتفاق أهل
الأصول. وماذا يغني كونه جدا إذا كان غير جد، أي بخت. إلا أن علماءنا شرطوا في
الجارية دخول الزوج بها مع البلوغ، وحينئذ يقع الابتلاء في الرشد. ولم يره أبو
حنيفة والشافعي، ورأوا الاختبار في الذكر والأنثى على ما تقدم. وفرق علماؤنا
بينهما بأن قالوا: الأنثى مخالفة للغلام لكونها محجوبة لا تعاني الأمور ولا تبرز
لأجل البكارة فلذلك وقف فيها على وجود النكاح؛ فبه تفهم المقاصد كلها. والذكر
بخلافها؛ فإنه بتصرفه وملاقاته للناس من أول نشئه إلى بلوغه يحمل له الاختبار،
ويكمل عقله بالبلوغ، فيحصل له الغرض. وما قاله الشافعي أصوب؛ فإن نفس الوطء بإدخال
الحشفة لا يزيدها في رشدها إذا كانت عارفة بجميع أمورها ومقاصدها، غير مبذرة
لمالها. ثم زاد علماؤنا فقالوا: لا بد بعد دخول زوجها من مضي مدة من الزمان تمارس
فيها الأحوال. قال ابن العربي: وذكر علماؤنا في تحديدها أقوالا عديدة؛ منها الخمسة
الأعوام والستة والسبعة في ذات الأب. وجعلوا في اليتيمة التي لا أب لها ولا وصي
عليها عاما واحدا بعد الدخول، وجعلوا في المولى عليها مؤبدا حتى يثبت رشدها. وليس
في هذا كله دليل، وتحديد الأعوام في ذات الأب عسير؛ وأعسر منه تحديد العام في
اليتيمة. وأما تمادي الحجر في المولى عليها حتى يتبين رشدها فيخرجها الوصي عنه، أو
يخرجها الحكم منه فهو ظاهر القرآن. والمقصود من هذا كله داخل تحت قوله تعالى: « فإن آنستم منهم رشدا » فتعين اعتبار الرشد ولكن يختلف
إيناسه بحسب اختلاف حال الراشد. فاعرفه وركب عليه واجتنب التحكم الذي لا دليل
عليه.
واختلفوا
فيما فعلته ذات الأب في تلك المدة؛ فقيل: هو محمول على الرد لبقاء الحجر، وما
عملته بعده فهو محمول على الجواز. وقال بعضهم: ما عملته في تلك المدة محمول على
الرد إلا أن يتبين فيه السداد، وما عملته بعد ذلك محمول على الإمضاء حتى يتبين فيه
السفه.
واختلفوا
في دفع المال إلى المحجور عليه هل يحتاج إلى السلطان أم لا؟ فقالت فرقة: لا بد من
رفعه إلى السلطان، ويثبت عنده رشده ثم يدفع إليه ماله. وقالت فرقة: ذلك موكول إلى
اجتهاد الوصي دون أن يحتاج إلى رفعه إلى السلطان. قال ابن عطية: والصواب في أوصياء
زماننا ألا يستغنى عن رفعه إلى السلطان وثبوت الرشد عنده، لما حفظ من تواطؤ
الأوصياء على أن يرشد الصبي، ويبرأ المحجور عليه لسفهه وقلة تحصيله في ذلك الوقت.
فإذا سلم
المال إليه بوجود الرشد، ثم عاد إلى السفه بظهور تبذير وقلة تدبير عاد إليه الحجر
عندنا، وعند الشافعي في أحد قوليه. وقال أبو حنيفة: لا يعود؛ لأنه بالغ عاقل؛
بدليل جواز إقراره في الحدود والقصاص. ودليلنا قوله تعالى: « ولا تؤتوا السفهاء أموالكم
التي جعل الله لكم قياما » [ النساء: 5 ] وقال تعالى: « فإن كان الذي عليه الحق سفيها
أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل » [ البقرة: 282 ] ولم يفرق بين أن يكون محجورا
سفيها أو يطرأ ذلك عليه بعد الإطلاق.
ويجوز
للوصي أن يصنع في مال اليتيم ما كان للأب أن يصنع من تجارة وإبضاع وشراء وبيع.
وعليه أن يؤدي الزكاة من سائر أمواله: عين وحرث وماشية وفطرة. ويؤدي عنه أروش
الجنايات وقيم المتلفات، ونفقة الوالدين وسائر الحقوق اللازمة. ويجوز أن يزوجه
ويؤدي عنه الصداق، ويشتري له جارية يتسررها، ويصالح له وعليه على وجه النظر له.
وإذا قضى الوصي بعض الغرماء وبقي من المال بقية تفي ما عليه من الدين كان فعل
الوصي جائزا. فإن تلف باقي المال فلا شيء لباقي الغرماء على الوصي ولا على الذين
اقتضوا. وإن اقتضى الغرماء جميع المال ثم أتى غرماء آخرون فإن كان عالما بالدين
الباقي أو كان الميت معروفا بالدين الباقي ضمن الوصي لهؤلاء الغرماء ما كان يصيبهم
في المحاصة، ورجع على الذين اقتضوا دينهم بذلك. وإن لم يكن عالما بذلك، ولا كان
الميت معروفا بالدين فلا شيء على الوصي. وإذا دفع الوصي دين الميت بغير إشهاد ضمن.
وأما إن أشهد وطال الزمان حتى مات الشهود فلا شيء عليه. وقد مضى في البقرة عند
قوله تعالى: « وإن
تخالطوهم فإخوانكم » [ البقرة: 220 ] من أحكام الوصي في الإنفاق
وغيره ما فيه كفاية، والحمد لله.
قوله
تعالى: « ولا
تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا » ليس يريد أن أكل مالهم من غير إسراف جائز، فيكون له دليل
خطاب، بل المراد ولا تأكلوا أموالهم فإنه إسراف. فنهى الله سبحانه وتعالى الأوصياء
عن أكل أموال اليتامى بغير الواجب المباح لهم؛ على ما يأتي بيانه. والإسراف في
اللغة الإفراط ومجاوزة الحد. وقد تقدم في آل عمران والسرف الخطأ في الإنفاق. ومنه
قول الشاعر:
أعطوا
هنيدة يحدوها ثمانية ما في عطائهم من ولا سرف
أي ليس
يخطئون مواضع العطاء. وقال آخر:
وقال
قائلهم والخيل تخبطهم أسرفتم فأجبنا أننا سرف
قال
النضر بن شميل: السرف التبذير، والسرف الغفلة. وسيأتي لمعنى الإسراف زيادة بيان في
«
الأنعام » إن شاء
الله تعالى. « وبدارا
» معناه
ومبادرة كبرهم، وهو حال البلوغ. والبدار والمبادرة كالقتال والمقاتلة. وهو معطوف
على « إسرافا
» . و « أن يكبروا » في موضع نصب بـ « بدارا » ، أي لا تستغنم مال محجورك
فتأكله وتقول أبادر كبره لئلا يرشد ويأخذ ماله ) ؛ عن ابن عباس وغيره.
قوله
تعالى: « ومن
كان غنيا فليستعفف » بين
الله تعالى ما يحل لهم من أموالهم؛ فأمر الغني بالإمساك وأباح للوصي الفقير أن
يأكل من مال وليه بالمعروف. يقال: عف الرجل عن الشيء واستعف إذا أمسك. والاستعفاف
عن الشيء تركه. ومنه قوله تعالى: «
وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا » [ النور: 33 ] . والعفة: الامتناع عما لا
يحل ولا يجب فعله. روى أبو داود من حديث حسين المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن
جده أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني فقير ليس لي شيء ولي يتيم.
قال: فقال: ( كل من
مال يتيمك غير مسرف ولا مباذر ولا متأثل ) .
واختلف
العلماء من المخاطب والمراد بهذه الآية؟ ففي صحيح مسلم عن عائشة في قوله تعالى: « ومن كان فقيرا فليأكل
بالمعروف » قالت:
نزلت في ولي اليتيم الذي يقوم عليه ومصلحه إذا كان محتاجا جاز أن يأكل منه. في
رواية: بقدر ماله بالمعروف. وقال بعضهم: المراد اليتيم إن كان غنيا وسع عليه وأعف
عن ماله، وإن كان فقيرا أنفق عليه بقدره؛ قال ربيعة ويحيى بن سعيد. والأول قول
الجمهور وهو الصحيح؛ لأن اليتيم لا يخاطب بالتصرف في ماله لصغره ولسفهه. والله
أعلم.
واختلف
الجمهور في الأكل بالمعروف ما هو؟ فقال قوم: ( هو القرض إذا احتاج ويقضى إذا أيسر ) ؛ قاله عمر بن الخطاب وابن
عباس وعبيدة وابن جبير والشعبي ومجاهد وأبو العالية، وهو قول الأوزاعي. ولا يستسلف
أكثر من حاجته. قال عمر: ( ألا
إني أنزلت نفسي من مال الله منزلة الولي من مال اليتيم، إن استغنيت استعففت، وإن
افتقرت أكلت بالمعروف؛ فإذا أيسرت قضيت ) . روى عبدالله بن المبارك عن عاصم عن أبي العالية « ومن كان فقيرا فليأكل
بالمعروف » قال:
قرضا - ثم تلا « فإذا
دفعتم إليهم أموالهم فاشهدوا عليهم » . وقول ثان - روي عن إبراهيم وعطاء والحسن البصري والنخعي
وقتادة: لا قضاء على الوصي الفقير فيما يأكل بالمعروف؛ لأن ذلك حق النظر، وعليه
الفقهاء. قال الحسن: هو طعمة من الله له؛ وذلك أنه يأكل ما يسد جوعته، ويكتسي ما
يستر عورته، ولا يلبس الرفيع من الكتان ولا الحلل. والدليل على صحة هذا القول
إجماع الأمة على أن الإمام الناظر للمسلمين لا يجب عليه غرم ما أكل بالمعروف؛ لأن
الله تعالى قد فرض سهمه في مال الله. فلا حجة لهم في قول عمر: ( فإذا أيسرت قضيت ) - أن لو صح. وقد روي عن ابن
عباس وأبي العالية والشعبي أن ( الأكل
بالمعروف هو كالانتفاع بألبان المواشي، واستخدام العبيد، وركوب الدواب إذا لم يضر
بأصل المال؛ كما يهنأ الجرباء، وينشد الضالة، ويلوط الحوض، ويجذ التمر. فأما أعيان
الأموال وأصولها فليس للوصي أخذها ) . وهذا كله يخرج مع قول الفقهاء: إنه يأخذ بقدر أجر عمله؛
وقالت به طائفة وأن ذلك هو المعروف، ولا قضاء عليه، والزيادة على ذلك محرمة. وفرق
الحسن بن صالح بن حي - ويقال ابن حيان - بين وصي الأب والحاكم؛ فلوصي الأب أن يأكل
بالمعروف، وأما وصي الحاكم فلا سبيل له إلى المال بوجه؛ وهو القول الثالث. وقول
رابع روي عن مجاهد قال: ليس له أن يأخذ قرضا ولا غيره. وذهب إلى أن الآية منسوخة،
نسخها قوله تعالى: « يا
أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم
» [ النساء: 29 ] وهذا ليس بتجارة. وقال زيد بن
أسلم: إن الرخصة في هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: « إن الذين يأكلون أموال
اليتامى ظلما » [ النساء: 10 ] الآية. وحكى بشر بن الوليد عن
ابن يوسف قال: لا أدري، لعل هذه الآية منسوخة بقوله عز وجل: « يا أيها الذين آمنوا لا
تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم » [ النساء: 29 ] . وقول خامس - وهو الفرق بين الحضر
والسفر؛ فيمنع إذا كان مقيما معه في المصر. فإذا احتاج أن يسافر من أجله فله أن
يأخذ ما يحتاج إليه، ولا يقتني شيئا؛ قاله أبو حنيفة وصاحباه أبو يوسف ومحمد. وقول
سادس - قال أبو قلابة: فليأكل بالمعروف مما يجني من الغلة؛ فأما المال الناض فليس
له أن يأخذ منه شيئا قرضا ولا غيره.
وقول
سابع - روى عكرمة عن ابن عباس « ومن
كان فقيرا فليأكل بالمعروف » قال: ( إذا احتاج واضطر ) . وقال الشعبي: كذلك إذا كان
منه بمنزلة الدم ولحم الخنزير أخذ منه؛ فإن وجد أوفى. قال النحاس: وهذا لا معنى له
لأنه إذا اضطر هزا الاضطرار كان له أخذ ما يقيمه من مال يتيمه أو غيره من قريب أو
بعيد. وقال ابن عباس أيضا والنخعي: ( المراد أن يأكل الوصي بالمعروف من مال نفسه حتى لا يحتاج
إلى مال اليتيم؛ فيستعفف الغنى بغناه، والفقير يقتر على نفسه حتى لا يحتاج إلى مال
يتيمه ) . قال
النحاس: وهذا من أحسن ما روي في تفسير الآية؛ لأن أموال الناس محظورة لا يطلق شيء
منها إلا بحجة قاطعة.
قلت: وقد
اختار هذا القول الكيا الطبري في أحكام القرآن له؛ فقال: « توهم متوهمون من السلف بحكم
الآية أن للوصي أن يأكل من مال الصبي قدرا لا ينتهى إلى حد السرف، وذلك خلاف ما
أمر الله تعالى به من قوله: - » لا
تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم « ولا يتحقق ذلك في مال اليتيم.
فقوله: » ومن كان
غنيا فليستعفف « يرجع
إلى أكل مال نفسه دون مال اليتيم. فمعناه ولا تأكلوا أموال اليتيم مع أموالكم، بل
اقتصروا على أكل أموالكم. وقد دل عليه قوله تعالى: » ولا تأكلوا أموالهم إلى
أموالكم إنه كان حوبا كبيرا « [ النساء: 2 ] وبان بقوله تعالى: » ومن كان غثيا فليستعفف ومن كان
فقيرا فليأكل بالمعروف «
الاقتصار على البلغة، حتى لا يحتاج إلى أكل مال اليتيم؛ فهذا تمام معنى الآية. فقد
وجدنا آيات محكمات تمنع أكل مال الغير دون رضاه، سيما في حق اليتيم. وقد وجدنا هذه
الآية محتملة للمعاني، فحملها على موجب الآيات المحكمات متعين. فإن قال من ينصر
مذهب السلف: إن القضاة يأخذون أرزاقهم لأجل عملهم للمسلمين، فهلا كان الوصي كذلك
إذا عمل لليتيم، ولم لا يأخذ الأجرة بقدر عمله؟ قيل له: اعلم أن أحدا من السلف لم
يجوز للوصي أن يأخذ من مال الصبي مع غنى الوصي، بخلاف القاضي؛ فذلك فارق بين
المسألتين. وأيضا فالذي يأخذه الفقهاء والقضاة والخلفاء القائمون بأمور الإسلام لا
يتعين له مالك. وقد جعل الله ذلك المال الضائع لأصناف بأوصاف، والقضاة من جملتهم،
والوصي إنما يأخذ بعمله مال شخص معين من غير رضاه؛ وعمله مجهول وأجرته مجهولة وذلك
بعيد عن الاستحقاق. »
قلت:
وكان شيخنا الإمام أبو العباس يقول: إن كان مال اليتيم كثيرا يحتاج إلى كبير قيام
عليه بحيث يشغل الولي عن حاجاته ومهماته فرض له فيه أجر عمله، وإن كان تافها لا
يشغله عن حاجاته فلا يأكل منه شيئا؛ غير أنه يستحب له شرب قليل اللبن وأكل القليل
من الطعام والسمن، غير مضر به ولا مستكثر له، بل على ما جرت العادة بالمسامحة فيه.
قال شيخنا: وما ذكرته من الأجرة، ونيل اليسير من التمر واللبن كل واحد منهما
معروف؛ فصلح حمل الآية على ذلك. والله أعلم.
قلت:
والاحتراز عنه أفضل، إن شاء الله.
وأما ما
يأخذه قاضي القسمة ويسميه رسما ونهب أتباعه فلا أدرى له وجها ولا حلا، وهم داخلون
في عموم قوله تعالى: « إن
الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا » [ النساء: 10 ] .
قوله
تعالى: « فإذا
دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم » أمر الله تعالى بالإشهاد تنبيها على التحصين وزوالا للتهم.
وهذا الإشهاد مستحب عند طائفة من العلماء؛ فإن القول قول الوصي؛ لأنه أمين. وقالت طائفة:
هو فرض؛ وهو ظاهر الآية، وليس بأمين فيقبل قوله، كالوكيل إذا زعم أنه قد رد ما دفع
إليه أو المودع، وإنما هو أمين للأب، ومتى ائتمنه الأب لا يقبل قوله على غير. ألا
ترى أن الوكيل لو أدعى أنه قد دفع لزيد ما أمره به بعدالته لم يقبل قوله إلا
ببينة؛ فكذلك الوصي. ورأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وابن جبير أن هذا الإشهاد
إنما هو على دفع الوصي في يسره ما استقرضه من مال يتيمه حالة فقره. قال عبيدة: هذه
الآية دليل على وجوب القضاء على من أكل؛ المعنى: فإذا اقترضتم أو أكلتم فأشهدوا
إذا غرمتم. والصحيح أن اللفظ يعم هذا وسواه. والظاهر أن المراد إذا أنفقتم شيئا
على المولى عليه فأشهدوا، حتى ولو وقع خلاف أمكن إقامة البينة؛ فإن كل مال قبض على
وجه الأمانة بإشهاد لا يبرأ منه إلا بالإشهاد على دفعه، لقوله تعالى: « فأشهدوا » فإذا دفع لمن دفع إليه بغير
إشهاد فلا يحتاج في دفعها لإشهاد إن كان قبضها بغير إشهاد. والله أعلم.
كما على
الوصي والكفيل حفظ مال يتيمه والتثمير له، كذلك عليه حفظ الصبي في بدنه. فالمال
يحفظه بضبطه، والبدن يحفظه بأدبه. وقد مضى هذا المعنى في « البقرة » . وروي أن رجلا قال للنبي صلى
الله عليه وسلم: إن في حجري يتيما أآكل من ماله؟ قال: ( نعم غير متأثل مالا ولا واق
مالك بماله ) . قال:
يا رسول الله، أفأضربه؟ قال: ( ما
كنت ضاربا منه ولدك ) . قال
ابن العربي: وإن لم يثبت مسندا فليس يجد أحد عنه ملتحدا.
قوله
تعالى: « وكفى
بالله حسيبا » أي كفى
الله حاسبا لأعمالكم ومجازيا بها. ففي هذا وعيد لكل جاحد حق. والباء زائدة، وهو في
موضع رفع.
الآية:
7 ( للرجال نصيب مما ترك
الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر
نصيبا مفروضا )
لما ذكر
الله تعالى أمر اليتامى وصله بذكر المواريث. ونزلت الآية في أوس بن ثابت الأنصاري،
توفي وترك امرأة يقال لها: أم كجة وثلاث بنات له منها؛ فقام رجلان هما ابنا عم
الميت ووصياه يقال لهما: سويد وعرفجة؛ فأخذا ماله ولم يعطيا امرأته وبناته شيئا،
وكانوا في الجاهلية لا يورثون النساء ولا الصغير وإن كان ذكرا، ويقولون: لا يعطى
إلا من قاتل على ظهور الحيل، وطاعن بالرمح، وضارب بالسيف، وحاز الغنيمة. فذكرت أم
كجة ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهما، فقالا: يا رسول الله، ولدها لا
يركب فرسا، ولا يحمل كلا ولا ينكأ عدوا. فقال عليه السلام: ( انصرفا حتى أنظر ما يحدث
الله لي فيهن ) .
فأنزل الله هذه الآية ردا عليهم، وإبطالا لقولهم وتصرفهم بجهلهم؛ فإن الورثة
الصغار كان ينبغي أن يكونوا أحق بالمال من الكبار، لعدم تصرفهم والنظر في مصالحهم،
فعكسوا الحكم، وأبطلوا الحكمة فضلوا بأهوائهم، وأخطؤوا في آرائهم وتصرفاتهم.
قال
علماؤنا: في هذه الآية فوائد ثلاث: الأولى: بيان علة الميراث وهي القرابة.
الثانية: عموم القرابة كيفما تصرفت من قريب أو بعيد. الثالثة: إجمال النصيب
المفروض. وذلك مبين في آية المواريث؛ فكان في هذه الآية توطئة للحكم، وإبطال لذلك
الرأي الفاسد حتى وقع البيان الشافي.
الثالثة:
ثبت أن أبا طلحة لما تصدق بماله - بئر حاء - وذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم
قال له: (
اجعلها في فقراء أقاربك ) فجعلها
لحسان وأبي. قال أنس: ( وكانا
أقرب إليه مني ) . قال
أبو داود: بلغني عن محمد بن عبدالله الأنصاري أنه قال: أبو طلحة الأنصاري زيد بن
سهل بن الأسود بن حرام بن عمرو بن زيد مناة بن عدي بن عمرو بن مالك بن النجار.
وحسان بن ثابت بن المنذر بن حرام يجتمعان في الأب الثالث وهو حرام. وأبي بن كعب بن
قيس بن عبيد بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار. قال الأنصاري: بين أبى
طلحة وأبي ستة آباء. قال: وعمرو بن مالك يجمع حسان وأبي بن كعب وأبا طلحة. قال أبو
عمر: في هذا ما يقضي على القرابة أنها ما كانت في هذا القعدد ونحوه، وما كان دونه
فهو أحرى أن يلحقه اسم القرابة.
الرابعة:
قوله تعالى: « مما قل
منه أو كثر نصيبا مفروضا » أثبت
الله تعالى للبنات نصيبا في الميراث ولم يبين كم هو؛ فأرسل النبي صلى الله عليه
وسلم إلى سويد وعرفجة ألا يفرقا من مال أوس شيئا؛ فإن الله جعل لبناته نصيبا ولم
يبين كم هو حتى أنظر ما ينزل ربنا. فنزلت « يوصيكم الله في أولادكم » [
النساء: 11 ] إلى
قوله تعالى: « الفوز
العظيم » [ النساء: 13 ] فأرسل إليهما ( أن أعطيا أم كجة الثمن مما
ترك أوس، ولبناته الثلثين، ولكما بقية المال ) .
الخامسة:
استدل علماؤنا بهذه الآية في قسمة المتروك على الفرائض إذا كان فيه تغيير عن حاله،
كالحمام والبيت وبيدر الزيتون والدار التي تبطل منافعها بإقرار أهل السهام فيها.
فقال مالك: يقسم ذلك وإن لم يكن في نصيب أحدهم ما ينتفع به؛ لقوله تعالى: « مما قل منه أو كثر نصيبا
مفروضا » . وهو
قول ابن كنانة، وبه قال الشافعي، ونحوه قول أبي حنيفة. قال أبو حنيفة: في الدار
الصغيرة بين اثنين فطلب أحدهما القسمة وأبى صاحبه قسمت له. وقال ابن أبي ليلى: إن
كان فيهم من لا ينتفع بما يقسم له فلا يقسم. وكل قسم يدخل فيه الضرر على أحدهما
دون الآخر فإنه لا يقسم؛ وهو قول أبي ثور. قال ابن المنذر: وهو أصح القولين. ورواه
ابن القاسم عن مالك فيما ذكر ابن العربي. قال ابن القاسم: وأنا أرى أن كل ما لا
ينقسم من الدور والمنازل والحمامات، وفي قسمته الضرر ولا ينتفع به إذا قسم، أن
يباع ولا شفعة فيه؛ لقوله عليه السلام: ( الشفعة في كل ما لا يقسم فإذا وقعت الحدود فلا شفعة ) . فجعل عليه السلام الشفعة في
كل ما يتأتى فيه إيقاع الحدود، وعلق الشفعة فيما لم يقسم مما يمكن إيقاع الحدود
فيه. هذا دليل الحديث.
قلت: ومن
الحجة لهذا القول ما خرجه الدارقطني من حديث ابن جريج أخبرني صديق بن موسى عن محمد
بن أبي بكر عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لا تعضية على أهل الميراث
إلا ما حمل القسم ) . قال
أبو عبيد: هو أن يموت الرجل ويدع شيئا إن قسم بين ورثته كان في ذلك ضرر على جميعهم
أو على بعضهم. يقول: فلا يقسم؛ وذلك مثل الجوهرة والحمام والطيلسان وما أشبه ذلك.
والتعضية التفريق؛ يقال: عضيت الشيء إذا فرقته. ومنه قوله تعالى: « الذين جعلوا القرآن عضين » [ الحجر: 91 ] . وقال تعالى: « غير مضار » [ النساء: 12 ] فنفى المضارة. وكذلك قال عليه
السلام: ( لا
ضرر ولا ضرار ) .
وأيضا فإن الآية ليس فيها تعرض للقسمة، وإنما اقتضت الآية وجوب الحظ والنصيب
للصغير والكبير قليلا كان أو كثيرا، ردا على الجاهلية فقال: « للرجال نصيب » « وللنساء نصيب » [ النساء: 32 ] وهذا ظاهر جدا. فأما إبراز
ذلك النصيب فإنما يؤخذ من دليل آخر؛ وذلك بأن يقول الوارث: قد وجب لي نصيب بقول
الله عز وجل فمكنوني منه؛ فيقول له شريكه: أما تمكينك على الاختصاص فلا يمكن؛ لأنه
يؤدي إلى ضرر بيني وبينك من إفساد المال، وتغيير الهيئة، وتنقيص القيمة؛ فيقع
الترجيح. والأظهر سقوط القسمة فيه يبطل المنفعة وينقص المال مع ما ذكرناه من
الدليل. والله الموفق.
قال
الفراء: « نصيبا
مفروضا » هو
كقولك: قسما واجبا، وحقا لازما؛ فهو اسم في معنى المصدر فلهذا انتصب. الزجاج:
أنتصب على الحال. أي لهؤلاء أنصباء في حال الفرض. الأخفش: أي جعل الله لهم نصيبا.
والمفروض: المقدر: الواجب.
الآية:
8 ( وإذا حضر القسمة أولوا
القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا )
بين الله
تعالى أن من لم يستحق شيئا إرثا وحضر القسمة، وكان من الأقارب أو اليتامى والفقراء
الذين لا يرثون أن يكرموا ولا يحرموا، إن كان المال كثيرا؛ والاعتذار إليهم إن كان
عقارا أو قليلا الرضخ. وإن كان عطاء من القليل ففيه أجر عظيم؛ درهم يسبق مائة ألف.
فالآية على هذا القول محكمة؛ قاله ابن عباس. وامتثل ذلك جماعة من التابعين: عروة
بن الزبير وغيره، وأمر به أبو موسى الأشعري وروي عن ابن عباس ( أنها منسوخة نسخها قوله
تعالى: « يوصيكم
الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين » [
النساء: 11 ] ) وقال سعيد بن المسيب: نسخها
آية الميراث والوصية. وممن قال إنها منسوخة أبو مالك وعكرمة والضحاك. والأول أصح؛
فإنها مبينة استحقاق الورثة لنصيبهم، واستحباب المشاركة لمن لا نصيب له ممن حضرهم.
قال ابن جبير: ضيع الناس هذه الآية. قال الحسن: ولكن الناس شحوا. وفي البخاري عن
ابن عباس في قوله تعالى: « وإذا
حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين » قال: ( هي
محكمة وليست بمنسوخة ) . وفي
رواية قال: ( إن
ناسا يزعمون أن هذه الآية نسخت، لا والله ما نسخت ولكنها مما تهاون بها؛ هما
واليان: وال يرث وذلك الذي يرزق، ووال لا يرث وذلك الذي يقول بالمعروف، ويقول: لا
أملك لك أن أعطيك ) . قال
ابن عباس: ( أمر
الله المؤمنين عند قسمة مواريثهم أن يصلوا أرحامهم، ويتاماهم ومساكينهم من الوصية،
فإن لم تكن وصية وصل لهم من الميراث ) . قال النحاس: فهذا أحسن ما قيل في الآية، أن يكون على
الندب والترغيب في فعل الخير، والشكر لله عز وجل. وقالت طائفة: هذا الرضخ واجب على
جهة الفرض، تعطي الورثة لهذه الأصناف ما طابت به نفوسهم، كالماعون والثوب الخلق
وما خف. حكى هذا القول ابن عطية والقشيري. والصحيح أن هذا على الندب؛ لأنه لو كان
فرضا لكان استحقاقا في التركة ومشاركة في الميراث، لأحد الجهتين معلوم وللآخر
مجهول. وذلك مناقض للحكمة، وسبب للتنازع والتقاطع. وذهبت فرقة إلى أن المخاطب والمراد
في الآية المحتضرون الذين يقسمون أموالهم بالوصية، لا الورثة. وروي عن ابن عباس
وسعيد بن المسيب وابن زيد. ( فإذا
أراد المريض أن يفرق ماله بالوصايا وحضره من لا يرث ينبغي له ألا يحرمه ) . وهذا والله أعلم - يتنزل
حيث كانت الوصية واجبة، ولم تنزل آية الميراث. والصحيح الأول وعليه المعول.
فإذا كان
الوارث صغيرا لا يتصرف في ماله؛ فقالت طائفة: يعطي ولي الوارث الصغير من مال
محجوره بقدر ما يرى. وقيل: لا يعطي بل يقول لمن حضر القسمة: ليس لي شيء من هذا
المال إنما هو لليتيم، فإذا بلغ عرفته حقكم. فهذا هو القول المعروف. وهذا إذا لم
يوص الميت له بشيء؛ فإن أوصى يصرف له ما أوصى. ورأى عبيدة ومحمد بن سيرين أن الرزق
في هذه الآية أن يصنع لهم طعاما يأكلونه؛ وفعلا ذلك، ذبحا شاة من التركة، وقال
عبيدة: لولا هذه الآية لكان هذا من مالي. وروى قتادة عن يحيى بن يعمر قال: ثلاث
محكمات تركهن الناس: هذه الآية، وآية الاستئذان « يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم » [ النور: 58 ] ، وقوله: « يا أيها الناس إنا خلقناكم من
ذكر وأنثى » [ الحجرات: 13 ] .
قوله
تعالى: « منه » الضمير عائد على معنى القسمة؛ إذ
هي بمعنى المال والميراث؛ لقوله تعالى: « ثم استخرجها من وعاء أخيه » [
يوسف: 76 ] أي
السقاية؛ لأن الصواع مذكر. ومنه قوله عليه السلام: ( واتق دعوة المظلوم فإنه ليس
بينه وبين الله حجاب ) فأعاد
مذكرا على معنى الدعاء. وكذلك قوله لسويد بن طارق الجعفي حين سأل عن الخمر ( إنه ليس بدواء ولكنه داء ) فأعاد الضمير على معنى
الشراب. ومثله كثير. يقال: قاسمه المال وتقاسماه واقتسماه، والاسم القسمة مؤنثة؛
والقسم مصدر قسمت الشيء فانقسم، والموضع مقسم مثل مجلس، وتقسمهم الدهر فتقسموا، أي
فرقهم فتفرقوا. والتقسيم التفريق. والله أعلم.
قوله
تعالى: « وقولوا
لهم قولا معروفا » قال
سعيد بن جبير: يقال لهم خذوا بورك لكم. وقيل: قولوا مع الرزق وددت أن لو كان أكثر
من هذا. وقيل: لا حاجة مع الرزق إلى عذر، نعم إن لم يصرف إليهم شيء فلا أقل من قول
جميل ونوع اعتذار.
الآية:
9 ( وليخش الذين لو تركوا من
خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا )
قوله
تعالى: « وليخش
» حذفت
الألف من « ليخش » للجزم بالأمر، ولا يجوز عند
سيبويه إضمار لام الأمر قياسا على حروف الجر إلا في ضرورة الشعر. وأجاز الكوفيون
حذف اللام مع الجزم؛ وأنشد الجميع:
محمد تفد
نفسك كل نفس إذا ما خفت من شيء تبالا
أراد
لتفد، ومفعول « يخش » محذوف لدلالة الكلام عليه. و « خافوا » جواب « لو » . التقدير لو تركوا لخافوا.
ويجوز حذف اللام في جواب « لو » . وهذه الآية قد اختلف العلماء
في تأويلها؛ فقالت طائفة: ( هذا
وعظ للأوصياء، أي افعلوا باليتامى ما تحبون أن يفعل بأولادكم من بعدكم ) ؛ قاله ابن عباس. ولهذا قال
الله تعالى: « إن
الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما » [
النساء: 10 ] .
وقالت طائفة: المراد جميع الناس، أمرهم باتقاء الله في الأيتام وأولاد الناس؛ وإن
لم يكونوا في حجورهم. وأن يشددوا لهم القول كما يريد كل واحد منهم أن يفعل بولده
بعده. ومن هذا ما حكاه الشيباني قال: كنا على قسطنطينية في عسكر مسلمة بن
عبدالملك، فجلسنا يوما في جماعة من أهل العلم فيهم ابن الديلمي، فتذاكروا ما يكون
من أهوال آخر الزمان. فقلت له: يا أبا بشر، ودي ألا يكون لي ولد. فقال لي: ما عليك
! ما من نسمة قضى الله بخروجها من رجل إلا خرجت، أحب أو كره، ولكن إذا أردت أن
تأمن عليهم فاتق الله في غيرهم؛ ثم تلا الآية. وفي رواية: ألا أدلك على أمر إن أنت
أدركته نجاك الله منه، وإن تركت ولدا من بعدك حفظهم الله فيك؟ فقلت: بلى ! فتلا
هذه الآية « وليخش
الذين لو تركوا » إلى
آخرها.
قلت: ومن
هذا المعنى ما روى محمد بن كعب القرظي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: ( من
أحسن الصدقة جاز على الصراط ومن قضى حاجة أرملة أخلف الله في تركته ) . وقول ثالث قاله جمع من المفسرين:
هذا في الرجل يحضره الموت فيقول له من بحضرته عند وصيته: إن الله سيرزق ولدك فأنظر
لنفسك، وأوص بمالك في سبيل الله، وتصدق وأعتق. حتى يأتي على عامة ماله أو يستغرقه
فيضر ذلك بورثته؛ فنهوا عن ذلك. فكأن الآية تقول لهم: ( كما تخشون على ورثتكم
وذريتكم بعدكم، فكذلك فاخشوا على ورثة غيركم ولا تحملوه على تبذير ماله ) ؛ قاله ابن عباس وقتادة
والسدي وابن جبير والضحاك ومجاهد. روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: ( إذا حضر الرجل الوصية فلا
ينبغي أن يقول أوص بمالك فإن الله تعالى رازق ولدك، ولكن يقول قدم لنفسك واترك لولدك
) ؛ فذلك
قوله تعالى: «
فليتقوا الله » . وقال
مقسم وحضرمي: نزلت في عكس هذا، وهو أن يقول للمحتضر من يحضره: أمسك على ورثتك،
وأبق لولدك فليس أحد أحق بمالك من أولادك، وينهاه عن الوصية، فيتضرر بذلك ذوو
القربى وكل من يستحق أن يوصى له؛ فقيل لهم: كما تخشون على ذريتكم وتسرون بأن يحسن
إليهم، فكذلك سددوا القول في جهة المساكين واليتامى، واتقوا الله في ضررهم. وهذان
القولان مبنيان على وقت وجوب الوصية قبل نزول آية المواريث؛ روي عن سعيد بن جبير
وابن المسيب. قال ابن عطية: وهذان القولان لا يطرد واحد منهما في كل الناس، بل الناس
صنفان؛ يصلح لأحدهما القول الواحد، ولآخر القول الثاني. وذلك أن الرجل إذا ترك
ورثته مستقلين بأنفسهم أغنياء حسن أن يندب إلى الوصية، ويحمل على أن يقدم لنفسه.
وإذا ترك ورثة ضعفاء مهملين مقلين حسن أن يندب إلى الترك لهم والاحتياط؛ فإن أجره
في قصد ذلك كأجره في المساكين، فالمراعاة إنما هو الضعف فيجب أن يمال معه.
قلت:
وهذا التفصيل صحيح؛ لقوله عليه السلام لسعد: ( إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون
الناس ) . فإن
لم يكن للإنسان ولد، أو كان وهو غني مستقل بنفسه وماله عن أبيه فقد أمن عليه؛
فالأولى بالإنسان حينئذ تقديم ماله بين يديه حتى لا ينفقه من بعده فيما لا يصلح،
فيكون وزره عليه.
قوله
تعالى: «
وليقولوا قولا سديدا » السديد:
العدل والصواب من القول؛ أي مروا المريض بأن يخرج من ماله ما عليه من الحقوق
الواجبة، ثم يوصي لقرابته بقدر ما لا يضر بورثته الصغار. وقيل: المعنى قولوا للميت
قولا عدلا، وهو أن يلقنه بلا إله إلا الله، ولا يأمره بذلك، ولكن يقول ذلك في نفسه
حتى يسمع منه ويتلقن. هكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لقنوا موتاكم لا إله إلا
الله ) ولم
يقل مروهم؛ لأنه لو أمر بذلك لعله يغضب ويجحد. وقيل: المراد اليتيم؛ أن لا ينهروه
ولا يستخفوا به.
الآية:
10 ( إن الذين يأكلون أموال
اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا )
قوله
تعالى: « إن
الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما » روي أنها نزلت في رجل من غطفان يقال له: مرثد بن زيد، ولي
مال ابن أخيه وهو يتيم صغير فأكله؛ فأنزل الله تعالى فيه هذه الآية، قال مقاتل بن
حيان؛ ولهذا قال الجمهور: إن المراد الأوصياء الذين يأكلون ما لم يبح لهم من مال
اليتيم. وقال ابن زيد: نزلت في الكفار الذين كانوا لا يورثون النساء ولا الصغار.
وسمي أخذ المال على كل وجوهه أكلا؛ لما كان المقصود هو الأكل وبه أكثر إتلاف
الأشياء. وخص البطون بالذكر لتبيين نقصهم، والتشنيع عليهم بضد مكارم الأخلاق. وسمى
المأكول نارا بما يؤول إليه؛ كقوله تعالى: « إني أراني أعصر خمرا » [
يوسف: 36 ] أي
عنبا. وقيل: نارا أي حراما؛ لأن الحرام يوجب النار، فسماه الله تعالى باسمه. وروى
أبو سعيد الخدري قال: حدثنا النبي صلى الله عليه وسلم عن ليلة أسري به قال: ( رأيت قوما لهم مشافر كمشافر
الإبل وقد وكل بهم من يأخذ بمشافرهم ثم يجعل في أفواههم صخرا من نار يخرج من
أسافلهم فقلت يا جبريل من هؤلاء قال هم الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما ) . فدل الكتاب والسنة على أن
أكل مال اليتيم من الكبائر. وقال صلى الله عليه وسلم: ( اجتنبوا السبع الموبقات ) وذكر فيها ( وأكل مال اليتيم ) .
قوله
تعالى: «
وسيصلون سعيرا » وقرأ
ابن عامر وعاصم في رواية ابن عباس بضم الياء على اسم ما لم يسم فاعله؛ من أصلاه
الله حر النار إصلاء. قال الله تعالى: « سأصليه سقر » [
المدثر: 26 ] . وقرأ
أبو حيوة بضم الياء وفتح الصاد وتشديد اللام من التصلية لكثرة الفعل مرة بعد أخرى.
دليله قوله تعالى: « ثم
الجحيم صلوه » [ الحاقة: 31 ] . ومنه قولهم: صليته مرة بعد
أخرى. وتصليت: استدفأت بالنار. قال:
وقد
تصليت حر حربهم كما تصلى المقرور من قرس
وقرأ
الباقون بفتح الياء من صلي النار يصلاها صلى وصلاة. قال الله تعالى: « لا يصلاها إلا الأشقى » [ الليل: 15 ] . والصلاء هو التسخن بقرب النار
أو مباشرتها؛ ومنه قول الحارث بن عباد:
لم أكن
من جناتها علم الله وإني لحرها اليوم صال
والسعير:
الجمر المشتعل.
وهذه آية
من آيات الوعيد، ولا حجة فيها لمن يكفر بالذنوب. والذي يعتقده أهل السنة أن ذلك
نافذ على بعض العصاة فيصلى ثم يحترق ويموت؛ بخلاف أهل النار لا يموتون ولا يحيون،
فكأن هذا جمع بين الكتاب والسنة، لئلا يقع الخبر فيهما على خلاف مخبره، ساقط
بالمشيئة عن بعضهم؛ لقوله تعالى: « إن
الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء » [ النساء: 48 ] . وهكذا القول في كل ما يرد
عليك من هذا المعنى. روى مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: ( أما
أهل النار الذين هم أهلها فيها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون ولكن ناس أصابتهم
النار بذنوبهم - أو قال بخطاياهم - فأماتهم الله إماتة حتى إذا كانوا فحما أذن
بالشفاعة فجيء بهم ضبائر ضبائر فبثوا على أنهار الجنة ثم قيل يا أهل الجنة أفيضوا
عليهم فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل ) . فقال رجل من القوم كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد
كان يرعى بالبادية.
الآية [ 11 ] في الصفحة التالية ...
الآيات:
11 - 14 ( يوصيكم الله في أولادكم
للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة
فلها النصف ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد
وورثه أبواه فلأمه الثلث فإن كان له إخوة فلأمه السدس من بعد وصية يوصي بها أو دين
آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضة من الله إن الله كان عليما
حكيما، ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما
تركن من بعد وصية يوصين بها أو دين ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن
كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين وإن كان رجل يورث
كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم
شركاء في الثلث من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار وصية من الله والله عليم
حليم، تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين
فيها وذلك الفوز العظيم، ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها
وله عذاب مهين )
قوله
تعالى: « يوصيكم
الله في أولادكم » بين
تعالى في هذه الآية ما أجمله في قوله: « للرجال نصيب » [
النساء: 32 ] و « للنساء نصيب » فدل هذا على جواز تأخير البيان
عن وقت السؤال. وهذه الآية ركن من أركان الدين، وعمدة من عمد الأحكام، وأم من
أمهات الآيات؛ فإن الفرائض عظيمة القدر حتى أنها ثلث العلم، وروي نصف العلم. وهو
أول علم ينزع من الناس وينسى. رواه الدارقطني عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: (
تعلموا الفرائض وعلموه الناس فإنه نصف العلم وهو أول شيء ينسى وهو أول شيء ينتزع
من أمتي ) . وروي
أيضا عن عبدالله بن مسعود قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( تعلموا القرآن وعلموه الناس
وتعلموا الفرائض وعلموها الناس وتعلموا العلم وعلموه الناس فإني امرؤ مقبوض وإن
العلم سيقبض وتظهر الفتن حتى يختلف الاثنان في الفريضة لا يجدان من يفصل بينهما ) . وإذا ثبت هذا فاعلم أن
الفرائض كان جل علم الصحابة، وعظيم مناظرتهم، ولكن الخلق ضيعوه. وقد روى مطرف عن
مالك، قال عبدالله بن مسعود: ( من لم
يتعلم الفرائض والطلاق والحج فبم يفضل أهل البادية؟ ) وقال ابن وهب عن مالك: كنت
أسمع ربيعة يقول: ( من
تعلم الفرائض من غير علم بها من القرآن ما أسرع ما ينساها ) . قال مالك: وصدق.
روى أبو
داود والدارقطني عن عبدالله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: ( العلم
ثلاثة وما سوى ذلك فهو فضل: آية محكمة أو سنة قائمة أو فريضة عادلة ) . قال الخطابي أبو سليمان:
الآية المحكمة هي كتاب الله تعالى: واشترط فيها الإحكام؛ لأن من الآي ما هو منسوخ
لا يعمل به، وإنما يعمل بناسخه. والسنة القائمة هي الثابتة مما جاء عنه صلى الله
عليه وسلم من السنن الثابتة. وقوله: ( أو فريضة عادلة ) يحتمل وجهين من التأويل:
أحدهما:
أن يكون من العدل في القسمة؛ فتكون معدلة عل الأنصباء والسهام المذكورة في الكتاب
والسنة.
والوجه
الآخر: أن تكون مستنبطة من الكتاب والسنة ومن معناهما؛ فتكون هذه الفريضة تعدل ما
اخذ من الكتاب والسنة إذ كانت في معنى ما أخذ عنهما نصا. روى عكرمة قال: أرسل ابن
عباس إلى زيد بن ثابت يسأل عن امرأة تركت زوجها وأبويها. قال: للزوج النصف، وللأم
ثلث ما بقي. فقال: تجده في كتاب الله أو تقول برأي؟ قال: أقوله برأي؛ لا أفضل أما
على أب. قال أبو سليمان: فهذا من باب تعديل الفريضة إذا لم يكن فيها نص؛ وذلك أنه
اعتبرها بالمنصوص عليه، وهو قوله تعالى: « وورثه أبواه فلأمه الثلث » . فلما وجد نصيب الأم الثلث، وكان باقي المال هو الثلثان
للأب، قاس النصف الفاضل من المال بعد نصيب الزوج على كل المال إذا لم يكن مع
الوالدين ابن أو ذو سهم؛ فقسمه بينهما على ثلاثة، للأم سهم وللأب سهمان وهو
الباقي. وكان هذا أعدل في القسمة من أن يعطي الأم من النصف الباقي ثلث جميع المال،
وللأب ما بقي وهو السدس، ففضلها عليه فيكون لها وهي مفضولة في أصل الموروث أكثر مما
للأب وهو المقدم والمفضل في الأصل. وذلك أعدل مما ذهب إليه ابن عباس من توفير
الثلث على الأم، وبخس الأب حقه برده إلى السدس؛ فترك قوله وصار عامة الفقهاء إلى
زيد. قال أبو عمر: وقال عبدالله بن عباس رضي الله عنه في زوج وأبوين: ( للزوج النصف، وللأم ثلث جميع
المال، وللأب ما بقي ) . وقال
في امرأة وأبوين: (
للمرأة الربع، وللأم ثلث جميع المال، والباقي للأب ) . وبهذا قال شريح القاضي
ومحمد بن سيرين وداود بن علي، وفرقة منهم أبو الحسن محمد بن عبدالله الفرضي المصري
المعروف بابن اللبان في المسألتين جميعا. وزعم أنه قياس قول علي في المشتركة. وقال
في موضع آخر: إنه قد روي ذلك عن علي أيضا. قال أبو عمر: المعروف المشهور عن علي
وزيد وعبدالله وسائر الصحابة وعامة العلماء ما رسمه مالك. ومن الحجة لهم على ابن
عباس: ( أن
الأبوين إذا اشتركا في الوراثة، ليس معهما غيرهما، كان للأم الثلث وللأب الثلثان ) . وكذلك إذا اشتركا في النصف
الذي يفضل عن الزوج، كانا فيه كذلك على ثلث وثلثين. وهذا صحيح في النظر والقياس.
واختلفت
الروايات في سبب نزول آية المواريث؛ فروى الترمذي وأبو داود وابن ماجة والدارقطني
عن جابر بن عبدالله أن امرأة سعد بن الربيع قالت: يا رسول الله، إن سعدا هلك وترك
بنتين وأخاه، فعمد أخوه فقبض ما ترك سعد، وإنما تنكح النساء على أموالهن؛ فلم
يجبها في مجلسها ذلك. ثم جاءته فقالت: يا رسول الله، ابنتا سعد؟ فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: ( ادع
لي أخاه ) فجاء
فقال له: ( ادفع
إلى ابنته الثلثين وإلى امرأته الثمن ولك ما بقي ) . لفظ أبي داود. في رواية الترمذي وغيره: فنزلت آية
المواريث. قال: هذا حديث صحيح. وروى جابر أيضا قال: عادني رسول الله صلى الله عليه
وسلم وأبو بكر في بني سلمة يمشيان، فوجداني لا أعقل، فدعا بماء فتوضأ، ثم رش علي
منه فأفقت. فقلت: كيف أصنع في مالي يا رسول الله؟ فنزلت « يوصيكم الله في أولادكم » . أخرجاه في الصحيحين. وأخرجه
الترمذي وفيه « فقلت
يا نبي الله كيف أقسم مالي بين ولدي؟ فلم يرد علي شيئا فنزلت » يوصيكم الله في أولادكم للذكر
مثل حظ الأنثيين « الآية.
قال: » حديث
حسن صحيح « . وفي
البخاري عن ابن عباس ( أن
نزول ذلك كان من أجل أن المال كان للولد، والوصية للوالدين؛ فنسخ ذلك بهذه الآيات ) . وقال مقاتل والكلبي: نزلت
في أم كجة؛ وقد ذكرناها. السدي: نزلت بسبب بنات عبدالرحمن بن ثابت أخي حسان بن
ثابت. وقيل: إن أهل الجاهلية كانوا لا يورثون إلا من لاقى الحروب وقاتل العدو؛
فنزلت الآية تبيينا أن لكل صغير وكبير حظه. ولا يبعد أن يكون جوابا للجميع؛ ولذلك
تأخر نزولها. والله أعلم. قال الكيا الطبري: وقد ورد في بعض الآثار أن ما كانت
الجاهلية تفعله من ترك توريث الصغير كان في صدر الإسلام إلى أن نسخته هذه الآية
ولم يثبت عندنا اشتمال الشريعة على ذلك، بل ثبت خلافه؛ فإن هذه الآية نزلت في ورثة
سعد بن الربيع. وقيل: نزلت في ورثة ثابت بن قيس بن شماس. والأول أصح عند أهل
النقل. فاسترجع رسول الله صلى الله عليه وسلم الميراث من العم، ولو كان ذلك ثابتا
من قبل في شرعنا ما استرجعه. ولم يثبت قط في شرعنا أن الصبي ما كان يعطى الميراث
حتى يقاتل على الفرس ويذب عن الحريم. »
قلت:
وكذلك قال القاضي أبو بكر بن العربي قال: ودل نزول هذه الآية على نكتة بديعة؛ وهو
أن ما كانت عليه الجاهلية تفعله من أخذ المال لم يكن في صدر الإسلام شرعا مسكوتا
مقرا عليه؛ لأنه لو كان شرعا مقرا عليه لما حكم النبي صلى الله عليه وسلم على عم
الصبيتين برد ما أخذ من مالهما؛ لأن الأحكام إذا مضت وجاء النسخ بعدها إنما يؤثر
في المستقبل فلا ينقض به ما تقدم وإنما كانت ظلامة رفعت. قاله ابن العربي.
قوله
تعالى: « يوصيكم
الله في أولادكم » قالت
الشافعية: قول الله تعالى « يوصيكم
الله في أولادكم » حقيقة
في أولاد الصلب، فأما ولد الابن فإنما يدخل فيه بطريق المجاز؛ فإذا حلف أن لا ولد
له وله ولد ابن لم يحنث؛ وإذا أوصى لولد فلان لم يدخل فيه ولد ولده. وأبو حنيفة
يقول: إنه يدخل فيه إن لم يكن له ولد صلب. ومعلوم أن الألفاظ لا تتغير بما قالوه.
قال ابن
المنذر: لما قال تعالى: « يوصيكم
الله في أولادكم » فكان
الذي يجب على ظاهر الآية أن يكون الميراث لجميع الأولاد، المؤمن منهم والكافر؛
فلما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لا يرث المسلم الكافر علم أن
الله أراد بعض الأولاد دون بعض، فلا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم على
ظاهر الحديث.
قلت:
ولما قال تعالى: « في
أولادكم » دخل
فيهم الأسير في أيدي الكفار؛ فإنه يرث ما دام تعلم حياته على الإسلام. وبه قال
كافة أهل العلم، إلا النخعي فإنه قال: لا يرث الأسير. فأما إذا لم تعلم حياته
فحكمه حكم المفقود. ولم يدخل في عموم الآية ميراث النبي صلى الله عليه وسلم لقوله:
( لا نورث ما تركنا صدقة ) وسيأتي بيانه في « مريم » إن
شاء الله تعالى. وكذلك لم يدخل القاتل عمدا لأبيه أو جده أو أخيه أو عمه بالسنة
وإجماع الأمة، وأنه لا يرث من مال من قتله ولا من ديته شيئا؛ على ما تقدم بيانه في
البقرة. فإن قتله خطأ فلا ميراث له من الدية، ويرث من المال في قول مالك، ولا يرث
في قول الشافعي وأحمد وسفيان وأصحاب الرأي، من المال ولا من الدية شيئا؛ حسبما
تقدم بيانه في البقرة. وقول مالك أصح، وبه قال إسحاق وأبو ثور. وهو قول سعيد بن
المسيب وعطاء بن أبي رباح ومجاهد والزهري والأوزاعي وابن المنذر؛ لأن ميراث من
ورثه الله تعالى في كتابه ثابت لا يستثنى منه إلا بسنة أو إجماع. وكل مختلف فيه
فمردود إلى ظاهر الآيات التي فيها المواريث.
اعلم
أن الميراث كان يستحق في أول الإسلام بأسباب: منها الحلف والهجرة والمعاقدة، ثم
نسخ على ما يأتي بيانه في هذه السورة عند قوله تعالى: « ولكل جعلنا موالي » [ النساء: 33 ] . إن شاء الله تعالى. وأجمع
العلماء على أن الأولاد إذا كان معهم من له فرض مسمى أعطيه، وكان ما بقي من المال
للذكر مثل حظ الأنثيين؛ لقوله عليه السلام: ( ألحقوا الفرائض بأهلها ) رواه
الأئمة. يعني الفرائض الواقعة في كتاب الله تعالى. وهي ستة: النصف والربع والثمن
والثلثان والثلث والسدس. فالنصف فرض خمسة: ابنة الصلب، وابنة الابن، والأخت الشقيقة،
والأخت للأب، والزوج. وكل ذلك إذا انفردوا عمن يحجبهم عنه. والربع فرض الزوج مع
الحاجب، وفرض الزوجة والزوجات مع عدمه. والثمن فرض الزوجة والزوجات مع الحاجب.
والثلثان فرض أربع: الاثنتين فصاعدا من بنات الصلب، وبنات الابن، والأخوات
الأشقاء، أو للأب. وكل هؤلاء إذا انفردن عمن يحجبهن عنه. والثلث فرض صنفين: الأم
مع عدم الولد، وولد الابن، وعدم الاثنين فصاعدا من الإخوة والأخوات، وفرض الاثنين
فصاعدا من ولد الأم. وهذا هو ثلث كل المال. فأما ثلث ما يبقى فذلك للأم في مسألة
زوج أو زوجة وأبوان؛ فللأم فيها ثلث ما يبقى. وقد تقدم بيانه. وفي مسائل الجد مع
الإخوة إذا كان معهم ذو سهم وكان ثلث ما يبقى أحظى له. والسدس فرض سبعة: الأبوان
والجد مع الولد وولد الابن، والجدة والجدات إذا اجتمعن، وبنات الابن مع بنت الصلب،
والأخوات للأب مع الأخت الشقيقة، والواحد من ولد الأم ذكرا كان أو أنثى. وهذه
الفرائض كلها مأخوذة من كتاب الله تعالى إلا فرض الجدة والجدات فإنه مأخوذ من
السنة. والأسباب الموجبة لهذه الفروض بالميراث ثلاثة أشياء: نسب ثابت، ونكاح
منعقد، وولاء عتاقة. وقد تجتمع الثلاثة الأشياء فيكون الرجل زوج المرأة ومولاها
وابن عمها. وقد يجتمع فيه منها شيئان لا أكثر، مثل أن يكون زوجها ومولاها، أو
زوجها وابن عمها؛ فيرث بوجهين ويكون له جميع المال إذا انفرد: نصفه بالزوجية ونصفه
بالولاء أو بالنسب. ومثل أن تكون المرأة ابنة الرجل ومولاته، فيكون لها أيضا المال
إذا انفردت: نصفه بالنسب ونصفه بالولاء.
ولا ميراث
إلا بعد أداء الدين والوصية؛ فإذا مات المتوفى أخرج من تركته الحقوق المعينات، ثم
ما يلزم من تكفينه وتقبيره، ثم الديون على مراتبها، ثم يخرج من الثلث الوصايا، وما
كان في معناها على مراتبها أيضا، ويكون الباقي ميراثا بين الورثة. وجملتهم سبعة
عشر. عشرة من الرجال: الابن وابن الابن وإن سفل، والأب وأب الأب وهو الجد وإن علا،
والأخ وابن الأخ، والعم وابن العم، والزوج ومولى النعمة. ويرث من النساء سبع:
البنت وبنت الابن وان سفلت، والأم والجدة وإن علت، والأخت والزوجة، ومولاة النعمة
وهي المعتقة. وقد نظمهم بعض الفضلاء فقال:
والوارثون
إن أردت جمعهم مع الإناث الوارثات معهم
عشرة
من جملة الذكران وسبع أشخاص من النسوان
وهم،
وقد حصرتهم في النظم الابن وابن الابن وابن العم
والأب
منهم وهو في الترتيب والجد من قبل الأخ القريب
وابن
الأخ الأدنى أجل والعم والزوج والسيد ثم الأم
وابنة
الابن بعدها والبنت وزوجة وجدة وأخت
والمرأة
المولاة أعني المعتقه خذها إليك عدة محققه
لما
قال تعالى: « في
أولادكم »
يتناول كل ولد كان موجودا أو جنينا في بطن أمه، دنيا أو بعيدا، من الذكور أو
الإناث ما عدا الكافر كما تقدم. قال بعضهم: ذلك حقيقة في الأذنين مجاز في
الأبعدين. وقال بعضهم: هو حقيقة في الجميع؛ لأنه من التولد، غير أنهم يرثون على
قدر القرب منه؛ قال الله تعالى: « يا بني
آدم » [ الأعراف: 26 ] . وقال عليه السلام: ( أنا
سيد ولد آدم ) قال: ( يا بني إسماعيل ارموا فإن أباكم كان راميا ) إلا أنه غلب عرف
الاستعمال في إطلاق ذلك على الأعيان الأدنين على تلك الحقيقة؛ فإن كان في ولد
الصلب ذكر لم يكن لولد الولد شيء، وهذا مما أجمع عليه أهل العلم. وإن لم يكن في
ولد الصلب ذكر وكان في ولد الولد بدء بالبنات للصلب، فأعطين إلى مبلغ الثلثين، ثم
أعطي الثلث الباقي لولد الولد إذا استووا في القعدد، أو كان الذكر أسفل ممن فوقه
من البنات، للذكر مثل حظ الأنثيين. هذا قول مالك والشافعي وأصحاب الرأي. وبه قال
عامة أهل العلم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم؛ إلا ما يروى عن ابن مسعود أنه
قال: ( إن كان الذكر من ولد الولد بإزاء الولد الأنثى رد عليها، وإن كان أسفل منها
يرد عليها ) ؛ مراعيا في ذلك قوله تعالى: « فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك » [ النساء:11 ] فلم يجعل للبنات وإن كثرن
إلا الثلثين.
قلت:
هكذا ذكر ابن العربي هذا التفصيل عن ابن مسعود، والذي ذكره ابن المنذر والباجي
عنه: ( أن ما فضل عن بنات الصلب لبني الابن دون بنات الابن ) ، ولم يفصلا. وحكاه
ابن المنذر عن أبي ثور. ونحوه حكى أبو عمر، قال أبو عمر: وخالف في ذلك ابن مسعود
فقال: وإذا استكمل البنات الثلثين فالباقي لبني الابن دون أخواتهم، ودون من فوقهم
من بنات الابن، ومن تحتهم. وإلى هذا ذهب أبو ثور وداود بن علي. وروي مثله عن
علقمة. وحجة من ذهب هذا المذهب حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال: ( اقسموا المال بين أهل الفرائض على كتاب الله فما أبقت الفرائض فلأولى رجل
ذكر ) خرجه البخاري ومسلم وغيرهما. ومن حجة الجمهور قول الله عز وجل: « يوصيكم الله في أولادكم للذكر
مثل حظ الأنثيين » لأن
ولد الولد ولد. ومن جهة النظر والقياس أن كل من يعصب من في درجته في جملة المال
فواجب أن يعصبه في الفاضل من المال؛ كأولاد الصلب. فوجب بذلك أن يشرك ابن الابن
أخته، كما يشرك الابن للصلب أخته. فإن احتج لأبي ثور وداود أن بنت الابن لما لم
ترث شيئا من الفاضل بعد الثلثين منفردة لم يعصبها أخوها. فالجواب أنها إذا كان
معها أخوها قويت به وصارت عصبة معه. وظاهر قوله تعالى: « يوصيكم الله في أولادكم » وهي من الولد.
قوله
تعالى: « فإن كن
نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك » الآية. فرض الله تعالى للواحدة النصف، وفرض لما فوق
الثنتين الثلثين، ولم يفرض للثنتين فرضا منصوصا في كتابه؛ فتكلم العلماء في الدليل
الذي يوجب لهما الثلثين ما هو؟ فقيل: الإجماع وهو مردود؛ لأن الصحيح عن ابن عباس
أنه أعطى البنتين النصف؛ لأن الله عز وجل قال: « فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك » [ النساء: 11 ] وهذا شرط وجزاء. قال: فلا
أعطي البنتين الثلثين. وقيل: أعطيتا الثلثين بالقياس على الأختين؛ فإن الله سبحانه
لما قال في آخر السورة: « وله
أخت فلها نصف ما ترك » [ النساء: 176 ] وقال تعالى: « فإن كانتا اثنتين فلهما
الثلثان مما ترك » [ النساء: 176 ] فألحقت الابنتان بالأختين
في الاشتراك في الثلثين، وألحقت الأخوات إذا زدن على اثنتين بالبنات في الاشتراك في
الثلثين. واعترض هذا بأن ذلك منصوص عليه في الأخوات، والإجماع منعقد عليه فهو مسلم
بذلك. وقيل: في الآية ما يدل على أن للبنتين الثلثين، وذلك أنه لما كان للواحدة مع
أخيها الثلث إذا انفردت، علمنا أن للاثنتين الثلثين. احتج بهذه الحجة، وقال هذه
المقالة إسماعيل القاضي وأبو العباس المبرد. قال النحاس: وهذا الاحتجاج عند أهل
النظر غلط؛ لأن الاختلاف في البنتين وليس في الواحدة. فيقول مخالفه: إذا ترك بنتين
وابنا فللبنتين النصف؛ فهذا دليل على أن هذا فرضهم. وقيل: « فوق » زائدة أي إن كن نساء اثنتين.
كقوله تعالى: «
فاضربوا فوق الأعناق » [ الأنفال: 12 ] أي الأعناق. ورد هذا القول
النحاس وابن عطية وقالا: هو خطأ؛ لأن الظروف وجميع الأسماء لا يجوز في كلام العرب
أن تزاد لغير معنى. قال ابن عطية: ولأن قوله تعالى: « فاضربوا فوق الأعناق » هو الفصيح، وليست فوق زائدة
بل هي محكمة للمعنى؛ لأن ضربة العنق إنما يجب أن تكون فوق العظام في المفصل دون
الدماغ. كما قال دريد بن الصمة: أخفض عن الدماغ وارفع عن العظم، فهكذا كنت أضرب
أعنان الأبطال. وأقوى الاحتجاج في أن للبنتين الثلثين الحديث الصحيح المروي في سبب
النزول. ولغة أهل الحجاز وبني أسد الثلث والربع إلى العشر. ولغة بني تميم وربيعة
الثلث بإسكان اللام إلى العشر. ويقال: ثلث القوم أثلثهم، وثلثت الدراهم أثلثها إذا
تممتها ثلاثة، وأثلثت هي؛ إلا أنهم قالوا في المائة والألف: أمأيتها وآلفتها وأمأت
وآلفت.
قوله
تعالى: « وإن
كانت واحدة فلها النصف » قرأ
نافع وأهل المدينة « واحدة
»
بالرفع على معنى وقعت وحدثت، فهي كانت التامة؛ كما قال الشاعر:
إذا
كان الشتاء فأدفئوني فإن الشيخ يهرمه الشتاء
والباقون
بالنصب. قال النحاس: وهذه قراءة حسنة. أي وإن كانت المتروكة أو المولودة « واحدة » مثل « فإن كن نساء » . فإذا كان مع بنات الصلب
بنات ابن، وكان بنات الصلب اثنتين فصاعدا حجبن بنات الابن أن يرثن بالفرض؛ لأنه لا
مدخل لبنات الابن أن يرثن بالفرض في غير الثلثين. فإن كانت بنت الصلب واحدة فإن
ابنة الابن أو بنات الابن يرثن مع بنات الصلب تكملة الثلثين؛ لأنه فرض يرثه
البنتان فما زاد. وبنات الابن يقمن مقام البنات عند عدمهن. وكذلك أبناء البنين
يقومون مقام البنين في الحجب والميراث. فلما عدم من يستحق منهن السدس كان ذلك لبنت
الابن، وهي أولى بالسدس من الأخت الشقيقة للمتوفى. على هذا جمهور الفقهاء من
الصحابة والتابعين؛ إلا ما يروى عن أبي موسى وسليمان بن أبي ربيعة أن للبنت النصف،
والنصف الثاني للأخت، ولا حق في ذلك لبنت الابن. وقد صح عن أبي موسى ما يقتضي أنه
رجع عن ذلك؛ رواه البخاري: حدثنا آدم حدثنا شعبة حدثنا أبو قيس سمعت هزيل بن
شرحبيل يقول: سئل أبو موسى عن ابنة وابنة ابن وأخت. فقال: ( للابنة النصف، وللأخت
النصف ) ؛ وأت ابن مسعود فإنه سيتابعني. فسئل ابن مسعود وأخبر بقول أبي موسى فقال:
( لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين ! أقضي فيها بما قضى النبي صلى الله عليه
وسلم: للابنة النصف، ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين، وما بقي فللأخت ) . فأتينا
أبا موسى فأخبرناه بقول ابن مسعود فقال: ( لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم ) .
فإن كان مع بنت الابن أو بنات الابن ابن في درجتها أو أسفل منها عصبها، فكان النصف
الثاني بينهما، للذكر مثل حظ الأنثيين بالغا ما بلغ - خلافا لابن مسعود على ما
تقدم إذا استوفى بنات الصلب، أو بنت الصلب وبنات الابن الثلثين وكذلك يقول في
الأخت لأب وأم، وأخوات وإخوة لأب: للأخت من الأب والأم النصف، والباقي للإخوة
والأخوات، ما لم يصبهن من المقاسمة أكثر من السدس؛ فإن أصابهن أكثر من السدس
أعطاهن السدس تكملة الثلثين، ولم يزدهن على ذلك. وبه قال أبو ثور.
إذا
مات الرجل وترك زوجته حبلى فإن المال يوقف حتى يتبين ما تضع. وأجمع أهل العلم على
أن الرجل إذا مات وزوجته حبلى أن الولد الذي في بطنها يرث ويورث إذا خرج حيا
واستهل. وقالوا جميعا: إذا خرج ميتا لم يرث؛ فإن خرج حيا ولم يستهل فقالت طائفة:
لا ميراث له وإن تحرك أو عطس ما لم يستهل. هذا قول مالك والقاسم بن محمد وابن
سيرين والشعبي والزهري وقتادة. وقالت طائفة: إذا عرفت حياة المولود بتحريك أو صياح
أو رضاع أو نفس فأحكامه أحكام الحي. هذا قول الشافعي وسفيان الثوري والأوزاعي. قال
ابن المنذر: الذي قال الشافعي يحتمل النظر، غير أن الخبر يمنع منه وهو قول رسول
الله صلى الله عليه وسلم: ( ما من مولود يولد إلا نخسه الشيطان فيستهل صارخا من
نخسة الشيطان إلا ابن مريم وأمه ) . وهذا خبر، ولا يقع على الخبر النسخ.
لما
قال تعالى: « في
أولادكم » تناول
الخنثى وهو الذي له فرجان. وأجمع العلماء على أنه يورث من حيث يبول؛ إن بال من حيث
يبول الرجل ورث ميراث رجل، وإن بال من حيث تبول المرأة ورث ميراث المرأة. قال ابن
المنذر: ولا أحفظ عن مالك فيه شيئا، بل قد ذكر ابن القاسم أنه هاب أن يسأل مالكا
عنه. فإن بال منهما معا فالمعتبر سبق البول؛ قاله سعيد بن المسيب وأحمد وإسحاق.
وحكي ذلك عن أصحاب الرأي. وروى قتادة عن سعيد بن المسيب أنه قال في الخنثى: يورثه
من حيث يبول؛ فإن بال منهما جميعا فمن أيهما سبق، فإن بال منهما معا فنصف ذكر ونصف
أنثى. وقال يعقوب ومحمد: من أيهما خرج أكثر ورث؛ وحكي عن الأوزاعي. وقال النعمان:
إذا خرج منهما معا فهو مشكل، ولا أنظر إلى أيهما أكثر. وروي عنه أنه وقف عنه إذا
كان هكذا. وحكي عنه قال: إذا أشكل يعطى أقل النصيبين. وقال يحيى بن آدم: إذا بال
من حيث يبول الرجل ويحيض كما تحيض المرأة ورث من حيث يبول؛ لأن في الأثر: يورث من
مباله. وفي قول الشافعي: إذا خرج منهما جميعا ولم يسبق أحدهما الآخر يكون مشكلا،
ويعطى من الميراث ميراث أنثى، وموقف الباقي بينه وبين سائر الورثة حتى يتبين أمره
أو يصطلحوا؛ وبه قال أبو ثور. وقال الشعبي: يعطي نصف ميراث الذكر، ونصف ميراث
الأنثى؛ وبه قال الأوزاعي، وهو مذهب مالك. قال ابن شاس في جواهره الثمينة، على
مذهب مالك عالم المدينة: الخنثى يعتبر إذا كان ذا فرجين فرج المرأة وفرج الرجل
بالمبال منهما؛ فيعطى الحكم لما بال منه فإن بال منهما اعتبرت الكثرة من أيهما،
فإن تساوى الحال اعتبر السبق، فإن كان ذلك منهما معا اعتبر نبات اللحية أو كبر
الثديين ومشابهتهما لثدي النساء، فإن اجتمع الأمران اعتبر الحال عند البلوغ، فإن
وجد الحيض حكم به، وإن وجد الاحتلام وحده حكم به، فإن اجتمعا فهو مشكل. وكذلك لو
لم يكن فرج، لا المختص بالرجال ولا المختص بالنساء، بل كان له مكان يبول منه فقط
انتظر به البلوغ؛ فإن ظهرت علامة مميزة وإلا فهو مشكل. ثم حيث حكمنا بالإشكال
فميراثه نصف نصيبي ذكر وأنثى.
قلت:
هذا الذي ذكروه من العلامات في الخنثى المشكل. وقد أشرنا إلى علامة في « البقرة » وصدر هذه السورة تلحقه بأحد
النوعين، وهي اعتبار الأضلاع؛ وهي مروية عن علي رضي الله عنه وبها حكم. وقد نظم
بعض الفضلاء العلماء حكم الخنثى في أبيات كثيرة أولها:
وأنه
معتبر الأحوال بالثدي واللحية والمبال
وفيها
يقول:
وإن
يكن قد استوت حالاته ولم تبن وأشكلت آياته
فحظه
من مورث القريب ستة أثمان من النصيب
هذا
الذي استحق للإشكال وفيه ما فيه من النكال
وواجب
في الحق ألا ينكحا ما عاش في الدنيا وألا ينكحا
إذ لم
يكن من خالص العيال ولا اغتدى من جملة الرجال
وكل ما
ذكرته في النظم قد قاله سراة أهل العلم
وقد
أبى الكلام فيه قوم منهم ولم يجنح إليه لوم
لفرط
ما يبدو من الشناعة في ذكره وظاهر البشاعه
وقد مضى
في شأنه الخفي حكم الإمام المرتضى علي
بأنه
إن نقصت أضلاعه فللرجال ينبغي إتباعه
في
الإرث والنكاح والإحرام في الحج والصلاة والأحكام
وإن
تزد ضلعا على الذكران فإنها من جملة النسوان
لأن
للنسوان ضلعا زائده على الرجال فاغتنمها فائدة
إذ
نقصت من آدم فيما سبق لخلق حواء وهذا القول حق
عليه
مما قاله الرسول صلى عليه ربنا دليل
قال
أبو الوليد بن رشد: ولا يكون الخنثى المشكل زوجا ولا زوجة، ولا أبا ولا أما. وقد
قيل: إنه قد وجد من له ولد من بطنه وولد من ظهره. قال ابن رشد: فإن صح ورث من ابنه
لصلبه ميراث الأب كاملا، ومن ابنه لبطنه ميراث الأم كاملا. وهذا بعيد، والله أعلم.
وفي سنن الدارقطني عن أبي هانئ عمر بن بشير قال: سئل عامر الشعبي عن مولود ليس
بذكر ولا أنثى، ليس له ما للذكر ولا ما للأنثى، يخرج من سرته كهيئة البول والغائط؛
فسئل عامر عن ميراثه فقال عامر: نصف حظ الذكر ونصف حظ الأنثى.
قوله
تعالى: «
ولأبويه » أي
لأبوي الميت. وهذا كناية عن غير مذكور، وجاز ذلك لدلالة الكلام عليه؛ كقوله: « حتى توارت بالحجاب » [ ص: 32 ] و « إنا أنزلناه في ليلة القدر » [ القدر:1 ] . و « السدس » رفع بالابتداء، وما قبله
خبره: وكذلك « الثلث.
والسدس » . وكذلك
« نصف ما
ترك » وكذلك
« فلكم
الربع » .
وكذلك « لهن
الربع » . و « فلهن الثمن » وكذلك « فلكل واحد منهما السدس » . والأبوان تثنية الأب
والأبة. واستغني بلفظ الأم عن أن يقال لها أبة. ومن العرب من يجري المختلفين مجرى
المتفقين؛ فيغلب أحدهما على الآخر لخفته أو شهرته. جاء ذلك مسموعا في أسماء صالحة؛
كقولهم للأب والأم: أبوان. وللشمس والقمر: القمران. ولليل والنهار: الملوان. وكذلك
العمران لأبى بكر وعمر رضي الله عنهما. غلبوا القمر على الشمس لخفة التذكير،
وغلبوا عمر على أبي بكر لأن أيام عمر امتدت فاشتهرت. ومن زعم أنه أراد بالعمرين
عمر بن الخطاب وعمر بن عبدالعزيز فليس قوله بشيء؛ لأنهم نطقوا بالعمرين قبل أن
يروا عمر بن عبدالعزيز؛ قال ابن الشجري. ولم يدخل في قوله تعالى: « ولأبويه » من علا من الآباء دخول من
سفل من الأبناء في قوله «
أولادكم » ؛ لأن
قوله: «
ولأبويه » لفظ
مثنى لا يحتمل العموم والجمع أيضا؛ بخلاف قوله « أولادكم » .
والدليل على صحة هذا قوله تعالى: « فإن لم
يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث » والأم العليا جدة ولا يفرض لها الثلث بإجماع، فخروج الجدة
عن هذا اللفظ مقطوع به، وتناوله للجد مختلف فيه. فممن قال هو أب وحجب به الإخوة
أبو بكر الصديق رضي الله عنه ولم يخالفه أحد من الصحابة في ذلك أيام حياته،
واختلفوا في ذلك بعد وفاته؛ فممن قال إنه أب ابن عباس وعبدالله بن الزبير وعائشة
ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وأبو الدرداء وأبو هريرة، كلهم يجعلون الجد عند عدم الأب
كالأب سواء، يحجبون به الإخوة كلهم ولا يرثون معه شيئا. وقال عطاء وطاوس والحسن
وقتادة. وإليه ذهب أبو حنيفة وأبو ثور وإسحاق. والحجة لهم قوله تعالى: « ملة أبيكم إبراهيم » [ الحج: 78 ] « يا بني آدم » [ الأعراف: 26 ] ، وقوله عليه السلام: ( يا
بني إسماعيل ارموا فإن أباكم كان راميا ) . وذهب علي بن أبي طالب وزيد وابن مسعود
إلى توريث الجد مع الإخوة، ولا ينقص من الثلث مع الإخوة للأب والأم أو للأب إلا مع
ذوي الفروض؛ فإنه لا ينقص معهم من السدس شيئا في قول زيد. وهو قول مالك والأوزاعي
وأبي وسف ومحمد والشافعي. وكان علي يشرك بين الإخوة والجد إلى السدس ولا ينقصه من
السدس شيئا مع ذوي الفرائض وغيرهم. وهو قول ابن أبي ليلى وطائفة. وأجمع العلماء
على أن الجد لا يرث مع الأب وأن الابن يحجب أباه. وأنزلوا الجد بمنزلة الأب في
الحجب والميراث إذا لم يترك المتوفى أبا أقرب منه في جميع المواضع. وذهب الجمهور
إلى أن الجد يسقط بني الإخوة من الميراث؛ إلا ما روي عن الشعبي عن علي أنه أجرى
بني الإخوة في المقاسمة مجرى الإخوة. والحجة لقول الجمهور أن هذا ذكر لا يعصب أخته
فلا يقاسم الجد كالعم وابن العم. قال الشعبي: أول جد ورث في الإسلام عمر بن الخطاب
رضي الله عنه؛ مات ابن لعاصم بن عمر وترك أخوين فأراد عمر أن يستأثر بمال فاستشار
عليا وزيدا في ذلك فمثلا له مثلا فقال: ( لولا أن رأيكما اجتمع ما رأيت أن يكون
ابني ولا أكون أباه ) . روى الدارقطني عن زيد بن ثابت أن عمر بن الخطاب استأذن
عليه يوما فأذن له، ورأسه في يد جارية له ترجله، فنزع رأسه؛ فقال له عمر: دعها
ترجلك. فقال: يا أمير المؤمنين، لو أرسلت إلي جئتك. فقال عمر: إنما الحاجة لي، إني
جئتك لتنظر في أمر الجد. فقال زيد: لا والله ! ما تقول فيه. فقال عمر: ليس هو بوحي
حتى نزيد فيه وننقص، إنما هو شيء تراه، فإن رأيته وافقني تبعته، وإلا لم يكن عليك
فيه شيء. فأبى زيد، فخرج مغضبا وقال: قد جئتك وأنا أظن ستفرغ من حاجتي. ثم أتاه
مرة أخرى في الساعة التي أتاه في المرة الأولى، فلم يزل به حتى قال: فسأكتب لك
فيه. فكتبه في قطعة قتب وضرب له مثلا. إنما مثله مثل شجرة تنبت على ساق واحدة،
فخرج فيها غصن ثم خرج في غصن غصن آخر؛ فالساق يسقي الغصن، فإن قطعت الغصن الأول
رجع الماء إلى الغصن، وإن قطعت الثاني رجع الماء إلى الأول. فأتى به فخطب الناس
عمر ثم قرأ قطعة القتب عليهم ثم قال: إن زيد بن ثابت قد قال في الجد قولا وقد
أمضيته. قال: وكان عمر أول جد كان؛ فأراد أن يأخذ المال كله، مال ابن ابنه دون
إخوته، فقسمه بعد ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وأما
الجدة فأجمع أهل العلم على أن للجدة السدس إذا لم يكن للميت أم. وأجمعوا على أن
الأم تحجب أمها وأم الأب. وأجمعوا على أن الأب لا يحجب أم الأم. واختلفوا في توريث
الجدة وابنها حي؛ فقالت طائفة: ( لا ترث الجدة وابنها حي ) . روي عن زيد بن ثابت
وعثمان وعلي. وبه قال مالك والثوري والأوزاعي وأبو ثور وأصحاب الرأي. وقالت طائفة:
( ترث الجدة مع ابنها ) . روي عن عمر وابن مسعود وعثمان وعلي وأبي موسى الأشعري،
وقال به شريح وجابر بن زيد وعبيدالله بن الحسن وشريك وأحمد وإسحاق وابن المنذر.
وقال: كما أن الجد لا يحجبه إلا الأب كذلك الجدة لا يحجبها إلا الأم. وروى الترمذي
عن عبدالله قال في الجدة مع ابنها: ( إنها أول جدة أطعمها رسول الله صلى الله عليه
وسلم سدسا مع ابنها وابنها حي ) . والله أعلم.
واختلف
العلماء في توريث الجدات؛ فقال مالك: لا يرث إلا جدتان، أم أم وأم أب وأمهاتهما.
وكذلك روى أبو ثور عن الشافعي، وقال به جماعة من التابعين. فإن انفردت إحداهما
فالسدس لها، وإن اجتمعتا وقرابتهما سواء فالسدس بينهما. وكذلك إن كثرن إذا تساوين
في القعدد؛ وهذا كله مجمع عليه. فإن قربت التي من قبل الأم كان لها السدس دون
غيرها، وإن قربت التي من قبل الأب كان بينها وبين التي من قبل الأم وإن بعدت. ولا
ترث إلا جدة واحدة من قبل الأم. ولا ترث الجدة أم أب الأم على حال. هذا مذهب زيد
بن ثابت، وهو أثبت ما روي عنه في ذلك. وهو قول مالك وأهل المدينة. وقيل: إن الجدات
أمهات؛ فإذا اجتمعن فالسدس لأقربهن؛ كما أن الآباء إذا اجتمعوا كان أحدهم بالميراث
أقربهم؛ فكذلك البنون والإخوة، وبنو الإخوة وبنو العم إذا اجتمعوا كان أحقهم
بالميراث أقربهم؛ فكذلك الأمهات. قال ابن المنذر: وهذا أصح، وبه أقول. وكان
الأوزاعي يورث ثلاث جدات: واحدة من قبل الأم واثنتين من قبل الأب. وهو قول أحمد بن
حنبل؛ رواه الدارقطني عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا وروي عن زيد بن ثابت عكس
هذا؛ أنه كان يورث ثلاث جدات: اثنتين من جهة الأم وواحدة من قبل الأب. وقول علي رضي
الله عنه كقول زيد هذا. وكانا يجعلان السدس لأقربهما، من قبل الأم كانت أو من قبل
الأب. ولا يشركها فيه من ليس في قعددها، وبه يقول الثوري وأبو حنيفة وأصحابه وأبو
ثور. وأما عبدالله بن مسعود وابن عباس فكانا يورثان الجدات الأربع؛ وهو قول الحسن
البصري ومحمد بن سيرين وجابر بن زيد. قال ابن المنذر: وكل جدة إذا نسبت إلى
المتوفى وقع في نسبها أب بين أمين فليست ترث، في قول كل من يحفظ عنه من أهل العلم.
قوله
تعالى: « لكل
واحد منهما السدس » فرض
تعالى لكل واحد من الأبوين مع الولد السدس؛ وأبهم الولد فكان الذكر والأنثى فيه سواء.
فإن مات رجل وترك ابنا وأبوين فلأبويه لكل واحد منهما السدس، وما بقي فللابن. فإن
ترك ابنة وأبوين فللابنة النصف وللأبوين السدسان، وما بقي فلأقرب عصبة وهو الأب؛
لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر ) . فاجتمع
للأب الاستحقاق بجهتين: التعصيب والفرض. « فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث » فأخبر جل ذكره أن الأبوين
إذا ورثاه أن للأم الثلث. ودل بقوله: « وورثه أبواه » وإخباره أن للأم الثلث، أن الباقي وهو الثلثان للأب. وهذا
كما تقول لرجلين: هذا المال بينكما، ثم تقول لأحدهما: أنت يا فلان لك منه ثلث؛
فإنك حددت للآخر منه الثلثين بنص كلامك؛ ولأن قوة الكلام في قوله: « وورثه أبواه » يدل على أنهما منفردان عن
جميع أهل السهام من ولد وغيره، وليس في هذا اختلاف.
قلت:
وعلى هذا يكون الثلثان فرضا للأب مسمى لا يكون عصبة، وذكر ابن العربي أن المعنى في
تفضيل الأب بالثلث عند عدم الولد الذكورية والنصرة، ووجوب المؤنة عليه، وثبتت الأم
على سهم لأجل القرابة.
قلت:
وهذا منتقض؛ فإن ذلك موجود مع حياته فلم حرم السدس. والذي يظهر أنه إنما حرم السدس
في حياته إرفاقا بالصبي وحياطة على ماله؛ إذ قد يكون إخراج جزء من مال إجحافا به.
أو أن ذلك تعبد، وهو أولى ما يقال. والله الموفق.
إن
قيل: ما فائدة زيادة الواو في قوله: « وورثه أبواه » ، وكان ظاهر الكلام أن يقول: فإن لم يكن له ولد ورثه
أبواه. قيل له: أراد بزيادتها الإخبار ليبين أنه أمر مستقر ثابت، فيخبر عن ثبوته
واستقراره، فيكون حال الوالدين عند انفرادهما كحال الولدين، للذكر مثل حظ
الأنثيين. ويجتمع للأب بذلك فرضان السهم والتعصيب إذ يحجب الإخوة كالولد. وهذا عدل
في الحكم، ظاهر في الحكمة. والله أعلم.
قوله
تعالى: « فلأُمه
الثلث » قرأ
أهل الكوفة « فلإِمه
الثلث » وهى لغة
حكاها سيبويه. قال الكسائي: هي لغة كثير من هوازن وهذيل؛ ولأن اللام لما كانت
مكسورة وكانت متصلة بالحرف كرهوا ضمة بعد كسرة، فأبدلوا من الضمة كسرة؛ لأنه ليس
في الكلام فعل. ومن ضم جاء به على الأصل؛ ولأن اللام تنفصل لأنها داخلة على الاسم.
قال جميعه النحاس.
قوله
تعالى: « فإن
كان له إخوة فلأمه السدس »
الإخوة يحجبون الأم عن الثلث إلى السدس، وهذا هو حجب النقصان، وسواء كان الإخوة
أشقاء أو للأب أو للأم، ولا سهم لهم. وروي عن ابن عباس أنه كان يقول: ( السدس الذي
حجب الإخوة الأم عنه هو للإخوة ) . وروي عنه مثل قول الناس ( إنه للأب ) . قال
قتادة: وإنما أخذه الأب دونهم؛ لأنه يمونهم ويلي نكاحهم والنفقة عليهم. وأجمع أهل
العلم على أن أخوين فصاعدا ذكرانا كانوا أو إناثا من أب وأم، أو من أب أو من أم
يحجبون الأم عن الثلث إلى السدس؛ إلا ما روي عن ابن عباس أن ( الاثنين من الإخوة في
حكم الواحد، ولا يحجب الأم أقل من ثلاثة ) . وقد صار بعض الناس إلى أن الأخوات لا
يحجبن الأم من الثلث إلى السدس؛ لأن كتاب الله في الإخوة وليست قوة ميراث الإناث
مثل قوة ميراث الذكور حتى تقتضي العبرة الإلحاق. قال الكيا الطبري: ومقتضى أقوالهم
ألا يدخلن مع الإخوة؛ فإن لفظ الإخوة بمطلقه لا يتناول الأخوات، كما أن لفظ البنين
لا يتناول البنات. وذلك يقتضي ألا تحجب الأم بالأخ الواحد والأخت من الثلث إلى
السدس؛ وهو خلاف إجماع المسلمين. وإذا كن مرادات بالآية مع الإخوة كن مرادات على
الانفراد. واستدل الجميع بأن أقل الجمع اثنان؛ لأن التثنية جمع شيء إلى مثله،
فالمعنى يقتضي أنها جمع. وقال عليه السلام: ( الاثنان فما فوقهما جماعة ) . وحكي
عن سيبويه أنه قال: سألت الخليل عن قوله « ما أحسن وجوههما » ؟ فقال: الاثنان جماعة. وقد صح قول الشاعر:
ومهمهين
قذفين مرتين ظهراهما مثل ظهور الترسين
وأنشد
الأخفش:
لما
أتتنا المرأتان بالخبر فقلن إن الأمر فينا قد شهر
وقال
آخر:
يحيى
بالسلام غني قوم ويبخل بالسلام على الفقير
أليس
الموت بينهما سواء إذا ماتوا وصاروا في القبور
ولما
وقع الكلام في ذلك بين عثمان وابن عباس قال له عثمان: ( إن قومك حجبوها - يعني
قريشا - وهم أهل الفصاحة والبلاغة ) . وممن قال: ( إن أقل الجمع ثلاثة ) - وإن لم
يقل به هنا - ابن مسعود والشافعي وأبو حنيفة وغيرهم. والله أعلم.
قوله
تعالى: « من بعد
وصية يوصي بها أو دين » قرأ
ابن كثير ( أبو عمرو وابن عامر وعاصم « يوصى » بفتح
الصاد. الباقون بالكسر، وكذلك الآخر. واختلفت الرواية فيهما عن عاصم. والكسر
اختيار أبي عبيد وأبي حاتم؛ لأنه جرى ذكر الميت قبل هذا. قال الأخفش: وتصديق ذلك
قوله تعالى: « يوصين
» و « توصون » .
إن
قيل: ما الحكمة في تقديم ذكر الوصية على ذكر الدين، والدين مقدم عليها بإجماع. وقد
روى الترمذي عن الحارث عن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالدين قبل الوصية،
وأنتم تقرون الوصية قبل الدين. قال: والعمل على هذا عند عامة أهل العلم أنه يبدأ
بالدين قبل الوصية. وروى الدارقطني من حديث عاصم بن ضمرة عن علي قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: ( الدين قبل الوصية وليس لوارث وصية ) . رواه عنهما أبو
إسحاق الهمداني. فالجواب من أوجه خمسة: الأول: إنما قصد تقديم هذين الفصلين على
الميراث ولم يقصد ترتيبهما في أنفسهما؛ فلذلك تقدمت الوصية في اللفظ. جواب ثان:
لما كانت الوصية أقل لزوما من الدين قدمها اهتماما بها؛ كما قال تعالى: « لا يغادر صغيرة ولا كبيرة » [ الكهف: 49 ] . جواب ثالث: قدمها لكثرة
وجودها ووقوعها؛ فصارت كاللازم لكل ميت مع نص الشرع عليها، وأخر الدين لشذوذه،
فإنه قد يكون وقد لا يكون. فبدأ بذكر الذي لا بد منه، وعطف بالذي قد يقع أحيانا.
ويقوى هذا: العطف بأو، ولو كان الدين راتبا لكان العطف بالواو. جواب رابع: إنما
قدمت الوصية إذ هي حظ مساكين وضعفاء، وأخر الدين إذ هو حظ غريم يطلبه بقوة وسلطان
وله فيه مقال. جواب خامس: لما كانت الوصية ينشئها من قبل نفسه قدمها، والدين ثابت
مؤدى ذكره أو لم يذكره.
ولما
ثبت هذا تعلق الشافعي بذلك في تقديم دين الزكاة والحج على الميراث فقال: إن الرجل
إذا فرط في زكاته وجب أخذ ذلك من رأس ماله. وهذا ظاهر ببادئ الرأي؛ لأنه حق من
الحقوق فيلزم أداؤه عنه بعد الموت كحقوق الآدميين لا سيما والزكاة مصرفها إلى
الآدمي. وقال أبو حنيفة ومالك: إن أوصى بها أديت من ثلثه، وإن سكت عنها لم يخرج
عنه شيء. قالوا: لأن ذلك موجب لترك الورثة فقراء؛ إلا أنه قد يتعمد ترك الكل حتى
إذا مات استغرق ذلك جميع ماله فلا يبقى للورثة حق.
قوله
تعالى: « آباؤكم
وأبناؤكم » رفع بالابتداء
والخبر مضمر، تقديره: هم المقسوم عليهم وهم المعطون. « لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا
» قيل:
في الدنيا بالدعاء والصدقة؛ كما جاء في الأثر ( إن الرجل ليرفع بدعاء ولده من بعده
) . وفي الحديث الصحيح ( إذا مات الرجل انقطع عمله إلا من ثلاث - فذكر - أو ولد صالح
يدعو له ) . وقيل: ( في الآخرة؛ فقد يكون الابن أفضل فيشفع في أبيه ) ؛ عن ابن
عباس والحسن. وقال بعض المفسرين: إن الابن إذا كان أرفع من درجة أبيه في الآخرة
سأل الله فرفع إليه أباه، وكذلك الأب إذا كان أرفع من ابنه؛ وسيأتي في « الطور » بيانه. وقيل: في الدنيا
والآخرة؛ قال ابن زيد. واللفظ يقتضي ذلك.
قوله
تعالى: « فريضة
» نصب
على المصدر المؤكد، إذ معنى « يوصيكم
» يفرض
عليكم. وقال مكي وغيره: هي حال مؤكدة؛ والعامل « يوصيكم » وذلك
ضعيف. والآية متعلقة بما تقدم؛ وذلك أنه عرف العباد أنهم كفوا مؤنة الاجتهاد في
إيصاء القرابة مع اجتماعهم في القرابة، أي أن الآباء والأبناء ينفع بعضهم بعضا في
الدنيا بالتناصر والمواساة، وفي الآخرة بالشفاعة. وإذا تقرر ذلك في الآباء
والأبناء تقرر ذلك في جميع الأقارب؛ فلو كان القسمة موكولة إلى الاجتهاد لوجوب
النظر في غنى كل واحد منهم. وعند ذلك يخرج الأمر عن الضبط إذ قد يختلف الأمر، فبين
الرب تبارك وتعالى أن الأصلح للعبد ألا يوكل إلى اجتهاده في مقادير المواريث، بل
بين المقادير شرعا. « إن
الله كان عليما » أي
بقسمة المواريث « حكيما
» حكم
في قسمتها وبينها لأهلها. وقال الزجاج: « عليما » أي
بالأشياء قبل خلقها « حكيما
» فيما
يقدره ويمضيه منها. وقال بعضهم: إن الله سبحانه لم يزل ولا يزال، والخبر منه
بالماضي كالخبر منه بالاستقبال. ومذهب سيبويه أنهم رأوا حكمة وعلما فقيل لهم: إن
الله عز وجل كان كذلك لم يزل على ما رأيتم.
قوله
تعالى: « ولكم
نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد
وصية يوصين بها أو دين ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد
فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين » الخطاب للرجال. والولد هنا
بنو الصلب وبنو بنيهم وإن سفلوا، ذكرانا وإناثا واحدا فما زاد بإجماع. وأجمع
العلماء على أن للزوج النصف مع عدم الولد أو ولد الولد، وله مع وجوده الربع. وترث
المرأة من زوجها الربع مع فقد الولد، والثمن مع وجوده. وأجمعوا على أن حكم الواحدة
من الأزواج والثنتين والثلاث والأربع في الربع إن لم يكن له ولد، وفي الثمن إن كان
له ولد واحد، وأنهن شركاء في ذلك؛ لأن الله عز وجل لم يفرق بين حكم الواحدة منهن
وبين حكم الجميع، كما فرق بين حكم الواحدة من البنات والواحدة من الأخوات وبين حكم
الجميع منهن.
قوله
تعالى: « وإن
كان رجل يورث كلالة أو امرأة »
الكلالة مصدر؛ من تكلله النسب أي أحاط به. وبه سمي الإكليل، وهي منزلة من منازل
القمر لإحاطتها بالقمر إذا احتل بها. ومنه الإكليل أيضا وهو التاج والعصابة
المحيطة بالرأس. ( فإذا مات الرجل وليس له ولد ولا والد فورثته كلالة ) . هذا قول
أبي بكر الصديق وعمر وعلي وجمهور أهل العلم. وذكر يحيى بن آدم عن شريك وزهير وأبي
الأحوص عن أبي إسحاق عن سليمان بن عبد قال: ما رأيتهم إلا وقد تواطؤوا وأجمعوا على
أن الكلالة من مات ليس له ولد ولا والد. وهكذا قال صاحب كتاب العين وأبو منصور
اللغوي وابن عرفة والقتبي وأبو عبيد وابن الأنباري. فالأب والابن طرفان للرجل؛
فإذا ذهبا تكلله النسب. ومنه قيل: روضة مكللة إذا حفت بالنور. وأنشدوا:
مسكنه
روضة مكللة عم بها الأيهقان والذرق
يعني
نبتين. وقال امرؤ القيس:
أصاح
ترى برقا أريك وميضه كلمع اليدين في حبي مكلل
فسموا
القرابة كلالة؛ لأنهم أطافوا بالميت من جوانبه وليسوا منه ولا هو منهم، وإحاطتهم
به أنهم ينتسبون معه. كما قال أعرابي: مالي كثير ويرثني كلالة متراخ نسبهم. وقال
الفرزدق:
ورثتم
قناة المجد لا عن كلالة عن ابني مناف عبد شمس وهاشم
وقال
آخر:
وإن
أبا المرء أحمى له ومولى الكلالة لا يغضب
وقيل:
إن الكلالة مأخوذة من الكلال وهو الإعياء؛ فكأنه يصير الميراث إلى الوارث عن بعد
وإعياء. قال الأعشى:
فآليت
لا أرثي لها من كلالة ولا من وجى حتى تلاقي محمدا
وذكر
أبو حاتم والأثرم عن أبى عبيدة قال: الكلالة كل من لم يرثه أب أو ابن أو أخ فهو
عند العرب كلالة. قال أبو عمر: ذكر أبي عبيدة الأخ هنا مع الأب والابن في شرط
الكلالة غلط لا وجه له، ولم يذكره في شرط الكلالة غيره. وروي عن عمر بن الخطاب أن
( الكلالة من لا ولد له خاصة ) ؛ وروي عن أبي بكر ثم رجعا عنه. وقال ابن زيد:
الكلالة الحي والميت جميعا. وعن عطاء: الكلالة المال. قال ابن العربي: وهذا قول
طريف لا وجه له.
قلت:
له وجه متبين بالإعراب آنفا. وروي عن ابن الأعرابي أن الكلالة بنو العم الأباعد.
وعن السدي أن الكلالة الميت. وعنه مثل قول الجمهور. وهذه الأقوال تتبين وجوهها
بالإعراب؛ فقرأ بعض الكوفيين « يورث
كلالة » بكسر
الراء وتشديدها. وقرأ الحسن وأيوب « يورث » بكسر
الراء وتخفيفها، على اختلاف عنهما. وعلى هاتين القراءتين لا تكون الكلالة إلا
الورثة أو المال. كذلك حكى أصحاب المعاني؛ فالأول من ورث، والثاني من أورث. و « كلالة » مفعوله و « كان » بمعنى وقع. ومن قرأ « يورث » بفتح الراء احتمل أن تكون
الكلالة المال، والتقدير: يورث وراثة كلالة فتكون نعتا لمصدر محذوف. ويجوز أن تكون
الكلالة اسما للورثة وهي خبر كان؛ فالتقدير: ذا ورثة. ويجوز أن تكون تامة بمعنى
وقع، و « يورث » نعت لرجل، و « رجل » رفع بكان، و « كلالة » نصب على التفسير أو الحال؛
على أن الكلالة هو الميت، التقدير: وإن كان رجل يورث متكلل النسب إلى الميت.
ذكر
الله عز وجل في كتابه الكلالة في موضعين: آخر السورة وهنا، ولم يذكر في الموضعين
وارثا غير الإخوة. فأما هذه الآية فأجمع العلماء على أن الإخوة فيها عني بها
الإخوة للأم؛ لقوله تعالى: « فإن
كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث » . وكان سعد بن أبي وقاص يقرأ « وله أخ أو أخت من أمه » . ولا خلاف بين أهل العلم أن
الإخوة للأب والأم أو الأب ليس ميراثهم كهذا؛ فدل إجماعهم على أن الإخوة المذكورين
في آخر السورة هم إخوة المتوفى لأبيه وأمه أو لأبيه؛ لقوله عز وجل « وإن كانوا إخوة رجالا ونساء
فللذكر مثل حظ الأنثيين » [ النساء: 176 ] . ولم يختلفوا أن ميراث
الإخوة للأم ليس هكذا؛ فدلت الآيتان أن الإخوة كلهم جميعا كلالة. وقال الشعبي: (
الكلالة ما كان سوى الولد والوالد من الورثة إخوة أو غيرهم من العصبة ) . كذلك قال
علي وابن مسعود وزيد وابن عباس، وهو القول الأول الذي بدأنا به. قال الطبري:
والصواب أن الكلالة هم الذين يرثون الميت من عدا ولده ووالده، لصحة خبر جابر: فقلت
يا رسول الله إنما يرثني كلالة، أفأوصي بمالي كله؟ قال: ( لا ) .
قال
أهل اللغة: يقال رجل كلالة وامرأة كلالة. ولا يثنى ولا يجمع؛ لأنه مصدر كالوكالة
والدلالة والسماحة والشجاعة. وأعاد ضمير مفرد في قوله: « وله أخ » ولم يقل لهما. ومضى ذكر
الرجل والمرأة على عادة العرب إذا ذكرت اسمين ثم أخبرت عنهما وكانا في الحكم سواء
ربما أضافت إلى أحدهما وربما أضافت إليهما جميعا؛ تقول: من كان عنده غلام وجارية
فليحسن إليه وإليها وإليهما وإليهم؛ قال الله تعالى: « واستعينوا بالصبر والصلاة
وإنها لكبيرة » [ البقرة: 45 ] . وقال تعالى: « إن يكن غنيا أو فقيرا فالله
أولى بهما » [ النساء: 135 ] ويجوز أولى بهم؛ عن الفراء وغيره.
ويقال في امرأة: مرأة، وهو الأصل. وأخ أصله أخو، يدل عليه أخوان؛ فحذف منه وغير
على غير قياس. قال الفراء ضم أول أخت، لأن المحذوف منها واو، وكسر أول بنت؛ لأن
المحذوف منها ياء. وهذا الحذف والتعليل على غير قياس أيضا.
قوله
تعالى: « فإن
كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث » هذا التشريك يقتضي التسوية بين الذكر والأنثى وإن كثروا.
وإذا كانوا يأخذون بالأم فلا يفضل الذكر على الأنثى. وهذا إجماع من العلماء، وليس
في الفرائض موضع يكون فيه الذكر والأنثى سواء إلا في ميراث الإخوة للأم. فإذا ماتت
امرأة وتركت زوجها وأمها وأخاها لأمها فللزوج النصف وللأم الثلث وللأخ من الأم
السدس. فإن تركت أخوين وأختين - والمسألة بحالها - فللزوج النصف وللأم السدس
وللأخوين والأختين الثلث، وقد تمت الفريضة. وعلى هذا عامة الصحابة؛ لأنهم حجبوا
الأم بالأخ والأخت من الثلث إلى السدس. وأما ابن عباس فإنه لم ير العول ولو جعل
للأم الثلث لعالت المسألة، وهو لا يرى ذلك. والعول مذكور في غير هذا الموضع، ليس
هذا موضعه. فإن تركت زوجها وإخوة لأم وأخا لأب وأم؛ فللزوج النصف، ولإخوتها لأمها
الثلث، وما بقي فلأخيها لأمها وأبيها. وهكذا من له فرض مسمى أعطيه، والباقي للعصبة
إن فضل. فإن تركت ستة إخوة مفترقين فهذه الحمارية، وتسمى أيضا المشتركة. قال قوم:
( للإخوة للأم الثلث، وللزوج النصف، وللأم السدس ) ، وسقط الأخ والأخت من الأب
والأم، والأخ والأخت من الأب. روي عن علي وابن مسعود وأبي موسى والشعبي وشريك
ويحيى بن آدم، وبه قال أحمد بن حنبل واختاره ابن المنذر؛ لأن الزوج والأم والأخوين
للأم أصحاب فرائض مسماة ولم يبق للعصبة شيء. وقال قوم: ( الأم واحدة، وهب أن أباهم
كان حمارا ! وأشركوا بينهم في الثلث ) ؛ ولهذا سميت المشتركة والحمارية. روي هذا
عن عمر وعثمان وابن مسعود أيضا وزيد بن ثابت ومسروق وشريح، وبه قال مالك والشافعي
وإسحاق. ولا تستقيم هذه المسألة أن لو كان الميت رجلا. فهذه جملة من علم الفرائض
تضمنتها الآية، والله الموفق للهداية.
وكانت
الوراثة في الجاهلية بالرجولية والقوة، وكانوا يورثون الرجال دون النساء؛ فأبطل
الله عز وجل ذلك بقوله: « للرجال
نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب » [ النساء: 32 ] كما تقدم. وكانت الوراثة
أيضا في الجاهلية وبدء الإسلام بالمحالفة، قال الله عز وجل: « والذين عقدت أيمانكم » [ النساء: 33 ] على ما يأتي بيانه. ثم صارت
بعد المحالفة بالهجرة؛ قال الله تعالى: « والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى
يهاجروا » [ الأنفال: 72 ] وسيأتي. وهناك يأتي القول
في ذوي الأرحام وميراثهم، إن شاء الله تعالى. وسيأتي في سورة « النور » ميراث ابن الملاعنة وولد
الزنا والمكاتب بحول الله تعالى. والجمهور من العلماء على أن الأسير المعلوم حياته
أن ميراثه ثابت؛ لأنه داخل في جملة المسلمين الذين أحكام الإسلام جارية عليهم. وقد
روي عن سعيد بن المسيب أنه قال في الأسير في يد العدو: لا يرث. وقد تقدم ميراث
المرتد في سورة « البقرة
»
والحمد لله.
قوله
تعالى: « غير
مضار » نصب
على الحال والعامل « يوصي » . أي يوصي بها غير مضار، أي
غير مدخل الضرر على الورثة. أي لا ينبغي أن يوصي بدين ليس عليه ليضر بالورثة؛ ولا
يقر بدين. فالإضرار راجع إلى الوصية والدين؛ أما رجوعه إلى الوصية فبأن يزيد على
الثلث أو يوصي لوارث، فإن زاد فإنه يرد، إلا أن يجيزه الورثة؛ لأن المنع لحقوقهم
لا لحق الله تعالى. وإن أوصى لوارث فإنه يرجع ميراثا. وأجمع العلماء على أن الوصية
للوارث لا تجوز. وقد تقدم هذا في « البقرة
» .
وأما رجوعه إلى الدين فبالإقرار في حالة لا يجوز له فيها؛ كما لو أقر في مرضه
لوارثه أو لصديق ملاطف؛ فإن ذلك لا يجوز عندنا. وروي عن الحسن أنه قرأ « غير مضار وصية من الله » على الإضافة. قال النحاس:
وقد زعم بعض أهل اللغة أن هذا لحن؛ لأن اسم الفاعل لا يضاف إلى المصدر. والقراءة
حسنة على حذف، والمعنى: غير مضار ذي وصية، أي غير مضار بها ورثته في ميراثهم.
وأجمع العلماء على أن إمراره بدين لغير وارث حال المرض جائز إذا لم يكن عليه دين
في الصحة.
فإن
كان عليه دين في الصحة ببينة وأقر لأجنبي بدين؛ فقالت طائفة: يبدأ بدين الصحة؛ هذا
قول النخعي والكوفيين. قالوا: فإذا استوفاه صاحبه فأصحاب الإقرار في المرض يتحاصون.
وقالت طائفة: هما سواء إذا كان لغير وارث. هذا قول الشافعي وأبي ثور وأبي عبيد،
وذكر أبو عبيد إنه قول أهل المدينة ورواه عن الحسن.
قد مضى
في « البقرة
»
الوعيد في الإضرار في الوصية ووجوهها. وقد روى أبو داود من حديث شهر بن حوشب ( وهو
مطعون فيه ) عن أبى هريرة حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الرجل
أو المرأة ليعمل بطاعة الله ستين سنه ثم يحضرهما الموت فيضاران في الوصية فتجب
لهما النار ) . قال: وقرأ علي أبو هريرة من ههنا « من بعد وصية يوصي بها أو دين غير مضار » حتى بلغ « ذلك الفوز العظيم » . وقال ابن عباس: ( الإضرار
في الوصية من الكبائر ) ؛ ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أن مشهور مذهب
مالك وابن القاسم أن الموصي لا يعد فعله مضارة في ثلثه؛ لأن ذلك حقه فله التصرف
فيه كيف شاء. وفي المذهب قوله: أن ذلك مضارة ترد. وبالله التوفيق.
قوله
تعالى: « وصية » نصب على المصدر في موضع
الحال والعامل « يوصيكم
» ويصح
أن يعمل فيها « مضار » والمعنى أن يقع الضرر بها أو
بسببها فأوقع عليها تجوزا، قال ابن عطية؛ وذكر أن الحسن بن أبي الحسن قرأ « غير مضار وصية » بالإضافة؛ كما تقول: شجاع
حرب. وبضة المتجرد؛ في قول طرفة بن العبد. والمعنى على ما ذكرناه من التجوز في
اللفظ لصحة المعنى. « والله
عليم حليم » يعني
عليم بأهل الميراث حليم على أهل الجهل منكم. وقرأ بعض المتقدمين « والله عليم حكيم » [ النساء: 26 ] يعني حكيم بقسمة الميراث
والوصية.
قوله
تعالى: « تلك
حدود الله » و « تلك » بمعنى هذه، أي هذه أحكام
الله قد بينها لكم لتعرفوها وتعملوا بها. « ومن يطع الله ورسوله » في قسمة المواريث فيقر بها ويعمل بها كما أمره الله تعالى « يدخله جنات تجري من تحتها
الأنهار » جملة
في موضع نصب على النعت لجنات. وقوله « ومن يعص الله ورسوله » يريد في قسمة المواريث فلم يقسمها ولم يعمل بها « ويتعد حدوده » أي يخالف أمره « يدخله نارا خالدا فيها » . والعصيان إن أريد به الكفر
فالخلود على بابه، وإن أريد به الكبائر وتجاوز أوامر الله تعالى فالخلود مستعار
لمدة ما. كما تقول: خلد الله ملكه. وقال زهير:
ولا
خالدا إلا الجبال الرواسيا
وقد
تقدم هذا المعنى في غير موضع. وقرأ نافع وابن عامر « ندخله » بالنون في الموضعين، على
معنى الإضافة إلى نفسه سبحانه. الباقون بالياء كلاهما؛ لأنه سبق ذكر اسم الله
تعالى أي يدخله الله.
الآية:
15 ( واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم
فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو
يجعل الله لهن سبيلا )
لما ذكر
الله تعالى في هذه السورة الإحسان إلى النساء وإيصال صدقاتهن إليهن، وانجر الأمر
إلى ذكر ميراثهن مع مواريث الرجال، ذكر أيضا التغليظ عليهن فيما يأتين به من
الفاحشة، لئلا تتوهم المرأة أنه يسوغ لها ترك التعفف.
قوله
تعالى: «
واللاتي » « اللاتي » جمع التي، وهو اسم مبهم
للمؤنث، وهي معرفة ولا يجوز نزع الألف واللام منه للتنكير، ولا يتم إلا بصلته؛
وفيه ثلاث لغات كما تقدم. ويجمع أيضا « اللات » بحذف
الياء وإبقاء الكسرة؛ و « اللائي
» بالهمزة
وإثبات الياء، و « اللاء
» بكسر
الهمزة وحذف الياء، و « اللا » بحذف الهمزة. فإن جمعت الجمع
قلت في اللاتي: اللواتي، وفي اللاء: اللوائي. وقد روي عنهم « اللوات » بحذف الياء وإبقاء الكسرة؛ قال
ابن الشجري. قال الجوهري: أنشد أبو عبيد:
من
اللواتي والتي واللات زعمن أن قد كبرت لدات
واللوا
بإسقاط التاء. وتصغير التي اللتيا بالفتح والتشديد؛ قال الراجز:
بعد
اللتيا واللتيا والتي
وبعض
الشعراء أدخل على « التي » حرف النداء، وحروف النداء لا
تدخل على ما فيه الألف واللام إلا في قولنا: يا الله وحده؛ فكأنه شبهها به من حيث
كانت الألف واللام غير مفارقتين لها. وقال:
من أجلك
يالتي تيمت قلبي وأنت بخيلة بالود عني
ويقال:
وقع في اللتيا والتي؛ وهما اسمان من أسماء الداهية.
قوله
تعالى: « يأتين
الفاحشة » الفاحشة
في هذا الموضع الزنا، والفاحشة الفعلة القبيحة، وهي مصدر كالعاقبة والعافية. وقرأ
ابن مسعود «
بالفاحشة » بباء
الجر.
قوله
تعالى: « من
نسائكم » إضافة
في معنى الإسلام وبيان حال المؤمنات؛ كما قال « واستشهدوا شهيدين من رجالكم » [ البقرة: 282 ] لأن الكافرة قد تكون من نساء
المسلمين بنسب ولا يلحقها هذا الحكم.
قوله
تعالى: «
فاستشهدوا عليهن أربعة منكم » أي من
المسلمين، فجعل الله الشهادة على الزنا خاصة أربعة تغليظا على المدعي وسترا على
العباد. وتعديل الشهود بالأربعة في الزنا حكم ثابت في التوراة والإنجيل والقرآن؛
قال الله تعالى: « والذين
يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة » [ النور: 4 ] وقال هنا: « فاستشهدوا عليهن أربعة منكم » . وروى أبو داود عن جابر بن
عبدالله قال: جاءت اليهود برجل وامرأة منهم قد زنيا فقال: النبي صلى الله عليه
وسلم (
ائتوني بأعلم رجلين منكم ) فأتوه
بابني صوريا فنشدهما: ( كيف
تجدان أمر هذين في التوراة؟ ) قالا:
نجد في التوراة إذا شهد أربعة أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة رجما.
قال: ( فما
يمنعكما أن ترجموهما ) ؛
قالا: ذهب سلطاننا فكرهنا القتل؛ فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشهود،
فجاؤوا فشهدوا أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة؛ فأمر رسول الله صلى
الله عليه وسلم برجمهما. وقال قوم: إنما كان الشهود في الزنا أربعة ليترتب شاهدان
على كل واحد من الزانيين كسائر الحقوق؛ إذ هو حق يؤخذ من كل واحد منهما؛ وهذا
ضعيف؛ فإن اليمين تدخل في الأموال واللوث في القسامة ولا مدخل لواحد منهما هنا.
ولا بد
أن يكون الشهود ذكورا؛ لقوله: « منكم » ولا خلاف فيه بين الأمة. وأن
يكونوا عدولا؛ لأن الله تعالى شرط العدالة في البيوع والرجعة، وهذا أعظم، وهو بذلك
أولى. وهذا من حمل المطلق على المقيد بالدليل، على ما هو مذكور في أصول الفقه. ولا
يكونون ذمة، وإن كان الحكم على ذمية، وسيأتي ذلك في « المائدة » وتعلق أبو حنيفة بقوله: « أربعة منكم » في أن الزوج إذا كان أحد
الشهود في القذف لم يلاعن. وسيأتي بيانه في « النور » إن شاء
الله تعالى.
قوله
تعالى: « فإن
شهدوا فأمسكوهن في البيوت » هذه أول
عقوبات الزناة؛ وكان هذا في ابتداء الإسلام؛ قال عبادة بن الصامت والحسن ومجاهد
حتى نسخ بالأذى الذي بعده، ثم نسخ ذلك بآية « النور » وبالرجم
في الثيب. وقالت فرقة: بل كان الإيذاء هو الأول ثم نسخ بالإمساك، ولكن التلاوة
أخرت وقدمت؛ ذكره ابن فورك، وهذا الإمساك والحبس في البيوت كان في صدر الإسلام قبل
أن يكثر الجناة، فلما كثروا وخشي قوتهم اتخذ لهم سجن؛ قاله ابن العربي.
واختلف
العلماء هل كان هذا السجن حدا أو وعدا بالحد على قولين: أحدهما: أنه توعد بالحد،
والثاني: أنه حد؛ قال ابن عباس والحسن. زاد ابن زيد: وأنهم منعوا من النكاح حتى
يموتوا عقوبة لهم حين طلبوا النكاح من غير وجهه. وهذا يدل على أنه كان حدا بل أشد؛
غير أن ذلك الحكم كان ممدودا إلى غاية وهو الأذى في الآية الأخرى، على اختلاف
التأويلين في أيهما قبل؛ وكلاهما ممدود إلى غاية وهي قوله عليه السلام في حديث عبادة
بن الصامت: ( خذوا
عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب
بالثيب جلد مائة والرجم ) . وهذا
نحو قوله تعالى: « ثم
أتموا الصيام إلى الليل » [ البقرة: 187 ] فإذا جاء الليل ارتفع حكم
الصيام لانتهاء غايته لا لنسخه. هذا قول المحققين المتأخرين من الأصوليين، فإن
النسخ إنما يكون في القولين المتعارضين من كل وجه اللذين لا يمكن الجمع بينهما،
والجمع ممكن بين الحبس والتعيير والجلد والرجم، وقد قال بعض العلماء: أن الأذى
والتعيير باق مع الجلد؛ لأنهما لا يتعارضان بل يحملان على شخص واحد. وأما الحبس
فمنسوخ بإجماع، وإطلاق المتقدمين النسخ على مثل هذا تجوز. والله أعلم.
الآية:
16 ( واللذان يأتيانها منكم
فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان توابا رحيما )
قوله
تعالى: «
واللذان » « اللذان » تثنية الذي، وكان القياس أن
يقال: اللذيان كرحيان ومصطفيان وشجيان. قال سيبويه: حذفت الياء ليفرق بين الأسماء
المتمكنة والأسماء المبهمات. وقال أبو علي: حذفت الياء تخفيفا، إذ قد أمن اللبس في
اللذان؛ لأن النون لا تنحذف، ونون التثنية في الأسماء المتمكنة قد تنحذف مع
الإضافة في رحياك ومصطفيا القوم؛ فلو حذفت الياء لاشتبه المفرد بالاثنين. وقرأ ابن
كثير « اللذان
» بتشديد
النون؛ وهي لغة قريش؛ وعلته أنه جعل التشديد عوضا من ألف « ذا » على ما يأتي بيانه في سورة « القصص » عند قوله تعالى: « فذانك برهانان » [ القصص: 32 ] . وفيها لغة أخرى « اللذا » بحذف النون. هذا قول الكوفيين.
وقال البصريون: إنما حذفت النون لطول الاسم بالصلة. وكذلك قرأ « هذان » و « فذانك برهانان » بالتشديد فيهما. والباقون
بالتخفيف. وشدد أبو عمرو « فذانك
برهانان » وحدها.
و « اللذان
» رفع
بالابتداء. قال سيبويه: المعنى وفيما يتلى عليكم اللذان يأتيانها، أي الفاحشة « منكم » . ودخلت الفاء في « فآذوهما » لأن في الكلام معنى الأمر؛
لأنه لما وصل الذي بالفعل تمكن فيه معنى الشرط؛ إذ لا يقع عليه شيء بعينه، فلما
تمكن الشرط والإبهام فيه جرى مجرى الشرط فدخلت الفاء، ولم يعمل فيه ما قبله من
الإضمار كما لا يعمل في الشرط ما قبله؛ فلما لم يحسن إضمار الفعل قبلهما لينصبا
رفعا بالابتداء؛ وهذا اختيار سيبويه. ويجوز النصب على تقدير إضمار فعل، وهو
الاختيار إذا كان في الكلام معنى الأمر والنهي نحو قولك: اللذين عندك فأكرمهما.
قوله
تعالى: «
فآذوهما » قال
قتادة والسدي: معناه التوبيخ والتعيير. وقالت فرقة: هو السب والجفاء دون تعيير.
ابن عباس: النيل باللسان والضرب بالنعال. قال النحاس: وزعم قوم أنه منسوخ. قلت:
رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: «
واللاتي يأتين الفاحشة » و « اللذان يأتيانها » كان في أول الأمر فنسختهما
الآية التي في « النور
» . قال
النحاس: وقيل وهو أولى: إنه ليس بمنسوخ، وأنه واجب أن يؤدبا بالتوبيخ فيقال لهما:
فجرتما وفسقتما وخالفتما أمر الله عز وجل.
واختلف
العلماء في تأويل قوله تعالى: «
واللاتي » وقوله: « واللذان » فقال مجاهد وغيره: الآية
الأولى في النساء عامة محصنات وغير محصنات، والآية الثانية في الرجال خاصة. وبين
لفظ التثنية صنفي الرجال من أحصن ومن لم يحصن؛ فعقوبة النساء الحبس، وعقوبة الرجال
الأذى. وهذا قول يقتضيه اللفظ، ويستوفي نص الكلام أصناف الزناة. ويؤيده من جهة
اللفظ قوله في الأولى: « من
نسائكم » وفي
الثانية « منكم » ؛ واختاره النحاس ورواه عن ابن
عباس. وقال السدي وقتادة وغيرهما: الأولى في النساء المحصنات. يريد: ودخل معهن من
أحصن من الرجال بالمعنى، والثانية في الرجل والمرأة البكرين. قال ابن عطية: ومعنى
هذا القول تام إلا أن لفظ الآية يقلق عنه. وقد رجحه الطبري، وأباه النحاس وقال:
تغليب المؤنث على المذكر بعيد؛ لأنه لا يخرج الشيء إلى المجاز ومعناه صحيح في
الحقيقة. وقيل: كان الإمساك للمرأة الزانية دون الرجل؛ فخصت المرأة بالذكر في
الإمساك ثم جمعا في الإيذاء. قال قتادة: كانت المرأة تحبس ويؤذيان جميعا؛ وهذا لأن
الرجل يحتاج إلى السعي والاكتساب.
واختلف
العلماء أيضا في القول بمقتضى حديث عبادة الذي هو بيان لأحكام الزناة على ما
بيناه؛ فقال بمقتضاه علي بن أبي طالب لا اختلاف عنه في ذلك، وأنه جلد شراحة
الهمدانية مائة ورجمها بعد ذلك، وقال: جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله
صلى الله عليه وسلم. وقال بهذا القول الحسن البصري والحسن بن صالح بن حي وإسحاق.
وقال جماعة من العلماء: بل على الثيب الرجم بلا جلد. وهذا يروى عن عمر وهو قول
الزهري والنخعي ومالك والثوري والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي وأحمد وأبي ثور؛
متمسكين بأن النبي صلى الله عليه وسلم رجم ماعزا والغامدية ولم يجلدهما، وبقوله
عليه السلام لأنيس: ( اغد
على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها ) ولم يذكر الجلد؛ فلو كان مشروعا لما سكت عنه. قيل لهم: إنما
سكت عنه؛ لأنه ثابت بكتاب الله تعالى، فليس يمتنع أن يسكت عنه لشهرته والتنصيص
عليه في القرآن؛ لأن قوله تعالى: «
الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة » [ النور: 2 ] يعم جميع الزناة. والله أعلم.
ويبين هذا فعل علي بأخذه عن الخلفاء رضي الله عنهم ولم ينكر عليه فقيل له: عملت
بالمنسوخ وتركت الناسخ. وهذا واضح.
واختلفوا
في نفي البكر مع الجلد؛ فالذي عليه الجمهور أنه ينفى مع الجلد؛ قاله الخلفاء
الراشدون: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وهو قول ابن عمر رضوان الله عليهم أجمعين،
وبه قال عطاء وطاوس وسفيان ومالك وابن أبي ليلى والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور.
وقال بتركه حماد بن أبي سليمان وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن. والحجة للجمهور حديث
عبادة المذكور، وحديث أبي هريرة وزيد بن خالد، حديث العسيف وفيه: فقال النبي صلى
الله عليه وسلم: ( والذي
نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله أما غنمك وجاريتك فرد عليك ) وجلد ابنه مائة وغربه عاما.
أخرجه الأئمة. احتج من لم ير نفيه بحديث أبي هريرة في الأمة، ذكر فيه الجلد دون
النفي. وذكر عبدالرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال: غرب عمر ربيعة بن
أبي أمية بن خلف في الخمر إلى خيبر فلحق بهرقل فتنصر؛ فقال عمر: لا أغرب مسلما بعد
هذا. قالوا: ولو كان التغريب حدا لله تعالى ما تركه عمر بعد. ثم إن النص الذي في
الكتاب إنما هو الجلد، والزيادة على النص نسخ؛ فيلزم عليه نسخ القاطع بخبر الواحد.
والجواب: أما حديث أبي هريرة فإنما هو في الإماء لا في الأحرار. وقد صح عن عبدالله
بن عمر أنه ضرب أمته في الزنا ونفاها. وأما حديث عمر وقوله: لا أغرب بعده مسلما،
فيعني في الخمر - والله أعلم - لما رواه نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه
وسلم ضرب وغرب، وأن أبا بكر ضرب وغرب، وأن عمر ضرب وغرب. أخرجه الترمذي في جامعه،
والنسائي في سننه عن أبي كريب محمد بن العلا الهمداني عن عبدالله بن إدريس عن
عبيدالله بن عمر عن نافع. قال الدارقطني: تفرد به عبدالله بن إدريس ولم يسنده عنه
أحد من الثقات غير أبي كريب، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم النفي فلا كلام
لأحد معه، ومن خالفته السنة خاصمته. وبالله التوفيق.
وأما
قولهم: الزيادة على النص نسخ، فليس بمسلم، بل زيادة حكم آخر مع الأصل. ثم هو قد
زاد الوضوء بالنبيذ بخبر لم يصح على الماء، واشترط الفقر في القربى؛ إلى غير ذلك
مما ليس منصوصا عليه في القرآن. وقد مضى هذا المعنى في البقرة ويأتي.
القائلون
بالتغريب في يختلفوا في تغريب الذكر الحر، واختلفوا في تغريب العبد والأمة؛ فممن
رأى التغريب فيهما ابن عمر جلد مملوكة له في الزنا ونفاها إلى فدك وبه قال الشافعي
وأبو ثور والثوري والطبري وداود. واختلف قول الشافعي في نفي العبد، فمرة قال:
أستخير الله في نفي العبد، ومرة قال: ينفى نصف سنة، ومرة قال: ينفى سنة إلى غير
بلده؛ وبه قال الطبري.
واختلف
أيضا قوله في نفي الأمة على قولين. وقال مالك: ينفى الرجل ولا تنفى المرأة ولا
العبد، ومن نفي حبس في الموضع الذي ينفى إليه. وينفى من مصر إلى الحجاز وشغب
وأسوان ونحوها، ومن المدينة إلى خيبر وفدك؛ وكذلك فعل عمر بن عبدالعزيز. ونفى علي
من الكوفة إلى البصرة. وقال الشافعي: أقل ذلك يوم وليلة. قال ابن العربي: كان أصل
النفي أن بني إسماعيل أجمع رأيهم على أن من أحدث حدثا في الحرم غرب منه، فصارت سنة
فيهم يدينون بها؛ فلأجل ذلك استن الناس إذا أحدث أحد حدثا غرب عن بلده، وتمادى ذلك
في الجاهلية إلى أن جاء الإسلام فأقره في الزنا خاصة. احتج من لم ير النفي على
العبد بحديث أبي هريرة في الأمة؛ ولأن تغريبه عقوبة لمالكه تمنعه من منافعه في مدة
تغريبه، ولا يناسب ذلك تصرف الشرع، فلا يعاقب غير الجاني. وأيضا فقد سقط عنه
الجمعة والحج والجهاد الذي هو حق لله تعالى لأجل السيد؛ فكذلك التغريب. والله
أعلم.
والمرأة
إذا غربت ربما يكون ذلك سببا لوقوعها فيما أخرجت من سببه وهو الفاحشة، وفي التغريب
سبب لكشف عورتها وتضييع لحالها؛ ولأن الأصل منعها من الخروج من بيتها وأن صلاتها
فيه أفضل. وقال صلى الله عليه وسلم: ( أعروا النساء يلزمن الحجال ) فحصل من هذا تخصيص عموم حديث
التغريب بالمصلحة المشهود لها بالاعتبار. وهو مختلف فيه عند الأصوليين والنظار.
وشذت طائفة فقالت: يجمع الجلد والرجم على الشيخ، ويجلد الشاب؛ تمسكا بلفظ « الشيخ » في حديث زيد بن ثابت أنه سمع
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة » خرجه النسائي. وهذا فاسد؛ لأنه
قد سماه في الحديث الآخر « الثيب
» .
قوله
تعالى: « فإن
تابا » أي من
الفاحشة. « وأصلحا
» يعني
العمل فيما بعد ذلك. «
فأعرضوا عنهما » أي
اتركوا أذاهما وتعييرهما. وإنما كان هذا قبل نزول الحدود. فلما نزلت الحدود نسخت
هذه الآية. وليس المراد بالإعراض الهجرة، ولكنها متاركة معرض؛ وفي ذلك احتقار لهم
بسبب المعصية المتقدمة، وبحسب الجهالة في الآية الأخرى. والله تواب أي راجع بعباده
عن المعاصي.
الآيتان:
17 - 18 ( إنما التوبة على الله للذين
يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما
حكيما، وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت
الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما )
قوله
تعالى: « إنما
التوبة على الله » قيل:
هذه الآية عامة لكل من عمل ذنبا. وقيل: لمن جهل فقط، والتوبة لكل من عمل ذنبا في
موضع آخر. واتفقت الأمة على أن التوبة فرض على المؤمنين؛ لقوله تعالى: « وتوبوا إلى الله جميعا آيه
المؤمنون » . [ النور: 31 ] . وتصح من ذنب مع الإقامة على
غيره من غير نوعه خلافا للمعتزلة في قولهم: لا يكون تائبا من أقام على ذنب. ولا
فرق بين معصية ومعصية - هذا مذهب أهل السنة. وإذا تاب العبد فالله سبحانه بالخيار
إن شاء قبلها، وإن شاء لم يقبلها. وليس قبول التوبة واجبا على الله من طريق العقل
كما قال المخالف؛ لأن من شرط الواجب أن يكون أعلى رتبة من الموجب عليه، والحق
سبحانه خالق الخلق ومالكهم، والمكلف لهم؛ فلا يصح أن يوصف بوجوب شيء عليه، تعالى
عن ذلك، غير أنه قد أخبر سبحانه وهو الصادق في وعده بأنه يقبل التوبة عن العاصين
من عباده بقوله تعالى: « وهو
يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات » [
الشورى: 25 ] .
وقوله: « ألم يعلموا أن الله هو يقبل
التوبة عن عباده » [ التوبة: 104 ] وقوله: « وإني لغفار لمن تاب » [ طه: 82 ] فإخباره سبحانه وتعالى عن
أشياء أوجبها على نفسه يقتضي وجوب تلك الأشياء. والعقيدة أنه لا يجب عليه شيء
عقلا؛ فأما السمع فظاهره قبول توبة التائب. قال أبو المعالي وغيره: وهذه الظواهر
إنما تعطي غلبة ظن، لا قطعا على الله تعالى بقبول التوبة. قال ابن عطية: وقد خولف
أبو المعالي وغيره في هذا المعنى. فإذا فرضنا رجلا قد تاب توبة نصوحا تامة الشروط
فقال أبو المعالي: يغلب على الظن قبول توبته. وقال غيره: يقطع على الله تعالى
بقبول توبته كما أخبر عن نفسه جل وعز. قال ابن عطية: وكان أبي رحمه الله يميل إلى
هذا القول ويرجحه، وبه أقول، والله تعالى أرحم بعباده من أن ينخرم في هذا التائب
المفروض معنى قوله: « وهو
الذي يقبل التوبة عن عباده » [ الشورى: 25 ] وقوله تعالى: « وإني لغفار » [ طه: 82 ] . وإذا تقرر هذا فاعلم أن في
قوله « على
الله » حذفا
وليس على ظاهره، وإنما المعنى على فضل الله ورحمته بعباده. وهذا نحو قوله صلى الله
عليه وسلم لمعاذ: ( أتدري
ما حق العباد على الله ) ؟ قال:
الله ورسوله أعلم. قال: ( أن
يدخلهم الجنة ) . فهذا
كله معناه: على فضله ورحمته بوعده الحق وقوله الصدق. دليله قوله تعالى: « كتب على نفسه الرحمة » [ الأنعام: 12 ] أي وعد بها. وقيل: « على » ههنا معناها « عند » والمعنى واحد، التقدير: عند
الله، أي إنه وعد ولا خلف في وعده أنه يقبل التوبة إذا كانت بشروطها المصححة لها؛
وهي أربعة: الندم بالقلب، وترك المعصية في الحال، والعزم على ألا يعود إلى مثلها،
وأن يكون ذلك حياء من الله تعالى لا من غيره؛ فإذا اختل شرط من هذه الشروط لم تصح
التوبة. وقد قيل من شروطها: الاعتراف بالذنب وكثرة الاستغفار، وقد تقدم في « آل عمران » كثير من معاني التوبة
وأحكامها. ولا خلاف فيما أعلمه أن التوبة لا تسقط حدا؛ ولهذا قال علماؤنا: إن
السارق والسارقة والقاذف متى تابوا وقامت الشهادة عليهم أقيمت عليهم الحدود. وقيل:
« على » بمعنى « من » أي إنما التوبة من الله للذين؛
قاله أبو بكر بن عبدوس، والله أعلم. وسيأتي في « التحريم » الكلام
في التوبة النصوح والأشياء التي يتاب منها.
قوله
تعالى: « للذين
يعملون السوء بجهالة » السوء
في هذه الآية، و «
الأنعام » . « أنه من عمل منكم سوءا بجهالة
» [ الأنعام: 54 ] يعم الكفر والمعاصي؛ فكل من
عصى ربه فهو جاهل حتى ينزع عن معصيته. قال قتادة: أجمع أصحاب النبي صلى الله عليه
وسلم على أن كل معصية فهي بجهالة، عمدا كانت أو جهلا؛ وقال ابن عباس وقتادة
والضحاك ومجاهد والسدي. وروي عن الضحاك ومجاهد أنهما قالا: الجهالة هنا العمد.
وقال عكرمة: أمور الدنيا كلها جهالة؛ يريد الخاصة بها الخارجة عن طاعة الله. وهذا
القول جار مع قوله تعالى: « إنما
الحياة الدنيا لعب ولهو » [ محمد: 36 ] . وقال الزجاج: يعني قوله « بجهالة » اختيارهم اللذة الفانية على
اللذة الباقية. وقيل: « بجهالة
» أي لا
يعلمون كنه العقوبة؛ ذكره ابن فورك. قال ابن عطية: وضعف قوله هذا ورد عليه.
قوله
تعالى: « ثم
يتوبون من قريب » قال ابن
عباس والسدي: معناه قبل المرض والموت. وروي عن الضحاك أنه قال: كل ما كان قبل
الموت فهو قريب. وقال أبو مجلز والضحاك أيضا وعكرمة وابن زيد وغيرهم: قبل المعاينة
للملائكة والسوق، وأن يغلب المرء على نفسه. ولقد أحسن محمود الوراق حيث قال:
قدم
لنفسك توبة مرجوة قبل الممات وقبل حبس الألسن
بادر بها
غلق النفوس فإنها ذخر وغنم للمنيب المحسن
قال
علماؤنا رحمهم الله: وإنما صحت التوبة منه في هذا الوقت؛ لأن الرجاء باق ويصح منه
الندم والعزم على ترك الفعل. وقد روى الترمذي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: ( إن
الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر ) . قال: هذا حديث حسن غريب. ومعنى ما لم يغرغر: ما لم تبلغ
روحه حلقومه؛ فيكون بمنزلة الشيء الذي يتغرغر به. قال الهروي وقيل: المعنى يتوبون
على قرب عهد من الذنب من غير إصرار. والمبادر في الصحة أفضل، وألحق لأمله من العمل
الصالح. والبعد كل البعد الموت؛ كما قال:
وأين
مكان البعد إلا مكانيا
وروى
صالح المري عن الحسن قال: من عير أخاه بذنب قد تاب إلى الله منه ابتلاه الله به.
وقال الحسن أيضا: إن إبليس لما هبط قال: بعزتك لا أفارق ابن آدم ما دام الروح في
جسده. قال الله تعالى: (
فبعزتي لا أحجب التوبة عن ابن آدم ما لم تغرغر نفسه ) .
قوله
تعالى: « وليست
التوبة » نفى
سبحانه أن يدخل في حكم التائبين من حضره الموت وصار في حين اليأس؛ كما كان فرعون
حين صار في غمرة الماء والغرق فلم ينفعه ما أظهر من الإيمان؛ لأن التوبة في ذلك
الوقت لا تنفع، لأنها حال زوال التكليف. وبهذا قال ابن عباس وابن زيد وجمهور
المفسرين. وأما الكفار يموتون على كفرهم فلا توبة لهم في الآخرة، وإليهم الإشارة
بقوله تعالى: « أولئك
أعتدنا لهم عذابا أليما » وهو
الخلود. وإن كانت الإشارة بقوله إلى الجميع فهو في جهة العصاة عذاب لا خلود معه؛
وهذا على أن السيئات ما دون الكفر؛ أي ليست التوبة لمن عمل دون الكفر من السيئات
ثم تاب عند الموت، ولا لمن مات كافرا فتاب يوم القيامة. وقد قيل: إن السيئات هنا
الكفر، فيكون المعنى وليست التوبة للكفار الذين يتوبون عند الموت، ولا للذين
يموتون وهم كفار. وقال أبو العالية: نزل أول الآية في المؤمنين « إنما التوبة على الله » . والثانية في المنافقين. « وليست التوبة للذين يعملون
السيئات » يعني
قبول التوبة للذين أصروا على فعلهم. « حتى إذا حضر أحدهم الموت » يعني الشرق والنزع ومعاينة ملك الموت. « قال إني تبت الآن » فليس لهذا توبة. ثم ذكر توبة
الكفار فقال تعالى: « ولا
الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما » أي وجيعا دائما. وقد تقدم.
الآية:
19 ( يا أيها الذين آمنوا لا يحل
لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين
بفاحشة مبينة وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه
خيرا كثيرا )
قوله
تعالى: « لا يحل
لكم أن ترثوا النساء كرها » هذا
متصل بما تقدم ذكره من الزوجات. والمقصود نفي الظلم عنهن وإضرارهن؛ والخطاب
للأولياء. و « أن » في موضع رفع بـ « يحل » ؛ أي لا يحل لكم وراثة النساء.
و « كرها » مصدر في موضع الحال. واختلفت
الروايات وأقوال المفسرين في سبب نزولها؛ فروى البخاري عن ابن عباس « يا أيها الذين آمنوا لا يحل
لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن » قال: كانوا إذا مات الرجل كان
أولياؤه أحق بامرأته، إن شاء بعضهم تزوجها، وإن شاؤوا زوجوها، وإن شاؤوا لم
يزوجوها، فهم أحق بها من أهلها فنزلت هذه الآية في ذلك. وأخرجه أبو داود بمعناه. وقال
الزهري وأبو مجلز: كان من عادتهم إذا مات الرجل يلقي ابنه من غيرها أو أقرب عصبته
ثوبه على المرأة فيصير أحق بها من نفسها ومن أوليائها؛ فإن شاء تزوجها بغير صداق
إلا الصداق الذي أصدقها الميت، وان شاء زوجها من غيره وأخذ صداقها ولم يعطها شيئا؛
وإن شاء عضلها لتفتدى منه بما ورثته من الميت أو تموت فيرثها، فأنزل الله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا لا يحل
لكم أن ترثوا النساء كرها » . فيكون
المعنى: لا يحل لكم أن ترثوهن من أزواجهن فتكونوا أزواجا لهن. وقيل: كان الوارث إن
سبق فألقى عليها ثوبا فهو أحق بها، وإن سبقته فذهبت إلى أهلها كانت أحق بنفسها؛
قال السدي. وقيل: كان يكون عند الرجل عجوز ونفسه تتوق إلى الشابة فيكره فراق
العجوز لمالها فيمسكها ولا يقربها حتى تفتدي منه بمالها أو تموت فيرث مالها. فنزلت
هذه الآية. وأمر الزوج أن يطلقها إن كره صحبتها ولا يمسكها كرها؛ فذلك قوله تعالى:
« لا يحل
لكم أن ترثوا النساء كرها » .
والمقصود من الآية إذهاب ما كانوا عليه في جاهليتهم، وألا تجعل النساء كالمال
يورثن عن الرجال كما يورث المال. « وكرها
» بضم
الكاف قراءة حمزة والكسائي، الباقون بالفتح، وهما لغتان. وقال القتبي: الكره ( بالفتح ) بمعنى الإكراه، والكره ( بالضم ) المشقة. يقال: لتفعل ذلك طوعا
أو كرها، يعني طائعا أو مكرها. والخطاب للأولياء. وقيل: لأزواج النساء إذا حبسوهن
مع سوء العشرة طماعية إرثها، أو يفتدين ببعض مهورهن، وهذا أصح. واختاره ابن عطية
قال: ودليل ذلك قوله تعالى: « إلا أن
يأتين بفاحشة ) وإذا
أتت بفاحشة فليس للولي حبسها حتى يذهب بمالها إجماعا من الأمة، وإنما ذلك للزوج،
على ما يأتي بيانه في المسألة بعد هذا. »
قوله
تعالى: « ولا
تعضلوهن » قد تقدم
معنى العضل وأنه المنع في « البقرة
» . « إلا أن يأتين بفاحشة مبينة » اختلف الناس في معنى الفاحشة؛
فقال الحسن: هو الزنا، وإذا زنت البكر فإنها تجلد مائة وتنفى سنة، وترد إلى زوجها
ما أخذت منه. وقال أبو قلابة؛ إذا زنت امرأة الرجل فلا بأس أن يضارها ويشق عليها
حتى تفتدي منه. وقال السدي: إذا فعلن ذلك فخذوا مهورهن. وقال ابن سيرين وأبو
قلابة: لا يحل له أن يأخذ منها فدية إلا أن يجد على بطنها رجلا، قال الله تعالى: « إلا أن يأتين بفاحشة مبينة » . وقال ابن مسعود وابن عباس
والضحاك وقتادة: الفاحشة المبينة في هذه الآية البغض والنشوز، قالوا: فإذا نشزت حل
له أن يأخذ مالها؛ وهذا هو مذهب مالك. قال ابن عطية: إلا أني لا أحفظ له نصا في
الفاحشة في الآية. وقال قوم: الفاحشة البذاء باللسان وسوء العشرة قولا وفعلا؛ وهذا
في معنى النشوز. ومن أهل العلم من يجيز أخذ المال من الناشز على جهة الخلع؛ إلا
أنه يرى ألا يتجاوز ما أعطاها ركونا إلى قوله تعالى: « لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن » . وقال مالك وجماعة من أهل
العلم: للزوج أن يأخذ من الناشز جميع ما تملك. قال ابن عطية: والزنا أصعب على
الزوج من النشوز والأذى، وكل ذلك فاحشة تحل أخذ المال. قال أبو عمر: قول ابن سيرين
وأبي قلابة عندي ليس بشيء؛ لأن الفاحشة قد تكون البذاء والأذى؛ ومنه قيل للبذيء:
فاحش ومتفحش، وعلى أنه لو أطلع منها على الفاحشة كان له لعانها، وإن شاء طلقها؛
وأما أن يضارها حتى تفتدي منه بمالها فليس له ذلك، ولا أعلم أحدا قال: له أن
يضارها ويسيء إليها حتى تختلع منه إذا وجدها تزني غير أبي قلابة. والله أعلم. وقال
الله عز وجل: « فإن
خفتم ألا يقيما حدود الله » [ البقرة: 229 ] يعني في حسن العشرة والقيام
بحق الزوج وقيامه بحقها « فلا
جناح عليهما فيما افتدت به » [ البقرة: 229 ] وقال الله عز وجل: « فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا
فكلوه هنيئا مريئا » [ النساء: 4 ] فهذه الآيات أصل هذا الباب.
وقال عطاء الخراساني: كان الرجل إذا أصابت امرأته فاحشة أخذ منها ما ساق إليها
وأخرجها، فنسخ ذلك بالحدود. وقول رابع « إلا أن يأتين بفاحشة مبينة » إلا أن يزنين فيحبسن في
البيوت، فيكون هذا قبل النسخ، وهذا في معنى قول عطاء، وهو ضعيف.
وإذا
تنزلنا على القول بأن المراد بالخطاب في العضل الأولياء ففقهه أنه متى صح في ولي
أنه عاضل نظر القاضي في أمر المرأة وزوجها. إلا الأب في بناته؛ فإنه إن كان في
عضله صلاح فلا يعترض، قولا واحدا، وذلك بالخاطب والخاطبين وإن صح عضله ففيه قولان
في مذهب مالك: أنه كسائر الأولياء، يزوج القاضي من شاء التزويج من بناته وطلبه.
والقول الآخر - لا يعرض له: يجوز أن يكون « تعضلوهن » جزما
على النهى، فتكون الواو عاطفة جملة كلام مقطوعة من الأولى، ويجوز أن يكون نصبا
عطفا على « أن
ترثوا » فتكون
الواو مشتركة عطفت فعلا على فعل. وقرأ ابن مسعود « ولا أن تعضلوهن » فهذه القراءة تقوي احتمال النصب، وأن العضل مما لا يجوز
بالنص.
قوله
تعالى: « مبينة
» بكسر
الياء قراءة نافع وأبي عمرو، والباقون بفتح الياء. وقرأ ابن عباس « مبينة » بكسر الباء وسكون الياء، من
أبان الشيء، يقال: أبان الأمر بنفسه، وأبنته وبين وبينته، وهذه القراءات كلها لغات
فصيحة.
قوله
تعالى: «
وعاشروهن بالمعروف » أي على
ما أمر الله به من حسن المعاشرة. والخطاب للجميع، إذ لكل أحد عشرة، زوجا كان أو
وليا؛ ولكن المراد بهذا الأمر في الأغلب الأزواج، وهو مثل قوله تعالى: « فإمساك بمعروف » [ البقرة: 229 ] . وذلك توفية حقها من المهر
والنفقة، وألا يعبس في وجهها بغير ذنب، وأن يكون منطلقا في القول لا فظا ولا غليظا
ولا مظهرا ميلا إلى غيرها. والعشرة: المخالطة والممازجة. ومنه قول طرفة:
فلئن شطت
نواها مرة لعلى عهد حبيب معتشر
جعل
الحبيب. جمعا كالخليط والغريق. وعاشره معاشرة، وتعاشر القوم واعتشروا. فأمر الله
سبحانه بحسن صحبة النساء إذا عقدوا عليهن لتكون أدمة ما بينهم وصحبتهم على الكمال،
فإنه أهدأ للنفس وأهنأ للعيش. وهذا واجب على الزوج ولا يلزمه في القضاء. وقال
بعضهم: هو أن يتصنع لها كما تتصنع له. وقال يحيى بن عبدالرحمن الحنظلي: أتيت محمد
بن الحنفية فخرج إلي في ملحفة حمراء ولحيته تقطر من الغالية، فقلت: ما هذا؟ قال:
إن هذه الملحفة ألقتها علي امرأتي ودهنتني بالطيب، وإنهن يشتهين منا ما نشتهيه
منهن. وقال ابن عباس رضي الله عنه: إني أحب أن أتزين لامرأتي كما أحب أن تتزين
المرأة لي. وهذا داخل فيما ذكرناه. قال ابن عطية: وإلى معنى الآية ينظر قول النبي
صلى الله عليه وسلم: (
فاستمتع بها وفيها عوج ) أي لا
يكن منك سوء عشرة مع اعوجاجها؛ فعنها تنشأ المخالفة وبها يقع الشقاق، وهو سبب
الخلع.
واستدل
علماؤنا بقوله تعالى: «
وعاشروهن بالمعروف » على أن
المرأة إذا كانت لا يكفيها خادم واحد أن عليه أن يخدمها قدر كفايتها، كابنة
الخليفة والملك وشبههما ممن لا يكفيها خادم واحد، وأن ذلك هو المعاشرة بالمعروف.
وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا يلزمه إلا خادم واحد - وذلك يكفيها خدمة نفسها، وليس
في العالم امرأة إلا وخادم واحد يكفيها؛ وهذا كالمقاتل تكون له أفراس عدة فلا يسهم
له إلا لفرس واحد؛ لأنه لا يمكنه القتال إلا على فرس واحد. قال علماؤنا: وهذا غلط؛
لأن مثل بنات الملوك اللاتي لهن خدمة كثيرة لا يكفيها خادم واحد؛ لأنها تحتاج من
غسل ثيابها لإصلاح مضجعها وغير ذلك إلى ما لا يقوم به الواحد، وهذا بين. والله
أعلم.
قوله
تعالى: « فإن
كرهتموهن » أي
لدمامة أو سوء خلق من غير ارتكاب فاحشة أو نشوز؛ فهذا يندب فيه إلى الاحتمال، فعسى
أن يؤول الأمر إلى أن يرزق الله منها أولادا صالحين. و « أن » رفع بـ « عسى » وأن والفعل مصدر.
قلت: ومن
هذا المعنى ما ورد في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: ( لا
يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقا رضي منها آخر ) أو قال ( غيره ) . المعنى: أي لا يبغضها بغضا
كليا يحمله على فراقها. أي لا ينبغي له ذلك بل يغفر سيئتها لحسنتها ويتغاضى عما
يكره لما يحب. وقال مكحول: سمعت ابن عمر يقول: إن الرجل ليستخير الله تعالى فيخار
له، فيسخط على ربه عز وجل فلا يلبث أن ينظر في العاقبة فإذا هو قد خير له. وذكر
ابن العربي قال أخبرني أبو القاسم بن حبيب بالمهدية، عن أبي القاسم السيوري عن أبي
بكر بن عبدالرحمن حيث قال: كان الشيخ أبو محمد بن أبي زيد من العلم والدين في
المنزلة والمعرفة. وكانت له زوجة سيئة العشرة وكانت تقصر في حقوقه وتؤذيه بلسانها؛
فيقال له في أمرها ويعذل بالصبر عليها، فكان يقول: أنا رجل قد أكمل الله علي
النعمة في صحة بدني ومعرفتي وما ملكت يميني، فلعلها بعثت عقوبة على ذنبي فأخاف إن
فارقتها أن تنزل بي عقوبة هي أشد منها. قال علماؤنا: في هذا دليل على كراهة الطلاق
مع الإباحة. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن الله لا يكره شيئا أباحه
إلا الطلاق والأكل وإن الله ليبغض المِعى إذا امتلأ ) .
الآيتان:
20 - 21 ( وإن أردتم استبدال زوج مكان
زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا، وكيف
تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا )
لما مضى
في الآية المتقدمة حكم الفراق الذي سببه المرأة، وأن للزوج أخذ المال منها عقب ذلك
بذكر الفراق الذي سببه الزوج، وبين أنه إذا أراد الطلاق من غير نشوز وسوء عشرة
فليس له أن يطلب منها مالا.
واختلف
العلماء إذا كان الزوجان يريدان الفراق وكان منهما نشوز وسوء عشرة؛ فقال مالك رضي
الله عنه: للزوج أن يأخذ منها إذا تسببت في الفراق ولا يراعى تسببه هو. وقال جماعة
من العلماء: لا يجوز له أخذ المال إلا أن تنفرد هي بالنشوز وتطلبه في ذلك.
قوله
تعالى: « وآتيتم
إحداهن قنطارا » فيها
دليل على جواز المغالاة في المهور؛ لأن الله تعالى لا يمثل إلا بمباح. وخطب عمر
رضي الله عنه فقال: ألا لا تغالوا في صدقات النساء فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا
أو تقوى عند الله لكان أولاكم بها رسول الله؛ ما أصدق قط امرأة من نسائه ولا بناته
فوق اثنتي عشرة أوقية. فقامت إليه امرأة فقالت: يا عمر، يعطينا الله وتحرمنا! أليس
الله سبحانه وتعالى يقول: « وآتيتم
إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا » ؟ فقال عمر: أصابت امرأة وأخطأ عمر. وفي رواية فأطرق عمر ثم
قال: كل الناس أفقه منك يا عمر !. وفي أخرى: امرأة أصابت ورجل أخطأ. وترك الإنكار.
أخرجه أبو حاتم البستي في صحيح مسنده عن أبي العجفاء السلمي قال: خطب عمر الناس،
فذكره إلى قوله: اثنتي عشرة أوقية، ولم يذكر: فقامت إليه امرأة. إلى آخره. وأخرجه
ابن ماجة في سننه عن أبي العجفاء، وزاد بعد قوله: أوقية. وأن الرجل ليثقل صدقة
امرأته حتى تكون لها عداوة في نفسه، ويقول: قد كلفت إليك علق القربة - أو عرق
القربة؛ وكنت رجلا عربيا مولدا ما أدري ما علق القربة أو عرق القربة. قال الجوهري:
وعلق القربة لغة في عرق القربة. قال غيره: ويقال علق القربة عصامها الذي تعلق به.
يقول كلفت إليك حتى عصام القربة. وعرق القربة ماؤها؛ يقول: جشمت إليك حتى سافرت
واحتجت إلى عرق القربة، وهو ماؤها في السفر. ويقال: بل عرق القربة أن يقول: نصبت
لك وتكلفت حتى عرقت عرق القربة، وهو سيلانها. وقيل: إنهم كانوا يتزودون الماء
فيعلقونه على الإبل يتناوبونه فيشق على الظهر؛ ففسر به اللفظان: العرق والعلق.
وقال الأصمعي: عرق القربة كلمة معناها الشدة. قال: ولا أدري ما أصلها. قال
الأصمعي: وسمعت ابن أبي طرفة وكان من أفصح من رأيت يقول: سمعت شيخاننا يقولون:
لقيت من فولان عرق القربة، يعنون الشدة. وأنشدني لابن الأحمر:
ليست
بمشتمة تعد وعفوها عرق السقاء على القعود اللاغب
قال أبو
عبيد: أراد أنه يسمع الكلمة تغيظه وليست بشتم فيؤاخذ صاحبها بها، وقد أبلغت إليه
كعرق القربة، فقال: كعرق السقا لما لم يمكنه الشعر؛ ثم قال: على القعود اللاغب،
وكان معناه أن تعلق القربة على القعود في أسفارهم. وهذا المعنى شبيه بما كان
الفراء يحكيه؛ زعم أنهم كانوا في المفاوز في أسفارهم يتزودون الماء فيعلقونه على
الإبل يتناوبونه؛ فكان في ذلك تعب ومشقة على الظهر. وكان الفراء يجعل هذا التفسير
في علق القربة باللام. وقال قوم: لا تعطى الآية جواز المغالاة بالمهور؛ لأن
التمثيل بالقنطار إنما هو على جهة المبالغة؛ كأنه قال: وآتيتم هذا القدر العظيم
الذي لا يؤتيه أحد. وهذا كقوله: ( من
بنى لله مسجدا ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتا في الجنة ) . ومعلوم أنه لا يكون مسجد
كمفحص قطاة. وقد قال صلى الله عليه وسلم لابن أبي حدرد وقد جاء يستعينه في مهره،
فسأله عنه فقال: مائتين؛ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ( كأنكم تقطعون الذهب والفضة
من عرض الحرة أو جبل ) . فاستقرأ
بعض الناس من هذا منع المغالاة بالمهور؛ وهذا لا يلزم، وإنكار النبي صلى الله عليه
وسلم على هذا الرجل المتزوج ليس إنكارا لأجل المغالاة والإكثار في المهور، وإنما
الإنكار لأنه كان فقيرا في تلك الحال فأحوج نفسه إلى الاستعانة والسؤال، وهذا
مكروه باتفاق. وقد أصدق عمر أم كلثوم بنت علي من فاطمة رضوان الله عليهم أربعين
ألف درهم. وروى أبو داود عن عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل: ( أترضى أن أزوجك فلانة ) ؟ قال: نعم. وقال للمرأة: ( أترضين أن أزوجك فلانا ) ؟ قالت: نعم. فزوج أحدهما من
صاحب؛ فدخل بها الرجل ولم يفرض لها صداقا ولم يعطها شيئا، وكان ممن شهد الحديبية
وله سهم بخيبر؛ فلما حضرته الوفاة قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجني
فلانة ولم أفرض لها صداقا ولم أعطها شيئا، وإني أشهدكم أني قد أعطيتها من صداقها
سهمي بخيبر؛ فأخذت سهمها فباعته بمائة ألف. وقد أجمع العلماء على ألا تحديد في
أكثر الصداق؛ لقوله تعالى: « وآتيتم
إحداهن قنطارا »
واختلفوا في أقله، وسيأتي عند قوله تعالى: « أن تبتغوا بأموالكم » [
النساء: 24 ] . ومضى
القول في تحديد القنطار في « آل
عمران » . وقرأ
ابن محيصن « وآتيتم
احداهن » بوصل ألف
« إحداهن
» وهي
لغة؛ ومنه قول الشاعر:
وتسمع من
تحت العجاج لها ازملا
وقول
الآخر:
إن لم
أقاتل فألبسوني برقعا
قوله
تعالى: « فلا
تأخذوا منه شيئا » قال بكر
بن عبدالله المزني: لا يأخذ الزوج من المختلعة شيئا؛ لقول الله تعالى: « فلا تأخذوا » ، وجعلها ناسخة لآية « البقرة » . وقال ابن زيد وغيره: هي
منسوخة بقوله تعالى في سورة البقرة « ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا » [ البقرة: 229 ] . والصحيح أن هذه الآيات
محكمة وليس فيها ناسخ ولا منسوخ وكلها يبنى بعضها على بعض. قال الطبري: هي محكمة،
ولا معنى لقول بكر: إن أرادت هي العطاء؛ فقد جوز النبي صلى الله عليه وسلم لثابت
أن يأخذ من زوجته ما ساق إليها. « بهتانا
» مصدر في
موضع الحال « وإثما
» معطوف
عليه « مبينا
» من
نعته.
قوله
تعالى: « وكيف
تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض » تعليل لمنع
الأخذ مع الخلوة. وقال بعضهم: الإفضاء إذا كان معها في لحاف واحد جامع أو لم
يجامع؛ حكاه الهروي وهو قول الكلبي. وقال الفراء: الإفضاء أن يخلو الرجل والمرأة
وأن يجامعها. وقال ابن عباس ومجاهد والسدي وغيرهم: الإفضاء في هذه الآية الجماع.
قال ابن عباس: ولكن الله كريم يكنى. وأصل الإفضاء في اللغة المخالطة؛ ويقال للشيء
المختلط: فضا. قال الشاعر:
فقلت لها
يا عمتي لك ناقتي وتمر فضا في عيبتي وزبيب
ويقال:
القوم فوضى فضا، أي مختلطون لا أمير عليهم. وعلى أن معنى « أفضى » خلا وإن لم يكن جامع، هل يتقرر
المهر بوجود الخلوة أم لا؟ اختلف علماؤنا في ذلك على أربعة أقوال: يستقر بمجرد
الخلوة. لا يستقر إلا بالوطء. يستقر بالخلوة في بيت الإهداء. التفرقة بين بيته
وبيتها. والصحيح استقراره بالخلوة مطلقا، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، قالوا: إذا
خلا بها خلوة صحيحة يجب كمال المهر والعدة دخل بها أو لم يدخل بها؛ لما رواه
الدارقطني عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من كشف خمار امرأة ونظر
إليها وجب الصداق ) . وقال
عمر: إذا أغلق بابا وأرخى سترا ورأى عورة فقد وجب الصداق وعليها العدة ولها
الميراث. وعن علي: إذا أغلق بابا وأرخى سترا ورأى عورة فقد وجب الصداق. وقال مالك:
إذا طال مكثه معها مثل السنة ونحوها، واتفقا على ألا مسيس وطلبت المهر كله كان
لها. وقال الشافعي: لا عدة عليها ولها نصف المهر. وقد مضى في « البقرة » .
قوله
تعالى: « وأخذن
منكم ميثاقا غليظا » فيه
ثلاثة أقوال. قيل: هو قوله عليه السلام: ( فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله
واستحللتم فروجهن بكلمة الله ) . قاله
عكرمة والربيع. الثاني: قوله تعالى: « فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان » [ البقرة: 229 ] قاله الحسن وابن سيرين وقتادة
والضحاك والسدي. الثالث: عقدة النكاح قول الرجل: نكحت وملكت عقدة النكاح؛ قال
مجاهد وابن زيد. وقال قوم: الميثاق الغليظ الولد. والله أعلم.
الآية:
22 ( ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من
النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا )
قوله
تعالى: « ولا
تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء » يقال:
كان الناس يتزوجون امرأة الأب برضاها بعد نزول قوله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا لا يحل
لكم أن ترثوا النساء كرها » [ النساء: 19 ] حتى نزلت هذه الآية: « ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم » فصار حراما في الأحوال كلها؛
لأن النكاح يقع على الجماع والتزوج، فإن كان الأب تزوج امرأة أو وطئها بغير نكاح
حرمت على ابنه؛ على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
قوله
تعالى: « ما نكح
» قيل:
المراد بها النساء. وقيل: العقد، أي نكاح آباؤكم الفاسد المخالف لدين الله؛ إذ
الله قد أحكم وجه النكاح وفصل شروطه. وهو اختيار الطبري. فـ « من » متعلقة بـ « تنكحوا » و « ما نكح » مصدر. قال: ولو كان معناه ولا
تنكحوا النساء اللاتي نكح آباؤكم لوجب أن يكون موضع « ما » « من » . فالنهي على هذا إنما وقع على
ألا ينكحوا مثل نكاح آبائهم الفاسد. والأول أصح، وتكون « ما » بمعنى « الذي » و « من » . والدليل عليه أن الصحابة
تلقت الآية على ذلك المعنى؛ ومنه استدلت على منع نكاح الأبناء حلائل الآباء. وقد
كان في العرب قبائل قد اعتادت أن يخلف ابن الرجل على امرأة أبيه، وكانت هذه السيرة
في الأنصار لازمة، وكانت في قريش مباحة مع التراضي. ألا ترى أن عمرو بن أمية خلف
على امرأة أبيه بعد موته فولدت له مسافرا وأبا معيط، وكان لها من أمية أبو العيص
وغيره؛ فكان بنو أمية إخوة مسافر وأبي معيط وأعمامهما. ومن ذلك صفوان بن أمية بن
خلف تزوج بعد أبيه امرأته فاخته بنت الأسود بن المطلب بن أسد، وكان أمية قتل عنها.
ومن ذلك منظور بن زبان خلف على مليكة بنت خارجة، وكانت تحت أبيه زبان بن سيار. ومن
ذلك حصن بن أبي قيس تزوج امرأة أبيه كبيشة بنت معن. والأسود بن خلف تزوج امرأة
أبيه. وقال الأشعث بن سوار: توفي أبو قيس وكان من صالحي الأنصار فخطب ابنه قيس
امرأة أبيه فقالت: إني أعدك ولدا، ولكني آتي وسول الله صلى الله عليه وسلم
استأمره؛ فأتته فأخبرته فأنزل الله هذه الآية. وقد كان في العرب من تزوج ابنته،
وهو حاجب بن زرارة تمجس وفعل هذه الفعلة؛ ذكر ذلك النضر بن شميل في كتاب المثالب.
فنهى الله المؤمنين عما كان عليه آباؤهم من هذه السيرة.
قوله
تعالى: « إلا ما
قد سلف » أي تقدم
ومضى. والسلف؛ من تقدم من آبائك وذوي قرابتك. وهذا استثناء منقطع، أي لكن ما قد
سلف فاجتنبوه ودعوه. وقيل: « إلا » بمعنى بعد، أي بعد ما سلف؛ كما
قال تعالى: « لا
يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى » [
الدخان: 56 ] أي بعد
الموتة الأولى. وقيل: « إلا ما
قد سلف » أي ولا
ما سلف؛ كقوله تعالى: « وما
كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ » [
النساء: 92 ] يعني
ولا خطأ. وقيل: في الآية تقديم وتأخير، معناه: ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء
إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا إلا ما قد سلف. وقيل: في الآية إضمار لقوله « ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من
النساء » فإنكم
إن فعلتم تعاقبون وتؤاخذون إلا ما قد سلف.
قوله
تعالى: « إنه
كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا » عقب
بالذم البالغ المتتابع، وذلك دليل على أنه فعل انتهى من القبح إلى الغاية. قال أبو
العباس: سألت ابن الأعرابي عن نكاح المقت فقال: هو أن يتزوج الرجل امرأة أبيه إذا
طلقها أو مات عنها؛ ويقال لهذا الرجل: الضيزن. وقال ابن عرفة: كانت العرب إذا تزوج
الرجل امرأة أبيه فأولدها قيل للولد: المقتي. وأصل المقت البغض؛ من مقته يمقته
مقتا فهو ممقوت ومقيت. فكانت العرب تقول للرجل من امرأة أبيه: مقيت؛ فسمى تعالى
هذا النكاح « مقتا » إذ هو ذا مقت يلحق فاعله.
وقيل: المراد بالآية النهي عن أن يطأ الرجل امرأة وطئها الآباء، إلا ما قد سلف من
الآباء في الجاهلية من الزنى بالنساء لا على وجه المناكحة فإنه جائز لكم زواجهن.
وأن تطؤوا بعقد النكاح ما وطئه آباؤكم من الزنى؛ قال ابن زيد. وعليه فيكون
الاستثناء متصلا، ويكون أصلا في أن الزنى لا يحرم على ما يأتي بيانه. والله أعلم.
الآية:
23 ( حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم
وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم
وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي
دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من
أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف إن الله كان غفورا رحيما )
قوله
تعالى: « حرمت
عليكم أمهاتكم وبناتكم » أي نكاح
أمهاتكم ونكاح بناتكم؛ فذكر الله تعالى في هذه الآية ما يحل من النساء وما يحرم،
كما ذكر تحريم حليلة الأب. فحرم الله سبعا من النسب وستا من رضاع وصهر، وألحقت
السنة المتواترة سابعة؛ وذلك الجمع بين المرأة وعمتها، ونص عليه الإجماع. وثبتت
الرواية عن ابن عباس قال: حرم من النسب سبع ومن الصهر سبع، وتلا هذه الآية. وقال
عمرو بن سالم مولى الأنصار مثل ذلك، وقال: السابعة قوله تعالى: « والمحصنات » . فالسبع المحرمات من النسب:
الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات، وبنات الأخ وبنات الأخت. والسبع
المحرمات بالصهر والرضاع: الأمهات من الرضاعة والأخوات من الرضاعة، وأمهات النساء
والربائب وحلائل الأبناء والجمع بين الأختين، والسابعة « ولا تنكحوا ما نكح آبائكم » . قال الطحاوي: وكل هذا من
المحكم المتفق عليه، وغير جائز نكاح واحدة منهن بإجماع إلا أمهات النساء اللواتي
لم يدخل بهن أزواجهن؛ فإن جمهور السلف ذهبوا إلى أن الأم تحرم بالعقد على الابنة،
ولا تحرم الابنة إلا بالدخول بالأم؛ وبهذا قول جمعي أئمة الفتوى بالأمصار. وقالت
طائفة من السلف: الأم والربيبة سواء، لا تحرم منهما واحدة إلا بالدخول بالأخرى.
قالوا:
ومعنى قوله: « وأمهات
نسائكم » أي
اللاتي دخلتم بهن. «
وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن » . وزعموا أن شرط الدخول راجع
إلى الأمهات والربائب جميعا؛ رواه خلاس عن علي بن أبي طالب. وروي عن ابن عباس
وجابر وزيد بن ثابت، وهو قول ابن الزبير ومجاهد. قال مجاهد: الدخول مراد في
النازلتين؛ وقول الجمهور مخالف لهذا وعليه الحكم والفتيا، وقد شدد أهل العراق فيه
حتى قالوا: لو وطئها بزنى أو قبلها أو لمسها بشهوة حرمت عليه ابنتها. وعندنا وعند
الشافعي إنما تحرم بالنكاح الصحيح؛ والحرام لا يحرم الحلال على ما يأتي. وحديث
خلاس عن علي لا تقوم به حجة، ولا تصح روايته عند أهل العلم بالحديث، والصحيح عنه
مثل قول الجماعة. قال ابن جريج: قلت لعطاء الرجل ينكح المرأة ثم لا يراها ولا
يجامعها حتى يطلقها أو تحل له أمها؟ قال: لا، هي مرسلة دخل بها أو لم يدخل. فقلت
له: أكان ابن عباس يقرأ: « وأمهات
نسائكم اللاتي دخلتم بهن » ؟ قال:
لا لا. وروى سعيد عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى: « وأمهات نسائكم » قال: هي مبهمة لا تحل بالعقد
على الابنة؛ وكذلك روى مالك في موطئه عن زيد بن ثابت، وفيه: « فقال زيد لا، الأم مبهمة ليس
فيها شرط وإنما الشرط في الربائب » . قال ابن المنذر: وهذا هو الصحيح؛ لدخول جميع أمهات النساء
في قوله تعالى: « وأمهات
نسائكم » . ويؤيد
هذا القول من جهة الإعراب أن الخبرين إذا اختلفا في العامل لم يكن نعتهما واحدا؛
فلا يجوز عند النحويين مررت بنسائك وهربت من نساء زيد الظريفات، على أن تكون « الظريفات » نعتا لنسائك ونساء زيد؛ فكذلك
الآية لا يجوز أن يكون « اللاتي
» من
نعتهما جميعا؛ لأن الخبرين مختلفان، ولكنه يجوز على معنى أعني. وأنشد الخليل
وسيبويه:
إن بها
أكتل أو رزاما خويربين ينقفان الهاما
خويربين
يعني لصين، بمعنى أعني. وينقفان: يكسران؛ نقفت رأسه كسرته. وقد جاء صريحا من حديث
عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا نكح الرجل المرأة فلا
يحل له أن يتزوج أمها دخل بالبنت أو لم يدخل وإذا تزوج الأم فلم يدخل بها ثم طلقها
فإن شاء تزوج البنت ) أخرجه
في الصحيحين
وإذا تقرر
هذا وثبت فاعلم أن التحريم ليس صفة للأعيان، والأعيان ليست موردا للتحليل والتحريم
ولا مصدرا، وإنما يتعلق التكليف بالأمر والنهي بأفعال المكلفين من حركة وسكون؛ لكن
الأعيان لما كانت موردا للأفعال أضيف الأمر والنهي والحكم إليها وعلق بها مجازا
على معنى الكناية بالمحل عن الفعل الذي يحل به.
قوله
تعالى: «
أمهاتكم » تحريم
الأمهات عام في كل حال لا يتخصص بوجه من الوجوه؛ ولهذا يسميه أهل العلم المبهم، أي
لا باب فيه ولا طريق إليه لانسداد التحريم وقوته؛ وكذلك تحريم البنات والأخوات ومن
ذكر من المحرمات. والأمهات جمع أمهة؛ يقال: أم وأمهة بمعنى واحد، وجاء القرآن
بهما. وقد تقدم في الفاتحة بيانه. وقيل: إن أصل أم أمهة على وزن فعلة مثل قبرة
وحمرة لطيرين، فسقطت وعادت في الجمع. قال الشاعر:
أمهتي
خندف والدوس أبي
وقيل:
أصل الأم أمة، وأنشدوا:
تقبلتها
عن أمة لك طالما تثوب إليها في النوائب أجمعا
ويكون
جمعها أمات. قال الراعي:
كانت
نجائب منذر ومحرق أماتهن وطرقهن فحيلا
فالأم
اسم لكل أنثى لها عليك ولادة؛ فيدخل في ذلك الأم دنية، وأمهاتها وجداتها وأم الأب
وجداته وإن علون. والبنت اسم لكل أنثى لك عليها ولادة، وإن شئت قلت: كل أنثى يرجع
نسبها إليك بالولادة بدرجة أو درجات؛ فيدخل في ذلك بنت الصلب وبناتها وبنات
الأبناء وإن نزلن. والأخت اسم لكل أنثى جاورتك في أصليك أو في أحدهما والبنات جمع
بنت، والأصل بنية، والمستعمل ابنة وبنت. قال الفراء: كسرت الباء من بنت لتدل
الكسرة على الياء، وضمت الألف من أخت لتدل على حذف الواو، فإن أصل أخت أخوة،
والجمع أخوات. والعمة اسم لكل أنثى شاركت أباك أو جدك في أصليه أو في أحدهما. وإن
شئت قلت: كل ذكر رجع نسبه إليك فأخته عمتك. وقد تكون العمة من جهة الأم، وهي أخت
أب أمك. والخالة اسم لكل أنثى شاركت أمك في أصليها أو في أحدهما. وإن شئت قلت: كل
أنثى رجع نسبها إليك بالولادة فأختها خالتك. وقد تكون الخالة من جهة الأب وهي أخت
أم أبيك. وبنت الأخ اسم لكل أنثى لأخيك عليها ولادة بواسطة أو مباشرة؛ وكذلك بنت
الأخت. فهذه السبع المحرمات من النسب. وقرأ نافع - في رواية أبي بكر بن أبي أويس -
بتشديد الخاء من الأخ إذا كانت فيه الألف واللام مع نقل الحركة.
قوله
تعالى: «
وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم » وهي في
التحريم مثل من ذكرنا؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يحرم من الرضاع ما يحرم من
النسب ) . وقرأ
عبدالله «
وأمهاتكم اللائي » بغير
تاء؛ كقوله تعالى: «
واللائي يئسن من المحيض » [ الطلاق: 4 ] قال الشاعر:
من اللاء
لم يحججن يبغين حسبة ولكن ليقتلن البريء المغفلا
«
أرضعنكم » فإذا
أرضعت المرأة طفلا حرمت عليه لأنها أمه، وبنتها لأنها أخته، وأختها لأنها خالته،
وأمها لأنها جدته، وبنت زوجها صاحب اللبن لأنها أخته، وأخته لأنها عمته، وأمه
لأنها جدته، وبنات بنيها وبناتها لأنهن بنات إخوته وأخواته.
قال أبو
نعيم عبيدالله بن هشام الحلبي: سئل مالك عن المرأة أيحج معها أخوها من الرضاعة؟
قال: نعم. قال أبو نعيم: وسئل مالك عن امرأة تزوجت فدخل بها زوجها. ثم جاءت امرأة
فزعمت أنها أرضعتهما؛ قال: يفرق بينهما، وما أخذت من شيء له فهو لها، وما بقي عليه
فلا شيء عليه. ثم قال مالك: إن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن مثل هذا فأمر
بذلك؛ فقالوا: يا رسول الله، إنها امرأة ضعيفة؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أليس يقال إن فلانا تزوج
أخته ) ؟
التحريم
بالرضاع إنما يحصل إذا اتفق الإرضاع في الحولين؛ كما تقدم في « البقرة » . ولا فرق بين قليل الرضاع
وكثيره عندنا إذا وصل إلى الأمعاء ولو مصة واحدة. واعتبر الشافعي في الإرضاع
شرطين: أحدهما خمس رضعات؛ لحديث عائشة قالت: كان فيما أنزل الله عشر رضعات معلومات
يحرمن، ثم نسخن بخمس معلومات، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن مما يقرأ من
القرآن. موضع الدليل منه أنها أثبتت أن العشر نسخن بخمس، فلو تعلق التحريم بما دون
الخمس لكان ذلك نسخا للخمس. ولا يقبل على هذا خبر واحد ولا قياس؛ لأنه لا ينسخ
بهما. وفي حديث سهلة (
أرضعيه خمس رضعات يحرم بهن ) .
الشرط الثاني: أن يكون في الحولين، فإن كان خارجا عنهما لم يحرم؛ لقوله تعالى: « حولين كاملين لمن أراد أن يتم
الرضاعة » [ البقرة: 233 ] . وليس بعد التمام والكمال
شيء. واعتبر أبو حنيفة بعد الحولين ستة أشهر. ومالك الشهر ونحوه. وقال زفر: ما دام
يجتزئ باللبن ولم يفطم فهو رضاع وإن أتى عليه ثلاث سنين. وقال الأوزاعي: إذا فطم
لسنة واستمر فطامه فليس بعده رضاع. وانفرد الليث بن سعد من بين العلماء إلى أن
رضاع الكبير يوجب التحريم؛ وهو قول عائشة رضي الله عنها؛ وروي عن أبي موسى الأشعري،
وروي عنه ما يدل على رجوعه عن ذلك، وهو ما رواه أبو حصين عن أبي عطية قال: قدم رجل
بامرأته من المدينة فوضعت وتورم ثديها، فجعل يمصه ويمجه فدخل في بطنه جرعة منه؛
فسأل أبا موسى فقال: بانت منك، وأت ابن مسعود فأخبره، ففعل؛ فأقبل بالأعرابي إلى
أبي موسى الأشعري وقال: أرضيعا ترى هذا الأشمط ! إنما يحرم من الرضاع ما ينبت
اللحم والعظم. فقال الأشعري: لا تسألوني عن شيء وهذا الحبر بين أظهركم. فقوله: « لا تسألوني » يدل على أنه رجع عن ذلك.
واحتجت عائشة بقصة سالم مولى أبي حذيفة وأنه كان رجلا. فقال النبي صلى الله عليه
وسلم لسهلة بنت سهيل: (
أرضعيه ) خرجه
الموطأ وغيره. وشذت طائفة فاعتبرت عشر رضعات؛ تمسكا بأنه كان فيما أنزل: عشر
رضعات. وكأنهم لم يبلغهم الناسخ. وقال داود: لا يحرم إلا بثلاث رضعات؛ واحتج بقول
رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا
تحرم الإملاجة والإملاجتان ) . خرجه
مسلم. وهو مروى عن عائشة وابن الزبير، وبه قال أحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد،
وهو تمسك بدليل الخطاب، وهو مختلف فيه. وذهب من عدا هؤلاء من أئمة الفتوى إلى أن
الرضعة الواحدة تحرم إذا تحققت كما ذكرنا؛ متمسكين بأقل ما ينطلق عليه اسم الرضاع.
وعضد هذا بما وجد من العمل عليه بالمدينة وبالقياس على الصهر؛ بعلة أنه معنى طارئ
يقتضي تأبيد التحريم فلا يشترط فيه العدد كالصهر. وقال الليث بن سعد: وأجمع
المسلمون على أن قليل الرضاع وكثيره يحرم في المهد ما يفطر الصائم. قال أبو عمر.
لم يقف الليث على الخلاف في ذلك.
قلت: وأنص
ما في هذا الباب قوله صلى الله عليه وسلم: ( لا تحرم المصة ولا المصتان ) أخرجه مسلم في صحيحه. وهو
يفسر معنى قوله تعالى: «
وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم » أي
أرضعنكم ثلاث رضعات فأكثر؛ غير أنه يمكن أن يحمل على ما إذا لم يتحقق وصوله إلى
جوف الرضيع؛ لقوله: « عشر رضعات
معلومات. وخمس رضعات معلومات » .
فوصفها بالمعلومات إنما هو تحرز مما يتوهم أو يشك في وصوله إلى الجوف. ويفيد دليل
خطابه أن الرضعات إذا كانت غير معلومات لم تحرم. والله أعلم. وذكر الطحاوي أن حديث
الإملاجة والإملاجتين لا يثبت؛ لأنه مرة يرويه ابن الزبير عن النبي صلى الله عليه
وسلم، ومرة يرويه عن عائشة، ومرة يرويه عن أبيه؛ ومثل هذا الاضطراب يسقطه. وروي عن
عائشة أنه لا يحرم إلا سبع رضعات. وروي عنها أنها أمرت أختها « أم كلثوم » أن ترضع سالم بن عبدالله عشر
رضعات. وروي عن حفصة مثله، وروي عنها ثلاث، وروي عنها خمس؛ كما قال الشافعي رضي
الله عنه، وحكي عن إسحاق.
قوله
تعالى: «
وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم » استدل
به من نفى لبن الفحل، وهو سعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي وأبو سلمة بن عبدالرحمن،
وقالوا: لبن الفحل لا يحرم شيئا من قبل الرجل. وقال الجمهور: قوله تعالى: « وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم » يدل على أن الفحل أب؛ لأن
اللبن منسوب إليه فإنه در بسبب ولده. وهذا ضعيف؛ فإن الولد خلق من ماء الرجل
والمرأة جميعا، واللبن من المرأة ولم يخرج من الرجل، وما كان من الرجل إلا وطء هو
سبب لنزول الماء منه، وإذا فصل الولد خلق الله اللبن من غير أن يكون مضافا إلى
الرجل بوجه ما؛ ولذلك لم يكن للرجل حق في اللبن، وإنما اللبن لها، فلا يمكن أخذ
ذلك من القياس على الماء. وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يحرم من الرضاع ما يحرم من
النسب ) يقتضي
التحريم من الرضاع، ولا يظهر وجه نسبة الرضاع إلى الرجل مثل ظهور نسبة الماء إليه
والرضاع منها. نعم، الأصل فيه حديث الزهري وهشام بن عروة عن عروة عن عائشة رضي
الله عنها: أن أفلح أخا القعيس جاء يستأذن عليها، وهو عمها من الرضاعة بعد أن نزل
الحجاب. قالت: فأبيت أن آذن له؛ فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته فقال: ( ليلج عليك فإنه عمك تربت
يمينك ) . وكان
أبو القعيس زوج المرأة التي أرضعت عائشة رضي الله عنها؛ وهذا أيضا خبر واحد.
ويحتمل أن يكون « أفلح » مع أبي بكر رضيعي لبان فلذلك
قال: ( ليلج
عليك فإنه عمك ) .
وبالجملة فالقول فيه مشكل والعلم عند الله، ولكن العمل عليه، والاحتياط في التحريم
أولى، مع أن قوله تعالى: « وأحل
لكم ما وراء ذلكم » يقوي
قول المخالف.
قوله
تعالى: «
وأخواتكم من الرضاعة » وهي
الأخت لأب وأم، وهي التي أرضعتها أمك بلبان أبيك؛ سواء أرضعتها معك أو ولدت قبلك
أو بعدك. والأخت من الأب دون الأم، وهي التي أرضعتها زوجة أبيك. والأخت من الأم
دون الأب، وهي التي أرضعتها أمك بلبان رجل آخر. ثم ذكر التحريم بالمصاهرة فقال
تعالى: « وأمهات
نسائكم » والصهر
أربع: أم المرأة وابنتها وزوجة الأب وزوجة الابن. فأم المرأة تحرم بمجرد العقد
الصحيح على ابنتها على ما تقدم
قوله
تعالى: « وربائبكم
اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن » هذا مستقل بنفسه. ولا يرجع قوله: « من نسائكم اللاتي دخلتم بهن » إلى الفريق الأول، بل هو راجع
إلى الربائب، إذ هو أقرب مذكور كما تقدم. والربيبة: بنت امرأة الرجل من غيره؛ سميت
بذلك لأنه يربيها في حجره فهي مربوبة، فعيلة بمعنى مفعولة. واتفق الفقهاء على أن
الربيبة تحرم على زوج أمها إذا دخل بالأم، وإن لم تكن الربيبة في حجره. وشذ بعض
المتقدمين وأهل الظاهر فقالوا: لا تحرم عليه الربيبة إلا أن تكون في حجر المتزوج
بأمها؛ فلو كانت في بلد آخر وفارق الأم بعد الدخول فله أن يتزوج بها؛ واحتجوا
بالآية فقالوا: حرم الله تعالى الربيبة بشرطين: أحدهما: أن تكون في حجر المتزوج
بأمها. والثاني: الدخول بالأم؛ فإذا عدم أحد الشرطين لم يوجد التحريم. واحتجوا
بقوله عليه السلام: ( لو لم
تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي إنها ابنة أخي من الرضاعة ) فشرط الحجر. ورووا عن علي بن
أبي طالب إجازة ذلك. قال ابن المنذر والطحاوي: أما الحديث عن علي فلا يثبت؛ لأن
راويه إبراهيم بن عبيد عن مالك بن أوس عن علي، وإبراهيم هذا لا يعرف، وأكثر أهل
العلم قد تلقوه بالدفع والخلاف. قال أبو عبيد: ويدفعه قوله: ( فلا تعرضن علي بناتكن ولا
أخواتكن ) فعم.
ولم يقل: اللائي في حجري، ولكنه سوى بينهن في التحريم. قال الطحاوي: وإضافتهن إلى
الحجور إنما ذلك على الأغلب مما يكون عليه الربائب؛ لا أنهن لا يحرمن إذا لم يكن
كذلك.
قوله
تعالى: « فإن لم
تكونوا دخلتم بهن » يعني
بالأمهات. « فلا
جناح عليكم » يعني في
نكاح بناتهن إذا طلقتموهن أو متن عنكم. وأجمع العلماء على أن الرجل إذا تزوج
المرأة ثم طلقها أو ماتت قبل أن يدخل بها حل له نكاح ابنتها. واختلفوا في معنى
الدخول بالأمهات الذي يقع به تحريم الربائب؛ فروي عن ابن عباس أنه قال: الدخول
الجماع؛ وهو قول طاوس وعمرو بن دينار وغيرهما. واتفق مالك والثوري وأبو حنيفة
والأوزاعي والليث على أنه إذا مسها بشهوه حرمت عليه أمها وابنتها وحرمت على الأب
والابن، وهو أحد قولي الشافعي. واختلفوا في النظر؛ فقال مالك: إذا نظر إلى شعرها
أو صدرها أو شيء من محاسنها للذة حرمت عليه أمها وابنتها. وقال الكوفيون: إذا نظر
إلى فرجها للشهوة كان بمنزلة اللمس للشهوة. وقال الثوري: يحرم إذا نظر إلى فرجها
متعمدا أو لمسها؛ ولم يذكر الشهوة. وقال ابن أبي ليلى: لا تحرم بالنظر حتى يلمس؛
وهو قول الشافعي. والدليل على أن بالنظر يقع التحريم أن فيه نوع استمتاع فجرى مجرى
النكاح؛ إذ الأحكام تتعلق بالمعاني لا بالألفاظ. وقد يحتمل أن يقال: إنه نوع من
الاجتماع بالاستمتاع؛ فإن النظر اجتماع ولقاء، وفيه بين المحبين استمتاع؛ وقد بالغ
في ذلك الشعراء فقالوا:
أليس
الليل يجمع أم عمرو وإيانا فذاك بنا تدان
نعم،
وترى الهلال كما أراه ويعلوها النهار كما علاني
فكيف
بالنظر والمجالسة والمحادثة واللذة.
قوله
تعالى: « وحلائل
أبنائكم » الحلائل
جمع حليلة، وهي الزوجة. سميت حليلة لأنها تحل مع الزوج حيث حل؛. فهي فعيلة بمعنى
فاعلة. وذهب الزجاج وقوم إلى أنها من لفظة الحلال؛ فهي حليلة بمعنى محللة. وقيل:
لأن كل واحد منهما يحل إزار صاحبه.
أجمع
العلماء على تحريم ما عقد عليه الآباء على الأبناء، وما عقد عليه الأبناء على
الآباء، كان مع العقد وطء أو لم يكن؛ لقوله تعالى: « ولا تنكحوا ما نكح آبائكم من
النساء » وقوله
تعالى: « وحلائل
أبنائكم الذين من أصلابكم » ؛ فإن
نكح أحدهما نكاحا فاسدا حرم على الآخر العقد عليها كما يحرم بالصحيح؛ لأن النكاح
الفاسد لا يخلو: إما أن يكون متفقا على فساده أو مختلفا فيه. فإن كان متفقا على
فساده لم يوجب حكما وكان وجوده كعدمه. وإن كان مختلفا فيه فيتعلق به من الحرمة ما
يتعلق بالصحيح؛ لاحتمال أن يكون نكاحا فيدخل تحت مطلق اللفظ. والفروج إذا تعارض
فيها التحريم والتحليل غلب التحريم. والله أعلم. قال ابن المنذر: أجمع كل من يحفظ
عنه من علماء الأمصار على أن الرجل إذا وطئ امرأة بنكاح فاسد أنها تحرم على أبيه
وابنه وعلى أجداده وولد ولده.
وأجمع
العلماء على أن عقد الشراء على الجارية لا يحرمها على أبيه وابنه؛ فإذا اشترى
الرجل جارية فلمس أو قبل حرمت على أبيه وابنه، لا أعلمهم يختلفون فيه؛ فوجب تحريم
ذلك تسليما لهم. ولما اختلفوا في تحريمها بالنظر دون اللمس لم يجز ذلك لاختلافهم.
قال ابن المنذر: ولا يصح عن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ما
قلناه. وقال يعقوب ومحمد: إذا نظر رجل في فرج امرأة من شهوة حرمت على أبيه وابنه،
وتحرم عليه أمها وابنتها. وقال مالك: إذا وطئ الأمة أو قعد منها مقعدا لذلك وإن لم
يفض إليها، أو قبلها أو باشرها أو غمزها تلذذا فلا تحل لابنه. وقال الشافعي: إنما
تحرم باللمس ولا تحرم بالنظر دون اللمس؛ وهو قول الأوزاعي
واختلفوا
في الوطء بالزنى هل يحرم أم لا؛ فقال أكثر أهل العلم: لو أصاب رجل امرأة بزنى لم
يحرم عليه نكاحها بذلك؛ وكذلك لا تحرم عليه امرأته إذا زنى بأمها أو بابنتها،
وحسبه أن يقام عليه الحد، ثم يدخل بامرأته. ومن زنى بامرأة ثم أراد نكاح أمها أو
ابنتها لم تحرما عليه بذلك. وقالت طائفة: تحرم عليه. روي هذا القول عن عمران بن
حصين؛ وبه قال الشعبي وعطاء والحسن وسفيان الثوري وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي، وروي
عن مالك؛ وأن الزنى يحرم الأم والابنة وأنه بمنزلة الحلال، وهو قول أهل العراق.
والصحيح من قول مالك وأهل الحجاز: أن الزنى لا حكم له؛ لأن الله سبحانه وتعالى
قال: « وأمهات
نسائكم » وليست
التي زنى بها من أمهات نسائه، ولا ابنتها من ربائبه. وهو قول الشافعي وأبي ثور.
لأنه لما ارتفع الصداق في الزنى ووجوب العدة والميراث ولحقوق الولد ووجوب الحد
ارتفع أن يحكم له بحكم النكاح الجائز. وروى الدارقطني من حديث الزهري عن عروة عن
عائشة قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل زنى بامرأة فأراد أن يتزوجها
أو ابنتها فقال: ( لا
يحرم الحرام الحلال إنما يحرم ما كان بنكاح ) . ومن الحجة للقول الآخر إخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن
جريج وقوله: ( يا
غلام من أبوك ) قال:
فلان الراعي. فهذا يدل على أن الزنى يحرم كما يحرم الوطء الحلال؛ فلا تحل أم
المزني بها ولا بناتها لآباء الزاني ولا لأولاده؛ وهي رواية ابن القاسم في
المدونة. ويستدل به أيضا على أن المخلوقة من ماء الزنى لا تحل للزاني بأمها، وهو
المشهور. قال عليه السلام: ( لا
ينظر الله إلى رجل نظر إلى فرج امرأة وابنتها ) ولم يفصل بين الحلال والحرام. وقال عليه السلام: ( لا ينظر الله إلى من كشف
قناع امرأة وابنتها ) . قال
ابن خويز منداد: ولهذا قلنا إن القبلة وسائر وجوه الاستمتاع ينشر الحرمة. وقال
عبدالملك الماجشون: إنها تحل؛ وهو الصحيح لقوله تعالى: « وهو الذي خلق من الماء بشرا
فجعله نسبا وصهرا » [ الفرقان: 54 ] يعني بالنكاح الصحيح، على ما
يأتي في « الفرقان
» بيانه.
ووجه التمسك من الحديث على تلك المسألتين أن النبي صلى الله عليه وسلم قد حكى عن
جريج أنه نسب ابن الزنى للزاني، وصدق الله نسبته بما خرق له من العادة في نطق
الصبي بالشهادة له بذلك؛ وأخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم عن جريج في معرض
المدح وإظهار كرامته؛ فكانت تلك النسبة صحيحة بتصديق الله تعالى وبإخبار النبي صلى
الله عليه وسلم عن ذلك؛ فثبتت البنوة وأحكامها.
فإن قيل:
فيلزم على هذا أن تجري أحكام البنوة والأبوة من التوارث والولايات وغير ذلك، وقد
اتفق المسلمون على أنه لا توارث بينهما فلم تصح تلك النسبة؟
فالجواب:
إن ذلك موجب ما ذكرناه. وما انعقد عليه الإجماع من الأحكام استثنيناه، وبقي الباقي
على أصل ذلك الدليل، والله أعلم.
واختلف
العلماء أيضا من هذا الباب في مسألة اللائط؛ فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة
وأصحابهم: لا يحرم النكاح باللواط. وقال الثوري: إذا لعب بالصبي حرمت عليه أمه؛
وهو قول أحمد بن حنبل. قال: إذا تلوط بابن امرأته أو أبيها أو أخيها حرمت عله
امرأته. وقال الأوزاعي: إذا لاط بغلام وولد للمفجور به بنت لم يجز للفاجر أن
يتزوجها؛ لأنها بنت من قد دخل به. وهو قول أحمد بن حنبل.
قوله
تعالى: « الذين
من أصلابكم » تخصيص
ليخرج عنه كل من كانت العرب تتبناه ممن ليس للصلب. ولما تزوج النبي صلى الله عليه
وسلم امرأة زيد بن حارثة قال المشركون: تزوج امرأة ابنه ! وكان عليه السلام تبناه؛
على ما يأتي بيانه في «
الأحزاب » . وحرمت
حليلة الابن من الرضاع وإن لم يكن للصلب - بالإجماع المستند إلى قوله عليه السلام:
( يحرم
الرضاع ما يحرم من النسب ) .
قوله
تعالى: « وأن
تجمعوا بين الأختين » موضع « أن » رفع على العطف على « حرمت عليكم أمهاتكم » . والأختان لفظ يعم الجميع بنكاح
وبملك يمين. وأجمعت الأمة على منع جمعهما في عقد واحد من النكاح لهذه الآية، وقوله
عليه السلام: ( لا
تعرضن علي بناتكن ولا أخواتكن ) .
واختلفوا في الأختين بملك اليمين؛ فذهب كافة العلماء إلى أنه لا يجوز الجمع بينهما
بالملك في الوطء، وإن كان يجوز الجمع بينهما في الملك بإجماع؛ وكذلك المرأة
وابنتها صفقة واحدة. واختلفوا في عقد النكاح على أخت الجارية التي وطئها؛ فقال
الأوزاعي: إذا وطئ جارية له بملك اليمين لم يجز له أن يتزوج أختها. وقال الشافعي:
ملك اليمين لا يمنع نكاح الأخت. قال أبو عمر: من جعل عقد النكاح كالشراء أجازه،
ومن جعله كالوطء لم يجزه. وقد أجمعوا على أنه لا يجوز العقد على أخت الزوجة؛ لقول
الله تعالى: « وأن
تجمعوا بين الأختين » يعني
الزوجتين بعقد النكاح. فقف على ما اجتمعوا عليه وما اختلفوا فيه يتبين لك الصواب
إن شاء الله. والله أعلم.
شذ أهل الظاهر
فقالوا: يجوز الجمع بين الأختين بملك اليمين في الوطء؛ كما يجوز الجمع بينهما في
الملك. واحتجوا بما روي عن عثمان في الأختين من ملك اليمين: « حرمتهما آية وأحلتهما آية » . ذكره عبدالرزاق حدثنا معمر
عن الزهري عن قبيصة بن ذؤيب أن عثمان بن عفان سئل عن الأختين مما ملكت اليمين
فقال: لا آمرك ولا أنهاك أحلتهما آية وحرمتهما آية. فخرج السائل فلقي رجلا من
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال معمر: أحسبه قال علي - قال: وما سألت
عنه عثمان؟ فأخبره بما سأل وبما أفتاه؛ فقال له: لكني أنهاك، ولو كان لي عليك سبيل
ثم فعلت لجعلتك نكالا. وذكر الطحاوي والدارقطني عن علي وابن عباس مثل قول عثمان.
والآية التي أحلتهما قوله تعالى: « وأحل
لكم ما وراء ذلكم » . ولم
يلتفت أحد من أئمة الفتوى إلى هذا القول؛ لأنهم فهموا من تأويل كتاب الله خلافه،
ولا يجوز عليهم تحريف التأويل. وممن قال ذلك من الصحابة: عمر وعلي وابن مسعود
وعثمان وابن عباس وعمار وابن عمر وعائشة وابن الزبير؛ وهؤلاء أهل العلم بكتاب
الله، فمن خالفهم فهو متعسف في التأويل. وذكر ابن المنذر أن إسحاق بن راهويه حرم
الجمع بينهما بالوطء، وأن جمهور أهل العلم كرهوا ذلك، وجعل مالكا فيمن كرهه. ولا
خلاف في جواز جمعهما في الملك، وكذلك الأم وابنتها. قال ابن عطية: ويجيء من قول
إسحاق أن يرجم الجامع بينهما بالوطء، وتستقرأ الكراهية من قول مالك: إنه إذا وطئ
واحدة ثم وطئ الأخرى وقف عنهما حتى يحرم إحداهما؛ فلم يلزمه حدا. قال أبو عمر: ( أما قول علي لجعلته نكالا ) ولم يقل لحددته حد الزاني؛
فلأن من تأول آية أو سنة ولم يطأ عند نفسه حراما فليس بزان بإجماع وإن كان مخطئا،
إلا أن يدعي من ذلك ما لا يعذر بجهله. وقول بعض السلف في الجمع بين الأختين بملك
اليمين: (
أحلتهما آية وحرمتهما آية ) معلوم
محفوظ؛ فكيف يحد حد الزاني من فعل ما فيه مثل هذا من الشبهة القوية؟ وبالله
التوفيق.
واختلف
العلماء إذا كان يطأ واحدة ثم أراد أن يطأ الأخرى؛ فقال علي وابن عمر والحسن
البصري والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق: لا يجوز له وطء الثانية حتى يحرم فرج
الأخرى بإخراجها من ملكه ببيع أو عتق، أو بأن يزوجها. قال ابن المنذر: وفيه قول
ثان لقتادة، وهو أنه إذا كان يطأ واحدة وأراد وطء الأخرى فإنه ينوي تحريم الأولى
على نفسه وألا يقربها، ثم يمسك عنهما حتى يستبرئ الأولى المحرمة، ثم يغشى الثانية.
وفيه قول ثالث: وهو إذا كان عنده أختان فلا يقرب واحدة منهما. هكذا قال الحكم
وحماد؛ وروي معنى ذلك عن النخعي. ومذهب مالك: إذا كان أختان عند رجل بملك فله أن
يطأ أيتهما شاء، والكف عن الأخرى موكول إلى أمانته. فإن أراد وطء الأخرى فيلزمه أن
يحرم على نفسه فرج الأولى بفعل يفعله من إخراج عن الملك: إما بتزويج أو بيع أو عتق
إلى أجل أو كتابة أو إخدام طويل. فإن كان يطأ إحداهما ثم وثب على الأخرى دون أن
يحرم الأولى وقف عنهما، ولم يجز له قرب إحداهما حتى يحرم الأخرى؛ ولم يوكل ذلك إلى
أمانته؛ لأنه متهم فيمن قد وطئ؛ ولم يكن قبل متهما إذ كان لم يطأ إلا الواحدة.
ومذهب الكوفيين في هذا الباب: الثوري وأبي حنيفة وأصحابه أنه إن وطئ إحدى أمتيه لم
يطأ الأخرى؛ فإن باع الأولى أو زوجها ثم رجعت إليه أمسك عن الأخرى؛ وله أن يطأها
ما دامت أختها في العدة من طلاق أو وفاة. فأما بعد انقضاء العدة فلا، حتى يملك فرج
التي يطأ غيره؛ وروي معنى ذلك عن علي رضي الله عنه. قالوا: لأن الملك الذي منع وطء
الجارية في الابتداء موجود، فلا فرق بين عودتها إليه وببن بقائها في ملكه. وقول
مالك حسن؛ لأنه تحريم صحيح في الحال ولا يلزم مراعاة المال؛ وحسبه إذا حرم فرجها
عليه ببيع أو بتزويج أنها حرمت عليه في الحال. ولم يختلفوا في العتق؛ لأنه لا
يتصرف فيه بحال؛ وأما الكاتبة فقد تعجز فترجع إلى ملكه. فإن كان عند رجل أمة يطؤها
ثم تزوج أختها ففيها في المذهب ثلاثة أقوال في النكاح. الثالث: في المدونة أنه
يوقف عنهما إذا وقع عقد النكاح حتى يحرم إحداهما مع كراهية لهذا النكاح؛ إذ هو عقد
في موضع لا يجوز فيه الوطء. وفي هذا ما يدل على أن ملك اليمين لا يمنع النكاح؛ كما
تقدم عن الشافعي. وفي الباب بعينه قول آخر: أن النكاح لا ينعقد؛ وهو معنى قول
الأوزاعي. وقال أشهب في كتاب الاستبراء: عقد النكاح في الواحدة تحريم لفرج
المملوكة.
وأجمع
العلماء على أن الرجل إذا طلق زوجته طلاقا يملك رجعتها أنه ليس له أن ينكح أختها
أو أربعا سواها حتى تنقضي عدة المطلقة. واختلفوا إذا طلقها طلاقا لا يملك رجعتها؛
فقالت طائفة: ليس له أن ينكح أختها ولا رابعة حتى تنقضي عدة التي طلق؛ وروي عن علي
وزيد بن ثابت، وهو مذهب مجاهد وعطاء بن أبي رباح والنخعي، وسفيان الثوري وأحمد بن
حنبل وأصحاب الرأي. وقالت طائفة: له أن ينكح أختها وأربعا سواها؛ وروي عن عطاء،
وهي أثبت الروايتين عنه، وروي عن زيد بن ثابت أيضا؛ وبه قال سعيد بن المسيب والحسن
والقاسم وعروة بن الزبير وابن أبي ليلى والشافعي وأبو ثور وأبو عبيد. قال ابن
المنذر: ولا أحسبه إلا قول مالك وبه نقول.
قوله
تعالى: « إلا ما
قد سلف » يحتمل
أن يكون معناه معنى قوله: « إلا ما
قد سلف » في
قوله: « ولا
تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف » . ويحتمل معنى زائدا وهو جواز ما سلف، وأنه إذا جرى الجمع في
الجاهلية كان النكاح صحيحا، وإذا جرى في الإسلام خير بين الأختين؛ على ما قاله
مالك والشافعي، من غير إجراء عقود الكفار على موجب الإسلام ومقتضى الشرع؛ وسواء
عقد عليهما عقدا واحدا جمع به بينهما أو جمع بينهما في عقدين. وأبو حنيفة يبطل
نكاحهما إن جمع في عقد واحد. وروى هشام بن عبدالله عن محمد بن الحسن أنه قال: كان
أهل الجاهلية يعرفون هذه المحرمات كلها التي ذكرت في هذه الآية إلا اثنتين؛
إحداهما نكاح امرأة الأب، والثانية، الجمع بين الأختين؛ ألا ترى أنه قال: « ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من
النساء إلا ما قد سلف » . « وان تجمعوا بين الأختين إلا
ما قد سلف » ولم
يذكر في سائر المحرمات « إلا ما
قد سلف » . والله
أعلم.
الآية:
24 ( والمحصنات من النساء إلا ما
ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين
غير مسافحين فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما
تراضيتم به من بعد الفريضة إن الله كان عليما حكيما )
قوله
تعالى: «
والمحصنات » عطف على
المحرمات والمذكورات قبل. والتحصن: التمنع؛ ومنه الحصن لأنه يمتنع فيه؛ ومنه قوله
تعالى: «
وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم » [ الأنبياء:
80 ] أي
لتمنعكم؛ ومنه الحصان للفرس ( بكسر
الحاء ) لأنه
يمنع صاحبه من الهلال. والحصان ( بفتح
الحاء ) :
المرأة العفيفة لمنعها نفسها من الهلاك. وحصنت المرأة تحصن فهي حصان؛ مثل جبنت فهي
جبان. وقال حسان في عائشة رضي الله عنها:
حصان
رزان ما تزن بريبة وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
والمصدر
الحصانة ( بفتح
الحاء ) والحصن
كالعلم. فالمراد بالمحصنات ههنا ذوات الأزواج؛ يقال: امرأة محصنة أي متزوجة،
ومحصنة أي حرة؛ ومنه «
والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب » [ المائدة: 5 ] . ومحصنة أي عفيفه؛ قال الله
تعالى: « محصنات
غير مسافحات » [ النساء: 25 ] وقال: « محصنين غير مسافحين » . ومحصنة ومحصنة وحصان أي
عفيفة، أي ممتنعة من الفسق، والحرية تمنع الحرة مما يتعاطاه العبيد. قال الله
تعالى: « والذين
يرمون المحصنات » [ النور: 4 ] أي الحرائر، وكان عرف الإماء
في الجاهلية الزنى؛ ألا ترى إلى قول هند بنت عتبة للنبي صلى الله عليه وسلم حين
بايعته: « وهل
تزني الحرة » ؟
والزوج أيضا يمنع زوجه من أن تزوج غيره؛ فبناء ( ح ص ن ) معناه
المنع كما بينا. وستعمل الإحصان في الإسلام؛ لأنه حافظ ومانع، ولم يرد في الكتاب
وورد في السنة؛ ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( الإيمان قيد الفتك ) . ومنه قول الهذلي:
فليس
كعهد الدار يا أم مالك ولكن أحاطت بالرقاب السلاسل
وقال
الشاعر:
قالت هلم
إلى الحديث فقلت لا يأبى عليك الله والإسلام
ومنه قول
سحيم:
كفى
الشيب والإسلام للمرء ناهيا
إذا ثبت
هذا فقد اختلف العلماء في تأويل هذه الآية؛ فقال ابن عباس وأبو قلابة وابن زيد
ومكحول والزهري وأبو سعيد الخدري: المراد بالمحصنات هنا المسبيات ذوات الأزواج
خاصة، أي هن محرمات إلا ما ملكت اليمين بالسبي من أرض الحرب، فإن تلك حلال للذي
تقع في سهمه وإن كان لها زوج. وهو قول الشافعي في أن السباء يقطع العصمة؛ وقال ابن
وهب وابن عبدالحكم ورياه عن مالك، وقال به أشهب. يدل عليه ما رواه مسلم في صحيحه
عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين بعث جيشا إلى أوطاس
فلقوا العدو فقاتلوهم وظهروا عليهم وأصابوا لهم سبايا؛ فكان ناس من أصحاب النبي
صلى الله عليه وسلم تحرجوا من غشيانهن من أجل أزواجهن من المشركين، فأنزل الله عز
وجل في ذلك «
والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم » . أي فهن لكم حلال إذا انقضت عدتهن. وهذا نص صحيح صريح في أن
الآية نزلت بسبب تحرج أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن وطء المسبيات ذوات
الأزواج؛ فأنزل الله تعالى في جوابهم « إلا ما ملكت أيمانكم » . وبه قال مالك وأبو حنيفة وأصحابه والشافعي وأحمد وإسحاق
وأبو ثور، وهو الصحيح إن شاء الله تعالى. واختلفوا في استبرائها بماذا يكون؛ فقال
الحسن: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يستبرئون المسبية بحيضة؛ وقد روي
ذلك من حديث أبي سعيد الخدري في سبايا أوطاس ( لا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تحيض ) . ولم يجعل لفراش الزوج
السابق أثرا حتى يقال أن المسبية مملوكة ولكنها كانت زوجة زال نكاحها فتعتد عدة
الإماء، على ما نقل عن الحسن بن صالح قال: عليها العدة حيضتان إذا كان لها زوج في
دار الحرب. وكافة العلماء رأوا استبراءها واستبراء التي لا زوج لها واحدا في أن
الجميع بحيضة واحدة. والمشهور من مذهب مالك أنه لا فرق بين أن يسبى الزوجان
مجتمعين أو متفرقين. وروى عنه ابن بكير أنهما إن سبيا جميعا واستبقي الرجل أقرا
علي نكاحهما؛ فرأى في هذه الرواية أن استبقاءه إبقاء لما يملكه؛ لأنه قد صار له
عهد وزوجته من جملة ما يملكه، فلا يحال بينه وبينها؛ وهو قول أبي حنيفة والثوري،
وبه قال ابن القاسم ورواه عن مالك. والصحيح الأول؛ لما ذكرناه؛ ولأن الله تعالى
قال: ( إلا
ما ملكت أيمانكم ) فأحال
على ملك اليمين وجعله هو المؤثر فيتعلق الحكم به من حيث العموم والتعليل جميعا،
إلا ما خصه الدليل. وفي الآية قول ثان قاله عبدالله بن مسعود وسعيد بن المسيب
والحسن بن أبي الحسن وأبي بن كعب وجابر بن عبدالله وابن عباس في رواية عكرمة: أن
المراد بالآية ذوات الأزواج، أي فهن حرام إلا أن يشتري الرجل الأمة ذات الزوج فإن
بيعها طلاقها والصدقة بها طلاقها وأن تورث طلاقها وتطليق الزوج طلاقها. قال ابن
مسعود: فإذا بيعت الأمة ولها زوج فالمشتري أحق ببضعها وكذلك المسبية؛ كل ذلك موجب
للفرقة بينها وبين زوجها. قالوا: وإذا كان كذلك فلا بد أن يكون بيع الأمة طلاقا
لها؛ لأن الفرج محرم على اثنين في حال واحدة بإجماع من المسلمين.
قلت:
وهذا يرده حديث بريرة؛ لأن عائشة رضى الله عنها اشترت بريرة وأعتقتها ثم خيرها
النبي صلى الله عليه وسلم وكانت ذات زوج؛ وفي إجماعهم على أن بريرة قد خيرت تحت
زوجها مغيث بعد أن اشترتها عائشة فأعتقتها لدليل على أن بيع الأمة ليس طلاقها؛
وعلى ذلك جماعة فقهاء الأمصار من أهل الرأي والحديث، وألا طلاق لها إلا الطلاق.
وقد احتج بعضهم بعموم قوله: ألاما ملكت أيمانكم « وقياسا على المسبيات. وما ذكرناه من حديث بريرة يخصه ويرده،
وأن ذلك إنما هو خاص بالمسبيات على حديث أبي سعيد، وهو الصواب والحق إن شاء الله
تعالى. وفي الآية قول ثالث: روى الثوري عن مجاهد عن إبراهيم قال ابن مسعود في قوله
تعالى: »
والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم « قال: ذوات الأزواج من المسلمين والمشركين. وقال علي بن أبي
طالب: ذوات الأزواج من المشركين. وفي الموطأ عن سعيد بن المسيب » والمحصنات من النساء « هن ذوات الأزواج؛ ويرجع ذلك
إلى أن الله حرم الزنى. وقالت طائفة: المحصنات في هذه الآية يراد به العفائف، أي
كل النساء حرام. وألبسهن اسم المحصان من كان منهن ذات زوج أو غير ذات زوج؛ إذ
الشرائع في أنفسها تقتضي ذلك. »
قوله
تعالى: « إلا ما
ملكت أيمانكم » قالوا:
معناه بنكاح أو شراء. هذا قول أبي العالية وعبيدة السلماني وطاوس وسعيد بن جبير
وعطاء، ورواه عبيدة عن عمر؛ فأدخلوا النكاح تحت ملك اليمين، ويكون معنى الآية
عندهم في قوله تعالى: « إلا ما
ملكت أيمانكم » يعني
تملكون عصمتهن بالنكاح وتملكون الرقبة بالشراء، فكأنهن كلهن ملك يمين وما عدا ذلك
فزنى، وهذا قول حسن. وقد قال ابن عباس: « المحصنات » العفائف
من المسلمين ومن أهل الكتاب. قال ابن عطية: وبهذا التأويل يرجع معنى الآية إلى
تحريم الزنى؛ وأسد الطبري أن رجلا قال لسعيد بن جبير: أما رأيت ابن عباس حين سئل
عن هذه الآية فلم يقل فيها شيئا؟ فقال سعيد: كان ابن عباس لا يعلمها. وأسند أيضا
عن مجاهد أنه قال: لو أعلم من يفسر لي هذه الآية لضربت إليه أكباد الإبل: قوله « والمحصنات » إلى قوله « حكيما » . قال ابن عطية: ولا أدري كيف
نسب هذا القول إلى ابن عباس ولا كيف انتهى مجاهد إلى هذا القول؟
قوله
تعالى: « كتاب
الله عليكم » نصب على
المصدر المؤكد، أي حرمت هذه النساء كتابا من الله عليكم. ومعنى « حرمت عليكم » كتب الله عليكم. وقال الزجاج
والكوفيون: هو نصب على الإغراء، أي الزموا كتاب الله، أو عليكم كتاب الله. وفيه
نظر على ما ذكره أبو علي؛ فإن الإغراء لا يجوز فيه تقديم المنصوب على حرف الإغراء،
فلا يقال: زيدا عليك، أو زيدا دونك؛ بل يقال: عليك زيدا ودونك عمرا، وهذا الذي
قاله صحيح على أنه منصوبا بـ « عليكم
» إشارة
إلى ما ثبت في القرآن من قوله تعالى: « مثنى وثلاث ورباع » [
النساء:3 ] وفي
هذا بعد؛ والأظهر أن قوله: « كتاب
الله عليكم » إنما هو
إشارة إلى التحريم الحاجز بين الناس وبين ما كانت العرب تفعله.
قوله
تعالى: « وأحل
لكم ما وراء ذلكم » قرأ
حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص « وأحل لكم » ردا على
« حرمت
عليكم » .
الباقون بالفتح ردا على قوله تعالى: « كتاب الله عليكم » . وهذا يقتضي ألا يحرم من النساء إلا من ذكر، وليس كذلك؛ فإن
الله تعالى قد حرم على لسان نبيه من لم يذكر في الآية فيضم إليها، قال الله تعالى:
« وما
آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا » [
الحشر: 7 ] . روى
مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « لا يجمع بين المرأة وعمتها
ولا بين المرأة وخالتها ) . وقال
ابن شهاب: فنرى خالة أبيها وعمة أبيها بتلك المنزلة، وقد قيل: إن تحريم الجمع بين
المرأة وعمتها وخالتها متلقى من الآية نفسها؛ لأن الله تعالى حرم الجمع بين
الأختين، والجمع بين المرأة وعمتها في معنى الجمع بين الأختين؛ أو لأن الخالة في
معنى الوالدة والعمة في معنى الوالد. والصحيح الأول؛ لأن الكتاب والسنة كالشيء
الواحد؛ فكأنه قال: أحللت لكم ما وراء ما ذكرنا في الكتاب، وما وراء ما أكملت به
البيان على لسان محمد عليه السلام. وقول ابن شهاب: » فنرى خالة أبيها وعمة أبيها
بتلك المنزلة « إنما
صار إلى ذلك لأنه حمل الخالة والعمة على العموم وتم له ذلك؛ لأن العمة اسم لكل
أنثى شاركت أباك في أصليه أو في أحدهما والخالة كذلك كما بيناه. وفي مصنف أبي داود
وغيره عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا تنكح المرأة على عمتها
ولا العمة على بنت أخيها ولا المرأة على خالتها ولا الخالة على بنت أختها ولا تنكح
الكبرى على الصغرى ولا الصغرى على الكبرى ) . وروى أبو داود أيضا عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه كره أن يجمع بين العمة والخالة وبين العمتين والخالتين. الرواية » لا يجمع « برفع العين على الخبر على
المشروعية فيتضمن النهي عن ذلك، وهذا الحديث مجمع على العمل به في تحريم الجمع بين
من ذكر فيه بالنكاح. وأجاز الخوارج الجمع بين الأختين وبين المرأة وعمتها وخالتها،
ولا يعتد بخلافهم لأنهم مرقوا من الدين وخرجوا منه، ولأنهم مخالفون للسنة الثابتة.
وقوله: ( لا
يجمع بين العمتين والخالتين ) فقد
أشكل على بعض أهل العلم وتحير في معناه حتى حمله على ما يبعد أو لا يجوز؛ فقال:
معنى بين العمتين على المجاز، أي بين العمة وبنت أخيها؛ فقيل لهما: عمتان، كما
قيل: سنة العمرين أبي بكر وعمر؛ قال: وبين الخالتين مثله. قال النحاس: وهذا من
التعسف الذي لا يكاد يسمع بمثله، وفيه أيضا مع التعسف أنه يكون كلاما مكررا لغير
فائدة؛ لأنه إذا كان المعنى نهى أن يجمع بين العمة وبنت أخيها وبين العمتين يعني
به العمة وبنت أخيها صار الكلام مكررا لغير فائدة؛ وأيضا فلو كان كما قال لوجب أن
يكون وبين الخالة، وليس كذلك الحديث؛ لأن الحديث ( نهى أن يجمع بين العمة والخالة ) . فالواجب على لفظ الحديث ألا
يجمع بين امرأتين إحداهما عمة الأخرى والأخرى خالة الأخرى. قال النحاس: وهذا يخرج
على معنى صحيح، يكون رجل وابنه تزوجا امرأة وابنتها؛ تزوج الرجل البنت وتزوج الابن
الأم فولد لكل واحد منهما ابنة من هاتين الزوجتين؛ فابنة الأب عمة ابنة الابن،
وابنة الابن خالة ابنة الأب. وأما الجمع بين الخالتين فهذا يوجب أن يكونا امرأتين
كل واحدة منهما خالة الأخرى؛ وذلك أن يكون رجل تزوج ابنة رجل وتزوج الآخر ابنة،
فولد لكل واحد منهما ابنة، فابنة كل واحد منهما خالة الأخرى. وأما الجمع بين
العمتين فيوجب ألا يجمع بين امرأتين كل واحدة منهما عمة الأخرى؛ وذلك أن يتزوج رجل
أم رجل ويتزوج الآخر أم الآخر، فيولد لكل واحد منهما ابنة فابنة كل واحد منهما عمة
الأخرى؛ فهذا ما حرم الله على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم مما ليس في
القرآن.»
وإذا
تقرر هذا فقد عقد العلماء فيمن يحرم الجمع بينهن عقدا حسنا؛ فروى معتمر بن سليمان
عن فضيل بن ميسرة عن أبي جرير عن الشعبي قال: كل امرأتين إذا جعلت موضع إحداهما ذكرا
لم يجز له أن يتزوج الأخرى فالجمع بينهما باطل. فقلت له: عمن هذا؟ قال: عن أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال سفيان الثوري: تفسيره عندنا أن يكون من النسب،
ولا يكون بمنزلة امرأة وابنة زوجها يجمع بينهما إن شاء. قال أبو عمر: وهذا على
مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة والأوزاعي وسائر فقهاء الأمصار من أهل الحديث
وغيرهم فيما علمت لا يختلفون في هذا الأصل. وقد كره قوم من السلف أن يجمع الرجل
بين ابنة رجل وامرأته من أجل أن أحدهما لو كان ذكرا لم يحل له نكاح الأخرى. والذي
عليه العلماء أنه لا بأس بذلك، وأن المراعى النسب دون غيره من المصاهرة؛ ثم ورد في
بعض الأخبار التنبيه على العلة في منع الجمع بين من ذكر، وذلك ما يفضي إليه الجمع
من قطع الأرحام القريبة مما يقع بين الضرائر من الشنان والشرور بسبب الغيرة؛ فروى
ابن عباس قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوج الرجل المرأة على العمة
أو على الخالة، وقال: ( إنكم
إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم ) ذكره
أبو محمد الأصيلي في فوائده وابن عبدالبر وغيرهما. ومن مراسيل أبي داود عن حسين بن
طلحة قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تنكح المرأة على أخواتها مخافة
القطيعة؛ وقد طرد بعض السلف هذه العلة فمنع الجمع بين المرأة وقريبتها، وسواء كانت
بنت عم أو بنت خال أو بنت خالة؛ روي ذلك عن إسحاق بن طلحة وعكرمة وقتادة وعطاء في
رواية ابن أبي نجيح، وروى عنه ابن جريج أنه لا بأس بذلك وهو الصحيح. وقد نكح حسن
بن حسين بن علي في ليلة واحدة ابنة محمد بن علي وابنة عمر بن علي فجمع بين ابنتي
عم؛ ذكره عبدالرزاق. زاد ابن عيينة: فأصبح نساؤهم لا يدرين إلى أيتهما يذهبن؛ وقد
كره مالك هذا، وليس بحرام عنده. وفي سماع ابن القاسم: سئل مالك عن ابنتي العم
أيجمع بينهما؟ فقال: ما أعلمه حراما. قيل له: أفتكرهه؟ قال: إن ناسا ليتقونه؛ قال
ابن القاسم: وهو حلال لا بأس به. قال ابن المنذر: لا أعلم أحدا أبطل هذا النكاح.
وهما داخلتان في جملة ما أبيح بالنكاح غير خارجتين منه بكتاب ولا سنة ولا إجماع،
وكذلك الجمع بين ابنتي عمة وابنتي خالة. وقال السدي في قوله تعالى: « وأحل لكم ما وراء ذلك » : يعني النكاح فيما دون الفرج.
وقيل: المعنى وأحل لكم ما وراء ذوات المحارم من أقربائكم. قتادة: يعني بذلك ملك
اليمين خاصة.
قوله
تعالى: « أن
تبتغوا بأموالكم » لفظ
يجمع التزوج والسراء. و « أن » في موضع نصب بدل من « ما » ، وعلى قراءة حمزة في موضع
رفع؛ ويحتمل أن يكون المعنى لأن، أو بأن؛ فتحذف اللام أو الباء فيكون في موضع نصب.
و « محصنين
» نصب على
الحال، ومعناه متعففين عن الزنى. « غير
مسافحين » أي غير
زانين. والسفاح الزنى، وهو مأخوذ من سفح الماء، أي صبه وسيلانه؛ ومنه قول النبي
صلى الله عليه وسلم حين سمع الدفاف في عرس: ( هذا النكاح لا السفاح ولا نكاح السر ) . وقد قيل: إن قوله « محصنين غير مسافحين » يحتمل وجهين: أحدهما: ما
ذكرناه وهو الإحصان بعقد النكاح، تقديره اطلبوا منافع البضع بأموالكم على وجه
النكاح لا على وجه السفاح؛ فيكون للآية على هذا الوجه عموم. ويحتمل أن يقال: « محصنين » أي الإحصان صفة لهن، ومعناه
لتزوجوهن على شرط الإحصان فيهن؛ والوجه الأول أولى؛ لأنه متى أمكن جري الآية على
عمومها والتعلق بمقتضاها فهو أولى؛ ولأن مقتضى الوجه الثاني أن المسافحات لا يحل
التزوج بهن، وذلك خلاف الإجماع.
قوله
تعالى: « بأموالكم
» أباح
الله تعالى الفروج بالأموال ولم يحصل، فوجب إذا حصل بغير المال ألا تقع الإباحة
به؛ لأنها على غير الشرط المأذون فيه، كما لو عقد على خمر أو خنزير أو ما لا يصح
تملكه. ويرد على أحمد قوله في أن العتق يكون صداقا؛ لأنه ليس فيه تسليم مال وإنما
فيه إسقاط الملك من غير أن استحقت به تسليم مال إليها؛ فإن الذي كان يملكه المولى
من عنده لم ينتقل إليها وإنما سقط. فإذا لم يسلم الزوج إليها شيئا ولم تستحق عليه
شيئا، وإنما أتلف به ملكه، لم يكن مهرا. وهذا بين مع قوله تعالى: « وأتوا النساء » [ النساء: 4 ] وذلك أمر يقتضي الإيجاب،
وإعطاء العتق لا يصح. وقوله تعالى: « فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه » [ النساء: 4 ] وذلك محال في العتق، فلم يبق
أن يكون الصداق إلا مالا لقوله تعالى: « بأموالكم » [ النساء:24 ] اختلف من قال بذلك في قدر
ذلك؛ فتعلق الشافعي بعموم قوله تعالى: « بأموالكم » في جواز
الصداق بقليل وكثير، وهو الصحيح؛ ويعضده قوله عليه السلام في حديث الموهوبة ( ولو خاتما من حديد ) . وقوله عليه السلام: ( أنكحوا الأيامى ) ؛ ثلاثا. قيل: ما العلائق
بينهم يا رسول الله؟ قال: ( ما
تراضى عليه الأهلون ولو قضيبا من أراك ) . وقال أبو سعيد الخدري: سألنا رسول الله صلى الله عليه
وسلم عن صداق النساء فقال: ( هو ما
اصطلح عليه أهلوهم ) . وروى
جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لو أن رجلا أعطى امرأة ملء يديه طعاما كانت به حلالا ) . أخرجهما الدارقطني في سننه.
قال الشافعي: كل ما جاز أن يكون ثمنا لشيء، أو جاز أن يكون أجرة جاز أن يكون
صداقا، وهذا قول جمهور أهل العلم. وجماعة أهل الحديث من أهل المدينة وغيرها، كلهم
أجازوا الصداق بقليل المال وكثيره، وهو قول عبدالله بن وهب صاحب مالك، واختاره ابن
المنذر وغيره. قال سعيد بن المسيب: لو أصدقها سوطا حلت به، وأنكح ابنته من عبدالله
بن وداعة بدرهمين. وقال ربيعة: يجوز النكاح بدرهم. وقال بعض أصحابنا في تعليل له:
وكان أشبه الأشياء بذلك قطع من ربع دينار أو ثلاثة دراهم كيلا. قال بعض أصحابنا في
تعليل له: وكان أشبه الأشياء بذلك قطع اليد، لأن البضع عضو واليد عضو يستباح بمقدر
من المال، وذلك ربع دينار أو ثلاثة دراهم كيلا؛ فرد مالك البضع إليه قياسا على
اليد. قال أبو عمر: قد تقدمه إلى هذا أبو حنيفة، فقاس الصداق على قطع اليد، واليد
عنده لا تقطع إلا في دينار ذهبا أو عشرة دراهم كيلا، ولا صداق عنده أقل من ذلك،
وعلى ذلك جماعة أصحابه وأهل مذهبه، وهو قول أكثر أهل بلده في قطع اليد لا في أقل
الصداق. وقد قال الداروردي لمالك إذ قال لا صداق أقل من ربع دينار: تعرقت فيها يا
أبا عبدالله أي سلكت فيها سبيل أهل العراق. وقد احتج أبو حنيفة بما رواه جابر أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا صداق دون عشرة دراهم ) أخرجه الدارقطني. وفي سنده مبشر بن عبيد متروك. وروي عن
داود الأودي عن الشعبي عن علي عليه السلام: لا يكون المهر أقل من عشرة دراهم. قال
أحمد بن حنبل: لقن غياث بن إبراهيم داود الأودي عن الشعبي عن علي: لا مهر أقل من
عشرة دراهم. فصار حديثا. وقال النخعي: أقله أربعون درهما. سعيد بن جبير: خمسون
درهما. ابن شبرمة: خمسة دراهم. ورواه الدارقطني عن ابن عباس عن علي رضي الله عنه:
لا مهر أقل من خمسة دراهم.
قوله
تعالى: « فما
استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة » الاستمتاع التلذذ والأجور المهور؛ وسمي المهر أجرا لأنه أجر
الاستمتاع، وهذا نص على أن المهر يسمى أجرا، وذلك دليل على أنه في مقابلة البضع؛
لأن ما يقابل المنفعة يسمى أجرا. وقد اختلف العلماء في المعقود عليه في النكاح ما
هو: بدن المرأة أو منفعة البضع أو الحل؛ ثلاثة أقوال، والظاهر المجموع؛ فإن العقد
يقتضي كل ذلك. والله أعلم.
واختلف
العلماء في معنى الآية؛ فقال الحسن ومجاهد وغيرهما: المعنى فما انتفعتم وتلذذتم
بالجماع من النساء بالنكاح الصحيح « فآتوهن أجورهن » أي مهورهن، فإذا جامعها مرة واحدة فقد وجب المهر كاملا إن
كان مسمى، أو مهر مثلها إن لم يسم، فإن كان النكاح فاسدا فقد اختلفت الرواية عن
مالك في النكاح الفاسد، هل تستحق به مهر المثل، أو المسمى إذا كان مهرا صحيحا؟
فقال مرة المهر المسمى، وهو ظاهر مذهبه؛ وذلك أن ما تراضوا عليه يقين، ومهر المثل
اجتهاد فيجب أن يرجع إلى ما تيقناه؛ لأن الأموال لا تستحق بالشك. ووجه قوله: « مهر المثل » أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: ( أيما
امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل فإن دخل بها فلها مهر مثلها بما استحل من
فرجها ) . قال
ابن خويز منداد: ولا يجوز أن تحمل الآية على جواز المتعة؛ لأن رسول الله صلى الله
عليه وسلم نهى عن نكاح المتعة وحرمه؛ ولأن الله تعالى قال: « فأنكحوهن بإذن أهلهن » ومعلوم أن النكاح بإذن الأهلين
هو النكاح الشرعي بولي وشاهدين، ونكاح المتعة ليس كذلك. وقال الجمهور: المراد نكاح
المتعة الذي كان في صدر الإسلام. وقرأ ابن عباس وأبي وابن جبير « فما استمتعتم به منهن إلى أجل
مسمى فأتوهن أجورهن » ثم نهى
عنها النبي صلى الله عليه وسلم. وقال سعيد بن المسيب: نسختها آية الميراث؛ إذ كانت
المتعة لا ميراث فيها. وقالت عائشة والقاسم بن محمد: تحريمها ونسخها في القرآن؛
وذلك في قوله تعالى: « والذين
هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانكم فإنهم غير ملومين » [ المؤمنون: 5 ] . وليست المتعة نكاحا ولا ملك
يمين. وروى الدارقطني عن علي بن أبي طالب قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن المتعة، قال: وإنما كانت لمن لم يجد، فلما نزل النكاح والطلاق والعدة والميراث
بين الزوج والمرأة نسخت. وروى عن علي رضى الله عنه أنه قال: نسخ صوم رمضان كل صوم،
ونسخت الزكاة كل صدقة، ونسخ الطلاق والعدة والميراث المتعة، ونسخت الأضحية كل ذبح.
وعن ابن مسعود قال: المتعة منسوخة نسخها الطلاق والعدة والميراث. وروى عطاء عن ابن
عباس قال: ما كانت المتعة إلا رحمة من الله تعالى رحم بها عباده ولولا نهي عمر
عنها ما زنى إلا شقي.
واختلف
العلماء كم مرة أبيحت ونسخت؛ ففي صحيح مسلم عن عبدالله قال: كنا نغزو مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم ليس لنا نساء؛ فقلنا: ألا نستخصي؟ فنهانا عن ذلك، ثم رخص لنا أن
ننكح المرأة بالثوب إلى أجل. قال أبو حاتم البستي في صحيحه: قولهم للنبي صلى الله
عليه وسلم « ألا
نستخصي » دليل
على أن المتعة كانت محظورة قبل أن أبيح لهم الاستمتاع، ولو لم تكن محظوره لم يكن
لسؤالهم عن هذا معنى، ثم رخص لهم في الغزو أن ينكحوا المرأة بالثوب إلى أجل ثم نهى
عنها عام خيبر، ثم أذن فيها عام الفتح، ثم حرمها بعد ثلاث، فهي محرمة إلى يوم
القيامة. وقال ابن العربي: وأما متعة النساء فهي من غرائب الشريعة؛ لأنها أبيحت في
صدر الإسلام ثم حرمت يوم خيبر، ثم أبيحت في غزوة أوطاس، ثم حرمت بعد ذلك واستقر
الأمر على التحريم، وليس لها أخت في الشريعة إلا مسألة القبلة، لأن النسخ طرأ
عليها مرتين ثم استقرت بعد ذلك. وقال غيره ممن جمع طرق الأحاديث فيها: إنها تقتضي
التحليل والتحريم سبع مرات؛ فروى ابن أبي عمرة أنها كانت في صدر الإسلام. وروى
سلمة بن الأكوع أنها كانت عام أوطاس. ومن رواية علي تحريمها يوم خيبر. ومن رواية
الربيع بن سبرة إباحتها يوم الفتح.
قلت:
وهذه الطرق كلها في صحيح مسلم؛ وفي غيره عن علي نهيه عنها في غزوة تبوك؛ رواه
إسحاق بن راشد عن الزهري عن عبدالله بن محمد بن علي عن أبيه عن علي، ولم يتابع
إسحاق بن راشد على هذه الرواية عن ابن شهاب؛ قال أبو عمر رحمه الله. وفي مصنف أبي
داود من حديث الربيع بن سبرة النهي عنها في حجة الوداع، وذهب أبو داود إلى أن هذا
أصح ما روي في ذلك. وقال عمرو عن الحسن: ما حلت المتعة قط إلا ثلاثا في عمرة
القضاء ما حلت قبلها ولا بعدها. وروي هذا عن سبرة أيضا؛ فهذه سبعة مواطن أحلت فيها
المتعة وحرمت. قال أبو جعفر الطحاوي: كل هؤلاء الذين رووا عن النبي صلى الله عليه
وسلم إطلاقها أخبروا أنها كانت في سفر، وأن النهي لحقها في ذلك السفر بعد ذلك،
فمنع منها، وليس أحد منهم يخبر أنها كانت في حضر؛ وكذلك روي عن ابن مسعود. فأما
حديث سبرة الذي فيه إباحة النبي صلى الله عليه وسلم لها في حجة الوداع فخارج عن
معانيها كلها؛ وقد اعتبرنا هذا الحرف فلم نجده إلا في رواية عبدالعزيز بن عمر بن
عبدالعزيز خاصة، وقد رواه إسماعيل بن عياش عن عبدالعزيز بن عمر بن عبدالعزيز فذكر
أن ذلك كان في فتح مكة وأنهم شكوا إليه العزبة فرخص لهم فيها، ومحال أن يشكوا إليه
العزبة في حجة الوداع؛ لأنهم كانوا حجوا بالنساء، وكان تزويج النساء بمكة يمكنهم،
ولم يكونوا حينئذ كما كانوا في الغزوات المتقدمة. ويحتمل أنه لما كانت عادة النبي
صلى الله عليه وسلم تكرير مثل هذا في مغازيه وفي المواضع الجامعة، ذكر تحريمها في
حجة الوداع؛ لاجتماع الناس حتى يسمعه من لم يكن سمعه، فأكد ذلك حتى لا تبقى شبهة
لأحد يدعي تحليلها؛ ولأن أهل مكة كانوا يستعملونها كثيرا.
روى
الليث بن سعد عن بكير بن الأشج عن عمار مولى الشريد قال: سألت ابن عباس عن المتعة
أسفاح هي أم نكاح؟ قال: لا سفاح ولا نكاح. قلت: فما هي؟ قال: المتعة كما قال الله
تعالى. قلت: هل عليها عدة؟ قال: نعم حيضة. قلت: يتوارثان، قال: لا. قال أبو عمر:
لم يختلف العلماء من السلف والخلف أن المتعة نكاح إلى أجل لا ميراث فيه، والفرقة
تقع عند انقضاء الأجل من غير طلاق. وقال ابن عطية: « وكانت المتعة أن يتزوج الرجل
المرأة بشاهدين وإذن الولي إلى أجل مسمى؛ وعلى أن لا ميراث بينهما، ويعطيها ما
اتفقا عليه؛ فإذا انقضت المدة فليس له عليها سبيل ويستبرئ رحمها: لأن الولد لا حق
فيه بلا شك، فإن لم تحمل حلت لغيره. وفي كتاب النحاس: في هذا خطأ وأن الولد لا
يلحق في نكاح المتعة » .
قلت: هذا
هو المفهوم من عبارة النحاس؛ فإنه قال: وإنما المتعة أن يقول لها: أتزوجك يوما -
أو ما أشبه ذلك - على أنه لا عدة عليك ولا ميراث بيننا ولا طلاق ولا شاهد يشهد على
ذلك؛ وهذا هو الزنى بعينه ولم يبح قط في الإسلام؛ ولذلك قال عمر: لا أوتى برجل
تزوج متعة إلا غيبته تحت الحجارة.
وقد
اختلف علماؤنا إذا دخل في نكاح المتعة هل يحد ولا يلحق به الولد أو يدفع الحد
للشبهة ويلحق به الولد على قولين؛ ولكن يعذر ويعاقب. وإذا لحق اليوم الولد في نكاح
المتعة في قول بعض العلماء مع القول بتحريمه، فكيف لا يلحق في ذلك الوقت الذي
أبيح، فدل على أن نكاح المتعة كان على حكم النكاح الصحيح، ويفارقه في الأجل
والميراث. وحكى المهدوي عن ابن عباس أن نكاح المتعة كان بلا ولي ولا شهود. وفيما
حكاه ضعف؛ لما ذكرنا. قال ابن العربي: وقد كان ابن عباس يقول بجوازها، ثم ثبت
رجوعه عنها، فانعقد الإجماع على تحريمها؛ فإذا فعلها أحد رجم في مشهور المذهب. وفي
رواية أخرى عن مالك: لا يرجم؛ لأن نكاح المتعة ليس بحرام، ولكن لأصل آخر لعلمائنا
غريب انفردوا به دون سائر العلماء؛ وهو أن ما حرم بالسنة هل هو مثل ما حرم بالقرآن
أم لا؟ فمن رواية بعض المدنيين عن مالك أنهما ليسا بسواء؛ وهذا ضعيف. وقال أبو بكر
الطرطوسي: ولم يرخص في نكاح المتعة إلا عمران بن حصين وابن عباس وبعض الصحابة
وطائفة من أهل البيت. وفي قول ابن عباس يقول الشاعر:
أقول
للركب إذ طال الثواء بنا يا صاح هل لك في فتيا ابن عباس
في بضة
رخصة الأطراف ناعمة تكون مثواك حتى مرجع الناس
وسائر
العلماء والفقهاء من الصحابة والتابعين والسلف الصالحين على أن هذه الآية منسوخة،
وأن المتعة حرام. وقال أبو عمر: أصحاب ابن عباس من أهل مكة واليمن كلهم يرون
المتعة حلالا على مذهب ابن عباس وحرمها سائر الناس. وقال معمر: قال الزهري: ازداد
الناس لها مقتا حتى قال الشاعر:
قال
المحدث لما طال مجلسه يا صاح هل لك في فتيا ابن عباس
كما
تقدم.
قوله
تعالى: « أجورهن
» يعم
المال وغيره، فيجوز أن يكون الصداق منافع أعيان. وقد اختلف في هذا العلماء؛ فمنعه
مالك والمزني والليث وأحمد وأبو حنيفة وأصحابه؛ إلا أن أبا حنيفة قال: إذا تزوج
على ذلك فالنكاح جائز وهو في حكم من لم يسم لها، ولها مهر مثلها إن دخل بها، وإن
لم يدخل بها فلها المتعة. وكرهه ابن القاسم في كتاب محمد وأجازه أصبغ. قال ابن
شاس: فإن وقع مضى في قول أكثر الأصحاب. وهي رواية أصبغ عن ابن القاسم. وقال
الشافعي: النكاح ثابت وعليه أن يعلمها ما شرط لها. فإن طلقها قبل الدخول ففيها
للشافعي قولان: أحدهما أن لها نصف أجر تعليم تلك السورة، والآخر أن لها نصف مهر
مثلها. وقال إسحاق: النكاح جائز. قال أبو الحسن اللخمي: والقول بجواز جميع ذلك
أحسن. والإجارة والحج كغيرهما من الأموال التي تتملك وتباع وتشترى. وإنما كره ذلك
مالك لأنه يستحب أن يكون الصداق معجلا، والإجارة والحج في معنى المؤجل. احتج أهل
القول الأول بأن الله تعالى قال: «
بأموالكم » [ النساء: 0 1 ] وتحقيق المال ما تتعلق به
الأطماع، ويعد للانتفاع، ومنفعة الرقبة في الإجارة ومنفعة التعليم للعلم كله ليس
بمال. قال الطحاوي: والأصل المجتمع عليه أن رجلا لو استأجر رجلا على أن يعلمه سورة
من القرآن سماها، بدرهم لم يجز؛ لأن الإجارات لا تجوز إلا لأحد معنيين؛ إما على
عمل بعينه كخياطة ثوب وما أشبهه، وإما على وقت معلوم؛ وكان إذا استأجره على تعليم
سورة فتلك إجارة لا على وقت معلوم ولا على عمل معلوم، وإنما استأجره على أن يعلم،
وقد يفهم بقليل التعليم وكثيره في قليل الأوقات وكثيرها. وكذلك لو باعه داره على
أن يعلمه سورة من القرآن لم يجز للمعاني التي ذكرناها في الإجارات. وإذا كان
التعليم لا يملك به المنافع ولا أعيان الأموال ثبت بالنظر أنه لا تملك به الأبضاع.
والله الموفق. احتج من أجاز ذلك بحديث سهل بن سعد في حديث الموهوبة، وفيه فقال: ( اذهب فقد ملكتكها بما معك من
القرآن ) . في رواية
قال: ( انطلق
فقد زوجتكها فعلمها من القرآن ) .
قالوا: فقي هذا دليل على انعقاد النكاح وتأخر المهر الذي هو التعليم، وهذا على
الظاهر من قوله: ( بما
معك من القرآن ) فإن
الباء للعوض؛ كما تقول: خذ هذا بهذا، أي عوضا منه. وقوله في الرواية الأخرى: ( فعلمها ) نص في الأمر بالتعليم،
والمساق يشهد بأن ذلك لأجل النكاح، ولا يلتفت لقول من قال إن ذلك كان إكراما للرجل
بما حفظه من القرآن، أي لما حفظه، فتكون الباء بمعنى اللام؛ فإن الحديث الثاني
يصرح بخلافه في قوله: (
فعلمها من القرآن ) . ولا
حجة فيما روي عن أبي طلحة أنه خطب أم سليم فقالت: إن أسلم تزوجته. فأسلم فتزوجها؛
فلا يعلم مهر كان أكرم من مهرها، كان مهرها الإسلام فإن ذلك خاص به. وأيضا فإنه لا
يصل إليها منه شيء بخلاف التعليم وغيره من المنافع. وقد زوج شعيب عليه السلام
ابنته من موسى عليه السلام على أن يرعى له غنما في صداقها؛ على ما يأتي بيانه في
سورة « القصص
» . وقد
روي من حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل من أصحابه: ( يا فلان هل تزوجت ) ؟ قال: لا، وليس معي ما أتزوج
به. قال: أليس معك « قل هو
الله أحد » [ الإخلاص: 1 ] ؟ قال: بلى! قال: ( ثلث القرآن، أليس معك آية
الكرسي ) ؟ قال:
بلى! قال: ( ربع
القرآن، أليس معك « إذا
جاء نصر الله والفتح » [ الفتح:1 ] ؟ قال: بلى ! قال: ( ربع
القرآن ) أليس معك « إذا
زلزلت » [ الزلزلة: 1 ] ) ؟ قال: بلى ! قال: ( ربع القرآن. تزوج تزوج ) .
قلت: وقد
أخرج الدارقطني حديث سهل من حديث ابن مسعود، وفيه زيادة تبين، ما احتج به مالك
وغيره، وفيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من ينكح هذه ) ؟ فقام ذلك الرجل فقال: أنا يا رسول الله؛ فقال: ( ألك مال ) ؟ قال: لا، يا رسول الله؛
قال: ( فهل
تقرأ من القرآن شيئا ) ؟.
قال: نعم، سورة البقرة، وسورة المفصل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( قد أنكحتكها على أن تقرئها
وتعلمها وإذا رزقك الله عوضتها ) .
فتزوجها الرجل على ذلك. وهذا نص - لو صح - في أن التعليم لا يكون صداقا. قال
الدارقطني: تفرد به عتبة بن السكن وهو متروك الحديث. و « فريضة » نصب على المصدر في موضع الحال،
أي مفروضة.
قوله
تعالى: « ولا
جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة » أي من زيادة ونقصان في المهر؛ فإن ذلك سائغ عند التراضي بعد
استقرار الفريضة. والمراد إبراء المرأة عن المهر، أو توفية الرجل كل المهر إن طلق
قبل الدخول. وقال القائلون بأن الآية في المتعة: هذا إشارة إلى ما تراضيا عليه من
زيادة في مدة المتعة في أول الإسلام؛ فإنه كان يتزوج الرجل المرأة شهرا على دينار
مثلا، فإذا انقضى الشهر فربما كان يقول: زيديني في الأجل أزدك في المهر. فبين أن
ذلك كان جائزا عند التراضي.
الآية:
25 ( ومن لم يستطع منكم طولا أن
ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات والله أعلم
بإيمانكم بعضكم من بعض فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير
مسافحات ولا متخذات أخدان فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من
العذاب ذلك لمن خشي العنت منكم وأن تصبروا خير لكم والله غفور رحيم )
قوله
تعالى: « ومن لم
يستطع منكم طولا » نبه
تعالى على تخفيف في النكاح وهو نكاح الأمة لمن لم يجد الطول. واختلف العلماء. في
معنى الطول على ثلاثة أقوال: الأول: السعة والغنى؛ قاله ابن عباس ومجاهد وسعيد بن
جبير والسدي وابن زيد ومالك في المدونة. يقال: طال يطول طولا في الإفضال والقدرة.
وفلان ذو طول أي ذو قدرة في مال ( بفتح
الطاء ) .
وطولا ( بضم
الطاء ) في ضد
القصر. والمراد ههنا القدرة على المهر في قول أكثر أهل العلم، وبه يقول الشافعي
وأحمد وإسحاق وأبو ثور. قال أحمد بن المعذل: قال عبدالملك: الطول كل ما يقدر به
على النكاح من نقد أو عرض أو دين على ملي. قال: وكل ما يمكن بيعه وإجارته فهو طول.
قال: وليست الزوجة ولا الزوجتان ولا الثلاثة طولا. وقال: وقد سمعت ذلك من مالك رضي
الله عنه. قال عبدالملك: لأن الزوجة لا ينكح بها ولا يصل بها إلى غيرها إذ ليست
بمال. وقد سئل مالك عن رجل يتزوج أمة وهو ممن يجد الطول؛ فقال: أرى أن يفرق
بينهما. قيل له: إنه يخاف العنت. قال: السوط يضرب به. ثم خففه بعد ذلك. القول
الثاني: الطول الحرة. وقد اختلف قول مالك في الحرة هل هي طول أم لا؛ فقال في
المدونة: ليست الحرة بطول تمنع من نكاح الأمة؛ إذا لم يجد سعة لأخرى وخاف العنت.
وقال في كتاب محمد ما يقتضي أن الحرة بمثابة الطول. قال اللخمي: وهو ظاهر القرآن.
وروي نحو هذا عن ابن حبيب، وقال أبو حنيفة. فيقتضي هذا أن من عنده حرة فلا يجوز له
نكاح الأمة لأن عدم السعة وخاف العنت، لأنه طالب شهوة وعنده امرأة، وقال به الطبري
واحتج له. قال أبو يوسف: الطول هو وجود الحرة تحته؛ فإذا كانت تحته حرة فهو ذو
طول، فلا يجوز له نكاح الأمة. القول الثالث: الطول الجلد والصبر لمن أحب أمة
وهويها حتى صار لذلك لا يستطع أن يتزوج غيرها، فإن له أن يتزوج الأمة إذا لم يملك
هواها وخاف أن يبغي بها وإن كان يجد سعة في المال لنكاح حرة؛ هذا قول قتادة
والنخعي وعطاء وسفيان الثوري. فيكون قوله تعالى: « لمن خشي العنت » على هذا التأويل في صفة عدم الجلد. وعلى التأويل الأول يكون
تزويج الأمة معلقا بشرطين: عدم السعة في المال، وخوف العنت؛ فلا يصح إلا
باجتماعهما. وهذا هو نص مذهب مالك في المدونة من رواية ابن نافع وابن القاسم وابن
وهب وابن زياد. قال مطرف وابن الماجشون: لا يحل للرجل أن ينكح أمة، ولا يقران إلا
أن يجتمع الشرطان كما قال الله تعالى. وقال أصبغ. وروي هذا القول عن جابر بن
عبدالله وابن عباس وعطاء وطاوس والزهري ومكحول، وبه قال الشافعي وأبو ثور وأحمد
وإسحاق، واختاره ابن المنذر وغيره. فإن وجد المهر وعدم النفقة فقال مالك في كتاب
محمد: لا يجوز له أن يتزوج أمة. وقال أصبغ: ذلك جائز؛ إذ نفقة الأمة على أهلها إذا
لم يضمها إليه. وفي الآية قول رابع: قال مجاهد: مما وسع الله على هذه الأمة نكاح
الأمة والنصرانية، وإن كان موسرا. وقال بذلك أبو حنيفة أيضا، ولم يشترط خوف العنت؛
إذا لم تكن تحته حرة. قالوا: لأن كل مال يمكن أن يتزوج به الأمه يمكن أن يتزوج به
الحرة؛ فالآية على هذا أصل في جواز نكاح الأمة مطلقا. قال مجاهد: وبه يأخذ سفيان،
وذلك أني سألته عن نكاح الأمة فحدثني عن ابن أبي ليلى عن المنهال عن عباد بن
عبدالله عن علي رضي الله عنه قال: إذا نكحت الحرة على الأمة كان للحرة يومان
وللأمة يوم. قال: ولم ير علي به بأسا. وحجة هذا القول عموم قوله تعالى: « وأحل لكم ما وراء ذلكم » [ النساء: 24 ] . وقوله تعالى: « ومن لم يستطع منكم طولا » إلى قوله: « ذلك لمن خشي العنت منكم » [ النساء: 25 ] ؛ لقوله عز وجل: « فانكحوا ما طاب لكم من النساء
مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة » [
النساء: 3 ] . وقد
اتفق الجميع على أن للحر أن يتزوج أربعا وإن خاف ألا يعدل. قالوا: وكذلك له تزوج
الأمة وإن كان واجدا للطول غير خائف للعنت. وقد روي عن مالك في الذي يجد طولا لحرة
أنه يتزوج أمة مع قدرته على طول الحرة؛ وذلك ضعيف من قول. وقد قال مرة أخرى: ما هو
بالحرام البين، وأجوزه. والصحيح أنه لا يجوز للحر المسلم أن ينكح أمة غير مسلمة
بحال، ولا له أن يتزوج بالأمة المسلمة إلا بالشرطين المنصوص عليهما كما بينا.
والعنت الزنى؛ فإن عدم الطول ولم يخش العنت لم يجز له نكاح الأمة، وكذلك إن وجد
الطول وخشي العنت.
فإن قدر
على طول حرة كتابية فهل يتزوج الأمة؛ اختلف علماؤنا في ذلك، فقيل: يتزوج الأمة فإن
الأمة المسلمة لا تلحق بالكافرة، فأمة مؤمنة خير من حرة مشركة. واختاره ابن
العربي. وقيل: يتزوج الكتابية؛ لأن الأمة وإن كانت تفضلها بالإيمان فالكافرة
مفضلها بالحرية وهي زوجة. وأيضا فإن ولدها يكون حرا لا يسترق، وولد الأمة يكون
رقيقا؛ وهذا هو الذي يتمشى على أصل المذهب.
واختلف
العلماء في الرجل يتزوج الحرة على الأمة ولم تعلم بها؛ فقالت طائفة: النكاح ثابت.
كذلك قال سعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي، وروي
عن علي. وقيل: للحرة الخيار إذا علمت. ثم في أي شيء يكون لها الخيار؛ فقال الزهري
وسعيد بن المسيب ومالك وأحمد وإسحاق في أن تقيم معه أو تفارقه. وقال عبدالملك: في
أن تقر نكاح الأمة أو تفسخه. وقال النخعي: إذا تزوج الحرة على الأمة فارق الأمة
إلا أن يكون له منها ولد؛ فإن كان لم يفرق بينهما. وقال مسروق: يفسخ نكاح الأمة؛
لأنه أمر أبيح للضرورة كالميتة، فإذا ارتفعت الضرورة ارتفعت الإباحة.
فإن كانت
تحته أمتان علمت الحرة بواحدة منهما ولم تعلم بالأخرى فإنه يكون لها الخيار. ألا
ترى لو أن حرة تزوج عليها أمة فرضيت، ثم تزوج عليها أمة فرضيت، ثم تزوج عليها أخرى
فأنكرت كان ذلك لها؛ فكذلك هذه إذا لم تعلم بالأمتين وعلمت بواحدة. قال ابن
القاسم: قال مالك: وإنما جعلنا الخيار للحرة في هذه المسائل لما قالت العلماء
قبلي. يريد سعيد بن المسيب وابن شهاب وغيرهما. قال مالك: ولولا ما قالوه لرأيته
حلالا؛ لأنه في كتاب الله حلال. فإن لم تكفه الحرة واحتاج إلى أخرى ولم يقدر على
صداقها جاز له أن يتزوج الأمة حتى ينتهي إلى أربع بالتزويج بظاهر القرآن. رواه ابن
وهب عن مالك. وروى ابن القاسم عنه: يرد نكاحه. قال ابن العربي: والأول أصح في
الدليل، وكذلك هو في القرآن؛ فإن من رضي بالسبب المحقق رضي بالمسبب المرتب عليه،
وألا يكون لها خيار؛ لأنها قد علمت أن له نكاح الأربع؛ وعلمت أنه إن لم يقدر على
نكاح حرة تزوج أمة، وما شرط الله سبحانه عليها كما شرطت على نفسها، ولا يعتبر في
شروط الله سبحانه وتعالى علمها. وهذا غاية التحقيق في الباب والإنصاف فيه.
قوله
تعالى: «
المحصنات » يريد
الحرائر؛ يدل عليه التقسيم بينهن وبين الإماء في قوله: « من فتياتكم المؤمنات » . وقالت فرقة: معناه العفائف.
وهو ضعيف؛ لأن الإماء يقعن تحته فأجازوا نكاح إماء أهل الكتاب، وحرموا البغايا من
المؤمنات والكتابيات. وهو قول ابن ميسرة والسدي. وقد اختلف العلماء فيما يجوز للحر
الذي لا يجد الطول ويخشى العنت من نكاح الإماء؛ فقال مالك وأبو حنيفة وابن شهاب
الزهري والحارث العكلي: له أن يتزوج أربعا. وقال حماد بن أبي سليمان: ليس له أن
ينكح من الإماء أكثر من اثنتين. وقال الشافعي وأبو ثور وأحمد وإسحاق: ليس له أن
ينكح من الإماء إلا واحدة. وهو قول ابن عباس ومسروق وجماعة؛ واحتجوا بقوله تعالى: « ذلك لمن خشي العنت منكم » وهذا المعنى يزول بنكاح واحدة.
قوله
تعالى: « فمن ما
ملكت أيمانكم » أي
فليتزوج بأمة الغير. ولا خلاف بين العلماء أنه لا يجوز له أن يتزوج أمة نفسه؛
لتعارض الحقوق واختلافها. « من
فتياتكم » أي
المملوكات، وهي جمع فتاة. والعرب تقول للمملوك: فتى، وللمملوكة فتاة. وفي الحديث
الصحيح: ( لا
يقولن أحدكم عبدي وأمتي ولكن ليقل فتاي وفتاتي ) وسيأتي. ولفظ الفتى والفتاة يطلق أيضا على الأحرار في
ابتداء الشباب، فأما في المماليك فيطلق في الشباب وفي الكبر.
قوله
تعالى: «
المؤمنات » بين
بهذا أنه لا يجوز التزوج بالأمة الكتابية، فهذه الصفة مشترطة عند مالك وأصحابه،
والشافعي وأصحابه، والثوري والأوزاعي والحسن البصري والزهري ومكحول ومجاهد. وقالت
طائفة من أهل العلم منهم أصحاب الرأي: نكاح الأمة الكتابية جائز. قال أبو عمر: ولا
أعلم لهم سلفا في قولهم، إلا أبا ميسرة عمرو بن شرحبيل فإنه قال: إماء أهل الكتاب
بمنزلة الحرائر منهن. قالوا: وقوله « المؤمنات » على جهة
الوصف الفاضل وليس بشرط ألا يجوز غيرها؛ وهذا بمنزلة قوله تعالى: « فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة » فإن خاف ألا يعدل فتزوج أكثر
من واحدة جاز، ولكن الأفضل ألا يتزوج؛ فكذلك هنا الأفضل ألا يتزوج إلا مؤمنة، ولو
تزوج غير المؤمنة جاز. واحتجوا بالقياس على الحرائر، وذلك أنه لما لم يمنع قوله: « المؤمنات » في الحرائر من نكاح الكتابيات
فكذلك لا يمنع قوله: «
المؤمنات » في
الإماء من نكاح إماء الكتابيات. وقال أشهب في المدونة: جائز للعبد المسلم أن يتزوج
أمة كتابية. فالمنع عده أن يفضل الزوج في الحرية والدين معا. ولا خلاف بين العلماء
أنه لا يجوز لمسلم نكاح مجوسية ولا وثنية، وإذا كان حراما بإجماع نكاحهما فكذلك
وطؤهما بملك اليمين قياسا ونظرا. وقد روي عن طاوس ومجاهد وعطاء وعمرو بن دينار
أنهم قالوا: لا بأس بنكاح الأمة المجوسية بملك اليمين. وهو قول شاذ مهجور لم يلتفت
إليه أحد من فقهاء الأمصار. وقالوا: لا يحل أن يطأها حتى تسلم. وقد تقدم القول في
هذه المسألة في « البقرة
» مستوفى.
والحمد لله.
قوله
تعالى: « والله
أعلم بإيمانكم » المعنى
أن الله عليم ببواطن الأمور ولكم ظواهرها، وكلكم بنو آدم وأكرمكم عند الله أتقاكم،
فلا تستنكفوا من التزوج بالإماء عند الضرورة، وإن كانت حديثة عهد بسباء، أو كانت
خرساء وما أشبه ذلك. ففي اللفظ تنبيه على أنه ربما كان إيمان أمة أفضل من إيمان
بعض الحرائر.
قوله
تعالى: « بعضكم
من بعض » ابتداء
وخبر؛ كقولك زيد في الدار. والمعنى أنتم بنو آدم. وقيل: أنتم مؤمنون. وقيل: في
الكلام تقديم وتأخير؛ المعنى: ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات
فلينكح بعضكم من بعض: هذا فتاة هذا، وهذا فتاة هذا. فبعضكم على هذا التقدير مرفوع
بفعله وهو فلينكح. والمقصود بهذا الكلام توطئة نفوس العرب التي كانت تستهجن ولد
الأمة وتعيره وتسميه الهجين، فلما جاء الشرع بجواز نكاحها علموا أن ذلك التهجين لا
معنى له، وإنما انحطت الأمة فلم يجز للحر التزوج بها إلا عند الضرورة؛ لأنه تسبب
إلى إرقاق الولد، وأن الأمة لا تفرغ للزوج على الدوام، لأنها مشغولة بخدمة المولى.
قوله
تعالى: «
فانكحوهن بإذن أهلهن » أي
بولاية أربابهن المالكين وإذنهم. وكذلك العبد لا ينكح إلا بإذن سيده؛ لأن العبد
مملوك لا أمر له، وبدنه كله مستغرق، لكن الفرق بينهما أن العبد إذا تزوج بغير إذن
سيده فإن أجازه السيد جاز؛ هذا مذهب مالك وأصحاب الرأي، وهو قول الحسن البصري
وعطاء بن أبي رباح وسعيد بن المسيب وشريح والشعبي. والأمة إذا تزوجت بغير إذن
أهلها فسخ ولم يجز بإجازة السيد؛ لأن نقصان الأنوثة في الأمة يمنع من انعقاد
النكاح البتة. وقالت طائفة: إذا نكح العبد بغير إذن سيده فسخ نكاحه؛ هذا قول
الشافعي والأوزاعي وداود بن علي، قالوا: لا تجوز إجازة المولى إن لم يحضره؛ لأن العقد
الفاسد لا تصح إجازته، فإن أراد النكاح استقبله على سنته. وقد أجمع علماء المسلمين
على أنه لا يجوز نكاح العبد بغير إذن سيده. وقد كان ابن عمر يعد العبد بذلك زانيا
ويحده؛ وهو قول أبي ثور. وذكر عبدالرزاق عن عبدالله بن عمر عن نافع عن ابن عمر،
وعن معمر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر أنه أخذ عبدا له نكح بغير إذنه فضربه الحد
وفرق بينهما وأبطل صداقها. قال: وأخبرنا ابن جريج عن موسى بن عقبة أنه أخبره عن
نافع عن ابن عمر أنه كان يرى نكاح العبد بغير إذن وليه زنى، ويرى عليه الحد،
ويعاقب الذين أنكحوهما. قال: وأخبرنا ابن جريج عن عبدالله بن محمد بن عقيل قال:
سمعت جابر بن عبدالله يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أيما عبد نكح بغير إذن سيده
فهو عاهر ) . وعن
عمر بن الخطاب رضي الله عنه: هو نكاح حرام؛ فإن نكح بإذن سيده فالطلاق بيد من
يستحل الفرج. قال أبو عمر: على هذا مذهب جماعة فقهاء الأمصار بالحجاز والعراق، ولم
يختلف عن ابن عباس أن الطلاق بيد السيد؛ وتابعه على ذلك جابر بن زيد وفرقة. وهو
عند العلماء شذوذ لا يعرج عليه، وأظن ابن عباس تأول في ذلك قول الله تعالى: « ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا
يقدر على شيء » [ النحل: 75 ] . وأجمع أهل العلم على أن
نكاح العبد جائز بإذن مولاه؛ فإن نكح نكاحا فاسدا فقال الشافعي: إن لم يكن دخل فلا
شيء لها، لأن كان دخل فعليه المهر إذا عتق؛ هذا هو الصحيح من مذهبه، وهو قول أبي
يوسف ومحمد لا مهر عليه حتى يعتق. وقال أبو حنيفة: إن دخل عليها فلها المهر. وقال
مالك والشافعي: إذا كان عبد بين رجلين فأذن له أحدهما في النكاح فنكح فالنكاح
باطل، فأما الأمة إذا أذنت أهلها في النكاح فأذنوا جاز، وإن لم تباشر العقد لكن
تولي من يعقده عليها.
قوله
تعالى: « وآتوهن
أجورهن » دليل
على وجوب المهر في النكاح، وأنه للأمة. « بالمعروف » معناه
بالشرع والسنة، وهذا يقتضي أنهن أحق بمهورهن من السادة، وهو مذهب مالك. قال في
كتاب الرهون: ليس للسيد أن يأخذ مهر أمته ويدعها بلا جهاز. وقال الشافعي: الصداق
للسيد؛ لأنه عوض فلا يكون للأمة. أصله إجازة المنفعة في الرقبة، وإنما ذكرت لأن
المهر وجب بسببها. وذكر القاضي إسماعيل في أحكامه: زعم بعض العراقيين إذا زوج أمته
من عبده فلا مهر. وهذا خلاف الكتاب والسنة وأطنب فيه.
قوله
تعالى: « محصنات
» أي
عفائف. وقرأ الكسائي « محصنات
» بكسر
الصاد في جميع القرآن، إلا في قوله تعالى: « والمحصنات من النساء » [
النساء: 24 ] . وقرأ
الباقون بالنصب في جميع القرآن. ثم قال: « غير مسافحات » أي غير زوان، أي معلنات بالزنى؛ لأن أهل الجاهلية كان فيهم
الزواني في العلانية، ولهن رايات منصوبات كراية البيطار. « ولا متخذات أخدان » أصدقاء على الفاحشة، واحدهم
خدن وخدين، وهو الذي يخادنك، ورجل خدنة، إذا اتخذ أخذانا أي أصحابا، عن أبي زيد.
وقيل: المسافحة المجاهرة بالزنى، أي التي تكري نفسها لذلك. وذات الخدن هي التي
تزني سرا. وقيل: المسافحة المبذولة، وذات الخدن التي تزني بواحد. وكانت العرب تعيب
الإعلان بالزنى، ولا تعيب اتخاذ الأخدان، ثم رفع الإسلام جميع ذلك، وفي ذلك نزل
قوله تعالى: « ولا
تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن » [
الأنعام: 151 ] ؛ عن
ابن عباس وغيره.
قوله
تعالى: « فإذا
أحصن » قراءة
عاصم وحمزة والكسائي بفتح الهمزة. الباقون بضمها. فبالفتح معناه أسلمن، وبالضم
زوجن. فإذا زنت الأمة المسلمة جلدت نصف جلد الحرة؛ وإسلامها هو إحصانها في قول
الجمهور، ابن مسعود والشعبي والزهري وغيرهم. وعليه فلا تحد كافرة إذا زنت، وهو قول
الشافعي فيما ذكر ابن المنذر. وقال آخرون: إحصانها التزوج بحر. فإذا زنت الأمة
المسلمة التي لم تتزوج فلا حد عليها، قال سعيد بن جبير والحسن وقتادة، وروي عن ابن
عباس وأبي الدرداء، وبه قال أبو عبيد. قال: وفي حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه
أنه سئل عن حد الأمة فقال: إن الأمة ألقت فروة رأسها من وراء الدار. قال الأصمعي:
الفروة جلدة الرأس. قال أبو عبيدة: وهو لم يرد الفروة بعينها، وكيف تلقى جلدة
رأسها من وراء الدار، ولكن هذا مثل ! إنما أراد بالفروة القناع، يقول ليس عليها
قناع ولا حجاب، وأنها تخرج إلى كل موضع يرسلها أهلها إليه، لا تقدر على الامتناع
من ذلك؛ فتصير حيث لا تقدر على الامتناع من الفجور، مثل رعاية الغنم وأداء الضريبة
ونحو ذلك؛ فكأنه رأى أن لا حد عليها إذا فجرت؛ لهذا المعنى. وقالت فرقة: إحصانها
التزوج، إلا أن الحد واجب على الأمة المسلمة غير المتزوجة بالسنة، كما في صحيح
البخاري ومسلم أنه قيل: يا رسول الله، الأمة إذا زنت ولم تحصن؟ فأوجب عليها الحد.
قال الزهري: فالمتزوجة محدودة بالقرآن، والمسلمة غير المتزوجة محدودة بالحديث. قال
القاضي إسماعيل في قول من قال « إذا
أحصن » أسلمن:
بعد؛ لأن ذكر الإيمان قد تقدم لهن في قوله تعالى: « من فتياتكم المؤمنات » . وأما من قال: « إذا أحصن » تزوجن،
وأنه لا حد على الأمة حتى تتزوج؛ فإنهم ذهبوا إلى ظاهر القرآن وأحسبهم لم يعلموا
هذا الحديث. والأمر عندنا أن الأمة إذا. زنت وقد أحصنت مجلودة بكتاب الله، وإذا
زنت ولم تحصن مجلودة بحديث النبي صلى الله عليه وسلم ولا رجم عليها؛ لأن الرجم لا
يتنصف. قال أبو عمر: ظاهر قول الله عز وجل يقتضي ألا حد على أمة وإن كانت مسلمة
إلا بعد التزويج، ثم جاءت السنة بجلدها وإن لم تحصن، فكان ذلك زيادة بيان.
قلت: ظهر
المؤمن حمى لا يستباح إلا بيقين، ولا يقين مع الاختلاف، لولا ما جاء في صحيح السنة
من الجلد في ذلك. والله أعلم. وقال أبو ثور فيما ذكر ابن المنذر: وإن كانوا
اختلفوا في رجمهما فإنهما يرجمان إذا كانا محصنين، وإن كان إجماع فالإجماع أولى.
واختلف
العلماء فيمن يقيم الحد عليهما؛ فقال ابن شهاب: مضت السنة أن يحد العبد والأمة
أهلوهم في الزنى، إلا أن يرفع أمرهم إلى السلطان فليس لأحد أن يفتات عليه؛ وهو
مقتضى قوله عليه السلام: ( إذا زنت
أمة أحدكم فليحدها الحد ) . وقال
علي رضي الله عنه في خطبته: يا أيها الناس، أقيموا على أرقامكم الحد، من أحصن منهم
ومن لم يحصن، فإن أمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم زنت فأمرني أن أجلدها، فإذا
هي حديث عهد بنفاس، فخشيت إن أنا جلدتها أقتلها، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه
وسلم فقال: ( أحسنت
) .
أخرجه مسلم موقوفا عن علي. وأسنده النسائي وقال فيه: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: (
أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم من أحصن منهم ومن لم يحصن ) وهذا نص في إقامة السادة
الحدود على المماليك من أحصن منهم ومن لم يحصن. قال مالك رضي الله عنه: يحد المولى
عبده في الزنى وشرب الخمر والقذف إذا شهد عنده الشهود بذلك، ولا يقطعه في السرقة،
وإنما يقطعه الإمام؛ وهو قول الليث. وروي عن جماعة من الصحابة أنهم أقاموا الحدود
على عبيدهم، منهم ابن عمر وأنس، ولا مخالف لهم من الصحابة. وروي عن ابن أبي ليلى
أنه قال: أدركت بقايا الأنصار يضربون الوليدة من ولائدهم إذا زنت، في مجالسهم.
وقال أبو حنيفة: يقيم الحدود على العبيد والإماء السلطان دون المولى في الزنى
وسائر الحدود؛ وهو قول الحسن بن حي. وقال الشافعي: يحده المولى في كل حد ويقطعه؛
واحتج بالأحاديث التي ذكرنا. وقال الثوري والأوزاعي: يحده في الزنى؛ وهو مقتضى
الأحاديث، والله أعلم. وقد مضى القول في تغريب العبيد في هذه السورة.
فإن زنت
الأمة ثم عتقت قبل أن يحدها سيدها لم يكن له سبيل إلى حدها، والسلطان يجلدها إذا
ثبت ذلك عنده؛ فإن زنت ثم تزوجت لم يكن لسيدها أن يجلدها أيضا لحق الزوج؛ إذ قد
يضره ذلك. وهذا مذهب مالك إذا لم يكن الزوج ملكا للسيد، فلو كان، جاز للسيد ذلك
لأن حقهما حقه.
فإن أقر
العبد بالزنى وأنكره المولى فإن الحد يجب على العبد لإقراره، ولا التفات لما أنكره
المولى، وهذا مجمع عليه بين العلماء. وكذلك المدبر وأم الولد والمكاتب والمعتق
بعضه. وأجمعوا أيضا على أن الأمة إذا زنت ثم أعتقت حدت حد الإماء؛ وإذا زنت وهي لا
تعلم بالعتق ثم علمت وقد حدت أقيم عليها تمام حد الحرة؛ ذكره ابن المنذر.
واختلفوا
في عفو السيد عن عبده وأمته إذا زنيا؛ فكان الحسن البصري يقول: له أن يعفو. وقال
غير الحسن: لا يسعه إلا إقامة الحد، كما لا يسع السلطان أن يعفو عن حد إذا علمه،
لم يسع السيد كذلك أن يعفو عن أمته إذا وجب عليها الحد؛ وهذا على مذهب أبي ثور.
قال ابن المنذر: وبه نقول.
قوله
تعالى: « فعليهن
نصف ما على المحصنات من العذاب » أي
الجلد ويعني بالمحصنات ههنا الأبكار الحرائر؛ لأن الثيب عليها الرجم لا يتبعض،
وإنما قيل للبكر محصنة وإن لم تكن متزوجة؛ لأن الإحصان يكون بها؛ كما يقال: أضحية
قبل أن يضحي بها؛ وكما يقال للبقرة: مثيرة قبل أن تثير. وقيل: « المحصنات » المتزوجات؛ لأن عليها الضرب
والرجم في الحديث، والرجم لا يتبعض فصار عليهن نصف الضرب. والفائدة في نقصان حدهن
أنهن أضعف من الحرائر. ويقال: إنهن لا يصلن إلى مرادهن كما تصل الحرائر. وقيل: لأن
العقوبة تجب على قدر النعمة؛ ألا ترى أن الله تعالى قال لأزواج النبي صلى الله
عليه وسلم: « يا نساء
النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين » [ الأحزاب:30 ] فلما كانت نعمتهن أكثر جعل
عقوبتهن أشد، وكذلك الإماء لما كانت نعمتهن أقل فعقوبتهن أقل. وذكر في الآية حد
الإماء خاصة، ولم يذكر حد العبيد؛ ولكن حد العبيد والإماء سواء؛ خمسون جلدة في الزنى،
وفي القذف وشرب الخمر أربعون؛ لأن حد الأمة إنما نقص لنقصان الرق فدخل الذكور من
العبيد في ذلك بعلة المملوكية، كما دخل الإماء تحت قوله عليه السلام: ( من أعتق شركا له في عبد ) . وهذا الذي يسميه العلماء
القياس في معنى الأصل؛ ومنه قوله تعالى: « والذين يرمون المحصنات » [
النور:6 ] الآية.
فدخل في ذلك المحصنين قطعا؛ على ما يأتي بيانه في سورة « النور » إن شاء الله تعالى.
وأجمع
العلماء على أن بيع الأمة الزانية ليس بيعها بواجب لازم على بها، وإن اختاروا له
ذلك؛ لقوله عليه السلام: ( إذا
زنت أمة أحدكم فتبين زناها فليبعها الحد ولا يثرب عليها ثم إن زنت فليجلدها الحد
ولا يثرب عليها ثم إن زنت الثالثة فتبين زناها فليبعها ولو بحبل من شعر ) . أخرجه مسلم عن أبي هريرة.
وقال أهل الظاهر بوجوب بيعها في الرابعة. منهم داود وغيره؛ لقوله ( فليبعها ) وقوله: ( ثم بيعوها ولو بضفير ) . قال ابن شهاب: فلا أدري بعد
الثالثة أو الرابعة؛ والضفير الحبل. فإذا باعها بزناها؛ لأنه عيب فلا يحل أن يكتم.
فإن يكتم. فإن قيل: إذا كان مقصود الحديث إبعاد الزانية ووجب على بائعها التعريف
بزناها فلا ينبغي لأحد أن يشتريها؛ لأنها مما قد أمرنا بإبعادها. فالجواب أنها مال
ولا تضاع؛ للنهي عن إضاعة المال، ولا تسيب؛ لأن ذلك إغراء لها بالزنى وتمكين منه،
ولا تحبس دائما، فإن فيه تعطيل منفعتها على سيدها فلم يبق إلا بيعها. ولعل السيد
الثاني يعفها بالوطء أو يبالغ في التحرز فيمنعها من ذلك. وعلى الجملة فعند تبدل
الملاك تختلف عليها الأحوال. والله أعلم.
قوله
تعالى: « وأن
تصبروا خير لكم » أي
الصبر على العزبة خير من نكاح الأمة، لأنه يفضي إلى إرقاق الولد، والغض من النفس
والصبر على مكارم الأخلاق أولى من البذالة. وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال:
أيما حر تزوج بأمة فقد أرق نصفه. يعني يصير ولده رقيقا؛ فالصبر عن ذلك أفضل لكيلا
يرق الولد. وقال سعيد بن جبير: ما نكاح الأمة من الزنى إلا قريب، قال الله تعالى: « وأن تصبروا خير لكم » ، أي عن نكاح الإماء. وفي سنن
ابن ماجة عن الضحاك بن مزاحم قال: سمعت أنس بن مالك يقول: سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول: « من
أراد أن يلقى الله طاهرا مطهرا فليتزوج الحرائر ) . ورواه أبو إسحاق الثعلبي من حديث يونس بن مرداس، وكان
خادما لأنس، وزاد: فقال أبو هريرة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( الحراير صلاح البيت والإماء
هلاك البيت - أو قال - فساد البيت ) .»
الآية:
26 ( يريد الله ليبين لكم ويهديكم
سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم )
أي ليبين
لكم أمر دينكم ومصالح أمركم، وما يحل لكم وما يحرم عليكم. وذلك يدل على امتناع خلو
واقعة عن حكم الله تعالى؛ ومنه قوله تعالى: « ما فرطنا في الكتاب من شيء » [ الأنعام:38 ] على ما يأتي. وقال بعد هذا: « يريد الله أن يخفف عنكم » [ النساء: 28 ] فجاء هذا « بأن » والأول باللام. فقال الفراء:
العرب تعاقب بين لام كي وأن؛ فتأتي باللام التي على معنى « كي » في موضع « أن » في أردت وأمرت؛ فيقولون: أردت
أن تفعل، وأردت تفعل؛ لأنهما يطلبان المستقبل. ولا يجوز ظننت لتفعل؛ لأنك تقول
ظننت أن قد قمت. وفي التنزيل « وأمرت
لأعدل بينكم » [ الشورى: 15 ] « وأمرنا لنسلم لرب العالمين » [ الأنعام: 71 ] . « يريدون ليطفئوا نور الله
بأفواههم » [ الصف: 8 ] . « يريدون أن يطفئوا نور الله » [ التوبة: 32 ] . قال الشاعر:
أريد
لأنسى ذكرها فكأنما تمثل لي ليلى بكل سبيل
يريد أن
أنسى. قال النحاس: وخطأ الزجاج هذا القول وقال: لو كانت اللام بمعنى « أن » لدخلت عليها لام أخرى؛ كما
تقول: جئت كي تكرمني، ثم تقول جئت لكي تكرمني. وأنشدنا:
أردت
لكيما يعلم الناس أنها سراويل قيس والوفود شهود
قال:
والتقدير إرادته ليبين لكم. قال النحاس: وزاد الأمر على هذا حتى سماها بعض القراء
لام أن؛ وقيل: المعنى يريد الله هذا من أجل أن يبين لكم.
قوله
تعالى: «
ويهديكم سنن الذين من قبلكم » أي من
أهل الحق. وقيل: معنى « يهديكم
» يبين
لكم طرق الذين من قبلكم من أهل الحق وأهل الباطل. وقال بعض أهل النظر: في هذا دليل
على أن كل ما حرم الله قبل هذه الآية علينا فقد حرم على من كان قبلنا. قال النحاس:
وهذا غلط؛ لأنه يكون المعنى ويبين لكم أمر من كان قبلكم ممن كان يجتنب ما نهي عنه،
وقد يكون ويبين لكم كما بين لمن كان قبلكم من الأنبياء فلا يومي به إلى هذا بعينه.
ويقال: إن قوله « يريد
الله » ابتداء
القصة، أي يريد الله أن يبين لكم كيفية طاعته. « ويهديكم » يعرفكم « سنن الذين من قبلكم » أنهم لما تركوا أمري كيف
عاقبتهم، وأنتم إذا فعلتم ذلك لا أعاقبكم ولكني أتوب عليكم. « والله عليم » بمن تاب « حكيم » بقبول التوبة.
الآيتان:
27 - 28 ( والله يريد أن يتوب عليكم
ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما، يريد الله أن يخفف عنكم وخلق
الإنسان ضعيفا )
قوله
تعالى: « والله يريد
أن يتوب عليكم » ابتداء
وخبر. و « أن » في موضع نصب بـ « يريد » وكذلك « يريد الله أن يخفف عنكم » ؛ فـ « أن يخفف » في موضع نصب بـ « يريد » والمعنى: يريد توبتكم، أي
يقبلها فيتجاوز عن ذنوبكم ويريد التخفيف عنكم. قيل: هذا في جميع أحكام الشرع، وهو
الصحيح. وقيل: المراد بالتخفيف نكاح الأمة، أي لما علمنا ضعفكم عن الصبر عن النساء
خففنا عنكم بإباحة الإماء؛ قال مجاهد وابن زيد وطاوس. قال طاوس: ليس يكون الإنسان
في شيء أضعف منه في أمر النساء. واختلف في تعيين المتبعين للشهوات؛ فقال مجاهد: هم
الزناة. السدي: هم اليهود والنصارى. وقالت فرقة: هم اليهود خاصة؛ لأنهم أرادوا أن
يتبعهم المسلمون في نكاح الأخوات من الأب. وقال ابن زيد: ذلك على العموم، وهو
الأصح. والميل: العدول عن طريق الاستواء؛ فمن كان عليها أحب أن يكون أمثاله عليها
حتى لا تلحقه معرة.
قوله
تعالى: « وخلق الإنسان
ضعيفا » نصب على
الحال؛ والمعنى أن هواه يستميله وشهوته وغضبه يستخفانه، وهذا أشد الضعف فأحتاج إلى
التخفيف. وقال طاوس: ذلك في أمر النساء خاصة. وروي عن ابن عباس أنه قرأ « وخلق الإنسان ضعيفا » أي وخلق الله الإنسان ضعيفا،
أي لا يصبر عن النساء. قال ابن املسيب: لقد أتى علي ثمانون سنة وذهبت إحدى عيني
وأنا أعشو بالأخرى وصاحبي أعمى أصم - يعني ذكره - وإني أخاف من فتنة النساء. ونحوه
عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، قال عبادة: ألا تروني لا أقوم إلا رفدا ولا آكل
إلا ما لوق لي - قال يحيى: يعني لين وسخن - وقد مات صاحبي منذ زمان - قال يحيى:
يعني ذكره - وما يسرني أني خلوت بامرأة لا تحل لي، وأن لي ما تطلع عليه الشمس
مخافة أن يأتيني الشيطان فيحركه علي، إنه لا سمع له ولا بصره.
الآية:
29 ( يا أيها الذين آمنوا لا
تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم
إن الله كان بكم رحيما )
قوله
تعالى: «
بالباطل » أي بغير
حق. ووجوه ذلك تكثر على ما بيناه؛ وقد قدمنا معناه في البقرة. ومن أكل المال
بالباطل بيع العربان؛ وهو أن يأخذ منك السلعة أو يكتري منك الدابة ويعطيك درهما
فما فوقه، على أنه إن اشتراها أو ركب الدابة فهو من ثمن السلعة أو كراء الدابة؛
وإن ترك ابتياع السلعة أو كراء الدابة فما أعطاك فهو لك. فهذا لا يصلح ولا يجوز
عند جماعة فقهاء الأمصار من الحجازيين والعراقيين، لأنه من باب بيع القمار والغرر
والمخاطرة، وأكل المال بالباطل بغير عوض ولا هبة، وذلك باطل بإجماع. وبيع العربان
مفسوخ إذا وقع على هذا الوجه قبل القبض وبعده، وترد السلعة إن كانت قائمة، فإن
فاتت رد قيمتها يوم قبضها. وقد روي عن قوم منهم ابن سيرين ومجاهد ونافع بن
عبدالحارث وزيد بن أسلم أنهم أجازوا بيع العربان على ما وصفنا. وكان زيد بن أسلم
يقول: أجازه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو عمر: هذا لا يعرف عن النبي صلى
الله عليه وسلم من وجه يصح، وإنما ذكره عبدالرزاق عن الأسلمي عن زيد بن أسلم
مرسلا؛ وهذا ومثله ليس حجة. ويحتمل أن يكون بيع العربان الجائز على ما تأوله مالك
والفقهاء معه؛ وذلك أن يعربنه ثم يحسب عربانه من الثمن إذا اختار تمام البيع. وهذا
لا خلاف في جوازه عن مالك وغيره؛ وفي موطأ مالك عن الثقة عنده عن عمرو بن شعيب عن
أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( نهى عن بيع العربان ) . قال أبو عمر: قد تكلم الناس في الثقة عنده في هذا الموضع،
وأشبه ما قيل نيه: أنه أخذه عن ابن لهيعة أو عن ابن وهب عن ابن لهيعة؛ لأن ابن
لهيعة سمعه من عمرو بن شعيب ورواه عنه. حدث به عن ابن لهيعة ابن وهب وغيره، وابن
لهيعة أحد العلماء إلا أنه يقال: إنه احترقت كتبه فكان إذا حدث بعد ذلك من حفظه
غلط. وما رواه عنه ابن المبارك وابن وهب فهو عند بعضهم صحيح. ومنهم من يضعف حديثه
كله.، وكان عنده علم واسع وكان كثير الحديث، إلا أن حال عندهم كما وصفنا.
قوله
تعالى: « إلا أن
تكون تجارة عن تراض منكم » هذا
استثناء منقطع، أي ولكن تجارة عن تراض. والتجارة هي البيع والشراء؛ وهذا مثل قوله
تعالى: « وأحل
الله البيع وحرم الربا » [ البقرة: 275 ] على ما تقدم. وقرئ « تجارة » ، بالرفع أي إلا أن تقع تجارة؛
وعليه أنشد سيبويه:
فدى لبني
ذهل بن شيبان ناقتي إذا كان يوم ذو كواكب أشهب
وتسمى
هذه كان التامة؛ لأنها تمت بفاعلها ولم تحتج إلى مفعول. وقرئ « تجارة » بالنصب؛ فتكون كان ناقصة؛
لأنها لا تتم بالاسم دون الخبر، فاسمها مضمر فيها، وإن شئت قدرته، أي إلا أن تكون
الأموال أموال تجارة؛ فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، وقد تقدم هذا؛ ومنه
قوله تعالى: « وإن
كان ذو عسرة » [ البقرة: 280 ] .
قوله
تعالى: « تجارة
» التجارة
في اللغة عبارة عن المعاوضة؛ ومنه الأجر الذي يعطيه البارئ سبحانه العبد عوضا عن
الأعمال الصالحة التي هي بعض من فعله؛ قال الله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم
على تجارة تنجيكم من عذاب أليم » [ الصف: 10 ] . وقال تعالى: « يرجون تجارة لن تبور » [ فاطر: 29 ] . وقال تعالى: « إن الله اشترى من المؤمنين
أنفسهم وأموالهم » [ التوبة: 111 ] الآية. فسمى ذلك كله بيعا
وشراء على وجه المجاز، تشبيها بعقود الأشرية والبياعات التي تحصل بها الأغراض، وهي
نوعان: تقلب في الحضر من غير نقلة ولا سفر، وهذا تربص واحتكار قد رغب عنه أولو
الأقدار، وزهد فيه ذوو الأخطار. والثاني تقلب المال بالأسفار ونقله إلى الأمصار،
فهذا أليق بأهل المروءة، وأعم جدوى ومنفعة، غير أنه أكثر خطرا وأعظم غررا. وقد روي
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن المسافر وماله لعلى قلت إلا ما وقى الله ) . يعني على خطر. وقيل: في
التوراة يا ابن آدم، أحدث سفرا أحدث لك رزقا. الطبري: وهذه الآية أدل دليل على
فساد قول.
اعلم أن
كل معاوضة تجارة على أي وجه كان العوض إلا أن قوله « بالباطل » أخرج منها كل عوض لا يجوز شرعا
من ربا أو جهالة أو تقدير عوض فاسد كالخمر والخنزير وغير ذلك. وخرج منها أيضا كل
عقد جائز لا عوض فيه؛ كالقرض والصدقة والهبة لا للثواب. وجازت عقود التبرعات بأدلة
أخرى مذكورة في مواضعها. فهذان طرفان متفق عليهما. وخرج منها أيضا دعاء أخيك إياك
إلى طعامه. روى أبو داود عن ابن عباس في قوله تعالى: « لا تأكلوا أموالكم بينكم
بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم » فكان الرجل يحرج أن يأكل عند أحد من الناس بعد ما نزلت هذه
الآية؛ فنسخ ذلك بالآية الأخرى التي في « النور » ؛ فقال:
« ليس
على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا
من بيوتكم » [ النور: 61 ] إلى قوله « أشتاتا » ؛ فكان الرجل الغني يدعو الرجل
من أهله إلى طعامه فيقول: إني لأجنح أن آكل منه - والتجنح الحرج ويقول: المسكين
أحق به مني. فأحل في ذلك أن يأكلوا مما ذكر اسم الله عليه، وأحل طعام أهل الكتاب.
لو
اشتريت من السوق شيئا؛ فقال لك صاحبه قبل الشراء: ذقه وأنت في حل؛ فلا تأكل منه؛
لأن إذنه بالأكل لأجل الشراء؛ فربما لا يقع بينكما شراء فيكون ذلك شبهة، ولكن لو
وصف لك صفة فاشتريته فلم تجده على تلك الصفة فأنت بالخيار.
والجمهور
على جواز الغبن في التجارة؛ مثل أن يبيع رجل ياقوتة به بدرهم وهي تساوي مائة فذلك
جائز، وأن المالك الصحيح الملك جائز له أن يبيع ماله الكثير بالتافه اليسير، وهذا
ما لا اختلاف فيه بين العلماء إذا عرف قدر ذلك، كما تجوز الهبة لو وهب. واختلفوا
فيه إذا لم يعرف قدر ذلك؛ فقال قوم: عرف قدر ذلك أو لم يعرف فهو جائز إذا كان
رشيدا حرا بالغا. وقالت فرقة: الغبن إذا تجاوز الثلث مردود، وإنما أبيح منه
المتقارب المتعارف في التجارات، وأما المتفاحش الفادح فلا؛ وقال ابن وهب من أصحاب
مالك رحمه الله. والأول أصح؛ لقوله عليه السلام في حديث الأمة الزانية. ( فليبعها ولو بضفير ) وقوله عليه السلام لعمر: ( لا تبتعه يعني القرس - ولو
أعطاكه بدرهم واحد ) وقوله
عليه السلام: ( دعوا
الناس يرزق الله بعضهم من بعض ) وقوله
عليه السلام: ( لا
يبغ حاضر لباد ) وليس
فيها تفصيل بين القليل والكثير من ثلث ولا غيره.
قوله
تعالى: « عن
تراض منكم » أي عن
رضى، إلا أنها جاءت من المفاعلة إذ التجارة من اثنين. واختلف العلماء في التراضي؛
فقالت طائفة: تمامه وجزمه بافتراق الأبدان بعد عقدة البيع، أو بأن يقول أحدهما
لصاحبه: اختر؛ فيقول: قد اخترت، وذلك بعد العقدة أيضا فينجزم أيضا وإن لم يتفرقا؛
قاله جماعة من الصحابة والتابعين، وبه قال الشافعي والثوري والأوزاعي والليث وابن
عيينة وإسحاق وغيرهم. قال الأوزاعي: هما بالخيار ما لم يتفرقا؛ إلا بيوعا ثلاثة:
بيع السلطان المغانم، والشركة في الميراث، والشركة في التجارة؛ فإذا صافقه في هذه
الثلاثة فقد وجب البيع وليسا فيه بالخيار. وقال: وحد التفرقة أن يتوارى كل واحد
منهما عن صاحبه؛ وهو قول أهل الشام. وقال الليث: التفرق أن يقوم أحدهما. وكان أحمد
بن حنبل يقول: هما بالخيار أبدا ما لم يتفرقا بأبدانهما، وسواء قالا: اخترنا أو لم
يقولاه حتى يفترقا بأبدانهما من مكانهما؛ وقال الشافعي أيضا. وهو الصحيح في هذا
الباب للأحاديث الواردة في ذلك. وهو مروي عن ابن عمر وأبي برزة وجماعة من العلماء.
وقال مالك وأبو حنيفة: تمام البيع هو أن يعقد البيع بالألسنة فينجزم العقد بذلك
ويرتفع الخيار. قال محمد بن الحسن: معنى قوله في الحديث ( البيعان بالخيار ما لم
يتفرقا ) أن البائع
إذا قال: قد بعتك، فله أن يرجع ما لم يقل المشتري قد قبلت. وهو قول أبي حنيفة، ونص
مذهب مالك أيضا، حكاه ابن خويز منداد. وقيل: ليس له أن يرجع. وقد مضى في « البقرة » . واحتج الأولون بما ثبت من
حديث سمرة بن جندب وأبي برزة وابن عمر وعبدالله بن عمرو بن العاص وأبي هريرة وحكيم
بن حزام وغيرهم عن النبي صلى الله عليه وسلم ( البيعان بالخيار ما لم يتفرقا أو يقول أحدهما لصاحبه أختر ) . رواه أيوب عن نافع عن ابن
عمر؛ فقوله عليه السلام في هذه الرواية: ( أو يقول أحدهما لصاحبه اختر ) هو معنى الرواية الأخرى ( إلا بيع الخيار ) وقوله: ( إلا أن يكون بيعهما عن خيار ) ونحوه. أي يقول أحدهما بعد
تمام البيع لصاحبه: اختر إنفاذ البيع أو فسخه؛ فإن اختار إمضاء البيع تم البيع
بينهم وإن لم يتفرقا. وكان ابن عمر وهو راوي الحديث إذا بايع أحدا وأحب أن ينفذ
البيع مشى قليلا ثم رجع. وفي الأصول: إن من روى حديثا فهو أعلم بتأويله، لا سيما
الصحابة إذ هم أعلم بالمنال وأقعد بالحال. وروى أبو داود والدارقطني عن أبي الوضيء
قال: كنا في سفر في عسكر فأتى رجل معه فرس فقال له رجل منا: أتبيع هذا الفرس بهذا
الغلام ؟ قال: نعم؛ فباعه ثم بات معنا، فلما أصبح قام إلى فرسه، فقال له صاحبنا:
مالك والفرس ! أليس قد بعتنيها ؟ فقال: ما لي في هذا البيع من حاجة. فقال: مالك
ذلك، لقد بعتني. فقال لهما القوم: هذا أبو برزة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم
فأتياه؛ فقال لهما: أترضيان بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالا: نعم. فقال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( البيعان بالخيار ما لم يتفرقا ) وإني لا أراكما افترقتما.
فهذان صحابيان قد علما مخرج الحديث وعملا بمقتضاه، بل هذا كان عمل الصحابة. قال
سالم: قال ابن عمر: كنا إذا تبايعنا كان كل واحد منا بالخيار ما لم يفرق
المتبايعان. قال: فتبايعت أنا وعثمان فبعته مالي بالوادي بمال له بخيبر؛ قال: فلما
بعته طفقت أنكص القهقرى، خشية أن يرادني عثمان البيع قبل أن أفارقه. أخرجه
الدارقطني ثم قال: إن أهل اللغة فرقوا بين فرقت مخففا وفرقت مثقلا؛ فجعلوه
بالتخفيف في الكلام وبالتثقيل في الأبدان. قال أحمد بن يحيى ثعلب: أخبرني ابن
الأعرابي عن المفضل قال: يقال فرقت بين الكلامين مخففا فافترقا وفرقت بين اثنين
مشددا فتفرقا؛ فجعل الافتراق في القول، والتفرق في الأبدان. احتجت المالكية بما
تقدم بيانه في آية الدين، وبقوله تعالى: « أوفوا بالعقود » [
المائدة: 1 ] وهذان
قد تعاقدا. وفي هذا الحديث إبطال الوفاء بالعقود. قالوا: وقد يكون التفرق بالقول
كعقد النكاح ووقوع الطلاق الذي قد سماه الله فراقا؛ قال الله تعالى: « وإن يتفرقا يغن الله كلا من
سعته » [ النساء: 130 ] وقال تعالى: « ولا تكونوا كالذين تفرقوا » [ آل عمران: 105 ] وقال عليه السلام: ( تفترق أمتي ) ولم يقل بأبدانها.
وقد روى
الدارقطني وغيره عن عمرو بن شعيب قال: سمعت شعيبا يقول: سمعت عبدالله بن عمرو
يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( أيما رجل ابتاع من رجل بيعة فإن كل واحد منهما بالخيار حتى
يتفرقا من مكانهما إلا أن تكون صفقة خيار فلا يحل لأحدهما أن يفارق صاحبه مخافة أن
يقيله ) .
قالوا: فهذا يدل على أنه قد تم البيع بينهما قبل الافتراق؛ لأن الإقالة لا تصح إلا
فيما قد تم من البيوع. قالوا: ومعنى قوله ( المتبايعان بالخيار ) أي المتساومان بالخيار ما لم يعقدا فإذا عقدا بطل الخيار
فيه. والجواب: أما ما اعتلوا به من الافتراق بالكلام فإنما المراد بذلك الأديان
كما بيناه في « آل
عمران » ، وإن
كان صحيحا في بعض المواضع فهو في هذا الموضع غير صحيح. وبيانه أن يقال: خبرونا عن
الكلام الذي وقع به الاجتماع وتم به البيع، أهو الكلام الذي أريد به الافتراق أم
غيره ؟ فإن قالوا: هو غيره فقد أحالوا وجاؤوا بما لا يعقل؛ لأنه ليس ثم كلام غير
ذلك. وإن قالوا: هو ذلك الكلام بعينه قيل لهم: كيف يجوز أن يكون الكلام الذي به
اجتمعا وتم به بيعهما، به افترقا، هذا عين المحال والفاسد من القول. وأما قوله: ( ولا يحل له أن يفارق صاحبه
مخافة أن يقيله ) فمعناه
- إن صح - على الندب؛ بدليل قوله عليه السلام. ( من أقال مسلما أقاله الله عثرته ) وبإجماع المسلمين على أن ذلك
يحل لفاعله على خلاف ظاهر الحديث، ولإجماعهم أنه جائز له أن يفارقه لينفذ بيعه ولا
يقيله إلا أن يشاء. وفيما أجمعوا عليه من ذلك رد لرواية من روى ( لا يحل ) فإن لم يكن وجه هذا الخبر
الندب، وإلا فهو باطل بالإجماع. وأما تأويل « المتبايعان » بالمتساومين فعدول عن ظاهر اللفظ، وإنما معناه المتبايعان
بعد عقدهما مخيران ما داما في مجلسهما، إلا بيعا يقول أحدهما لصاحبه فيه: اختر
فيختار؛ فإن الخيار ينقطع بينهما وإن لم يتفرقا؛ فإن فرض خيار فالمعنى: إلا بيع
الخيار فإنه يبقى الخيار بعد التفرد بالأبدان. وتتميم هذا الباب في كتب الخلاف.
وفي قول عمرو بن شعيب « سمعت
أبي يقول » دليل
على صحة حديثه؛ فسن الدارقطني قال حدثنا أبو بكر النيسابوري حدثنا محمد بن علي
الوراق قال: قلت لأحمد بن حنبل: شعيب سمع من أبيه شيئا ؟ قال: يقول حدثني أبي.
قال: فقلت: فأبوه سمع من عبدالله بن عمرو؟ قال: نعم، أراه قد سمع منه. قال
الدارقطني سمعت أبا بكر النيسابوري يقول: هو عمرو بن شعيب بن محمد بن عبدالله بن
عمرو بن العاص، وقد صح سماع عمرو بن شعيب من أبيه شعيب وسماع شعيب من جده عبدالله
بن عمرو.
روى
الدارقطني عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( التاجر الصدوق الأمين المسلم
مع النبي والصديقين والشهداء يوم القيامة ) . ويكره للتاجر أن يحلف لأجل ترويج السلعة وتزيينها، أو
يصلي على الني صلى الله عليه وسلم في عرض سلعته؛ وهو أن يقول: صلى الله على محمد !
ما أجود هذا. ويستحب للتاجر ألا تشغله تجارته عن أداء الفرائض؛ فإذا جاء وقت
الصلاة ينبغي أن يترك تجارته حتى يكون من أهل هذه الآية: « رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع
عن ذكر الله » [ النور: 37 ] وسيأتي.
وفي هذه
الآية مع الأحاديث التي ذكرناها ما يرد قول من ينكر طلب الأقوات بالتجارات
والصناعات من المتصوفة الجهلة؛ لأن الله تعالى حرم أكلها بالباطل وأحلها بالتجارة،
وهذا بين.
قوله
تعالى: « ولا
تقتلوا أنفسكم » فيه
مسألة واحدة - قرأ الحسن «
تُقَتِّلوا » على
التكثير. وأجمع أهل التأويل على أن المراد بهذه الآية النهي أن يقتل بعض الناس
بعضا. ثم لفظها يتناول أن يقتل الرجل نفسه بقصد منه للقتل في الحرص على الدنيا
وطلب المال بأن يحمل نفسه على الغرر المؤدي إلى التلف. ويحتمل أن يقال: « ولا تقتلوا أنفسكم » في حال ضجر أو غضب؛ فهذا كله
يتناول النهي. وقد احتج عمرو بن العاص بهذه الآية حين امتنع من الاغتسال بالماء
البارد حين أجنب في غزوة ذات السلاسل خوفا على نفسه منه؛ فقرر النبي صلى الله عليه
وسلم احتجاجه وضحك عنده ولم يقل شيئا. خرجه أبو داود وغيره، وسيأتي.
الآية:
30 ( ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما
فسوف نصليه نارا وكان ذلك على الله يسيرا )
قوله: « ذلك » إشارة إلى القتل؛ لأنه أقرب
مذكور؛ قاله عطاء. وقيل: هو عائد إلى أكل المال بالباطل وقتل النفس؛ لأن النهي عنهما
جاء متسقا مسرودا، ثم ورد الوعيد حسب النهي. وقيل: هو عام على كل ما نهى عنه من
القضايا، من أول السورة إلى قوله تعالى: « ومن يفعل ذلك » . وقال الطبري: « ذلك » عائد
على ما نهى عنه من آخر وعيد، وذلك قوله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها » [ النساء: 19 ] لأن كل ما نهى عنه من أول
السورة قرن به وعيد، إلا من قوله: « يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم » فإنه لا وعيد بعده إلا قوله: « ومن يفعل ذلك عدوانا » [ النساء 10 ] . والعدوان تجاوز الحد.
والظلم وضع الشيء في غير موضعه، وقد تقدم. وقيد الوعيد بذكر العدوان والظلم ليخرج
منه فعل السهو والغلط، وذكر العدوان والظلم مع تقارب معانيهما لاختلاف ألفاظهما،
وحسن ذلك في الكلام كما قال:
وألفى
قولها كذبا ومينا
وحسن
العطف لاختلاف اللفظين؛ يقال: بعدا وسحقا؛ ومنه قول يعقوب: « إنما أشكو بثي وحزني إلى الله
» [ يوسف: 86 ] . فحسن ذلك لاختلاف اللفظ. و « نصليه » معناه نمسه حرها. وقد بينا
معنى الجمع بين هذه الآي وحديث أبي سعيد الخدري في العصاة وأهل الكبائر لمن أنفذ
عليه الوعيد؛ فلا معنى لإعادة ذلك. وقرأ الأعمش والنخعي « نصليه » بفتح النون، على أنه منقول من
صلي نارا، أي أصليته؛ وفي الخبر « شاة
مصلية » . ومن
ضم النون منقول بالهمزة، مثل طعمت وأطعمت.
الآية:
31 ( إن تجتنبوا كبائر ما تنهون
عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما )
لما نهى
تعالى في هذه السورة عن آثام هي كبائر، وعد على اجتنابها التخفيف من الصغائر، ودل هذا
على أن في الذنوب كبائر وصغائر. وعلى هذا جماعة أهل التأويل وجماعة الفقهاء، وأن
اللمسة والنظرة تكفر باجتناب الكبائر قطعا بوعده الصدق وقوله الحق، لا أنه يجب
عليه ذلك. ونظير الكلام في هذا ما تقدم بيانه في قبول التوبة في قوله تعالى: « إنما التوبة على الله » [ النساء: 17 ] ، فالله تعالى يغفر الصغائر
باجتناب الكبائر، لكن بضميمة أخرى إلى الاجتناب وهي إقامة الفرائض. روى مسلم عن
أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( الصلوات الخمس والجمعة إلى
الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن إذا اجتنب الكبائر. وروى أبو حاتم البستي
إلى صحيح مسنده عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
جلس على المنبر ثم قال: ( والذي نفسي بيده ) ثلاث مرات، ثم سكت فأكب كل رجل منا
يبكي حزينا ليمين رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: ( ما من عبد يؤدي الصلوات الخمس
ويصوم رمضان ويجتنب الكبائر السبع إلا فتحت له ثمانية أبواب من الجنة يوم القيامة
حتى إنها لتصفق ) ثم تلا « إن
تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم » . فقد تعاضد الكتاب وصحيح السنة بتكفير الصغائر قطعا
كالنظر وشبهه. وبينت السنة أن المراد بـ « تجتنبوا » ليس
كل الاجتناب لجميع الكبائر. والله أعلم. وأما الأصوليون فقالوا: لا يجب على القطع
تكفير الصغائر باجتناب الكبائر، وإنما محمل ذلك على غلبة الظن وقوة الرجاء
والمشيئة ثابتة. ودل على ذلك أنه لو قطعنا لمجتنب الكبائر وممتثل الفرائض تكفير
صغائره قطعا لكانت له في حكم المباح الذي يقطع بألا تباعة فيه، وذلك نقض لعرى
الشريعة. ولا صغيرة عندنا. قال القشيري عبدالرحيم: والصحيح أنها كبائر ولكن بعضها
أعظم وقعا من بعض، والحكمة في عدم التمييز أن يجتنب العبد جميع المعاصي.
قلت:
وأيضا فإن من نظر إلى نفس المخالفة كما قال بعضهم: - لا تنظر إلى صغر الذنب ولكن
انظر من عصيت - كانت الذنوب بهذه النسبة كلها كبائر، وعلى هذا النحو يخرج كلام
القاضي أبي بكر بن الطيب والأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني وأبي المعالي وأبي نصر
عبدالرحيم القشيري وغيرهم؛ قالوا: وإنما يقال لبعضها صغيرة بالإضافة إلى ما هو
أكبر منها، كما يقال الزنى صغيرة بإضافته إلى الكفر، والقبلة المحرمة صغيرة
بالنسبة إلى الزنى، ولا ذنب عندنا يغفر باجتناب ذنب آخر، بل كل ذلك كبيرة ومرتكبه
في المشيئة غير الكفر، لقوله تعالى: « إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء » [ النساء: 48 ] واحتجوا بقراءة من قرأ « إن تجتنبوا كبير ما تنهون عنه
» على
التوحيد؛ وكبير الإثم الشرك. قالوا: وعلى الجمع فالمراد أجناس الكفر. والآية التي
قيدت الحكم فترد إليها هذه المطلقات كلها قوله تعالى: « ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء » . واحتجوا بما رواه مسلم وغيره
عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من اقتطع حق امرئ مسلم
بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة ) فقال له رجل: يا رسول الله، وإن
كان شيئا يسيرا ؟ قال: ( وإن كان قضيبا من أراك ) . فقد جاء الوعيد الشديد على
اليسير كما جاء على الكثير. وقال ابن عباس: الكبيرة كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب
أو لعنة أو عذاب. وقال ابن مسعود: الكبائر ما نهى الله عنه في هذه السورة إلى ثلاث
وثلاثين آية؛ وتصديقه قوله تعالى: « إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه » . وقال طاوس: قيل لابن عباس الكبائر
سبع ؟ قال: هي إلى السبعين أقرب. وقال سعيد بن جبير: قال رجل لابن عباس الكبائر
سبع ؟ قال: هي إلى السبعمائة أقرب منها إلى السبع؛ غير أنه لا كبيرة مع استغفار
ولا صغيرة مع إصرار. وروي عن ابن مسعود أنه قال: الكبائر أربعة: اليأس من روج
الله، والقنوط من رحمة الله، والأمن من مكر الله، والشرك بالله؛ دل عليها القرآن.
وروي عن ابن عمر: هي تسع: قتل النفس، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، ورمي المحصنة،
وشهادة الزور، وعقوق الوالدين، والفرار من الزحف، والسحر، والإلحاد في البيت
الحرام. ومن الكبائر عند العلماء: القمار والسرقة وشرب الخمر وسب السلف الصالح
وعدول الحكام عن الحق واتباع الهوى واليمين الفاجرة والقنوط من رحمة الله وسب
الإنسان أبويه - بأن يسب رجلا فيسب ذلك الرجل أبويه - والسعي في الأرض فسادا - ؛
إلى غير ذلك مما يكثر تعداده حسب ما جاء بيانها في القرآن، وفي أحاديث خرجها
الأئمة، وقد ذكر مسلم في كتاب الإيمان منها جملة وافرة. وقد اختلف الناس في
تعدادها وحصرها لاختلاف الآثار فيها؛ والذي أقول: إنه قد جاءت فيها أحاديث كثيرة
صحاح وحسان لم يقصد بها الحصر، ولكن بعضها أكبر من بعض بالنسبة إلى ما يكثر ضرره،
فالشرك أكبر ذلك كله، وهو الذي لا يغفر لنص الله تعالى على ذلك، وبعده اليأس من
رحمة الله؛ لأن فيه تكذيب القرآن؛ إذ يقول وقوله الحق: « ورحمتي وسعت كل شيء » [ الأعراف: 156 ] وهو يقول: لا يغفر له؛ فقد
حجر واسعا. هذا إذا كان معتقدا لذلك؛ ولذلك قال الله تعالى: « إنه لا ييئس من روح الله إلا
القوم الكافرون » [ يوسف: 87 ] . وبعده القنوط؛ قال الله
تعالى: « ومن
يقنط من رحمة ربه إلا الضالون » [ الحجر: 56 ] . وبعده الأمن من مكر الله
فيسترسل في المعاصي ويتكل على رحمة الله من غير عمل؛ قال الله تعالى: « أفأمنوا مكر الله فلا يأمن
مكر الله إلا القوم الخاسرون » [ الأعراف: 99 ] . وقال تعالى: « وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم
أرداكم فأصبحتم من الخاسرين » [ فصلت: 23 ] . وبعده القتل؛ لأن فيه
إذهاب النفوس وإعدام الوجود، واللواط فيه قطع النسل، والزنى فيه اختلاط الأنساب
بالمياه، والخمر فيه ذهاب العقل الذي هو مناط التكليف، وترك الصلاة والأذان فيه
ترك إظهار شعائر الإسلام، وشهادة الزور فيها استباحة الدماء والفروج والأموال، إلى
غير ذلك مما هو بين الضرر؛ فكل ذنب عظم الشرع التوعد عليه بالعقاب وشدده، أو عظم
ضرره في الوجود كما ذكرنا فهو كبيرة وما عداه صغيرة. فهذا يربط لك هذا الباب
ويضبطه، والله أعلم.
قوله
تعالى: «
وندخلكم مدخلا كريما » قرأ
أبو عمرو وأكثر الكوفيين « مدخلا
» بضم
الميم، فيحتمل أن يكون مصدرا، أي إدخالا، والمفعول محذوف أي وندخلكم الجنة إدخالا.
ويحتمل أن يكون بمعنى المكان فيكون مفعولا. وقرأ أهل المدينة بفتح الميم، فيجوز أن
يكون مصدر دخل وهو منصوب بإضمار فعل؛ التقدير وندخلكم فتدخلون مدخلا، ودل الكلام
عليه. ويجوز أن يكون اسم مكان فينتصب على أنه مفعول به، أي وندخلكم مكانا كريما
وهو الجنة. وقال أبو سعيد بن الأعرابي: سمعت أبا داود السجستاني يقول: سمعت أبا
عبدالله أحمد بن حنبل يقول: المسلمون كلهم في الجنة؛ فقلت له: وكيف ؟ قال: يقول
الله عز وجل: « إن
تجتبوا كبائر ما تنهون، عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما » يعني الجنة. وقال النبي صلى
الله عليه وسلم: ( ادخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي ) . فإذا كان الله عز وجل
يغفر ما دون الكبائر والنبي صلى الله عليه وسلم يشفع في الكبائر فأي ذنب يبقى على
المسلمين. وقال علماؤنا: الكبائر عند أهل السنة تغفر لمن أقلع عنها قبل الموت حسب
ما تقدم. وقد يغفر لمن مات عليها من المسلمين كما قال تعالى: « ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء » [ النساء: 48 ] والمراد بذلك من مات على
الذنوب؛ فلو كان المراد من تاب قبل الموت لم يكن للتفرقة بين الإشراك وغيره معنى؛
إذ التائب من الشرك أيضا مغفور له. وروي عن ابن مسعود أنه قال: خمس آيات من سورة
النساء هي أحب إلي من الدنيا جميعا، قوله تعالى: « إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه » وقوله « إن الله لا يغفر أن يشرك به
ويغفر » [ النساء: 48 ] الآية، وقوله تعالى: « ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه » [ النساء:110 ] الآية، وقوله تعالى: « وإن تك حسنة يضاعفها » [ النساء: 40 ] ، وقوله تعالى: « والذين آمنوا بالله ورسله » [ النساء: 152 ] . وقال ابن عباس: ثمان آيات
في سورة النساء، هن خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت: « يريد الله ليبين لكم » [ النساء: 26 ] ، « والله يريد أن يتوب عليكم » [ النساء: 27 ] ، « يريد الله أن يخفف عنكم » [ النساء: 28 ] ، « إن تجتنبوا كبائر ما تنهون
عنه نكفر عنكم سيئاتكم » [ النساء: 31 ] ، الآية، « إن الله لا يغفر أن يشرك به » ، « إن الله لا يظلم مثقال ذرة » [ النساء: 40 ] ، « ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه » ، « ما يفعل الله بعذابكم » [ النساء: 147 ] الآية.
الآية:
32 ( ولا تتمنوا
ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن
واسألوا الله من فضله إن الله كان بكل شيء عليما )
روى
الترمذي عن أم سلمة أنها قالت: يغزو الرجال ولا يغزو النساء وإنما لنا نصف
الميراث؛ فأنزل الله تعالى: « ولا
تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض » . قال مجاهد: وأنزل فيها « إن المسلمين والمسلمات » [
الأحزاب: 35 ] ،
وكانت أم سلمة أول ظعينة قدمت المدينة مهاجرة. قال أبو عيسى: هذا حديث مرسل، ورواه
بضعهم عن ابن أبي نجيح عن مجاهد، مرسل أن أم سلمة قالت كذا. وقال قتادة: كان
الجاهلية لا يورثون النساء ولا الصبيان؛ فلما ورثوا وجعل للذكر مثل حظ الأنثيين
تمنى النساء أن لو جعل أنصباؤهن كأنصباء الرجال. وقال الرجال: إنا لنرجو
أن
نفضل على النساء بحسناتنا في الآخرة كما فضلنا عليهن في الميراث؛ فنزلت، « ولا تتمنوا ما فضل الله به
بعضكم على بعض » .
قوله
تعالى: « ولا
تتمنوا »
التمني نوع من الإرادة يتعلق بالمستقبل، كالتلهف نوع منها يتعلق بالماضي؛ فنهى
الله سبحانه المؤمنين عن التمني؛ لأن فيه تعلق البال ونسيان الأجل. وقد اختلف
العلماء هل يدخل في هذا النهي الغبطة، وهي أن يتمنى الرجل أن يكون له حال صاحبه
وإن لم يتمن زوال حاله. والجمهور على إجازة ذلك: مالك وغيره؛ وهي المراد عند بعضهم
في قوله عليه السلام ( لا حسد إلا في اثنتين رجل أتاه الله القرآن فهو يقوم به
آناء الليل وآناء النهار ورجل أتاه الله مالا فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار )
. فمعنى قوله: « لا حسد
» أي لا
غبطة أعظم وأفضل من الغبطة في هذين الأمرين. وقد نبه البخاري على هذا المعنى حيث
بوب على هذا الحديث ( باب الاغتباط في العلم والحكمة ) قال المهلب: بين الله تعالى
في هذه الآية ما لا يجوز تمنيه، وذلك ما كان من عرض الدنيا وأشباهها. قال ابن
عطية: وأما التمني في الأعمال الصالحة فذلك هو الحسن، وأما إذا تمنى المرء على
الله من غير أن يقرن أمنيته بشيء مما قدمنا ذكره فذلك جائز؛ وذلك موجود في حديث
النبي صلى الله عليه وسلم في قول: ( وددت أن أحيا ثم أقتل ) .
قلت:
هذا الحديث هو الذي صدر به البخاري كتاب التمني في صحيحه، وهو يدل على تمني الخير
وأفعال البر والرغبة فيها، وفيه فضل الشهادة على سائر أعمال البر؛ لأنه عليه
السلام تمناها دون غيرها، وذلك لرفيع منزلتها وكرامة أهلها، فرزقه الله إياها؛
لقوله: ( ما زالت أكلة خيبر تعادني الآن أوان قطعت أبهري ) . وفي الصحيح: ( إن
الشهيد يقال له تمن فيقول أتمنى أن أرجع إلى الدنيا حتى أقتل في سبيلك مرة أخرى )
. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمنى إيمان أبي طالب وإيمان أبي لهب وصناديد
قريش مع علمه بأنه لا يكون؛ وكان يقول: ( واشوقاه إلى إخواني الذين يجيئون من بعدي
يؤمنون بي ولم يروني ) . وهذا كله يدل على أن التمني لا ينهى عنه إذا لم يكن داعية
إلى الحسد والتباغض، والتمني المنهي عنه في الآية من هذا القبيل؛ فيدخل فيه أن
يتمنى الرجل حال الآخر من دين أو دنيا على أن يذهب ما عند الآخر، وسواء تمنيت مع
ذلك أن يعود إليك أو لا. وهذا هو الحسد بعينه، وهو الذي ذمه الله تعالى بقوله: « أم يحسدون الناس على ما آتاهم
الله من فضله » [ النساء: ] ويدخل فيه أيضا خطبة الرجل
على خطبة أخيه وبيعه على بيعه؛ لأنه داعية الحمد والمقت. وقد كره بعض العلماء
الغبطة وأنها داخلة في النهي، والصحيح جوازها على ما بينا، وبالله توفيقنا. وقال
الضحاك: لا يحل لأحد أن يتمنى مال أحد، ألم تسمع الذين قالوا: « يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون
» [ القصص: ] إلى أن قال: « وأصبح الذين تمنوا مكانه
بالأمس » [ القصص: ] حين خسف به وبداره وبأمواله
« لولا
أن من الله علينا لخسف بنا » [ القصص: ] وقال الكلبي: لا يتمن الرجل
مال أخيه ولا امرأته ولا خادمه ولا دابته؛ ولكن ليقل: اللهم ارزقني مثله. وهو كذلك
في التوراة، وكذلك قوله في القرآن « واسألوا الله من فضله » . وقال ابن عباس: نهى الله سبحانه أن يتمنى الرجل مال فلان
وأهله، وأمر عباده المؤمنين أن يسألوه من فضله. ومن الحجة للجمهور قوله صلى الله
عليه وسلم: ( إنما الدنيا لأربعة نفر: رجل أتاه الله مالا وعلما فهو يتقي فيه ربه
ويصل به رحمه ويعلم لله فيه حقا فهذا بأفضل المنازل، ورجل أتاه الله علما ولم يؤته
مالا فهو صادق النية يقول لو أن لي مالا لعملت فيه بعمل فلان فهو بنيته فأجرهما
سواء ) الحديث... وقد تقدم. خرجه الترمذي وصححه. وقال الحسن: لا يتمن أحدكم المال
وما يدريه لعل هلاكه فيه؛ وهذا إنما يصح إذا تمناه للدنيا، وأما إذا تمناه للخير
فقد جوزه الشرع، فيتمناه العبد ليصل به إلى الرب، ويفعل الله ما يشاء.
قوله تعالى:
« للرجال
نصيب مما اكتسبوا » يريد
من الثواب والعقاب «
وللنساء » كذلك؛
قال قتادة. فللمرأة الجزاء على الحسنة بعشر أمثالها كما للرجال. وقال ابن عباس:
المراد بذلك الميراث. والاكتساب على هذا القول بمعنى الإصابة، للذكر مثل حظ
الأنثيين؛ فنهى الله عز وجل عن التمني على هذا الوجه لما فيه من دواعي الحسد؛ ولأن
الله تعالى أعلم بمصالحهم منهم؛ فوضع القسمة بينهم على التفاوت على ما علم من
مصالحهم.
قوله
تعالى: «
واسألوا الله من فضله » روى
الترمذي عن عبدالله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( سلوا الله من فضله فإنه
يحب أن يسأل وأفضل العبادة انتظار الفرج ) وخرج أيضا ابن ماجة عن أبي هريرة قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من لم يسأل الله يغضب عليه ) . وهذا يدل على
أن الأمر بالسؤال لله تعالى واجب؛ وقد أخذ بعض العلماء هذا المعنى فنظمه فقال:
الله
يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب
وقال
أحمد بن المعذل أبو الفضل الفقيه المالكي فأحسن:
التمس
الأرزاق عند الذي ما دونه إن سيل من حاجب
من
يبغض التارك تسأله جودا ومن يرضى عن الطالب
ومن
إذا قال جرى قوله بغير توقيع إلى كاتب
وقد
أشبعنا القول في هذا المعنى في كتاب « قمع الحرص بالزهد والقناعة » . وقال سعيد بن جبير: « واسألوا الله من فضله » العبادة، ليس من أمر الدنيا.
وقيل: سلوه التوفيق للعمل بما يرضيه. وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: سلوا
ربكم حتى الشبع؛ فإنه إن لم ييسره الله عز وجل لم يتيسر. وقال سفيان بن عيينة: لم
يأمر بالسؤال إلا ليعطي.
وقرأ
الكسائي وابن كثير: « وسلوا
الله من فضله » بغير
همز في جميع القرآن. الباقون بالهمز. « واسألوا الله » . وأصله بالهمز إلا أنه حذفت الهمزة للتخفيف. والله أعلم.
الآية:
33 ( ولكل
جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم إن
الله كان على كل شيء شهيدا )
بين
تعالى أن لكل إنسان ورثة وموالي؛ فلينتفع كل واحد بما قسم الله له من الميراث، ولا
يتمن مال غير. وروى البخاري في كتاب الفرائض من رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس: « ولكل جعلنا موالي مما ترك
الوالدان والأقربون والذين عاقدت أيمانكم » قال: كان المهاجرون حين قدموا المدينة يرث الأنصاري
المهاجري دون ذوي رحمه؛ للأخوة التي آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم، فلما
نزلت « ولكل
جعلنا موالي » قال:
نسختها « والذين
عاقدت أيمانكم » . قال
أبو الحسن بن بطال: وقع في جميع النسخ « ولكل جعلنا موالي » قال: نسختها « والذين عاقدت أيمانكم » . والصواب أن الآية الناسخة « ولكل جعلنا موالي » والمنسوخة « والذين عاقدت أيمانكم » ، وكذا رواه الطبري في
روايته. وروي، عن جمهور السلف أن الآية الناسخة لقوله: « والذين عاقدت أيمانكم » قوله تعالى في « الأنفال » : « وأولوا الأرحام بعضهم أولى
ببعض » [ الأنفال: 75 ] . روي هذا عن ابن عباس
وقتادة والحسن البصري؛ وهو الذي أثبته أبو عبيد في كتاب « الناسخ والمنسوخ » له. وفيها قول آخر رواه الزهري
عن سعيد بن المسيب قال: أمر الله عز وجل الذين تبنوا غير أبنائهم في الجاهلية
وورثوا في الإسلام أن يجعلوا لهم نصيبا في الوصية ورد الميراث إلى ذوي الرحم
والعصبة. وقالت طائفة: قوله تعالى: « والذين عاقدت أيمانكم » محكم وليس بمنسوخ؛ وإنما أمر الله المؤمنين أن يعطوا
الحلفاء أنصباءهم من النصرة والنصيحة وما أشبه ذلك؛ ذكره الطبري عن ابن عباس. « والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم
نصيبهم » من
النصرة والنصيحة والرفادة ويوصي لهم وقد ذهب الميراث؛ وهو قول مجاهد والسدي.
قلت:
واختاره النحاس؛ ورواه عن سعيد بن جبير، ولا يصح النسخ؛ فإن الجمع ممكن كما بينه
ابن عباس فيما ذكره الطبري، ورواه البخاري عنه في كتاب التفسير. وسيأتي ميراث « ذوي الأرحام » في « الأنفال » إن شاء الله تعالى.
قوله: « كل » في كلام العرب معناها
الإحاطة والعموم. فإذا جاءت مفردة فلا بد أن يكون في الكلام حذف عند جميع
النحويين؛ حتى أن بعضهم أجاز مررت بكل، مثل قبل وبعد. وتقدير الحذف: ولكل أحد
جعلنا موالي، يعني ورثة. « والذين
عاقدت أيمانكم » يعني
بالحلف؛ عن قتادة. وذلك أن الرجل كان يعاقد الرجل فيقول: دمي دمك، وهدمي هدمك،
وثأري ثأرك، وحربي حربك، وسلمي سلمك، وترثني وأرثك، وتطلب بي وأطلب بك، وتعقل عني
وأعقل عنك؛ فيكون للحليف السدس من ميراث الحليف ثم نسخ.
قوله
تعالى: « موالي
» أعلم
أن المولى لفظ مشترك يطلق على وجوه؛ فيسمى المعتق مولى والمعتق مولى. ويقال:
المولى الأسفل والأعلى أيضا. ويسمى الناصر المولى؛ ومنه قوله تعالى: « وأن الكافرين لا مولى لهم » [ محمد: 11 ] . ويسمى ابن العم مولى
والجار مولى. فأما قوله تعالى: « ولكل
جعلنا موالي » يريد
عصبة؛ لقوله عليه السلام: ( ما أبقت السهام فلأولى عصبة ذكر ) . ومن العصبات
المولى الأعلى لا الأسفل، على قول أكثر العلماء؛ لأن المفهوم في حق المعتق أنه
المنعم على المعتق، كالموجد له؛ فاستحق ميراثه لهذا المعنى. وحكى الطحاوي عن الحسن
بن زياد أن المولى الأسفل يرث من الأعلى؛ واحتج فيه بما روي أن رجلا أعتق عبدا له
لهذا الحديث ولم يترك إلا المعتق فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ميراثه للغلام
المعتق. قال الطحاوي: ولا معارض لهذا الحديث، فوجب القول به؛ ولأنه إذا أمكن إثبات
الميراث للمعتق على تقدير أنه كان كالموجد له، فهو شبيه بالأب؛ والمولى الأسفل
شبيه بالابن؛ وذلك يقتضي التسوية بينهما في الميراث، والأصل أن الاتصال يعم. وفي
الخبر ( مولى القوم منهم ) . والذين خالفوا هذا وهم الجمهور قالوا: الميراث.
يستدعي القرابة ولا قرابة، غير أنا أثبتنا للمعتق الميراث بحكم الإنعام على
المعتق؛ فيقتضي مقابلة الإنعام بالمجازاة، وذلك لا ينعكس في المولى الأسفل. وأما
الابن فهو أولى الناس بأن يكون خليفة أبيه وقائما مقامه، وليس المعتق صالحا لأن
يقوم مقام معتقه، وإنما المعتق قد أنعم عليه فقابله الشرع بأن جعله أحق بمولاه
المعتق، ولا يوجد هذا في المولى الأسفل؛ فظهر الفرق بينهما والله أعلم.
قوله
تعالى: « والذين
عقدت أيمانكم » روى
علي بن كبشة عن حمزة « عقَّدت
»
بتشديد القاف على التكثير. والمشهور عن حمزة « عقدت أيمانكم » مخففة القاف، وهي قراءة عاصم والكسائي، وهي قراءة بعيدة؛
لأن المعاقدة لا تكون إلا من اثنين فصاعدا، فبابها فاعل. قال أبو جعفر النحاس:
وقراءة حمزة تجوز على غموض في العربية، يكون التقدير فيها والذين عقدتهم أيمانكم
الحلف، وتعدى إلى مفعولين؛ وتقديره: عقدت لهم أيمانكم الحلف، ثم حذفت اللام مثل
قوله تعالى: « وإذا
كالوهم » [ المطففين: 3 ] أي كالوا لهم. وحذف المفعول
الثاني، كما يقال: كلتك أي كلت لك برا. وحذف المفعول الأول لأنه متصل في الصلة.
قوله
تعالى: « فآتوهم
نصيبهم إن الله كان على كل شيء شهيدا » أي قد شهد معاقدتكم إياهم، وهو عز وجل يحب الوفاء.
الآية:
34 ( الرجال قوامون على النساء
بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم فالصالحات قانتات حافظات للغيب
بما حفظ الله واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن
أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا )
قوله
تعالى: « الرجال
قوامون على النساء » ابتداء
وخبر، أي يقومون بالنفقة عليهن والذب عنهن؛ وأيضا فإن فيهم الحكام والأمراء ومن
يغزو، وليس ذلك في النساء. يقال: قوام وقيم. والآية نزلت في سعد بن الربيع نشزت
عليه امرأته حبيبة بنت زيد بن خارجة بن أبي زهير فلطمها؛ فقال أبوها: يا رسول
الله، أفرشته كريمتي فلطمها ! فقال عليه السلام: ( لتقتص من زوجها ) . فانصرفت مع أبيها لتقتص منه، فقال عليه السلام: ( ارجعوا هذا جبريل أتاني ) فأنزل الله هذه الآية؛ فقال عليه
السلام: ( أردنا
أمرا وأراد الله غيره ) . وفي
رواية أخرى: ( أردت
شيئا وما أراد الله خير ) . ونقض
الحكم الأول. وقد قيل: إن في هذا الحكم المردود نزل « ولا تعجل بالقرآن من قبل أن
يقضى إليك وحيه » [ طه: 114 ] . ذكر إسماعيل بن إسحاق قال: حدثنا
حجاج بن المنهال وعارم بن الفضل - واللفظ. لحجاج - قال حدثنا جرير بن حازم قال:
سمعت الحسن يقول: إن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن زوجي لطم وجهي.
فقال: (
بينكما القصاص ) ،
فأنزل الله تعالى: « ولا
تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه » . وأمسك النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزل: « الرجال قوامون على النساء » . وقال أبو روق: نزلت في جميلة
بنت أبي وفي زوجها ثابت بن قيس بن شماس. وقال الكلبي: نزلت في عميرة بنت محمد بن
مسلمة وفي زوجها سعد بن الربيع. وقيل: سببها قول أم سلمة المتقدم. ووجه النظم أنهن
تكلمن في تفضيل الرجال على النساء في الإرث، فنزلت « ولا تتمنوا » الآية. ثم بين تعالى أن
تفضيلهم عليهن في الإرث لما على الرجال من المهر والإنفاق؛ ثم فائدة تفضيلهم عائدة
إليهن. ويقال: إن الرجال لهم فضيلة في زيادة العقل والتدبير؛ فجعل لهم حق القيام
عليهن لذلك. وقيل: للرجال زيادة قوة في النفس والطبع ما ليس للنساء؛ لأن طبع
الرجال غلب عليه الحرارة واليبوسة، فيكون فيه قوة وشدة، وطبع النساء غلب عليه
الرطوبة والبرودة، فيكون فيه معنى اللين والضعف؛ فجعل لهم حق القيام عليهن بذلك،
وبقوله تعالى: « وبما
أنفقوا من أموالهم » .
ودلت هذه
الآية على تأديب الرجال نساءهم، فإذا حفظن حقوق الرجال فلا ينبغي أن يسيء الرجل
عشرتها. و « قوام » فعال للمبالغة؛ من القيام على
الشيء والاستبداد بالنظر فيه وحفظه بالاجتهاد. فقيام الرجال على النساء هو على هذا
الحد؛ وهو أن يقوم بتدبيرها وتأديبها وإمساكها في بيتها ومنعها من البروز، وأن
عليها طاعته وقبول أمره ما لم تكن معصية؛ وتعليل ذلك بالفضيلة والنفقة والعقل
والقوة في أمر الجهاد والميراث والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقد راعى بعضهم
في التفضيل اللحية - وليس بشيء؛ فإن اللحية قد تكون وليس معها شيء مما ذكرنا. وقد
مضى الرد على هذا في « البقرة
» .
فهم
العلماء من قوله تعالى: « وبما
أنفقوا من أموالهم » أنه متى
عجز عن نفقتها لم يكن قواما عليها، وإذا لم يكن قواما عليها كان لها فسخ العقد؛
لزوال المقصود الذي شرع لأجله النكاح. وفيه دلالة واضحة من هذا الوجه على ثبوت فسخ
النكاح عند الإعسار بالنفقة والكسوة؛ وهو مذهب مالك والشافعي. وقال أبو حنيفة: لا
يفسخ؛ لقوله تعالى: « وإن
كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة » [ البقرة: 280 ] وقد تقدم القول في هذا في هذه
السورة.
قوله
تعالى: «
فالصالحات قانتات حافظات للغيب » هذا كله
خبر، ومقصوده الأمر بطاعة الزوج والقيام بحقه في ماله وفي نفسها في حال غيبة
الزوج. وفي مسند أبي داود الطيالسي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: ( خير
النساء التي إذا نظرت إليها سرتك وإذا أمرتها أطاعتك وإذا غبت عنها حفظتك في نفسها
ومالك ) قال:
وتلا هذه الآية « الرجال
قوامون على النساء » إلى آخر
الآية. وقال صلى الله عليه وسلم لعمر: ( ألا أخبرك بخير ما يكنزه المرء المرأة الصالحة إذا نظر
إليها سرته وإذا أمرها أطاعته وإذا غاب عنها حفظته « أخرجه أبو داود. وفي مصحف ابن
مسعود »
فالصوالح قوانت حوافظ « . وهذا
بناء يختص بالمؤنث. قال ابن جني: والتكسير أشبه لفظا بالمعنى؛ إذ هو يعطي الكثرة
وهي المقصود ههنا. و » ما « في قوله: » بما حفظ الله « مصدرية، أي بحفظ الله لهن.
ويصح أن تكون بمعنى الزي، ويكون العائد في » حفظ « ضمير
نصب. وفي قراءة أبي جعفر » بما
حفظ الله «
بالنصب. قال النحاس: الرفع أبين؛ أي حافظات لمغيب أزواجهن بحفظ الله ومعونته
وتسديده. وقيل: بما حفظهن الله في مهورهن وعشرتهن. وقيل: بما استحفظهن الله إياه
من أداء الأمانات إلى أزواجهن. ومعنى قراءة النصب: بحفظهن الله؛ أي بحفظهن أمره أو
دينه. وقيل في التقدير: بما حفظن الله، ثم وحد الفعل؛ كما قيل:»
فإن
الحوادث أودى بها
وقيل:
المعنى بحفظ الله؛ مثل حفظت الله.
قوله
تعالى: «
واللاتي تخافون نشوزهن »
اللاتي جمع التي وقد تقدم. قال ابن عباس: تخافون بمعنى تعلمون وتتيقنون. وقيل هو على
بابه. والنشوز العصيان؛ مأخوذ من النشز، وهو ما ارتفع من الأرض. يقال: نشز الرجل
ينشز وينشز إذا كان قاعدا فنهض قائما؛ ومنه قوله عز وجل: « وإذا قيل انشزوا فانشزوا » [ المجادلة: 11 ] أي ارتفعوا وانهضوا إلى حرب
أو أمر من أمور الله تعالى. فالمعنى: أي تخافون عصيانهن وتعاليهن عما أوجب الله
عليهن من طاعة الأزواج. وقال أبو منصور اللغوي: النشوز كراهية كل واحد من الزوجين
صاحبه؛ يقال: نشزت تنشز فهي ناشز بغير هاء. ونشصت تنشص، وهي السيئة للعشرة. وقال
ابن فارس: ونشزت المرأة استصعبت على بعلها، ونشز بعلها عليها إذا ضربها وجفاها.
قال ابن دريد: نشزت المرأة ونشست ونشصت بمعنى واحد.
قوله
تعالى: « فعظوهن
» أي
بكتاب الله؛ أي ذكروهن ما أوجب الله عليهن من حسن الصحبة وجميل العشرة للزوج،
والاعتراف بالدرجة التي له عليها، ويقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لو
أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها ) . وقال: ( لا تمنعه نفسها
وإن كانت على ظهر قتب ) . وقال: ( أيما امرأة باتت هاجرة فراش زوجها لعنتها
الملائكة حتى تصبح ) في رواية ( حتى تراجع وتضع يدها في يده ) . وما كان مثل هذا.
قوله
تعالى: «
واهجروهن في المضاجع » وقرأ ابن
مسعود والنخعي وغيرهما « في
المضجع » على
الإفراد؛ كأنه اسم جنس يؤدي عن الجمع. والهجر في المضاجع هو أن يضاجعها ويوليها
ظهره ولا يجامعها؛ عن ابن عباس وغيره. وقال مجاهد: جنبوا مضاجعهن؛ فيتقدر على هذا
الكلام حذف، ويعضده «
اهجروهن » من
الهجران، وهو البعد؛ يقال: هجره أي تباعد ونأى عنه. ولا يمكن بعدها إلا بترك
مضاجعتها. وقال معناه إبراهيم النخعي والشعبي وقتادة والحسن البصري، ورواه ابن وهب
وابن القاسم عن مالك، واختاره ابن العربي وقال: حملوا الأمر على الأكثر الموفي.
ويكون هذا القول كما تقول: اهجره في الله. وهذا أصل مالك.
قلت:
هذا قول حسن؛ فإن الزوج إذا أعرض عن فراشها فإن كانت محبة للزوج فذلك يشق عليها
فترجع للصلاح، وإن كانت مبغضة فيظهر النشوز منها؛ فيتبين أن النشوز من قبلها.
وقيل: «
اهجروهن » من
الهجر وهو القبيح من الكلام، أي غلظوا عليهن في القول وضاجعوهن للجماع وغيره؛ قال
معناه سفيان، وروي عن ابن عباس. وقيل: أي شدوهن وثاقا في بيوتهن؛ من قولهم: هجر
البعير أي ربطه بالهجار، وهو حبل يشد به البعير، وهو اختيار الطبري وقدح في سائر
الأقوال. وفي كلامه في هذا الموضع نظر. وقد رد عليه القاضي أبو بكر بن العربي في
أحكامه فقال: يا لها من هفوة من عالم بالقرآن والسنة ! والذي حمله على هذا التأويل
حديث غريب رواه ابن وهب عن مالك أن أسماء بنت أبي بكر الصديق امرأة الزبير بن
العوام كانت تخرج حتى عوتب في ذلك. قال: وعتب عليها وعلى ضرتها، فعقد شعر واحدة
بالأخرى ثم ضربهما ضربا شديدا، وكانت الضرة أحسن اتقاء، وكانت أسماء لا تتقي فكان
الضرب بها أكثر؛ فشكت إلى أبيها أبي بكر رضي الله عنه فقال لها: أي بنية اصبري فإن
الزبير رجل صالح، ولعله أن يكون زوجك في الجنة؛ ولقد بلغني أن الرجل إذا ابتكر
بامرأة تزوجها في الجنة. فرأى الربط والعقد مع احتمال اللفظ مع فعل الزبير فأقدم
على هذا التفسير. وهذا الهجر غايته عند العلماء شهر؛ كما فعل النبي صلى الله عليه
وسلم حين أسر إلى حفصة فأفشته إلى عائشة، وتظاهرتا عليه. ولا يبلغ به الأربعة
الأشهر التي ضرب الله أجلا عذرا للمولي.
قوله
تعالى: «
واضربوهن » أمر
الله أن يبدأ النساء بالموعظة أولا ثم بالهجران، فإن لم ينجعا فالضرب؛ فإنه هو
الذي يصلحها له ويحملها على توفية حقه. والضرب في هذه الآية هو ضرب الأدب غير
المبرح، وهو الذي لا يكسر عظما ولا يشين جارحة كاللكزة ونحوها؛ فإن المقصود منه
الصلاح لا غير. فلا جرم إذا أدى إلى الهلاك وجب الضمان، وكذلك القول في ضرب المؤدب
غلامه لتعليم القرآن والأدب. وفي صحيح مسلم: ( اتقوا الله في النساء فإنكم
أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم
أحدا تكرهونه فإن فعلن فاضربوهن ضربا غير مبرح ) الحديث. أخرجه من حديث جابر
الطويل في الحج، أي لا يدخلن منازلكم أحدا ممن تكرهونه من الأقارب والنساء
الأجانب. وعلى هذا يحمل ما رواه الترمذي وصححه عن عمرو بن الأحوص أنه شهد حجة
الوداع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحمد الله وأثنى عليه وذكر ووعظ فقال: (
ألا واستوصوا بالنساء خيرا فإنهن عوان عندكم ليس تملكون منهن شيئا غير ذلك إلا أن
يأتين بفاحشة مبينة فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضربا غير مبرح فإن
أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا ألا إن لكم على نسائكم حقا ولنسائكم عليكم حقا فأما
حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تكرهون ولا يأذن في بيوتكم من تكرهون ألا
وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن ) . وقال: هذا حديث حسن صحيح.
فقوله: « بفاحشة
مبينة » [ النساء: 19 ] يريد لا يدخلن من يكرهه
أزواجهن ولا يغضبنهم. وليس المراد بذلك الزنى؛ فإن ذلك محرم ويلزم عليه الحد. وقد
قال عليه الصلاة والسلام: ( أضربوا النساء إذا عصينكم في معروف ضربا غير مبرح ) .
قال عطاء: قلت لابن عباس ما الضرب غير المبرح ؟ قال بالسواك ونحوه. وروي أن عمر
رضي الله عنه ضرب امرأته فعذل في ذلك فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول: ( لا يسأل الرجل فيم ضرب أهله ) .
قوله
تعالى: « فإن
أطعنكم » أي
تركوا النشوز. « فلا
تبغوا عليهن سبيلا » أي لا
تجنوا عليهن بقول أو فعل. وهذا نهي عن ظلمهن بعد تقرير الفضل عليهن والتمكين من
أدبهن. وقيل: المعنى لا تكلفوهن الحب لكم فإنه ليس إليهن.
قوله
تعالى: « إن
الله كان عليا كبيرا » إشارة
إلى الأزواج بخفض الجناح ولين الجانب؛ أي إن كنتم تقدرون عليهن فتذكروا قدرة الله؛
فيده بالقدرة فوق كل يد. فلا يستعلي أحد على امرأته فالله بالمرصاد فلذلك حسن
الاتصاف، هنا بالعلو والكبر.
وإذا
ثبت هذا فاعلم. أن الله عز وجل لم يأمر في شيء من كتابه بالضرب صراحا إلا هنا وفي
الحدود العظام؛ فساوى معصيتهن بأزواجهن بمعصية الكبائر، وولى الأزواج ذلك دون
الأئمة، وجعله لهم دون القضاة بغير شهود ولا بينات ائتمانا من الله تعالى للأزواج
على النساء. قال المهلب: إنما جوز ضرب النساء من أجل امتناعهن على أزواجهن في
المباضعة. واختلف في وجوب ضربها في الخدمة، والقياس يوجب أنه إذا جاز ضربها في
المباضعة جاز ضربها في الخدمة الواجبة للزوج عليها بالمعروف. وقال ابن خويز منداد.
والنشوز يسقط النفقة وجميع الحقوق الزوجية، ويجوز معه أن يضربها الزوج ضرب الأدب
غير المبرح، والوعظ والهجر حتى ترجع عن نشوزها، فإذا رجعت عادت حقوقها؛ وكذلك كل
ما اقتضى الأدب فجائز للزوج تأديبها. ويختلف الحال في أدب الرفيعة والدنيئة؛ فأدب
الرفيعة العذل، وأدب الدنيئة السوط. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( رحم الله
امرأ علق سوطه وأدب أهله ) . وقال: ( إن أبا جهم لا يضع عصاه عن عاتقه ) . وقال
بشار:
الحر
يلحى والعصا للعبد
يلحى
أي يلام؛ وقال ابن دريد:
واللوم
للحر مقيم رادع والعبد لا يردعه إلا العصا
قال
ابن المنذر: اتفق أهل العلم على وجوب نفقات الزوجات على أزواجهن إذا كانوا جميعا
بالغين إلا الناشز منهن الممتنعة. وقال أبو عمر: من نشزت عنه امرأته بعد دخوله
سقطت عنه نفقتها إلا أن تكون حاملا. وخالف ابن القاسم جماعة الفقهاء في نفقة
الناشز فأوجبها. وإذا عادت الناشز إلى زوجها وجب في المستقبل نفقتها. ولا تسقط
نفقة المرأة عن زوجها لشيء غير النشوز؛ لا من مرض ولا حيض ولا نفاس ولا صوم ولا حج
ولا مغيب زوجها ولا حبسه عنها في حق أو جور غير ما ذكرنا. والله أعلم.
الآية:
35 ( وإن
خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله
بينهما إن الله كان عليما خبيرا )
قوله
تعالى: « وإن
خفتم شقاق بينهما » قد
تقدم معنى الشقاق في « البقرة
» .
فكأن كل واحد من الزوجين يأخذ شقا غير شق صاحبه، أي ناحية غير ناحية صاحبه.
والمراد إن خفتم شقاقا بينهما؛ فأضيف المصدر إلى الظرف كقولك: يعجبني سير الليلة
المقمرة، وصوم يوم عرفة. وفي التنزيل: « بل مكر الليل والنهار » [
سبأ: 33 ] . وقيل:
إن « بين » أجري مجرى الأسماء وأزيل عنه
الظرفية؛ إذ هو بمعنى حالهما وعشرتهما، أي وإن خفتم تباعد عشرتهما وصحبهما « فابعثوا » . و « ختم » على الخلاف المتقدم. قال
سعيد بن جبير: الحكم أن يعظها أولا، فإن قبلت وإلا هجرها، فإن هي قبلت وإلا ضربها،
فإن هي قبلت وإلا بعث الحاكم حكما من أهله وحكما من أهلها، فينظران ممن الضرر،
وعند ذلك يكون الخلع. وقد قيل: له أن يضرب قبل الوعظ. والأول أصح لترتيب ذلك في
الآية.
والجمهور
من العلماء على أن المخاطب بقوله: « وإن خفتم »
الحكام والأمراء. وأن قول: « إن
يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما » يعني
الحكمين؛ في قول ابن عباس ومجاهد وغيرهما. أي إن يرد الحكمان إصلاحا يوفق الله بين
الزوجين. وقيل: المراد الزوجان؛ أي إن يرد الزوجان إصلاحا وصدقا فيما أخبرا به
الحكمين « يوفق
الله بينهما » .
وقيل: الخطاب للأولياء. يقول: « إن
خفتم » أي
علمتم خلافا بين الزوجين «
فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها » والحكمان لا يكونان إلا من أهل الرجل والمرأة؛ إذ هما أقعد
بأحوال الزوجين، ويكونان من أهل العدالة وحسن النظر والبصر بالفقه. فإن لم يوجد من
أهلهما من يصلح لذلك فيرسل من غيرهما عدلين عالمين؛ وذلك إذا أشكل أمرهما ولم يدر
ممن الإساءة منهما. فأما إن عرف الظالم فإنه يؤخذ له الحق من صاحبه ويجبر على
إزالة الضرر. ويقال: أن الحكم من أهل الزوج يخلو به ويقول له: أخبرني بما في نفسك
أتهواها أم لا حتى أعلم مرادك ؟ فإن قال: لا حاجة لي فيها خذ لي منها ما استطعت
وفرق بيني وبينها، فيعرف أن من قبله النشوز. وإن قال: إني أهواها فأرضها من مالي
بما شئت ولا تفرق بيني وبينها، فيعلم أنه ليس بناشز. ويخلو الحكم من جهتها بالمرأة
ويقول لها: أتهوين زوجك أم لا؛ فإن قالت: فرق بيني وبينه وأعطه من مالي ما أراد؛
فيعلم أن النشوز من قبلها. وإن قالت: لا تفرق بيننا ولكن حثه على أن يزيد في نفقتي
ويحسن إلي، علم أن النشوز ليس من قبلها. فإذا ظهر لهما الذي كان النشوز من قبله
يقبلان عليه بالعظة والزجر والنهى؛ فذلك قوله تعالى: « فابعثوا حكما من أهله وحكما
من أهلها » .
قال
العلماء: قسمت هذه الآية النساء تقسيما عقليا؛ لأنهن إما طائعة وإما ناشز؛ والنشوز
إما أن يرجع إلى الطواعية أو لا. فإن كان الأول تركا؛ لما رواه النسائي أن عقيل بن
أبي طالب تزوج فاطمة بنت عتبة بن ربيعة فكان إذا دخل عليها تقول: يا بني هاشم،
والله لا يحبكم قلبي أبدا ! أين الذين أعناقهم كأباريق الفضة ! ترد أنوفهم قبل
شفاههم، أين عتبة بن ربيعة، أين شيبة بن ربيعة؛ فيسكت عنها، حتى دخل عليها يوما
وهو برم فقالت له: أين عتبة بن ربيعة ؟ فقال: على يسارك في النار إذا دخلت؛ فنشرت
عليها ثيابها، فجاءت عثمان فذكرت له ذلك؛ فأرسل ابن عباس ومعاوية، فقال ابن عباس:
لأفرقن بينهما؛ وقال معاوية: ما كنت لأفرق بين شيخين من بني عبد مناف. فأتياهما
فوجداهما قد سدا عليهما أبوابهما وأصلحا أمرهما. فإن وجداهما قد اختلفا ولم يصطلحا
وتفاقم أمرهما سعيا في الألفة جهدهما، وذكرا بالله وبالصحبة. فإن أنابا ورجعا
تركاهما، وإن كانا غير ذلك ورأيا الفرقة فرقا بينهما. وتفريقهما جائز على الزوجين؛
وسواء وافق حكم قاضي البلد أو خالفه، وكلهما الزوجان بذلك أو لم يوكلاهما. والفراق
في ذلك طلاق بائن. وقال قوم: ليس لهما الطلاق ما لم يوكلهما الزوج في ذلك، وليعرفا
الإمام؛ وهذا بناء على أنهما رسولان شاهدان. ثم الإمام يفرق إن أراد ويأمر الحكم
بالتفريق. وهذا أحد قولي الشافعي؛ وبه قال الكوفيون، وهو قول عطاء وابن زيد
والحسن، وبه قال أبو ثور. والصحيح الأول، لأن للحكمين التطليق دون توكيل؛ وهو قول
مالك والأوزاعي وإسحاق وروي عن عثمان وعلي وابن عباس، وعن الشعبي والنخعي، وهو قول
الشافعي؛ لأن الله تعالى قال: «
فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها » وهذا نص من الله سبحانه بأنهما قاضيان لا وكيلان ولا
شاهدان. وللوكيل اسم في الشريعة ومعنى، وللحكم اسم في الشريعة ومعنى؛ فإذا بين
الله كل واحد منهما فلا ينبغي لشاذ - فكيف لعالم - أن يركب معنى أحدهما على الآخر
!. وقد روى الدارقطني من حديث محمد بن سيرين عن عبيدة في هذه الآية « وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا
حكما من أهله وحكما من أهلها » قال:
جاء رجل وامرأة إلى علي مع كل واحد منهما فئام من الناس فأمرهم فبعثوا حكما من
أهله وحكما من أهلها، وقال للحكمين: هل تدريان ما عليكما ؟ عليكما إن رأيتما أن
تفرقا فرقتما. فقالت، المرأة: رضيت بكتاب الله بما علي فيه ولي. وقال الزوج: أما
الفرقة فلا. فقال علي: كذبت، والله لا تبرح حتى تقر بمثل الذي أقرت به. وهذا إسناد
صحيح ثابت روي عن علي من وجوه ثابتة عن ابن سيرين عن عبيدة؛ قال أبو عمر. فلو كانا
وكيلين أو شاهدين لم يقل لهما: أتدريان ما عليكما ؟ إنما كان يقول: أتدريان بما
وكلتما ؟ وهذا بين. احتج أبو حنيفة بقول علي رضي الله عنه للزوج: لا تبرح حتى ترضى
بما رضيت به. فدل على أن مذهبه أنهما لا يفرقان إلا برضا الزوج، وبأن الأصل
المجتمع عليه أن الطلاق بيد الزوج أو بيد من جعل ذلك إليه. وجعله مالك ومن تابعه
من باب طلاق السلطان على المولى والعنين.
فإن
اختلف الحكمان لم ينفذ قولهما ولم يلزم من ذلك شيء إلا ما اجتمعا عليه. وكذلك كل
حكمين حكما في أمر؛ فإن حكم أحدهما بالفرقة ولم يحكم بها الآخر، أو حكم أحدهما
بمال وأبى الآخر فليسا بشيء حتى يتفقا. وقال مالك في الحكمين يطلقان ثلاثا قال:
تلزم واحدة وليس لهما الفراق بأكثر من واحدة بائنة؛ وهو قول ابن القاسم. وقال ابن
القاسم أيضا: تلزمه الثلاث إن اجتمعا عليها؛ وقال المغيرة وأشهب وابن الماجشون
وأصبغ. وقال ابن المواز: إن حكم أحدهما بواحدة والآخر بثلاث فهي واحدة. وحكى ابن
حبيب عن أصبغ أن ذلك ليس بشيء.
ويجزئ
إرسال الواحد؛ لأن الله سبحانه حكم في الزنى بأربعة شهود، ثم قد أرسل. النبي صلى الله
عليه وسلم إلى المرأة الزانية أنيسا وحده وقال له: ( إن اعترفت فأرجمها ) وكذلك
قال عبدالملك في المدونة.
قلت:
وإذا جاز إرسال الواحد فلو حكم الزوجان واحدا لأجزأ، وهو بالجواز أولى إذا رضيا
بذلك، وإنما خاطب الله بالإرسال الحكام دون الزوجين. فإن أرسل الزوجان حكمين وحكما
نفذ حكمهما؛ لأن التحكيم عندنا جائز، وينفذ فعل الحكم في كل مسألة. هذا إذا كان كل
واحد منهما عدلا، ولو كان غير عدل قال عبدالملك: حكمه منقوض؛ لأنهما تخاطرا بما لا
ينبغي من الغرر. قال ابن العربي: والصحيح نفوذه؛ لأنه إن كان توكيلا ففعل الوكيل
نافذ، وإن كان تحكيما فقد قدماه على أنفسهما وليس الغرر بمؤثر فيه كما لم يؤثر في
باب التوكيل، وباب القضاء مبني على الغرر كله، وليس يلزم فيه معرفة المحكوم عليه
بما يؤول إليه الحكم. قال ابن العربي: مسألة الحكمين نص الله عليها وحكم بها عند
ظهور الشقاق بين الزوجين، واختلاف ما بينهما. وهي مسألة عظيمة اجتمعت الأمة على
أصلها في البعث، وإن اختلفوا في تفاصيل ما ترتب عليه. وعجبا لأهل بلدنا حيث غفلوا
عن موجب الكتاب والسنة في ذلك وقالوا: يجعلان على يدي أمين؛ وفي هذا من معاندة
النص ما لا يخفى عليكم، فلا بكتاب الله ائتمروا ولا بالأقيسة اجتزؤوا. وقد ندبت
إلى ذلك فما أجابني إلى بعث الحكمين عند الشقاق إلا قاض واحد، ولا بالقضاء باليمين
مع الشاهد إلا آخر، فلما ملكني الله الأمر أجريت السنة كما ينبغي. ولا تعجب لأهل
بلدنا لما غمرهم من الجهالة، ولكن أعجب لأبي حنيفة ليس للحكمين عنده خبر، بل اعجب
مرتين للشافعي فإنه قال: الذي يشبه ظاهر الآية أنه فيما عم الزوجين معا حتى يشتبه
فيه حالاهما. قال: وذلك أني وجدت الله عز رجل أذن في نشوز الزوج بأن يصطلحا وأذن
في خوفهما ألا يقيما حدود الله بالخلع وذلك يشبه أن يكون برضا المرأة. وحظر أن
يأخذ الزوج مما أعطى شيئا إذا أراد استبدال زوج مكان زوج؛ فلما أمر فيمن خفنا
الشقاق بينهما بالحكمين دل على أن حكمهما غير حكم الأزواج، فإذا كان كذلك بعث حكما
من أهله وحكما من أهلها، ولا يبعث الحكمين إلا مأمونين برضا الزوجين وتوكيلهما بأن
يجمعا أو يفرقا إذا رأيا ذلك. وذلك يدل على أن الحكمين وكيلان للزوجين. قال ابن
العربي: هذا منتهى كلام الشافعي، وأصحابه يفرحون به وليس فيه ما يلتفت إليه ولا
يشبه نصابه في العلم، وقد تولى الرد عليه القاضي أبو إسحاق ولم ينصفه في الأكثر.
أما قوله: « الذي
يشبه ظاهر الآية أنه فيما عم الزوجين » فليس بصحيح بل هو نصه، وهي من أبين آيات القرآن وأوضحها
جلاء؛ فإن الله تعالى قال: « الرجال
قوامون على النساء » [ النساء: 34 ] - ومن خاف من امرأته نشوزا
وعظها، فإن أنابت وإلا هجرها في المضجع، فإن ارعوت وإلا ضربها، فإن استمرت في
غلوائها مشى الحكمان إليهما. وهذا إن لم يكن نصا فليس في القرآن بيان. ودعه لا
يكون نصا، يكون ظاهرا؛ فأما أن يقول الشافعي: يشبه الظاهر فلا ندري ما الذي أشبه
الظاهر ؟. ثم قال: « وأذن
في خوفهما ألا يقيما حدود الله بالخلع وذلك يشبه أن يكون برضا المرأة، بل يجب أن
يكون كذلك وهو نصه » . ثم
قال: « فلما
أمر بالحكمين علمنا أن حكمهما غير حكم الأزواج، ويجب أن يكون غيره بأن ينفذ عليهما
من غير اختيارهما فتتحقق الغيرية. فأما إذا أنفذا عليهما ما وكلاهما به فلم يحكما
بخلاف أمرهما فلم تتحقق الغيرية » .
وأما قوله « برضى
الزوجين وتوكيلهما » فخطأ
صراح؛ فإن الله سبحانه خاطب غير الزوجين إذا خاف الشقاق بين الزوجين بإرسال
الحكمين، وإذا كان المخاطب غيرهما كيف يكون ذلك بتوكيلهما، ولا يصح لهما حكم إلا
بما اجتمعا عليه. هذا وجه الإنصاف والتحقيق في الرد عليه. وفي هذه الآية دليل على
إثبات التحكيم، وليس كما تقول الخوارج إنه ليس التحكيم لأحد سوى الله تعالى. وهذه
كلمة حق ولكن يريدون بها الباطل.
الآية:
36 (
واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى
والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت
أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا )
أجمع
العلماء على أن هذه الآية من المحكم المتفق عليه، ليس منها شيء منسوخ. وكذلك هي في
جميع الكتب. ولو لم يكن كذلك لعرف ذلك من جهة العقل، وإن لم ينزل به الكتاب. وقد
مضى معنى العبودية وهي التذلل والافتقار، لمن له الحكم والاختيار؛ فأمر الله تعالى
عباده بالتذلل له والإخلاص فيه، فالآية أصل في خلوص الأعمال لله تعالى وتصفيتها من
شوائب الرياء وغيره؛ قال الله تعالى « فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة
ربه أحدا » [ الكهف: 110 ] حتى لقد قال بعض علمائنا:
إنه من تطهر تبردا أو صام محما لمعدته ونوى مع ذلك التقرب لم يجزه؛ لأنه مزج في
نية التقرب نية دنياوية وليس لله إلا العمل الخالص؛ كما قال تعالى: « ألا لله الدين الخالص » [ الزمر: 3 ] . وقال تعالى: « وما أمروا إلا ليعبدوا الله
مخلصين له الدين » [ البينة: 5 ] . وكذلك إذا أحس الرجل
بداخل في الركوع وهو إمام لم ينتظره؛ لأنه يخرج ركوعه بانتظاره عن كونه خالصا لله
تعالى. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( قال
الله تبارك وتعالى أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته
وشركه ) . وروى الدارقطني عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
( يجاء يوم القيامة بصحف مختمة فتنصب بين يدي الله تعالى فيقول الله تعالى
للملائكة القوا هذا واقبلوا هذا فتقول الملائكة وعزتك ما رأينا إلا خيرا فيقول
الله عز وجل - وهو أعلم - إن هذا كان لغيري ولا أقبل اليوم من العمل إلا ما كان
ابتغي به وجهي ) . وروي أيضا عن الضحاك بن قيس الفهري قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: ( إن الله تعالى يقول أنا خير شريك فمن أشرك معي شريكا فهو لشريكي يا
أيها الناس أخلصوا أعمالكم لله تعالى فإن الله لا يقبل إلا ما خلص له ولا تقولوا
هذا لله وللرحم فإنها للرحم وليس لله منها شيء ولا تقولوا هذا لله ولوجوهكم فإنها
لوجوهكم وليس لله تعالى منها شيء ) .
مسألة:
إذا ثبت هذا فاعلم أن علماءنا رضي الله عنهم قالوا: الشرك على ثلاث مراتب وكله
محرم. وأصله اعتقاد شريك لله في ألوهيته، وهو الشرك الأعظم وهو شرك الجاهلية، وهو
المراد بقوله تعالى: « إن
الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء » . [ النساء: 48 ] . ويليه في الرتبة اعتقاد
شريك لله تعالى في الفعل، وهو قول من قال: إن موجودا ما غير الله تعالى يستقل
بإحداث فعل وإيجاده وإن لم يعتقد كونه إلها كالقدرية مجوس هذه الأمة، وقد تبرأ
منهم ابن عمر كما في حديث جبريل عليه السلام. ويلي هذه الرتبة الإشراك في العبادة
وهو الرياء؛ وهو أن يفعل شيئا من العبادات التي أمر الله بفعلها له لغيره. وهذا هو
الذي سيقت الآيات والأحاديث لبيان تحريمه، وهو مبطل للأعمال وهو خفي لا يعرفه كل
جاهل غبي. ورضي الله عن المحاسبي فقد أوضحه في كتابه « الرعاية » وبين إفساده للأعمال. وفي
سنن ابن ماجة عن أبي سعيد بن أبي فضالة الأنصاري وكان من الصحابة قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم القيامة ليوم لا
ريب فيه نادى مناد من كان أشرك في عمل عمله لله عز وجل أحدا فليطلب ثوابه من عند
غير الله فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك ) . وفيه عن أبي سعيد الخدري قال: خرج
علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نتذاكر المسيخ الدجال فقال: ( ألا أخبركم
بما هو أخوف عليكم عندي من المسيخ الدجال ؟ ) قال: فقلنا بلى يا رسول الله؛ فقال:
( الشرك الخفي أن يقوم الرجل يصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل ) . وفيه عن
شداد بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن أخوف ما أتخوف على أمتي
الإشراك بالله أما إني لست أقول يعبدون شمسا ولا قمرا ولا وثنا ولكن أعمالا لغير
الله وشهوة خفية ) خرجه الترمذي الحكيم. وسيأتي في آخر الكهف، وفيه بيان الشهوة
الخفية. وروى ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب قال: سئل رسول الله صلى الله عليه
وسلم عن الشهوة الخفية فقال: ( هو الرجل يتعلم العلم يحب أن يجلس إليه ) . قال سهل
بن عبدالله التستري رضي الله عنه: الرياء على ثلاثة وجوه؛ أحدها: أن يعقد في أصل
فعله لغير الله ويريد به أن يعرف أنه لله، فهذا صنف من النفاق وتشكك في الإيمان.
والآخر: يدخل في الشيء لله فإذا اطلع عليه غير الله نشط، فهذا إذا تاب يزيد أن
يعيد جميع ما عمل. والثالث: دخل في العمل بالإخلاص وخرج به لله فعرف بذلك ومدح
عليه وسكن إلى مدحهم؛ فهذا الرياء الذي نهى الله عنه. قال سهل: قال لقمان لابنه:
الرياء أن تطلب ثواب عملك في دار الدنيا، وإنما عمل القوم للآخرة. قيل له: فما
دواء الرياء ؟ قال كتمان العمل، قيل له: فكيف يكتم العمل ؟ قال: ما كلفت إظهاره من
العمل فلا تدخل فيه إلا بالإخلاص، وما لم تكلف إظهاره أحب ألا يطلع عليه إلا الله.
قال: وكل عمل اطلع عليه الخلق فلا تعده من العمل. وقال أيوب السختياني: ما هو
بعاقل من أحب أن يعرف مكانه من عمله.
قلت:
قول سهل «
والثالث دخل في العمل بالإخلاص » إلى
آخره، إن كان سكونه وسروره إليهم لتحصل منزلته في قلوبهم فيحمدوه ويجلوه ويبروه
وينال ما يريده منهم من مال أو غيره فهذا مذموم؛ لأن قلبه مغمور فرحا باطلاعهم
عليه، وإن كانوا قد اطلعوا عليه بعد الفراغ. فأما من أطلع الله عليه خلقه وهو لا
يحب إطلاعهم عليه فيسر بصنع الله وبفضله عليه فسروره بفضل الله طاعة؛ كما قال
تعالى: « قل
بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون » [ يونس: 58 ] . وبسط هذا وتتميمه في كتاب
«
الرعاية للمحاسبي » ، فمن
أراده فليقف عليه هناك. وقد سئل سهل عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه
وسلم ( أني أسر العمل فيطلع عليه فيعجبني ) قال: يعجبه من جهة الشكر لله الذي
أظهره الله عليه أو نحو هذا. فهذه جملة كافية في الرياء وخلوص الأعمال. وقد مضى في
« البقرة
» .
حقيقة الإخلاص. والحمد لله.
قوله تعالى:
«
وبالوالدين إحسانا » قد
تقدم في صدر هذه السورة أن من الإحسان إليهما عتقهما، ويأتي في « سبحان » [ الإسراء: 1 ] حكم برهما معنى مستوفى.
وقرأ ابن أبي عبلة « إحسان
»
بالرفع أي واجب الإحسان إليهما. الباقون بالنصب، على معنى أحسنوا إليهما إحسانا.
قال العلماء: فأحق الناس بعد الخالق المنان بالشكر والإحسان والتزام البر والطاعة
له والإذعان من قرن الله الإحسان إليه بعبادته وطاعته وشكره بشكره وهما الوالدان؛
فقال تعالى: « أن
اشكر لي ولوالديك. [
لقمان: 14 ] . وروى
شعبة وهشيم الواسطيان عن يعلي بن عطاء عن أبيه عن عبدالله بن عمرو بن العاص قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( رضى الرب في رضى الوالدين وسخطه في سخط الوالدين » .
قوله
تعالى: « وبذي القربى واليتامى والمساكين » وقد مضى الكلام فيه في ( البقرة ) .
قوله
تعالى: « والجار ذي القربى والجار الجنب » أما الجار فقد أمر الله تعالى بحفظه
والقيام بحقه والوصاة برعي ذمته في كتابه وعلى لسان نبيه. ألا تراه سبحانه أكد
ذكره بعد الوالدين والأقربين فقال تعالى: « والجار ذي القربى » أي القريب. «
والجار الجنب » أي الغريب؛ قال ابن عباس، وكذلك هو في اللغة. ومنه فلان أجنبي،
وكذلك الجنابة البعد. وأنشد أهل اللغة:
فلا
تحرمني نائلا عن جنابة فإني امرؤ وسط القباب غريب
وقال
الأعشى:
أتيت
حريثا زائرا عن جنابة فكان حريث عن عطائي جامدا
وقرأ
الأعمش والمفضل « والجار الجنب » بفتح الجيم وسكون النون وهما لغتان؛ يقال: جنب
وجنب وأجنب وأجنبي إذا لم يكن بينهما قرابة، وجمعه أجانب. وقيل: على تقدير حذف
المضاف، أي والجار ذي الجنب أي ذي الناحية. وقال نوف الشامي: « الجار ذي القربى »
المسلم « والجار الجنب » اليهودي والنصراني.
قلت:
وعلى هذا فالوصاة بالجار مأمور بها مندوب إليها مسلما كان أو كافرا، وهو الصحيح.
والإحسان قد يكون بمعنى المواساة، وقد يكون بمعنى حسن العشرة وكف الأذى والمحاماة
دونه. روى البخاري عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما زال جبريل يوصيني بالجار
حتى ظننت أنه سيورثه ) . وروي
عن أبي شريح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن ) قيل: يا رسول الله ومن ؟ قال:
( الذي
لا يأمن جاره بوائقه ) وهذا
عام في كل جار. وقد أكد عليه السلام ترك إذايته بقسمه ثلاث مرات، وأنه لا يؤمن
الكامل من أذى جاره. فينبغي للمؤمن أن يحذر أذى جاره، وينتهي عما نهى الله ورسوله
عنه، ويرغب فيما رضياه وحضا العباد عليه. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال: (
الجيران ثلاثة فجار له ثلاثة حقوق وجار له حقان وجار له حق واحد فأما الجار الذي
له ثلاثة حقوق فالجار المسلم القريب له حق الجوار وحق القرابة وحق الإسلام والجار
الذي له حقان فهو الجار المسلم فله حق الإسلام وحق الجوار والجار الذي له حق واحد
هو الكافر له حق الجوار ) .
روى
البخاري عن عائشة قالت: قلت يا رسول الله، إن لي جارين فإلى أيهما أهدي، قال: ( إلى أقربهما منك بابا ) . فذهب جماعة من العلماء إلى
أن هذا الحديث يفسر المراد من قوله تعالى: « والجار ذي القربى » وأنه القريب
المسكن منك. « والجار الجنب » هو البعيد المسكن منك. واحتجوا بهذا على إيجاب
الشفعة للجار، وعضدوه وبقوله عليه السلام: ( الجار أحق بصقبه ) . ولا حجة في ذلك، فإن عائشة رضي الله عنها إنما سألت النبي
صلى الله عليه وسلم عمن تبدأ به من جيرانها في الهدية فأخبرها أن من قرب بابه فإنه
أولى بها من غيره. قال ابن المنذر: فدل هذا الحديث على أن الجار يقع على غير
اللصيق. وقد خرج أبو حنيفة عن ظاهر هذا الحديث فقال: إن الجار اللصيق إذا ترك
الشفعة وطلبها الذي يليه وليس له جدار إلى الدار ولا طريق لا شفعة فيه له. وعوام
العلماء يقولون: إن أوصى الرجل لجيرانه أعطي اللصيق وغيره؛ إلا أبا حنيفة فإنه
فارق عوام العلماء وقال: لا يعطى إلا اللصيق وحده.
واختلف
الناس في حد الجيرة؛ فكان الأوزاعي يقول: أربعون دارا من كل ناحية؛ وقال ابن شهاب.
وروي أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني نزلت محلة قوم وإن
أقربهم إلي جوارا أشدهم لي أذى؛ فبعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر وعليا
يصيحون على أبواب المساجد: ألا إن أربعين دارا جار ولا يدخل الجنة من لا يأمن جاره
بوائقه. وقال علي بن أبي طالب: من سمع النداء فهو جار. وقالت فرقة: من سمع إقامة
الصلاة فهو جار ذلك المسجد. وقالت فرقة: من ساكن رجلا في محلة أو مدينة فهو جار.
قال الله تعالى: « لئن لم ينته المنافقون » [ الأحزاب: 60 ] إلى قوله: « ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا » فجعل تعالى
اجتماعهم في المدينة جوارا. والجيرة مراتب بعضها الصق من بعض، أدناها الزوجة؛ كما
قال:
أيا
جارتا بيني فإنك طالقة
ومن
إكرام الجار ما رواه مسلم عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يا أبا ذر إذا طبخت مرقة
فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك ) . فحض
عليه السلام على مكارم الأخلاق؛ لما رتب عليها من المحبة وحسن العشرة ودفع الحاجة
والمفسدة؛ فإن الجار قد يتأذى بقتار قدر جاره، وربما تكون له ذرية فتهيج من
ضعفائهم الشهوة، ويعظم على القائم عليهم الألم والكلفة، لا سيما إن كان القائم
ضعيفا أو أرملة فتعظم المشقة ويشتد منهم الألم والحسرة. وهذه كانت عقوبة يعقوب في
فراق يوسف عليهما السلام فيما قيل. وكل هذا يندفع بتشريكهم في شيء من الطبيخ يدفع
إليهم، ولهذا المعنى حض عليه السلام الجار القريب بالهدية؛ لأنه ينظر إلى ما يدخل
دار جاره وما يخرج منها، فإذا رأى ذلك أحب أن يشارك فيه؛ وأيضا فإنه أسرع إجابة لجاره
عندما ينويه من حاجة في أوقات الغفلة والغرة؛ فلذلك بدأ به على من بعد بابه وإن
كانت داره أقرب. والله أعلم.
قال
العلماء: لما قال عليه السلام « فأكثر ماءها » نبه بذلك على تيسير الأمر على البخيل
تنبيها لطيفا، وجعل الزيادة فيما ليس له ثمن وهو الماء؛ ولذلك لم يقل: إذا طبخت
مرقة فأكثر لحمها؛ إذ لا يسهل ذلك على كل أحد. ولقد أحسن القائل:
قدري
وقدر الجار واحدة وإليه قبلي ترفع القدر
ولا يهدى
النزر اليسير المحتقر؛ لقوله عليه السلام: ( ثم أنظر أهل بيت من جيرانك فأصبهم منها بمعروف ) أي بشيء يهدى عرفا؛ فإن
القليل وإن كان مما يهدى فقد لا يقع ذلك الموقع، فلو لم يتيسر إلا القليل فليهده
ولا يحتقر، وعلى المهدى إليه قبوله؛ لقوله عليه السلام: ( يا نساء المؤمنات لا تحتقرن
إحداكن لجارتها ولو كراع شاة محرقا ) أخرجه مالك في موطئه. وكذا قيدناه ( يا نساء المؤمنات ) بالرفع على غير الإضافة،
والتقدير: يا أيها النساء المؤمنات؛ كما تقول يا رجال الكرام؛ فالمنادى محذوف وهو
يا أيها، والنساء في التقدير النعت لأيها، والمؤمنات نعت للنساء. قد قيل: فيه: يا
نساء المؤمنات بالإضافة، والأول أكثر.
من إكرام
الجار ألا يمنع من غرز خشبة له إرفاقا به؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا يمنع أحدكم جاره أن يغرز
خشبة في جداره ) . ثم
يقول أبو هريرة: ما لي أراكم عنها معرضين، والله لأرمين بها بين أكنافكم. روي «
خشبه وخشبة » على الجمع والإفراد. وروي « أكتافهم » بالتاء و « أكنافهم » بالنون.
ومعنى « لأرمين بها » أي بالكلمة والقصة. وهل يقضى بهذا على الوجوب أو الندب ؟ فيه
خلاف بين العلماء. فذهب مالك وأبو حنيفة وأصحابهما إلى أن معناه الندب إلى بر
الجار والتجاوز له والإحسان إليه، وليس ذلك على الوجوب؛ بدليل قوله عليه السلام: ( لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن
طيب نفس منه ) .
قالوا: ومعنى قوله ( لا
يمنع أحدكم جاره ) هو مثل
معنى قوله عليه السلام: ( إذا
استأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعها ) . وهذا معناه عند الجميع الندب، على ما يراه الرجل من
الصلاح والخير في ذلك. وقال الشافعي وأصحابه وأحمد بن حنبل وإسحاق وأبو ثور وداود
بن علي وجماعة أهل الحديث: إلى أن ذلك على الوجوب. قالوا: ولولا أن أبا هريرة فهم
فيما سمع من النبي صلى الله عليه وسلم معنى الوجوب ما كان ليوجب عليهم غير واجب.
وهو مذهب عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ فإنه قضى على محمد بن مسلمة للضحاك بن خليفة
في الخليج أن يمر به في أرض محمد بن مسلمة، فقال محمد بن مسلمة: لا والله. فقال
عمر: والله ليمرن به ولو على بطنك. فأمره عمر أن يمر به ففعل الضحاك؛ رواه مالك في
الموطأ. وزعم الشافعي في كتاب « الرد » أن مالكا لم يرو عن أحد من الصحابة خلاف
عمر في هذا الباب؛ وأنكر على مالك أنه رواه وأدخله في كتابه ولم يأخذ به ورده
برأيه. قال أبو عمر: ليس كما زعم الشافعي؛ لأن محمد بن مسلمة كان رأيه في ذلك خلاف
رأي عمر، ورأي الأنصار أيضا كان خلافا لرأي عمر، وعبدالرحمن بن عوف في قصة الربيع
وتحويله - والربيع الساقية - وإذا اختلفت الصحابة وجب الرجوع إلى النظر، والنظر،
يدل على أن دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم بعضهم على بعض حرام إلا ما تطيب به
النفس خاصة؛ فهذا هو الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم. ويدل على الخلاف في ذلك
قول أبي هريرة: ما لي أراكم عنها معرضين والله لأرمينكم بها؛ هذا أو نحوه. أجاب
الأولون فقالوا: القضاء بالمرفق خارج بالسنة عن معنى قوله عليه السلام: ( لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن
طيب نفس منه ) لأن
هذا معناه التمليك والاستهلاك وليس المرفق من ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم
قد فرق بينهما في الحكم. فغير واجب أن يجمع بين ما فرق رسول الله صلى الله عليه
وسلم. وحكى مالك أنه كان بالمدينة قاض يقضي به يسمى أبو المطلب. واحتجوا من الأثر
بحديث الأعمش عن أنس قال: استشهد منا غلام يوم أحد فجعلت أمه تمسح التراب عن وجهه
وتقول: أبشر هنيئا لك الجنة؛ فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم ( وما يدريك لعله كان يتكلم
فيما لا يعنيه ويمنع ما لا يضره ) .
والأعمش لا يصح له سماع من أنس، والله أعلم. قاله أبو عمر.
ورد حديث
جمع النبي صلى الله عليه وسلم فيه مرافق الجار، وهو حديث معاذ بن جبل قال: قلنا يا
رسول الله، ما حق الجار ؟ قال: ( إن
استقرضك أقرضته وإن استعانك أعنته وإن احتاج أعطيته وإن مرض عدته وإن مات تبعت
جنازته وإن أصابه خير سرك وهنيته وإن أصابته مصيبة ساءتك وعزيته ولا تؤذه بنار
قدرك إلا أن تعرف له منها ولا تستطل عليه بالبناء لتشرف عليه وتسد عليه الريح إلا
بإذنه وإن اشتريت فاكهة فأهد له منها وإلا فأدخلها سرا لا يخرج ولدك بشيء منه
يغيظون به ولده وهل تفقهون ما أقول لكم لن يؤدي حق الجار إلا القليل ممن رحم الله ) أو كلمة نحوها. هذا حديث جامع
وهو حديث حسن، في إسناده أبو الفضل عثمان بن مطر الشيباني غير مرضي.
قال
العلماء: الأحاديث في إكرام الجار جاءت مطلقة غير مقيدة حتى الكافر كما بينا. وفي
الخبر قالوا: يا رسول الله أنطعمهم من لحوم النسك ؟ قال: ( لا تطعموا المشركين من نسك
المسلمين ) .
ونهيه صلى الله عليه وسلم عن إطعام المشركين من نسك المسلمين يحتمل النسك الواجب
في الذمة الذي لا يجوز للناسك أن يأكل منه ولا أن يطعمه الأغنياء؛ فأما غير الواجب
الذي يجزيه إطعام الأغنياء فجائز أن يطعمه أهل الذمة. قال النبي صلى الله عليه
وسلم لعائشة عند تفريق لحم الأضحية: ( ابدئي بجارنا اليهودي ) . وروي أن شاة ذبحت في أهل عبدالله بن عمرو فلما جاء قال:
أهديتم لجارنا اليهودي ؟ - ثلاث مرات - سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( ما زال جبريل يوصيني بالجار
حتى ظننت أنه سيورثه ) .
قوله
تعالى: « والصاحب بالجنب » أي الرفيق في السفر. وأسد الطبري أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم كان معه رجل من أصحابه وهما على راحلتين فدخل رسول الله صلى الله عليه
وسلم غيضة، فقطع قضيبين أحدهما معوج، فخرج وأعطى لصاحبه القويم؛ فقال: كنت يا رسول
الله أحق بهذا ! فقال: ( كلا
يا فلان إن كل صاحب يصحب آخر فإنه مسؤول عن صحابته ولو ساعة من نهار ) . وقال ربيعة بن أبي عبدالرحمن:
للسفر مروءة وللحضر مروءة؛ فأما المروءة في السفر فبذل الزاد، وقلة الخلاف على
الأصحاب، وكثرة المزاج في غير مساخط الله. وأما المروءة في الحضر فالإدمان إلى
المساجد، وتلاوة القرآن وكثرة الإخوان في الله عز وجل. ولبعض بني أسد - وقيل إنها
لحاتم الطائي:
إذا ما
رفيقي لم يكن خلف ناقتي له مركب فضلا فلا حملت رجلي
ولم يك
من زادي له شطر مزودي فلا كنت ذا زاد ولا كنت ذا فضل
شريكان
فيما نحن فيه وقد أرى علي له فضلا بما نال من فضلي
وقال علي
وابن مسعود وابن أبي ليلى: « الصاحب بالجنب » الزوجة. ابن جريج: هو الذي يصحبك
ويلزمك رجاء نفعك. والأول أصح؛ وهو قول ابن عباس وابن جبير وعكرمة ومجاهد والضحاك.
وقد تتناول الآية الجميع بالعموم. والله أعلم.
قوله
تعالى: « وابن السبيل » قال مجاهد: هو الذي يجتاز بك مارا. والسبيل الطريق؛ فنسب
المسافر إليه لمروره عليه ولزومه إياه. ومن الإحسان إليه إعطاؤه وإرفاقه وهدايته
ورشده.
قوله
تعالى: « وما ملكت أيمانكم » أمر الله تعالى بالإحسان إلى المماليك، وبين ذلك
النبي صلى الله عليه وسلم؛ فروى مسلم وغيره عن المعرور بن سويد قال: مررنا بأبي ذر
بالربذة وعليه برد وعلى غلامه مثله، فعلنا: يا أبا ذر لو جمعت بينهما كانت حلة؛
فقال: إنه كان بيني وبين رجل من إخواني كلام، وكانت أمه أعجمية فعيرته بأمه،
فشكاني إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلقيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ( يا أبا ذر إنك امرؤ فيك
جاهلية ) قلت:
يا رسول الله، من سب الرجال سبوا أباه وأمه. قال: ( يا أبا ذر إنك امرؤ فيك
جاهلية هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم فأطعموهم مما تأكلون وألبسوهم مما تلبسون
ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم ) . وروي عن أبي هريرة أنه ركب بغلة ذات يوم فأردف غلامه
خلفه، فقال له قائل: لو أنزلته يسعى خلف دابتك؛ فقال أبو هريرة: لأن يسعى معي
ضغثان من نار يحرقان مني ما أحرقا أحب إلي من أن يسعى غلامي خلفي. وخرج أبو داود
عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من لايمكم من مملوكيكم
فأطعموه مما تأكلون واكسوه مما تكتسون ومن لا يلايمكم منهم فبيعوه ولا تعذبوا خلق
الله ) .
لايمكم وافقكم. والملايمة الموافقة. وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: (
للمملوك طعامه وكسوته ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق ) وقال عليه السلام: ( لا يقل أحدكم عبدي وأمتي بل
ليقل فتاي وفتاتي ) وسيأتي
بيانه في سورة يوسف عليه السلام. فندب صلى الله عليه وسلم السادة إلى مكارم
الأخلاق وحضهم عليها وأرشدهم إلى الإحسان وإلى سلوك طريق التواضع حتى لا يروا
لأنفسهم مزية على عبيدهم، إذ الكل عبيدالله والمال مال الله، لكن سخر بعضهم لبعض،
وملك بعضهم بعضا إتماما للنعمة وتنفيذا للحكمة؛ فإن أطعموهم أقل مما يأكلون،
وألبسوهم أقل مما يلبسون صفه ومقدارا جاز إذا قام بواجبه عليه. ولا خلاف في ذلك
والله أعلم. وروى مسلم عن عبدالله بن عمرو إذ جاءه قهرمان له فدخل فقال: أعطيت
الرقيق قوتهم ؟ قال لا. قال: فأنطلق فأعطهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( كفى بالمرء إثما أن يحبس عمن
يملك قوتهم ) .
ثبت عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من ضرب عبده حدا لم يأته أو لطمه فكفارته أن يعتقه ) . ومعناه أن يضربه قدر الحد
ولم يكن عليه حد. وجاء عن نفر من الصحابة أنهم اقتصوا للخادم من الولد في الضرب
وأعتقوا الخادم لما لم يرد القصاص وقال عليه السلام: ( من قذف مملوكه بالزنى أقام
عليه الحد يوم القيامة ثمانين ) . وقال
عليه السلام: ( لا
يدخل الجنة سيئ الملكة ) . وقال
عليه السلام: ( سوء
الخلق شوم وحسن الملكة نماء وصلة الرحم تزيد في العمر والصدقة تدفع ميتة السوء ) .
واختلف
العلماء من هذا الباب أيهما أفضل الحر أو العبد؛ فروى مسلم عن أبي هريرة قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( للعبد
المملوك المصلح أجران ) والذي
نفس أبي هريرة بيده لولا الجهاد في سبيل الله والحج وبر أمي لأحببت أن أموت وأنا
مملوك. وروي عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن العبد إذا نصح لسيده
وأحسن عبادة الله فله أجره مدتين ) .
فاستدل بهذا وما كان مثله من فضل العبد؛ لأنه مخاطب من جهتين: مطالب بعبادة الله،
مطالب بخدمة سيده. وإلى هذا ذهب أبو عمر يوسف بن عبدالبر النمري وأبو بكر محمد بن
عبدالله بن أحمد العامري البغدادي الحافظ.
استدل من
فضل الحر بأن قال: الاستقلال بأمور الدين والدنيا وإنما يحصل بالأحرار والعبد
كالمفقود لعدم استقلال، وكالآلة المصرفة بالقهر، وكالبهيمة المسخرة بالجبر؛ ولذلك
سلب مناصب الشهادات ومعظم الولايات، ونقصت حدوده عن حدود الأحرار إشعارا بخسة
المقدار، والحر وإن طولب من جهة واحدة فوظائفه فيها أكثر، وعناؤه أعظم فثوابه
أكثر. وقد أشار إلى هذا أبو هريرة بقوله: لولا الجهاد والحج؛ أي لولا النقص الذي
يلحق العبد لفوت هذه الأمور. والله أعلم.
روى أنس
بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه، وما زال
يوصيني بالنساء حتى ظننت أنه سيحرم طلاقهن، وما زال يوصيني بالمماليك حتى ظننت أنه
سيجعل لهم مدة إذا انتهوا إليها عتقوا، وما زال يوصيني بالسواك حتى خشيت أن يحفي
فمي - وروي حتى كاد - وما زال يوصيني بقيام الليل حتى ظننت أن خيار أمتي لا ينامون
ليلا ) . ذكره
أبو الليث السمرقندي في تفسيره.
قوله
تعالى: « إن الله لا يحب » أي لا يرضى. « من كان مختالا فخورا » فنفى سبحانه محبته
ورضاه عمن هذه صفته؛ أي لا يظهر عليه آثار نعمه في الآخرة. وفي هذا ضرب من التوعد.
والمختال ذو الخيلاء أي الكبر. والفخور: الذي يعدد مناقبه كبرا. والفخر: البذخ
والتطاول. وخص هاتين الصفتين بالذكر هنا لأنهما تحملان صاحبيهما على الأنفة من
القريب الفقير والجار الفقير وغيرهم ممن ذكر في الآية فيضيع أمر الله بالإحسان إليهم.
وقرأ عاصم فيما ذكر المفضل عنه « والجار الجنب » بفتح الجيم وسكون النون. قال
المهدوي: هو على تقدير حذف المضاف؛ أي والجار ذي الجنب أي ذي الناحية. وأنشد
الأخفش:
الناس
جنب والأمير جنب
والجنب
الناحية، أي المتنحي عن القرابة. والله أعلم.
الآية:
37 ( الذين يبخلون ويأمرون الناس
بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا )
قوله
تعالى: « الذين يبخلون » « الذين » في موضع نصب على البدل من « من » في قوله: « من
كان » ولا يكون صفة؛ لأن « من » و « ما » لا يوصفان ولا يوصف بهما. ويجوز أن يكون
في موضع رفع بدلا من المضمر الذي في فخور. ويجوز أن يكون في موضع رفع فيعطف عليه.
ويجوز أن يكون ابتداء والخبر محذوف، أي الذين يبخلون، لهم كذا، أو يكون الخبر « إن
الله لا يظلم مثقال ذرة » [
النساء:40 ] .
ويجوز أن يكون منصوبا بإضمار أعني، فتكون الآية في المؤمنين؛ فتجيء الآية على هذا
التأويل أن الباخلين منفية عنهم محبة الله، فأحسنوا أيها المؤمنون إلى من سمي فإن
الله لا يحب من فيه الخلال المانعة من الإحسان.
قوله
تعالى: « يبخلون ويأمرون الناس بالبخل » البخل المذموم في الشرع هو الامتناع من
أداء ما أوجب الله تعالى عليه. وهو مثل قوله تعالى: « ولا يحسبن الذين يبخلون بما
آتاهم الله من فضله » [ آل
عمران: 180 ] الآية.
وقد مضى في « آل عمران » القول في البخل وحقيقته، والفرق بينه وبين الشح مستوفى.
والمراد بهذه الآية في قول ابن عباس وغيره اليهود؛ فإنهم جمعوا بين الاختيال
والفخر والبخل بالمال وكتمان ما أنزل الله من التوراة من نعت محمد صلى الله عليه
وسلم. وقيل: المراد المنافقون الذي كان إنفاقهم وإيمانهم تقية، والمعنى إن الله لا
يحب كل مختال فخور، ولا الذين يبخلون؛ على ما ذكرنا من إعرابه.
قوله
تعالى: « وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا » فصل تعالى توعد المؤمنين الباخلين من
توعد الكافرين بأن جعل الأول عدم المحبة والثاني عذابا مهينا.
الآية:
38 ( والذين ينفقون أموالهم رئاء
الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا )
قوله
تعالى: « والذين
ينفقون أموالهم رئاء الناس » الآية.
عطف تعالى على « الذين
يبخلون » [ آل عمران: 180 ] : « الذين ينفقون أموالهم رئاء
الناس » . وقيل:
هو عطف على الكافرين، فيكون في موضع خفض. ومن رأى زيادة الواو أجاز أن يكون الثاني
عنده خبرا للأول. قال الجمهور نزلت في المنافقين: لقوله تعالى: « رئاء الناس » والرئاء من النفاق. مجاهد: في
اليهود. وضعفه الطبري؛ لأنه تعالى نفى عن هذه الصفة الإيمان بالله واليوم الآخر،
واليهود ليس كذلك. قال ابن عطية: وقول مجاهد متجه على المبالغة والإلزام؛ إذ
إيمانهم باليوم الآخر كالإيمان من حيث لا ينفعهم. وقيل: نزلت في مطعمي يوم بدر،
وهم رؤساء مكة؛ أنفقوا على الناس ليخرجوا إلى بدر. قال ابن الحربي: ونفقة الرئاء
تدخل في الأحكام من حيث إنها لا تجزئ. قلت: ويدل على ذلك من الكتاب قوله تعالى: « قل أنفقوا طوعا أو كرها لن
يتقبل منكم » [ التوبة: 53 ] وسيأتي.
قوله
تعالى: « ومن
يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا » في الكلام إضمار تقديره « ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر » فقرينهم الشيطان « ومن يكن الشيطان له قرينا
فساء قرينا » .
والقرين: المقارن، أي الصاحب والخليل وهو فعيل من الإقران؛ قال عدي بن زيد:
عن المرء
لا تسأل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي
والمعنى:
من قبل من الشيطان في الدنيا فقد قارنه. ويجوز أن يكون المعنى من قرن به الشيطان
في النار « فساء
قرينا » أي فبئس
الشيطان قرينا، وهو نصب على التمييز.
الآية:
39 ( وماذا عليهم لو آمنوا بالله
واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله وكان الله بهم عليما )
قوله: « ما » في موضع رفع بالابتداء و « ذا » خبره، وذا بمعنى الذي. ويجوز
أن يكون ما وذا اسما واحدا. فعلى الأول تقديره وما الذي عليهم، وعلى الثاني تقديره
وأي شيء عليهم « لو
آمنوا بالله واليوم الآخر » ، أي
صدقوا بواجب الوجود، وبما جاء به الرسول من تفاصيل الآخرة، « وأنفقوا مما رزقهم الله » . « وكان الله بهم عليما » تقدم معناه في غير موضع.
الآية:
40 ( إن الله لا يظلم مثقال ذرة
وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما )
قوله
تعالى: « إن
الله لا يظلم مثقال ذرة » أي لا
يبخسهم ولا ينقصهم من ثواب عملهم وزن ذرة بل يجازيهم بها ويثيبهم عليها. والمراد
من الكلام أن الله تعالى لا يظلم قليلا ولا كثيرا؛ كما قال تعالى: « إن الله لا يظلم الناس شيئا » [ يونس: 44 ] . والذرة: النملة الحمراء؛ عن
ابن عباس وغيره، وهي أصغر النمل. وعنه أيضا رأس النملة. وقال يزيد بن هارون: زعموا
أن الذرة ليس لها وزن. ويحكى أن رجلا وضع خبزا حتى علاه الذر مقدار ما يستره ثم
وزنه فلم يزد على وزن الخبز شيئا.
قلت:
والقرآن والسنة يدلان على أن للذرة وزنا؛ كما أن للدينار ونصفه وزنا. والله أعلم.
وقيل: الذرة الخردلة؛ كما قال تعالى: « فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها » [ الأنبياء: 47 ] . وقيل غير هذا، وهي في
الجملة عبارة عن أقل الأشياء وأصغرها. وفي صحيح مسلم عن أنس قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: ( إن
الله لا يظلم مؤمنا حسنة يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة وأما الكافر
فيطعم بحسنات ما عمل لله بها في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة
يجزى بها ) .
قوله
تعالى: « وإن
تكن حسنة يضاعفها ويؤت » أي يكثر
ثوابها. وقرأ أهل الحجاز « حسنة » بالرفع، والعامة بالنصب؛ فعلى
الأول « تك » بمعنى تحدث، فهي تامة. وعلى
الثاني هي الناقصة، أي إن تك فعلته حسنة. وقرأ الحسن « نضاعفها » بنون العظمة. والباقون بالياء،
وهي أصح؛ لقوله « ويؤت » . وقرأ أبو رجاء « يضعفها » ، والباقون « يضاعفها » وهما لغتان معناهما التكثير.
وقال أبو عبيدة: «
يضاعفها » معناه يجعله
أضعافا كثيرة، «
ويضاعفها »
بالتشديد يجعلها ضعفين. « من
لدنه » من
عنده. وفيه أربع لغات: لدن ولدن ولد ولدى؛ فإذا أضافوه إلى أنفسهم سددوا النون،
ودخلت عليه « من » حيث كانت « من » الداخلة لابتداء الغاية و « لدن » كذلك، فلما تشاكلا حسن دخول « من » عليها؛ ولذلك قال سيبويه في
لدن: إنه الموضع الذي هو أول الغاية. « أجرا عظيما » يعني الجنة. وفي صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري الطويل -
حديث الشفاعة - وفيه: ( حتى
إذا خلص المؤمنون من النار فوالذي نفسي بيده ما منكم من أحد بأشد مناشدة لله في
استقصاء الحق من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار يقولون ربنا
كانوا يصومون معنا ويصلون ويحجون فيقال لهم أخرجوا من عرفتم فتحرم صورهم على النار
فيخرجون خلقا كثيرا قد أخذت النار إلى نصف ساقيه وإلى ركبتيه ثم يقولون ربنا ما
بقي فيها أحد ممن أمرتنا به فيقول جل وعز أرجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من
خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها أحدا ممن أمرتنا به ثم
يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا
ثم يقولون ربنا لم نذر فيها ممن أمرتنا أحدا ثم يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه
مثقال ذرة من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها خيرا ) . وكان أبو سعيد الخدري يقول:
إن لم تصدقوني بهذا الحديث فاقرؤوا إن شئتم « إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من
لدنه أجرا عظيما » وذكر
الحديث. وروي عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( يؤتى بالعبد يوم القيامة
فيوقف وينادي مناد على رؤوس الخلائق هذا فلان بن فلان من كان له عليه حق فليأت إلى
حقه ثم يقول آت هؤلاء حقوقهم فيقول يا رب من أين لي وقد ذهبت الدنيا عني فيقول
الله تعالى للملائكة انظروا إلى أعماله الصالحة فأعطوهم منها فإن بقي مثقال ذرة من
حسنة قالت الملائكة يا رب - وهو أعلم بذلك منهم - قد أعطي لكل ذي حق حقه وبقي
مثقال ذرة من حسنة فيقول الله تعالى للملائكة ضعفوها لعبدي وأدخلوه بفضل رحمتي
الجنة ومصداقه « إن
الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها » - وإن كان عبدا شقيا قالت الملائكة إلهنا فنيت حسناته
وبقيت سيئاته وبقي طالبون كثير فيقول تعالى خذوا من سيئاتهم فأضيفوها إلى سيئاته
ثم صكوا له صكا إلى النار ) .
فالآية على هذا التأويل في الخصوم، وأنه تعالى لا يظلم مثقال ذرة للخصم على الخصم
يأخذ له منه، ولا يظلم مثقال ذرة تبقى له بل يثيبه عليها ويضعفها له؛ فذلك قوله
تعالى: « وإن تك
حسنة يضاعفها » . وروى
أبو هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الله سبحانه يعطي عبده
المؤمن بالحسنة الواحدة ألفي ألف حسنة ) وتلا « إن
الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما » . قال عبيدة: قال أبو هريرة:
وإذا قال الله « أجرا
عظيما » فمن
الذي يقدر قدره ! وقد تقدم عن ابن عباس وابن مسعود: أن هذه الآية إحدى الآيات التي
هي خير مما طلعت عليه الشمس.
الآية:
41 ( فكيف إذا جئنا من كل أمة
بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا )
فتحت
الفاء الساكنين « وإذ » ظرف زمان والعامل فيه « جئنا » ذكر أبو الليث السمرقندي:
حدثنا الخليل بن أحمد قال: حدثنا ابن منيع قال: حدثنا أبو كامل قال: حدثنا فضيل عن
يونس بن محمد بن فضالة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاهم في بني ظفر
فجلس على الصخرة التي في بني ظفر ومعه ابن مسعود ومعاذ وناس من أصحابه فأمر قارئا
يقرأ حتى إذا أتى على هذه الآية « فكيف
إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا » بكى رسول الله صلى الله عليه
وسلم حتى اخضلت وجنتاه؛ فقال: ( يا رب
هذا على من أنا بين ظهرانيهم فكيف من لم أرهم ) . وروى البخاري عن عبدالله قال. قال لي رسول الله صلى الله
عليه وسلم: ( اقرأ
علي ) قلت:
اقرأ عليك وعليك أنزل ؟ قال: ( إني
أحب أن أسمعه من غيري ) فقرأت
عليه سورة « النساء
» حتى
بلغت « فكيف
إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا » قال: ( أمسك ) فإذا عيناه تذرفان. وأخرجه
مسلم وقال بدل قوله ( أمسك ) : فرفعت رأسي - أو غمزني رجل
إلى جنبي - فرفعت رأسي فرأيت دموعه تسيل. قال علماؤنا: بكاء النبي صلى الله عليه
وسلم إنما كان لعظيم ما تضمنته هذه الآية من هول المطلع وشدة الأمر؛ إذ يؤتى
بالأنبياء شهداء على أممهم بالتصديق والتكذيب، ويؤتى به صلى الله عليه وسلم يوم
القيامة شهيدا. والإشارة بقوله « على
هؤلاء » إلى
كفار قريش وغيرهم من الكفار؛ وإنما خص كفار قريش بالذكر لأن وظيفة العذاب أشد
عليهم منها على غيرهم؛ لعنادهم عند رؤية المعجزات، وما أظهره الله على يديه من
خوارق العادات. والمعنى فكيف يكون حال هؤلاء الكفار يوم القيامة « إذا جئنا من كل أمة بشهيد
وجئنا بك على هؤلاء شهيدا » أمعذبين
أم منعمين ؟ وهذا استفهام معناه التوبيخ. وقيل: الإشارة إلى جميع أمته. ذكر ابن
المبارك أخبرنا رجل من الأنصار عن المنهال بن عمر وحدثه أنه سمع سعيد بن المسيب
يقول: ليس من يوم إلا تعرض على النبي صلى الله عليه وسلم أمته غدوة وعشية فيعرفهم
بسيماهم وأعمالهم فلذلك يشهد عليهم؛ يقول الله تبارك وتعالى « فكيف إذا جئنا من كل أمة
بشهيد » يعني
بنبيها « وجئنا
بك على هؤلاء شهيدا » . وموضع
« كيف » نصب بفعل مضمر، التقدير فكيف
يكون حالهم؛ كما ذكرنا. والفعل المضمر قد يسد مسد « إذا » ،
والعامل في « إذا » « جئنا » . و « شهيدا » حال. وفي الحديث من الفقه جواز
قراءة الطالب على الشيخ والعرض عليه، ويجوز عكسه. وسيأتي بيانه في حديث أبي في
سورة « لم يكن
» ، إن
شاء الله تعالى. و « شهيدا
» نصب على
الحال.
الآية:
42 ( يومئذ يود الذين كفروا وعصوا
الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا )
ضمت
الواو في « عصوا » . لالتقاء الساكنين، ويجوز
كسرها. وقرأ نافع وابن عامر « تسوى » بفتح التاء والتشديد في السين.
وحمزة والكسائي كذلك إلا أنهما خففا السين. والباقون ضموا التاء وخففوا السين،
مبنيا للمفعول والفاعل غير مسمى. والمعنى لو يسوي الله بهم الأرض. أي يجعلهم
والأرض سواء. ومعنى آخر: تمنوا لو لم يبعثهم الله وكانت الأرض مستوية عليهم؛ لأنهم
من التراب نقلوا. وعلى القراءة الأولى والثانية فالأرض فاعلة، والمعنى تمنوا لو
انفتحت لهم الأرض فساخوا فيها؛ قاله قتادة. وقيل: الباء بمعنى على، أي لو تسوى
عليهم أي تنشق فتسوى عليهم؛ عن الحسن. فقراءة التشدد على الإدغام، والتخفيف على
حذف التاء. وقيل: إنما تمنوا هذا حين رأوا البهائم تصير ترابا وعلموا أنهم مخلدون
في النار؛ وهذا معنى قوله تعالى: « ويقول
الكافر يا ليتني كنت ترابا » [ النبأ: 40 ] . وقيل: إنما تمنوا هذا حين
شهدت هذه الأمة للأنبياء على ما تقدم في « البقرة » عند
قوله تعالى: « وكذلك
جعلناكم أمة وسطا » [ البقرة: 143 ] الآية. فتقول الأمم الخالية:
إن فيهم الزناة والسراق فلا تقبل شهادتهم فيزكيهم النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول
المشركون: « والله
ربنا ما كنا مشركين » [ الأنعام: 23 ] فيختم على أفواههم وتشهد
أرجلهم وأيديهم بما كانوا يكسبون؛ فذلك قوله تعالى: « يومئذ يود الذين كفروا وعصوا
الرسول لو تسوى بهم الأرض » يعني
تخسف بهم. والله أعلم.
قوله
تعالى: « ولا
يكتمون الله حديثا » قال
الزجاج: قال بعضهم: « ولا
يكتمون الله حديثا » مستأنف؛
لأن ما عملوه ظاهر عند الله لا يقدرون على كتمانه. وقال بعضهم: هو معطوف، والمعنى
يود لو أن الأرض سويت بهم وأنهم لم يكتموا الله حديثا؛ لأنه ظهر كذبهم. وسئل ابن
عباس عن هذه الآية، وعن قوله تعالى: « والله ربنا ما كنا مشركين » فقال: لما رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهل الإسلام قالوا: « والله ربنا ما كنا مشركين » فختم الله على أفواههم وتكلمت
أيديهم وأرجلهم فلا يكتمون الله حديثا. وقال الحسن وقتادة: الآخرة مواطن يكون هذا
في بعضها وهذا في بعضها. ومعناه أنهم لما تبين لهم وحوسبوا لم يكتموا. وسيأتي لهذا
مزيد بيان في «
الأنعام » إن شاء
الله تعالى.
الآية:
43 ( يا أيها الذين آمنوا لا
تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى
تغتسلوا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم
تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن الله كان عفوا غفورا )
قوله
تعالى: « يا
أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى » خص الله سبحانه وتعالى بهذا الخطاب المؤمنين؛ لأنهم كانوا
يقيمون الصلاة وقد أخذوا من الخمر وأتلفت عليهم أذهانهم فخصوا بهذا الخطاب؛ إذ كان
الكفار لا يفعلونها صحاة ولا سكارى. روى أبو داود عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه
قال: لما نزل تحريم الخمر قال عمر: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا؛ فنزلت
الآية التي في البقرة «
يسألونك عن الخمر والميسر » [ البقرة: 219 ] قال: فدعي عمر فقرئت عليه
فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا؛ فنزلت الآية التي في النساء « يا أيها الذين آمنوا لا
تقربوا الصلاة وأنتم سكارى » فكان
منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقيمت الصلاة ينادي: ألا لا يقربن الصلاة
سكران. فدعي عمر فقرئت عليه فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا؛ فنزلت هذه
الآية: « فهل أنتم
منتهون » [ المائدة: 91 ] قال عمر: انتهينا. وقال سعيد
بن جبير: كان الناس على أمر جاهليتهم حتى يؤمروا أو ينهوا؛ فكانوا يشربونها أول
الإسلام حتى نزلت: «
يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس » [ البقرة: 219 ] . قالوا: نشربها للمنفعة لا للإثم؛
فشربها رجل فتقدم يصلي بهم فقرأ: قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون؛ فنزلت: « يا أيها الذين آمنوا لا
تقربوا الصلاة وأنتم سكارى » .
فقالوا: في غير عين الصلاة. فقال عمر: اللهم أنزل علينا في الخمر بيانا شافيا؛
فنزلت: « إنما
يريد الشيطان » [ المائدة: 91 ] الآية. فقال عمر: انتهينا،
انتهينا. ثم طاف منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا إن الخمر قد حرمت؛ على
ما يأتي بيانه في «
المائدة » إن شاء
الله تعالى: وروى الترمذي عن علي بن أبي طالب قال: صنع لنا عبدالرحمن بن عوف طعاما
فدعانا وسقانا من الخمر، فأخذت الخمر منا، وحضرت الصلاة فقدموني فقرأت: « قل يا أيها الكافرون لا أعبد
ما تعبدون » [ الكافرون: 1 - 2 ] ونحن نعبد ما تعبدون. قال:
فأنزل الله تعالى: « يا
أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون » . قال أبو عيسى: هذا حديث حسن
صحيح. ووجه الاتصال والنظم بما قبله أنه قال سبحانه وتعالى: « واعبدوا الله ولا تشركوا به
شيئا » [ النساء: 36 ] . ثم ذكر بعد الإيمان الصلاة
التي هي رأس العبادات؛ ولذلك يقتل تاركها ولا يسقط فرضها، وانجر الكلام إلى ذكر
شروطها التي لا تصح إلا بها.
والجمهور
من العلماء وجماعة الفقهاء على أن المراد بالسكر سكر الخمر؛ إلا الضحاك فإنه قال:
المراد سكر النوم؛ لقوله عليه السلام: ( إذا نعس أحدكم في الصلاة فليرقد حتى يذهب عنه النوم، فإنه
لا يدري لعله يستغفر فيسب نفسه ) . وقال
عبيدة السلماني: « وأنتم
سكارى » يعني
إذا كنت حاقنا؛ لقوله عليه السلام: ( لا يصلين أحدكم وهو حاقن ) في رواية ( وهو
ضام بين فخذيه ) .
قلت:
وقول الضحاك وعبيدة صحيح المعنى؛ فإن المطلوب من المصلي الإقبال على الله تعالى
بقلبه وترك الالتفات إلى غيره، والخلو عن كل ما يشوش عليه من نوم وحقنة وجوع، وكل
ما يشغل البال ويغير الحال. قال صلى الله عليه وسلم: ( إذا حضر العشاء وأقيمت
الصلاة فابدؤوا بالعشاء ) .
فراعى صلى الله عليه وسلم زوال كل مشوش يتعلق به الخاطر، حتى يقبل على عبادة ربه
بفراغ قلبه وخالص لبه، فيخشع في صلاته. ويدخل في هذه الآية: « قد أفلح المؤمنون الذين هم في
صلاتهم خاشعون » [ المؤمنون: 1 - 2 ] على ما يأتي بيانه. وقال ابن
عباس: إن قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى « منسوخ بآية المائدة: » إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا « [ المائدة: 6 ] الآية. فأمروا على هذا القول
بألا يصلوا سكارى؛ ثم أمروا بأن يصلوا على كل حال؛ وهذا قبل التحريم. وقال مجاهد:
نسخت بتحريم الخمر. وكذلك قال عكرمة وقتادة، وهو الصحيح في الباب لحديث علي
المذكور. وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: أقيمت الصلاة فنادى منادي رسول
الله صلى الله عليه وسلم لا يقربن الصلاة سكران؛ ذكره النحاس. وعلى قول الضحاك
وعبيدة الآية محكمة لا نسخ فيها. »
قوله
تعالى: « لا
تقربوا » إذا
قيل: لا تقرب بفتح الراء كان معناه لا تلبس بالفعل، وإذا كان بضم الراء كان معناه
لا تدن منه. والخطاب لجماعة الأمة الصاحين. وأما السكران إذا عدم الميز لسكره فليس
بمخاطب في ذلك الوقت لذهاب عقله؛ وإنما هو مخاطب بامتثال ما يجب عليه، وبتكفير ما
ضيع في وقت سكره من الأحكام التي تقرر تكليفه إياها قبل السكر.
قوله
تعالى: « الصلاة
» اختلف
العلماء في المراد بالصلاة هنا؛ فقالت طائفة: هي العبادة المعروفة نفسها؛ وهو قول
أبي حنيفة؛ ولذلك قال « حتى
تعلموا ما تقولون » . وقالت
طائفة: المراد مواضع الصلاة؛ وهو قول الشافعي، فحذف المضاف. وقد قال تعالى « لهدمت صوامع وبيع وصلوات » [ الحج: 40 ] فسمى مواضع الصلاة صلاة. ويدل
على هذا التأويل قوله تعالى: « ولا
جنبا إلا عابري سبيل » هذا
يقتضي جواز العبور للجنب في المسجد لا الصلاة فيه. وقال أبو حنيفة: المراد بقوله
تعالى: « ولا
جنبا إلا عابري سبيل » المسافر
إذا لم يجد الماء فإنه يتيمم ويصلي؛ وسيأتي بيانه. وقالت طائفة: المراد الموضع
والصلاة معا؛ لأنهم كانوا حينئذ لا يأتون المسجد إلا للصلاة ولا يصلون إلا مجتمعين،
فكانا متلازمين.
قوله
تعالى: « وأنتم
سكارى » ابتداء
وخبر، جملة في موضع الحال من « تقربوا
» . و « سكارى » جمع سكران؛ مثل كسلان وكسالى.
وقرأ النخعي « سكرى » بفتح السين على مثال فعلى، وهو
تكسير سكران؛ وإنما كسر على سكرى لأن السكر آفة تلحق العقل فجرى مجرى صرعى وبابه.
وقرأ الأعمش « سكرى » كحبلى فهو صفة مفردة؛ وجاز
الإخبار بالصفة المفردة عن الجماعة على ما يستعملونه من الإخبار عن الجماعة
بالواحد. والسكر: نقيض الصحو؛ يقال: سكر يسكر مسكرا، من باب حمد يحمد. وسكرت عينه
تسكر أي تحيرت؛ ومنه قوله تعالى: « إنما
سكرت أبصارنا » [ الحجر: 15 ] . وسكرت الشق سددته. فالسكران
قد انقطع عما كان عليه من العقل.
وفي هذه
الآية دليل بل نص على أن الشرب كان مباحا في أول الإسلام حتى ينتهي بصاحبه إلى
السكر. وقال قوم: السكر محرم في العقل وما أبيح في شيء من الأديان؛ وحملوا السكر
في هذه الآية على النوم. وقال القفال: يحتمل أنه كان أبيح لهم من الشراب ما يحرك
الطبع إلى السخاء والشجاعة والحمية.
قلت:
وهذا المعنى موجود في أشعارهم؛ وقد قال حسان.
ونشربها
فتتركنا ملوكا
وقد
أشبعنا هذا المعنى في « البقرة
» . قال
القفال: فأما ما يزيل العقل حتى يصير صاحبه في حد الجنون والإغماء فما أبيح قصده،
بل لو اتفق من غير قصد فيكون مرفوعا عن صاحبه.
قلت: هذا
صحيح، وسيأتي بيانه في «
المائدة » إن شاء
الله تعالى في قصة حمزة. وكان المسلمون لما نزلت هذه الآية يجتنبون الشرب أوقات الصلوات،
فإذا صلوا العشاء شربوها؛ فلم يزالوا على ذلك حتى نزل تحريمها في « المائدة » في قوله تعالى: « فهل أنتم منتهون » [ المائدة: 91 ] .
قوله
تعالى: « حتى
تعلموا ما تقولون » أي حتى
تعلموه متيقنين فيه من غير غلط. والسكران لا يعلم ما يقول؛ ولذلك قال عثمان بن
عفان رضي الله عنه: إن السكران لا يلزمه طلاقه. وروي عن ابن عباس وطاوس وعطاء
والقاسم وربيعة، وهو قول الليث بن سعد وإسحاق وأبي ثور والمزنى؛ واختاره الطحاوي
وقال: أجمع العلماء على أن طلاق المعتوه لا يجوز، والسكران معتوه كالموسوس معتوه
بالوسواس. ولا يختلفون أن من شرب البنج فذهب عقله أن طلاقه غير جائز؛ فكذلك من سكر
من الشراب. وأجازت طائفة طلاقه؛ وروي عن عمر بن الخطاب ومعاوية وجماعة من
التابعين، وهو قول أبي حنيفة والثوري والأوزاعي، واختلف فيه قول الشافعي. والزمه
مالك الطلاق والقود في الجراح والقتل، ولم يلزمه النكاح والبيع. وقال أبو حنيفة:
أفعال السكران وعقوده كلها ثابتة كأفعال الصاحي، إلا الردة فإنه إذا ارتد فإنه لا
تبين منه امرأته إلا استحسانا. وقال أبو يوسف: يكون مرتدا في حال سكره؛ وهو قول
الشافعي إلا أنه لا يقتله في حال سكره ولا يستتيبه. وقال الإمام أبو عبدالله
المازري: وقد رويت عندنا رواية شاذة أنه لا يلزم طلاق السكران. وقال محمد بن
عبدالحكم: لا يلزمه طلاق ولا عتاق. قال ابن شاس: ونزل الشيخ أبو الوليد الخلاف على
المخلط الذي معه بقية من عقله إلا أنه لا يملك الاختلاط من نفسه فيخطئ ويصيب. قال:
فأما السكران الذي لا يعرف الأرض من السماء ولا الرجل من المرأة، فلا اختلاف في
أنه كالمجنون في جميع أفعال وأحواله فيما بينه وبين الناس، وفيما بينه وبين الله
تعالى أيضا؛ إلا فيما ذهب وقته من الصلوات، فقيل: إنها لا تسقط عنه بخلاف المجنون؛
من أجل أنه بإدخاله السكر على نفسه كالمتعمد لتركها حتى خرج وقتها. وقال سفيان
الثوري: حد السكر اختلال العقل؛ فإذا استقرئ فخلط في قراءته وتكلم بما لا يعرف
جلد. وقال أحمد: إذا تغير عقله عن حال الصحة فهو سكران؛ وحكي عن مالك نحوه. قال
ابن المنذر: إذا خلط في قراءته فهو سكران؛ استدلالا بقول الله تعالى: « حتى تعلموا ما تقولون » . فإذا كان بحيث لا يعلم ما
يقول تجنب المسجد مخافة التلويث؛ ولا تصح صلاته وإن صلى الله عليه وسلم قضى. وإن
كان بحيث يعلم ما يقول فأتى بالصلاة فحكمه حكم الصاحي.
قوله
تعالى: « ولا
جنبا » عطف على
موضع الجملة المنصوبة في قوله: « حتى تعلموا
» أي لا
تصلوا وقد أجنبتم. ويقال: تجنبتم وأجنبتم وجنبتم بمعنى. ولفظ الجنب لا يؤنث ولا
يثنى ولا يجمع؛ لأنه على وزن المصدر كالبعد والقرب. وربما خففوه فقالوا: جنب؛ وقد
قرأه كذلك قوم. وقال الفراء: يقال جنب الرجل وأجنب من الجنابة. وقيل: يجمع الجنب
في لغة على أجناب؛ مثل عنق وأعناق، وطنب وأطناب. ومن قال للواحد جانب قال في
الجمع: جناب؛ كقولك: راكب وركاب. والأصل البعد؛ كأن الجنب بعد بخروج الماء الدافق
عن حال الصلاة؛ قال:
فلا
تحرمي نائلا عن جنابة فإني امرؤ وسط القباب غريب
ورجل
جنب: غريب. والجنابة مخالطة الرجل المرأة.
والجمهور
من الأمة على أن الجنب هو غير الطاهر من إنزال أو مجاوزة ختان. وروي عن بعض
الصحابة ألا غسل إلا من إنزال؛ لقوله عليه السلام: ( إنما الماء من الماء ) أخرجه مسلم. وفي البخاري عن
أبي بن كعب أنه قال: يا رسول الله، إذا جامع الرجل المرأة فلم ينزل ؟ قال: ( يغسل ما مس المرأة من ثم
يتوضأ ويصلي ) . قال
أبو عبدالله: الغسل أحوط؛ وذلك الآخر إنما بيناه لاختلافهم. وأخرجه مسلم في صحيحه
بمعناه، وقال في آخره: قال أبو العلاء بن الشخير كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
ينسخ حديثه بعضه بعضا كما ينسخ القرآن بعضه بعضا. قال أبو إسحاق: هذا منسوخ. وقال
الترمذي: كان هذا الحكم في أول الإسلام ثم نسخ.
قلت: على
هذا جماعة العلماء من الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار، وأن الغسل يجب بنفس
التقاء الختانين. وقد كان فيه خلاف بين الصحابة ثم رجعوا فيه إلى رواية عائشة عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا
جلس بين شعبها الأربع ومس الختان الختان منه وجب الغسل ) . أخرجه مسلم. وفي الصحيحين
من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا قعد بين شعبها الأربع ثم
جهدها فقد وجب عليه الغسل ) . زاد
مسلم ( وإن
لم ينزل ) . وقال
ابن القصار: وأجمع التابعون ومن بعدهم بعد خلاف من قبلهم على الأخذ بحديث ( إذا التقى الختانان ) وإذا صح الإجماع بعد الخلاف
كان مسقطا للخلاف. قال القاضي عياض: لا نعلم أحدا قال به بعد خلاف الصحابة إلا ما
حكي عن الأعمش ثم بعده داود الأصبهاني. وقد روي أن عمر رضي الله عنه حمل الناس على
ترك الأخذ بحديث ( الماء
من الماء ) لما
اختلفوا. وتأوله ابن عباس على الاحتلام؛ أي إنما يجب الاغتسال بالماء من إنزال
الماء في الاحتلام. ومتى لم يكن إنزال وإن رأى أنه يجامع فلا غسل. وهذا ما لا خلاف
فيه بين كافة العلماء.
قوله
تعالى: « إلا
عابري سبيل » يقال:
عبرت الطريق أي قطعته من جانب إلى جانب. وعبرت النهر عبورا، وهذا عبر النهر أي
شطه، ويقال: عبر بالضم. والمعبر ما يعبر عليه من سفينة أو قنطرة. وهذا عابر السبيل
أي مار الطريق. وناقة عبر أسفار: لا تزال يسافر عليها ويقطع بها الفلاة والهاجرة
لسرعة مشيها. قال الشاعر:
عيرانة
سرح اليدين شملة عبر الهواجر كالهزف الخاضب
وعبر
القوم ماتوا. وأنشد:
قضاء
الله يغلب كل شيء ويلعب بالجزوع وبالصبور
فإن نعبر
فإن لنا لمات وإن نغبر فنحن على نذور
يقول: إن
متنا فلنا أقران، وإن بقينا فلا بد لنا من الموت؛ حتى كأن علينا في إتيانه نذورا.
واختلف
العلماء في قوله: « إلا
عابري سبيل » فقال
علي رضي الله عنه وابن عباس وابن جبير ومجاهد والحكم: عابر السبيل المسافر. ولا
يصح لأحد أن يقرب الصلاة وهو جنب إلا بعد الاغتسال، إلا المسافر فإنه يتيمم؛ وهذا
قول أبي حنيفة؛ لأن الغالب في الماء لا يعدم في الحضر؛ فالحاضر يغتسل لوجود الماء،
والمسافر يتيمم إذا لم يجده. قال ابن المنذر: وقال أصحاب الرأي في الجنب المسافر
يمر على مسجد فيه عين ماء يتيمم الصعيد ويدخل المسجد ويستقي منها ثم يخرج الماء من
المسجد. ورخصت طائفة في دخول الجنب المسجد. واحتج بعضهم بقول النبي صلى الله عليه
وسلم: (
المؤمن ليس بنجس ) . قال
ابن المنذر: وبه نقول. وقال ابن عباس أيضا وابن مسعود وعكرمة والنخعي: عابر السبيل
الخاطر المجتاز؛ وهو قول عمرو بن دينار ومالك والشافعي. وقالت طائفة: لا يمر الجنب
في المسجد إلا ألا يجد بدا فيتيمم ويمر فيه؛ هكذا قال الثوري وإسحاق بن راهويه.
وقال أحمد وإسحاق في الجنب: إذا توضأ لا بأس أن يجلس في المسجد حكاه ابن المنذر.
وروى بعضهم في سبب الآية أن قوما من الأنصار كانت أبواب دورهم شارعة في المسجد،
فإذا أصاب أحدهم الجنابة أضطر إلى المرور في المسجد.
قلت:
وهذا صحيح؛ يعضده ما رواه أبو داود عن جسرة بنت دجاجة قالت: سمعت عائشة رضي الله
عنها تقول: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجوه بيوت أصحابه شارعة في المسجد؛
فقال: ( وجهوا
هذه البيوت عن المسجد ) . ثم
دخل النبي صلى الله عليه وسلم ولم يصنع القوم شيئا رجاء أن تنزل لهم رخصة فخرج
إليهم فقال: ( وجهوا
هذه البيوت عن المسجد فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب ) . وفي صحيح مسلم: ( لا تبقين في المسجد خوخة إلا
خوخة أبي بكر ) . فأمر
صلى الله عليه وسلم بسد الأبواب لما كان يؤدي ذلك إلى اتخاذا المسجد طريقا والعبور
فيه. واستثنى خوخة أبي بكر إكراما له وخصوصية؛ لأنهما كانا لا يفترقان غالبا. وقد
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن أذن لأحد أن يمر في المسجد ولا يجلس
فيه إلا علي بن أبي طالب رضي الله عنه. ورواه عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما ينبغي لمسلم ولا يصلح أن يجنب في المسجد إلا أنا وعلي ) . قال علماؤنا: وهذا يجوز أن
يكون ذلك؛ لأن بيت علي كان في المسجد، كما كان بيت النبي صلى الله عليه وسلم في
المسجد، وإن كان البيتان لم يكونا في المسجد ولكن كانا متصلين بالمسجد وأبوابهما
كانت في المسجد فجعلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد فقال: ( ما ينبغي لمسلم ) الحديث. والذي يدل على أن بيت
علي كان في المسجد ما رواه ابن شهاب عن سالم بن عبدالله قال: سأل رجل أبي عن علي
وعثمان رضي الله عنهما أيهما كان خيرا ؟ فقال له عبدالله بن عمر: هذا بيت رسول الله
صلى الله عليه وسلم ! وأشار إلى بيت علي إلى جنبه، لم يكن في المسجد غيرهما؛ وذكر
الحديث. فلم يكونا يجنبان في المسجد وإنما كانا يجنبان في بيوتهما، وبيوتهما من
المسجد إذ كان أبوابهما فيه؛ فكانا يستطرقانه في حال الجنابة إذا خرجا من بيوتهما.
ويجوز أن يكون ذلك تخصيصا لهما؛ وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم خص بأشياء،
فيكون هذا مما خص به، ثم خص النبي صلى الله عليه وسلم عليا عليه السلام فرخص له في
ما لم يرخص فيه لغيره. وإن كانت أبواب بيوتهم في المسجد، فإنه كان في المسجد أبواب
بيوت غير بيتيهما؛ حتى أمر النبي صلى الله عليه وسلم بسدها إلا باب علي. وروى عمرو
بن ميمون عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( سدوا الأبواب إلا باب علي ) فخصه عليه السلام بأن ترك
بابه في المسجد، وكان يجنب في بيته وبيته في المسجد. وأما قوله: ( لا تبقين في المسجد خوخة إلا
خوخة أبي بكر ) فإن
ذلك كانت - والله أعلم - أبوابا تطلع إلى المسجد خوخات، وأبواب البيوت خارجة من
المسجد؛ فأمر عليه السلام بسد تلك الخوخات وترك خوخة أبي بكر إكراما له. والخوخات
كالكوى والمشاكي، وباب علي كان باب البيت الذي كان يدخل منه ويخرج. وقد فسر ابن
عمر ذلك بقوله: ولم يكن في المسجد غيرهما. فإن قيل: فقد ثبت عن عطاء بن يسار أنه
قال: كان رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تصيبهم الجنابة فيتوضؤون ويأتون
المسجد فيتحدثون فيه. وهذا يدل على أن اللبث في المسجد للجنب جائز إذا توضأ؛ وهو
مذهب أحمد وإسحاق كما ذكرنا. فالجواب أن الوضوء لا يرفع حدث الجنابة، وكل موضع وضع
للعبادة وأكرم عن النجاسة الظاهرة ينبغي ألا يدخله من لا يرضى لتلك العبادة، ولا
يصح له أن يتلبس بها. والغالب من أحوالهم المنقولة أنهم كانوا يغتسلون في بيوتهم.
فإن قيل: يبطل بالمحدث. قلنا: ذلك يكثر وقوعه فيشق الوضوء منه؛ وفي قوله تعالى: « ولا جنبا إلا عابري سبيل » ما يغني ويكفي. وإذا كان لا
يجوز له اللبث في المسجد فأحرى ألا يجوز له مس المصحف ولا القراءة فيه؛ إذ هو أعظم
حرمة. وسيأتي بيانه في «
الواقعة » إن شاء
الله تعالى.
ويمنع
الجنب عند علمائنا من قراءة القرآن غالبا إلا الآيات اليسيرة للتعوذ. وقد روى موسى
بن عقبة عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا يقرأ الجنب والحائض شيئا
من القرآن ) أخرجه
ابن ماجة. وأخرج الدارقطني من حديث سفيان عن مسعر، وشعبة عن عمرو بن مرة عن
عبدالله بن سلمة عن علي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحجبه عن قراءة
القرآن شيء إلا أن يكون جنبا. قال سفيان: قال لي شعبة: ما أحدث بحديث أحسن منه.
وأخرجه ابن ماجة قال: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن
عمرو بن مرة؛ فذكره بمعناه، وهذا إسناد صحيح. وعن ابن عباس، عن عبدالله بن رواحة
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يقرأ أحدنا القرآن وهو جنب؛ أخرجه
الدارقطني. وروى عن عكرمة قال: كان ابن رواحة مضطجعا إلى جنب امرأته فقام إلى
جارية له في ناحية الحجرة فوقع عليها؛ وفزعت امرأته فلم تجده في مضجعه، فقامت فخرجت
فرأته على جاريته، فرجعت إلى البيت فأخذت الشفرة ثم خرجت، وفرغ فقام فلقيها تحمل
الشفرة فقال مهيم ؟ قالت: مهيم ! لو أدركتك حيث رأيتك لوجأت بين كتفيك بهذه
الشفرة. قال: وأين رأيتني ؟ قالت: رأيتك على الجارية؛ فقال: ما رأيتني؛ وقد نهى
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرأ أحدنا القرآن وهو جنب. قالت: فأقرأ، وكانت
لا تقرأ القرآن، فقال:
أتانا
رسول الله يتلوا كتابه كما لاح مشهور من الفجر ساطع
أتى
بالهدى بعد العمى فقلوبنا به موقنات أن ما قال واقع
يبيت
يجافي جنبه عن فراشه إذا استثقلت بالمشركين المضاجع
فقالت:
آمنت بالله وكذبت البصر. ثم غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره؛ فضحك
حتى بدت نواجذه صلى الله عليه وسلم.
قوله
تعالى: « حتى
تغتسلوا » نهى
الله سبحانه وتعالى عن الصلاة إلا بعد الاغتسال؛ والاغتسال معنى معقول، ولفظه عند
العرب معلوم، يعبر به عن إمرار اليد مع الماء على المغسول؛ ولذلك فرقت العرب بين
قولهم: غسلت الثوب، وبين قولهم: أفضت عليه الماء وغمسته في الماء. إذا تقرر هذا
فاعلم أن العلماء اختلفوا في الجنب يصب على جسده الماء أو ينغمس فيه ولا يتدلك؛
فالمشهور من مذهب مالك أنه لا بجزئه حتى يتدلك؛ لأن الله سبحانه وتعالى أمر الجنب
بالاغتسال، كما أمر المتوضئ بغسل وجهه ويديه؛ ولم يكن للمتوضئ بد من إمرار يديه مع
الماء على وجهه ويديه، فكذلك جميع جسد الجنب ورأسه في حكم وجه المتوضئ ويديه. وهذا
قول المزني واختياره. قال أبو الفرج عمرو بن محمد المالكي: وهذا هو المعقول من لفظ
الغسل؛ لأن الاغتسال في اللغة هو الافتعال، ومن لم يمر فلم يفعل غير صب الماء لا
يسميه أهل اللسان غاسلا، بل يسمونه صابا للماء ومنغمسا فيه. قال: وعلى نحو هذا
جاءت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( تحت كل شعرة جنابة فاغسلوا
الشعر واتقوا البشرة ) قال:
وإنقاؤه - والله أعلم - لا يكون إلا بتتبعه؛ على حد ما ذكرنا.
قلت: لا
حجة فيما استدل به من الحديث لوجهين: أحدهما: أنه قد خولف في تأويله؛ قال سفيان بن
عيينة: المراد بقوله عليه السلام ( وأنقوا البشرة ) أراد غسل الفرج وتنظيفه، وأنه كنى بالبشرة عن الفرج. قال
ابن وهب: ما رأيت أحدا أعلم بتفسير الأحاديث من ابن عيينة.
الثاني:
إن الحديث أخرجه أبو داود في سننه وقال فيه: وهذا الحديث ضعيف؛ كذا في رواية ابن
داسة. وفي رواية اللؤلئي عنه: الحارث بن وجيه ضعيف، حديثه منكر؛ فسقط الاستدلال
بالحديث، وبقي المعول على اللسان كما بينا. ويعضده ما ثبت في صحيح الحديث أن النبي
صلى الله عليه وسلم أتي بصبي فبال عليه، فدعا بماء فأتبعه بول ولم يغسله؛ روته
عائشة، ونحوه عن أم قيس بنت محصن؛ أخرجهما مسلم. وقال الجمهور من العلماء وجماعة
الفقهاء: يجزئ الجنب صب الماء والانغماس فيه إذا أسبغ وعم وإن لم يتدلك؛ على مقتضى
حديث ميمونة وعائشة في غسل النبي صلى الله عليه وسلم. رواهما الأئمة، وأن النبي
صلى الله عليه وسلم كان يفيض الماء على جسده؛ وبه قال محمد بن عبدالحكم، وإليه رجع
أبو الفرج ورواه عن مالك؛ قال: وإنما أمر بإمرار اليدين في الغسل لأنه لا يكاد من
لم يمر يديه عليه يسلم من تنكب الماء عن بعض ما يجب عليه من جسده. وقال ابن
العربي: وأعجب لأبي الفرج الذي روى وحكى عن صاحب المذهب أن الغسل دون ذلك يجزئ !
وما قاله قط مالك نصا ولا تخريجا، وإنما هي من أوهامه.
قلت: قد
روي هذا عن مالك نصا؛ قال مروان بن محمد الظاهري وهو ثقة من ثقات الشاميين: سألت
مالك بن أنس عن رجل انغمس في ماء وهو جنب ولم يتوضأ، قال: مضت صلاته. قال أبو عمر:
فهذه الرواية فيها لم يتدلك ولا توضأ، وقد أجزأه عند مالك. والمشهور من مذهبه أنه
لا يجزئه حتى يتدلك؛ قياسا عل غسل الوجه واليدين. وحجة الجماعة أن كل من صب عليه
الماء فقد اغتسل. والعرب تقول: غسلتني السماء. وقد حكت عائشة وميمونة صفة غسل رسول
الله صلى الله عليه وسلم ولم يذكرا تدلكا، ولو كان واجبا ما تركه؛ لأنه المبين عن
الله مراده، ولو فعله لنقل عنه؛ كما نقل تخليل أصول شعره بالماء وغرفه على رأسه،
وغير ذلك من صفة غسله ووضوئه عليه السلام. قال أبو عمر: وغير نكير أن يكون الغسل
في لسان العرب مرة بالعرك ومرة بالصب والإفاضة؛ وإذا كان هذا فلا يمتنع أن يكون
الله جل وعز تعبد عباده في الوضوء بإمرار أيديهم على وجوههم مع الماء ويكون ذلك
غسلا، وأن يفيضوا الماء على أنفسهم في غسل الجنابة والحيض، ويكون ذلك غسلا موافقا
للسنة غير خارج من اللغة، ويكون كل واحد من الأمرين أصلا في نفسه، لا يجب أن يرد
أحدهما إلى صاحبه؛ لأن الأصول لا يرد بعضها إلى بعض قياسا - وهذا ما لا خلاف فيه
بين علماء الأمة. وإنما ترد القروع قياسا على الأصول. وبالله التوفيق.
?
حديث
ميمونة وعائشة يرد ما رواه شعبة مولى ابن عباس عن ابن عباس أنه كان إذا اغتسل من
الجنابة غسل يديه سبعا وفرجه سبعا. وقد روي عن ابن عمر قال: كانت الصلاة خمسين،
والغسل من الجنابة سبع مرار، وغسل البول من الثوب سبع مرار؛ فلم يزل رسول الله صلى
الله عليه وسلم يسأل حتى جعلت الصلاة خمسا، والغسل من الجنابة مرة، والغسل من
البول مرة. قال ابن عبدالبر: وإسناد هذا الحديث عن ابن عمر فيه ضعف ولين، وإن كان
أبو داود قد خرجه والذي قبله عن شعبة مولى ابن عباس، وشعبة هذا ليس بالقوي، ويرهما
حديث عائشة وميمونة.
ومن لم
يستطع إمرار يده على جسده فقد قال سحنون: يجعل من يلي ذلك منه، أو يعالجه بخرقه.
وفي الواضحة: يمر يديه على ما يدركه من جسده، ثم يفيض الماء حتى يعم ما لم تبلغه
يداه.
واختلف
قول مالك في تخليل الجنب لحيته؛ فروى ابن القاسم عنه أنه قال: ليس عليه ذلك. وروى
أشهب عنه أن عليه ذلك. قال ابن عبدالحكم: ذلك هو أحب إلينا؛ لأن رسول الله صلى
الله عليه وسلم كان يخلل شعره في غسل الجنابة، وذلك عام وإن كان الأظهر فيه شعر
رأسه؛ وعلى هذين القولين العلماء. ومن جهة المعنى أن استيعاب جميع الجسد في الغسل
واجب، والبشرة التي تحت اللحية من جملته؛ فوجب إيصال الماء إليها ومباشرتها باليد.
وإنما انتقل الفرض إلى الشعر في الطهارة الصغرى لأنها مبنية على التخفيف، ونيابة
الأبدال فيها من غير ضرورة؛ ولذلك جاز فيها المسح على الخفين ولم يجز في الغسل.
قلت:
ويعضد. هذا قوله صلى الله عليه وسلم: ( تحت كل شعرة جنابة ) .
وقد بالغ
قوم فأوجبوا المضمضة والاستنشاق؛ لقوله تعالى: « حتى تغتسلوا » منهم أبو حنيفة؛ ولأنهما من جملة الوجه وحكمهما حكم ظاهر
الوجه كالخد والجبين، فمن تركهما أعاد كمن ترك لمعة، ومن تركهما في وضوئه فلا
إعادة عليه. وقال مالك: ليستا بفرض لا في الجنابة ولا في الوضوء؛ لأنهما باطنان
فلا يجب كداخل الجسد. وبذلك قال محمد بن جرير الطبري والليث بن سعد والأوزاعي
وجماعة من التابعين. وقال ابن أبي ليلى وحماد بن أبي سليمان: هما فرض في الوضوء
والغسل جميعا؛ وهو قول إسحاق وأحمد بن حنبل وبعض أصحاب داود. وروي عن الزهري وعطاء
مثل هذا القول. وروي عن أحمد أيضا أن المضمضة سنة والاستنشاق فرض؛ وقال به بعض
أصحاب داود. وحجة من لم يوجبهما أن الله سبحانه لم يذكرهما في كتابه، ولا أوجبهما
رسوله ولا اتفق الجميع عليه؛ والفرائض لا تثبت إلا بهذه الوجوه. احتج من أوجبهما
بالآية، وقوله تعالى: «
فاغسلوا وجوهكم » فما وجب
في الواحد من الغسل وجب في الآخر، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يحفظ عنه أنه ترك
المضمضة والاستنشاق في وضوئه ولا في غسله من الجنابة؛ وهو المبين عن الله مراده
قولا وعملا. احتج من فرق بينهما بأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل المضمضة ولم
يأمر بها، وأفعاله مندوب إليها ليست بواجبة إلا بدليل، وفعل الاستنشاق وأمر به؛
وأمره على الوجوب أبدا.
قال
علماؤنا: ولا بد في غسل الجنابة من النية؛ لقوله تعالى: « حتى تغتسلوا » وذلك يقتضي النية؛ وبه قال
مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور، وكذلك الوضوء والتيمم. وعضدوا هذا وبقوله
تعالى: « وما
أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين » [
البينة: 5 ]
والإخلاص النية في التقرب إلى الله تعالى، والقصد له بأداء ما افترض على عباده
المؤمنين، وقال عليه السلام: ( إنما
الأعمال بالنيات ) وهذا
عمل. وقال الأوزاعي والحسن: يجزئ الوضوء والتيمم بغير نية. وقال أبو حنيفة
وأصحابه: كل طهارة بالماء فإنها تجزئ بغير نية، ولا يجزئ التيمم إلا بنية؛ قياسا
على إزالة النجاسة بالإجماع من الأبدان والثياب بغير نية. ورواه الوليد بن مسلم عن
مالك.
وأما قدر
الماء الذي يغتسل به؛ فروى مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة أم
المؤمنين رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغتسل من إناء هو
الفرق من الجنابة. « الفرق
» تحرك
راؤه وتسكن. قال ابن وهب: « الفرق
» مكيال
من الخشب، كان ابن شهاب يقول: إنه يسع خمسة أقساط بأقساط بني أمية. وقد فسر محمد
بن عيسى الأعشى « الفرق
» فقال:
ثلاثة آصع، قال: وهي خمسة أقساط، قال: وفي الخمسة أقساط اثنا عشر مدا بمد النبي
صلى الله عليه وسلم. وفي صحيح مسلم قال سفيان: « الفرق » ثلاثة
آصع. وعن أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع إلى
خمسة أمداد. وفي رواية: يغتسل بخمسة مكاكيك ويتوضأ بمكوك. وهذه الأحاديث تدل على
استحباب تقليل الماء من غير كيل ولا وزن، يأخذ منه الإنسان بقدر ما يكفي ولا يكثر
منه، فإن الإكثار منه سرف والسرف مذموم. ومذهب الأباضية الإكثار من الماء، وذلك من
الشيطان.
قوله
تعالى: « وإن
كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء
فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم » هذه آية التيمم، نزلت في عبدالرحمن بن عوف أصابته جنابة وهو
جريح؛ فرخص له في أن يتيمم، ثم صارت الآية عامة في جميع الناس. وقيل: نزلت بسبب
عدم الصحابة الماء في غزوة «
المريسيع » حين
انقطع العقد لعائشة. أخرج الحديث مالك من رواية عبدالرحمن بن القاسم عن أبيه عن
عائشة. وترجم البخاري هذه الآية في كتاب التفسير: حدثنا محمد قال: أخبرنا عبدة، عن
هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: هلكت قلادة لأسماء فبعث
النبي صلى الله عليه وسلم في طلبها رجالا، فحضرت الصلاة وليسوا على وضوء ولم يجدوا
ماء فصلوا وهم على غير وضوء؛ فأنزل الله تعالى آية التيمم.
قلت:
وهذه الرواية ليس فيها ذكر للموضع، وفيها أن القلادة كانت لأسماء؛ خلاف حديث مالك.
وذكر النسائي من رواية علي بن مسهر عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها استعارت
من أسماء قلادة لها وهي في سفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنسلت منها وكان
ذلك المكان يقال له الصلصل؛ وذكر الحديث. ففي هذه الرواية عن هشام أن القلادة كانت
لأسماء، وأن عائشة استعارتها من أسماء. وهذا بيان لحديث مالك إذا قال: انقطع عقد
لعائشة، ولحديث البخاري إذ قال: هلكت قلادة لأسماء. وفيه أن المكان يقال له
الصلصل. وأخرجه الترمذي حدثنا الحميدي، حدثنا سفيان، حدثنا هشام بن عروة عن أبيه،
عن عائشة أنها سقطت قلادتها ليلة الأبواء، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم
رجلين في طلبها؛ وذكر الحديث. ففي هذه الرواية عن هشام أيضا إضافة القلادة إليها،
لكن إضافة مستعير بدليل حديث النسائي. وقال في المكان: « الأبواء » كما قال مالك، إلا أنه من غير
شك. وفي حديث مالك قال: وبعثنا البعير الذي كنت عليه فوجدنا العقد تحته. وجاء في
البخاري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجده. وهذا كله صحيح المعنى، وليس
اختلاف النقلة في العقد والقلادة ولا في الموضع ما يقدح في الحديث ولا يوهن شيئا
منه؛ لأن المعنى المراد من الحديث والمقصود به إليه هو نزول التيمم، وقد ثبتت
الروايات في أمر القلادة. وأما قوله في حديث الترمذي: فأرسل رجلين قيل: أحدهما
أسيد بن حضير. ولعلهما المراد بالرجال في حديث البخاري فعبر عنهما بلفظ الجمع، إذ
أقل الجمع اثنان، أو أردف في أثرهما غيرهما فصح إطلاق اللفظ والله أعلم. فبعثوا في
طلبها فطلبوا فلم يجدوا شيئا في وجهتهم، فلما رجعوا أثاروا البعير فوجدوه تحته.
وقد روي أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابتهم جراحة ففشت فيهم ثم ابتلوا
بالجنابة فشكوا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية. وهذا أيضا ليس
بخلاف لما ذكرنا؛ فإنهم ربما أصابتهم الجراحة في غزوتهم تلك التي قفلوا منها إذ
كان فيها قتال فشكوا، وضاع العقد ونزلت الآية. وقد قيل: إن ضياع العقد كان في غزاة
بني المصطلق. وهذا أيضا ليس بخلاف لقول من قال في غزاة المريسيع، إذ هي غزاة
واحدة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم غزا بني المصطلق في شعبان من السنة السادسة
من الهجرة، على ما قال خليفة بن خياط وأبو عمر بن عبدالبر، واستعمل على المدينة
أبا ذر الغفاري. وقيل: بل نميلة بن عبدالله الليثي. وأغار رسول الله صلى الله عليه
وسلم على بني المصطلق وهم غارون، وهم على ماء يقال له المريسيع من ناحية قديد مما
يلي الساحل فقتل من قتل وسبى من سبى من النساء والذرية وكان شعارهم يومئذ: أمت
أمت. وقد قيل: إن بني المصطلق جمعوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأرادوه، فلما
بلغه ذلك خرج إليهم فلقيهم على ماء. فهذا ما جاء في بدء التيمم والسبب فيه. وقد
قيل: إن آية المائدة آية التيمم، على ما يأتي بيانه هناك. قال أبو عمر: فأنزل الله
تعالى آية التيمم، وهي آية الوضوء المذكورة في سورة « المائدة » ، أو الآية التي في سورة « النساء » . ليس التيمم مذكورا في غير
هاتين الآيتين وهما مدنيتان.
قوله
تعالى: « مرضى » المرض عبارة عن خروج البدن عن
حد الاعتدال والاعتياد، إلى الاعوجاج والشذوذ. وهو على ضربين: كثير ويسير؛ فإذا
كان كثيرا بحيث يخاف الموت لبرد الماء، أو للعلة التي به، أو يخاف فوت بعض
الأعضاء، فهذا يتيمم بإجماع؛ إلا ما روي عن الحسن وعطاء أنه يتطهر وإن مات. وهذا
مردود بقوله تعالى: « وما
جعل عليكم في الدين من حرج » [ الحج: 78 ] وقوله تعالى: « ولا تقتلوا أنفسكم » [ النساء:29 ] . وروى الدارقطني عن سعيد بن
جبير عن ابن عباس في قوله عز وجل: « وإن كنتم مرضى أو على سفر » قال: إذا كانت بالرجل الجراحة في سبيل الله أو القروح أو
الجدري فيجنب فخاف أن يموت إن اغتسل، تيمم. وعن سعد بن جبير أيضا عن ابن عباس قال:
رخص للمريض في التيمم بالصعيد. وتيمم عمرو بن العاص لما خاف أن يهلك من شدة البرد
ولم يأمره صلى الله عليه وسلم بغسل ولا إعادة. فإن كان يسيرا إلا أنه يخاف معه
حدوث علة أو زيادتها أو بطء برء فهؤلاء يتيممون بإجماع من المذهب. قال ابن عطية:
فيما حفظت.
قلت: قد
ذكر الباجي فيه خلافا؛ قال القاضي أبو الحسن: مثل أن يخاف الصحيح نزلة أو حمى،
وكذلك إن كان المريض يخاف زيادة مرض؛ وبنحو ذلك قال أبو حنيفة. وقال الشافعي: لا
يجوز له التيمم مع وجود الماء إلا أن يخاف التلف؛ ورواه القاضي أبو الحسن عن مالك.
قال ابن العربي: « قال
الشافعي لا يباح التيمم للمريض إلا إذا خاف التلف؛ لأن زيادة المرض غير متحققة؛
لأنها قد تكون وقد لا تكون، ولا يجوز ترك الفرض المتيقن للخوف المشكوك. قلنا: قد
ناقضت؛ فإنك قلت إذا خاف التلف من البرد تيمم؛ فكما يبيح التيمم خوف التلف كذلك،
يبيحه خوف المرض؛ لأن المرض محذور كما أن التلف محذور. قال: وعجبا للشافعي يقول:
لو زاد الماء على قدر قيمته حبة لم يلزمه شراؤه صيانة للمال ويلزمه التيمم، وهو
يخاف على بدنه المرض ! وليس لهم عليه كلام يساوي سماعه » .
قلت:
الصحيح من قول الشافعي فيما قال القشيري أبو نصر عبدالرحيم في تفسيره: والمرض الذي
يباح له التيمم هو الذي يخاف فيه فوت الروح أو فوات بعض الأعضاء لو استعمل الماء.
فإن خاف طول المرض فالقول الصحيح للشافعي: جواز التيمم. روى أبو داود والدارقطني،
عن يحيى بن أيوب، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عمران بن أبي أنس، عن عبدالرحمن بن
جبير، عن عمرو بن العاص قال: احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل فأشفقت إن
اغتسلت أن أهلك؛ فتيممت ثم صليت بأصحابي الصبح؛ فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله
عليه وسلم فقال يا عمرو: ( صليت
بأصحابك وأنت جنب ) ؟
فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال وقلت: إني سمعت الله عز وجل يقول: « ولا تقتلوا أنفسكم إن الله
كان بكم رحيما » [ النساء: 29 ] فضحك نبي الله صلى الله عليه
وسلم ولم يقل شيئا. فدل هذا الحديث على إباحة التيمم مع الخوف لا مع اليقين، وفيه
إطلاق اسم الجنب على المتيمم وجواز صلاة المتيمم بالمتوضئين؛ وهذا أحد القولين
عندنا؛ وهو الصحيح وهو الذي أقرأه مالك في موطئه وقرئ عليه إلى أن مات. والقول
الثاني: أنه لا يصلي؛ لأنه أنقص فضيلة من المتوضئ، وحكم الإمام أن يكون أعلى رتبة؛
وقد روى الدارقطني من حديث جابر بن عبدالله قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: ( لا
يؤم المتيمم المتوضئين ) إسناده
ضعيف. وروى أبو داود والدارقطني عن جابر قال: خرجنا في سفر فأصاب رجلا منا حجر
فشجه في رأسه ثم احتلم، فسأل أصحابه هل تجدون لي رخصة في التيمم ؟ فقالوا: ما نجد
لك رخصة وأنت تقدر على الماء؛ فاغتسل فمات، فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه
وسلم أخبر بذلك فقال: ( قتلوه
قتلهم الله ألا سألوا إذ لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال وإنما كان يكفيه أن
يتيمم ويعصر أو يعصب - شك موسى - على جرحه خرقة ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده ) . قال الدارقطني: « قال أبو بكر هذه سنة تفرد بها
أهل مكة وحملها أهل الجزيرة، ولم يروه عن عطاء عن جابر غير الزبير بن خريق، وليس
بالقوي، وخالفه الأوزاعي فرواه عن عطاء عن ابن عباس وهو الصواب. واختلف عن
الأوزاعي فقيل عنه عن عطاء، وقيل عنه: بلغني عن عطاء، وأرسل الأوزاعي آخره عن عطاء
عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو الصواب. وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي وأبا زرعة
عنه فقالا: رواه ابن أبي العشرين، عن الأوزاعي، عن إسماعيل بن مسلم، عن عطاء، عن
ابن عباس، وأسند الحديث » . وقال
داود: كل من انطلق عليه اسم المريض فجائز له التيمم؛ لقوله تعالى: « وإن كنتم مرضى » . قال ابن عطية: وهذا قول خلف،
وإنما هو عند علماء الأمة لمن خاف من استعمال الماء أو تأذيه به كالمجدور
والمحصوب، والعلل المخوف عليها من الماء؛ كما تقدم عن ابن عباس.
قوله
تعالى: « أو على
سفر » يجوز
التيمم بسبب السفر طال أو قصر عند عدم الماء، ولا يشترط أن يكون مما تقصر فيه
الصلاة؛ هذا مذهب مالك وجمهور العلماء. وقال قوم: لا يتيمم إلا في سفر تقصر فيه
الصلاة. واشترط آخرون أن يكون سفر طاعة. وهذا كله ضعيف. والله أعلم.
أجمع
العلماء على جواز التيمم في السفر حسبما ذكرنا، واختلفوا فيه في الحضر؛ فذهب مالك
وأصحابه إلى أن التيمم في الحضر والسفر جائز؛ وهو قول أبي حنيفة ومحمد. وقال
الشافعي: لا يجوز للحاضر الصحيح أن يتيمم إلا أن يخاف التلف؛ وهو قول الطبري. وقال
الشافعي أيضا والليث والطبري: إذا عدم الماء في الحضر مع خوف الوقت الصحيح والسقيم
تيمم وصلى الله عليه وسلم ثم أعاد. وقال أبو يوسف وزفر: لا يجوز التيمم في الحضر
لا لمرض ولا لخوف الوقت وقال الحسن وعطاء: لا يتيمم المريض إذا وجد الماء، لا غير
المريض. وسبب الخلاف اختلافهم في مفهوم الآية؛ فقال مالك ومن تابعه: ذكر الله
تعالى المرضى والمسافرين في شرط التيمم خرج على الأغلب فيمن لا يجد الماء،
والحاضرون الأغلب عليهم وجوده فلذلك لم ينص عليهم. فكل من لم يجد الماء أو منعه
منه مانع أو خاف فوات وقت الصلاة، تيمم المسافر بالنص، والحاضر بالمعنى. وكذلك
المريض بالنص والصحيح بالمعنى. وأما من منعه في الحضر فقال: إن الله تعالى جعل
التيمم رخصة للمريض والمسافر؛ كالفطر وقصر الصلاة، ولم يبح التيمم إلا بشرطين،
وهما المرض والسفر؛ فلا دخول للحاضر الصحيح في ذلك لخروجه من شرط الله تعالى. وأما
قول الحسن وعطاء الذي منعه جملة مع وجود الماء فقال: إنما شرطه الله تعالى مع عدم
الماء، لقوله تعالى: « فلم
يجدوا ماء فتيمموا » فلم يبح
التيمم لأحد إلا عند فقد الماء. وقال أبو عمر: ولولا قول الجمهور وما روي من الأثر
لكان قول الحسن وعطاء صحيحا؛ والله أعلم. وقد أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم
التيمم لعمرو بن العاص وهو مسافر إذ خاف الهلاك إن اغتسل بالماء، فالمريض أحرى
بذلك. قلت: ومن الدليل على جواز التيمم في الحضر إذا خاف فوات الصلاة إن ذهب إلى
الماء الكتاب والسنة:
أما
الكتاب فقوله سبحانه: « أو جاء
أحد منكم من الغائط » يعني المقيم
إذا عدم الماء تيمم. نص عليه القشيري عبدالرحيم قال: ثم يقطع النظر في وجوب
القضاء؛ لأن عدم الماء في الحضر عذر نادر وفي القضاء قولان:
قلت:
وهكذا نص أصحابنا فيمن تيمم في الحضر، فهل يعيد إذا وجد الماء أم لا؛ المشهور من
مذهب مالك أنه لا يعيد وهو الصحيح. وقال ابن حبيب ومحمد بن عبدالحكم. يعيد أبدا؛
ورواه ابن المنذر عن مالك. وقال الوليد عنه: يغتسل وإن طلعت الشمس. وأما السنة فما
رواه البخاري عن أبي الجهيم بن الحارث بن الصمة الأنصاري قال: أقبل النبي صلى الله
عليه وسلم من نحو « بئر
جمل » فلقيه
رجل فسلم عليه فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم حتى أقبل على الجدار فمسح
بوجهه ويديه، ثم رد عليه السلام. وأخرجه مسلم وليس فيه لفظ « بئر » . وأخرجه الدارقطني من حديث
ابن عمر وفيه « ثم رد
على الرجل السلام وقال: ( إنه
لم يمنعني أن أرد عليك السلام إلا أني لم أكن على طهر » .
قوله
تعالى: « أو جاء أحد منكم من الغائط » الغائط أصله ما انخفض من الأرض، والجمع
الغيطان أو الأغواط؛ وبه سمي غوطة دمشق. وكانت العرب تقصد هذا الصنف من المواضع
لقضاء حاجتها تسترا عن أعين الناس، ثم سمي الحدث الخارج من الإنسان غائطا
للمقارنة. وغاط في الأرض يغوط إذا غاب.
وقرأ
الزهري: « من الغيط » فيحتمل أن يكون أصله الغيط فخفف، كهين وميت وشبهه. ويحتمل أن
يكون من الغوط؛ بدلالة قولهم تغوط إذا أتى الغائط، فقلبت واو الغوط ياء؛ كما قالوا
في لا حول لا حيل. و « أو » بمعنى الواو، أي إن كنتم مرضى أو على سفر وجاء أحد منكم
من الغائط فتيمموا فالسبب الموجب للتيمم على هذا هو الحدث لا المرض والسفر؛ فدل
على جواز التيمم في الحضر كما بيناه. والصحيح في « أو » أنها على بابها عند أهل
النظر. فلأو معناها، وللواو معناها. وهذا عندهم على الحذف، والمعنى وإن كنتم مرضى
مرضا لا تقدرون فيه على مس الماء أو على سفر ولم تجدوا ماء واحتجتم إلى الماء.
والله أعلم.
لفظ «
الغائط » يجمع بالمعنى جميع الأحداث الناقضة للطهارة الصغرى. وقد اختلف الناس في
حصرها، وأنبل ما قيل في ذلك أنها ثلاثة أنواع، لا خلاف فيها في مذهبنا: زوال
العقل، خارج معتاد، ملامسة. وعلى مذهب أبي حنيفة ما خرج من الجسد من النجاسات، ولا
يراعى المخرج ولا يعد اللمس. وعلى مذهب الشافعي ومحمد بن عبدالحكم ما خرج من
السبيلين، ولا يراعى الاعتياد، ويعد اللمس. وإذا تقرر هذا فاعلم أن المسلمين
أجمعوا على أن من زال عقله بإغماء أو جنون أو سكر فعليه الوضوء، واختلفوا في النوم
هل هو حدث كسائر الأحداث ؟ أو ليس بحدث أو مظنة حدث؛ ثلاثة أقوال: طرفان وواسطة.
الطرف
الأول: ذهب المزني أبو إبراهيم إسماعيل إلى أنه حدث، وأن الوضوء يجب بقليله وكثيره
كسائر الأحداث؛ وهو مقتضى قول مالك في الموطأ لقوله: ولا يتوضأ إلا من حدث يخرج من
ذكر أو دبر أو نوم. ومقتضى حديث صفوان بن عسال أخرجه النسائي والدارقطني والترمذي
وصححه. رووه جميعا من حديث عاصم بن أبي النجود عن زر بن حبيش فقال: أتيت صفوان بن
عسال المرادي فقلت: جئتك أسألك عن المسح على الخفين؛ قال: نعم كنت في الجيش الذي
بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرنا أن نمسح على الخفين إذا نحن أدخلناهما
على طهر ثلاثا إذا سافرنا، ويوما وليلة إذا أقمنا، ولا نخلعهما من بول ولا غائط
ولا نوم ولا نخلعهما إلا من جنابة. ففي هذا الحديث وقول مالك التسوية بين الغائط
والبول والنوم. قالوا: والقياس أنه لما كان كثيره وما غلب على العقل منه حدثا وجب
أن يكون قليله كذلك. وقد روي عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: ( وكاء
السنه العينان فمن نام فليتوضأ ) وهذا
عام. أخرجه أبو داود، وأخرجه الدارقطني من حديث معاوية بن أبي سفيان عن النبي صلى
الله عليه وسلم.
وأما
الطرف الآخر فروي عن أبي موسى الأشعري ما يدل على أن النوم عنده ليس بحدث على أي
حال كان، حتى يحدث النائم حدثا غير النوم؛ لأنه كان يوكل من يحرسه إذا نام. فإن لم
يخرج منه حدث قام من نومه وصلى الله عليه وسلم؛ وروي عن عبيدة وسعيد بن المسيب
والأوزاعي في رواية محمود بن خالد. والجمهور على خلاف هذين الطرفين. فأما جملة
مذهب مالك فإن كل نائم استثقل نوما، وطال نومه على أي حال كان، فقد وجب عليه
الوضوء؛ وهو قول الزهري وربيعة والأوزاعي في رواية الوليد بن مسلم. قال أحمد بن
حنبل: فإن كان النوم خفيفا لا يخامر القلب ولا يغمره لم يضر. وقال أبو حنيفة
وأصحابه: لا وضوء إلا على من نام مضطجعا أو متوركا. وقال الشافعي: من نام جالسا
فلا وضوء عليه؛ ورواه ابن وهب عن مالك. والصحيح من هذه الأقوال مشهور مذهب مالك؛
لحديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شغل عنها ليلة يعني العشاء فأخرها
حتى رقدنا في المسجد ثم استيقظنا ثم رقدنا ثم استيقظنا ثم خرج علينا النبي صلى
الله عليه وسلم ثم قال: ( ليس
أحد من أهل الأرض ينتظر الصلاة غيركم ) رواه الأئمة واللفظ للبخاري؛ وهو أصح ما في هذا الباب من جهة
الإسناد والعمل. وأما ما قاله مالك في موطئه وصفوان بن عسال في حديثه فمعناه: ونوم
ثقيل غالب على النفس؛ بدليل هذا الحديث وما كان في معناه. وأيضا فقد روى حديث
صفوان وكيع عن مسعر عن عاصم بن أبي النجود فقال: ( أو ريح ) بدل ( أو نوم ) ، فقال الدارقطني: لم يقل في
هذا الحديث ( أو
ريح ) غير
وكيع عن مسعر.
قلت:
وكيع ثقة إمام أخرج له البخاري ومسلم وغيرهما من الأئمة؛ فسقط الاستدلال بحديث
صفوان لمن تمسك به في أن النوم حدث. وأما ما ذهب إليه أبو حنيفة فضعيف؛ رواه
الدارقطني عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نام وهو ساجد حتى. غط أو
نفخ ثم قام فصلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله إنك قد نمت ! فقال: ( إن الوضوء لا يجب إلا على من
نام مضطجعا فإنه إذا اضطجع استرخت مفاصله ) . تفرد به أبو خالد عن قتادة ولا يصح؛ قال الدارقطني.
وأخرجه أبو داود وقال: قوله: (
الوضوء على من نام مضطجعا ) هو
حديث منكر لم يروه إلا أبو خالد يزيد الدالاني عن قتادة، وروى أوله جماعة عن ابن
عباس لم يذكروا شيئا من هذا. وقال أبو عمر بن عبدالبر: هذا حديث منكر لم يروه أحد
من أصحاب قتادة الثقات، وإنما انفرد به أبو خالد الدالاني، وأنكروه وليس بحجة فيما
نقل. وأما قول الشافعي: على كل نائم الوضوء إلا على الجالس وحده، وإن كل من زال عن
حد الاستواء ونام فعليه الوضوء؛ فهو قول الطبري وداود، وروي عن علي وابن مسعود
وابن عمر؛ لأن الجالس لا يكاد يستثقل، فهو في معنى النوم الخفيف. وقد روى
الدارقطني من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: ( من
نام جالسا فلا وضوء عليه ومن وضع جنبه فعليه الوضوء ) . وأما الخارج؛ فلنا ما رواه
البخاري قال: حدثنا قتيبة قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن خالد، عن عكرمة، عن عائشة
قالت: اعتكفت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من أزواجه فكانت ترى الدم
والصفرة والطست تحتها وهي تصلي. فهذا خارج على غير المعتاد، وإنما هو عرق انقطع
فهو مرض؛ وما كان هذا سبيله مما يخرج من السبيلين فلا وضوء فيه عندنا إيجابا،
خلافا للشافعي كما ذكرنا. وبالله توفيقنا. ويرد على الحنفي حيث راعى الخارج النجس.
فصح ووضح مذهب مالك بن أنس رضي الله عنه ما تردد نفس، وعنهم أجمعين.
قوله
تعالى: « أو لامستم النساء » قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وعاصم وابن عامر «
لامستم » . وقرأ حمزة والكسائي: « لمستم » وفي معناه ثلاثة أقوال: الأول: أن يكون
لمستم جامعتم. الثاني: لمستم باشرتم. الثالث: يجمع الأمرين جميعا. و « لامستم »
بمعناه عند أكثر الناس، إلا أنه حكي عن محمد بن يزيد أنه قال: الأولى في اللغة أن
يكون « لامستم » بمعنى قبلتم أو نظيره؛ لأن لكل واحد منهما فعلا. قال: و « لمستم »
بمعنى غشيتم ومسستم، وليس للمرأة في هذا فعل.
واختلف
العلماء في حكم الآية على مذاهب خمسة؛ فقالت فرقة: الملامسة هنا مختصة باليد،
والجنب لا ذكر له إلا مع الماء؛ فلم يدخل في المعنى المراد بقوله: « وإن كنتم مرضى
» الآية، فلا سبيل له إلى التيمم، وإنما يغتسل الجنب أو يدع الصلاة حتى يجد الماء؛
روي هذا القول عن عمر وابن مسعود. قال أبو عمر: ولم يقل بقول عمر وعبدالله في هذه
المسألة أحد من فقهاء الأمصار من أهل الرأي وحملة الآثار؛ وذلك والله أعلم لحديث
عمار وعمران بن حصين وحديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم في تيمم الجنب.
وقال أبو حنيفة عكس هذا القول، فقال: الملامسة هنا مختصة باللمس الذي هو الجماع.
فالجنب يتيمم واللامس بيده لم يجر له ذكر؛ فليس بحدث ولا هو ناقص لوضوئه. فإذا قبل
الرجل امرأته للذة لم ينتقض وضوءه؛ وعضدوا هذا بما رواه الدارقطني عن عائشة أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بعض نسائه ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ. قال
عروة: فقلت لها من هي إلا أنت ؟ فضحكت. وقال مالك: الملامس بالجماع يتيمم،
والملامس باليد يتيمم إذا التذ. فإذا لمسها بغير شهوة فلا وضوء؛ وبه قال أحمد
وإسحاق، وهو مقتضى الآية. وقال علي بن زياد: وإن كان عليها ثوب كثيف فلا شيء عليه،
وإن كان خفيفا فعليه الوضوء. وقال عبدالملك بن الماجشون: من تعمد مس امرأته بيده
لملاعبة فليتوضأ التذ أو لم يلتذ. قال القاضي أبو الوليد الباجي في المنتقى: والذي
تحقق من مذهب مالك وأصحابه أن الوضوء إنما يجب لقصده اللذة دون وجودها؛ فمن قصد
اللذة بلمسه فقد وجب عليه الوضوء، التذ بذلك أو لم يلتذ؛ وهذا معنى ما في العتبية
من رواية عيسى عن ابن القاسم. وأما الإنعاظ بمجرده فقد روى ابن نافع عن مالك أنه
لا يوجب وضوءا ولا غسل ذكر حتى يكون معه لمس أو مذي. وقال الشيخ أبو إسحاق: من
أنعظ إنعاظا أنتقض وضوئه؛ وهذا قول مالك في المدونة. وقال الشافعي: إذا أفضى الرجل
بشيء من بدنه إلى بدن المرأة سواء كان باليد أو بغيرها من أعضاء الجسد معلق نقض
الطهر به؛ وهو قول ابن مسعود وابن عمر والزهري وربيعة. وقال الأوزاعي: إذا كان
اللمس باليد نقض الطهر، وإن كان بغير اليد لم ينقضه؛ لقوله تعالى: « فلمسوه
بأيديهم » [
الأنعام: 7 ] . فهذه
خمسة مذاهب أسدها مذهب مالك؛ وهو مروي عن عمر وابنه عبدالله، وهو قول عبدالله بن
مسعود أن الملامسة ما دون الجماع، وأن الوضوء يجب بذلك؛ وإلى هذا ذهب أكثر
الفقهاء. قال ابن العربي: وهو الظاهر من معنى الآية؛ فإن قوله في أولها: « ولا
جنبا » أفاد الجماع، وإن قوله: « أو جاء أحد منكم من الغائط » أفاد الحدث، وإن
قوله: « أو لامستم » أفاد اللمس والقبل. فصارت ثلاث جمل لثلاثة أحكام، وهذه غاية
في العلم والإعلام. ولو كان المراد باللمس الجماع كان تكرارا في الكلام.
قلت:
وأما ما استدل به أبو حنيفة من حديث عائشة فحديث مرسل؛ رواه وكيع، عن الأعمش عن
حبيب بن أبي ثابت، عن عروة، عن عائشة. قال يحيى بن سعيد: وذكر حديث الأعمش عن حبيب
عن عمرو فقال: أما إن سفيان الثوري كان أعلم الناس بهذا، زعم أن حبيبا لم يسمع من
عروة شيئا؛ قال الدارقطني. فإن قيل: فأنتم تقولون بالمرسل فيلزمكم قبوله والعمل
به. قلنا: تركناه لظاهر الآية وعمل الصحابة. فإن قيل: إن الملامسة هي الجماع وقد
روي ذلك عن ابن عباس. قلنا: قد خالفه الفاروق وابنه وتابعهما عبدالله بن مسعود وهو
كوفي، فما لكم خالفتموه ؟ ! فإن قيل: الملامسة من باب المفاعلة، ولا تكون إلا من
اثنين، واللمس باليد إنما يكون من واحد؛ فثبت أن الملامسة هي الجماع. قلنا:
الملامسة مقتضاها التقاء البشرتين، سواء كان ذلك من واحد أو من اثنين؛ لأن كل واحد
منهما يوصف لامس وملموس.
جواب
آخر: وهو أن الملامسة قد تكون من واحد؛ ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع
الملامسة، والثوب ملموس وليس بلامس، وقد قال ابن عمر مخبرا عن نفسه « وأنا يومئذ
قد ناهزت الاحتلام » . وتقول العرب: عاقبت اللص وطارقت النعل، وهو كثير.
فإن قيل:
لما ذكر الله سبحانه سبب الحدث، وهو المجيء من الغائط ذكر سبب الجنابة وهو الملامسة،
فبين الحدث والجنابة عند عدم الماء، كما أفاد بيان حكمهما عند وجود الماء. قلنا:
لا نمنع حمل اللفظ على الجماع واللمس، ويفيد الحكمين كما بينا. وقد قرئ « لمستم »
كما ذكرنا. وأما ما ذهب إليه الشافعي من لمس الرجل المرأة ببعض أعضائه لا حائل
بينه وبينها لشهوة أو لغير شهوة وجب عليه الوضوء فهو ظاهر القرآن أيضا؛ وكذلك إن
لمسته هي وجب عليه الوضوء، إلا الشعر؛ فإنه لا وضوء لمن مس شعر امرأته لشهوة كان
أو لغير شهوة، وكذلك السن والظفر، فإن ذلك مخالف للبشرة. ولو احتلط فتوضأ إذا مس
شعرها كان حسنا. ولو مسها بيده أو مسته بيدها من فوق الثوب فالتذ بذلك أو لم يلتذ
لم يكن عليهما شيء حتى يفضي إلى البشرة، وسواء في ذلك كان متعمدا أو ساهيا، كانت
المرأة حية أو ميتة إذا كانت أجنبية. واختلف قوله إذا لمس صبية صغيرة أو عجوزا
كبيرة بيده أو واحدة من ذوات محارمه ممن لا يحل له نكاحها، فمرة قال: ينتقض
الوضوء؛ لقوله تعالى: « أو لامستم النساء » فلم يفرق. والثاني لا ينقض؛ لأنه لا
مدخل للشهوة فيهن. قال المروزي: قول الشافعي أشبه بظاهر الكتاب؛ لأن الله عز وجل
قال: « أو لامستم النساء » ولم يقل بشهوة ولا من غير شهوة؛ وكذلك الذين أوجبوا
الوضوء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لم يشترطوا الشهوة. قال: وكذلك عامة
التابعين. قال المروزي: فأما ما ذهب إليه مالك من مراعاة الشهوة واللذة من فوق
الثوب يوجب الوضوء فقد وافقه على ذلك الليث بن سعد، ولا نعلم أحدا قال ذلك غيرهما.
قال: ولا يصح ذلك في النظر؛ لأن من فعل ذلك فهو غير لامس لامرأته، وغير مماس لها
في الحقيقة، إنما هو لامس لثوبها. وقد أجمعوا أنه لو تلذذ واشتهى أن يلمس لم يجب
عليه وضوء؛ فكذلك من لمس فوق الثوب لأنه غير مماس للمرأة.
قلت: أما
ما ذكر من أنه لم يوافق مالكا على قول إلا الليث بن سعد، فقد ذكر الحافظ أبو عمر
بن عبدالبر أن ذلك قول إسحاق وأحمد، وروي ذلك عن الشعبي والنخعي كلهم قالوا: إذا
لمس فالتذ وجب الوضوء، وإن لم يلتذ فلا وضوء. وأما قوله: « ولا يصح ذلك في النظر »
فليس بصحيح؛ وقد جاء في صحيح الخبر عن عائشة قالت: كنت أنام بين يدي رسول الله صلى
الله عليه وسلم ورجلاي في قبلته، فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي، وإذا قام بسطتهما
ثانيا، قالت: والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح. فهذا نص في أن النبي صلى الله عليه
وسلم كان الملامس، وأنه غمز رجل عائشة؛ كما في رواية القاسم عن عائشة ( فإذا أراد أن يسجد غمز رجلي
فقبضتهما ) أخرجه
البخاري. فهذا يخص عموم قوله: « أو لامستم » فكان واجبا لظاهر الآية انتقاض وضوء
كل ملامس كيف لامس. ودلت السنة التي هي البيان لكتاب الله تعالى أن الوضوء على بعض
الملامسين دون بعض، وهو من لم يلتذ ولم يقصد. ولا يقال: فلعله كان على قدمي عائشة
ثوب، أو كان يضرب رجليها بكمه؛ فإنا نقول: حقيقة الغمز إنما هو باليد؛ ومنه غمزك
الكبش أي تجسه لتنظر أهو سمين أم لا ؟ فأما أن يكون الغمز الضرب بالكم فلا. والرجل
من النائم الغالب عليها ظهورها من النائم؛ لا سيما مع امتداده وضيق حاله. فهذه
كانت الحال في ذلك الوقت؛ ألا ترى إلى قولها: ( وإذا قام بسطتهما ) وقولها: (
والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح ) . وقد
جاء صريحا عنها قالت: ( كنت
أمد رجلي في قبلة النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فإذا سجد غمزني فرفعتهما،
فإذا قام مددتهما ) أخرجه
البخاري. فظهر أن الغمز كان على حقيقته مع المباشرة. ودليل آخر - وهو ما روته
عائشة أيضا رضي الله عنها قالت: فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من الفراش
فالتمسته، فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في المسجد وهما منصوبتان؛ الحديث. فلما
وضعت يدها على قدمه وهو ساجد وتمادى في سجوده كان دليلا على أن الوضوء لا ينتقض إلا
على بعض الملامسين دون بعض.
فإن قيل:
كان على قدمه حائل كما قال المزني. قيل له: القدم قدم بلا حائل حتى يثبت الحائل،
والأصل الوقوف مع الظاهر؛ بل بمجموع ما ذكرنا يجتمع منه كالنص.
فإن قيل:
فقد أجمعت الأمة على أن رجلا لو استكره امرأة فمس ختانه ختانها وهي لا تلتذ لذلك،
أو كانت نائمة فلم تلتذ ولم تشته أن الغسل واجب عليها؛ فكذلك حكم من قبل أو لامس
بشهوة أو لغير شهوة انتقضت طهارته ووجب عليه الوضوء؛ لأن المعنى في الجسة واللمسة
والقبلة الفعل لا اللذة. قلنا: قد ذكرنا أن الأعمش وغيره قد خالف فيما ادعيتموه من
الإجماع. سلمناه، لكن هذا استدلال بالإجماع في محل النزاع فلا يلزم؛ وقد استدللنا
على صحة مذهبنا بأحاديث صحيحة. وقد قال الشافعي - فيما زعمتم إنه لم يسبق إليه،
وقد سبقه إليه شيخه مالك؛ كما هو مشهور عندنا « إذا صح الحديث فخذوا به ودعوا قولي
» وقد ثبت الحديث بذلك فلم لا تقولون به ؟ ! ويلزم على مذهبكم أن من ضرب امرأته
فلطمها بيده تأديبا لها وإغلاظا عليها أن ينتقض وضوءه؛ إذ المقصود وجود الفعل،
وهذا لا يقوله أحد فيما أعلم، والله أعلم. وروى الأئمة مالك وغيره أنه صلى الله
عليه وسلم كان يصلى الله عليه وسلم وأمامة بنت أبي العاص ابنة زينب بنت رسول الله
صلى الله عليه وسلم على عاتقه، فإذا ركع وضعها، وإذا رفع من السجود أعادها. وهذا
يرد ما قال الشافعي في أحد قوليه: لو لمس صغيرة لانتقض طهره تمسكا بلفظ النساء،
وهذا ضعيف؛ فإن لمس الصغيرة كلمس الحائط. واختلف قوله في ذوات المحارم لأجل أنه لا
يعتبر اللذة، ونحن اعتبرنا اللذة فحيث وجدت وجد الحكم، وهو وجوب الوضوء. وأما قول
الأوزاعي في اعتباره اليد خاصة؛ فإن اللمس أكثر ما يستعمل باليد، فقصره عليه دون
غيره من الأعضاء؛ حتى أنه لو أدخل الرجل رجليه في ثياب امرأته فمس فرجها أو بطنها
لا ينتقض لذلك وضوءه. وقال في الرجل يقبل امرأته: إن جاء يسألني قلت يتوضأ، وإن لم
يتوضأ لم أعبه. وقال أبو ثور: لا وضوء على من قبل امرأته أو باشرها أو لمسها. وهذا
يخرج على مذهب أبي حنيفة، والله أعلم.
قوله
تعالى: « فلم تجدوا ماء » الأسباب التي لا يجد المسافر معها الماء هي إما عدمه
جملة أو عدم بعضه، وإما أن يخاف فوات الرفيق، أو على الرحل بسبب طلبه، أو يخاف
لصوصا أو سباعا، أو فوات الوقت، أو عطشا على نفسه أو على غيره؛ وكذلك لطبيخ يطبخه
لمصلحة بدنه؛ فإذا كان أحد هذه الأشياء تيمم وصلى الله عليه وسلم. ويترتب عدمه
للمريض بألا يجد من يناوله، أو يخاف من ضرره. ويترتب أيضا عدمه للصحيح الحاضر
بالغلاء الذي يعم جميع الأصناف، أو بأن يسجن أو يربط. وقال الحسن: يشتري الرجل
الماء بماله كله ويبقى عديما، وهذا ضعيف، لأن دين الله يسر. وقالت طائفة: يشتريه
ما لم يزد على القيمة الثلث فصاعدا. وقالت طائفة: يشتري قيمة الدرهم بالدرهمين
والثلاث ونحو هذا؛ وهذا كله في مذهب مالك رحمه الله. وقيل لأشهب: أتشترى القربة
بعشرة دراهم ؟ فقال: ما أرى ذلك على الناس. وقال الشافعي بعدم الزيادة.
واختلف
العلماء هل طلب الماء شرط في صحة التيمم أم لا؟ فظاهر مذهب مالك أن ذلك شرط، وهو
قول الشافعي. وذهب القاضي أبو محمد بن نصر إلى أن ذلك ليس بشرط في صحة التيمم؛ وهو
قول أبي حنيفة. وروي عن ابن عمر أنه كان يكون في السفر على غلوتين من طريقه فلا
يعدل إليه. قال إسحاق: لا يلزمه الطلب إلا في موضعه، وذكر حديث ابن عمر، والأول
أصح وهو المشهور من مذهب مالك في الموطأ لقوله تعالى: « فلم تجدوا ماء » وهذا
يقتضي أن التيمم لا يستعمل إلا بعد طلب الماء. وأيضا من جهة القياس أن هذا بدل
مأمور به عند العجز عن مبدله، فلا يجزئ فعله إلا مع تيقن عدم مبدله؛ كالصوم مع
العتق في الكفارة.
وإذا ثبت
هذا وعدم الماء، فلا يخلو أن يغلب على ظن المكلف اليأس من وجوده في الوقت، أو يغلب
على ظنه وجوده ويقوى رجاؤه له، أو يتساوى عنده الأمران، فهذه ثلاثة أحوال: فالأول:
يستحب له التيمم والصلاة في أول الوقت: لأنه إذا فاتته فضيلة الماء فإنه يستحب له
أن يحرز فضيلة أول الوقت. الثاني: يتيمم وسط الوقت؛ حكاه أصحاب مالك عنه، فيؤخر
الصلاة رجاء إدراك فضيلة الماء ما لم تفته فضيلة أول الوقت، فإن فضيلة أول الوقت
قد تدرك بوسطه لقربه منه. الثالث: يؤخر الصلاة إلى أن يجد الماء في آخر الوقت؛ لأن
فضيلة الماء أعظم من فضيلة أول الوقت، لأن فضيلة أول الوقت مختلف فيها، وفضيلة
الماء متفق عليها، وفضيلة أول الوقت يجوز تركها دون ضرورة ولا يجوز ترك فضيلة
الماء إلا لضرورة، والوقت في ذلك هو آخر الوقت المختار؛ قال ابن حبيب. ولو علم
الماء في آخر الوقت فتيمم في أوله وصلى فقد قال ابن القاسم: يجزئه، فإن وجد الماء
أعاد في الوقت خاصة. وقال عبدالملك بن الماجشون: إن وجد الماء بعد أعاد أبدا.
والذي
يراعى من وجود الماء أن يجد منه ما يكفيه لطهارته، فإن وجد أقل من كفايته تيمم ولم
يستعمل ما وجد منه. وهذا قول مالك وأصحابه؛ وبه قال أبو حنيفة والشافعي في أحد
قوليه، وهو قول أكثر العلماء؛ لأن الله تعالى جعل فرضه أحد الشيئين، إما الماء
وإما التراب.
فإن لم
يكن الماء مغنيا عن التيمم كان غير موجود شرعا؛ لأن المطلوب من وجود الكفاية. وقال
الشافعي في القول الآخر: يستعمل ما معه من الماء ويتيمم؛ لأنه واجد ماء فلم يتحقق
شرط التيمم؛ فإذا استعمله وفقد الماء تيمم لما لم يجد. واختلف قول الشافعي أيضا
فيما إذا نسي الماء في رحله فتيمم؛ والصحيح أنه يعيد؛ لأنه إذا كان الماء عنده فهو
واجد وإنما فرط. والقول الآخر لا يعيد؛ وهو قول مالك؛ لأنه إذا لم يعلمه فلم يجده.
وأجاز أبو
حنيفة الوضوء بالماء المتغير؛ لقوله تعالى: « فلم تجدوا ماء » فقال: هذا نفي في
نكرة، وهو يعم لغة؛ فيكون مفيدا جواز الوضوء بالماء المتغير وغير المتغير؛ لانطلاق
اسم الماء عليه. قلنا: النفي في النكرة يعم كما قلتم، ولكن في الجنس، فهو عام في
كل ماء كان من سماء أو نهر أو عين عذب أو ملح. فأما غير الجنس وهو المتغير فلا
يدخل فيه؛ كما لا يدخل فيه ماء الباقلاء ولا ماء الورد، وسيأتي حكم المياه في «
الفرقان » ، إن شاء الله تعالى.
وأجمعوا
على أن الوضوء والاغتسال لا يجوز بشيء من الأشربة سوى النبيذ عند عدم الماء؛ وقوله
تعالى: « فلم تجدوا ماء فتيمموا » يرده. والحديث الذي فيه ذكر الوضوء بالنبيذ رواه
ابن مسعود، وليس بثابت؛ لأن الذي رواه أبو زيد، وهو مجهول لا يعرف بصحبة عبدالله؛
قاله ابن المنذر وغيره. وسيأتي في « الفرقان » بيانه إن شاء الله تعالى.
الماء
الذي يبيح عدمه التيمم هو الطاهر المطهر الباقي على أوصاف خلقته. وقال بعض من ألف
في أحكام القرآن لما قال تعالى: { فلم تجدوا ماء فتيمموا } فإنما أباح التيمم عند
عدم كل جزء من ماء؛ لأنه لفظ منكر يتناول كل جزء منه؛ سواء كان مخالطا لغيره أو
منفردا بنفسه. ولا يمتنع أحد أن يقول في نبيذ التمر ماء؛ فلما كان كذلك لم يجز
التيمم مع وجوده.
وهذا
مذهب الكوفيين أبي حنيفة وأصحابه؛ واستدلوا على ذلك بأخبار ضعيفة يأتي ذكرها في
سورة « الفرقان » ، وهناك يأتي القول في الماء إن شاء الله تعالى.
قوله
تعالى: « فتيمموا » التيمم مما خصت به هذه الأمة توسعة عليها؛ قال صلى الله عليه
وسلم: ( فضلنا
على الناس بثلاث جعلت لنا الأرض كلها مسجدا وجعلت تربتها لنا طهورا ) وذكر الحديث، وقد تقدم ذكر
نزوله، وذلك بسبب القلادة حسبما بيناه. وقد تقدم ذكر الأسباب التي تبيحه، والكلام
ههنا في معناه لغة وشرعا، وفي صفته وكيفيته وما يتيمم به وله، ومن يجوز له التيمم،
وشروط التيمم إلى غير ذلك من أحكامه.
فالتيمم
لغة هو القصد. تيممت الشيء قصدته، وتيممت الصعيد تعمدته، وتيممته برمحي وسهمي أي
قصدته دون من سواه. وأنشد الخليل:
يممته
الرمح شزرا ثم قلت له هذي البسالة لا لعب الزحاليق
قال الخليل:
من قال في هذا البيت أممته فقد أخطأ؛ لأنه قال: « شزرا » ولا يكون الشزر إلا من
ناحية ولم يقصد به أمامه. وقال امرؤ القيس:
تيممتها
من أذرعات وأهلها بيثرب أدنى دارها نظر عال
وقال
أيضا:
تيممت
العين التي عند ضارج يفيء عليها الظل عرمضها طامي
آخر:
إني كذاك
إذا ما ساءني بلد يممت بعيري غيره بلدا
وقال
أعشى بأهلة:
تيممت
قيسا وكم دونه من الأرض من مهمة ذي شزن
وقال
حميد بن ثور:
سل الربع
أنى يممت أم طارق وهل عادة للربع أن يتكلما
وللشافعي:
علمي معي
حيثما يممت أحمله بطني وعاء له لا بطن صندوق
قال ابن
السكيت: قوله تعالى « فتيمموا صعيدا طيبا » أي اقصدوا؛ ثم كثر استعمالهم لهذه
الكلمة حتى صار التيمم مسح الوجه واليدين بالتراب. وقال ابن الأنباري في قولهم: «
قد تيمم الرجل » معناه قد مسح التراب على وجهه ويديه. قلت: وهذا هو التيمم الشرعي،
إذا كان المقصود به القربة. ويممت المريض فتيمم للصلاة. ورجل ميمم يظفر بكل ما
يطلب؛ عن الشيباني. وأنشد:
إنا
وجدنا أعصر بن سعد ميمم البيت رفيع المجد
وقال
آخر:
أزهر لم
يولد بنجم الشح ميمم البيت كريم السنح
لفظ
التيمم ذكره الله تعالى في كتابه في « البقرة » وفي هذه السورة و « المائدة »
والتي في هذه السورة هي آية التيمم. والله أعلم. وقال القاضي أبو بكر بن العربي:
هذه معضلة ما وجدت لدائها من دواء عند أحد؛ هما آيتان فيهما ذكر التيمم إحداهما في
« النساء » والأخرى في « المائدة » . فلا نعلم أية آية عنت عائشة بقولها: « فأنزل
الله آية التيمم » . ثم قال: وحديثها يدل على أن التيمم قبل ذلك لم يكن معلوما ولا
مفعولا لهم.
قلت: أما
قوله: « فلا نعلم أية آية عنت عائشة » فهي هذه الآية على ما ذكرنا. والله أعلم.
وقوله: « وحديثها يدل على أن التيمم قبل ذلك لم يكن معلوما ولا مفعولا لهم » في صحيح
ولا خلاف فيه بين أهل السير؛ لأنه معلوم أن غسل الجنابة لم يفترض قبل الوضوء، كما
أنه معلوم عند جميع أهل السير أن النبي صلى الله عليه وسلم منذ افترضت عليه الصلاة
بمكة لم يصل إلا بوضوء مثل وضوئنا اليوم. فدل على أن آية الوضوء إنما نزلت ليكون
فرضها المتقدم متلوا في التنزيل. وفي قوله: « فنزلت آية التيمم » ولم يقل آية
الوضوء ما يبين أن الذي طرأ لهم من العلم في ذلك الوقت حكم التيمم لا حكم الوضوء؛
وهذا بين لا إشكال فيه.
التيمم
يلزم كل مكلف لزمته الصلاة إذا عدم الماء ودخل، وقت الصلاة. وقال أبو حنيفة
وصاحباه والمزني صاحب الشافعي: يجوز قبله؛ لأن طلب الماء عندهم ليس بشرط قياسا على
النافلة؛ فلما جاز التيمم للنافلة دون طلب الماء جاز أيضا للفريضة. واستدلوا من
السنة بقوله عليه السلام لأبي ذر: ( الصعيد الطيب وضوء المسلم ولو لم يجد الماء عشر حجج ) . فسمى عليه السلام الصعيد
وضوءا كما يسمى الماء؛ فحكمه إذا حكم الماء. والله أعلم. ودليلنا قوله تعالى: «
فلم تجدوا ماء » ولا يقال: لم يجد الماء إلا لمن طلب ولم يجد. وقد تقدم هذا
المعنى؛ ولأنها طهارة ضرورة كالمستحاضة؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( فأينما أدركتك الصلاة تيممت وصليت
) . وهو
قول الشافعي وأحمد، وهو مروي عن علي وابن عمر وابن عباس.
وأجمع
العلماء على أن التيمم لا يرفع الجنابة ولا الحدث، وأن المتيمم لهما إذا وجد الماء
عاد جنبا كما كان أو محدثا؛ لقوله عليه السلام لأبي ذر: ( إذا وجدت الماء فأمسه جلدك ) إلا شيء روي عن أبي سلمة بن
عبدالرحمن، رواه ابن جريج وعبدالحميد بن جبير بن شيبة عنه؛ ورواه ابن أبي ذئب عن
عبدالرحمن بن حرملة عنه قال في الجنب المتيمم يجد الماء وهو على طهارته: لا يحتاج
إلى غسل ولا وضوء حتى يحدث. وقد روي عنه فيمن تيمم وصلى ثم وجد الماء في الوقت أنه
يتوضأ ويعيد تلك الصلاة. قال ابن عبدالبر: وهذا تناقض وقلة روية. ولم يكن أبو سلمة
عندهم يفقه كفقه أصحابه التابعين بالمدينة.
وأجمعوا
على أن من تيمم على ثم وجد الماء قبل الدخول في الصلاة بطل تيممه؛ وعليه استعمال
الماء. والجمهور على أن من تيمم وصلى وفرغ من صلاته، وقد كان اجتهد في طلبه الماء
ولم يكن في رحله أن صلاته تامة؛ لأنه أدى فرضه كما أمر. فغير جائز أن توجب عليه
الإعادة بغير حجة. ومنهم من استحب له أن يعيد في الوقت إذا توضأ واغتسل. وروي عن
طاوس وعطاء والقاسم بن محمد ومكحول وابن سيرين والزهري وربيعة كلهم يقول: يعيد
الصلاة. واستحب الأوزاعي ذلك وقال: ليس بواجب؛ لما رواه أبو سعيد الخدري قال: خرج
رجلان في سفر فحضرت الصلاة وليس معهما ماء فتيمما صعيدا طيبا فصليا، ثم وجدا الماء
في الوقت فأعاد أحدهما الصلاة بالوضوء ولم يعد الآخر، ثم أتيا رسول الله صلى الله
عليه وسلم فذكرا ذلك له فقال للذي لم يعد: ( أصبت السنة وأجزأتك صلاتك ) وقال للذي توضأ وأعاد: ( لك الأجر مرتين ) . أخرجه أبو داود وقال: وغير ابن نافع يرويه عن الليث عن
عميرة بن أبي ناجية عن بكر بن سوادة عن عطاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وذكر أبي
سعيد في هذا الإسناد ليس بمحفوظ. وأخرجه الدارقطني وقال فيه: ثم وجد الماء بعد في
الوقت.
واختلف
العلماء إذا وجد الماء بعد دخول في الصلاة؛ فقال مالك: ليس عليه قطع الصلاة
واستعمال الماء وليتم صلاته وليتوضأ لما يستقبل؛ وبهذا قال الشافعي واختاره ابن
المنذر. وقال أبو حنيفة وجماعة منهم أحمد بن حنبل والمزني: يقطع ويتوضأ ويستأنف
الصلاة لوجود الماء. وحجتهم أن التيمم لما بطل بوجود الماء قبل الصلاة فكذلك يبطل
ما بقي منها، وإذا بطل بعضها بطل كلها؛ لإجماع العلماء على أن المعتدة بالشهور لا
يبقى عليها إلا أقلها ثم تحيض أنها تستقبل عدتها بالحيض. قالوا: والذي يطرأ عليه
الماء وهو في الصلاة كذلك قياسا ونظرا. ودليلنا قوله تعالى: « ولا تبطلوا أعمالكم
» [
محمد: 33 ] . وقد
اتفق الجميع على جواز الدخول في. الصلاة بالتيمم عند عدم الماء، واختلفوا في قطعها
إذا رئي الماء؛ ولم تثبت سنة بقطعها ولا إجماع. ومن حجتهم أيضا أن من وجب عليه
الصوم في ظهار أو قتل فصام منه أكثره ثم وجد رقبة لا يلغي صومه ولا يعود إلى
الرقبة. وكذلك من دخل في الصلاة بالتيمم لا يقطعها ولا يعود إلى الوضوء بالماء.
واختلفوا
هل يصلى به صلوات أم يلزم التيمم لكل صلاة فرض ونفل؛ فقال شريك بن عبدالله القاضي:
يتيمم لكل صلاة نافلة وفريضة. وقال مالك: لكل فريضة؛ لأن عليه أن يبتغي الماء لكل
صلاة، فمن ابتغى الماء فلم يجده فإنه يتيمم. وقال أبو حنيفة والثوري والليث والحسن
بن حي وداود: يصلي ما شاء بتيمم واحد ما لم يحدث؛ لأنه طاهر ما لم يجد الماء؛ وليس
عليه طلب الماء إذا يئس منه. وما قلناه أصح؛ لأن الله عز وجل أوجب على كل قائم إلى
الصلاة طلب الماء، وأوجب عند عدمه التيمم لاستباحة الصلاة قبل خروج الوقت، فهي
طهارة ضرورة ناقصة بدليل إجماع المسلمين على بطلانها بوجود الماء وإن لم يحدث؛
وليس كذلك الطهارة بالماء. وقد ينبني هذا الخلاف أيضا في جواز التيمم قبل دخول
الوقت؛ فالشافعي وأهل المقالة الأولى لا يجوزونه؛ لأنه لما قال الله تعالى « فلم
تجدوا ماء فتيمموا » ظهر منه تعلق أجزاء التيمم بالحاجة، ولا حاجة قبل الوقت. وعلى
هذا لا يصلى فرضين بتيمم واحد، وهذا بين. واختلف علماؤنا فيمن صلى صلاتي فرض بتيمم
واحد؛ فروى يحيى بن يحيى عن ابن القاسم: يعيد الثانية ما دام في الوقت. وروى أبو
زيد بن أبي الغمر عنه: يعيد أبدا. وكذلك روي عن مطرف وابن الماجشون يعيد الثانية
أبدا. وهذا الذي يناظر عليه أصحابنا؛ لأن طلب الماء شرط. وذكر ابن عبدوس أن ابن نافع
روى عن مالك في الذي يجمع بين الصلاتين أنه يتيمم لكل صلاة. وقال أبو الفرج فيمن
ذكر صلوات: إن قضاهن بتيمم واحد فلا شيء عليه وذلك جائز له. وهذا على أن طلب الماء
ليس بشرط. والأول أصح. والله أعلم.
قوله
تعالى: « صعيدا طيبا » الصعيد: وجه الأرض كان عليه تراب أو لم يكن؛ قاله الخليل
وابن الأعرابي والزجاج. قال الزجاج: لا أعلم فيه خلافا بين أهل اللغة، قال الله
تعالى: « وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جزرا » [ الكهف: 8 ] أي أرضا غليظة لا تنبت شيئا. وقال تعالى « فتصبح صعيدا زلقا
» [
الكهف: 40 ] . ومنه
قول ذي الرمة:
كأنه
بالضحى ترمي الصعيد به دبابة في عظام الرأس خرطوم
وإنما
سمي صعيدا لأنه نهاية ما يصعد إليه من الأرض. وجمع الصعيد صعدات؛ ومنه الحديث ( إياكم والجلوس في الصعدات ) . واختلف العلماء فيه من أجل
تقييده بالطيب؛ فقالت طائفة: يتيمم بوجه الأرض كله ترابا كان أو رملا أو حجارة أو
معدنا أو سبخة. هذا مذهب مالك وأبي حنيفة والثوري والطبري. و « طيبا » معناه
طاهرا. وقالت فرقة: « طيبا » حلالا؛ وهذا قلق. وقال الشافعي وأبو يوسف: الصعيد
التراب المنبت وهو الطيب؛ قال الله تعالى: « والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه » [ الأعراف: 58 ] فلا يجوز التيمم عندهم على
غيره. وقال الشافعي: لا يقع الصعيد إلا على تراب ذي غبار. وذكر عبدالرزاق عن ابن
عباس أنه سئل أي الصعيد أطيب ؟ فقال: الحرث. قال أبو عمر: وفي قول ابن عباس هذا ما
يدل على أن الصعيد يكون غير أرض الحرث. وقال علي رضي الله عنه: هو التراب خاصة.
وفي كتاب الخليل: تيمم بالصعيد، أي خذ من غباره؛ حكاه ابن فارس. وهو يقتضي التيمم
بالتراب فإن الحجر الصلد لا غبار عليه. وقال الكيا الطبري: واشترط الشافعي أن يعلق
التراب باليد ويتيمم به نقلا إلى أعضاء التيمم، كالماء ينقل إلى أعضاء الوضوء. قال
الكيا: ولا شك أن لفظ الصعيد ليس نصا فيما قال الشافعي، إلا أن قول رسول الله صلى
الله عليه وسلم: ( جعلت
لي الأرض مسجدا وترابها طهورا ) بين
ذلك.
قلت:
فاستدل أصحاب هذه المقالة بقوله عليه السلام: ( وجعلت تربتها لنا طهورا ) وقالوا: هذا من باب المطلق والمقيد وليس كذلك، وإنما هو من
باب النص على بعض أشخاص العموم، كما قال تعالى: « فيهما فاكهة ونخل ورمان » [ الرحمن: 68 ] وقد ذكرناه في « البقرة » عند
قوله « وملائكته ورسله وجبريل وميكائيل » [ البقرة: 98 ] . وقد حكى أهل اللغة أن الصعيد اسم لوجه الأرض كما ذكرنا،
وهو نص القرآن كما بينا، وليس بعد بيان الله بيان. وقال صلى الله عليه وسلم للجنب:
( عليك
بالصعيد فإنه يكفيك )
وسيأتي. في « صعيدا » على هذا ظرف مكان. ومن جعله للتراب فهو مفعول به بتقدير حذف
الباء أي بصعيد. و « طيبا » نعت له. ومن جعل « طيبا » بمعنى حلالا نصبه على الحال
أو المصدر.
وإذا
تقرر هذا فاعلم أن مكان الإجماع مما ذكرناه أن يتيمم الرجل على تراب منبت طاهر غير
منقول ولا مغصوب. ومكان الإجماع في المنع أن يتيمم الرجل على الذهب الصرف والفضة
والياقوت والزمرد والأطعمة كالخبز واللحم وغيرهما، أو على النجاسات. واختلف في غير
هذا كالمعادن؛ فأجيز وهو مذهب مالك وغيره. ومنع وهو مذهب الشافعي وغيره. وقال ابن
خويز منداد: ويجوز عند مالك التيمم على الحشيش إذا كان دون الأرض، واختلف عنه في
التيمم على الثلج ففي المدونة والمبسوط جوازه؛ وفي غيرهما منعه. واختلف المذهب في
التيمم على العود؛ فالجمهور على المنع. وفي مختصر الوقار أنه جائز. وقيل: بالفرق
بين أن يكون منفصلا أو متصلا فأجيز على المتصل ومنع في المنفصل. وذكر الثعلبي أن
مالكا قال: لو ضرب بيده على شجرة ثم مسح بها أجزأه. قال: وقال الأوزاعي والثوري:
يجوز بالأرض وكل ما عليها من الشجر والحجر والمدر وغيرها، حتى قالا: لو ضرب بيده
عاف الجمد والثلج أجزأه. قال ابن عطية: وأما التراب المنقول من طين أو غيره فجمهور
المذهب على جواز التيمم به، وفي المذهب المنع وهو في غير المذهب أكثر، وأما ما طبخ
كالجص والآجر ففيه في المذهب قولان: الإجازة والمنع؛ وفي التيمم على الجدار خلاف.
قلت:
والصحيح الجواز لحديث أبي جهيم بن الحارث بن الصمة الأنصاري قال: أقبل رسول الله
صلى الله عليه وسلم من نحو بئر جمل فلقيه رجل فسلم عليه، فلم يرد عليه النبي صلى
الله عليه وسلم حتى أقبل على الجدار فمسح بوجهه ويديه، ثم رد عليه السلام. أخرجه
البخاري. وهو دليل على صحة التيمم بغبر التراب كما يقول مالك ومن وافقه. ويرد على
الشافعي ومن تابعه في أن الممسوح به تراب طاهر ذو غبار يعلق باليد. وذكر النقاش عن
ابن علية وابن كيسان أنهما أجازا التيمم بالمسك والزعفران. قال ابن عطية: وهذا خطأ
بحت من جهات. قال أبو عمر: وجماعة العلماء على إجازة التيمم بالسباخ إلا إسحاق بن
راهويه. وروي عن ابن عباس فيمن أدركه التيمم وهو في طين قال: يأخذ من الطين فيطلي
به بعض جسده، فإذا جف تيمم به. وقال الثوري وأحمد: يجوز التيمم بغبار اللبد. قال
الثعلبي: وأجاز أبو حنيفة التيمم بالكحل والزرنيخ والنورة والجص والجوهر المسحوق.
قال: فإذا تيمم بسحالة الذهب والفضة والصفر والنحاس والرصاص لم يجزه؛ لأنه ليس من
جنس الأرض.
قوله
تعالى: « فامسحوا بوجوهكم وأيديكم » المسح لفظ مشترك يكون بمعنى الجماع، يقال: مسح
الرجل المرأة إذا جامعها. والمسح: مسح الشيء بالسيف وقطعه. ومسحت الإبل يومها إذا
سارت. والمسحاء المرأة الرسحاء التي لا إست لها. وبفلان مسحة من جمال. والمراد هنا
بالمسح عبارة عن جر اليد على الممسوح خاصة، فإن كان بآلة فهو عبارة عن نقل الآلة
إلى اليد وجرها على الممسوح، وهو مقتضى قوله تعالى في آية المائدة: « فامسحوا
بوجوهكم وأيديكم منه » [
المائدة: 6 ] .
فقوله « منه » يدل على أنه لا بد من نقل التراب إلى محل التيمم. وهو مذهب الشافعي
ولا نشترطه نحن؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما وضع يديه على الأرض ورفعهما نفخ
فيهما؛ وفي رواية: نفض. وذلك يدل على عدم اشتراط الآلة؛ يوضحه تيممه على الجدار.
قال الشافعي: لما لم يكن بد في مسح الرأس بالماء من بلل ينقل إلى الرأس، فكذلك
المسح بالتراب لا بد من النقل. ولا خلاف في أن حكم الوجه في التيمم والوضوء
الاستيعاب وتتبع مواضعه؛ وأجاز بعضهم ألا يتتبع كالغضون في الخفين وما بين الأصابع
في الرأس، وهو في المذهب قول محمد بن مسلمة؛ حكاه ابن عطية. وقال الله عز وجل: «
بوجوهكم وأيديكم » فبدأ بالوجه قبل اليدين وبه قال الجمهور. ووقع في البخاري من
حديث عمار في « باب التيمم ضربة » ذكر اليدين قبل الوجه. وقال بعض أهل العلم قياسا
على تنكيس الوضوء.
واختلف
العلماء أين يبلغ بالتيمم في اليدين؛ فقال ابن شهاب: إلى المناكب. وروي عن أبي بكر
الصديق. وفي مصنف أبي داود عن الأعمش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح إلى
أنصاف ذراعيه. قال ابن عطية: ولم يقل أحد بهذا الحديث فيما حفظت. وقيل: يبلغ به
إلى المرفقين قياسا على الوضوء. وهو قول أبي حنيفة والشافعي وأصحابهما والثوري
وابن أبي سلمة والليث كلهم يرون بلوغ المرفقين بالتيمم فرضا واجبا. وبه قال محمد
بن عبدالله بن عبدالحكم وابن نافع، وإليه ذهب إسماعيل القاضي. قال ابن نافع: من
تيمم إلى الكوعين أعاد الصلاة أبدا وقال مالك في المدونة: يعيد في الوقت. وروى
التيمم إلى المرفقين عن النبي صلى الله عليه وسلم جابر بن عبدالله وابن عمر وبه
كان يقول. قال الدارقطني: سئل قتادة عن التيمم في السفر فقال: كان ابن عمر يقول
إلى المرفقين. وكان الحسن وإبراهيم النخعي يقولان إلى المرفقين. قال: وحدثني محدث
عن الشعبي عن عبدالرحمن بن أبزى عن عمار بن ياسر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: ( إلى
المرفقين ) . قال
أبو إسحاق: فذكرته لأحمد بن حنبل فعجب منه وقال ما أحسنه !. وقالت طائفة: يبلغ به
إلى الكوعين وهما الرسغان. روي عن علي بن أبي طالب والأوزاعي وعطاء والشعبي في
رواية، وبه قال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وداود بن علي والطبري. وروي عن مالك
وهو قول الشافعي في القديم. وقال مكحول: اجتمعت أنا والزهري فتذاكرنا التيمم فقال
الزهري: المسح إلى الآباط. فقلت: عمن أخذت هذا ؟ فقال: عن كتاب الله عز وجل، إن
الله تعالى يقول: « فامسحوا بوجوهكم وأيديكم » فهي يد كلها. قلت له: فإن الله
تعالى يقول: « والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما » [ المائدة: 38 ] فمن أين تقطع اليد ؟ قال:
فخصمته. وحكي عن الدراوردي أن الكوعين فرض والآباط فضيلة. قال ابن عطية: هذا قول
لا يعضده قياس ولا دليل، وإنما عمم قوم لفظ اليد فأوجبوه من المنكب: وقاس قوم على
الوضوء فأوجبوه من المرافق وههنا جمهور الأمة، ووقف قوم مع الحديث في الكوعين،
وقيس أيضا على القطع إذ هو حكم شرعي وتطهير كما هذا تطهير، ووقف قوم مع حديث عمار
في الكفين. وهو قول الشعبي.
واختلف
العلماء أيضا هل يكفي في التيمم ضربة واحدة أم لا ؟ فذهب مالك في المدونة أن
التيمم بضربتين: ضربة للوجه وضربة لليدين؛ وهو قول الأوزاعي والشافعي وأبي حنيفة
وأصحابهم، والثوري والليث وابن أبي سلمة. ورواه جابر بن عبدالله وابن عمر عن النبي
صلى الله عليه وسلم. وقال ابن أبي الجهم: التيمم بضربة واحدة. وروي عن الأوزاعي في
الأشهر عنه؛ وهو قول عطاء والشعبي في رواية. وبه قال أحمد بن حنبل وإسحاق وداود
والطبري. وهو أثبت ما روي في ذلك من حديث عمار. قال مالك في كتاب محمد: إن تيمم
بضربة واحدة أجزأه. وقال ابن نافع: يعيد أبدا. قال أبو عمر وقال ابن أبي ليلى
والحسن بن حي: ضربتان؛ يمسح بكل ضربة منهما وجهه وذراعيه ومرفقيه. ولم يقل بذلك
أحد من أهل العلم غيرهما. قال أبو عمر: لما اختلفت الآثار في كيفية التيمم وتعارضت
كان الواجب في ذلك الرجوع إلى ظاهر الكتاب، وهو يدل على ضربتين ضربة للوجه،
ولليدين أخرى إلى المرفقين، قياسا على الوضوء واتباعا لفعل ابن عمر؛ فإنه من لا
يدفع علمه بكتاب الله. ولو ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك شيء وجب الوقوف
عنده. وبالله التوفيق.
قوله
تعالى: « إن الله كان عفوا غفورا » أي لم يزل كائنا يقبل العفو وهو السهل، ويغفر
الذنب أي يستر عقوبته فلا يعاقب.
الآيات:
44 ( ألم تر إلى الذين أوتوا
نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل )
قوله
تعالى: « ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب » إلى قوله تعالى: « فمنهم من
آمن به ومنهم من صد عنه » الآية.
نزلت في
يهود المدينة وما والاها. قال ابن إسحاق: وكان رفاعة بن زيد بن التابوت من عظماء
يهود، إذا كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم لوى لسانه وقال: أرعنا سمعك يا محمد
حتى نفهمك؛ ثم طعن في الإسلام وعابه فأنزل الله عز وجل « ألم تر إلى الذين أوتوا
نصيبا من الكتاب » إلى قوله « قليلا » . ومعنى « يشترون » يستبدلون فهو في موضع
نصب على الحال، وفي الكلام حذف تقديره يشترون الضلالة بالهدى؛ كما قال تعالى: «
أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى » [ البقرة: 16 ] قاله القتبي وغيره. « ويريدون أن تضلوا السبيل » عطف عليه،
والمعنى تضلوا طريق الحق. وقرأ الحسن: « تضلوا » بفتح الضاد أي عن السبيل.
الآيات:
45 - 51 ( والله أعلم بأعدائكم وكفى
بالله وليا وكفى بالله نصيرا، من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون
سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين ولو أنهم قالوا
سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا
يؤمنون إلا قليلا، يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من
قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر
الله مفعولا، إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك
بالله فقد افترى إثما عظيما، ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء
ولا يظلمون فتيلا، انظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به إثما مبينا، ألم تر إلى
الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء
أهدى من الذين آمنوا سبيلا )
قوله
تعالى: « والله
أعلم بأعدائكم » يريد
منكم؛ فلا تستصحبوهم فإنهم أعداؤكم. ويجوز أن يكون « أعلم » بمعنى عليم؛ كقوله تعالى: « وهو أهون عليه » [ الروم: 27 ] أي هين. « وكفى بالله وليا » الباء زائدة؛ زيدت لأن المعنى
اكتفوا بالله فهو يكفيكم أعداءكم. و « وليا » و « نصيرا » نصب على البيان، وإن شئت على
الحال.
قوله
تعالى: « من
الذين هادوا » قال
الزجاج: إن جعلت « من » متعلقة بما قبل فلا يوقف على
قول « نصيرا
» ، وإن
جعلت منقطعة فيجوز الوقف على « نصيرا
»
والتقدير من الذين هادوا قوم يحرفون الكلم؛ ثم حذف. وهذا مذهب سيبويه، وأنشد
النحويون:
لو قلت
ما في قومها لم تيثم يفضلها في حسب ومبسم
قالوا:
المعنى لو قلت ما في قومها أحد يفضلها؛ ثم حذف. وقال الفراء: المحذوف « من » المعنى: من الذين هادوا من
يحرفون. وهذا كقوله تعالى: « وما
منا إلا له مقام معلوم » [ الصافات: 164 ] أي من له. وقال ذو الرمة:
فظلوا
ومنهم دمعه سابق له وآخر يذري عبرة العين بالهمل
يريد
ومنهم من دمعه، فحذف الموصول. وأنكره المبرد والزجاج؛ لأن حذف الموصول كحذف بعض
الكلمة. « يحرفون
»
يتأولونه على غير تأويله. وذمهم الله تعالى بذلك لأنهم يفعلونه متعمدين. وقيل: « عن مواضعه » يعني صفة النبي صلى الله عليه
وسلم. «
ويقولون سمعنا وعصينا » أي
سمعنا قولك وعصينا أمرك. « واسمع
غير مسمع » قال ابن
عباس: كانوا يقولون النبي صلى الله عليه وسلم: اسمع لا سمعت، هذا مرادهم - لعنهم
الله - وهم يظهرون أنهم يريدون اسمع غير مسمع مكروها ولا أذى. وقال الحسن ومجاهد.
معناه غير مسمع منك، أي مقبول ولا مجاب إلى ما تقول. قال النحاس: ولو كان كذلك
لكان غير مسموع منك. وتقدم القول في « راعنا » . ومعنى
« ليا
بألسنتهم » أي
يلوون ألسنتهم عن الحق أي يميلونها إلى ما في قلوبهم. وأصل اللي الفتل، وهو نصب
على المصدر، وإن شئت كان مفعولا من أجله. وأصله لويا ثم أدغمت الواو في الياء. « وطعنا » معطوف عليه أي يطعنون في
الدين، أي يقولون لأصحابهم لو كان نبيا لدرى أننا نسبه، فأظهر الله تعالى نبيه على
ذلك فكان من علامات نبوته، ونهاهم عن هذا القول. ومعنى « أقوم » أصوب لهم في الرأي. « فلا يؤمنون إلا قليلا » أي إلا إيمانا قليلا لا
يستحقون به اسم الإيمان. وقيل: معناه لا يؤمنون إلا قليلا منهم؛ وهذا بعيد لأنه عز
وجل قد أخبر عنهم أنه لعنهم بكفرهم.
قوله
تعالى: « يا
أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا » قال ابن إسحاق: كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤساء من
أحبار يهود منهم عبدالله بن صوريا الأعور وكعب بن أسد فقال لهم: ( يا معشر يهود اتقوا الله
وأسلموا فوالله إنكم لتعلمون أن الذي جئتكم به الحق ) قالوا: ما نعرف ذلك يا محمد.
وجحدوا ما عرفوا وأصروا على الكفر؛ فأنزل الله عز وجل فيهم « يا أيها الذين أوتوا الكتاب
آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها » إلى آخر الآية.
قوله
تعالى: « مصدقا
لما معكم » نصب على
الحال. « من قبل
أن نطمس وجوها » الطمس
استئصال أثر الشيء؛ ومنه قوله تعالى: « فإذا النجوم طمست » [
المرسلات: 8 ] .
ونطمس ونطمس بكسر الميم وضمها في المستقبل لغتان. ويقال في الكلام: طسم يطسم ويطسم
بمعنى طمس؛ يقال: طمس الأثر وطسم أي أمحى، كله لغات؛ ومنه قوله تعالى: « ربنا اطمس على أموالهم » [ يونس: 88 ] أي أهلكها؛ عن ابن عرفة.
ويقال: طمسته فطمس لازم ومتعد. وطمس الله بصره، وهو مطموس البصر إذا ذهب أثر
العين؛ ومنه قوله تعالى: « ولو
نشاء لطمسنا على أعينهم » [ يس: 66 ] يقول أعميناهم.
واختلف
العلماء في المعنى المراد بهذه الآية؛ هل هو حقيقة فيجعل الوجه كالقفا فيذهب
بالأنف والفم والحاجب والعين. أو ذلك عبارة عن الضلال في قلوبهم وسلبهم التوفيق ؟
قولان. روي عن أبي بن كعب أنه قال: « من قبل أن نطمس » من قبل أن نضلكم إضلالا لا تهتدون بعده. يذهب إلى أنه تمثيل
وأنهم إن لم يؤمنوا فعل هذا بهم عقوبة. وقال قتادة: معناه من قبل أن نجعل الوجوه
أقفاء. أي يذهب بالأنف والشفاه والأعين والحواجب؛ هذا معناه عند أهل اللغة. وروي
عن ابن عباس وعطية العوفي: أن الطمس أن تزال العينان خاصة وترد في القفا؛ فيكون
ذلك ردا على الدبر ويمشي القهقرى. وقال مالك رحمه الله: كان أول إسلام كعب الأحبار
أنه مر برجل من الليل وهو يقرأ هذه الآية: « يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا » فوضع كفيه على وجهه ورجع
القهقرى إلى بيته فأسلم مكانه وقال: والله لقد خفت ألا أبلغ بيتي حتى يطمس وجهي.
وكذلك فعل عبدالله بن سلام، لما نزلت هذه الآية وسمعها أتى رسول الله صلى الله
عليه وسلم قبل أن يأتي أهله وأسلم وقال: يا رسول الله، ما كنت أدرى أن أصل إليك
حتى يحول وجهي في قفاي. فإن قيل: كيف جاز أن يهددهم بطمس الوجه إن لم يؤمنوا ثم لم
يؤمنوا ولم يفعل ذلك بهم؛ فقيل: إنه لما آمن هؤلاء ومن اتبعهم رفع الوعيد عن
الباقين. وقال المبرد: الوعيد باق منتظر. وقال: لا بد من طمس في اليهود ومسخ قبل
يوم القيامة.
قوله
تعالى: « أو
نلعنهم » أي
أصحاب الوجوه « كما
لعنا أصحاب السبت » أي
نمسخهم قردة وخنازير؛ عن الحسن وقتادة. وقيل: هو خروج من الخطاب إلى الغيبة « وكان أمر الله مفعولا » أي كائنا موجودا. ويراد بالأمر
المأمور فهو مصدر وقع موقع المفعول؛ فالمعنى أنه متى أراده أوجده. وقيل: معناه أن
كل أمر أخبر بكونه فهو كائن على ما أخبر به.
قوله
تعالى: « إن
الله لا يغفر أن يشرك به » روي أن
النبي صلى الله عليه وسلم تلا: « إن
الله يغفر الذنوب جميعا » [ الزمر: 53 ] فقال له رجل: يا رسول الله
والشرك ! فنزل « إن
الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء » . وهذا من المحكم المتفق عليه
الذي لا اختلاف فيه بين الأمة. « ويغفر
ما دون ذلك لمن يشاء » من
المتشابه الذي قد تكلم العلماء فيه. فقال محمد بن جرير الطبري: قد أبانت هذه الآية
أن كل صاحب كبيرة ففي مشيئة الله تعالى إن شاء عفا عنه ذنبه، وإن شاء عاقبه عليه
ما لم تكن كبيرته شركا بالله تعالى. وقال بعضهم: قد بين الله تعالى ذلك بقول: « إن تجتنبوا كبائر ما تنهون
عنه نكفر عنكم سيئاتكم » [ النساء: 31 ] فاعلم أنه يشاء أن يغفر
الصغائر لمن اجتنب الكبائر ولا يغفرها لمن أتى الكبائر. وذهب بعض أهل التأويل إلى
أن هذه الآية ناسخة للتي في آخر «
الفرقان » . قال
زيد بن ثابت: نزلت سورة « النساء
» بعد « الفرقان » بستة أشهر، والصحيح أن لا نسخ؛
لأن النسخ في الأخبار يستحيل. وسيأتي بيان الجمع بين الآي في هذه السورة وفي « الفرقان » إن شاء الله تعالى. وفي الترمذي
عن علي بن أبي طالب قال: ما في القرآن آية أحب إلي من هذه الآية « إن الله لا يغفر أن يشرك به
ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء » قال:
هذا حديث حسن غريب.
قوله
تعالى: « ألم تر
إلى الذين يزكون أنفسهم » هذا
اللفظ عام في ظاهره ولم يختلف أحد من المتأولين في أن المراد اليهود. واختلفوا في
المعنى الذي زكوا به أنفسهم؛ فقال قتادة والحسن: ذلك قولهم: « نحن أبناء الله وأحباؤه » ، وقولهم: « لن يدخل الجنة إلا من كان
هودا أو نصارى » وقال
الضحاك والسدي: قولهم لا ذنوب لنا وما فعلناه نهارا غفر لنا ليلا وما فعلناه ليلا
غفر لنا نهارا، ونحن كالأطفال في عدم الذنوب. وقال مجاهد وأبو مالك وعكرمة:
تقديمهم الصغار للصلاة؛ لأنهم لا ذنوب عليهم. وهذا يبعد من مقصد الآية. وقال ابن
عباس: ذلك قولهم آباؤنا الذين ماتوا يشفعون لنا ويزكوننا. وقال عبدالله بن مسعود:
ذلك ثناء بعضهم على بعض. وهذا أحسن ما قيل؛ فإنه الظاهر من معنى الآية، والتزكية:
التطهير والتبرية من الذنوب.
هذه
الآية وقوله تعالى: « فلا
تزكوا أنفسكم » [ النجم: 32 ] يقتضي الغض من المزكي لنفسه
بلسانه، والإعلام بأن الزاكي المزكى من حسنت أفعاله وزكاه الله عز وجل فلا عبرة
بتزكية الإنسان نفسه، وإنما العبرة بتزكية الله له. وفي صحيح مسلم عن محمد بن عمرو
بن عطاء قال: سميت ابنتي برة؛ فقالت لي زينب بنت أبي سلمة: إن رسول الله صلى الله
عليه وسلم نهى عن هذا الاسم، وسميت برة؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا تزكوا أنفسكم الله أعلم
بأهل البر منكم ) فقالوا:
بم نسميها ؟ فقال: ( سموها
زينب ) . فقد
دل الكتاب والسنة على المنع من تزكية الإنسان نفسه، ويجري هذا المجرى ما قد كثر في
هذه الديار المصرية من نعتهم أنفسهم بالنعوت التي تقتضي التزكية؛ كزكي الدين ومحي
الدين وما أشبه ذلك، لكن لما كثرت قبائح المسمين بهذه الأسماء ظهر تخلف هذه النعوت
عن أصلها فصارت لا تفيد شيئا.
فأما
تزكية الغير ومدحه له؛ ففي البخاري من حديث أبي بكرة أن رجلا ذكر عند النبي صلى
الله عليه وسلم فأثنى عليه رجل خيرا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ويحك قطعت عنق صاحبك - يقوله
مرارا - إن كان أحدكم مادحا لا محالة فليقل أحسب كذا وكذا إن كان يرى أنه كذلك
وحسيبه الله ولا يزكي على الله أحدا ) فنهى صلى الله عليه وسلم أن يفرط في مدح الرجل بما ليس فيه
فيدخله في ذلك الإعجاب والكبر، ويظن أنه في الحقيقة بتلك المنزلة فيحمله ذلك على
تضييع العمل وترك الازدياد من الفضل؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: ( ويحك قطعت عنق صاحبك ) . وفي الحديث الآخر ( قطعتم ظهر الرجل ) حين وصفوه بما ليس فيه. وعلى
هذا تأول العلماء قوله صلى الله عليه وسلم: ( احثوا التراب في وجوه المداحين ) إن المراد به المداحون في
وجوههم بالباطل وبما ليس فيهم، حتى يجعلوا ذلك بضاعة يستأكلون به الممدوح
ويفتنونه؛ فأما مدح الرجل بما فيه من الفعل الحسن والأمر المحمود ليكون منه ترغيبا
له في أمثاله وتحريضا للناس على الاقتداء به في أشباهه فليس بمداح، وإن كان قد صار
مادحا بما تكلم به من جميل القول فيه. وهذا راجع إلى النيات « والله يعلم المفسد من المصلح
» . وقد
مدح في الشعر والخطب والمخاطبة ولم يحث في وجوه المداحين التراب، ولا أمر بذلك.
كقول أبي طالب:
وأبيض
يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل
وكمدح
العباس وحسان له في شعرهما، ومدحه كعب بن زهير، ومدح هو أيضا أصحابه فقال: ( إنكم لتقلون عند الطمع
وتكثرون عند الفزع ) . وأما
قوله صلى الله عليه وسلم في صحيح الحديث: ( لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم وقولوا: عبدالله
ورسوله ) فمعناه
لا تصفوني بما ليس في من الصفات تلتمسون بذلك مدحي، كما وصفت النصارى عيسى بما لم
يكن فيه، فنسبوه إلى أنه ابن الله فكفروا بذلك وضلوا. وهذا يقتضي أن من رفع أمرا
فوق حده وتجاوز مقداره بما ليس فيه فمعتد آثم؛ لأن ذلك لو جاز في أحد لكان أولى
الخلق بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله
تعالى: « ولا
يظلمون فتيلا » الضمير
في « يظلمون
» عائد
على المذكورين ممن زكى نفسه وممن يزكيه الله عز وجل. وغير هذين الصنفين علم أن
الله تعالى لا يظلمه من غير هذه الآية. والفتيل الخيط الذي في شق نواة التمرة؛ قال
ابن عباس وعطاء ومجاهد. وقيل: القشرة التي حول النواة بينها وبين البسرة. وقال ابن
عباس أيضا وأبو مالك والسدي: هو ما يخرج بين أصبعيك أو كفيك من الوسخ إذا فتلتهما؛
فهو فعيل بمعنى مفعول. وهذا كله يرجع إلى كناية عن تحقير الشيء وتصغيره، وأن الله
لا يظلمه شيئا. ومثل هذا في التحقير قوله تعالى: « ولا يظلمون نقيرا » [
النساء: 124 ] وهو
النكتة التي في ظهر النواة، ومنه تنبت النخلة، وسيأتي. قال الشاعر يذم بعض الملوك:
تجمع
الجيش ذا الألوف وتغزو ثم لا ترزأ العدو فتيلا
ثم عجب
النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك فقال: « انظر كيف يفترون على الله الكذب » في قولهم: نحن أبناء الله
وأحباؤه. وقيل: تزكيتهم لأنفسهم؛ عن ابن جريج. وروي أنهم قالوا: ليس لنا ذنوب إلا
كذنوب أبنائنا يوم تولد. والافتراء الاختلاق؛ ومنه افترى فلان على فلان أي رماه
بما ليس فيه. وفريت الشيء قطعته. « وكفى
به إثما مبينا » نصب على
البيان. والمعنى تعظيم الذنب وذمه. العرب تستعمل مثل ذلك في المدح والذم.
قوله
تعالى: « ألم تر
إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب » يعني اليهود « يؤمنون بالجبت والطاغوت » اختلف أهل التأويل في تأويل الجبت والطاغوت؛ فقال ابن عباس
وابن جبير وأبو العالية: الجبت الساحر بلسان الحبشة، والطاغوت الكاهن. وقال
الفاروق عمر رضي الله عنه: الجبت السحر والطاغوت الشيطان. ابن مسعود: الجبت
والطاغوت ههنا كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب. عكرمة: الجبت حيي بن أخطب والطاغوت كعب
بن الأشرف؛ دليله قوله تعالى: « يريدون
أن يتحاكموا إلى الطاغوت » [ النساء:60 ] . قتادة: الجبت الشيطان
والطاغوت الكاهن. وروى ابن وهب عن مالك بن أنس: الطاغوت ما عبد من دون الله. قال:
وسمعت من يقول إن الجبت الشيطان؛ ذكره النحاس. وقيل: هما كل معبود من دون الله، أو
مطاع في معصية الله؛ وهذا حسن. وأصل الجبت الجبس وهو الذي لا خير فيه، فأبدلت
التاء من السين؛ قاله قطرب. وقيل: الجبت إبليس والطاغوت أولياؤه. وقول مالك في هذا
الباب حسن؛ يدل عليه قوله تعالى: « أن
اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت » [ النحل: 36 ] وقال تعالى: « والذين اجتنبوا الطاغوت أن
يعبدوها » [ الزمر: 17 ] . وروى قطن بن المخارق عن
أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( الطرق والطيرة والعيافة من الجبت ) . الطرق الزجر، والعيافة
الخط؛ خرجه أبو داود في سننه. وقيل: الجبت كل ما حرم الله، الطاغوت كل ما يطغي
الإنسان. والله أعلم.
قوله
تعالى: «
ويقولون للذين كفروا » أي يقول
اليهود لكفار قريش أنتم أهدى سبيلا من الذين آمنوا بمحمد. وذلك أن كعب بن الأشرف
خرج في سبعين راكبا من اليهود إلى مكة بعد وقعة أحد ليحالفوا قريشا على قتال رسول
الله صلى الله عليه وسلم، فنزل كعب على أبي سفيان فأحسن مثواه، ونزلت اليهود في
دور قريش فتعاقدوا وتعاهدوا ليجتمعن على قتال محمد؛ فقال أبو سفيان: إنك امرؤ تقرأ
الكتاب وتعلم، ونحن أميون لا نعلم، فأينا أهدى سبيلا وأقرب إلى الحق. نحن أم محمد
؟ فقال كعب: أنتم والله أهدى سبيلا مما عليه محمد.
الآيات:
52 - 53 ( أولئك الذين لعنهم الله ومن
يلعن الله فلن تجد له نصيرا، أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا )
قوله تعالى:
« أم لهم
نصيب من الملك » أي ألهم
؟ والميم صلة. « نصيب » حظ « من الملك » وهذا على وجه الإنكار؛ يعني
ليس لهم من الملك شيء، ولو كان لهم منه شيء لم يعطوا أحدا منه شيئا لبخلهم وحسدهم.
وقيل: المعنى بل ألهم نصيب؛ فتكون أم منقطعة ومعناها الإضراب عن الأول والاستئناف
للثاني. وقيل: هي عاطفة على محذوف؛ لأنهم أنفوا من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم.
والتقدير: أهم أولى بالنبوة ممن أرسلته أم لهم نصيب من الملك ؟. « فإذا لا يؤتون الناس نقيرا » أي يمنعون الحقوق. خبر الله عز
وجل عنهم بما يعلمه منهم. والنقير: النكتة في ظهر النواة؛ عن ابن عباس وقتادة
وغيرهما. وعن ابن عباس أيضا: النقير: ما نقر الرجل بأصبعه كما ينقر الأرض. وقال
أبو العالية: سألت ابن عباس عن النقير فوضع طرف الإبهام على باطن السبابة ثم
رفعهما وقال: هذا النقير. والنقير: أصل خشبة ينقر وينبذ فيه؛ وفيه جاء النهي ثم
نسخ. وفلان كريم النقير أي الأصل. و « إذا » هنا
ملغاه غير عاملة لدخول فاء العطف عليها، ولو نصب لجاز. قال سيبويه: « إذا » في عوامل الأفعال بمنزلة « أظن » في عوامل الأسماء، أي تلغى إذا
لم يكن الكلام معتمدا عليها، فإن كانت في أول الكلام وكان الذي بعدها مستقبلا
نصبت؛ كقولك: أنا أزورك فيقول مجيبا لك: إذا أكرمك. قال عبدالله بن عنتمة الضبي:
اردد
حمارك لا يرتع بروضتنا إذن يرد وقيد العير مكروب
نصب لأن
الذي قبل « إذن » تام فوقعت ابتداء كلام. فإن
وقعت متوسطة بين شيئين كقولك. زيد إذا يزورك ألغيت؛ فإن دخل عليها فاء العطف أو
واو العطف فيجور فيها الإعمال والإلغاء؛ أما الأعمال فلأن ما بعد الواو يستأنف على
طريق عطف الجملة على الجملة، فيجوز في غير القرآن فإذا لا يؤتوا. وفي التنزيل « وإذا لا يلبثون » [ الإسراء: 76 ] وفي مصحف أبي « وإذا لا يلبثوا » . وأما الإلغاء فلأن ما بعد الواو
لا يكون إلا بعه كلام يعطف عليه، والناصب للفعل عند سيبويه « إذا » لمضارعتها « أن » ، وعند الخليل أن مضمرة بعد
إذا. وزعم الفراء أن إذا تكتب بالألف وأنها منونة. قال النحاس: وسمعت علي بن
سليمان يقول: سمعت أبا العباس محمد بن يزيد يقول: أشتهي أن أكوي يد من يكتب إذاً
بالألف؛ إنها مثل لن وإن، ولا يدخل التنوين في الحروف.
الآيتان:
54 - 55 ( أم يحسدون الناس على ما
آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما،
فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيرا )
قوله
تعالى: « أم
يحسدون » يعني
اليهود. « الناس
» يعني
النبي صلى الله عليه وسلم خاصة؛ عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما. حسدوه على النبوة
وأصحابه على الإيمان به. وقال قتادة: « الناس » العرب،
حسدتهم اليهود على النبوة. الضحاك: حسدت اليهود قريشا؛ لأن النبوة فيهم. والحسد
مذموم وصاحبه مغموم وهو يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب؛ رواه أنس عن النبي صلى
الله عليه وسلم. وقال الحسن: ما رأيت ظالما أشبه بمظلوم من حاسد؛ نفس دائم، وحزن
لازم، وعبرة لا تنفد. وقال عبدالله بن مسعود: لا تعادوا نعم الله. قيل له: ومن
يعادي نعم الله ؟ قال: الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله، يقول الله
تعالى في بعض الكتب: الحسود عدو نعمتي متسخط لقضائي غير راض بقسمتي. ولمنصور
الفقيه:
ألا قل
لمن ظل لي حاسدا أتدري على من أسأت الأدب
أسأت على
الله في حكمه إذا أنت لم ترض لي ما وهب
ويقال:
الحسد أول ذنب عصي الله به في السماء، وأول ذنب عصي به في الأرض؛ فأما في السماء
فحسد إبليس لآدم، وأما في الأرض فحسد قابيل لهابيل. ولأبي العتاهية في الناس:
فيا رب
إن الناس لا ينصفونني فكيف ولو أنصفتهم ظلموني
وإن كان
لي شيء تصدوا لأخذه وإن شئت أبغي شيئهم منعوني
وإن
نالهم بذلي فلا شكر عندهم وإن أنا لم أبذل لهم شتموني
وإن
طرقتني نكبة فكهوا بها وإن صحبتني نعمة حسدوني
سأمنع
قلبي أن يحن إليهمو وأحجب عنهم ناظري وجفوني
وقيل:
إذا سرك أن تسلم من الحاسد فغم عليه أمرك. ولرجل من قريش:
حسدوا
النعمة لما ظهرت فرموها بأباطيل الكلم
وإذا ما الله
أسدى نعمة لم يضرها قول أعداء النعم
ولقد
أحسن من قال:
أصبر على
حسد الحسو د فإن صبرك قاتله
فالنار
تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله
وقال بعض
أهل التفسير في قول الله تعالى: « ربنا
أرنا الذين أضلانا من الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الأسفلين » [ فصلت: 29 ] . إنه إنما أراد بالذي من
الجن إبليس والذي من الإنس قابيل؛ وذلك أن إبليس كان أول من سن الكفر، وقابيل كان
أول من سن القتل، وإنما كان أصل ذلك كله الحسد. وقال الشاعر:
إن
الغراب وكان يمشي مشية فيما مضى من سالف الأحوال
حسد
القطاة فرام يمشي مشيها فأصابه ضرب من التعقال
قوله
تعالى: « فقد
آتينا » ثم أخبر
تعالى أنه آتى آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتاهم ملكا عظيما. قال همام بن الحارث:
أيدوا بالملائكة. وقيل: يعني ملك سليمان؛ عن ابن عباس. وعنه أيضا: المعنى أم
يحسدون محمدا على ما أحل الله له من النساء فيكون الملك العظيم على هذا أنه أحل
لداود تسعا وتسعين امرأة ولسليمان أكثر من ذلك. واختار الطبري أن يكون المراد ما
أوتيه سليمان من الملك وتحليل النساء. والمراد تكذيب اليهود والرد عليهم في قولهم:
لو كان نبيا ما رغب في كثرة النساء ولشغلته النبوة عن ذلك؛ فأخبر الله تعالى بما
كان لداود وسليمان يوبخهم، فأقرت اليهود أنه اجتمع عند سليمان ألف امرأة، فقال لهم
النبي صلى الله عليه وسلم: ألف امرأة ؟ قالوا: نعم ثلاثمائة مهرية، وسبعمائة سرية،
وعند داود مائة امرأة. فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: ( ألف عند رجل ومائة عند رجل
أكثر أو تسع نسوة ) ؟
فسكتوا. وكان له يومئذ تسع نسوة.
يقال: إن
سليمان عليه السلام كان أكثر الأنبياء نساء. والفائدة في كثرة تزوجه أنه كان له
قوة أربعين نبيا، وكل من كان أقوى فهو أكثر نكاحا. ويقال: إنه أراد بالنكاح كثرة
العشيرة؛ لأن لكل امرأة قبيلتين قبيلة من جهة الأب وقبيلة من جهة الأم؛ فكلما تزوج
امرأة صرف وجوه القبيلتين إلى نفسه فتكون عونا له على أعدائه. ويقال: إن كل من كان
أتقى فشهوته أشد؛ لأن الذي لا يكون تقيا فإنما يتفرج بالنظر والمس، ألا ترى ما روى
في الخبر: (
العينان تزنيان واليدان تزنيان ) . فإذا
كان في النظر والمس نوع من قضاء الشهوة قل الجماع، والمتقي لا ينظر ولا يمس فتكون
الشهوة مجتمعة في نفسه فيكون أكثر جماعا. وقال أبو بكر الوراق: كل شهوة تقسي القلب
إلا الجماع فإنه يصفي القلب؛ ولهذا كان الأنبياء يفعلون ذلك.
قوله
تعالى: « فمنهم
من آمن به » يعني
بالنبي صلى الله عليه وسلم لأنه تقدم ذكره وهو المحسود. « ومنهم من صد عنه » أعرض فلم يؤمن به. وقيل:
الضمير في « به » راجع إلى إبراهيم. والمعنى:
فمن آل إبراهيم من آمن به ومنهم من صد عنه. وقيل: يرجع إلى الكتاب. والله أعلم.
الآية:
56 ( إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم
نارا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزا
حكيما )
الآية:
57 ( والذين آمنوا وعملوا
الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا لهم فيها أزواج
مطهرة وندخلهم ظلا ظليلا )
قد تقدم
معنى الإصلاء أول السورة. وقرأ حميد بن قيس « نصليهم » بفتح
النون أي نشويهم. يقال: شاة مصلية. ونصب « نارا » على هذه
القراءة بنزع الخافض تقديره بنار. « كلما نضجت جلودهم » يقال: نضج الشيء نضجا ونضجا، وفلان نضيج الرأي محكمه.
والمعنى في الآية: تبدل الجلود جلودا أخر. فإن قال من يطعن في القرآن من الزنادقة:
كيف جاز أن يعذب جلدا لم يعصه ؟ قيل له: ليس الجلد بمعذب ولا معاقب، وإنما الألم
واقع على النفوس؛ لأنها هي التي تحس وتعرف فتبديل الجلود زيادة في عذاب النفوس.
يدل عليه قوله تعالى: «
ليذوقوا العذاب » وقوله
تعالى: « كلما
خبت زدناهم سعيرا » [ الإسراء: 97 ] . فالمقصود تعذيب الأبدان
وإيلام الأرواح. ولو أراد الجلود لقال: ليذقن العذاب. مقاتل: تأكله النار كل يوم
سبع مرات. الحسن: سبعين ألف مرة كلما أكلتهم قيل لهم: عودوا فعادوا كما كانوا. ابن
عمر: إذا احترقوا بدلت لهم جلود بيض كالقراطيس. وقيل: عنى بالجلود السرابيل؛ كما
قال تعالى: « وترى
المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد سرابيلهم من قطران » [ إبراهيم: 49 - 50 ] سميت جلودا للزومها جلودهم
على المجاورة؛ كما يقال للشيء الخاص بالإنسان: هو جلدة ما بين عينيه. وأنشد ابن
عمر رضي الله عنه:
يلومونني
في سالم وألومهم وجلدة بين العين والأنف سالم
فكلما
احترقت السرابيل أعيدت. قال الشاعر:
كسا
اللؤم تيما خضرة في جلودها فويل لتيم من سرابيلها الخضر
فكنى عن
الجلود بالسرابيل. وقيل: المعنى أعدنا الجلد الأول جديدا؛ كما تقول للصائغ: صغ لي
من هذا الخاتم خاتما غيره؛ فيكسره ويصوغ لك منه خاتما. فالخاتم المصوغ هو الأول
إلا أن الصياغة تغيرت والفضة واحدة. وهذا كالنفس إذا صارت ترابا وصارت لا شيء ثم
أحياها الله تعالى. وكعهدك بأخ لك صحيح ثم تراه بعد ذلك سقيما مدنفا فتقول له: كيف
أنت ؟ فيقول: أنا غير الذي عهدت. فهو هو، ولكن حاله تغيرت. فقول القائل: أنا غير
الذي عهدت، وقوله تعالى: « غيرها
» مجاز.
ونظيره قوله تعالى: « يوم
تبدل الأرض غير الأرض » [ إبراهيم: 48 ] وهي تلك الأرض بعينها إلا
أنها تغير آكامها وجبالها وأنهارها وأشجارها، ويزاد في سعتها ويسوى ذلك منها؛ على
ما يأتي بيانه في سورة « إبراهيم
» عليه
السلام. ومن هذا المعنى قول الشاعر:
فما
الناس بالناس الذين عهدتهم ولا الدار بالدار التي كنت أعرف
وقال
الشعبي: جاء رجل إلى ابن عباس فقال: ألا ترى ما صنعت عائشة. ذمت دهرها، وأنشدت
بيتي لبيد:
ذهب
الذين يعاش في أكنافهم وبقيت في خلف كجلد الأجرب
يتلذذون
مجانة ومذلة ويعاب قائلهم وإن لم يشغب
فقالت:
رحم الله لبيدا فكيف لو أدرك زماننا هذا ! فقال ابن عباس: لئن ذمت عائشة دهرها لقد
ذمت « عاد » دهرها؛ لأنه وجد في خزانة « عاد » بعدما هلكوا بزمن طويل كأطول
ما يكون من رماح ذلك الزمن عليه مكتوب:
بلاد بها
كنا ونحن بأهلها إذ الناس ناس والبلاد بلاد
البلاد
باقية كما هي إلا أن أحوالها وأحوال أهلها تنكرت وتغيرت. « إن الله كان عزيزا » أي لا يعجزه شيء ولا يفوته. « حكيما » في إيعاده عباده. وقوله في صفة
أهل الجنة: «
وندخلهم ظلا ظليلا » يعني
كثيفا لا شمس فيه. الحسن: وصف بأنه ظليل؛ لأنه لا يدخله ما يدخل ظل الدنيا من الحر
والسموم ونحو ذلك. وقال الضحاك: يعني ظلال الأشجار وظلال قصورها الكلبي: « ظلا ظليلا » يعني دائما.
الآية:
58 ( إن الله يأمركم أن تؤدوا
الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به
إن الله كان سميعا بصيرا )
قوله
تعالى: « إن
الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات » هذه
الآية من أمهات الأحكام تضمنت جميع الدين والشرع. وقد اختلف من المخاطب بها؛ فقال
علي بن أبى طالب وزيد بن أسلم وشهر بن حوشب وابن زيد: هذا خطاب لولاة المسلمين
خاصة، فهي للنبي صلى الله عليه وسلم وأمرائه، ثم تتناول من بعدهم. وقال ابن جريج
وغيره: ذلك خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة في أمر مفتاح الكعبة حين أخذه من
عثمان بن أبي طلحة الحجبي العبدري من بني عبدالدار ومن ابن عمه شيبة بن عثمان بن
أبي طلحة وكانا كافرين وقت فتح مكة، فطلبه العباس بن عبدالمطلب لتنضاف له السدانة
إلى السقاية؛ فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الكعبة فكسر ما كان فيها من
الأوثان، وأخرج مقام إبراهيم ونزل عليه جبريل بهذه الآية. قال عمر بن الخطاب: وخرج
رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ هذه الآية، وما كنت سمعتها قبل منه، فدعا
عثمان وشيبة فقال: ( خذاها
خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم ) . وحكى مكي: أن شيبة أراد ألا يدفع المفتاح، ثم دفعه، وقال
للنبي صلى الله عليه وسلم: خذه بأمانة الله. وقال ابن عباس: الآية في الولاة خاصة
في أن يعظوا النساء في النشوز ونحوه ويردوهن إلى الأزواج. والأظهر في الآية أنها
عامة في جميع الناس فهي تتناول الولاة فيما إليهم من الأمانات في قسمة الأموال ورد
الظلامات والعدل في الحكومات. وهذا اختيار الطبري. وتتناول من دونهم من الناس في
حفظ الودائع والتحرز في الشهادات وغير ذلك، كالرجل يحكم في نازلة ما ونحوه؛
والصلاة والزكاة وسائر العبادات أمانة الله تعالى. وروي هذا المعنى مرفوعا من حديث
ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( القتل في سبيل الله يكفر الذنوب كلها ) أو قال: ( كل شيء إلا الأمانة -
والأمانة في الصلاة والأمانة في الصوم والأمانة في الحديث وأشد ذلك الودائع ) . ذكره أبو نعيم الحافظ في
الحلية. وممن قال إن الآية عامة في الجميع البراء بن عازب وابن مسعود وابن عباس
وأبي بن كعب قالوا: الأمانة في كل شيء في الوضوء والصلاة والزكاة والجنابة والصوم
والكيل والوزن والودائع، وقال ابن عباس: لم يرخص الله لمعسر ولا لموسر أن يمسك
الأمانة.
قلت:
وهذا إجماع. وأجمعوا على أن الأمانات مردودة إلى أربابها الأبرار منهم والفجار؛
قاله ابن المنذر. والأمانة مصدر بمعنى المفعول فلذلك جمع. ووجه النظم بما تقدم أنه
تعالى أخبر عن كتمان أهل الكتاب صفة محمد صلى الله عليه وسلم، وقولهم: إن المشركين
أهدى سبيلا، فكان ذلك خيانة منهم فانجر الكلام إلى ذكر جميع الأمانات؛ فالآية
شاملة بنظمها لكل أمانة وهي أعداد كثيرة كما ذكرنا. وأمهاتها في الأحكام: الوديعة
واللقطة والرهن والعارية. وروى أبي بن كعب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول: ( أد
الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك ) . أخرجه الدارقطني. ورواه أنس وأبو هريرة عن النبي صلى الله
عليه وسلم وقد تقدم في « البقرة
» معناه.
وروى أبو أمامة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته عام حجة
الوداع: (
العارية مؤداة والمنحة مردودة والدين مقضي والزعيم غارم ) . صحيح أخرجه الترمذي وغيره.
وزاد الدارقطني: فقال رجل: فعهد الله ؟ قال: ( عهد الله أحق ما أدي ) . وقال بمقتضى هذه الآية والحديث في رد الوديعة وأنها مضمونة
على كل حال كانت مما يغاب عليها أو لا يغاب تعدي فيها أو لم يتعد - عطاء والشافعي
وأحمد وأشهب. وروي أن ابن عباس وأبا هريرة رضي الله عنهما ضمنا الوديعة. وروى ابن
القاسم عن مالك أن من استعار حيوانا أو غيره مما لا يغاب عليه فتلف عنده فهو مصدق
في تلفه ولا يضمنه إلا بالتعدي. وهذا قول الحسن البصري والنخعي، وهو قول الكوفيين
والأوزاعي قالوا: ومعنى قول عليه السلام: ( العارية مؤداة ) هو كمعنى قوله تعالى: « إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها » . فإذا تلفت الأمانة لم يلزم
المؤتمن غرمها لأنه مصدق فكذلك العارية إذا تلفت من غير تعد؛ لأنه لم يأخذها على
الضمان، فإذا تلفت بتعديه عليها لزمه قيمتها لجنايته عليها. وروي عن علي وعمر وابن
مسعود أنه لا ضمان في العارية. وروى الدارقطني عن، عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا ضمان على مؤتمن ) . واحتج الشافعي فيما استدل به بقول صفوان للنبي صلى الله
عليه وسلم لما استعار منه الأدراع: أعارية مضمونة أو عارية مؤداة ؟ فقال: ( بل عارية مؤداة ) .
قوله
تعالى: « وإذا
حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل » قال الضحاك: بالبينة على المدعي واليمين على من أنكر. وهذا
خطاب للولاة والأمراء والحكام، ويدخل في ذلك بالمعنى جميع الخلق كما ذكرنا في أداء
الأمانات. قال صلى الله عليه وسلم: ( إن المقسطين يوم القيامة على منابر من نور عن يمين الرحمن
وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا ) . وقال: ( كلكم راع وكلكم مسؤول عن
رعيته فالإمام راع وهو مسؤول عن رعيته والرجل راع على أهله وهو مسؤول عنهم والمرأة
راعية على بيت زوجها وهي مسؤولة عنه والعبد راع على مال سيده وهو مسؤول عنه ألا
فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ) . فجعل
في هذه الأحاديث الصحيحة كل هؤلاء رعاة: وحكاما على مراتبهم، وكذلك العالم الحاكم؛
لأنه إذا أفتى حكم وقضى وفصل بين الحلال والحرام، والفرض والندب، والصحة والفساد،
فجميع ذلك أمانة تؤدى وحكم يرضى. وقد تقدم في ( البقرة ) القول
في « نعما » .
قوله
تعالى: « إن
الله كان سميعا بصيرا » وصف
الله تعالى نفسه بأنه سميع بصير يسمع ويرى؛ كما قال تعالى: « إنني معكما أسمع وأرى » [ طه:46 ] فهذا طريق السمع. والعقل يدل
على ذلك؛ فإن انتفاء السمع والبصر يدل على نقيضهما من العمى والصمم، إذ المحل
القابل للضدين لا يخلو من أحدهما، وهو تعالى مقدس عن النقائص ويستحيل صدور الأفعال
الكاملة من المتصف، بالنقائص؛ كخلق السمع والبصر ممن ليس له سمع ولا بصر. وأجمعت
الأمة على تنزيهه تعالى عن النقائص وهو أيضا دليل سمعي يكتفى به مع نص القرآن في
مناظرة من تجمعهم كلمة الإسلام. جل الرب تبارك وتعالى عما يتوهمه المتوهمون
ويختلقه المفترون الكاذبون « سبحان
ربك رب العزة عما يصفون » [ الصافات:180 ] .
الآية:
59 ( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا
الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول
إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا )
لما تقدم
إلى الولاة في الآية المتقدمة وبدأ بهم فأمرهم بأداء الأمانات وأن يحكموا بين
الناس بالعدل، تقدم في هذه الآية إلى الرعية فأمر بطاعته جل وعز أولا، وهي امتثال
أوامره واجتناب نواهيه، ثم بطاعة رسوله ثانيا فيما أمر به ونهى عنه، ثم بطاعة
الأمراء ثالثا؛ على قول الجمهور وأبي هريرة وابن عباس وغيرهم. قال سهل بن عبدالله
التستري: أطيعوا السلطان في سبعة: ضرب الدراهم والدنانير، والمكاييل والأوزان،
والأحكام والحج والجمعة والعيدين والجهاد. قال سهل: وإذا نهى السلطان العالم أن
يفتي فليس له أن يفتي، فإن أفتى فهو عاص وإن كان أميرا جائرا. وقال ابن خويز
منداد: وأما طاعة السلطان فتجب فيما كان له فيه طاعة، ولا تجب فيما كان لله فيه
معصية؛ ولذلك قلنا: إن ولاة زماننا لا تجوز طاعتهم ولا معاونتهم ولا تعظيمهم، ويجب
الغزو معهم متى غزوا، والحكم من قولهم، وتولية الإمامة والحسبة؛ وإقامة ذلك على
وجه الشريعة. وإن صلوا بنا وكانوا فسقة من جهة المعاصي جازت الصلاة معهم، وإن
كانوا مبتدعة لم تجز الصلاة معهم إلا أن يخافوا فيصلي معهم تقية وتعاد الصلاة.
قلت: روي
عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: حق على الإمام أن يحكم بالعدل، ويؤدي
الأمانة؛ فإذا فعل ذلك وجب على المسلمين أن يطيعوه؛ لأن الله تعالى أمرنا بأداء
الأمانة والعدل، ثم أمر بطاعته. وقال جابر بن عبدالله ومجاهد: « أولو الأمر » أهل القرآن والعلم؛ وهو اختيار
مالك رحمه الله، ونحوه قول الضحاك قال: يعني الفقهاء والعلماء في الدين. وحكي عن
مجاهد أنهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم خاصة. وحكى عن عكرمة أنها إشارة إلى أبي
بكر وعمر رضي الله عنهما خاصة. وروى سفيان بن عيينة عن الحكم بن أبان أنه سأل
عكرمة عن أمهات الأولاد فقال: هن حرائر. فقلت بأي شيء ؟ قال بالقرآن. قلت: بأي شيء
في القرآن ؟ قال: قال الله تعالى: « أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم » وكان عمر من أولي الأم؛ قال:
عتقت ولو بسقط. وسيأتي هذا المعنى مبينا في سورة « الحشر » عند
قوله تعالى: « وما
آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا » [
الحشر: 7 ] . وقال
ابن كيسان: هم أولو العقل، الرأي الذين يدبرون أمر الناس.
قلت:
وأصح هذه الأقوال الأول والثاني؛ أما الأول فلأن أصل الأم منهم والحكم إليهم. وروى
الصحيحان عن ابن عباس قال: نزل « يا
أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم » في عبدالله بن حذافة بن قيس بن
عدي السهمي إذ بعثه النبي صلى الله عليه وسلم في سرية. قال أبو عمر: وكان في
عبدالله بن حذافة دعابة معروفة؛ ومن دعابته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره
على سرية فأمرهم أن يجمعوا حطبا ويوقدوا نارا؛ فلما أوقدوها أمرهم بالتقحم فيها،
فقال لهم: ألم يأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم بطاعتي ؟ ! وقال: ( من أطاع أميري فقد أطاعني ) . فقالوا: ما آمنا بالله
واتبعنا رسوله إلا لننجو من النار ! فصوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلهم
وقال: ( لا
طاعة لمخلوق في معصية الخالق قال الله تعالى: « ولا تقتلوا أنفسكم » [
النساء: 29 ] ) . وهو حدث صحيح الإسناد
مشهور. وروى محمد بن عمرو بن علقمة عن عمر بن الحكم بن ثوبان أن أبا سعيد الخدري
قال: كان عبدالله بن حذافة بن قيس، السهمي من أصحاب بدر وكانت فيه دعابة. وذكر
الزبير قال: حدثني عبدالجبار بن سعيد عن عبدالله بن وهب عن الليث بن سعد قال:
بلغني أنه حل حزام راحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، حتى كاد
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقع. قال ابن وهب: فقلت لليث ليضحكه ؟ قال: نعم كانت
فيه دعابة. قال ميمون بن مهران ومقاتل والكلبي: « أولوا الأمر » أصحاب السرايا. وأما القول الثاني فيدل على صحته قوله تعالى « فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى
الله والرسول » . فأمر
تعالى برد المتنازع فيه إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وليس لغير
العلماء معرفة كيفية الرد إلى الكتاب والسنة؛ ويدل هذا على صحة كون سؤال العلماء
واجبا، وامتثال فتواهم لازما. قال سهل بن عبدالله رحمه الله: لا يزال الناس بخير
ما عظموا السلطان والعلماء؛ فإذا عظموا هذين أصلح الله دنياهم وأخراهم، وإذا
استخفوا بهذين أفسد دنياهم وأخراهم. وأما القول الثالث فخاص، وأخص منه القول
الرابع. وأما الخامس فيأباه ظاهر اللفظ وإن كان المعنى صحيحا، فإن العقل لكل فضيلة
أس، ولكل أدب ينبوع، وهو الذي جعله الله للدين أصلا وللدنيا عمادا، فأوجب الله
التكليف بكمال، وجعل الدنيا مدبرة بأحكامه؛ والعاقل أقرب إلى ربه تعالى من جميع
المجتهدين بغير عقل وروى هذا المعنى عن ابن عباس. وزعم قوم أن المراد بأولي الأمر
علي والأئمة المعصومون. ولو كان كذلك ما كان لقوله: « فردوه إلى الله والرسول » معنى، بل كان يقول فردوه إلى
الإمام وأولي الأمر، فإن قوله عند هؤلاء هو المحكم على الكتاب والسنة. وهذا قول
مهجور مخالف لما عليه الجمهور. وحقيقة الطاعة امتثال الأمر، كما أن المعصية ضدها
وهي مخالفة الأمر. والطاعة مأخوذة من أطاع إذا انقاد، والمعصية مأخوذة من عصى إذا
اشتد. و « أولو » واحدهم « ذو » على غير قياس كالنساء والإبل
والخيل، كل واحد اسم الجمع ولا واحد له من لفظه. وقد قيل في واحد الخيل: خائل وقد
تقدم.
قوله
تعالى: « فإن
تنازعتم في شيء » أي تجادلتم
واختلفتم؛ فكأن كل واحد ينتزع حجة الآخر ويذهبها. والنزع الجذب. والمنازعة مجاذبة
الحجج؛ ومنه الحديث ( وأنا
أقول ما لي ينازعني القرآن ) . وقال
الأعشى:
نازعتم
قضب الريحان متكئا وقهوة مزة راووقها خضل
الخضل
النبات الناعم والخضيلة الروضة « في شيء
» أي من
أمر دينكم. « فردوه
إلى الله والرسول » أي ردوا
ذلك الحكم إلى كتاب الله أو إلى رسوله بالسؤال في حياته، أو بالنظر في سنته بعد
وفاته صلى الله عليه وسلم؛ هذا قول مجاهد والأعمش وقتادة، وهو الصحيح. ومن لم ير
هذا أختل إيمانه؛ لقوله تعالى: « إن
كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر » . وقيل:
المعنى قولوا الله ورسوله أعلم؛ فهذا هو الرد. وهذا كما قال عمر بن الخطاب رضي
الله عنه: الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل. والقول الأول أصح؛ لقول علي
رضي الله عنه: ما عندنا إلا ما في كتاب الله وما في هذه الصحيفة، أو فهم أعطيه رجل
مسلم. ولو كان كما قال هذا القائل لبطل الاجتهاد الذي خص به هذه الأمة والاستنباط
الذي أعطيها، ولكن تضرب الأمثال ويطلب المثال حتى يخرج الصواب. قال أبو العالية:
وذلك قوله تعالى: « ولو
ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم » [ النساء: 83 ] . نعم، ما كان مما استأثر
الله بعلمه ولم يطلع عليه أحدا من خلقه فذلك الذي يقال فيه: الله أعلم. وقد استنبط
علي رضي الله عنه مدة أقل الحمل - وهو ستة أشهر - من قوله تعالى: « وحمله وفصاله ثلاثون شهرا » [ الأحقاف:15 ] وقوله تعالى: « والوالدات يرضعن أولادهن
حولين كاملين » [ البقرة: 233 ] فإذا فصلنا الحولين من ثلاثين
شهرا بقيت ستة أشهر؛ ومثله كثير. وفي قوله تعالى: « وإلى الرسول » دليل على أن سنته صلى الله عليه وسلم يعمل بها ويمتثل ما
فيها. قال صلى الله عليه وسلم: ( ما
نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم فإنما أهلك من كان
قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم ) أخرجه مسلم. وروى أبو داود عن أبي رافع عن النبي صلى الله
عليه وسلم قال: ( لا
ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول
لا ندري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه ) . وعن العرباض بن سارية أنه حضر رسول الله صلى الله عليه
وسلم يخطب الناس وهو يقول: ( أيحسب
أحدكم متكئا على أريكته قد يظن أن الله لم يحرم شيئا إلا ما في هذا القرآن ألا
وإني والله قد أمرت ووعظت ونهيت عن أشياء إنها لمثل القرآن أو أكثر ) . وأخرجه الترمذي من حديث
المقدام بن معديكرب بمعناه وقال: حديث حسن غريب. والقاطع قوله تعالى: « فليحذر الذين يخالفون عن أمره
أن تصيبهم فتنة » [ النور: 63 ] الآية. وسيأتي.
قوله
تعالى: « ذلك
خير » أي ردكم
ما اختلفتم فيه إلى الكتاب والسنة خير من التنازع. « وأحسن تأويلا » أي مرجعا؛ من آل يؤول إلى كذا
أي صار. وقيل: من ألت الشيء إذا جمعته وأصلحته. فالتأويل جمع معاني ألفاظ أشكلت
بلفظ لا إشكال فيه؛ يقال: أول الله عليك أمرك أي جمعه. ويجوز أن يكون المعنى وأحسن
من تأويلكم.
الآية:
60 ( ألم تر إلى الذين يزعمون
أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد
أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا )
الآية:
61 ( وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما
أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا )
روى يزيد
بن زريع عن داود بن أبي هند عن الشعبي قال: كان بين رجل من المنافقين ورجل من
اليهود خصومة، فدعا اليهودي المنافق إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه علم أنه
لا يقبل الرشوة. ودعا المنافق اليهودي إلى حكامهم؛ لأنه علم أنهم يأخذون الرشوة في
أحكامهم؛ فلما اجتمعا على أن يحكما كاهنا في جهينة؛ فأنزل الله تعالى في ذلك: « ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم
آمنوا بما أنزل إليك » يعني
المنافق. « وما
أنزل من قبلك » يعني
اليهودي. « يريدون
أن يتحاكموا إلى الطاغوت » إلى
قوله: «
ويسلموا تسليما » وقال
الضحاك: دعا اليهودي المنافق إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ودعاه المنافق إلى كعب
بن الأشرف وهو «
الطاغوت » ورواه
أبو صالح عن ابن عباس قال: كان بين رجل من المنافقين يقال له بشر وبين يهودي
خصومة؛ فقال اليهودي: انطلق بنا إلى محمد، وقال المنافق: بل إلى كعب بن الأشرف وهو
الذي سماه الله « الطاغوت
» أي ذو
الطغيان فأبى اليهودي أن يخاصمه إلا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلما رأى
ذلك المنافق أتى معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى لليهودي. فلما خرجا
قال المنافق: لا أرضى، انطلق بنا إلى أبي بكر؛ فحكم لليهودي فلم يرض ذكره الزجاج
وقال: انطلق بنا إلى عمر فأقبلا على عمر فقال اليهودي: إنا صرنا إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم ثم إلى أبي بكر فلم يرض؛ فقال عمر للمنافق: أكذلك هو ؟ قال: نعم.
قال: رويدكما حتى أخرج إليكما. فدخل وأخذ السيف ثم ضرب به المنافق حتى برد، وقال:
هكذا أقضي على من لم يرض بقضاء الله وقضاء رسوله؛ وهرب اليهودي، ونزلت الآية، وقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أنت
الفاروق ) . ونزل
جبريل وقال: إن عمر فرق بين الحق والباطل؛ فسمي الفاروق. وفي ذلك نزلت الآيات كلها
إلى قوله: «
ويسلموا تسليما » [ النساء: 65 ] وانتصب: « ضلالا » على المعنى، أي فيضلون ضلالا؛
ومثله قوله تعالى: « والله
أنبتكم من الأرض نباتا » [ نوح: 17 ] . وقد تقدم هذا المعنى
مستوفى. و « صدودا
» اسم
للمصدر عند الخليل، والمصدر الصد. والكوفيون يقولون: هما مصدران.
الآية:
62 ( فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما
قدمت أيديهم ثم جاؤوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا )
الآية:
63 ( أولئك الذين يعلم الله ما في
قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا )
أي « فكيف » يكون حالهم، أو « فكيف » يصنعون « إذا أصابتهم مصيبة » أي ترك الاستعانة بهم، وما
يلحقهم من الذل في قوله: « فقل لن
تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا » [
التوبة: 83 ] .
وقيل: يريد قتل صاحبهم « بما
قدمت أيديهم » وتم
الكلام. ثم ابتدأ يخبر عن فعلهم؛ وذلك أن عمر لما قتل صاحبهم جاء قومه يطلبون ديته
ويحلفون ما نريد بطلب ديته إلا الإحسان وموافقة الحق. وقيل: المعنى ما أردنا بالعدول
عنك في المحاكمة إلا التوفيق بين الخصوم، والإحسان بالتقريب في الحكم. ابن كيسان:
عدلا وحقا؛ نظيرها «
وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى » [ التوبة: 107 ] . فقال الله تعالى مكذبا لهم:
« أولئك
الذين يعلم الله ما في قلوبهم » قال الزجاج:
معناه قد علم الله أنهم منافقون. والفائدة لنا: اعلموا أنهم منافقون. « فأعرض عنهم » قيل: عن عقابهم. وقيل: عن قبول
اعتذارهم « وعظهم
» أي
خوفهم. قيل في الملأ. « وقل
لهم في أنفسهم قولا بليغا » أي
ازجرهم بأبلغ الزجر في السر والخلاء. الحسن: قل لهم إن أظهرتم ما في قلوبكم
قتلتكم. وقد بلغ القول بلاغة؛ ورجل بليغ يبلغ بلسانه كنه ما في قلبه. والعرب تقول:
أحمق بلغ وبلغ، أي نهاية في الحماقة. وقيل: معناه يبلغ ما يريد وإن كان أحمق.
ويقال: إن قوله تعالى: « فكيف
إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم » نزل في شأن الذين بنوا مسجد الضرار؛ فلما أظهر الله نفاقهم،
وأمرهم بهدم المسجد حلفوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم دفاعا عن أنفسهم: ما
أردنا ببناء المسجد إلا طاعة الله وموافقة الكتاب.
الآية:
64 ( وما أرسلنا من رسول إلا
ليطاع بإذن الله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم
الرسول لوجدوا الله توابا رحيما )
قوله
تعالى: « وما
أرسلنا من رسول » « من » زائدة للتوكيد. « إلا ليطاع » فيما أمر به ونهى عنه. « بإذن الله » بعلم الله. وقيل: بتوفيق الله.
« ولو
أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول » روى أبو صادق عن علي قال: قدم
علينا أعرابي بعد ما دفنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاثة أيام، فرمى بنفسه
على قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وحثا على رأسه من ترابه؛ فقال: قلت يا رسول
الله فسمعنا قولك، ووعيت عن الله فوعينا عنك، وكان فيما أنزل الله عليك « ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم » الآية، وقد ظلمت نفسي وجئتك
تستغفر لي. فنودي من القبر أنه قد غفر لك. « لوجدوا الله توابا رحيما » أي قابلا لتوبتهم، وهما مفعولان لا غير.
الآية:
65 ( فلا وربك لا يؤمنون حتى
يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما )
قال
مجاهد وغيره: المراد بهذه الآية من تقدم ذكره ممن أراد التحاكم إلى الطاغوت وفيهم
نزلت. وقال الطبري: قوله « فلا » رد على ما تقدم ذكره؛ تقديره
فليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك، ثم استأنف القسم بقوله: « وربك لا يؤمنون » . وقال غيره: إنما قدم « لا » على القسم اهتماما بالنفي
وإظهارا لقوته، ثم كرره بعد القسم تأكيدا للتهمم بالنفي، وكان يصح إسقاط « لا » الثانية ويبقى أكثر الاهتمام
بتقديم الأولى، وكان يصح إسقاط الأولى ويبقى معنى النفي ويذهب معنى الاهتمام. و « شجر » معناه اختلف واختلط؛ ومنه
الشجر لاختلاف أغصانه. ويقال لعصي الهودج: شجار؛ لتداخل بعضها في بعض. قال الشاعر:
نفسي
فداؤك والرماح شواجر والقوم ضنك للقاء قيام
وقال
طرفة:
وهم
الحكام أرباب الهدى وسعاة الناس في الأمر الشجر
وقالت
طائفة: نزلت في الزبير مع الأنصاري، وكانت الخصومة في سقي بستان؛ فقال عليه السلام
للزبير: ( اسق
أرضك ثم أرسل الماء إلى أرض جارك ) . فقال
الخصم: أراك تحابي ابن عمتك؛ فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال للزبير:
( اسق
ثم احبس الماء حتى يبلغ الجدر ) ونزل: « فلا وربك لا يؤمنون » . الحديث ثابت صحيح رواه البخاري
عن علي بن عبدالله عن محمد بن جعفر عن معمر، ورواه مسلم عن قتيبة كلاهما عن
الزهري. واختلف أهل هذا القول في الرجل الأنصاري؛ فقال بعضهم: هو رجل من الأنصار
من أهل بدر. وقال مكي والنحاس: هو حاطب بن أبي بلتعة. وقال الثعلبي والواحدي
والمهدوي: هو حاطب. وقيل: ثعلبة بن حاطب. وقيل غيره: والصحيح القول الأول؛ لأنه
غير معين ولا مسمى؛ وكذا في البخاري ومسلم أنه رجل من الأنصار. واختار الطبري أن
يكون نزول الآية في المنافق واليهودي. كما قال مجاهد؛ ثم تتناول بعمومها قصة
الزبير. قال ابن العربي: وهو الصحيح؛ فكل من اتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في
الحكم فهو كافر، لكن الأنصاري زل زله فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم وأقال
عثرته لعلمه بصحة يقينه، وأنها كانت فلتة وليست لأحد بعد النبي صلى الله عليه
وسلم. وكل من لم يرض بحكم الحاكم وطعن فيه ورده فهي ردة يستتاب. ( أما إن طعن في الحاكم نفسه
لا في الحكم فله تعزيره وله أن يصفح عنه وسيأتي بيان هذا في آخر سورة « الأعراف » إن شاء الله تعالى.
وإذا
كان سبب نزول هذه الآية ما ذكرناه من الحديث ففقهها أنه عليه السلام سلك مع الزبير
وخصمه مسلك الصلح فقال: ( اسق يا زبير ) لقربه من الماء ( ثم أرسل الماء إلى جارك
) . أي تساهل في حقك ولا تستوفه وعجل في إرسال الماء إلى جارك. فحضه على المسامحة
والتيسير، فلما سمع الأنصاري هذا لم يرض بذلك وغضب؛ لأنه كان يربد ألا يمسك الماء
أصلا، وعند ذلك نطق بالكلمة الجائرة المهلكة الفاقرة فقال: أن كان ابن عمتك ؟ بمد
همزة « أن » المفتوحة على جهة الإنكار؛
أي أتحكم له علي لأجل أنه قرابتك ؟. فعند ذلك تلون وجه النبي صلى الله عليه وسلم
غضبا عليه، وحكم للزبير باستيفاء حقه من غير مسامحة له. وعليه لا يقال: كيف حكم في
حال غضبه وقد قال: ( لا يقضى القاضي وهو غضبان ) ؟ فإنا نقول: لأنه معصوم من الخطأ
في التبليغ والأحكام، بدليل العقل الدال على صدقه فيما يبلغه عن الله تعالى فليس
مثل غيره من الحكام. وفي هذا الحديث إرشاد الحاكم إلى الإصلاح بين الخصوم وإن ظهر
الحق. ومنعه مالك، واختلف فيه قول الشافعي. وهذا الحديث حجة واضحة على الجواز؛ فإن
اصطلحوا وإلا استوفى لذي الحق حقه وثبت الحكم.
واختلف
أصحاب مالك في صفة إرسال الماء الأعلى إلى الأسفل؛ فقال ابن حبيب: يدخل صاحب
الأعلى جميع الماء في حائطه ويسقي به، حتى إذا بلغ الماء من قاعة الحائط إلى
الكعبين من القائم فيه أغلق مدخل الماء، وصرف ما زاد من الماء على مقدار الكعبين
إلى من يليه، فيصنع به مثل ذلك حتى يبلغ السيل إلى أقصى الحوائط. وهكذا فسره لي
مطرف وابن الماجشون. وقاله ابن وهب. وقال ابن القاسم: إذا انتهى الماء في الحائط
إلى مقدار الكعبين أرسله كله إلى من تحته ولا يحبس منه شيئا في حائطه. قال ابن
حبيب: وقول مطرف وابن الماجشون أحب إلي وهم أعلم بذلك؛ لأن المدينة دارهما ومها
كانت القضية وفيها جرى العمل.
روى
مالك عن عبدالله بن أبي بكر أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في سيل
مهزور ومذينب: ( يمسك حتى الكعبين ثم يرسل الأعلى على الأسفل ) . قال أبو عمر: « لا أعلم هذا الحديث يتصل عن
النبي صلى الله عليه وسلم من وجه من الوجوه، وأرفع أسانيده ما ذكره محمد بن إسحاق
عن أبي مالك بن ثعلبة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه أهل مهزور فقضى أن
الماء إذا بلغ الكعبين لم يحبس الأعلى. وذكر عبدالرزاق عن أبي حازم القرطبي عن
أبيه عن جده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في سيل مهزور أن يحبس على كل
حائط حتى يبلغ الكعبين ثم يرسل. وغيره من السيول كذلك. وسئل أبو بكر البزار عن
حديث هذا الباب فقال: لست أحفظ فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا يثبت. قال
أبو عمر: في هذا المعنى - وإن لم يكن بهذا اللفظ حديث ثابت مجتمع على صحته. رواه
ابن وهب عن الليث بن سعد ويونس بن يزيد جميعا عن ابن شهاب أن عروة بن الزبير حدثه
أن عبدالله بن الزبير حدثه عن الزبير أنه خاصم رجلا من الأنصار قد شهد بدرا مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم في شراج الحرة كانا يسقيان بها كلاهما النخل؛ فقال
الأنصاري: سرح الماء؛ فأبى عليه، فاختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم » وذكر الحديث. قال أبو عمر:
وقوله في الحديث: ( يرسل ) وفي الحديث الآخر ( إذا بلغ الماء الكعبين لم يحبس
الأعلى ) يشهد لقول ابن القاسم. ومن جهة النظر أن الأعلى لو لم يرسل إلا ما زاد
على الكعبين لا يقطع ذلك الماء في أقل مدة، ولم ينته حيث ينتهي إذا أرسل الجميع،
وفي إرسال الجميع بعد أخذ الأعلى منه ما بلغ الكعبين أعم فائدة وأكثر نفعا فيما قد
جعل الناس فيه شركاء؛ فقول ابن القاسم أولى على كل حال. هذا إذا لم يكن أصله ملكا
للأسفل مختصا به، فإن ما استحق بعمل أو بملك صحيح أو استحقاق قديم وثبوت ملك فكل
على حقه على حسب ما كان من ذلك بيده وعلى أصل مسألته. وبالله التوفيق.
قوله
تعالى: « ثم لا
يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت » أي ضيقا
وشكا؛ ومنه قيل للشجر الملتف: حرج وحرجة، وجمعها حراج. وقال الضحاك: أي إثما
بإنكارهم ما قضيت. «
ويسلموا تسليما » أي
ينقادوا لأمرك في القضاء. وقال الزجاج: « تسليما » مصدر
مؤكد؛ فإذا قلت: ضربت ضربا فكأنك قلت لا أشك فيه؛ وكذلك « ويسلموا تسليما » أي ويسلموا لحكمك تسليما لا
يدخلون على أنفسهم شكا.
الآية:
66 - 68 ( ولو أنا كتبنا عليهم أن
اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم ولو أنهم فعلوا ما
يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا، وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما،
ولهديناهم صراطا مستقيما )
سبب
نزولها ما روى أن ثابت بن قيس بن شماس تفاخر هو ويهودي؛ فقال اليهودي: والله لقد
كتب علينا أن نقتل أنفسنا فقتلنا، وبلغت القتلى سبعين ألفا؛ فقال ثابت: والله لو
كتب الله علينا أن اقتلوا أنفسكم لفعلنا. وقال أبو إسحاق السبيعي: لما نزلت « ولو أنا كتبنا عليهم » الآية، قال رجل: لو أمرنا
لفعلنا، والحمد لله الذي عافانا. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ( إن من أمتي رجالا الإيمان
أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي ) . قال ابن وهب قال مالك: القائل ذلك هو أبو بكر الصديق رضي
الله عنه؛ وهكذا ذكر مكي أنه أبو بكر. وذكر النقاش أنه عمر بن الخطاب رضي الله
عنه. وذكر عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال: لو كتب علينا ذلك لبدأت بنفسي وأهل
بيتي. وذكر أبو الليث السمرقندي: أن القائل منهم عمار بن ياسر وابن مسعود وثابت بن
قيس، قالوا: لو أن الله أمرنا أن نقتل أنفسنا أو نخرج من ديارنا لفعلنا؛ فقال
النبي صلى الله عليه وسلم: (
الإيمان أثبت في قلوبنا الرجال من الجبال الرواسي ) . و « لو » حرف يدل على امتناع الشيء
لامتناع غيره؛ فأخبر الله سبحانه أنه لم يكتب ذلك علينا رفقا بنا لئلا تظهر
معصيتنا. فكم من أمر قصرنا عنه مع خفته فكيف بهذا الأمر مع ثقله ! لكن أما والله
لقد ترك المهاجرون مساكنهم خاوية وخرجوا يطلبون بها عيشة راضية. « ما فعلوه » أي القتل والخروج « إلا قليل منهم » « قليل » بدل من الواو، والتقدير ما
فعله أحد إلا قليل. وأهل الكوفة يقولون: هو على التكرير ما فعلوه ما فعله إلا قليل
منهم. وقرأ عبدالله بن عامر وعيسى بن عمر « إلا قليلا » على الاستثناء. وكذلك هو في مصاحف أهل الشام. الباقون
بالرفع، والرفع أجود عند جميع النحويين. وقيل: انتصب على إضمار فعل، تقديره إلا أن
يكون قليلا منهم. وإنما صار الرفع أجود لأن اللفظ أولى من المعنى، وهو أيضا يشتمل
على المعنى. وكان من القليل أبو بكر وعمر وثابت بن قيس كما ذكرنا. وزاد الحسن
ومقاتل وعمار وابن مسعود وقد ذكرناهما. « ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم » أي في الدنيا والآخرة. « وأشد تثبيتا » أي على الحق. « وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا
عظيما » أي
ثوابا في الآخرة. وقيل: اللام لام الجواب، و « إذا » دالة
على الجزاء، والمعنى لو فعلوا ما يوعظون به لآتيناهم.
الآية:
69 ( ومن يطع الله والرسول فأولئك
مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك
رفيقا )
الآية:
70 ( ذلك الفضل من الله وكفى
بالله عليما )
قوله
تعالى: « ومن
يطع الله والرسول » لما ذكر
تعالى الأمر الذي لو فعله المنافقون حين وعظوا به وأنابوا إليه لأنعم عليهم، ذكر
بعد ذلك ثواب من يفعله. وهذه الآية تفسير قوله تعالى: « اهدنا الصراط المستقيم صراط
الذين أنعمت عليهم » [ الفاتحة:6 - 7 ] وهي المراد في قوله عليه
السلام عند موته ( اللهم
الرفيق الأعلى ) . وفي
البخاري عن عائشة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( ما من نبي يمرض إلا خير بين
الدنيا والآخرة ) كان في
شكواه الذي مرض فيه أخذته بحة شديدة فسمعته يقول: ( مع الذين أنعم الله عليهم من
النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ) فعلمت أنه خير. وقالت طائفة: إنما نزلت هذه الآية لما قال
عبدالله بن زيد بن عبدربه الأنصاري - الذي أري الأذان - : يا رسول الله، إذا مت
ومتنا كنت في عليين لا نراك ولا نجتمع بك؛ وذكر حزنه على ذلك فنزلت هذه الآية.
وذكر مكي عن عبدالله هذا وأنه لما مات النبي صلى الله عليه وسلم قال: اللهم أعمني
حتى لا أري شيئا بعده؛ فعمي مكانه. وحكاه القشري فقال: اللهم أعمني فلا أرى شيئا
بعد حبيبي حتى ألقى حبيبي؛ فعمي مكانه. وحكى الثعلبي: أنها نزلت في ثوبان مولى رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وكان شديد الحب له قليل الصبر عنه، فأتاه ذات يوم وقد
تغير لونه ونحل جسمه، يعرف في وجهه الحزن؛ فقال له: ( يا ثوبان ما غير لونك ) فقال: يا رسول الله ما بي ضر
ولا وجع، غير أني إذا لم أرك اشتقت إليك واستوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك، ثم ذكرت
الآخرة وأخاف ألا أراك هناك؛ لأني عرفت أنك ترفع مع النبيين وأني إن دخلت الجنة
كنت في منزلة هي أدنى من منزلتك، وإن لم أدخل فذلك حين لا أراك أبدا؛ فأنزل الله
تعالى هذه الآية. ذكره الواحدي عن الكلبي. وأسند عن مسروق قال: قال أصحاب رسول
الله صلى الله عليه وسلم: ما ينبغي لنا أن نفارقك في الدنيا، فإنك إذا فارقتنا
رفعت فوقنا؛ فأنزل الله تعالى: « ومن
يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين » . وفي طاعة الله طاعة رسوله
ولكنه ذكره تشريفا لقدره وتنويها باسمه صلى الله عليه وسلم وعلى آله. « فأولئك مع الذين أنعم الله
عليهم » أي هم
معهم في دار واحدة ونعيم واحد يستمتعون برؤيتهم والحضور معهم، لا أنهم يساوونهم في
الدرجة؛ فإنهم يتفاوتون لكنهم يتزاورون للاتباع في الدنيا والاقتداء. وكل من فيها
قد رزق الرضا بحاله، وقد ذهب عنه اعتقاد أنه مفضول. قال الله تعالى: « ونزعنا ما في صدورهم من غل » [ الأعراف: 43 ] . والصديق فعيل، المبالغ في
الصدق أو في التصديق، والصديق هو الذي يحقق بفعله ما يقول بلسانه. وقيل: هم فضلاء
أتباع الأنبياء الذين يسبقونهم إلى التصديق كأبي بكر الصديق. وقد تقدم في البقرة
اشتقاق الصديق ومعنى الشهيد. والمراد هنا بالشهداء عمر وعثمان وعلي، والصالحين
سائر الصحابة رضي الله عنهم أجمعين. وقيل « الشهداء » القتلى
في سبيل الله. «
والصالحين » صالحي
أمة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قلت:
واللفظ يعم كل صالح وشهيد، والله أعلم. والرفق لين الجانب. وسمي الصاحب رفيقا
لارتفاقك بصحبته؛ ومنه الرفقة لارتفاق بعضهم ببعض. ويجوز « وحسن أولئك رفقاء » . قال الأخفش: « رفيقا » منصوب على الحال وهو بمعنى
رفقاء؛ وقال: انتصب على التمييز فوحد لذلك؛ فكأن المعنى وحسن كل واحد منهم رفيقا.
كما قال تعالى: « ثم
نخرجكم طفلا » [ الحج: 5 ] أي نخرج كل واحد منكم طفلا.
وقال تعالى: « ينظرون
من طرف خفي » [ الشورى:45 ] وينظر معنى هذه الآية قوله
صلى الله عليه وسلم: ( خير
الرفقاء أربعة ) ولم
يذكر الله تعالى هنا إلا أربعة فتأمله.
في هذه
الآية دليل على خلافة أبي بكر رضي الله عنه؛ وذلك أن الله تعالى لما ذكر مراتب
أوليائه في كتابه بدأ بالأعلى منهم وهم النبيون، ثم ثنى بالصديقين ولم يجعل بينهما
واسطة. وأجمع المسلمون على تسمية أبى بكر الصديق رضي الله عنه صديقا، كما أجمعوا
على تسمية محمد عليه السلام رسولا، وإذا ثبت هذا وصح أنه الصديق وأنه ثاني رسول الله
صلى الله عليه وسلم لم يجز أن يتقدم بعده أحد. والله أعلم.
قوله
تعالى: « ذلك
الفضل من الله » أخبر
تعالى أنهم لم ينالوا الدرجة. بطاعتهم بل نالوها بفضل الله تعالى وكرمه. خلافا لما
قالت المعتزلة: إنما ينال العبد ذلك بفعله. فلما امتن الله سبحانه على أوليائه بما
آتاهم من فضله، وكان لا يجوز لأحد أن يثني على نفسه بما لم يفعله دل ذلك على بطلان
قولهم. والله أعلم.
الآية:
71 ( يا أيها الذين آمنوا خذوا
حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا )
قوله
تعالى: « يا
أيها الذين آمنوا خذوا حذركم » هذا
خطاب للمؤمنين المخلصين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأمر لهم بجهاد الكفار
والخروج في سبيل الله وحماية الشرع. ووجه النظم والاتصال بما قبل أنه لما ذكر طاعة
الله وطاعة رسوله، أمر أهل الطاعة بالقيام بإحياء دينه وإعلاء دعوته، وأمرهم ألا
يقتحموا على عدوهم على جهالة حتى يتحسسوا إلى ما عندهم، ويعلموا كيف يردون عليهم،
فذلك أثبت لهم فقال: « خذوا
حذركم » فعلمهم
مباشرة الحروب. ولا ينافي هذا التوكل بل هو مقام عين التوكل كما تقدم في « آل عمران » ويأتي. والحذر والحذر لغتان
كالمثل والمثل. قال القراء: أكثر الكلام الحذر، والحذر مسموع أيضا؛ يقال: خذ حذرك،
أي أحذر. وقيل: خذوا السلاح حذرا؛ لأنه به الحذر والحذر لا يدفع القدر.
خلافا
للقدرية في قولهم: إن الحذر يدفع ويمنع من مكائد الأعداء، ولو لم يكن كذلك ما كان
لأمرهم بالحذر معنى. فيقال لهم: ليس في الآية دليل على أن الحذر ينفع من القدر
شيئا؛ ولكنا تعبدنا بألا نلقي بأيدينا إلى التهلكة؛ ومنه الحديث ( اعقلها وتوكل ) . وإن كان القدر جاريا على ما
قضى، ويفعل الله ما يشاء، فالمراد منه طمأنينة النفس، لا أن ذلك ينفع من القدر
وكذلك أخذ الحذر. الدليل على ذلك أن الله تعالى أثنى على أصحاب نبيه صلى الله عليه
وسلم بقوله: « قل لن
يصيبنا إلا ما كتب الله لنا » [ التوبة: 51 ] فلو كان يصيبهم غير ما قضى
عليهم لم يكن لهذا الكلام معنى.
قوله
تعالى: «
فانفروا ثبات » يقال:
نفر ينفر ( بكسر
الفاء ) نفيرا.
ونفرت الدابة تنفر ( بضم
الفاء ) نفورا؛
المعنى: انهضوا لقتال العدو. واستنفر الإمام الناس دعاهم إلى النفر، أي للخروج إلى
قتال العدو. والنفير اسم للقوم الذين ينفرون، وأصله من النفار والنفور وهو الفزع؛
ومنه قوله تعالى: « ولوا
على أدبارهم نفورا » [ الإسراء: 46 ] أي نافرين. ومنه نفر الجلد أي
ورم. وتخلل رجل بالقصب فنفر فمه أي ورم. قال أبو عبيد: إنما هو من نفار الشيء من
الشيء وهو تجافيه عنه وتباعده منه. قال ابن فارس: النفر عدة رجال من ثلاثة إلى
عشرة. والنفير النفر أيضا، وكذلك النفر والنفرة، حكاها الفراء بالهاء. ويوم النفر:
يوم ينفر الناس عن منى. « ثبات » معناه جماعات متفرقات. ويقال: ثبين
يجمع جمع السلامة في التأنيث والتذكير. قال عمرو بن كلثوم:
فأما يوم
خشينا عليهم فتصبح خيلنا عصبا ثبينا
كناية عن
السرايا، الواحدة ثبة وهي العصابة من الناس. وكانت في الأصل الثبية. وقد ثبيت
الجيش جعلتهم ثبة ثبة. والثبة: وسط الحوض الذي يثوب إليه الماء أي يرجع قال
النحاس: وربما توهم الضعيف في العربية أنهما واحد، وأن أحدهما من الآخر؛ وبينهما
فرق، فثبة الحوض يقال في تصغيرها: ثويبة؛ لأنها من ثاب يثوب. ويقال في ثبة
الجماعة: ثيبة. قال غير: فثبة الحوض محذوفة الواو وهو عين الفعل، وثبة الجماعة
معتل اللام من ثبا يثبو مثل خلا يخلو. ويجوز أن يكون الثبة بمعنى الجماعة من ثبة
الحوض؛ لأن الماء إذا ثاب اجتمع؛ فعلى هذا تصغر به الجماعة ثوبية فتدخل إحدى
الياءين في الأخرى. وقد قيل: إن ثبة الجماعة إنما اشتقت من ثبيت على الرجل إذا
أثنيت عليه في حياته وجمعت محاسن ذكره فيعود إلى الاجتماع.
قوله
تعالى: « أو
انفروا جميعا » معناه
الجيش الكثيف مع الرسول عليه السلام؛ قاله ابن عباس وغيره. ولا تخرج السرايا إلا
بإذن الإمام ليكون متجسسا لهم، عضدا من ورائهم، وربما احتاجوا إلى درئه. وسيأتي
حكم السرايا وغنائمهم وأحكام الجيوش ووجوب النفير في « الأنفال » و « براءة » [ التوبة ] إن شاء الله تعالى.
ذكر ابن
خويز منداد: وقيل إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: « انفروا خفافا وثقالا » وبقوله: « إلا تنفروا يعذبكم » [ التوبة:39 ] ؛ ولأن يكون « انفروا خفافا وثقالا » [ التوبة:41 ] منسوخا بقوله: « فانفروا ثبات أو انفروا جميعا
» و
بقوله: « وما
كان المؤمنون لينفروا كافة » [ التوبة:122 ] أولى؛ لأن فرض الجهاد تقرر
على الكفاية، فمتى سد الثغور بعض المسلمين أسقط الفرض عن الباقين. والصحيح أن
الآيتين جميعا محكمتان، إحداهما في الوقت الذي يحتاج فيه إلى تعين الجميع، والأخرى
عند الاكتفاء بطائفة دون غيرها.
الآية:
72 ( وإن منكم لمن ليبطئن فإن
أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا )
الآية:
73 ( ولئن أصابكم فضل من الله
ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما )
قوله
تعالى: « وإن
منكم لمن ليبطئن » يعني
المنافقين. والتبطئة والإبطاء التأخر، تقول: ما أبطأك عنا؛ فهو لازم. ويجوز بطأت
فلانا عن كذا أي أخرته؛ فهو متعد. والمعنيان مراد في الآية؛ فكانوا يقعدون عن
الخروج ويقعدون غيرهم. والمعنى إن من دخلائكم وجنسكم وممن أظهر إيمانه لكم. فالمنافقون
في ظاهر الحال من أعداد المسلمين بإجراء أحكام المسلمين عليهم. واللام في قوله « لمن » لام توكيد، والثانية لام قسم،
و « من » في موضع نصب، وصلتها « ليبطئن » لأن فيه معنى اليمين، والخبر « منكم » . وقرأ مجاهد والنخعي والكلبي « وإن منكم لمن ليبطئن » بالتخفيف، والمعنى واحد. وقيل:
المراد بقوله « وإن
منكم لمن ليبطئن » بعض
المؤمنين؛ لأن الله خاطبهم بقوله: « وإن منكم » وقد فرق
الله تعالى بين المؤمنين والمنافقين بقوله « وما هم منكم » [
التوبة: 56 ] وهذا
يأباه مساق الكلام وظاهره. وإنما جمع بينهم في الخطاب من جهة الجنس والنسب كما
بينا لا من جهة الإيمان. هذا قول الجمهور وهو الصحيح إن شاء الله تعالى، والله
أعلم. يدل عليه قوله « فإن
أصابتكم مصيبة » أي قتل
وهزيمة « قال قد
أنعم الله علي » يعني
بالقعود، وهذا لا يصدر إلا من منافق؛ لا سيما في ذلك الزمان الكريم، بعيد أن يقول
مؤمن. وينظر إلى هذه الآية ما رواه الأئمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه
وسلم إخبارا عن المنافقين ( إن
أثقل صلاة عليهم صلاة العشاء وصلاة الفجر ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا ) الحديث. في رواية ( ولو علم أحدهم أنه يجد عظما
سمينا لشهدها ) يعني صلاة
العشاء. يقول: لو لاح شيء من الدنيا يأخذونه وكانوا على يقين منه لبادروا إليه.
وهو معنى قوله: « ولئن
أصابكم فضل من الله » أي
غنيمة وفتح « ليقولن
» هذا
المنافق قول نادم حاسد « يا
ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما » « كأن لم
يكن بينكم وبينه مودة » فالكلام
فيه تقديم وتأخير. وقيل: المعنى « ليقولن
كأن لم يكن بينكم وبينه مودة » أي كأن
لم يعاقدكم على الجهاد. وقيل: هو في موضع نصب على الحال. وقرأ الحسن « ليقولن » بضم اللام على معنى « من » ؛ لأن معنى قوله « لمن ليبطئن » ليس يعني رجلا بعينه. ومن فتح
اللام أعاد فوحد الضمير على لفظ « من » . وقرأ ابن كثير وحفص عن عاصم « كأن لم تكن » بالتاء على لفظ المودة. ومن
قرأ بالياء جعل مودة بمعنى الود. وقول المنافق « يا ليتني كنت معهم » على وجه الحسد أو الأسف على فوت الغنيمة مع الشك في الجزاء
من الله. « فأفوز
» جواب
التمني ولذلك نصب. وقرأ الحسن « فأفوز
» بالرفع
على أنه تمنى الفوز، فكأنه قال: يا ليتني أفوز فوزا عظيما. والنصب على الجواب؛
والمعنى إن أكن معهم أفز. والنصب فيه بإضمار « أن » لأنه
محمول على تأويل المصدر؛ التقدير يا ليتني كان لي حضور ففوز.
الآية:
74 ( فليقاتل في سبيل الله الذين
يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه
أجرا عظيما )
قوله
تعالى: «
فليقاتل في سبيل الله » الخطاب
للمؤمنين؛ أي فليقاتل في سبيل الله الكفار « الذين يشرون » أي يبيعون، أي يبذلون أنفسهم وأموالهم لله عر وجل « بالآخرة » أي بثواب الآخرة.
قوله
تعالى: « ومن
يقاتل في سبيل الله » شرط. « فيقتل أو يغلب » عطف عليه، والمجازاة « فسوف نؤتيه أجرا عظيما » . ومعنى « فيقتل » فيستشهد. « أو يغلب » يظفر فيغنم. وقرأت طائفة « ومن يقاتل » « فليقاتل » بسكون لام الأمر. وقرأت فرقة « فليقاتل » بكسر لام الأمر. فذكر تعالى
غايتي حالة المقاتل واكتفى بالغايتين عما بينهما؛ ذكره ابن عطية.
ظاهر
الآية يقتضي التسوية بين من قتل شهيدا أو انقلب غانما. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( تضمن الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي
وإيمان بي وتصديق برسلي فهو علي ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج
منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة ) وذكر الحديث. وفيه عن عبدالله بن عمرو أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال: ( ما من
غازية تغزو في سبيل الله فيصيبون الغنيمة إلا تعجلوا ثلثي أجرهم من الآخرة ويبقى
لهم الثلث وإن لم يصيبوا غنيمة تم لهم أجرهم ) . فقوله: ( نائلا
ما نال من أجر أو غنيمة ) يقتضي
أن لمن يستشهد من المجاهدين أحد الأمرين؛ إما الأجر إن لم يغنم، وإما الغنيمة ولا
أجر، بخلاف حديث عبدالله بن عمرو، ولما كان هذا قال قوم: حديث عبدالله بن عمرو ليس
بشيء؛ لأن في إسناده حميد بن هانئ وليس بمشهور، ورجحوا الحديث الأول عليه لشهرته.
وقال آخرون: ليس بينهما تعارض ولا اختلاف. و « أو » في حديث
أبي هريرة بمعنى الواو، كما يقول الكوفيون وقد دلت عليه رواية أبي داود فإنه قال
فيه: ( من أجر
وغنيمة ) بالواو
الجامعة. وقد رواه بعض رواة مسلم بالواو الجامعة أيضا. وحميد بن هانئ مصري سمع أبا
عبدالرحمن الحبلى وعمرو بن مالك، وروى عنه حيوة بن شريح وابن وهب؛ فالحديث الأول
محمول على مجرد النية والإخلاص في الجهاد؛ فذلك الذي ضمن الله له إما الشهادة،
وإما رده إلى أهله مأجورا غانما، ويحمل الثاني على ما إذا نوى الجهاد ولكن مع نيل
المغنم، فلما انقسمت نيته انحط أجره؛ فقد دلت السنة على أن للغانم أجرا كما دل
عليه الكتاب فلا تعارض. ثم قيل: إن نقص أجر الغانم على من يغنم إنما هو بما فتح
الله عليه من الدنيا فتمتع به وأزال عن نفسه شظف عيشه؛ ومن أخفق فلم يصب شيئا بقي
على شظف عيشه والصبر على حالته، فبقي أجره موفرا بخلاف الأول. ومثله قوله في
الحديث الآخر: ( فمنا
من مات لم يأكل من أجره شيئا - منهم مصعب بن عمير - ومنا من أينعت له تمرته فهو
يهدبها ) .
الآية:
75 ( وما لكم لا تقاتلون في سبيل
الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه
القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا )
قوله
تعالى: « وما
لكم لا تقاتلون في سبيل الله » حض على
الجهاد. وهو يتضمن تخليص المستضعفين من أيدي الكفرة المشركين الذين يسومونهم سوء
العذاب، ويفتنونهم عن الدين؛ فأوجب تعالى الجهاد لإعلاء كلمته وإظهار دينه
واستنقاذ المؤمنين الضعفاء من عباده، وإن كان في ذلك تلف النفوس. وتخليص الأسارى
واجب على جماعة المسلمين إما بالقتال وإما بالأموال؛ وذلك أوجب لكونها دون النفوس
إذ هي أهون منها. قال مالك: واجب على الناس أن يفدوا الأسارى بجميع أموالهم. وهذا
لا خلاف فيه؛ لقوله عليه السلام ( فكوا
العاني ) وقد
مضى في « البقرة
» . وكذلك
قالوا: عليهم أن يواسوهم فإن المواساة دون المفاداة. فإن كان الأسير غنيا فهل يرجع
عليه الفادي أم لا؛ قولان للعلماء، أصحهما الرجوع.
قوله
تعالى: «
والمستضعفين » عطف على
اسم الله عز وجل، أي وفي سبيل المستضعفين، فإن خلاص المستضعفين من سبيل الله. وهذا
اختيار الزجاج وقال الزهري. وقال محمد بن يزيد: أختار أن يكون المعنى وفي المستضعفين
فيكون عطفا على السبيل؛ أي وفي المستضعفين لاستنقاذهم؛ فالسبيلان مختلفان. ويعني
بالمستضعفين من كان بمكة من المؤمنين تحت إذلال كفرة قريش وأذاهم وهم المعنيون
بقوله عليه السلام: ( اللهم
أنج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين من المؤمنين ) . وقال ابن عباس: كنت أنا
وأمي من المستضعفين. في البخاري عنه « إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان » فقال: كنت أنا وأمي ممن عذر
الله، أنا من الولدان وأمي من النساء.
قوله
تعالى: « من هذه
القرية الظالم أهلها » القرية
هنا مكة بإجماع من المتأولين. ووصفها بالظلم وإن كان الفعل للأهل لعلقة الضمير.
وهذا كما تقول: مررت بالرجل الواسعة داره، والكريم أبوه، والحسنة جاريته. وإنما
وصف الرجل بها للعلقة اللفظية بينهما وهو الضمير، فلو قلت: مررت بالرجل الكريم عمر
ولم تجز المسألة؛ لأن الكرم لعمرو فلا يجوز أن يجعل صفة لرجل إلا بعلقة وهي الهاء.
ولا تثنى هذه الصفة ولا تجمع، لأنها تقوم مقام الفعل، فالمعنى أي التي ظلم أهلها
ولهذا لم يقل الظالمين. وتقول: مررت برجلين كريم أبواهما حسنة جاريتاهما، وبرجال
كريم آباؤهم حسنة جواريهم. « واجعل
لنا من لدنك » أي من
عندك. « وليا » أي من يستنقذنا « واجعل لنا من لدنك نصيرا » أي ينصرنا عليهم.
الآية:
76 ( الذين آمنوا يقاتلون في سبيل
الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان
كان ضعيفا )
قوله
تعالى: « الذين
آمنوا يقاتلون في سبيل الله » أي في طاعته.
« والذين
كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت » قال أبو
عبيدة والكسائي: الطاغوت يذكر ويؤنث. قال أبو عبيد: وإنما ذكر وأنث لأنهم كانوا
يسمون الكاهن والكاهنة طاغوتا. قال: حدثنا حجاج عن ابن جريج قال: حدثنا أبو الزبير
أنه سمع جابر بن عبدالله وسئل عن الطاغوت التي كانوا يتحاكمون إليها فقال: كانت في
جهينة واحدة وفي أسلم واحدة، وفي كل حي واحدة. قال أبو إسحاق: الدليل على أنه
الشيطان قوله عز وجل: «
فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا » أي مكره ومكر من اتبعه. ويقال:
أراد به يوم بدر حين قال للمشركين « لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت
الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم » [
الأنفال: 48 ] على ما
يأتي.
الآية:
77 ( ألم تر إلى الذين قيل لهم
كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم
يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا
إلى أجل قريب قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا )
روى عمرو
بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس أن عبدالرحمن بن عوف وأصحابا له أتوا النبي صلى
الله عليه وسلم بمكة فقالوا: يا نبي الله، كنا في عز ونحن مشركون، فلما آمنا صرنا
أذلة ؟ فقال: ( إني
أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم ) . فلما
حول الله تعالى إلى المدينة أمره بالقتال فكفوا، فنزلت الآية. أخرجه النسائي في
سننه، وقاله الكلبي. وقال مجاهد: هم يهود. قال الحسن: هي في المؤمنين؛ لقوله: « يخشون الناس » أي مشركي مكة « كخشية الله » فهي على ما طبع عليه البشر من
المخافة لا على المخالفة. قال السدي: هم قوم أسلموا قبل فرض القتال فلما فرض
كرهوه. وقيل: هو وصف للمنافقين؛ والمعنى يخشون القتل من المشركين كما يخشون الموت
من الله. « أو أشد
خشية » أي عندهم
وفي اعتقادهم.
قلت:
وهذا أشبه بسياق الآية، لقوله: « وقالوا
ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب » أي هلا، ولا يليها إلا الفعل.
ومعاذ الله أن يصدر هذا القول من صحابي كريم يعلم أن الآجال محدودة والأرزاق
مقسومة، بل كانوا لأوامر الله ممتثلين سامعين طائعين، يرون الوصول إلى الدار
الآجلة خيرا من المقام في الدار العاجلة، على ما هو معروف من سيرتهم رضي الله
عنهم. اللهم إلا أن يكون قائله ممن لم يرسخ في الإيمان قدمه، ولا انشرح بالإسلام
جنانه، فإن أهل الإيمان متفاضلون فمنهم الكامل ومنهم الناقص، وهو الذي تنفر نفسه
عما يؤمر به فيما تلحقه فيه المشقة وتدركه فيه الشدة. والله أعلم.
قوله
تعالى: « قل
متاع الدنيا قليل » ابتداء
وخبر. وكذا «
والآخرة خير لمن اتقى » أي
المعاصي؛ وقد مضى القول في هذا في « البقرة » ومتاع
الدنيا منفعتها والاستمتاع بلذاتها وسماه قليلا لأنه لا بقاء له. وقال النبي صلى
الله عليه وسلم ( مثلي
ومثل الدنيا كراكب قال قيلولة تحت شجرة ثم راح وتركها ) وقد تقدم هذا المعنى في « البقرة » مستوفى.
الآية:
78 ( أين ما تكونوا يدرككم الموت
ولو كنتم في بروج مشيدة وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة
يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا )
قوله
تعالى: « أينما
تكونوا يدرككم الموت » شرط
ومجازاة، و « ما » زائدة وهذا الخطاب عام وإن كان
المراد المنافقين أو ضعفة المؤمنين الذين قالوا: « لولا أخرتنا إلى أجل قريب » أي إلى أن نموت بآجالنا، وهو أشبه المنافقين كما ذكرنا،
لقولهم لما أصيب أهل أحد، قالوا: « لو
كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا » [ آل عمران: 156 ] فرد الله عليهم « أينما تكونوا يدرككم الموت
ولو كنتم في بروج مشيدة » قال ابن
عباس في رواية أبي صالح عنه. وواحد البروج برج، وهو البناء المرتفع والقصر العظيم.
قال طرفة يصف ناقة:
كأنها
برج رومي تكففها بان بشيد واجر وأحجار
وقرأ
طلحة بن سليمان « يدرككم
» برفع
الكاف على إضمار الفاء، وهو قليل لم يأت إلا في الشعر نحو قوله:
من يفعل
الحسنات اللهُ يشكرها
أراد
فالله يشكرها.
واختلف
العلماء وأهل التأويل في المراد بهذه البروج، فقال الأكثر وهو الأصح. إنه أراد
البروج في الحصون التي في الأرض المبنية، لأنها غاية البشر في التحصن والمنعة،
فمثل الله لهم بها. وقال قتادة: في قصور محصنة. وقاله ابن جريج والجمهور، ومنه قول
عامر بن الطفيل للنبي صلى الله عليه وسلم: هل لك في حصن حصين ومنعة ؟ وقال مجاهد:
البروج القصور. ابن عباس: البروج الحصون والآطام والقلاع. ومعنى « مشيدة » مطولة، قال الزجاج والقتبي.
عكرمة: المزينة بالشيد وهو الجص. قال قتادة: محصنة. والمشيد والمشيد سواء، ومنه « وقصر مشيد » [ الحج: 45 ] والتشديد للتكثير. وقيل
المشيد المطول، والمشيد المطلي بالشيد. يقال: شاد البنيان وأشاد بذكره. وقال
السدي: المراد بالبروج بروج في السماء الدنيا مبنية. وحكى هذا القول مكي عن مالك
وأنه قال ألا ترى إلى قوله تعالى: « والسماء ذات البروج » [
البروج: 1 ] و « جعل في السماء بروجا » [ الفرقان: 61 ] « ولقد جعلنا في السماء بروجا » [ الحجر: 16 ] . وحكاه ابن العربي أيضا عن
ابن القاسم عن مالك. وحكى النقاش عن ابن عباس أنه قال: « في بروج مشيدة » معناه في قصور من حديد. قال
ابن عطية: وهذا لا يعطيه ظاهر اللفظ.
هذه الآية
ترد على القدرية في الآجال، لقوله تعالى: « أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة » فعرفهم بذلك أن الآجال متى
انقضت فلا بد من مفارقة الروح الجسد، كان ذلك بقتل أو موت أو غير ذلك مما أجرى
الله العادة بزهوقها به. وقالت المعتزلة: إن المقتول لو لم يقتله القاتل لعاش. وقد
تقدم الرد عليهم في « آل
عمران » ويأتي
فوافقوا بقولهم هذا الكفار والمنافقين.
اتخاذ
البلاد وبنائها ليمتنع بها في حفظ الأموال والنفوس، وهي سنة الله في عباده. وفي
ذلك أدل دليل على رد قول من يقول: التوكل ترك الأسباب، فإن اتخاذ البلاد من أكبر
الأسباب وأعظمها وقد أمرنا بها، واتخذها الأنبياء وحفروا حولها الخنادق عدة وزيادة
في التمنع. وقد قيل للأحنف: ما حكمة السور ؟ فقال: ليردع السفيه حتى يأتي الحكيم
فيحميه. الرابعة: وإذا تنزلنا على قول مالك والسدي في أنها بروج السماء، فبروج
الفلك اثنا عشر برجا مشيدة من الرفع، وهي الكواكب العظام. وقيل للكواكب بروج
لظهورها، من برج يبرج إذا ظهر وارتفع؛ ومنه قوله: « ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى » [ الأحزاب: 33 ] وخلقها الله تعالى منازل
للشمس والقمر وقدره فيها، ورتب الأزمنة عليها، وجعلها جنوبية وشمالية دليلا على
المصالح وعلما على القبلة، وطريقا إلى تحصيل آناء الليل وآناء النهار لمعرفة أوقات
التهجد غير ذلك من أحوال المعاش.
قوله
تعالى: « وإن
تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله » أي إن يصب المنافقين خصب قالوا: هذا من عند الله. « وإن تصبهم سيئة » أي جدب ومحل قالوا: هذا من
عندك، أي أصابنا ذلك بشؤمك وشؤم أصحابك. وقيل: الحسنة السلامة والأمن، والسيئة
الأمراض والخوف. وقيل: الحسنة الغنى، والسيئة الفقر. وقيل: الحسنة النعمة والفتح
والغنيمة يوم بدر، والسيئة البلية والشدة والقتل يوم أحد. وقيل: الحسنة السراء،
والسيئة الضراء. هذه أقوال المفسرين وعلماء التأويل - ابن عباس وغيره - في الآية.
وأنها نزلت في اليهود والمنافقين، وذلك أنها لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم
المدينة عليهم قالوا: ما زلنا نعرف النقص في ثمارنا ومزارعنا مذ قدم علينا هذا
الرجل وأصحابه. قال ابن عباس: ومعنى « من عندك » أي بسوء
تدبيرك. وقيل: « من
عندك » بشؤمك،
كما ذكرنا، أي بشؤمك الذي لحقنا، قالوه على جهة التطير. قال الله تعالى: « قل كل من عند الله » أي الشدة والرخاء والظفر
والهزيمة من عند الله، أي بقضاء الله وقدره. « فمال هؤلاء القوم » يعني المنافقين « لا يكادون يفقهون حديثا » أي ما شأنهم لا يفقهون أن كلا من عند الله.
الآية:
79 ( ما أصابك من حسنة فمن الله
وما أصابك من سيئة فمن نفسك وأرسلناك للناس رسولا وكفى بالله شهيدا )
قوله
تعالى: « ما
أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك » أي ما أصابك يا محمد من خصب
ورخاء وصحة وسلامة فبفضل الله عليك وإحسانه إليك، وما أصابك من جدب وشدة فبذنب
أتيته عوقبت عليه. والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته. أي ما أصابكم
يا معشر الناس من خصب واتساع رزق فمن تفضل الله عليكم، وما أصابكم من جدب وضيق رزق
فمن أنفسكم؛ أي من أجل ذنوبكم وقع ذلك بكم. قال الحسن والسدي وغيرهما؛ كما قال
تعالى: « يا
أيها النبي إذا طلقتم النساء » [ الطلاق:1 ] . وقد قيل: الخطاب للإنسان
والمراد به الجنس؛ كما قال تعالى: « والعصر إن الإنسان لفي خسر » [ العصر:1 - 2 ] أي إن الناس لفي خسر، ألا
تراه استثنى منهم فقال « إلا
الذين آمنوا » ولا
يستثنى إلا من جملة أو جماعة. وعلى هذا التأويل يكون قوله « ما أصابك » استئنافا. وقيل: في الكلام حذف
تقديره يقولون؛ وعليه يكون الكلام متصلا؛ والمعنى فمال هؤلاء القوم لا يكادون
يفقهون حديثا حتى يقولوا ما أصابك من حسنة فمن الله. وقيل: إن ألف الاستفهام
مضمرة؛ والمعنى أفمن نفسك ؟ ومثله قوله وتعالى: « فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي » [ الأنعام: 77 ] والمعنى أو تلك نعمة ؟ وكذا
قوله تعالى: « فلما
رأى القمر بازغا قال هذا ربي » [ الأنعام: 77 ] أي أهذا ربي ؟ قال أبو خراش
الهذلي:
رموني
وقالوا يا خويلد لم تُرع فقلت وأنكرت الوجوه هم هم
أراد « أهم » فأضمر ألف الاستفهام وهو كثير
وسيأتي. قال الأخفش « ما » بمعنى الذي. وقيل: هو شرط. قال
النحاس: والصواب قول الأخفش؛ لأنه نزل في شيء بعينه من الجدب، وليس هذا من المعاصي
في شيء ولو كان منها لكان وما أصبت من سيئة. وروى عبدالوهاب بن مجاهد عن أبيه عن
ابن عباس وأبي وابن مسعود « ما
أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك وأنا كتبتها عليك » فهذه قراءة على التفسير، وقد
أثبتها بعض أهل الزيغ من القرآن، والحديث بذلك عن ابن مسعود وأبي منقطع؛ لأن
مجاهدا لم ير عبدالله ولا أبيا. وعلى قول من قال: الحسنة الفتح والغنيمة يوم بدر،
والسيئة ما أصابهم يوم أحد؛ أنهم عوقبوا عند خلاف الرماة الذين أمرهم رسول الله
صلى الله عليه وسلم أن يحموا ظهره ولا يبرحوا من مكانهم، فرأوا الهزيمة على قريش
والمسلمون يغنمون أموالهم فتركوا مصافهم، فنظر خالد بن الوليد وكان مع الكفار
يومئذ ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم قد انكشف من الرماة فأخذ سرية من الخيل
ودار حتى صار خلف المسلمين وحمل عليهم، ولم يكن خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم
من الرماة إلا صاحب الراية، حفظ وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقف حتى
استشهد مكانه؛ على ما تقدم في « آل
عمران » بيانه.
فأنزل الله تعالى نظير هذه الآية وهو قوله تعالى: « أولما أصابتكم مصيبة » [ آل
عمران: 165 ] يعني
يوم أحد « قد
أصبتم مثليها » يعني
يوم بدر « قلتم
أنى هذا قل هو من عند أنفسكم » . ولا
يجوز أن تكون الحسنة ههنا الطاعة والسيئة المعصية كما قالت القدرية؛ إذ لو كان
كذلك لكان ما أصبت كما قدمنا، إذ هو بمعنى الفعل عندهم والكسب عندنا، وإنما تكون
الحسنة الطاعة والسيئة المعصية في نحو قوله: « من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى
إلا مثلها » [ الأنعام:160 ] وأما في هذه الآية فهي كما
تقدم شرحنا له من الخصب والجدب والرخاء والشدة على نحو ما جاء في آية « الأعراف » وهي قوله تعالى: « ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين
ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون » [ الأعراف: 130 ] . « بالسنين » بالجدب سنة بعد سنة؛ حبس المطر
عنهم فنقصت ثمارهم وغلت أسعارهم. « فإذا
جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه » أي يتشاءمون بهم ويقولون هذا
من أجل أتباعنا لك وطاعتنا إياك؛ فرد الله عليهم بقوله: « ألا إنما طائرهم عند الله » [ الأعراف: 131 ] يعني أن طائر البركة وطائر
الشؤم من الخير والشر والنفع والضر من الله تعالى لا صنع فيه لمخلوق؛ فكذلك قوله
تعالى فيما أخبر عنهم أنهم يضيفونه للنبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: « وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من
عندك قل كل من عند الله » كما
قال: « ألا
إنما طائرهم عند الله » وكما
قال تعالى: « وما
أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله » [ آل
عمران: 166 ] أي
بقضاء الله وقدره وعلمه، وآيات الكتاب يشهد بعضها لبعض. قال علماؤنا: ومن كان يؤمن
بالله واليوم الآخر فلا يشك في أن كل شيء بقضاء الله وقدره وإرادته ومشيئته؛ كما
قال تعالى: «
ونبلوكم بالشر والخير فتنة » [ الأنبياء: 35 ] وقال تعالى: « وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا
مرد له وما لهم من دونه من وال » [ الرعد: 11 ] .
مسألة:
وقد تجاذب بعض جهال أهل السنة هذه الآية واحتج بها؛ كما تجاذبها القدرية واحتجوا
بها، ووجه احتجاجهم بها أن القدرية يقولون: إن الحسنة ههنا الطاعة، والسيئة
المعصية؛ قالوا: وقد نسب المعصية في قوله تعالى: « وما أصابك من سيئة فمن نفسك » إلى الإنسان دون الله تعالى؛
فهذا وجه تعلقهم بها. ووجه تعلق الآخرين منها قوله تعالى: « قل كل من عند الله » قالوا: فقد أضاف الحسنة
والسيئة إلى نفسه دون خلقه. وهذه الآية إنما يتعلق بها الجهال من الفريقين جميعا؛
لأنهم بنوا ذلك على أن السيئة هي المعصية، وليست كذلك لما بيناه. والله أعلم.
والقدرية إن قالوا « ما
أصابك من حسنة » أي من
طاعة « فمن
الله » فليس
هذا اعتقادهم؛ لأن اعتقادهم الذي بنوا عليه مذهبهم أن الحسنة فعل المحسن والسيئة
فعل المسيء. وأيضا فلو كان لهم فيها حجة لكان يقول: ما أصبت من حسنة وما أصبت من
سيئة؛ لأنه الفاعل للحسنة والسيئة جميعا، فلا يضاف إليه إلا بفعله لهما لا بفعل
غيره. نص على هذه المقالة الإمام أبو الحسن شبيب بن إبراهيم بن محمد بن حيدرة في
كتابه المسمى بحز الغلاصم في إفحام المخاصم.
قوله
تعالى: «
وأرسلناك للناس رسولا » مصدر
مؤكد، ويجوز أن يكون المعنى ذا رسالة « وكفى بالله شهيدا » نصب على البيان والباء زائدة، أي كفى الله شهيدا على صدق
رسالة نبيه وأنه صادق.
الآية:
80 ( من يطع الرسول فقد أطاع الله
ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا )
قوله
تعالى: « من يطع
الرسول فقد أطاع الله » أعلم
الله تعالى أن طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم طاعة له. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من أطاعني فقد أطاع الله ومن يعصني فقد عصى الله ومن يطع
الأمير فقد أطاعني ومن يعص الأمير فقد عصاني ) في رواية. ( ومن أطاع أميري، ومن عصى أميري ) .
قوله
تعالى: « ومن
تولى » أي أعرض
« فما
أرسلناك عليهم حفيظا » أي
حافظا ورقيبا لأعمالهم، إنما عليك البلاغ. وقال القتبي: محاسبا؛ فنسخ الله هذا
بآية السيف وأمره بقتال من خالف الله ورسوله.
الآيتان:
81 - 82 ( ويقولون طاعة فإذا برزوا من
عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول والله يكتب ما يبيتون فأعرض عنهم وتوكل على
الله وكفى بالله وكيلا، أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه
اختلافا كثيرا )
قوله
تعالى: «
ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول والله يكتب ما
يبيتون » أي
أمرنا طاعة، ويجوز « طاعة » بالنصب، أي نطيع طاعة، وهي
قراءة نصر بن عاصم والحسن والجحدري. وهذا في المنافقين في قول أكثر المفسرين؛ أي
يقولون إذا كانوا عندك: أمرنا طاعة، أو نطيع طاعة، وقولهم هذا ليس بنافع؛ لأن من
لم يعتقد الطاعة ليس بمطيع حقيقة، لأن الله تعالى لم يحقق طاعتهم بما أظهروه، فلو
كانت الطاعة بلا اعتقاد حقيقة لحكم بها لهم؛ فثبت أن الطاعة بالاعتقاد مع وجودها. « فإذا برزوا » أي خرجوا « من عندك بيت طائفة منهم » فذكر الطائفة لأنها في معنى
رجال. وأدغم الكوفيون التاء في الطاء؛ لأنهما من مخرج واحد، واستقبح ذلك الكسائي
في الفعل وهو عند البصريين غير. قبيح. ومعنى « بيت » زور
وموه. وقيل: غير وبدل وحرف؛ أي بدلوا قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما عهده
إليهم وأمرهم به.. والتبييت التبديل؛ ومنه قول الشاعر:
أتوني
فلم أرض ما بيتوا وكانوا أتوني بأمر نكر
لأنكح
أيمهم منذرا وهل ينكح العبد حر لحر
آخر:
بيت قولي
عبدالمليـ ـك قاتله الله عبدا كفورا
وبيت
الرجل الأمر إذا دبر ليلا؛ قال الله تعالى: « إذ يبيتون ما لا يرضى من القول » [ النساء: 108 ] . والعرب تقول: أمر بيت بليل
إذا أحكم. وإنما خص الليل بذلك لأنه وقت يتفرغ فيه. قال الشاعر:
أجمعوا
أمرهم بليل فلما أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء
ومن هذا
بيت الصيام. والبيوت: الماء يبيت ليلا. والبيوت: الأمر يبيت عليه صاحبه مهتما به؛
قال الهذلي:
وأجعل
فقرتها عدة إذا خفت بيوت أمر عضال
والتبييت
والبيات أن يأتي العدو ليلا. وبات يفعل كذا إذا فعله ليلا؛ كما يقال: ظل بالنهار.
وبيت الشيء قدر. فإن قيل: فما وجه الحكمة في ابتدائه بذكر جملتهم ثم قال: « بيت طائفة منهم » ؟ قيل: إنما عبر عن حال من علم
أنه بقي على كفره ونفاقه، وصفح عمن علم أنه سيرجع عن ذلك. وقيل: إنما عبر عن حال
من شهد وحار في أمره، وأما من سمع وسكت فلم يذكره. والله أعلم. « والله يكتب ما يبيتون » أي يثبته في صحائف أعمالهم
ليجازيهم عليه. وقال الزجاج: المعنى ينزله عليك في الكتاب. وفي هذه الآية دليل على
أن مجرد القول لا يفيد شيئا كما ذكرنا؛ فإنهم قالوا: طاعة، ولفظوا بها ولم يحقق
الله طاعتهم ولا حكم لهم بصحتها؛ لأنهم لم يعتقدوها. فثبت أنه لا يكون المطيع
مطيعا إلا باعتقادها مع وجودها.
قوله
تعالى: « فأعرض
عنهم » أي لا تخبر
بأسمائهم؛ عن الضحاك، يعني المنافقين. وقيل: لا تعاقبهم. « وتوكل على الله وكفى بالله
وكيلا » ثم أمره
بالتوكل عليه والثقة به في النصر على عدوه. ويقال: إن هذا منسوخ بقوله تعالى: « يا أيها النبي جاهد الكفار
والمنافقين » [ التوبة: 73 ]
قوله
تعالى: « أفلا يتدبرون
القرآن » ثم عاب
المنافقين بالإعراض عن التدبر في القرآن والتفكر فيه وفي معانيه. تدبرت الشيء فكرت
في عاقبته. وفي الحديث ( لا
تدابروا ) أي لا
يولي بعضكم بعضا دبره. وأدبر القوم مضى أمرهم إلى آخره. والتدبير أن يدبر الإنسان
أمره كأنه ينظر إلى ما تصير إليه عاقبته. ودلت هذه الآية وقوله تعالى: « أفلا يتدبرون القرآن أم على
قلوب أقفالها » [ محمد: 24 ] على وجوب التدبر في القرآن
ليعرف معناه. فكان في هذا رد على فساد قول من قال: لا يؤخذ من تفسيره إلا ما ثبت
عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومنع أن يتأول على ما يسوغه لسان العرب. وفيه دليل
على الأمر بالنظر والاستدلال وإبطال التقليد، وفيه دليل على إثبات القياس.
قوله
تعالى: « ولو
كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا » أي تفاوتا وتناقضا؛ عن ابن عباس وقتادة وابن زيد. ولا يدخل
في هذا اختلاف ألفاظ القراءات وألفاظ الأمثال والدلالات ومقادير السور والآيات.
وإنما أراد اختلاف التناقض والتفاوت. وقيل: المعنى لو كان ما تخبرون به من عند غير
الله لاختلف. وقيل: إنه ليس من متكلم يتكلم كلاما كثيرا إلا وجد في كلامه اختلاف
كثير؛ إما في الوصف واللفظ؛ وإما في جودة المعنى، وإما في التناقض، وإما في الكذب.
فأنزل الله عز وجل القرآن وأمرهم بتدبره؛ لأنهم لا يجدون فيه اختلافا في وصف ولا
ردا له في معنى، ولا تناقضا ولا كذبا فيما يخبرون به من الغيوب وما يسرون.
الآية:
83 ( وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف
أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم
ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا )
قوله
تعالى: « وإذا
جاءهم أمر من الأمن » في « إذا » معنى الشرط ولا يجازى بها وإن
زيدت عليها « ما » وهي قليلة الاستعمال. قال
سيبويه. والجيد ما قال كعب بن زهير:
وإذا ما
تشاء تبعث منها مغرب الشمس ناشطا مذعورا
يعني أن
الجيد لا يجزم بإذا ما كما لم يجزم في هذا البيت، وقد تقدم في أول « البقرة » . والمعنى أنهم إذا سمعوا شيئا
من الأمور فيه أمن نحو ظفر المسلمين وقتل عدوهم « أو الخوف » وهو ضد
هذا « أذاعوا
به » أي
أفشوه وأظهروه وتحدثوا به قبل أن يقفوا على حقيقته. فقيل: كان هذا من ضعفة
المسلمين؛ عن الحسن؛ لأنهم كانوا يفشون أمر النبي صلى الله عليه وسلم ويظنون أنهم
لا شيء عليهم في ذلك. وقال الضحاك وابن زيد: هو في المنافقين فنهوا عن ذلك لما
يلحقهم من الكذب في الإرجاف.
قوله
تعالى: « ولو
ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم » أي لم يحدثوا به ولم يفشوه حتى يكون النبي صلى الله عليه
وسلم هو الذي يحدث به ويفشيه. أو أولو الأمر وهم أهل العلم والفقه؛ عن الحسن
وقتادة وغيرهما. السدي وابن زيد: الولاة. وقيل: أمراء السرايا. « لعلمه الذين يستنبطونه منهم » أي يستخرجونه، أي لعلموا ما
ينبغي أن يفشى منه وما ينبغي أن يكتم. والاستنباط مأخوذ من استنبطت الماء إذا
استخرجته. والنبط: الماء المستنبط أول ما يخرج من ماء البئر أول ما تحفر. وسمي النبط
نبطا لأنهم يستخرجون ما في الأرض. والاستنباط في اللغة الاستخراج، وهو يدل على
الاجتهاد إذا عدم النص والإجماع كما تقدم.
قوله
تعالى: « ولولا
فضل الله عليكم ورحمته » رفع
بالابتداء عند سيبويه، ولا يجوز أن يظهر الخبر عنده. والكوفيون يقولون: رفع بلولا.
« لاتبعتم
الشيطان إلا قليلا » في هذه
الآية ثلاثة أقوال؛ قال ابن عباس وغيره: المعنى أذاعوا به إلا قليلا منهم لم يذع
ولم يفش. وقاله جماعة من النحويين: الكسائي والأخفش وأبو عبيد وأبو حاتم والطبري.
وقيل: المعنى لعلمه الذين يستنبطونه منهم إلا قليلا منهم؛ عن الحسن وغيره، واختاره
الزجاج قال: لأن هذا الاستنباط الأكثر يعرفه؛ لأنه استعلام خبر. واختار الأول
الفراء قال: لأن علم السرايا إذا ظهر علمه المستنبط وغيره، والإذاعة تكون في مضى
دون بعض. قال الكلبي عنه: فلذلك استحسنت الاستثناء من الإذاعة. قال النحاس: فهذان
قولان على المجاز، يريد أن في الكلام تقديما وتأخيرا. وقول ثالث بغير مجاز: يكون
المعنى ولولا فضل الله عليكم ورحمته بأن بعث فيكم رسولا أقام فيكم الحجة لكفرتم
وأشركتم إلا قليلا منكم فإنه كان يوحد. وفيه قول رابع - قال الضحاك: المعنى
لاتبعتم الشيطان إلا قليلا، أي إن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حدثوا أنفسهم
بأمر من الشيطان إلا قليلا، يعني الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى. وعلى هذا القول
يكون قوله « إلا
قليلا » مستثنى
من قوله «
لاتبعتم الشيطان » . قال
المهدوي: وأنكر هذا القول أكثر العلماء، إذ لولا فضل الله ورحمته لاتبع الناس كلهم
الشيطان.
الآية:
84 ( فقاتل في سبيل الله لا تكلف
إلا نفسك وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأسا وأشد
تنكيلا )
قوله
تعالى: « فقاتل
في سبيل الله » هذه
الفاء متعلقة بقوله « ومن
يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما » [ النساء: 74 ] « فقاتل في سبيل الله » أي من أجل هذا فقاتل. وقيل: هي
متعلقة بقوله: « وما
لكم لا تقاتلون في سبيل الله. فقاتل » . كأن هذا المعنى: لا تدع جهاد العدو والاستنصار عليهم
للمستضعفين من المؤمنين ولو وحدك؛ لأنه وعده بالنصر. قال الزجاج: أمر الله تعالى
رسوله صلى الله عليه وسلم بالجهاد وإن قاتل وحده؛ لأنه قد ضمن له النصرة. قال ابن
عطية: « هذا
ظاهر اللفظ، إلا أنه لم يجئ في خبر قط أن القتال فرض عليه دون الأمة مدة ما؛
فالمعنى والله أعلم أنه خطاب له في اللفظ، وهو مثال ما يقال لكل واحد في خاصة
نفسه؛ أي أنت يا محمد وكل واحد من أمتك القول له؛ » فقاتل في سبيل الله لا تكلف
إلا نفسك « .
ولهذا ينبغي لكل مؤمن أن يجاهد ولو وحده؛ ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( والله لأقاتلنهم حتى تنفرد
سالفتي ) . وقول
أبي بكر وقت الردة: ولو خالفتني يميني لجاهدتها بشمالي. وقيل: إن هذه الآية نزلت
في موسم بدر الصغرى؛ فإن أبا سفيان لما انصرف من أحد واعد رسول الله صلى الله عليه
وسلم موسم بدو الصغرى؛ فلما جاء الميعاد خرج إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم
في سبعين راكبا فلم يحضر أبو سفيان ولم يتفق قتال. وهذا على معنى ما قاله مجاهد كما
تقدم في » آل
عمران « . ووجه
النظم على هذا والاتصال بما قبل أنه وصف المنافقين بالتخليط وإيقاع الأراجيف، ثم
أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإعراض عنهم وبالجد في القتال في سبيل الله وإن لم
يساعده أحد على ذلك. »
قوله
تعالى: « لا
تكلف إلا نفسك » « تكلف » مرفوع لأنه مستقبل، ولم يجزم
لأنه ليس علة للأول. وزعم الأخفش أنه يجوز جزمه. « إلا نفسك » خبر ما
لم يسم فاعله؛ والمعنى لا تلزم فعل غيرك ولا تؤاخذ به.
قوله
تعالى: « وحرض
المؤمنين » أي حضهم
على الجهاد والقتال. يقال: حرضت فلانا على كذا إذا أمرته به. وحارض فلان على الأمر
وأكب وواظب بمعنى واحد. « عسى
الله أن يكف بأس الذين كفروا » إطماع،
والإطماع من الله عز وجل واجب. على أن الطمع قد جاء في كلام العرب على الوجوب؛
ومنه قوله تعالى: « والذي
أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين » [
الشعراء: 82 ] . وقال
ابن مقبل:
ظني بهم
كعسى وهم بتنوفة يتنازعون جوائز الأمثال
قوله
تعالى: « والله
أشد بأسا » أي صولة
وأعظم سلطانا وأقدر بأسا على ما يريده. « وأشد تنكيلا » أي عقوبة؛ عن الحسن وغيره. قال ابن دريد: رماه الله بنكلة، أي
رماه بما ينكله. قال: ونكلت بالرجل تنكيلا من النكال. والمنكل الشيء الذي ينكل
بالإنسان. قال:
وأرم على
أقفائهم بمنكل
إن قال
قائل: نحن نرى الكفار في بأس وشدة، وقلتم: إن عسى بمعنى اليقين فأين ذلك الوعد؟
قيل له: قد وجد هذا الوعد ولا يلزم وجوده على الاستمرار والدوام فمتى وجد ولو لحظة
مثلا فقد صدق الوعد؛ فكف الله بأس المشركين ببدر الصغرى، وأخلفوا ما كانوا عاهدوه
من الحرب والقتال « وكفى
الله المؤمنين القتال » [ الأحزاب: 25 ] وبالحديبية أيضا عما راموه من
الغدر وانتهاز الفرصة، ففطن بهم المسلمون فخرجوا فأخذوهم أسرة، وكان ذلك والسفراء
يمشون بينهم في الصلح، وهو المراد بقوله تعالى: « وهو الذي كف أيديهم عنكم » [
الفتح: 24 ] على ما
يأتي. وقد ألقى الله في قلوب الأحزاب الرعب وانصرفوا من غير قتل ولا قتال؛ كما قال
تعالى « وكفى
الله المؤمنين القتال » . وخرج
اليهود من ديارهم وأموالهم بغير قتال المؤمنين لهم، فهذا كله بأس قد كفه الله عن
المؤمنين، مع أنه قد دخل من اليهود والنصارى العدد الكثير والجم الغفير تحت الجزية
صاغرين وتركوا المحاربة داخرين، فكف الله بأسهم عن المؤمنين. والحمد لله رب
العالمين.
الآية:
85 ( من يشفع شفاعة حسنة يكن له
نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها وكان الله على كل شيء مقيتا )
قوله
تعالى: « من
يشفع » أصل
الشفاعة والشفعة ونحوها من الشفع وهو الزوج في العدد؛ ومنه الشفيع؛ لأنه يصير مع
صاحب الحاجة شفعا. ومنه ناقة شفوع إذا جمعت بين محلبين في حلبة واحدة. وناقة شفيع
إذا اجتمع لها حمل وولد يتبعها. والشفع ضم واحد إلى واحد. والشفعة ضم ملك الشريك
إلى ملكك؛ فالشفاعة إذا ضم غيرك إلى جاهك ووسيلتك، فهي على التحقيق إظهار لمنزلة
الشفيع عند المشفع وإيصال المنفعة إلى المشفوع له.
واختلف المتأولون
في هذه الآية؛ فقال مجاهد والحسن وابن زيد وغيرهم هي في شفاعات الناس بينهم في
حوائجهم؛ فمن يشفع لينفع فله نصبب، ومن يشفع ليضر فله كفل. وقيل: الشفاعة الحسنة
هي في البر والطاعة، والسيئة في المعاصي. فمن شفع شفاعة حسنة ليصلح بين اثنين
استوجب الأجر، ومن سعى بالنميمة والغيبة أثم، وهذا قريب من الأول. وقيل: يعني
بالشفاعة الحسنة الدعاء للمسلمين، والسيئة الدعاء عليهم. وفي صحيح الخبر: ( من دعا بظهر الغيب استجيب له
وقال الملك آمين ولك بمثل ) . هذا
هو النصيب، وكذلك في الشر؛ بل يرجع شؤم دعائه عليه. وكانت اليهود تدعو على
المسلمين. وقيل: المعنى من يكن شفعا لصاحبه في الجهاد يكن له نصيبه من الأجر، ومن
يكن شفعا لآخر في باطل يكن له نصيبه من الوزر. وعن الحسن أيضا: الحسنة ما يجوز في
الدين، والسيئة ما لا يجوز فيه. وكأن هذا القول جامع. والكفل الوزر والإثم؛ عن
الحسن وقتادة. السدي وابن زيد هو النصيب. واشتقاقه من الكساء الذي يحويه راكب
البعير على سنامه لئلا يسقط. يقال: اكتفلت البعير إذا أدرت على سنامه كساء وركبت
عليه. ويقال له: اكتفل لأنه لم يستعمل الظهر كله بل استعمل نصيبا من الظهر.
ويستعمل في النصيب من الخير والشر، وفي كتاب الله تعالى « يؤتكم كفلين من رحمته » [ الحديد: 28 ] . والشافع يؤجر فيما يجوز وإن
لم يشفع؛ لأنه تعالى قال « من
يشفع » ولم يقل
يشفع. وفي صحيح مسلم (
اشفعوا تؤجروا وليقض الله على لسان نبيه ما أحب ) .
قوله
تعالى: « وكان
الله على كل شيء مقيتا » « مقيتا » معناه مقتدرا؛ ومنه قول الزبير
بن عبدالمطلب:
وذي ضغن
كففت النفس عنه وكنت على مساءته مقيتا
أي
قديرا. فالمعنى إن الله تعالى يعطي كل إنسان قوته؛ ومنه قوله عليه السلام: ( كفى بالمرء إثما أن يضيع من
يقيت ) . على
من رواه هكذا، أي من هو تحت قدرته وفي قبضته من عيال وغيره؛ ذكره ابن عطية. يقول
منه: قته أقوته قوتا، وأقته أقيته إقاتة فأنا قائت ومقيت. وحكى الكسائي: أقات
يقيت. وأما قول الشاعر:
. .. إني
على الحساب مقيت
فقال فيه
الطبري: إنه من غير هذا المعنى المتقدم، وإنه بمعنى الموقوف. وقال أبو عبيدة:
المقيت الحافظ. وقال الكسائي: المقيت المقتدر. وقال النحاس: وقول أبي عبيدة أولى
لأنه مشتق من القوت، والقوت معناه مقدار ما يحفظ الإنسان. وقال الفراء: المقيت
الذي يعطي كل رجل قوته. وجاء في الحديث: ( كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت ) و « يقيت » ذكره الثعلبي: وحكى ابن فارس
في المجمل: المقيت المقتدر، والمقيت الحافظ والشاهد، وما عنده قيت ليلة وقوت ليلة.
والله أعلم.
الآية:
86 ( وإذا حييتم بتحية فحيوا
بأحسن منها أو ردوها إن الله كان على كل شيء حسيبا )
قوله
تعالى: « وإذا
حييتم بتحية » التحية
تفعلة من حييت؛ الأصل تحيية مثل ترضية وتسمية، فأدغموا الياء في الياء. والتحية
السلام. وأصل التحية الدعاء بالحياة. والتحيات لله، أي السلام من الآفات. وقيل:
الملك. قال عبدالله بن صالح العجلي: سألت الكسائي عن قوله « التحيات لله » ما معناه ؟ فقال: التحيات مثل
البركات؛ فقلت: ما معنى البركات ؟ فقال: ما سمعت فيها شيئا. وسألت عنها محمد بن
الحسن فقال: هو شيء تعبدالله به عباده. فقدمت الكوفة فلقيت عبدالله بن إدريس فقلت:
إني سألت الكسائي ومحمدا عن قول «
التحيات لله »
فأجاباني بكذا وكذا؛ فقال عبدالله بن إدريس: إنهما لا علم لهما بالشعر وبهذه
الأشياء ؟ ! التحية الملك؛ وأنشد:
أؤم بها
أبا قابوس حتى وأنيخ على تحية بجندي
وأنشد
ابن خويز منداد:
أسير به
إلى النعمان حتى أنيخ على تحيته بجندي
يريد على
ملكه. وقال آخر:
ولكل ما
نال الفتى قد نلته إلا التحية
وقال
القتبي: إنما قال «
التحيات لله » على
الجمع؛ لأنه كان في الأرض ملوك يحيون بتحيات مختلفات؛ فيقال لبعضهم: أبيت اللعن،
ولبعضهم: اسلم وانعم، ولبعضهم: عش ألف سنة. فقيل لنا: قولوا التحيات لله؛ أي
الألفاظ التي تدل على الملك، ويكنى بها عنه لله تعالى. ووجه النظم بما قبل أنه
قال: إذا خرجتم للجهاد كما سبق به الأمر فحييتم في سفركم بتحية الإسلام، فلا
تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا، بل ردوا جواب السلام؛ فإن أحكام الإسلام
تجري عليهم.
واختلف
العلماء في معنى الآية وتأويلها؛ فروى ابن وهب وابن القاسم عن مالك أن هذه الآية
في تشميت العاطس والرد على المشمت. وهذا ضعيف؛ إذ ليس في الكلام دلالة على ذلك،
أما الرد على المشمت فمما يدخل بالقياس في معنى رد التحية، وهذا هو منحى مالك إن
صح ذلك عنه. والله أعلم. وقال ابن خويز منداد: وقد يجوز أن تحمل هذه الآية على
الهبة إذا كانت للثواب؛ فمن وهب له هبة على الثواب فهو بالخيار إن شاء ردها وإن
شاء قبلها وأثاب عليها قيمتها.
قلت:
ونحو هذا قال أصحاب أبي حنيفة، قالوا: التحية هنا الهدية؛ لقوله تعالى: « أو ردوها » ولا يمكن رد الإسلام بعينه.
وظاهر الكلام يقتضي أداء التحية بعينها وهي الهدية، فأمر بالتعويض إن قبل أو الرد
بعينه، وهذا لا يمكن في السلام. وسيأتي بيان حكم الهبة للثواب والهدية في سورة « الروم » عند قوله: « وما آتيتم من ربا » [ الروم: 39 ] إن شاء الله تعالى. والصحيح
أن التحية ههنا السلام؛ لقوله تعالى: « وإذا جاؤوك حيوك بما لم يحيك به الله » [ المجادلة: 8 ] . وقال النابغة الذبياني:
تحييهم بيض
الولائد بينهم وأكسية الإضريج فوق المشاجب
أراد:
ومسلم عليهم. وعلى هذا جماعة المفسرين. وإذا ثبت هذا وتقرر ففقه الآية أن يقال:
أجمع العلماء على أن الابتداء بالسلام سنة مرغب فيها، ورده فريضة؛ لقوله تعالى: « فحيوا بأحسن منها أو ردوها » . واختلفوا إذا رد واحد من
جماعة هل يجزئ أو لا؛ فذهب مالك والشافعي إلى الإجزاء، وأن المسلم قد رد عليه مثل
قوله. وذهب الكوفيون إلى أن رد السلام من الفروض المتعينة؛ قالوا: والسلام خلاف
الرد؛ لأن الابتداء به تطوع ورده فريضة. ولو رد غير المسلم عليهم لم يسقط ذلك عنهم
فرض الرد، فدل على أن رد السلام يلزم كل إنسان بعينه؛ حتى قال قتادة والحسن: إن
المصلي يرد السلام كلاما إذا سلم عليه ولا يقطع ذلك عليه صلاته؛ لأنه فعل ما أمر
به. والناس على خلافه. احتج الأولون بما رواه أبو داود عن علي بن أبي طالب عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يجزئ
من الجماعة إذا مروا أن يسلم أحدهم، ويجزئ عن الجلوس أن يرد أحدهم ) . وهذا نص في موضع الخلاف.
قال أبو عمر: وهو حديث حسن لا معارض له، وفي إسناده سعيد بن خالد، وهو سعيد بن
خالد الخزاعي مدني ليس به بأس عند بعضهم؛ وقد ضعفه بعضهم منهم أبو زرعة وأبو حاتم
ويعقوب بن شيبة وجعلوا حديثه هذا منكرا؛ لأنه انفرد فيه بهذا الإسناد؛ على أن
عبدالله بن الفضل لم يسمع من عبيدالله بن أبي رافع؛ بينهما الأعرج في غير ما حديث.
والله أعلم. واحتجوا أيضا بقوله عليه السلام: ( يسلم القليل على الكثير ) . ولما أجمعوا على أن الواحد يسلم على الجماعة ولا يحتاج
إلى تكريره على عداد الجماعة، كذلك يرد الواحد عن الجماعة وينوب عن الباقين كفروض
الكفاية. وروى مالك عن زيد بن أسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( يسلم الراكب على الماشي وإذا
سلم واحد من القوم أجزأ عنهم ) . قال
علماؤنا: وهذا يدل على أن الواحد يكفي في الرد؛ لأنه لا يقال أجزأ عنهم إلا فيما
قد وجب. والله أعلم.
قلت:
هكذا تأول علماؤنا هذا الحديث وجعلوه حجة في جواز رد الواحد؛ وفيه قلق.
قوله
تعالى: « فحيوا
بأحسن منها أو ردوها » رد
الأحسن أن يزيد فيقول: عليك السلام ورحمة الله؛ لمن قال: سلام عليك. فإن قال: سلام
عليك ورحمة الله؛ زدت في ردك: وبركاته. وهذا هو النهاية فلا مزيد. قال الله تعالى
مخبرا عن البيت الكريم « رحمة
الله وبركاته » [ هود: 73 ] على ما يأتي بيانه إن شاء
الله تعالى. فإن انتهى بالسلام غايته، زدت في ردك الواو في أول كلامك فقلت: وعليك
السلام ورحمة الله وبركاته. والرد بالمثل أن تقول لمن قال السلام عليك: عليك
السلام، إلا أنه ينبغي أن يكون السلام كله بلفظ الجماعة، وإن كان المسلم عليه
واحدا. روى الأعمش عن إبراهيم النخعي قال: إذا سلمت على الواحد فقل: السلام عليكم،
فإن معه الملائكة. وكذلك الجواب يكون بلفظ الجمع؛ قال ابن أبي زيد: يقول المسلم
السلام عليكم، ويقول الراد وعليكم السلام، أو يقول السلام عليكم كما قيل له؛ وهو
معنى قوله « أو
ردوها » ولا تقل
في ردك: سلام عليك.
والاختيار
في التسليم والأدب فيه تقديم اسم الله تعالى على اسم المخلوق؛ قال الله تعالى: « سلام على إل ياسين » [ الصافات: 130 ] . وقال في قصة إبراهيم عليه
السلام: « رحمة
الله وبركاته عليكم أهل البيت » [ هود: 73 ] . وقال مخبرا عن إبراهيم: « سلام عليك » [ مريم: 47 ] . وفي صحيحي البخاري ومسلم من
حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( خلق الله عز وجل آدم على
صورته طول ستون ذراعا فلما خلقه قال اذهب فسلم على أولئك النفر وهم نفر من
الملائكة جلوس فاستمع ما يحيونك فإنها تحيتك وتحية ذريتك - قال - فذهب فقال السلام
عليكم فقالوا السلام عليك ورحمة الله - قال - فزادوه ورحمة الله - قال - فكل من
يدخل الجنة على صورة آدم وطوله ستون ذراعا فلم يزل الخلق ينقص بعده حتى الآن ) .
قلت: فقد
جمع هذا الحديث مع صحته فوائد سبعا: الأولى: الإخبار عن صفة خلق آدم. الثانية: أنا
ندخل الجنة عليها بفضله. الثالثة: تسليم القليل على الكثير. الرابعة: تقديم اسم الله
تعالى. الخامسة: الرد بالمثل لقولهم: السلام عليكم. السادسة: الزيادة في الرد.
السابعة: إجابة الجميع بالرد كما يقول الكوفيون. والله أعلم.
فإن رد
فقدم اسم المسلم عليه لم يأت محرما ولا مكروها؛ لثبوته عن النبي صلى الله عليه
وسلم حيث قال للرجل الذي لم يحسن الصلاة وقد سلم عليه: ( وعليك السلام أرجع فصل فإنك
لم تصل ) .
وقالت عائشة: وعليه السلام ورحمة الله؛ حين أخبرها النبي صلى الله عليه وسلم أن
جبريل يقرأ عليها السلام. أخرجه البخاري. وفي حديث عائشة من الفقه أن الرجل إذا
أرسل إلى رجل بسلامه فعليه أن يرد. كما يرد عليه إذا شافهه. وجاء رجل إلى النبي
صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبي يقرئك السلام؛ فقال: ( عليك وعلى أبيك السلام ) . وقد روى النسائي وأبو داود
من حديث جابر بن سليم قال: لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: عليك السلام
يا رسول الله؛ فقال: ( لا
تقل عليك السلام فإن عليك السلام تحية الميت ولكن قل السلام عليك ) . وهذا الحديث لا يثبت؛ إلا
أنه لما جرت عادة العرب بتقديم اسم المدعو عليه في الشر كقولهم: عليه لعنة الله
وغضب الله. قال الله تعالى: « وإن
عليك لعنتي إلى يوم الدين » . [ ص: 78 ] . وكان ذلك أيضا دأب الشعراء
وعادتهم في تحية الموتى؛ كقولهم:
عليك
سلام الله قيس بن عاصم ورحمته ما شاء أن يترحما
وقال آخر
وهو الشماخ:
عليك
سلام من أمير وباركت يد الله في ذاك الأديم الممزق
نهاه عن
ذلك، لا أن ذاك هو اللفظ المشروع في حق الموتى؛ لأنه عليه السلام ثبت عنه أنه سلم
على الموتى كما سلم على الأحياء فقال: ( السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ) . فقالت عائشة: قلت يا رسول
الله، كيف أقول إذا دخلت المقابر ؟ قال: ( قولي السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين ) الحديث؛ وسيأتي في سورة « ألهاكم » [ التكاثر ] إن شاء الله تعالى.
قلت: وقد
يحتمل أن يكون حديث عائشة وغيره في السلام على أهل القبور جميعهم إذا دخلها وأشرف
عليها، وحديث جابر بن سليم خاص بالسلام على المرور المقصود بالزيارة. والله أعلم.
من السنة
تسليم الراكب على الماشي، والقائم على القاعد، والقليل على الكثير؛ هكذا جاء في
صحيح مسلم من حديث أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يسلم الراكب ) فذكره فبدأ بالراكب لعلو
مرتبته؛ ولأن ذلك أبعد له من الزهو، وكذلك قيل في الماشي مثله. وقيل: لما كان
القاعد على حال وقار وثبوت وسكون فله مزية بذلك على الماشي؛ لأن حاله على العكس من
ذلك. وأما تسليم القليل على الكثير فمراعاة لشرفية جمع المسلمين وأكثريتهم. وقد
زاد البخاري في هذا الحديث ( ويسلم
الصغير على الكبير ) . وأما
تسليم الكبير على الصغير فروى أشعث عن الحسن أنه كان لا يرى التسليم على الصبيان؛
قال: لأن الرد فرض والصبي لا يلزمه الرد فلا ينبغي أن يسلم عليهم. وروي عن ابن
سيرين أنه كان يسلم على الصبيان ولكن لا يسمعهم. وقال أكثر العلماء: التسليم عليهم
أفضل من تركه. وقد جاء في الصحيحين عن سيار قال: كنت أمشي مع ثابت فمر بصبيان فسلم
عليهم، وذكر أنه كان يمشي مع أنس فمر بصبيان فسلم عليهم، وحدث أنه كان يمشي مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم فمر بصبيان فسلم عليهم. لفظ مسلم. وهذا من خلقه
العظيم صلى الله عليه وسلم، وفيه تدريب للصغير وحض على تعليم السنن ورياضة لهم على
آداب الشريعة فيه؛ فلتقتد.
وأما
التسليم على النساء فجائز إلا على الشابات منهن خوف الفتنة من مكالمتهن بنزعة
شيطان أو خائنة عن. وأما المتجالات والعجز فحسن للأمن فيما ذكرناه؛ هذا قول عطاء
وقتادة، وإليه ذهب مالك وطائفة من العلماء. ومنعه الكوفيون إذا لم يكن منهن ذوات
محرم وقالوا: لما سقط عن النساء الأذان والإقامة والجهر بالقراءة في الصلاة سقط
عنهن رد السلام فلا يسلم عليهن. والصحيح الأول لما خرجه البخاري عن سهل بن سعد
قال: كنا نفرح بيوم الجمعة. قلت ولم ؟ قال: كانت لنا عجوز ترسل إلى بضاعة - قال
ابن مسلمة: نخل بالمدينة - فتأخذ من أصول السلق فتطرحه في القدر وتكركر حبات من
شعير، فإذا صلينا الجمعة انصرفنا فنسلم عليها فتقدمه إلينا فنفرح من أجله: وما كنا
نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة. تكركر أي تطحن؛ قاله القتبي.
والسنة
في السلام والجواب الجهر؛ ولا تكفي الإشارة بالإصبع والكف عند الشافعي، وعندنا
تكفي إذا كان على بعد؛ روى ابن وهب عن ابن مسعود قال: السلام اسم من أسماء الله عز
وجل وضعه الله في الأرض فأفشوه بينكم؛ فإن الرجل إذا سلم على القوم فردوا عليه كان
له عليهم فضل درجة لأنه ذكرهم، فإن لم يردوا عليه رد عليه من هو خير منهم وأطيب.
وروى الأعمش عن عمرو بن مرة عن عبدالله بن الحارث قال: إذا سلم الرجل على القوم
كان له فضل درجة، فإن لم يردوا عليه ردت عليه الملائكة ولعنتهم. فإذا رد المسلم
عليه أسمع جوابه؛ لأنه إذا لم يسمع المسلم لم يكن جوابا له؛ ألا ترى أن المسلم إذا
سلم بسلام لم يسمعه المسلم عليه لم يكن ذلك منه سلاما، فكذلك إذا أجاب بجواب لم
يسمع منه فليس بجواب. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا سلمتم فأسمعوا وإذا
رددتم فأسمعوا وإذا قعدتم فأقعدوا بالأمانة ولا يرفعن بعضكم حديث بعض ) . قال ابن وهب: وأخبرني أسامة
بن زيد عن نافع قال: كنت أساير رجلا من فقهاء الشام يقال له عبدالله بن زكريا
فحبستني دابتي تبول، ثم أدركته ولم أسلم عليه؛ فقال: ألا تسلم ؟ فقلت: إنما كنت
معك آنفا؛ فقال: وإن صح؛ لقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتسايرون
فيفرق بينهم الشجر فإذا التقوا سلم بعضهم على بعض.
وأما
الكافر فحكم الرد عليه أن يقال له: وعليكم. قال ابن عباس وغيره: المراد بالآية: « وإذا حييتم بتحية » فإذا كانت من مؤمن « فحيوا بأحسن منها » وإن كانت من كافر فردوا على ما
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقال لهم: ( وعليكم ) . وقال
عطاء: الآية في المؤمنين خاصة، ومن سلم من غيرهم قيل له: عليك؛ كما جاء في الحديث.
قلت: فقد
جاء إثبات الواو وإسقاطها في صحيح مسلم ( عليك ) بغير
واو وهي الرواية الواضحة المعنى، وأما مع إثبات الواو ففيها إشكال؛ لأن الواو
العاطفة تقتضي التشريك فيلزم منه أن يدخل معهم فيما دعوا به علينا من الموت أو من
سامة ديننا؛ فاختلف المتأولون لذلك على أقوال: أولاها أن يقال: إن الواو على بابها
من العطف، غير أنا نجاب عليهم ولا يجابون علينا، كما قال صلى الله عليه وسلم.
وقيل: هي زائدة. وقيل: للاستئناف. والأولى أولى. ورواية حذف الواو أحسن معنى
وإثباتها أصح رواية وأشهر، وعليها من العلماء الأكثر.
واختلف
في رد السلام على أهل الذمة هل هو واجب كالرد على المسلمين؛ وإليه ذهب ابن عباس
والشعبي وقتادة تمسكا بعموم الآية وبالأمر بالرد عليهم في صحيح السنة. وذهب مالك
فيما روى عنه أشهب وابن وهب إلى أن ذلك ليس بواجب؛ فإن رددت فقل: عليك. واختار ابن
طاوس أن يقول في الرد عليهم: علاك السلام. أي ارتفع عنك. واختار بعض علمائنا
السلام ( بكسر
السين ) يعني
به الحجارة. وقول مالك وغيره في ذلك كاف شاف كما جاء في الحديث، وسيأتي في سورة « مريم » القول في ابتدائهم بالسلام عند
قوله تعالى إخبارا عن إبراهيم في قوله لأبيه « سلام عليك » [
مريم: 47 ] . وفي
صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا
ولا تؤدوا حتى تحابوا أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم ) . وهذا يقتضي إفشاءه بين المسلمين
دون المشركين. والله أعلم.
ولا يسلم
على المصلي فإن سلم عليه فهو بالخيار إن شاء رد بالإشارة بإصبعه وإن شاء أمسك حتى
يفرغ من الصلاة ثم يرد. ولا ينبغي أن يسلم على من يقضي حاجته فإن فعل لم يلزمه أن
يرد عليه. دخل رجل على النبي صلى الله عليه وسلم في مثل هذه الحال فقال له: ( إذا وجدتني أو رأيتني على
هذه الحل فلا تسلم علي فإنك إن سلمت علي لم أرد عليك ) . ولا يسلم على من يقرأ
القرآن فيقطع عليه قراءته، وهو بالخيار إن شاء رد وإن شاء أمسك حتى يفرغ ثم يرد،
ولا يسلم على من دخل الحمام وهو كاشف العورة، أو كان مشغولا بما له دخل بالحمام،
ومن كان بخلاف ذلك سلم عليه.
قوله
تعالى: « إن
الله كان على كل شيء حسيبا » معناه
حفيظا. وقيل: كافيا؛ من قولهم: أحسبني كذا أي كفاني، ومثله حسبك الله. وقال قتادة:
محاسبا كما يقال: أكيل بمعنى مواكل. وقيل: هو فعيل من الحساب، وحسنت هذه الصفة
هنا؛ لأن معنى الآية في أن يزيد الإنسان أو ينقص أو يوفي قدر ما يجيء به. روى
النسائي عن عمران بن حصين قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاء رجل فسلم،
فقال: السلام عليكم فرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ( عشر ) ثم جلس، ثم جاء آخر فسلم فقال:
السلام عليكم ورحمة الله؛ فرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ( عشرون ) ثم جلس وجاء آخر فقال: السلام
عليكم ورحمة الله وبركاته؛ فرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ( ثلاثون ) . وقد جاء هذا الخبر مفسرا
وهو أن من قال لأخيه المسلم: سلام عليكم كتب له عشر حسنات، فإن قال: السلام عليكم
ورحمة الله كتب له عشرون حسنة. فإن قال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته كتب له
ثلاثون حسنة، وكذلك لمن رد من الأجر. والله أعلم.
الآية:
87 ( الله لا إله إلا هو ليجمعنكم
إلى يوم القيامة لا ريب فيه ومن أصدق من الله حديثا )
قوله
تعالى: « الله
لا إله إلا هو » ابتداء
وخبر. واللام في قول «
ليجمعنكم » لام
القسم؛ نزلت في الذين شكوا في البعث فأقسم الله تعالى بنفسه. وكل لام بعدها نون
مشددة فهو لام القسم. ومعناه في الموت وتحت الأرض « إلى يوم القيامة لا ريب فيه » وقال بعضهم: « إلى » صلة في الكلام، معناه ليجمعنكم
يوم القيامة. وسميت القيامة قيامة لأن الناس يقومون فيه لرب العالمين جل وعز؛ قال
الله تعالى: « ألا
يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم. يوم يقوم الناس لرب العالمين » [ المطففين: 4 - 6 ] . وقيل: سمي يوم القيامة لأن
الناس يقومون من قبورهم إليها؛ قال الله تعالى: « يوم يخرجون من الأجداث سراعا » [ المعارج: 43 ] وأصل القيامة الواو. « ومن أصدق من الله حديثا » نصب على البيان، والمعنى لا
أحد أصدق من الله. وقرأ حمزة والكسائي « ومن أزدق » بالزاي.
الباقون: بالصاد، وأصله الصاد إلا أن لقرب مخرجها جعل مكانها زاي.
الآية:
88 ( فما لكم في المنافقين فئتين
والله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له
سبيلا )
قوله
تعالى: « فما
لكم في المنافقين فئتين » « فئتين » أي فرقتين مختلفتين. روى مسلم عن
زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى أحد فرجع ناس ممن كان معه، فكان
أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيهم فرقتين؛ فقال بعضهم: نقتلهم. وقال بعضهم: لا؛
فنزلت « فما
لكم في المنافقين فئتين » .
وأخرجه الترمذي فزاد: وقال: ( إنها
طيبة ) وقال:
( إنها
تنفي الخبيث كما تنفي النار خبث الحديد ) قال: حديث حسن صحيح. وقال البخاري: ( إنها طيبة تنفي الخبث كما
تنفي النار خبث الفضة ) .
والمعني بالمنافقين هنا عبدالله بن أبي وأصحابه الذين خذلوا رسول الله صلى الله
عليه وسلم يوم أحد ورجعوا بعسكرهم بعد أن خرجوا؛ كما تقدم في « آل عمران » . وقال ابن عباس: هم فوم بمكة
آمنوا وتركوا الهجرة، قال الضحاك: وقالوا إن ظهر محمد - صلى الله عليه وسلم - فقد
عرفنا، وإن ظهر قومنا فهو أحب إلينا. فصار المسلمون فيهم فئتين قوم يتولونهم وقوم
يتبرؤون منهم؛ فقال الله عز وجل: « فما
لكم في المنافقين فئتين » . وذكر
أبو سلمة بن عبدالرحمن عن أبيه أنها نزلت في قوم جاؤوا إلى المدينة وأظهروا
الإسلام؛ فأصابهم وباء المدينة وحماها؛ فأركسوا فخرجوا من المدينة، فاستقبلهم نفر
من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ما لكم رجعتم ؟ فقالوا: أصابنا وباء
المدينة فاجتويناها؛ فقالوا: ما لكم في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة؟ فقال
بعضهم: نافقوا. وقال بعضهم: لم ينافقوا، هم مسلمون؛ فأنزل الله عز وجل: « فما لكم في المنافقين فئتين
والله أركسهم بما كسبوا » الآية.
حتى جاؤوا المدينة يزعمون أنهم مهاجرون، ثم ارتدوا بعد ذلك، فاستأذنوا رسول الله
صلى الله عليه وسلم إلى مكة ليأتوا ببضائع لهم يتجرون فيها، فاختلف فيهم المؤمنون
فقائل يقول: هم منافقون، وقائل يقول: هم مؤمنون؛ فبين الله تعالى نفاقهم وأنزل هذه
الآية وأمر بقتلهم.
قلت:
وهذان القولان يعضدهما سياق آخر الآية من قوله تعالى: « حتى يهاجروا » [ النساء: 89 ] ، والأول أصح نقلا، وهو
اختيار البخاري ومسلم والترمذي. و « فئتين » نصب على
الحال؛ كما يقال: مالك قائما ؟ عن الأخفش. وقال الكوفيون: هو خبر « ما لكم » كخبر كان وظننت، وأجازوا إدخال
الألف واللام فيه وحكى الفراء: «
أركسهم، وركسهم » أي ردهم
إلى الكفر ونكسهم؛ وقال النضر بن شميل والكسائي: والركس والنكس قلب الشيء على
رأسه، أو رد أوله على آخره، والمركوس المنكوس. وفي قراءة عبدالله وأبي رضي الله
عنهما « والله
ركسهم » . وقال
ابن رواحة:
أركسوا
في فتنة مظلمة كسواد الليل يتلوها فتن
أي نكسوا.
وارتكس فلان في أمر كان نجا منه. والركوسية قوم بين النصارى والصابئين. والراكس
الثور وسط البدر والثيران حواليه حين الدياس. « أتريدون أن تهدوا من أضل الله » أي ترشدوه إلى الثواب بأن يحكم
لهم بحكم المؤمنين. « فلن
تجد له سبيلا » أي
طريقا إلى الهدى والرشد وطلب الحجة. وفي هذا رد على القدرية وغيرهم القائلين بخلق
هداهم وقد تقدم.
الآيتان:
89 - 90 ( ودوا لو تكفرون كما كفروا
فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله فإن تولوا فخذوهم
واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا، إلا الذين يصلون إلى قوم
بينكم وبينهم ميثاق أو جاؤوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم ولو شاء
الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما
جعل الله لكم عليهم سبيلا )
قوله
تعالى: « ودوا
لو تكفرون » أي
تمنوا أن تكونوا كهم في الكفر والنفاق شرع سواء؛ فأمر الله تعالى بالبراءة منهم
فقال: « فلا
تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا » ؛ كما
قال تعالى: « ما لكم
من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا » [ الأنفال: 72 ] والهجرة أنواع: منها الهجرة
إلى المدينة لنصرة النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت هذه واجبة أول الإسلام حتى
قال: ( لا
هجرة بعد الفتح ) .
وكذلك هجرة المنافقين مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغزوات، وهجره من أسلم في
دار الحرب فإنها واجبة. وهجرة المسلم ما حرم الله عليه؛ كما قال صلى الله عليه
وسلم: (
والمهاجر من هجر ما حرم الله عليه ) . وهاتان الهجرتان ثابتتان الآن. وهجرة أهل المعاصي حتى
يرجعوا تأديبا لهم فلا يكلمون ولا يخالطون حتى يتوبوا؛ كما فعل النبي صلى الله
عليه وسلم مع كعب وصاحبيه. « فإن
تولوا فخذوهم واقتلوهم » يقول:
إن أعرضوا عن التوحيد والهجرة فأسروهم واقتلوهم. « حيث وجدتموهم » عام في الأماكن من حل وحرم. والله أعلم.
ثم
استثنى فقال تعالى: « إلا
الذين يصلون » استثناء
أي يتصلون بهم ويدخلون فيما بينهم من الجوار والحلف؛ المعنى: فلا تقتلوا قوما
بينهم وبين من بينكم وبينهم عهد فإنهم على عهدهم ثم انتسخت العهود فانتسخ هذا. هذا
قول مجاهد وابن زيد وغيرهم، وهو أصح ما قيل في معنى الآية. قال أبو عبيد: يصلون
ينتسبون؛ ومنه قول الأعشى:
إذا
اتصلت قالت لبكر بن وائل وبكر سبتها والأنوف رواغم
يريد إذا
انتسبت. قال المهدوي: وأنكره العلماء؛ لأن النسب لا يمنع من قتال الكفار وقتلهم.
وقال النحاس: وهذا غلط عظيم؛ لأنه يذهب إلى أن الله تعالى حظر أن يقاتل أحد بينه
وبين المسلمين نسب، والمشركون قد كان بينهم وبين السابقين الأولين أنساب، وأشد من
هذا الجهل بأنه كان ثم نسخ؛ لأن أهل التأويل مجمعون على أن الناسخ له « براءة » وإنما نزلت « براءة » بعد الفتح وبعد أن انقطعت
الحروب. وقال معناه الطبري.
قلت: حمل
بعض العلماء معنى ينتسبون على الأمان؛ أي إن المنتسب إلى أهل الأمان آمن إذا أمن
الكل منهم، لا على معنى النسب الذي هو بمعنى القرابة. واختلف في هؤلاء الذين كان
بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم ميثاق؛ فقيل: بنو مدلج. عن الحسن: كان بينهم
وبين قريش عقد، وكان بين قريش وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد. وقال عكرمة:
نزلت في هلال بن عويمر وسراقة بن جعشم وخزيمة بن عامر بن عبد مناف كان بينهم وبين
النبي صلى الله عليه وسلم عهد. وقيل: خزاعة. وقال الضحاك عن ابن عباس: أنه أراد
بالقوم الذين بينكم وبينهم ميثاق بني بكر بن زيد بن مناة، كانوا في الصلح والهدنة.
في هذه
الآية دليل على إثبات الموادعة بين أهل الحرب وأهل الإسلام إذا كان في الموادعة
مصلحة للمسلمين، على ما يأتي بيانه في « الأنفال وبراءة » إن شاء الله تعالى.
قوله
تعالى: « أو جاؤوكم
حصرت صدورهم » أي
ضاقت. وقال لبيد:
أسهلت
وانتصبت كجذع منيفة جرداء يحصر دونها جرامها
أي تضيق
صدورهم من طول هذه النخلة؛ ومنه الحصر في القول وهو ضيق الكلام على المتكلم.
والحصر الكتوم للسر؛ قال جرير:
ولقد
تسقطني الوشاة فصادفوا حصرا بسرك يا أميم ضنينا
ومعنى « حصرت » قد حصرت فأضمرت قد؛ قال
الفراء: وهو حال من المضمر المرفوع في « جاؤوكم » كما
تقول: جاء فلان ذهب عقله، أي قد ذهب عقله. وقيل: هو خبر بعد خبر قاله الزجاج. أي
جاؤوكم ثم أخبر فقال: « حصرت
صدورهم » فعلى
هذا يكون « حصرت » بدلا من « جاؤوكم » كما قيل: « حصرت » في موضع خفض على النعت لقوم.
وفي حرف أبي « إلا
الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق حصرت صدورهم » ليس فيه « أو جاؤوكم » . وقيل: تقديره أو جاؤوكم
رجالا أو قوما حصرت صدورهم؛ فهي صفة موصوف منصوب على الحال. وقرأ الحسن « أو جاؤوكم حصرة صدورهم » نصب على الحال، ويجوز رفعه على
الابتداء والخبر. وحكى « أو
جاؤوكم حصرت صدورهم » ، ويجوز
الرفع. وقال محمد بن يزيد: « حصرت
صدورهم » هو دعاء
عليهم؛ كما تقول: لعن الله الكافر؛ وقال المبرد. وضعفه بعض المفسرين وقال: هذا
يقتضي ألا يقاتلوا قومهم؛ وذلك فاسد؛ لأنهم كفار وقومهم كفار. وأجيب بأن معناه
صحيح، فيكون عدم القتال في حق المسلمين تعجيزا لهم، وفي حق قومهم تحقيرا لهم.
وقيل: « أو » بمعنى الواو؛ كأنه يقول: إلى
قوم بينكم وبينهم ميثاق وجاؤوكم ضيقة صدورهم عن قتالكم والقتال معكم فكرهوا قتال
الفريقين. ويحتمل أن يكونوا معاهدين على ذلك فهو نوع من العهد، أو قالوا نسلم ولا
نقاتل؛ فيحتمل أن يقبل ذلك منهم في أول الإسلام حتى يفتح الله قلوبهم للتقوى
ويشرحها للإسلام. والأول أظهر. والله أعلم. « أو يقاتلوا » في موضع نصب؛ أي عن أن يقاتلوكم.
قوله
تعالى: « ولو
شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم » تسليط الله تعالى المشركين على المؤمنين هو بأن يقدرهم على
ذلك ويقويهم إما عقوبة ونقمة عند إذاعة المنكر وظهور المعاصي، وإما ابتلاء
واختبارا كما قال تعالى: «
ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم » [ محمد:31 ] ، وإما تمحيصا للذنوب كما قال
تعالى: « وليمحص
الله الذين آمنوا » [ آل عمران: 141 ] ولله أن يفعل ما يشاء ويسلط
من يشاء على من يشاء إذا شاء. ووجه النظم والاتصال بما قبل أي اقتلوا المنافقين
الذين اختلفتم فيهم إلا أن يهاجروا، وإلا أن يتصلوا بمن بينكم وبينهم ميثاق
فيدخلون فيما دخلوا فيه فلهم حكمهم، وإلا الذين جاؤوكم قد حصرت صدورهم عن أن
يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم فدخلوا فيكم فلا تقتلوهم.
الآية:
91 ( ستجدون آخرين يريدون أن
يأمنوكم ويأمنوا قومهم كل ما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها فإن لم يعتزلوكم ويلقوا
إليكم السلم ويكفوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأولئكم جعلنا لكم عليهم
سلطانا مبينا )
قوله
تعالى: « ستجدون
آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم » معناها معنى الآية الأولى. قال قتادة: نزلت في قوم من تهامة
طلبوا الأمان من النبي صلى الله عليه وسلم ليأمنوا عنده وعند قومهم. مجاهد: هي في
قوم من أهل مكة. وقال السدي: نزلت في نعيم بن مسعود كان يأمن المسلمين والمشركين.
وقال الحسن: هذا في قوم من المنافقين. وقيل: نزلت في أسد وغطفان قدموا المدينة
فأسلموا ثم رجعوا إلى ديارهم فأظهروا الكفر.
قوله
تعالى: « كل ما
ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها » قرأ يحيى
بن وثاب والأعمش « ردوا » بكسر الراء؛ لأن الأصل « رددوا » فأدغم وقلبت الكسرة على الراء.
« إلى
الفتنة » أي
الكفر « أركسوا
فيها » . وقيل:
أي ستجدون من يظهر لكم الصلح ليأمنوكم، وإذا سنحت لهم فتنة كان مع أهلها عليكم.
ومعنى « أركسوا
فيها » أي
انتكسوا عن عهدهم الذين عاهدوا. وقيل: أي إذا دعوا إلى الشرك رجعوا وعادوا إليه.
الآية:
92 ( وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا
إلا خطأ ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا
فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم
ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين
توبة من الله وكان الله عليما حكيما )
قوله
تعالى: « وما
كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ » هذه آية من أمهات الأحكام. والمعنى ما ينبغي لمؤمن أن يقتل
مؤمنا إلا خطأ؛ فقوله: « وما
كان » ليس على
النفي وإنما هو على التحريم والنهي، كقوله: « وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله » [ الأحزاب:53 ] ولو كانت على النفي لما وجد
مؤمن قتل مؤمنا قط؛ لأن ما نفاه الله فلا يجوز وجوده، كقوله تعالى: « ما كان لكم أن تنبتوا شجرها » [ النمل:60 ] . فلا يقدر العباد أن ينبتوا
شجرها أبدا. وقال قتادة: المعنى ما كان له ذلك في عهد الله. وقيل: ما كان له ذلك
فيما سلف، كما ليس له الآن ذلك بوجه، ثم استثنى استثناء منقطعا ليس من الأول وهو
الذي يكون فيه « إلا » بمعنى « لكن » والتقدير ما كان له أن يقتله
البتة لكن إن قتله خطأ فعليه كذا؛ هذا قول سيبويه والزجاج رحمهما الله. ومن
الاستثناء المنقطع قوله تعالى: « ما لهم
به من علم إلا اتباع الظن » [ النساء:157 ] : وقال النابغة:
وقفت
فيها أصيلانا أسائلها عيت جوابا وما بالربع من أحد
إلا
الأواري لأيا ما أبينها والنوي كالحوض بالمظلومة الجلد
فلما لم
تكن «
الأواري » من جنس
أحد حقيقة لم تدخل في لفظه. ومثله قول الآخر:
أمسى
سقام خلاء لا أنيس به إلا السباع ومر الريح بالغرف
وقال
آخر:
وبلدة
ليس بها أنيس إلا اليعافير وإلا العيس
وقال
آخر:
وبعض
الرجال نخلة لا جنى لها ولا ظل إلا أن تعذ من النخل
أنشده
سيبويه؛ ومثله كثير، ومن أبدعه قول جرير:
من البيض
لم تظعن بعيدا ولم تطأ على الأرض إلا ذيل مرط مرحل
كأنه
قال: لم تطأ على الأرض إلا أن تطأ ذيل البرد. ونزلت الآية بسبب قتل عياش بن أبي
ربيعة الحارث بن يزيد بن أبي أنيسة العامري لحنة كانت بينهما، فلما هاجر الحارث
مسلما لقيه عياش فقتله ولم يشعر بإسلامه، فلما أخبر أتى النبي صلى الله عليه وسلم
فقال: يا رسول الله، إنه قد كان من أمري وأمر الحارث ما قد علمت، ولم أشعر بإسلامه
حتى قتلته فنزلت الآية. وقيل: هو استثناء متصل، أي وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا
ولا يقتص منه إلا أن يكون خطأ؛ فلا يقتص منه؛ ولكن فيه كذا وكذا. ووجه آخر وهو أن
يقدر كان بمعنى استقر ووجد؛ كأنه قال: وما وجد وما تقرر وما ساغ لمؤمن أن يقتل
مؤمنا إلا خطأ إذ هو مغلوب فيه أحيانا؛ فيجيء الاستثناء على هذين التأويلين غير
منقطع. وتتضمن الآية على هذا إعظام العمد وبشاعة شأنه؛ كما تقول: ما كان لك يا
فلان أن تتكلم بهذا إلا ناسيا ؟ إعظاما للعمد والقصد مع حظر الكلام به البتة.
وقيل: المعنى ولا خطأ. قال النحاس: ولا يجوز أن تكون « إلا » بمعنى الواو، ولا يعرف ذلك في
كلام العرب ولا يصح في المعنى؛ لأن الخطأ لا يحظر. ولا يفهم من دليل خطابه جواز
قتل الكافر المسلم فإن المسلم محترم الدم، وإنما خص المؤمن بالذكر تأكيدا لحنانه
وأخوته وشفقته وعقيدته. وقرأ الأعمش « خطاء » ممدودا
في المواضع الثلاثة. ووجوه الخطأ كثيرة لا تحصى يربطها عدم القصد؛ مثل أن يرمي
صفوف المشركين فيصيب مسلما. أو يسعى بين يديه من يستحق القتل من زان أو محارب أو
مرتد فطلبه ليقتله فلقي غيره فظنه هو فقتله فذلك خطأ. أو يرمي إلى غرض فيصيب
إنسانا أو ما جرى مجراه؛ وهذا مما لا خلاف فيه. والخطأ اسم من أخطأ خطأ وإخطاء إذا
لم يصنع عن تعمد؛ فالخطأ الاسم يقوم مقام الإخطاء. ويقال لمن أراد شيئا ففعل غير:
أخطأ، ولمن فعل غير الصواب: أخطأ. قال ابن المنذر: قال الله تبارك وتعالى: « وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا
إلا خطأ » إلى
قوله تعالى: « ودية
مسلمة إلى أهله » فحكم
الله جل ثناؤه في المؤمن يقتل خطأ بالدية، وثبتت السنة الثابتة عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم على ذلك وأجمع أهل العلم على القول به.
ذهب داود
إلى القصاص بين الحر والعبد في النفس، وفي كل ما يستطاع القصاص فيه من الأعضاء؛
تمسكا بقوله تعالى: « وكتبنا
عليهم فيها أن النفس بالنفس » [ المائدة: 45 ] إلى قوله تعالى: « والجروح قصاص » [ المائدة: 45 ] ، وقوله عليه السلام: ( المسلمون تتكافأ دماؤهم ) فلم يفرق بين حر وعبد؛ وهو
قول ابن أبي ليلى. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا قصاص بين الأحرار والعبيد إلا في
النفس فيقتل الحر بالعبد، كما يقتل العبد بالحر، ولا قصاص بينهما في شيء من الجراح
والأعضاء. وأجمع العلماء على أن قوله تعالى: « وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ » أنه لم يدخل فيه العبيد، وإنما
أريد به الأحرار دون العبيد؛ فكذلك قوله عليه السلام: ( المسلمون تتكافأ دماؤهم ) أريد به الأحرار خاصة.
والجمهور على ذلك وإذا لم يكن قصاص بين العبيد والأحرار فيما دون النفس فالنفس
أحرى بذلك؛ وقد مضى هذا في « البقرة
» .
قوله تعالى:
« فتحرير
رقبة مؤمنة » أي
فعليه تحرير رقبة؛ هذه الكفارة التي أوجبها الله تعالى في كفارة القتل والظهار
أيضا على ما يأتي. واختلف العلماء فيما يجزئ منها، فقال ابن عباس والحسن والشعبي
والنخعي وقتادة وغيرهم: الرقبة المؤمنة هي التي صلت وعقلت الإيمان، لا تجزئ في ذلك
الصغيرة، وهو الصحيح في هذا الباب قال عطاء بن أبي رباح: يجزئ الصغير المولود بين
مسلمين. وقال جماعة منهم مالك والشافعي: يجزئ كل من حكم له بحكم في الصلاة عليه إن
مات ودفنه. وقال مالك: من صلى وصام أحب إلي. ولا يجزئ في قول كافة العلماء أعمى
ولا مقعد ولا مقطوع اليدين أو الرجلين ولا أشلهما، ويجزئ عند أكثرهم الأعرج
والأعور. قال مالك: إلا أن يكون عرجا شديدا. ولا يجزئ عند مالك والشافعي وأكثر
العلماء أقطع إحدى اليدين أو إحدى الرجلين، ويجزئ عند أبي حنيفة وأصحابه. ولا يجزئ
عند أكثرهم المجنون المطبق ولا يجزئ عند مالك الذي يجن ويفيق، ويجزئ عند الشافعي.
ولا يجزئ عند مالك المعتق إلى سنين، ويجزئ عند الشافعي. ولا يجزئ المدبر عند مالك
والأوزاعي وأصحاب الرأي، ويجزئ في قول الشافعي وأبي ثور، واختاره ابن المنذر. وقال
مالك: لا يصح من أعتق بعضه؛ لقوله تعالى: « فتحرير رقبة » . ومن أعتق البعض لا يقال حرر رقبة وإنما حرر بعضها.
واختلفوا أيضا في معناها فقيل: أوجبت تمحيصا وطهورا لذنب القاتل، وذنه ترك
الاحتياط والتحفظ حتى هلك على يديه امرؤ محقون الدم. وقيل: أوجبت بدلا من تعطيل حق
الله تعالى في نفس القتيل، فإنه كان له في نفسه حق وهو التنعم بالحياة والتصرف
فيما أحل له تصرف الأحياء. وكان لله سبحانه فيه حق، وهو أنه كان عبدا من عباده يجب
له من أمر العبودية صغيرا كان أو كبيرا حرا كان أو عبدا مسلما كان أو ذميا ما
يتميز به عن البهائم والدواب، ويرتجى مع ذلك أن يكون من نسله من يعبد الله ويطيعه،
فلم يخل قاتله من أن يكون فوت منه الاسم الذي ذكرنا، والمعنى الذي وصفنا، فلذلك
ضمن الكفارة. وأي واحد من هذين المعنيين كان، ففيه بيان أن النص وإن وقع على
القاتل خطأ فالقاتل عمدا مثله، بل أولى بوجوب الكفارة عليه منه، على ما يأتي
بيانه، والله أعلم.
قوله تعالى:
« ودية
مسلمة » الدية
ما يعطى عوضا عن دم القتيل إلى وليه. « مسلمة » مدفوعة
مؤداة، ولم يعين الله في كتابه ما يعطى في الدية، وإنما في الآية إيجاب الدية
مطلقا، وليس فيها إيجابها على العاقلة أو على القاتل، وإنما أخذ ذلك من السنة، ولا
شك أن إيجاب المواساة على العاقلة خلاف قياس الأصول في الغرامات وضمان المتلفات،
والذي وجب على العاقلة لم يجب تغليظا، ولا أن وزر القاتل عليهم ولكنه مواساة محضة.
واعتقد أبو حنيفة أنها باعتبار النصرة فأوجبها على أهل ديوانه. وثبتت الأخبار عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الدية مائة من الإبل، ووداها صلى الله عليه وسلم
في عبدالله بن سهل المقتول بخيبر لحويصة ومحيصة وعبدالرحمن، فكان ذلك بيانا على
لسان نبيه عليه السلام لمجمل كتابه. وأجمع أهل العلم عل أن على أهل الإبل مائة من
الإبل واختلفوا فيما يجب على غير أهل الإبل؛ فقالت طائفة: على أهل الذهب ألف
دينار، وهم أهل الشام ومصر والمغرب؛ هذا قول مالك وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي
والشافعي في أحد قوليه، في القديم. وروي هذا عن عمر وعروة بن الزبير وقتادة. وأما
أهل الورق فاثنا عشر ألف درهم، وهم أهل العراق وفارس وخراسان؛ هذا مذهب مالك على
ما بلغه عن عمر أنه قوم الدية على أهل القرى فجعلها على أهل الذهب ألف دينار وعلى
أهل الورق اثني عشر ألف درهم. وقال المزني: قال الشافعي الدية الإبل؛ فإن أعوزت
فقيمتها بالدراهم والدنانير على ما قومها عمر، ألف دينار على أهل الذهب واثنا عشر
ألف درهم على أهل الورق. وقال أبو حنيفة ( أصحابه والثوري: الدية من الورق عشرة آلاف درهم. رواه
الشعبي عن عبيدة عن عمر أنه جعل الدية على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق
عشرة آلاف درهم، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشاء ألف شاة، وعلى أهل
الإبل مائة من الإبل، وعلى أهل الحلل مائتي حلة. قال أبو عمر: في هذا الحديث ما
يدل على أن الدنانير والدراهم صنف من أصناف الدية لا على وجه البدل والقيمة؛ وهو
الظاهر من الحديث عن عثمان وعلي وابن عباس. وخالف أبو حنيفة ما رواه عن عمر في
البقر والشاء والحلل. وبه قال عطاء وطاوس وطائفة من التابعين، وهو قول الفقهاء
السبعة المدنيين. قال ابن المنذر: وقالت طائفة: دية الحر المسلم مائة من الإبل لا
دية غيرها كما فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم. هذا قول الشافعي وبه قال طاوس.
قال ابن المنذر: دية الحر المسلم مائة من الإبل في كل زمان، كما فرض رسول الله صلى
الله عليه وسلم. واختلفت الروايات عن عمر رضي الله عنه في أعداد الدراهم وما منها
شيء يصح عنه لأنها مراسيل، وقد عرفتك مذهب الشافعي وبه ونقول.
واختلف
الفقهاء في أسنان دية الإبل؛ فروى أبو داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى أن من قتل خطأ فديته مائة من الإبل: ثلاثون
بنت مخاض، وثلاثون بنت لبون، وثلاثون حقة، وعشر بني لبون. قال الخطابي: هذا الحديث
لا أعرف أحدا قال به من الفقهاء، وإنما قال أكثر العلماء: دية الخطأ أخماس. كذا
قال أصحاب الرأي والثوري، وكذلك مالك وابن سيرين وأحمد بن حنبل إلا أنهم اختلفوا
في الأصناف؛ قال أصحاب الرأي وأحمد: خمس بنو مخاض، وخمس بنات مخاض، وخمس بنات
لبون، وخمس حقاق، وخمس جذاع. وروي هذا القول عن ابن مسعود. وقال مالك والشافعي:
خمس حقاق، وخمس جذاع، وخمس بنات لبون، وخمس بنات مخاض، وخمس بنو لبون. وحكي هذا
القول عن عمر بن عبدالعزيز وسليمان بن يسار والزهري وربيعة والليث بن سعد. قال
الخطابي: ولأصحاب الرأي فيه أثر، إلا أن راويه عبدالله بن خشف بن مالك وهو مجهول
لا يعرف إلا بهذا الحديث. وعدل الشافعي عن القول به. لما ذكرنا من العلة في راويه،
ولأن فيه بني مخاض ولا مدخل لبني مخاض في شيء من أسنان الصدقات. وقد روي عن النبي
صلى الله عليه وسلم في قصة القسامة أنه ودى قتيل خيبر مائة من إبل الصدقة وليس في
أسنان الصدقة ابن مخاض. قال أبو عمر: وقد روى زيد بن جبير عن خشف بن مالك عن
عبدالله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل الدية في الخطأ أخماسا، إلا
أن هذا لم يرفعه إلا خشف بن مالك الكوفي الطائي وهو مجهول؛ لأنه لم يروه عنه إلا
زيد بن جبير بن حرمل الطائي الجشمي من بني جشم بن معاوية أحد ثقات الكوفيين.
قلت:
قد ذكر الدارقطني في سننه حديث خشف بن مالك من رواية حجاج بن أرطاة عن زيد بن جبير
عن خشف بن مالك عن عبدالله بن مسعود قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في دية
الخطأ مائة من الإبل؛ منها عشرون حقة، وعشرون جذعة، وعشرون بنات لبون، وعشرون بنات
مخاض، وعشرون بنو مخاض. قال الدارقطني: « هذا حديث ضعيف غير ثابت عند أهل المعرفة بالحديث من وجوه
عدة؛ أحدها أنه مخالف لما رواه أبو عبيدة بن عبدالله بن مسعود عن أبيه بالسند
الصحيح عنه، الذي لا مطعن فيه ولا تأويل عليه، وأبو عبيدة أعلم بحديث أبيه وبمذهبه
وفتياه من خشف بن مالك ونظرائه، وعبدالله بن مسعود أتقى لربه وأشح على دينه من أن
يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يقضي بقضاء ويفتي هو بخلافه؛ هذا لا
يتوهم مثله على عبدالله بن مسعود وهو القائل في مسألة وردت عليه لم يسمع فيها من
رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ولم يبلغه عنه فيها قول: أقول فيها برأي فإن
يكن صوابا فمن الله ورسوله، وإن يكن خطأ فمني؛ ثم بلغه بعه ذلك أن فتياه فيها وافق
قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في مثلها، فرآه أصحابه عند ذلك فرح فرحا شديدا
لم يروه فرح مثله، لموافقة فتياه قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم. فمن كانت هذه
صفته وهذا حال فكيف يصح عنه أن يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا
ويخالفه. ووجه آخر: وهو أن الخبر المرفوع الذي فيه ذكر بني المخاض لا نعلمه رواه
إلا خشف بن مالك عن ابن مسعود وهو رجل مجهول لم يروه عنه إلا زيد بن جبير بن حرمل
الجشمي وأهل العلم بالحديث لا يحتجون بخبر ينفرد بروايته رجل غير معروف، وإنما
يثبت العلم عندهم بالخبر إذا كان راويه عدلا مشهورا، أو رجلا قد ارتفع عنه اسم
الجهالة، وارتفاع اسم الجهالة عنه أن يروي عنه رجلان فصاعدا؛ فإذا كانت هذه صفته
ارتفع عنه حينئذ اسم الجهالة، وصار حينئذ معروفا. فأما من لم يرو عنه إلا رجل واحد
وانفرد بخبر وجب التوقف عن خبره ذلك حتى يوافقه عليه غيره. والله أعلم.»
ووجه
آخر: وهو أن حديث خشف بن مالك لا نعلم أحدا رواه عن زيد بن جبير عنه إلا الحجاج بن
أرطأة، والحجاج رجل مشهور بالتدليس وبأنه يحدث عمن لم يلقه ولم يسمع منه؛ وترك
الرواية عنه سفيان بن عيينة ويحيى بن سعيد القطان وعيسى بن يونس بعد أن جالسوه
وخبروه، وكفاك بهم علما بالرجل ونبلا. وقال يحيى بن معين: حجاج بن أرطأة لا يحتج
بحديثه. وقال عبدالله بن إدريس: سمعت الحجاج يقول لا ينبل الرجل حتى يدع الصلاة في
الجماعة. وقال عيسى بن يونس: سمعت الحجاج يقول: أخرج إلى الصلاة يزاحمني الحمالون والبقالون.
وقال جرير: سمعت الحجاج يقول: أهلكني حب المال والشرف. وذكر أوجها أخر؛ منها أن
جماعة من الثقات رووا هذا الحديث عن الحجاج بن أرطأة فاختلفوا عليه فيه. إلى غير
ذلك مما يطول ذكره؛ وفيما ذكرناه مما ذكروه كفاية ودلالة على ضعف ما ذهب إليه
الكوفيون في الدية، وإن كان ابن المنذر مع جلالته قد اختاره على ما يأتي. وروى
حماد بن سلمة حدثنا سليمان التيمي عن أبي مجلز عن أبي عبيدة أن ابن مسعود قال: دية
الخطأ خمسة أخماس عشرون حقة، وعشرون جذعة وعشرون بنات مخاض، وعشرون بنات لبون
وعشرون بني لبون ذكور. قال الدارقطني: هذا إسناد حسن ورواته ثقات، وقد روي عن
علقمة عن عبدالله نحو هذا.
قلت:
وهذا هو مذهب مالك والشافعي أن الدية تكون مخمسة. قال الخطابي: وقد روي عن نفر من
العلماء أنهم قالوا دية الخطأ أرباع؛ وهم الشعبي والنخعي والحسن البصري، وإليه ذهب
إسحاق بن راهويه؛ إلا أنهم قالوا: خمس وعشرون جذعة وخمس وعشرون حقة وخمس وعشرون
بنات لبون وخمس وعشرون بنات مخاض. وقد روي ذلك عن علي بن أبي طالب. قال أبو عمر:
أما قول مالك والشافعي فروي عن سليمان بن يسار وليس فيه عن صحابي شيء؛ ولكن عليه
عمل أهل المدينة. وكذلك حكى ابن جريج عن ابن شهاب.
قلت: قد
ذكرنا عن ابن مسعود ما يوافق ما صار إليه مالك والشافعي. قال أبو عمر: وأسنان
الإبل في الدبات لم تؤخذ قياسا ولا نظرا، وإنما أخذت اتباعا وتسليما، وما أخذ من
جهة الأثر فلا مدخل فيه للنظر؛ فكل يقول بما قد صح عنده من سلفه؛ رضي الله عنهم
أجمعين.
قلت: وأما
ما حكاه الخطابي من أنه لا يعلم من قال بحديث عمرو بن شعيب فقد حكاه ابن المنذر عن
طاوس ومجاهد، إلا أن مجاهدا جعل مكان بنت مخاض ثلاثين جذعة. قال ابن المنذر:
وبالقول الأول أقول. يريد قول عبدالله وأصحاب الرأي الذي ضعفه الدارقطني والخطابي،
وابن عبدالبر قال: لأنه الأقل مما قيل؛ وبحديث. مرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم
يوافق هذا القول.
قلت:
وعجبا لابن المنذر ؟ مع نقده واجتهاده كيف قال بحديث لم يوافقه أهل النقد على صحته
! لكن الذهول والنسيان قد يعتري الإنسان، وإنما الكمال لعزة ذي الجلال.
ثبتت
الأخبار عن النبي المختار محمد صلى الله عليه وسلم أنه قضى بدية الخطأ على
العاقلة، وأجمع أهل العلم على القول به. وفي إجماع أهل العلم أن الدية في الخطأ
على العاقلة دليل على أن المراد من قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي رمثة حيث
دخل عليه ومعه ابنه: ( إنه لا يجني عليك ولا تجني عليه ) العمد دون الخطأ. وأجمعوا
على أن ما زاد على ثلث الدية على العاقلة. واختلفوا في الثلث؛ والذي عليه جمهور
العلماء أن العاقلة لا تحمل عمدا ولا اعترافا ولا صلحا، ولا تحمل من دية الخطأ إلا
ما جاوز الثلث وما دون الثلث في مال الجاني. وقالت طائفة: عقل الخطأ على عاقلة
الجاني، قلت الجناية أو كثرت؛ لأن من غرم الأكثر غرم الأقل. كما عقل العمد. في مال
الجاني قل أو كثر؛ هذا قول الشافعي.
وحكمها
أن تكون منجمة على العاقلة، والعاقلة العصبة. وليس ولد المرأة إذا كان من غير
عصبتها من العاقلة. ولا الإخوة من الأم بعصبة لإخوتهم من الأب والأم، فلا يعقلون
عنهم شيئا. وكذلك الديوان لا يكون عاقلة في قول جمهور أهل الحجاز. وقال الكوفيون:
يكون عاقلة إن كان من أهل الديوان؛ فتنجم الدية على العاقلة في ثلاثة أعوام على ما
قضاه عمر وعلي؛ لأن الإبل قد تكون حوامل فتضر به. وكان النبي صلى الله عليه وسلم
يعطيها دفعة واحدة لأغراض؛ منها أنه كان يعطيها صلحا وتسديدا. ومنها أنه كان
يعجلها تأليفا. فلما تمهد الإسلام قدرتها الصحابة على هذا النظام؛ قاله ابن
العربي. وقال أبو عمر: أجمع العلماء قديما وحديثا أن الدية على العاقلة لا تكون
إلا في ثلاث سنين ولا تكون في أقل منها. وأجمعوا على أنها على البالغين من الرجال.
وأجمع أهل السير والعلم أن الدية كانت في الجاهلية تحملها العاقلة فأقرها رسول
الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام، وكانوا يتعاقلون بالنصرة؛ ثم جاء الإسلام
فجرى الأمر على ذلك حتى جعل الديوان. واتفق الفقهاء عل رواية ذلك والقول به.
وأجمعوا أنه لم يكن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا زمن أبي بكر ديوان،
وأن عمر جعل الديوان وجمع بين الناس، وجعل أهل كل ناحية يدا، وجعل عليهم قتال من
يليهم من العدو.
قلت:
ومما ينخرط في سلك هذا الباب ويدخل في نظامه قتل الجنين في بطن أمه؛ وهو أن يضرب
بطن أمه فتلقيه حيا ثم يموت؛ فقال كافة العلماء: فيه الدية كاملة في الخطأ وفي
العمد بعد القسامة. وقيل: بغير قسامة. واختلفوا فيما به تعلم حياته بعد اتفاقهم
على أنه إذا استهل صارخا أو ارتضع أو تنفس نفسا محققة حي، فيه الدية كاملة؛ فإن
تحرك فقال الشافعي وأبو حنيفة: الحركة تدل على حياته. وقال مالك: لا، إلا أن
يقارنها طول إقامة. والذكر والأنثى عند كافة العلماء في الحكم سواء. فإن ألقته
ميتا ففيه غرة: عبد أو وليدة. فإن لم تلقه وماتت وهو في جوفها لم يخرج فلا شيء
فيه. وهذا كله إجماع لا خلاف فيه. وروي عن الليث بن سعد وداود أنهما قالا في
المرأة إذا ماتت من ضرب بطنها ثم خرج الجنين ميتا بعد موتها: ففيه الغرة، وسواء
رمته قبل موتها أو بعد موتها؛ المعتبر حياة أمه في وقت ضربها لا غير. وقال سائر
الفقهاء: لا شيء فيه إذا خرج ميتا من بطنها بعد موتها. قال الطحاوي محتجا لجماعة
الفقهاء بأن قال: قد أجمعوا والليث معهم على أنه لو ضرب بطنها وهي حية فماتت
والجنين في بطنها ولم يسقط أنه لا شيء فيه؛ فكذلك إذا سقط بعد موتها.
ولا
تكون الغرة إلا بيضاء. قال أبو عمرو بن العلاء في قول رسول الله صلى الله عليه
وسلم: ( في الجنين غرة عبد أو أمة ) - لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد
بالغرة معنى لقال: في الجنين عبد أو أمة، ولكنه عنى البياض؛ فلا يقبل في الدية إلا
غلام أبيض أو جارية بيضاء، لا يقبل فيها أسود ولا سوداء. واختلف العلماء في
قيمتها؛ فقال مالك: تقوم بخمسين دينارا أو ستمائة درهم؛ نصف عشر دية الحر المسلم،
وعشر دية أمه الحرة؛ وهو قول ابن شهاب وربيعة وسائر أهل المدينة. وقال أصحاب
الرأي: قيمتها خمسمائة درهم. وقال الشافعي: سن الغرة سبع سنين أو ثمان سنين؛ وليس
عليه أن يقبلها معيبة. ومقتضى مذهب مالك أنه مخير بين إعطاء غرة أو عشر دية الأم،
من الذهب عشرون دينارا إن كانوا أهل ذهب، ومن الورق - إن كانوا أهل ورق - ستمائة
درهم، أو خمس فرائض من الإبل. قال مالك وأصحابه: هي في مال الجاني؛ وهو قول الحسن
بن حي. وقال أبو حنيفة والشافعي وأصحابهما، هي على العاقلة. وهو أصح؛ لحديث المغيرة
بن شعبة أن امرأتين كانتا تحت رجلين من الأنصار - في رواية فتغايرتا - فضربت
إحداهما الأخرى بعمود فقتلتها، فاختصم إلى النبي صلى الله عليه وسلم الرجلان
فقالا: ندي من لا صاح ولا أكل، ولا شرب ولا استهل. فمثل ذلك يطل !، فقال: ( أسجع
كسجع الأعراب ) ؟ فقضى فيه غرة وجعلها على عاقلة المرأة. وهو حديث ثابت صحيح، نص
في موضع الخلاف يوجب الحكم. ولما كانت دية المرأة المضروبة على العاقلة كان الجنين
كذلك في القياس والنظر. واحتج علماؤنا بقول الذي قضي عليه: كيف أغرم ؟ قالوا: وهذا
يدل على أن الذي قضي عليه معين وهو الجاني. ولو أن دية الجنين قضى بها على العاقلة
لقال: فقال الذي قضى عليهم. وفي القياس أن كل جان جنايته عليه، إلا ما قام بخلافه
الدليل الذي لا معارض له؛ مثل إجماع لا يجوز خلافه، أو نص سنة من جهة نقل الآحاد
العدول لا معارض لها، فيجب الحكم بها، وقد قال الله تعالى: « ولا تكسب كل نفس إلا عليها
ولاتزر وازرة وزر أخرى » [ الأنعام: 164 ] .
ولا
خلاف بين العلماء أن الجنين إذا خرج حيا فيه الكفارة مع الدية. واختلفوا في
الكفارة إذا خرج ميتا؛ فقال مالك: فيه الغرة والكفارة. وقال أبو حنيفة والشافعي:
فيه الغرة ولا كفارة. واختلفوا في ميراث الغرة عن الجنين؛ فقال مالك والشافعي
وأصحابهما: الغرة في الجنين موروثة عن الجنين على كتاب الله تعالى؛ لأنها دية.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: الغرة للأم وحدها؛ لأنها جناية جنى عليها بقطع عضو من
أعضائها وليست بدية. ومن الدليل على ذلك أنه لم يعتبر فيه الذكر والأنثى كما يلزم
في الديات، فدل على أن ذلك كالعضو. وكان ابن هرمز يقول: ديته لأبويه خاصة؛ لأبيه
ثلثاها ولأمه ثلثها، من كان منهما حيا كان ذلك له، فإن كان أحدهما قد مات كانت
للباقي منهما أبا كان أو أما، ولا يرث الإخوة شيئا.
قوله
تعالى: « إلا أن
يصدقوا » أصله « أن يتصدقوا » فأدغمت التاء في الصاد.
والتصدق الإعطاء؛ يعني إلا أن يبرئ الأولياء ورثة المقتول القاتلين مما أوجب لهم
من الدية عليهم. فهو استثناء ليس من الأول. وقرأ أبو عبدالرحمن ونبيح « إلا أن تصدقوا » بتخفيف الصاد والتاء. وكذلك
قرأ أبو عمرو، إلا أنه شدد الصاد. ويجوز على هذه القراءة حذف التاء الثانية، ولا
يجوز حذفها على قراءة الياء. وفي حرف أبي وابن مسعود « إلا أن يتصدقوا » . وأما الكفارة التي هي لله
تعالى فلا تسقط بإبرائهم؛ لأنه أتلف شخصا في عبادة الله سبحانه، فعليه أن يخلص آخر
لعبادة ربه وإنما تسقط الدية التي هي حق لهم. وتجب الكفارة في مال الجاني ولا
تتحمل.
قوله
تعالى: « فإن
كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن » هذه
مسألة المؤمن يقتل في بلاد الكفار أو في حروبهم على أنه من الكفار. والمعنى عند
ابن عباس وقتادة والسدي وعكرمة ومجاهد والنخعي: فإن كان هذا المقتول رجلا مؤمنا قد
أمن وبقي في قومه وهم كفرة « عدو
لكم » فلا
دية فيه؛ وإنما كفارته تحرير. الرقبة. وهو المشهور من قول مالك، وبه قال أبو
حنيفة. وسقطت الدية لوجهين: أحدهما: أن أولياء القتيل كفار فلا يصح أن تدفع إليهم
فيتقووا بها. والثاني: أن حرمة هذا الذي آمن ولم يهاجر قليلة، فلا دية؛ لقوله
تعالى: « والذين
آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا » [ الأنفال: 72 ] . وقالت طائفة: بل الوجه في
سقوط الدية أن الأولياء كفار فقط؛ فسواء كان القتل خطأ بين أظهر المسلمين أو بين
قومه ولم يهاجر أو هاجر ثم رجع إلى قومه كفارته التحرير ولا دية فيه، إذ لا يصح
دفعها إلى الكفار، ولو وجبت الدية لوجبت لبيت المال على بيت المال؛ فلا تجب الدية
في هذا الموضع وإن جرى القتل في بلاد الإسلام. هذا قول الشافعي وبه قال الأوزاعي
والثوري وأبو ثور. وعلى القول الأول إن قتل المؤمن في بلاد المسلمين وقومه حرب
ففيه الدية لبيت المال والكفارة.
قلت:
ومن هذا الباب ما جاء في صحيح مسلم عن أسامة قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه
وسلم في سرية فصبحنا الحرقات من جهينة فأدركت رجلا فقال: لا إله إلا الله؛ فطعنته
فوقع في نفسي من ذلك، فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: ( أقال لا إله إلا الله وقتلته ) ! قال: قلت يا رسول الله، إنما قالها
خوفا من السلاح؛ قال: ( أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا ؟ ) . فلم يحكم
عليه صلى الله عليه وسلم بقصاص ولا دية. وروي عن أسامة أنه قال: إن رسول الله صلى
الله عليه وسلم استغفر لي بعد ثلاث مرات، وقال: ( أعتق رقبة ) ولم يحكم بقصاص ولا
دية. فقال علماؤنا: أما سقوط القصاص فواضح إذ لم يكن القتل عدوانا؛ وأما سقوط
الدية فلأوجه ثلاثة: الأول: لأنه كان أذن له في أصل القتال فكان عنه إتلاف نفس
محترمة غلطا كالخاتن والطبيب. الثاني: لكونه من العدو ولم يكن له ولي من المسلمين
تكون له ديته؛ لقوله تعالى: « فإن
كان من قوم عدو لكم » كما
ذكرنا. الثالث: أن أسامة اعترف بالقتل ولم تقم بذلك بينة ولا تعقل العاقلة
اعترافا، ولعل أسامة لم يكن له مال تكون فيه الدية. والله أعلم.
قوله
تعالى: « وإن
كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق » هذا
في الذمي والمعاهد يقتل خطأ فتجب الدية والكفارة؛ قال ابن عباس والشعبي والنخعي
والشافعي. واختاره الطبري قال: إلا أن الله سبحانه وتعالى أبهمه ولم يقل وهو مؤمن،
كما قال في القتيل من المؤمنين ومن أهل الحرب. وإطلاقه ما قيد قبل يدل على أنه
خلافه. وقال الحسن وجابر بن زيد وإبراهيم أيضا: المعنى وإن كان المقتول خطأ مؤمنا
من قوم معاهدين لكم فعهدهم يوجب أنهم أحق بدية صاحبهم، فكفارته التحرير وأداء
الدية. وقرأها الحسن: « وإن
كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق وهو مؤمن » . قال الحسن: إذا قتل المسلم الذمي فلا كفارة عليه. قال
أبو عمر: وأما الآية فمعناها عند أهل الحجاز مردود على قوله: « وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا
إلا خطأ » ثم
قال تعالى: « وإن
كان من قوم » يريد
ذلك المؤمن. والله أعلم. قال ابن العربي: والذي عندي أن الجملة محمولة حمل المطلق
على المقيد.
قلت:
وهذا معنى ما قال الحسن وحكاه أبو عمر عن أهل الحجاز. وقوله « فدية مسلمة » على لفظ النكرة ليس يقتضي
دية بعينها. وقيل: هذا في مشركي العرب الذين كان بينهم وبين النبي عليه السلام عهد
على أن يسلموا أو يؤذنوا بحرب إلى أجل معلوم: فمن قتل منهم وجبت فيه الدية
والكفارة ثم نسخ بقوله تعالى: « براءة
من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين » [
التوبة: 1 ] .
وأجمع
العلماء على أن دية المرأة على النصف من دية الرجل؛ قال أبو عمر: إنما صارت ديتها
- والله أعلم - على النصف من دية الرجل من أجل أن لها نصف ميراث الرجل، وشهادة
امرأتين بشهادة رجل. وهذا إنما هو في دية الخطأ، وأما العمد ففيه القصاص بين
الرجال والنساء لقوله عز وجل: « النفس
بالنفس » [ المائدة: 45 ] . و « الحر بالحر » كما تقدم في « البقرة » .
روى
الدارقطني من حديث موسى بن علي بن رباح اللخمي قال: سمعت أبي يقول إن أعمى كان
ينشد في الموسم في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يقول:
يا
أيها الناس لقيت منكرا هل يعقل الأعمى الصحيح المبصرا
خرا
مما كلاهما تكسرا
وذلك
أن الأعمى كان يقوده بصير فوقعا في بئر، فوقع الأعمى على البصير فمات البصير؛ فقضى
عمر بعقل البصير على الأعمى. وقد اختلف العلماء في رجل يسقط على آخر فيموت أحدهما؛
فروي عن ابن الزبير: يضمن الأعلى الأسفل، ولا يضمن الأسفل الأعلى. وهذا قول شريح
والنخعي وأحمد وإسحاق. وقال مالك في رجلين جر أحدهما صاحبه. حتى سقطا وماتا: على
عاقلة الذي جبذه الدية. قال أبو عمر: ما أظن في هذا خلافا - والله أعلم - إلا ما
قال بعض المتأخرين من أصحابنا وأصحاب الشافعي: يضمن نصف الدية؛ لأنه مات من فعله،
ومن سقوط الساقط عليه. وقال الحكم وابن شبرمة: إن سقط رجل على رجل من فوق بيت فمات
أحدهما، قالا: يضمن الحي منهما. وقال الشافعي في رجلين يصدم أحدهما الآخر فماتا،
قال: دية المصدوم على عاقلة الصادم، ودية الصادم هدر. وقال في الفارسين إذا اصطدما
فماتا: على كل واحد منهما نصف دية صاحبه؛ لأن كل واحد منهما مات من فعل نفسه وفعل
صاحبه؛ وقال عثمان البتي وزفر. وقال مالك والأوزاعي والحسن بن حي وأبو حنيفة
وأصحابه في الفارسين يصطدمان فيموتان: على كل واحد منهما دية الآخر على عاقلته.
قال ابن خويز منداد: وكذلك عندنا السفينتان تصطدمان إذا لم يكن النوتي صرف السفينة
ولا الفارس صرف الفرس. وروي عن مالك في السفينتين والفارسين. على كل واحد منهما الضمان
لقيمة ما أتلف لصاحبه كاملا.
واختلف
العلماء من هذا الباب في تفصيل دية أهل الكتاب؛ فقال مالك وأصحابه: هي على النصف
من دية المسلم، ودية المجوسي ثمانمائة درهم، ودية نسائهم على النصف من ذلك. روي هذا
القول عن عمر بن عبدالعزيز وعروة بن الزبير وعمرو بن شعيب وقال به أحمد بن حنبل.
وهذا المعنى قد روى فيه سليمان بن بلال، عن عبدالرحمن بن الحارث بن عياش بن أبي
ربيعة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل دية
اليهودي والنصراني على النصف من دية المسلم. وعبدالرحمن هذا قد روى عنه الثوري
أيضا. وقال ابن عباس والشعبي والنخعي: المقتول من أهل العهد خطأ لا تبالي مؤمنا
كان أو كافرا على عهد قومه فيه الدية كدية المسلم؛ وهو قول أبي حنيفة والثوري
وعثمان البتي والحسن بن حي؛ جعلوا الديات كلها سواء، المسلم واليهودي والنصراني
والمجوسي والمعاهد والذمي، وهو قول عطاء والزهري وسعيد بن المسيب. وحجتهم قوله
تعالى: « فدية » وذلك يقتضي الدية كاملة كدية
المسلم. وعضدوا هذا بما رواه محمد بن إسحاق، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن
عباس في قصة بني قريظة والنضير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل ديتهم سواء
دية كاملة. قال أبو عمر: هذا حديث فيه لين وليس في مثله حجة. وقال الشافعي: دية
اليهودي والنصراني ثلث دية المسلم، ودية المجوسي ثمانمائة درهم؛ وحجته أن ذلك أقل
ما قيل في ذلك، والذمة بريئة إلا بيقين أو حجة. وروي هذا القول عن عمر وعثمان، وبه
قال ابن المسيب وعطاء والحسن وعكرمة وعمرو بن دينار وأبو ثور وإسحاق.
قوله
تعالى: « فمن لم
يجد » أي
الرقبة ولا اتسع ماله لشرائها. « فصيام
شهرين » أي
فعليه صيام شهرين. «
متتابعين » حتى
لو أفطر يوما استأنف؛ هذا قول الجمهور. وقال مكي عن الشعبي: إن صيام الشهرين يجزئ
عن الدية والعتق لمن لم يجد. قال ابن عطية: وهذا القول وهم؛ لأن الدية إنما هي على
العاقلة وليست على القاتل. والطبري حكى هذا القول عن مسروق.
والحيض
لا يمنع التتابع من غير خلاف، وإنها إذا طهرت ولم تؤخر وصلت باقي صيامها بما سلف
منه، لا شيء عليها غير ذلك إلا أن تكون طاهرا قبل الفجر فتترك صيام ذلك اليوم
عالمة بطهرها، فإن فعلت استأنفت عند جماعة من العلماء؛ قاله أبو عمر. واختلفوا في
المريض الذي قد صام من شهري التتابع بعضها على قولين؛ فقال مالك: وليس لأحد وجب
عليه صيام شهرين متتابعين في كتاب الله تعالى أن يفطر إلا من عذر أو مرض أو حيض،
وليس له أن يسافر فيفطر. وممن قال يبني في المرض سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار
والحسن والشعبي وعطاء ومجاهد وقتادة وطاوس. وقال سعيد بن جبير والنخعي والحكم بن
عيينة وعطاء الخراساني: يستأنف في المرض؛ وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والحسن بن حي؛
وأحد قولي الشافعي؛ وله قول آخر: أنه يبني كما قال مالك. وقال ابن شبرمة: يقضي ذلك
اليوم وحده إن كان عذر غالب، كصوم رمضان. قال أبو عمر: حجة من قال يبني لأنه معذور
في قطع التتابع لمرضه ولم يتعمد، وقد تجاوز الله عن غير المتعمد. وحجة من قال
يستأنف لأن التتابع فرض لا يسقط لعذر، وإنما يسقط المأثم؛ قياسا على الصلاة؛ لأنها
ركعات متتابعات فإذا قطعها عذر استأنف ولم يبن.
قوله
تعالى: « توبة
من الله » نصب
على المصدر، ومعناه رجوعا. وإنما مست حاجة المخطئ إلى التوبة لأنه لم يتحرز وكان من
حقه أن يتحفظ. وقيل: أي فليأت بالصيام تخفيفا من الله تعالى عليه بقبول الصوم بدلا
عن الرقبة؛ ومنه قوله تعالى: « علم
الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم » [
البقرة: 187 ] أي
خفف، وقوله تعالى: « علم أن
لن تحصوه فتاب عليكم » [ المزمل: 20 ] .
قوله
تعالى: « وكان
الله » أي في
أزله وأبده. « عليما
» بجميع
المعلومات « حكيما
» فيما
حكم وأبرم.
الآية:
93 ( ومن
يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا
عظيما )
قوله
تعالى: « ومن
يقتل » « من » شرط، وجوابه « فجزاؤه » وسيأتي. واختلف العلماء في
صفة المتعمد في القتل؛ فقال عطاء والنخعي وغيرهما: هو من قتل بحديدة كالسيف
والخنجر وسنان الرمح ونحو ذلك من المشحوذ المعد للقطع أو بما يعلم أن فيه الموت من
ثقال الحجارة ونحوها. وقالت فرقة: المتعمد كل من قتل بحديدة كان القتل أو بحجر أو
بعصا أو بغير ذلك؛ وهذا قول الجمهور.
ذكر
الله عز وجل في كتابه العمد والخطأ ولم يذكر شبه العمد وقد اختلف العلماء في القول
به؛ فقال ابن المنذر: أنكر ذلك مالك، وقال: ليس في كتاب الله إلا العمد والخطأ.
وذكره الخطابي أيضا عن مالك وزاد: وأما شبه العمد فلا نعرفه. قال أبو عمر: أنكر
مالك والليث بن سعد شبه العمد؛ فمن قتل عندهما بما لا يقتل مثله غالبا كالعضة
واللطمة وضربة السوط والقضيب وشبه ذلك فإنه عمد وفيه القود. قال أبو عمر: وقال
بقولهما جماعة من الصحابة والتابعين. وذهب جمهور فقهاء الأمصار إلى أن هذا كله شبه
العمد. وقد ذكر عن مالك وقال ابن وهب وجماعة من الصحابة والتابعين. قال ابن
المنذر: وشبه العمد يعمل به عندنا. وممن أثبت شبه العمد الشعبي والحكم وحماد
والنخعي وقتادة وسفيان الثري وأهل العراق والشافعي، وروينا ذلك عن عمر بن الخطاب
وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما.
قلت:
وهو الصحيح؛ فإن الدماء أحق ما احتيط لها إذ الأصل صيانتها في أهبها، فلا تستباح
إلا بأمرين لا إشكال فيه، وهذا فيه إشكال؛ لأنه لما كان مترددا بين العمد والخطأ
حكم له بشبه العمد؛ فالضرب مقصود والقتل غير مقصود، وإنما وقع بغير القصد فيسقط
القود وتغلظ الدية. وبمثل هذا جاءت السنة؛ روى أبو داود من حديث عبدالله بن عمرو
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « ألا إن دية الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط والعصا مائة من
الإبل منها أربعون في بطونها أولادها ) . وروى الدارقطني عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: ( العمد قود اليد والخطأ عقل لا قود فيه ومن قتل في عمية بحجر أو
عصا أو سوط فهو دية مغلظة في أسنان الإبل ) . وروي أيضا من حديث سليمان بن موسى عن
عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( عقل شبه
العمد مغلظ مثل قتل العمد ولا يقتل صاحبه ) . وهذا نص. وقال طاوس في الرجل يصاب في
ماء الرميا في القتال بالعصا أو السوط أو الترامي بالحجارة يودي ولا يقتل به من
أجل أنه لا يدرك، من قاتله. وقال أحمد بن حنبل: العميا هو الأمر الأعمى للعصبية لا
تستبين ما وجهه. وقال إسحاق: هذا في تحارج القوم وقتل. بعضهم بعضا. فكأن أصله من
التعمية وهو التلبيس؛ ذكره الدارقطني. »
مسألة:
واختلف القائلون بشبه العمد في الدية المغلظة، فقال عطاء والشافعي: هي ثلاثون حقة
وثلاثون جذعة وأربعون خلفة. وقد روي هذا القول عن عمر وزيد بن ثابت والمغيرة بن
شعبة وأبي موسى الأشعري؛ وهو مذهب مالك حيث يقول بشبه العمد، ومشهور مذهبه أنه لم
يقل به إلا في مثل قصة المدلجي بابنه حيث ضربه بالسيف. وقيل: هي مربعة ربع بنات
لبون، وربع حقاق، وربع جذاع، وربع بنات مخاض. هذا قول النعمان ويعقوب؛ وذكره أبو
داود عن سفيان عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي. وقيل: هي مخمسة: عشرون بنت
مخاض وعشرون بنت لبون وعشرون ابن لبون وعشرون حقة وعشرون جذعة؛ هذا قول أبي ثور.
وقيل: أربعون جذعة إلى بازل عامها وثلاثون حقة، وثلاثون بنات لبون. وروي عن عثمان
بن عفان وبه قال الحسن البصري وطاوس والزهري. وقيل: أربع وثلاثون خلفة إلى بازل
عامها، وثلاث وثلاثون حقة، وثلاث وثلاثون جذعة؛ وبه قال الشعبي والنخعي، وذكره أبو
داود عن أبي الأحوص عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي.
واختلفوا
فيمن تلزمه دية شبه العمد؛ فقال الحارث العكلي وابن أبي ليلى وابن شبرمة وقتادة
وأبو ثور: هو عليه في ماله. وقال الشعبي والنخعي والحكم والشافعي والثوري وأحمد
وإسحاق وأصحاب الرأي: هو على العاقلة. قال ابن المنذر: قول الشعبي أصح؛ لحديث أبي
هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل دية الجنين على عاقلة الضاربة.
أجمع
العلماء على أن العاقلة لا تحمل دية العمد وأنها في مال الجاني؛ وقد تقدم ذكرها في
« البقرة
» . وقد
أجمعوا على أن على القاتل خطأ الكفارة؛ واختلفوا فيها في قتل العمد؛ فكان مالك
والشافعي يريان على قاتل العمد الكفارة كما في الخطأ. قال الشافعي: إذا وجبت
الكفارة في الخطأ فلأن تجب في العمد أولى. وقال: إذا شرع السجود في السهو فلأن
يشرع في العمد أولى، وليس ما ذكره الله تعالى في كفارة العمد بمسقط ما قد وجب في
الخطأ. وقد قيل: إن القاتل عمدا إنما تجب عليه الكفارة إذا عفي عنه فلم يقتل، فأما
إذا قتل قودا فلا كفارة عليه تؤخذ من ماله. وقيل تجب. ومن قتل نفسه فعليه الكفارة
في ماله. وقال الثوري وأبو ثور وأصحاب الرأي: لا تجب الكفارة إلا حيث أوجبها الله
تعالى. قال ابن المنذر: وكذلك نقول؛ لأن الكفارات عبادات ولا يجوز التمثيل. وليس
يجوز لأحد أن يفرض فرضا يلزمه عباد الله إلا بكتاب أو سنة أو إجماع، وليس مع من
فرض على القاتل عمدا كفارة حجة من حيث ذكرت.
واختلفوا
في الجماعة يقتلون الرجل خطأ؛ فقالت طائفة: على كل واحد منهم الكفارة؛ كذلك قال
الحسن وعكرمة والنخعي والحارث العكلي ومالك والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو
ثور وأصحاب الرأي. وقالت طائفة: عليهم كلهم كفارة واحدة؛ هكذا قال أبو ثور، وحكي
ذلك عن الأوزاعي. وفرق الزهري بين العتق والصوم؛ فقال في الجماعة يرمون بالمنجنيق
فيقتلون رجلا: عليهم كلهم عتق رقبة، وإن كانوا لا يجدون فعلى كل واحد منهم صوم
شهرين متتابعين.
روى
النسائي: أخبرنا الحسن بن إسحاق المروزي - ثقة قال: حدثنا خالد بن خداش قال: حدثنا
حاتم بن إسماعيل عن بشير بن المهاجر عن عبدالله بن بريدة عن أبيه قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: ( قتل
المؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا ) . وروي عن عبدالله قال: قال رسول الله: ( أول ما يحاسب به العبد
الصلاة وأول ما يقضى بين الناس في الدماء ) . وروى إسماعيل بن إسحاق عن نافع بن جبير بن مطعم عن
عبدالله بن عباس أنه سأل سائل فقال: يا أبا العباس، هل للقاتل توبة ؟ فقال له ابن
عباس كالمتعجب من مسألته: ماذا تقول ! مرتين أو ثلاثا. ثم قال ابن عباس: ويحك !
أنى له توبة ! سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: ( يأتي المقتول معلقا رأسه
بإحدى يديه متلببا قاتله بيده الأخرى تشخب أوداجه دما حتى يوقفا فيقول المقتول لله
سبحانه وتعالى رب هذا قتلني فيقول الله تعالى للقاتل تعست ويذهب به إلى النار ) . وعن الحسن قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: ( ما
نازلت ربي في شيء ما نازلته في قتل المؤمن فلم يجبني ) .
واختلف
العلماء في قاتل العمد هل له من توبة ؟ فروى البخاري عن سعيد بن جبير قال: اختلف
فيها أهل الكوفة، فرحلت فيها إلى ابن عباس، فسألته عنها فقال: نزلت هذه الآية « ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه
جهنم » هي آخر
ما نزل وما نسخها شيء. وروى النسائي عنه قال: سألت ابن عباس هل لمن قتل مؤمنا
متعمدا من توبة ؟ قال: لا. وقرأت عليه الآية التي في الفرقان: « والذين لا يدعون مع الله إلها
آخر » [ الفرقان: 68 ] قال: هذه آية مكية نسختها آية
مدنية « ومن
يقتل مؤمنا متعمدا فجزائه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه » . وروي عن زيد بن ثابت نحوه،
وإن آية النساء نزلت بعد آية الفرقان بستة أشهر، وفي رواية بثمانية أشهر؛ ذكرهما
النسائي عن زيد بن ثابت. وإلى عموم هذه الآية مع هذه الأخبار عن زيد وابن عباس
ذهبت المعتزلة وقالوا: هذا مخصص عموم قوله تعالى: « ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء » [ النساء: 48 ] ورأوا أن الوعيد نافذ حتما
على كل قاتل؛ فجمعوا بين الآيتين بأن قالوا: التقدير ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء
إلا من قتل عمدا. وذهب جماعة من العلماء منهم. عبدالله بن عمر - وهو أيضا مروي عن
زيد وابن عباس - إلى أن له توبة. روى يزيد بن هارون قال: أخبرنا أبو مالك الأشجعي
عن سعد بن عبيدة قال: جاء رجل إلى ابن عباس فقال ألمن قتل مؤمنا متعمدا توبة ؟
قال: لا، إلا النار؛ قال: فلما ذهب قال له جلساؤه: أهكذا كنت تفتينا ؟ كنت تفتينا
أن لمن قتل توبة مقبولة؛ قال: إني لأحسبه رجلا مغضبا يريد أن يقتل مؤمنا. قال:
فبعثوا في إثره فوجدوه كذلك. وهذا مذهب أهل السنة وهو الصحيح، وإن هذه الآية
مخصوصة، ودليل التخصيص آيات وأخبار. وقد أجمعوا على أن الآية نزلت في مقيس بن
ضبابة؛ وذلك أنه كان قد أسلم هو وأخوه هشام بن ضبابة؛ فوجد هشاما قتيلا في بني
النجار فأخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فكتب له إليهم أن يدفعوا إليه قاتل
أخيه وأرسل معه رجلا من بني فهر؛ فقال بنو النجار: والله ما نعلم له قاتلا ولكنا
نؤدي الدية؛ فأعطوه مائة من الإبل؛ ثم انصرفا راجعين إلى المدينة فعدا مقيس على
الفهري فقتله بأخيه وأخذ الإبل وانصرف إلى مكة كافرا مرتدا؛ وجعل ينشد:
قتلت به
فهرا وحملت عقله سراة بني النجار أرباب فارع
حللت به
وتري وأدركت ثورتي وكنت إلى الأوثان أول راجع
فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا
أؤمنه في حل ولا حرم ) . وأمر
بقتله يوم فتح مكة وهو متعلق بالكعبة. وإذا ثبت هذا بنقل أهل التفسير وعلماء الدين
فلا ينبغي أن يحمل على المسلمين، ثم ليس الأخذ بظاهر الآية بأولى من الأخذ بظاهر
قوله: « إن
الحسنات يذهبن السيئات » [ هود: 114 ] وقوله تعالى: « وهو الذي يقبل التوبة عن
عباده » [ الشورى: 25 ] وقوله: « ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء » [ النساء: 48 ] . والأخذ بالظاهرين تناقض فلا
بد من التخصيص. ثم إن الجمع بين آية « الفرقان » وهذه
الآية ممكن فلا نسخ ولا تعارض، وذلك أن يحمل مطلق آية « النساء » على مقيد آية « الفرقان » فيكون معناه فجزاؤه كذا إلا من
تاب؛ لا سيما وقد اتحد الموجب وهو القتل والموجب وهو التواعد بالعقاب. وأما
الأخبار فكثيرة كحديث عبادة بن الصامت الذي قال فيه: ( تبايعوني على ألا تشركوا
بالله شيئا ولا تزنوا ولا تسرقوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق فمن
وفى منكم فأجره على الله ومن أصاب شيئا من ذلك فعوقب به فهو كفارة له ومن أصاب من
ذلك شيئا فستره الله عليه فأمره إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه ) . رواه الأئمة أخرجه
الصحيحان. وكحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذي قتل مائة نفس.
أخرجه مسلم في صحيحه وابن ماجة في سننه وغيرهما إلى غير ذلك من الأخبار الثابتة.
ثم إنهم قد أجمعوا معنا في الرجل يشهد عليه بالقتل، ويقر بأنه قتل عمدا، ويأتي
السلطان الأولياء فيقام عليه الحد ويقتل قودا، فهذا غير متبع في الآخرة، والوعيد
غير نافذ عليه إجماعا على مقتضى حديث عبادة؛ فقد انكسر عليهم ما تعلقوا به من عموم
قوله تعالى: « ومن
يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم » ودخله
التخصيص بما ذكرنا، وإذا كان كذلك فالوجه أن هذه الآية مخصوصة كما بينا، أو تكون
محمولة على ما حكي عن ابن عباس أنه قال: متعمدا معناه مستحلا لقتله؛ فهذا أيضا
يؤول إلى الكفر إجماعا. وقالت جماعة: إن القاتل في المشيئة تاب أو لم يتب؛ قال أبو
حنيفة وأصحابه. فإن قيل: إن قوله تعالى: « فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه » دليل على كفره؛ لأن الله تعالى
لا يغضب إلا على كافر خارج من الإيمان. قلنا: هذا وعيد، والخلف في الوعيد كرم؛ كما
قال:
وإني متى
أوعدته أو وعدته لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
وقد
تقدم. جواب ثان: إن جازاه بذلك؛ أي هو أهل لذلك ومستحقه لعظيم ذنبه. نص على هذا
أبو مجلز لاحق بن حميد وأبو صالح وغيرهما. وروى أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم أنه قال: ( إذا
وعد الله لعبد ثوابا فهو منجزه وإن أوعد له العقوبة فله المشيئة إن شاء عاقبه وإن
شاء عفا عنه ) . وفي
هذين التأويلين دخل؛ أما الأول - فقال القشيري: وفي هذا نظر؛ لأن كلام الرب لا
يقبل الخلف إلا أن يراد بهذا تخصيص العام؛ فهو إذا جائز في الكلام. وأما الثاني:
وإن روي أنه مرفوع فقال النحاس: وهذا الوجه الغلط فيه بين، وقد قال الله عز وجل: « ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا » [ الكهف: 106 ] ولم يقل أحد: إن جازاهم؛ وهو
خطأ في العربية لأن بعده « وغضب
الله عليه » وهو
محمول على معنى جازاه. وجواب ثالث: فجزاؤه جهنم إن لم يتب وأصر على الذنب حتى وافى
ربه على الكفر بشؤم المعاصي. وذكر هبة الله في كتاب « الناسخ والمنسوخ » أن هذه الآية منسوخة بقوله
تعالى: « ويغفر
ما دون ذلك لمن يشاء » [ النساء: 48 ] ، وقال: هذا إجماع الناس إلا
ابن عباس وابن عمر فإنهما قالا هي محكمة. وفي هذا الذي قال نظر؛ لأنه موضع عموم
وتخصيص لا موضع نسخ؛ قال ابن عطية. قلت: هذا حسن؛ لأن النسخ لا يدخل الأخبار إنما
المعنى فهو يجزيه. وقال النحاس في « معاني القرآن » له: القول فيه عند العلماء أهل النظر أنه محكم وأنه يجازيه
إذا لم يتب، فإن تاب فقد بين أمره بقوله: « وإني لغفار لمن تاب » [ طه:
82 ] فهذا
لا يخرج عنه، والخلود لا يقتضي الدوام، قال الله تعالى: « وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد
» [ الأنبياء: 34 ] الآية. وقال تعالى: « يحسب أن ماله أخلده » [ الهمزة: 3 ] . وقال زهير:
ولا
خالدا إلا الجبال الرواسيا
وهذا كله
يدل على أن الخلد يطلق على غير معنى التأبيد؛ فإن هذا يزول بزوال الدنيا. وكذلك
العرب تقول: لأخلدن فلانا في السجن؛ والسجن ينقطع ويفنى، وكذلك المسجون. ومثله
قولهم في الدعاء: خلد الله ملكه وأبد أيامه. وقد تقدم هذا كله لفظا ومعنى. والحمد
لله.
الآية:
94 ( يا أيها الذين آمنوا إذا
ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون
عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا
إن الله كان بما تعملون خبيرا )
قوله
تعالى: « يا
أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله » هذا متصل بذكر القتل والجهاد. والضرب: السير في الأرض؛ تقول
العرب: ضربت في الأرض إذا سرت لتجارة أو غزو أو غيره؛ مقترنة بفي. وتقول: ضربت
الأرض دون « في » إذا قصدت قضاء حاجة الإنسان؛
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا يخرج الرجلان يضربان الغائط يتحدثان كاشفين عن فرجيهما
فإن الله يمقت على ذلك ) . وهذه
الآية نزلت في قوم من المسلمين مروا في سفرهم برجل معه جمل وغنيمة يبيعها فسلم على
القوم وقال: لا إله إلا الله محمد رسول الله؛ فحمل عليه أحدهم فقتله. فلما ذكر ذلك
للنبي صلى الله عليه وسلم شق عليه ونزلت الآية. وأخرجه البخاري عن عطاء عن ابن
عباس قال: قال ابن عباس: كان رجل في غنيمة له فلحقه المسلمون فقال: السلام عليكم؛
فقتلوه وأخذوا غنيمته؛ فأنزل الله تعالى ذلك إلى قوله: « عرض الحياة الدنيا » تلك الغنيمة. قال: قرأ ابن
عباس « السلام
» . في
غير البخاري: وحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ديته إلى أهله ورد عليه غنيماته.
واختلف
في تعيين القاتل والمقتول في هذه النازلة، فالذي عليه الأكثر وهو في سير ابن إسحاق
ومصنف أبي داود والاستيعاب لابن عبدالبر أن القاتل محلم بن جثامة، والمقتول عامر
بن الأضبط فدعا عليه السلام على محلم فما عاش بعد ذلك إلا سبعا ثم دفن فلم تقبله
الأرض ثم دفن فلم تقبله ثم دفن ثالثة فلم تقبله؛ فلما رأوا أن الأرض لا تقبله
ألقوه في بعض تلك الشعاب؛ وقال عليه السلام: ( إن الأرض لتقبل من هو شر منه ) . قال الحسن: أما إنها تحبس
من هو شر منه ولكنه وعظ القوم ألا يعودوا. وفي سنن ابن ماجة عن عمران بن حصين قال:
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشا من المسلمين إلى المشركين فقاتلوهم قتالا
شديدا، فمنحوهم أكتافهم فحمل رجل من لحمتي على رجل من المشركين بالرمح فلما غشيه
قال: أشهد أن لا إله إلا الله؛ إني مسلم؛ فطعنه فقتله؛ فأتى رسول الله صلى الله
عليه وسلم فقال: يا رسول الله، هلكت ! قال: ( وما الذي صنعت ) ؟ مرة أو مرتين، فأخبره بالذي صنع. فقال له رسول الله صلى
الله عليه وسلم: ( فهلا
شققت عن بطنه فعلمت ما في قلبه ) فقال:
يا رسول الله لو شققت بطنه أكنت أعلم ما في قلبه ؟ قال: ( لا فلا أنت قبلت ما تكلم به
ولا أنت تعلم ما في قلبه ) . فسكت
عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يلبث إلا يسيرا حتى مات فدفناه، فأصبح على
وجه الأرض. فقلنا: لعل عدوا نبشه، فدفناه ثم أمرنا غلماننا يحرسونه فأصبح على ظهر
الأرض. فقلنا: لعل الغلمان نعسوا، فدفناه ثم حرسناه بأنفسنا فأصبح على ظهر الأرض،
فألقيناه في بعض تلك الشعاب. وقيل: إن القاتل أسامة بن زيد والمقتول مرداس بن نهيك
الغطفاني ثم الفزاري من بني مرة من أهل فدك. وقال ابن القاسم عن مالك. وقيل: كان
مرداس هذا قد أسلم من الليلة وأخبر بذلك أهله؛ ولما عظم النبي صلى الله عليه وسلم
الأمر على أسامة حلف عند ذلك ألا يقاتل رجلا يقول: لا إله إلا الله. وقد تقدم
القول فيه. وقيل: القاتل أبو قتادة. وقيل: أبو الدرداء. ولا خلاف أن الذي لفظته
الأرض حين مات هو محرم الذي ذكرناه. ولعل هذه الأحوال جرت في زمان متقارب فنزلت
الآية في الجميع. وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم رد على أهل المسلم الغنم
والجمل وحمل ديته على طريق الائتلاف والله أعلم. وذكر الثعلبي أن أمير تلك السرية
رجل يقال له غالب بن فضالة الليثي. وقيل: المقداد حكاه السهيلي.
قوله
تعالى: «
فتبينوا » أي
تأملوا. و « تبينوا
» قراءة
الجماعة، وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم، وقالا: من أمر بالتبين فقد أمر بالتثبيت؛
يقال: تبينت الأمر وتبين الأمر بنفسه، فهو متعد ولازم. وقرأ حمزة « فتثبتوا » من التثبت بالثاء مثلثة وبعدها
باء بواحدة «
وتبينوا » في هذا
أوكد؛ لأن الإنسان قد يتثبت ولا يبين. وفي « إذا » معنى
الشرط، فلذلك دخلت الفاء في قوله «
فتبينوا » . وقد
يجازى بها كما قال:
وإذا
تصبك خصاصة فتجمل
والجيد
ألا يجازى بها كما قال الشاعر:
والنفس
راغبة إذا رغبتها وإذا ترد إلى قليل تقنع
والتبين
التثبت في القتل واجب حضرا وسفرا ولا خلاف فيه، وإنما خص السفر بالذكر لأن الحادثة
التي فيها نزلت الآية وقعت في السفر.
قوله
تعالى: « ولا
تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا » السلم والسلم، والسلام واحد، قال البخاري. وقرئ بها كلها.
واختار أبو عبيد القاسم بن سلام « السلام
» .
وخالفه أهل النظر فقالوا: « السلم
» ههنا
أشبه؛ لأنه بمعنى الانقياد والتسليم، كما قال عز وجل: « فألقوا السلم ما كنا نعمل من
سوء » [ النحل: 28 ] فالسلم الاستسلام والانقياد.
أي لا تقولوا لمن ألقى بيده واستسلم لكم وأظهر دعوتكم لست مؤمنا. وقيل: السلام قول
السلام عليكم، وهو راجع إلى الأول؛ لأن سلامه بتحية الإسلام مؤذن بطاعته وانقياده،
ويحتمل أن يراد به الانحياز والترك. قال الأخفش: يقال فلان سلام إذا كان لا يخالط
أحدا. والسلم ( بشد
السين وكسرها وسكون اللام ) الصلح.
وروي عن
أبي جعفر أنه قرأ « لست
مؤمَنا » بفتح
الميم الثانية، من آمنته إذا أجرته فهو مؤمن.
والمسلم
إذا لقي الكافر ولا عهد له جاز له قتله؛ فإن قال: لا إله إلا الله لم يجز قتله؛
لأنه قد اعتصم بعصام الإسلام المانع من دمه وماله وأهله: فإن قتله بعد ذلك قتل به.
وإنما سقط القتل عن هؤلاء لأجل أنهم كانوا في صدر الإسلام وتأولوا أنه قالها متعوذا
وخوفا من السلاح، وأن العاصم قولها مطمئنا، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه
عاصم كيفما قالها؛ ولذلك قال لأسامة: ( أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا ) أخرجه مسلم. أي تنظر أصادق هو
في قوله أم كاذب ؟ وذلك لا يمكن فلم يبق إلا أن يبين عنه لسانه. وفي هذا من الفقه
باب عظيم، وهو أن الأحكام تناط بالمظان والظواهر لا على القطع واطلاع السرائر.
فإن قال:
سلام عليكم فلا ينبغي أن يقتل أيضا حتى يعلم ما وراء هذا؛ لأنه موضع إشكال. وقد
قال مالك في الكافر يوجد فيقول: جئت مستأمنا أطلب الأمان: هذه أمور مشكلة، وأرى أن
يرد إلى مأمنه ولا يحكم له بحكم الإسلام؛ لأن الكفر قد ثبت له فلا بد أن يظهر منه
ما يدل على قوله، ولا يكفي أن يقول أنا مسلم ولا أنا مؤمن ولا أن يصلي حتى يتكلم
بالكلمة العاصمة التي علق النبي صلى الله عليه وسلم الحكم بها عليه في قوله: ( أمرت أن أقاتل الناس حتى
يقولوا لا إله إلا الله ) .
فإن صلى
أو فعل فعلا من خصائص الإسلام فقد اختلف فيه علماؤنا؛ فقال ابن العربي: نرى أنه لا
يكون بذلك مسلما، أما أنه يقال له: ما وراء هذه الصلاة ؟ فإن قال: صلاة مسلم، قيل
له: قل لا إله إلا الله؛ فإن قالها تبين صدقه، وإن أبى علمنا أن ذلك تلاعب، وكانت
عند من يرى إسلامه ردة؛ والصحيح أنه كفر أصلي ليس بردة. وكذلك هذا الذي قال: سلام
عليكم، يكلف الكلمة؛ فإن قالها تحقق رشاده، وإن أبى تبين عناده وقتل. وهذا معنى
قوله: «
فتبينوا » أي
الأمر المشكل، أو « تثبتوا
» ولا
تعجلوا المعنيان سواء. فإن قتله أحد فقد أتى منهيا عنه. فإن قيل: فتغليظ النبي صلى
الله عليه وسلم على محلم، ونبذه من قبره كيف مخرجه ؟ قلنا: لأنه علم من نيته أنه
لم يبال بإسلامه فقتله متعمدا لأجل الحنة التي كانت بينهما في الجاهلية.
قوله
تعالى: « تبتغون
عرض الحياة الدنيا » أي
تبتغون أخذ ماله: ويسمى متاع الدنيا عرضا لأنه عارض زائل غير ثابت. قال أبو عبيدة:
يقال جميع متاع الحياة الدنيا عرض بفتح الراء؛ ومنه: ( الدنيا عرض حاضر يأكل منها
البر والفاجر ) .
والعرض ( بسكون
الراء ) ما سوى
الدنانير والدراهم؛ فكل عرض عرض، وليس كل عرض عرضا. وفي صحيح مسلم عن النبي صلى
الله عليه وسلم: ( ليس
الغنى عن كثرة العرض إنما الغنى غنى النفس ) . وقد أخذ بعض العلماء هذا المعنى فنظمه:
تقنع بما
يكفيك واستعمل الرضا فإنك لا تدري أتصبح أم تمسي
فليس
الغنى عن كثرة المال إنما يكون الغنى والفقر من قبل النفس
وهذا
يصحح قول أبي عبيدة: فإن المال يشمل كل ما يتمول. وفي كتاب العين: العرض ما نيل من
الدنيا؛ ومنه قوله تعالى: « تريدون
عرض الدنيا » [ الأنفال: 67 ] وجمعه عروض. وفي المجمل لابن
فارس: والعرض ما يعترض الإنسان من مرض أو نحوه وعرض الدنيا ما كان فيها من مال قل
أو كثر. والعرض من الأثاث ما كان غير نقد. وأعرض الشيء إذا ظهر وأمكن. والعرض خلاف
الطول.
قوله
تعالى: « فعند
الله مغانم كثيرة » عدة من
الله تعالى بما يأتي به على وجهه ومن حله دون ارتكاب محظور، أي فلا تتهافتوا. « كذلك كنتم من قبل » أي كذلك كنتم تخفون إيمانكم عن
قومكم خوفا منكم على أنفسكم حتى من الله عليكم بإعزاز الدين وغلبة المشركين، فهم
الآن كذلك كل واحد منهم في قومه متربص أن يصل إليكم، فلا يصلح إذ وصل إليكم أن
تقتلوه حتى تتبينوا أمره. وقال ابن زيد: المعنى كذلك كنتم كفرة « فمن الله عليكم » بأن أسلمتم فلا تنكروا أن يكون
هو كذلك ثم يسلم لحينه حين لقيكم فيجب أن تتثبتوا في أمره.
استدل
بهذه الآية من قال: إن الإيمان هو القول، لقوله تعالى: « ولا تقولوا لمن ألقى إليكم
السلام لست مؤمنا » .
قالوا: ولما منع أن يقال لمن قال لا إله إلا الله لست مؤمنا منع من قتلهم بمجرد
القول. ولولا الإيمان الذي هو هذا القول لم يعب قولهم. قلنا: إنما شك القوم في
حالة أن يكون هذا القول منه تعوذا فقتلوه، والله لم يجعل لعباده غير الحكم
بالظاهر؛ وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ) وليس في ذلك أن الإيمان هو
الإقرار فقط؛ ألا ترى أن المنافقين كانوا يقولون هذا القول وليسوا بمؤمنين حسب ما
تقدم بيانه في « البقرة
» وقد كشف
البيان في هذا قوله عليه السلام: ( أفلا شققت عن قلبه ) ؟ فثبت أن الإيمان هو الإقرار وغيره، وأن حقيقته التصديق
بالقلب، ولكن ليس للعبد طريق إليه إلا ما سمع منه فقط. واستدل بهذا أيضا من قال:
إن الزنديق تقبل توبته إذا أظهر الإسلام؛ قال: لأن الله تعالى لم يفرق بين الزنديق
وغيره متى أظهر الإسلام. وقد مضى القول في هذا في أول البقرة. وفيها رد على
القدرية، فإن الله تعالى أخبر أنه من على المؤمنين من بين جميع الخلق بأن خصهم
بالتوفيق، والقدرية تقول: خلقهم كلهم للإيمان. ولو كان كما زعموا لما كان لاختصاص
المؤمنين بالمنة من بين الخلق معنى.
قوله
تعالى: «
فتبينوا » أعاد
الأمر بالتبيين للتأكيد. « إن
الله كان بما تعملون خبيرا » تحذير
عن مخالفة أمر الله؛ أي احفظوا أنفسكم وجنبوها الزلل الموبق لكم.
الآية:
95 - 96 ( لا يستوي القاعدون من
المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله
المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله
المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما، درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما
)
قوله
تعالى: « لا
يستوي القاعدون من المؤمنين » قال ابن
عباس: لا يستوي القاعدون عن بدر والخارجون إليها. ثم قال: « غير أولي الضرر » والضرر الزمانة. روى الأئمة
واللفظ لأبي داود عن زيد بن ثابت قال: كنت إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم
فغشيته السكينة فوقعت فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي، فما وجدت ثقل
شيء أثقل من فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم سري عنه فقال: ( اكتب ) فكتبت في كتف « لا يستوي القاعدون من
المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله » إلى آخر الآية؛ فقام ابن أم مكتوم - وكان رجلا أعمى - لما
سمع فضيلة المجاهدين فقال: يا رسول الله، فكيف بمن لا يستطيع الجهاد من المؤمنين ؟
فلما قضى كلامه غشيت رسول الله صلى الله عليه وسلم السكينة فوقعت فخذه على فخذي،
ووجدت من ثقلها في المرة الثانية كما وجدت في المرة الأولى، ثم سري عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقال: ( اقرأ
يا زيد ) فقرأت « لا يستوي القاعدون من
المؤمنين » فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: « غير
أولي الضرر » الآية
كلها. قال زيد: فأنزلها الله وحدها فألحقتها؛ والذي نفسي بيده لكأني أنظر إلى
ملحقها عند صدع في كتف. وفي البخاري عن مقسم مولى عبدالله بن الحارث أنه سمع ابن
عباس يقول: « لا
يستوي القاعدون من المؤمنين » عن بدر
والخارجون إلى بدر. قال العلماء: أهل الضرر هم أهل الأعذار إذ قد أضرت بهم حتى
منعتهم الجهاد. وصح وثبت في الخبر أنه عليه السلام قال - وقد قفل من بعض غزواته: ( إن بالمدينة رجالا ما قطعتم
واديا ولا سرتم مسيرا إلا كانوا معكم أولئك قوم حبسهم العذر ) . فهذا يقتضي أن صاحب العذر
يعطى أجر الغازي؛ فقيل: يحتمل أن يكون أجره مساويا وفي فضل الله متسع، وثوابه فضل
لا استحقاق؛ فيثيب على النية الصادقة مالا يثيب على الفعل. وقيل: يعطى أجره من غير
تضعيف فيفضله الغازي بالتضعيف للمباشرة. والله أعلم.
قلت:
والقول الأول أصح - إن شاء الله - للحديث الصحيح في ذلك ( إن بالمدينة رجالا ) ولحديث أبي كبشة الأنماري
قوله عليه السلام ( إنما
الدنيا لأربعة نفر ) الحديث
وقد تقدم في سورة « آل
عمران » . ومن
هذا المعنى ما ورد في الخبر ( إذا
مرض العبد قال الله تعالى اكتبوا لعبدي ما كان يعمله في الصحة إلى أن يبرأ أو
أقبضه إلي ) .
وقد تمسك
بعض العلماء بهذه الآية بأن أهل الديوان أعظم أجرا من أهل التطوع؛ لأن أهل الديوان
لما كانوا متملكين بالعطاء، ويصرفون في الشدائد، وتروعهم البعوث والأوامر، كانوا
أعظم من المتطوع؛ لسكون جأشه ونعمة باله في الصوائف الكبار ونحوها. قال ابن
محيريز: أصحاب العطاء أفضل من المتطوعة لما يروعون. قال مكحول: روعات البعوث تنفي
روعات القيامة.
وتعلق
بها أيضا من قال: إن الغنى أفضل من الفقر؛ لذكر الله تعالى المال الذي يوصل به إلى
صالح الأعمال. وقد اختلف الناس في هذه المسألة مع اتفاقهم أن ما أحوج من الفقر
مكروه، وما أبطر من الغنى مذموم؛ فذهب قوم إلى تفضيل الغني، لأن الغني مقتدر
والفقير عاجز، والقدرة أفضل من العجز. قال الماوردي: وهذا مذهب من غلب عليه حب
النباهة. وذهب آخرون إلى تفضيل الفقر، لأن الفقير تارك والغني ملابس، وترك الدنيا
أفضل من ملابستها. قال الماوردي: وهذا مذهب من غلب عليه حب السلامة. وذهب آخرون
إلى تفضيل التوسط بين الأمرين بأن يخرج عن حد الفقر إلى أدنى مراتب الغنى ليصل إلى
فضيلة الأمرين، وليسلم من مذمة الحالين. قال الماوردي: وهذا مذهب من يرى تفضيل
الاعتدال وأن ( خير
الأمور أوسطها ) . ولقد
أحسن الشاعر الحكيم حيث قال:
ألا
عائذا بالله من عدم الغنى ومن رغبة يوما إلى غير مرغب
قوله
تعالى: « غير
أولي الضرر » قراءة
أهل الكوفة وأبو عمرو « غير » بالرفع؛ قال الأخفش: هو نعت
للقاعدين؛ لأنهم لم يقصد بهم قوم بأعيانهم فصاروا كالنكرة فجاز وصفهم بغير؛
والمعنى لا يستوي القاعدون غير أولي الضرر؛ أي لا يستوي القاعدون الذين هم غير
أولي الضرر. والمعنى لا يستوي القاعدون الأصحاء؛ قال الزجاج. وقرأ أبو حيوة « غير » جعله نعتا للمؤمنين؛ أي من
المؤمنين الذين هم غير أولي الضرر من المؤمنين الأصحاء. وقرأ أهل الحرمين « غير » بالنصب على الاستثناء من
القاعدين أو من المؤمنين؛ أي إلا أولي الضرر فإنهم يستوون مع المجاهدين. وإن شئت
على الحال من القاعدين؛ أي لا يستوي القاعدون من الأصحاء أي في حال صحتهم؛ وجازت
الحال منهم؛ لأن لفظهم لفظ المعرفة، وهو كما تقول: جاءني زيد غير مريض. وما ذكرناه
من سبب النزول يدل على معنى النصب، والله أعلم.
قوله
تعالى: « فضل
الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة » وقد قال بعد هذا: « درجات منه ومغفرة ورحمة » فقال قوم: التفضيل بالدرجة ثم
بالدرجات إنما هو مبالغة وبيان وتأكيد. وقيل: فضل الله المجاهدين على القاعدين من
أولي الضرر بدرجة واحدة، وفضل الله المجاهدين على القاعدين من غير عذر درجات؛ قال
ابن جريج والسدي وغيرهما. وقيل: إن معنى درجة علو، أي أعلى ذكرهم ورفعهم بالثناء
والمدح والتقريظ. فهذا معنى درجة، ودرجات يعني في الجنة. قال ابن محيريز: سبعين
درجة بين كل درجتين حضر الفرس الجواد سبعين سنة. و « درجات » بدل من أجر وتفسير له، ويجوز
نصبه أيضا على تقدير الظرف؛ أي فضلهم بدرجات، ويجوز أن يكون توكيدا لقول « أجرا عظيما » لأن الأجر العظيم هو الدرجات
والمغفرة والرحمة، ويجوز الرفع؛ أي ذلك درجات. و « أجرا » نصب بـ « فضل » وإن شئت كان مصدرا وهو أحسن،
ولا ينتصب بـ « فضل » لأنه قد استوفى مفعوليه وهما
قوله: «
المجاهدين » و « على القاعدين » ؛ وكذا « درجة » . فالدرجات منازل بعضها أعلى
من بعض. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم ( إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله بين
الدرجتين كما بين السماء والأرض ) . « وكلا وعد الله الحسنى » « كلا » منصوب بـ « وعد » و « الحسنى » الجنة؛ أي وعد الله كلا الحسنى.
ثم قيل: المراد ( بكل ) المجاهدون خاصة. وقيل:
المجاهدون وأولو الضرر. والله أعلم.
الآيات:
97 - 99 ( إن الذين توفاهم الملائكة
ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله
واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا، إلا المستضعفين من الرجال
والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا، فأولئك عسى الله أن يعفو
عنهم وكان الله عفوا غفورا )
المراد
بها جماعة من أهل مكة كانوا قد أسلموا وأظهروا للنبي صلى الله عليه وسلم الإيمان
به، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم أقاموا مع قومهم وفتن منهم جماعة
فافتتنوا، فلما كان أمر بدر خرج منهم قوم مع الكفار؛ فنزلت الآية. وقيل: إنهم لما
استحقروا عدد المسلمين دخلهم شك في دينهم فارتدوا فقتلوا على الردة؛ فقال
المسلمون: كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأكرهوا على الخروج فاستغفروا لهم؛ فنزلت
الآية. والأول أصح. روى البخاري عن محمد بن عبدالرحمن قال: قطع على أهل المدينة
بعث فاكتتبت فيه فلقيت عكرمة مولى ابن عباس فأخبرته فنهاني عن ذلك أشد النهي، ثم
قال: أخبرني ابن عباس أن ناسا من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين
على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي السهم فيرمى به فيصيب أحدهم فيقتله أو
يضرب فيقتل؛ فأنزل الله تعالى: « إن
الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم » .
قوله
تعالى: « توفاهم
الملائكة » يحتمل
أن يكون فعلا ماضيا لم يستند بعلامة تأنيث، إذ تأنيث لفظ الملائكة غير حقيقي،
ويحتمل أن يكون فعلا مستقبلا على معنى تتوفاهم؛ فحذفت إحدى التاءين. وحكى ابن فورك
عن الحسن أن المعنى تحشرهم إلى النار. وقيل: تقبض أرواحهم؛ وهو أظهر. وقيل: المراد
بالملائكة ملك الموت؛ لقوله تعالى: « قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم » [ السجدة: 11 ] . و « ظالمي أنفسهم » نصب على الحال؛ أي في حال
ظلمهم أنفسهم، والمراد ظالمين أنفسهم فحذف النون استخفافا وأضاف؛ كما قال تعالى: « هديا بالغ الكعبة » [ المائدة: 95 ] . وقول الملائكة « فيم كنتم » سؤال تقريع وتوبيخ، أي أكنتم
في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أم كنتم مشركين ! وقول هؤلاء: « كنا مستضعفين في الأرض » يعني مكة، اعتذار غير صحيح؛ إذ
كانوا يستطيعون الحيل ويهتدون السبيل، ثم وقفتهم الملائكة على دينهم بقولهم « ألم تكن أرض الله واسعة » . ويفيد هذا السؤال والجواب
أنهم ماتوا مسلمين ظالمين لأنفسهم في تركهم الهجرة، وإلا فلو ماتوا كافرين لم يقل
لهم شيء من هذا، وإنما أضرب عن ذكرهم في الصحابة لشدة ما واقعوه، ولعدم تعين أحدهم
بالإيمان، واحتمال ردته. والله أعلم. ثم استثنى تعالى منهم من الضمير الذي هو
الهاء والميم في « مأواهم
» من كان
مستضعفا حقيقة من زمنى الرجال وضعفة النساء والولدان؛ كعياش بن أبي ربيعة وسلمة بن
هشام وغيرهم الذين دعا لهم الرسول صلى الله عليه وسلم. قال ابن عباس: كنت أنا وأمي
ممن عنى الله بهذه الآية؛ وذلك أنه كان من الولدان إذ ذاك، وأمه هي أم الفضل بنت
الحارث واسمها لبابة، وهي أخت ميمونة، وأختها الأخرى لبابة الصغرى، وهن تسع أخوات
قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهن: ( الأخوات مؤمنات ) ومنهن سلمى والعصماء وحفيدة ويقال في حفيدة: أم حفيد،
واسمها هزيلة. هن ست شقائق وثلاث لأم؛ وهن سلمى، وسلامة، وأسماء. بنت عميس
الخثعمية امرأة جعفر بن أبي طالب، ثم امرأة أبي بكر الصديق، ثم امرأة علي رضى الله
عنهم أجمعين.
قوله
تعالى: « فيم
كنتم » سؤال
توبيخ، وقد تقدم. والأصل « فيما » ثم حذفت الألف فرقا بين
الاستفهام والخبر، والوقف عليها ( فيمه ) لئلا تحذف الألف والحركة.
والمراد بقوله: « ألم
تكن أرض الله واسعة » المدينة؛
أي ألم تكونوا متمكنين قادرين على الهجرة والتباعد ممن كان يستضعفكم ! وفي هذه
الآية دليل على هجران الأرض التي يعمل فيها بالمعاصي. وقال سعيد بن جبير: إذا عمل
بالمعاصي في أرض فاخرج منها؛ وتلا « ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها » . وروي عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه قال: ( من فر
بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبرا استوجب الجنة وكان رفيق إبراهيم ومحمد عليهما
السلام ) . « فأولئك مأواهم جهنم » أي مثواهم النار. وكانت الهجرة
واجبة على كل من أسلم. « وساءت
مصيرا » نصب على
التفسير.
وقوله
تعالى: « لا يستطيعون
حيلة » الحيلة
لفظ عام لأنواع أسباب التخلص. والسبيل سبيل المدينة؛ فيما ذكر مجاهد والسدي
وغيرهما، والصواب أنه عام في جميع السبل. وقوله تعالى: « فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم
» هذا
الذي لا حيلة له في الهجرة لا ذنب له حتى يعفى عنه؛ ولكن المعنى أنه قد يتوهم أنه
يجب تحمل غاية المشقة في الهجرة، حتى أن من لم يتحمل تلك المشقة يعاقب فأزال الله
ذلك الوهم؛ إذ لا يجب تحمل غاية المشقة، بل كان يجوز ترك الهجرة عند فقد الزاد
والراحلة. فمعنى الآية؛ فأولئك لا يستقصى عليهم في المحاسبة؛ ولهذا قال: « وكان الله عفوا غفورا » والماضي والمستقبل في حقه
تعالى واحد، وقد تقدم.
الآية:
100 ( ومن يهاجر في سبيل الله يجد
في الأرض مراغما كثيرا وسعة ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه
الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما )
قوله
تعالى: « ومن
يهاجر في سبيل الله يجد » شرط
وجوابه. « في
الأرض مراغما » اختلف
في تأويل المراغم؛ فقال مجاهد: المراغم المتزحزح. وقال ابن عباس والضحاك والربيع
وغيرهم: المراغم المتحول والمذهب. وقال ابن زيد: والمراغم المهاجر؛ وقاله أبو
عبيدة. قال النحاس: فهذه الأقوال متفقة المعاني. فالمراغم المذهب والمتحول في حال
هجرة، وهو اسم الموضع الذي يراغم فيه، وهو مشتق من الرغام. ورغم أنف فلان أي لصق
بالتراب. وراغمت فلانا هجرته وعاديته، ولم أبال إن رغم أنفه. وقيل: إنما سمي
مهاجرا ومراغما لأن الرجل كان إذا أسلم عادى قومه وهجرهم، فسمى خروجه مراغما، وسمى
مصيره إلى النبي صلى الله عليه وسلم هجرة. وقال السدي: المراغم المبتغي للمعيشة.
وقال ابن القاسم: سمعت مالكا يقول: المراغم الذهاب في الأرض. وهذا كله تفسير
بالمعنى، وكله قريب بعضه من بعض؛ فأما الخاص باللفظة فإن المراغم موضع المراغمة
كما ذكرنا، وهو أن يرغم كل واحد من المتنازعين أنف صاحبه بأن يغلبه على مراده؛
فكأن كفار قريش أرغموا أنوف المحبوسين بمكة، فلو هاجر منهم مهاجر لأرغم أنوف قريش
لحصوله في منعة منهم، فتلك المنعة هي موضع المراغمة. ومنه قول النابغة.
كطرد
يلاذ بأركانه عزيز المراغم والمهرب
قوله
تعالى: « وسعة » أي في الرزق؛ قال ابن عباس
والربيع والضحاك. وقال قتادة: المعنى سعة من الضلالة إلى الهدى ومن العلة إلى
الغنى. وقال مالك: السعة سعة البلاد. وهذا أشبه بفصاحة العرب؛ فإن بسعة الأرض
وكثرة المعاقل تكون السعة في الرزق، واتساع الصدر لهمومه وفكره وغير ذلك من وجوه الفرج.
ونحو هذا المعنى قول الشاعر:
وكنت إذا
خليل رام قطعي وجدت وراي منفسحا عريضا
آخر:
لكان لي
مضطرب واسع في الأرض ذات الطول والعرض
قال
مالك: هذه الآية دالة على أنه ليس لأحد المقام بأرض يسب فيها السلف ويعمل فيها
بغير الحق. وقال: والمراغم الذهاب في الأرض، والسعة سعة البلاد على ما تقدم.
واستدل أيضا بعض العلماء بهذه الآية على أن للغازي إذا خرج إلى الغزو ثم مات قبل
القتال له سهمه وإن لم يحضر الحرب؛ رواه ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن أهل
المدينة. وروي ذلك عن ابن المبارك أيضا.
قوله
تعالى: « ومن
يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله » قال عكرمة مولى ابن عباس: طلبت اسم هذا الرجل أربع عشرة سنة
حتى وجدته. وفي قول عكرمة هذا دليل على شرف هذا العلم قديما، وأن الاعتناء به حسن
والمعرفة به فضل؛ ونحو منه قول ابن عباس: مكثت سنين أريد أن أسأل عمر عن المرأتين
اللتين تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما يمنعني إلا مهابته. والذي
ذكره عكرمة هو ضمرة بن العيص أو العيص بن ضمرة بن زنباع؛ حكاه الطبري عن سعيد بن
جبير. ويقال فيه: ضميرة أيضا. ويقال: جندع بن ضمرة من بني ليث، وكان من المستضعفين
بمكة وكان مريضا، فلما سمع ما أنزل الله في الهجرة قال: أخرجوني؛ فهيئ له فراش ثم
وضع عليه وخرج به فمات في الطريق بالتنعيم، فأنزل الله فيه « ومن يخرج من بيته مهاجرا » الآية. وذكر أبو عمر أنه قد
قيل فيه: خالد بن حزام بن خويلد ابن أخي خديجة، وأنه هاجر إلى أرض الحبشة فنهشته
حية في الطريق فمات قبل أن يبلغ أرض الحبشة؛ فنزلت فيه الآية، والله أعلم. وحكى
أبو الفرج الجوزي أنه حبيب بن ضمرة. وقيل: ضمرة بن جندب الضمري؛ عن السدي. وحكي عن
عكرمة أنه جندب بن ضمرة الجندعي. وحكي عن ابن جابر أنه ضمرة بن بغيض الذي من بني
ليث. وحكى المهدوي أنه ضمرة بن ضمرة بن نعيم. وقيل: ضمرة بن خزاعة، والله أعلم.
وروى معمر عن قتادة قال: لما نزلت « إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم » الآية، قال رجل من المسلمين
وهو مريض: والله ما لي من عذر ! إني لدليل في الطريق، وإني لموسر فاحملوني. فحملوه
فأدركه الموت في الطريق؛ فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: لو بلغ إلينا لتم
أجره؛ وقد مات بالتنعيم. وجاء بنوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبروه بالقصة،
فنزلت هذه الآية « ومن
يخرج من بيته مهاجرا » الآية.
وكان اسمه ضمرة بن جندب، ويقال: جندب بن ضمرة على ما تقدم. « وكان الله غفورا » لما كان منه من الشرك. « رحيما » حين قبل توبته.
قال ابن
العربي: قسم العلماء رضي الله عنهم الذهاب في الأرض قسمين: هربا وطلبا؛ فالأول
ينقسم إلى ستة أقسام: الأول: الهجرة وهي الخروج من دار الحرب إلى دار الإسلام،
وكانت فرضا في أيام النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه الهجرة باقية مفروضة إلى يوم
القيامة، والتي انقطعت بالفتح هي القصد إلى النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان؛ فإن
بقي في دار الحرب عصى؛ ويختلف في حاله. الثاني: الخروج من أرض البدعة؛ قال ابن
القاسم: سمعت مالكا يقول لا يحل لأحد أن يقيم بأرض يسب فيها السلف. قال ابن
العربي: وهذا صحيح؛ فإن المنكر إذا لم تقدر أن تغيره فزل عنه، قال الله تعالى: « وإذا رأيت الذين يخوضون في
آياتنا فأعرض عنهم » إلى
قوله «
الظالمين » [ الأنعام: 68 ] . الثالث: الخروج من أرض غلب
عليها الحرام: فإن طلب الحلال فرض على كل مسلم. الرابع: الفرار من الأذية في البدن؛
وذلك فضل من الله أرخص فيه، فإذا خشي على نفسه فقد أذن الله في الخروج عنه والفرار
بنفسه ليخلصها من ذلك المحذور. وأول من فعله إبراهيم عليه السلام؛ فإنه لما خاف من
قومه قال: « إني
مهاجر إلى ربي » [ العنكبوت: 26 ] ، وقال: « إني ذاهب إلى ربي سيهدين » [ الصافات: 99 ] . وقال مخبرا عن موسى: « فخرج منها خائفا يترقب » [ القصص: 21 ] . الخامس: خوف المرض في
البلاد الوخمة والخروج منها إلى الأرض النزهة. وقد أذن صلى الله عليه وسلم للرعاة
حين استوخموا المدينة أن يخرجوا إلى المسرح فيكونوا فيه حتى يصحوا. وقد استثنى من
ذلك الخروج من الطاعون؛ فمنع الله سبحانه منه بالحديث الصحيح عن نبيه صلى الله
عليه وسلم، وقد تقدم بيانه في « البقرة
» . بيد
أن علماءنا قالوا: هو مكروه. السادس: الفرار خوف الأذية في المال؛ فإن حرمة مال
المسلم كحرمة دمه، والأهل مثله وأوكد. وأما قسم الطلب فينقسم قسمين: طلب دين وطلب
دنيا.
فأما طلب
الدين فيتعدد بتعدد أنواعه إلى تسعة أقسام: الأول: سفر العبرة؛ قال الله تعالى: « أولم يسيروا في الأرض فينظروا
كيف كان عاقبة الذين من قبلهم » [ الروم: 9 ] وهو كثير. ويقال: إن ذا
القرنين إنما طاف الأرض ليرى عجائبها. وقيل: لينفذ الحق فيها. الثاني: 3 سفر الحج.
والأول وإن كان ندبا فهذا فرض. الثالث: سفر الجهاد وله أحكامه. الرابع: سفر
المعاش؛ فقد يتعذر على الرجل معاشه مع الإقامة فيخرج في طلبه لا يزيد عليه. من صيد
أو احتطاب أو احتشاش؛ فهو فرض عليه. الخامس: سفر التجارة والكسب الزائد على القوت،
وذلك جائز بفضل الله سبحانه وتعالى، قال الله تعالى: « ليس عليكم جناح أن تبتغوا
فضلا من ربكم » [ البقرة: 198 ] يعني التجارة، وهي نعمة من
الله بها في سفر الحج، فكيف إذا انفردت. السادس: في طلب العلم وهو مشهور. السابع:
قصد البقاع؛ قال صلى الله عليه وسلم: ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد ) . الثامن: الثغور للرباط بها
وتكثير سوادها للذب عنها. التاسع: زيارة الإخوان في الله تعالى: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: ( زار
رجل أخا له في قرية فأرصد الله له ملكا على مدرجته فقال أين تريد فقال أريد أخا لي
في هذه القرية قال: هل لك من نعمة تربها عليه قال لا غير أني أحببته في الله عز
وجل قال فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه ) . رواه مسلم وغيره.
الآية:
101 ( وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم
جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم
عدوا مبينا )
قوله
تعالى: « ضربتم
» سافرتم،
وقد تقدم. واختلف العلماء في حكم القصر في السفر؛ فروي عن جماعة أنه فرض. وهو قول
عمر بن عبدالعزيز والكوفيين والقاضي إسماعيل وحماد بن أبي سليمان؛ واحتجوا بحديث
عائشة رضي الله عنها ( فرضت
الصلاة ركعتين ركعتين الحديث، ولا حجة فيه لمخالفتها له؛ فإنه كانت تتم في السفر
وذلك يوهنه. وإجماع فقهاء الأمصار على أنه ليس بأصل يعتبر في صلاة المسافر خلف
المقيم؛ وقد قال غيرها من الصحابة كعمر وابن عباس وجبير بن مطعم: ( إن الصلاة فرضت
في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة ) رواه مسلم عن ابن عباس. ثم إن
حديث عائشة قد رواه ابن عجلان عن صالح بن كيسان عن عروة عن عائشة قالت: فرض رسول
الله صلى الله عليه وسلم الصلاة ركعتين ركعتين. وقال فيه الأوزاعي عن ابن شهاب عن
عروة عن عائشة قالت: فرض الله الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين
ركعتين؛ الحديث، وهذا اضطراب. ثم إن قولها: ( فرضت الصلاة ) ليس على ظاهره؛ فقد
خرج عنه صلاة المغرب والصبح؛ فإن المغرب ما زيد فيها ولا نقص منها. وكذلك الصبح،
وهذا كله يضعف متنه لا سنده. وحكى ابن الجهم أن أشهب روى عن مالك أن القصر فرض،
ومشهور مذهبه وجل أصحابه وأكثر العلماء من السلف والخلف أن القصر سنة، وهو قول
الشافعي، وهو الصحيح على ما يأتي بيانه إن شاء الله. ومذهب عامة البغداديين من
المالكيين أن الفرض التخيير؛ وهو قول أصحاب الشافعي. ثم اختلفوا في أيهما أفضل؛
فقال بعضهم: القصر أفضل؛ وهو قول الأبهري وغيره. وقيل: إن الإتمام أفضل؛ وحكي عن
الشافعي. وحكى أبو سعيد الفروي المالكي أن الصحيح على ما يأتي مذهب مالك التخيير
للمسافر في الإتمام والقصر.
قلت:
وهو الذي يظهر من قوله سبحانه وتعالى: « فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة » إلا أن مالكا رحمه الله
يستحب له القصر، وكذلك يرى عليه الإعادة في الوقت إن أتم. وحكى أبو مصعب في « مختصره » عن مالك وأهل المدينة قال:
القصر في السفر للرجال والنساء سنة. قال أبو عمر: وحسبك بهذا في مذهب مالك، مع أنه
لم يختلف فول: أن من أتم في السفر يعيد ما دام في الوقت؛ وذلك استحباب عند من فهم،
لا إيجاب. وقال الشافعي: القصر في غير الخوف بالسنة، وأما في الخوف مع السفر
فبالقرآن والسنة؛ ومن صلى أربعا فلا شيء عليه، ولا أحب لأحد أن يتم في السفر رغبة
عن السنة. وقال أبو بكر الأثرم: قلت لأحمد بن حنبل للرجل أن يصلي في السفر أربعا ؟
قال: لا، ما يعجبني، السنة ركعتان. وفي موطأ مالك عن ابن شهاب عن رجل من آل خالد
بن أسيد، أنه سأل عبدالله بن عمر فقال: يا أبا عبدالرحمن إنا نجد صلاة الخوف وصلاة
الحضر في القرآن ولا نجد صلاة السفر ؟ فقال عبدالله بن عمر: يا ابن أخي إن الله
تبارك وتعالى بعث إلينا محمدا صلى الله عليه وسلم ولا نعلم شيئا، فإنا نفعل كما
رأيناه يفعل. ففي هذا الخبر قصر الصلاة في السفر من غير خوف ستة لا فريضة؛ لأنها
لا ذكر لها في القرآن، وإنما القصر المذكور في القرآن إذا كان سفرا وخوفا واجتمعا؛
فلم يبح القصر في كتابه إلا مع هذين الشرطين. ومثله في القرآن: « ومن لم يستطع منكم طولا أن
ينكح » [ النساء: 25 ] الآية، وقد تقدم. ثم قال
تعالى: « فإذا
اطمأننتم فأقيموا الصلاة » [ النساء:103 ] أي فأتموها؛ وقصر رسول الله
صلى الله عليه وسلم من أربع إلى اثنتين إلا المغرب في أسفاره كلها آمنا لا يخاف
إلا الله تعالى؛ فكان ذلك سنة مسنونة منه صلى الله عليه وسلم، زيادة في أحكام الله
تعالى كسائر ما سنة وبينه، مما ليس له في القرآن ذكر. وقوله: « كما رأيناه يفعل » مع حديث عمر حيث سأل رسول
الله صلى الله عليه وسلم عن القصر في السفر من غير خوف؛ فقال: ( تلك صدقة تصدق
الله بها عليكم فأقبلوا صدقته ) يدل على أن الله تعالى قد يبيح الشيء في كتابه
بشرط ثم يبيح ذلك الشيء على لسان نبيه من غير ذلك الشرط. وسأل حنظلة ابن عمر عن
صلاة السفر فقال: ركعتان.
قلت:
فأين قوله تعالى: « إن
خفتم أن يفتنكم الذين كفروا » ونحن
آمنون؛ قال: سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهذا ابن عمر قد أطلق عليها سنة؛
وكذلك قال ابن عباس. فأين المذهب عنهما ؟ قال أبو عمر: ولم يقم مالك إسناد هذا
الحديث؛ لأنه لم يسم الرجل الذي سأل ابن عمر، وأسقط من الإسناد رجلا، والرجل الذي
لم يسمه هو أمية بن عبدالله بن خالد بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس بن
عبد مناف، والله أعلم.
واختلف
العلماء في حد المسافة التي تقصر فيها الصلاة؛ فقال داود: تقصر في كل سفر طويل أو
قصير، ولو كان ثلاثة أميال من حيث تؤتى الجمعة؛ متمسكا بما رواه مسلم عن يحيى بن
يزيد الهنائي قال: سألت أنس بن مالك عن قصر الصلاة فقال: كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ - شعبة الشاك - صلى ركعتين.
وهذا لا حجة فيه؛ لأنه مشكوك فيه، وعلى تقدير أحدهما فلعله حد المسافة التي بدأ
منها القصر، وكان سفرا طويلا زائدا على ذلك، والله أعلم. قال ابن العربي: وقد
تلاعب قوم بالدين فقالوا: إن من خرج من البلد إلى ظاهره قصر وأكل، وقائل هذا أعجمي
لا يعرف السفر عند العرب أو مستخف بالدين، ولولا أن العلماء ذكروه لها رضيت أن
ألمحه بمؤخر عيني، ولا أفكر فيه بفضول قلبي. ولم يذكر حد السفر الذي يقع به القصر
لا في القرآن ولا في السنة، وإنما كان كذلك لأنها كانت لفظة عربية مستقر علمها عند
العرب الذين - خاطبهم الله تعالى بالقرآن؛ فنحن نعلم قطعا أن من برز عن الدور لبعض
الأمور أنه لا يكون مسافرا لغة ولا شرعا، وإن مشى مسافرا ثلاثة أيام فإنه مسافر
قطعا. كما أنا نحكم على أن من مشى يوما وليلة كان مسافرا؛ لقول النبي صلى الله
عليه وسلم: ( لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم إلا مع ذي
محرم منها ) وهذا هو الصحيح، لأنه وسط بين الحالين وعليه عول مالك، ولكنه لم يجد
هذا الحديث متفقا عليه، وروي مرة ( يوما وليلة ) ومرة ( ثلاثة أيام ) فجاء إلى
عبدالله بن عمر فعول على فعله، فإنه كان يقصر الصلاة إلى رئم، وهي أربعة برد؛ لأن
ابن عمر كان كثير الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم. قال غيره: وكافة العلماء على
أن القصر إنما شرع تخفيفا، وإنما يكون في السفر الطويل الذي تلحق به المشقة غالبا،
فراعى مالك والشافعي وأصحابهما والليث والأوزاعي وفقهاء أصحاب الحديث أحمد وإسحاق
وغيرهما يوما تاما. وقول مالك يوما وليلة راجع إلى اليوم التام، لأنه لم يرد بقول:
مسيرة يوم وليلة أن يسير النهار كله والليل كله، وإنما أراد أن يسير سيرا يبيت فيه
بعيدا عن أهله ولا يمكنه الرجوع إليهم. وفي البخاري: وكان ابن عمر وابن عباس
يفطران ويقصران في أربعة برد، وهي ستة عشر فرسخا، وهذا مذهب مالك. وقال الشافعي
والطبري: ستة وأربعون ميلا. وعن مالك في العتبية فيمن خرج إلى ضيعته على خمسة
وأربعين ميلا قال: يقصر، وهو أمر متقارب. وعن مالك في الكتب المنثورة: أنه يقصر في
ستة وثلاثين ميلا، وهي تقرب من يوم وليلة. وقال يحيى بن عمر: يعيد أبدا. ابن
عبدالحكم: في الوقت !. وقال الكوفيون: لا يقصر في أقل من مسيرة ثلاثة أيام؛ وهو
قول عثمان وابن مسعود وحذيفة. وفي صحيح البخاري عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: ( لا تسافر المرأة ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم ) . قال أبو حنيفة: ثلاثة
أيام ولياليها بسير الإبل ومشي الأقدام. وقال الحسن والزهري: تقصر الصلاة في مسيرة
يومين؛ وروي هذا القول عن مالك، ورواه أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: ( لا تسافر المرأة مسيرة ليلتين إلا مع زوج أو ذي محرم ) . وقصر ابن عمر
في ثلاثين ميلا، وأنس في خمسة عشر ميلا. وقال الأوزاعي: عامة العلماء في القصر على
اليوم التام، وبه نأخذ. قال أبو عمر: اضطربت الآثار المرفوعة في هذا الباب كما ترى
في ألفاظها؛ ومجملها عندي - والله أعلم - أنها خرجت على أجوبة السائلين، فحدث كل
واحد بمعنى ما سمع، كأنه قيل له صلى في وقت ما: هل تسافر المرأة مسيرة يوم بغير
محرم ؟ فقال: لا. وقيل له في وقت آخر: هل تسافر المرأة يومين بغير محرم ؟ فقال:
لا. وقال له آخر: هل تسافر المرأة مسيرة ثلاثة أيام بغير محرم ؟ فقال: لا. وكذلك
معنى الليلة والبريد على ما روي، فأدى كل واحد ما سمع على المعنى، والله أعلم.
ويجمع معاني الآثار في هذا الباب - وإن اختلفت ظواهرها - الحظر على المرأة أن
تسافر سفرا يخاف عليها فيه الفتنة بغير محرم، قصيرا كان أو طويلا. والله أعلم.
واختلفوا
في نوع السفر الذي تقصر فيه الصلاة، فأجمع الناس على الجهاد والحج والعمرة وما
ضارعها من صلة رحم وإحياء نفس. واختلفوا فيما سوى ذلك، فالجمهور على جواز القصر في
السفر المباح كالتجارة ونحوها. وروي عن ابن مسعود أنه قال: لا تقصر الصلاة إلا في
حج أو جهاد. وقال عطاء: لا تقصر إلا في سفر طاعة وسبيل من سبل الخير. وروي عنه
أيضا: تقصر في كل السفر المباح مثل قول الجمهور. وقال مالك: إن خرج للصيد لا
لمعاشه ولكن متنزها، أو خرج لمشاهدة بلدة متنزها ومتلذذا يقصر. والجمهور من
العلماء على أنه لا قصر في سفر المعصية؛ كالباغي وقاطع الطريق وما في معناهما.
وروي عن أبي حنيفة والأوزاعي إباحة القصر في جميع ذلك، وروي عن مالك. وقد تقدم في « البقرة » واختلفوا عن أحمد، فمرة قال
بقول الجمهور، ومرة قال: لا يقصر إلا في حج أو عمرة. والصحيح ما قال الجمهور، لأن
القصر إنما شرع تخفيفا عن المسافر للمشقات اللاحقة فيه، ومعونته على ما هو بصدده
مما يجوز، وكل الأسفار في ذلك سواء؛ لقوله تعالى: « وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح » أي إثم « أن تقصروا من الصلاة » فعم. وقال عليه السلام ( خير
عباد الله الذين إذا سافروا قصروا وأفطروا ) . وقال الشعبي: إن الله يحب أن يعمل
برخصه كما يحب أن يعمل بعزائمه. وأما سفر المعصية فلا يجوز القصر فيه؛ لأن ذلك
يكون عونا له على معصية الله. والله تعالى يقول: « وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان
» [ المائدة: 2 ]
واختلفوا
متى يقصر، فالجمهور على أن المسافر لا يقصر حتى يخرج من بيوت القرية، وحينئذ هو
ضارب في الأرض، وهو قول مالك في المدونة. ولم يحد مالك في القرب حدا. وروي عنه إذا
كانت قرية تجمع أهلها فلا يقصر أهلها حتى يجاوزوها بثلاثة أميال، وإلى ذلك في
الرجوع. وإن كانت لا تجمع أهلها قصروا إذا جاوزوا بساتينها. وروي عن الحارث بن أبي
ربيعة أنه أراد سفرا فصلى بهم ركعتين في منزله، وفيهم الأسود بن يزيد وغير واحد
أصحاب ابن مسعود، وبه قال عطاء بن أبي رباح وسليمان بن موسى. قلت: ويكون معنى
الآية على هذا: « وإذا
ضربتم في الأرض » أي
إذا عزمتم على الضرب في الأرض. والله أعلم. وروي عن مجاهد أنه قال: لا يقصر
المسافر يومه الأول حتى الليل. وهذا شاذ؛ وقد ثبت من حديث أنس بن مالك أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بالمدينة أربعا وصلى العصر بذي الحليفة ركعتين.
أخرجه الأئمة، وبين ذي الحليفة والمدينة نحو من ستة أميال أو سبعة.
الخامسة:
وعلى المسافر أن ينوي القصر من حين الإحرام؛ فإن افتتح الصلاة بنية القصر ثم عزم
على المقام في أثناء صلاته جعلها نافلة، وإن كان ذلك بعد أن صلى منها ركعة أضاف
إليها أخرى وسلم، ثم صلى صلاة مقيم. قال الزهري وابن الجلاب: هذا - والله أعلم -
استحباب ولو بنى على صلاته وأتمها أجزأته صلاته. قال أبو عمر: هو عندي كما قالا؛
لأنها ظهر، سفرية كانت أو حضرية وكذلك سائر الصلوات الخمس.
واختلف
العلماء من هذا الباب في مدة الإقامة التي إذا نواها المسافر أتم؛ فقال مالك
والشافعي والليث بن سعد والطبري وأبو ثور: إذا نوى الإقامة أربعة أيام أتم؛ وروي
عن سعيد بن المسيب. وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري: إذا نوى إقامة خمس عشرة ليلة
أتم، وإن كان أقل قصر. وهو قول ابن عمر وابن عباس ولا مخالف لهما من الصحابة فيما
ذكر الطحاوي، وروي عن سعيد أيضا. وقال أحمد: إذا جمع المسافر مقام إحدى وعشرين
صلاة مكتوبة قصر، وإن زاد على ذلك أتم، وبه قال داود. والصحيح ما قاله مالك؛ لحديث
ابن الحضرمي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جعل للمهاجر أن يقيم بمكة بعد قضاء
نسكه ثلاثة أيام ثم يصدر. أخرجه الطحاوي وابن ماجة وغيرهما. ومعلوم أن الهجرة إذ
كانت مفروضة قبل الفتح كان المقام بمكة لا يجوز؛ فجعل النبي صلى الله عليه وسلم
للمهاجر ثلاثة أيام لتقضية حوائجه وتهيئة أسبابه، ولم يحكم لها بحكم المقام ولا في
حيز الإقامة، وأبقى عليه فيها حكم المسافر، ومنعه من مقام الرابع، فحكم له بحكم
الحاضر القاطن؛ فكان ذلك أصلا معتمدا عليه. ومثله ما فعله عمر رضي الله عنه حين
أجلى اليهود لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فجعل لهم مقام ثلاثة أيام في قضاء
أمورهم. قال ابن العربي: وسمعت بعض أحبار المالكية يقول: إنما كانت الثلاثة الأيام
خارجة عن حكم الإقامة؛ لأن الله تعالى أرجأ فيها من أنزل به العذاب وتيقن الخروج
عن الدنيا؛ فقال تعالى: « تمتعوا
في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب » [
هود: 65 ] .
وفي
المسألة قول غير هذه الأقوال، وهو أن المسافر يقصر أبدا حتى يرجع إلى وطنه، أو
ينزل وطنا له. روي عن أنس أنه أقام سنتين بنيسابور يقصر الصلاة. وقال أبو مجلز:
قلت لابن عمر: إني آتي المدينة فأقيم بها السبعة أشهر والثمانية طالبا حاجة؛ فقال:
صل ركعتين. وقال أبو إسحاق السبيعي: أقمنا بسجستان ومعنا رجال من أصحاب ابن مسعود
سنتين نصلي ركعتين. وأقام ابن عمر بأذربيجان يصلي ركعتين ركعتين؛ وكان الثلج حال
بينهم وبين القفول: قال أبو عمر: محمل هذه الأحاديث عندنا على أن لا نية لواحد من
هؤلاء المقيمين هذه المدة؛ وإنما مثل ذلك أن يقول: أخرج اليوم، أخرج غدا؛ وإذا كان
هكذا فلا عزيمة ههنا على الإقامة.
روى
مسلم عن عروة عن عائشة قالت: فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين، ثم أتمها في
الحضر، وأقرت صلاة السفر على الفريضة الأولى. قال الزهري: فقلت لعروة ما بال عائشة
تتم في السفر ؟ قال: إنها تأولت ما تأول عثمان. وهذا جواب ليس بمستوعب. وقد اختلف
الناس في تأويل إتمام عثمان وعائشة رضي الله عنهما على أقوال: فقال معمر عن
الزهري: إن عثمان رضي الله عنه إنما صلى بمنى أربعا لأنه أجمع على الإقامة بعد
الحج. وروى مغيرة عن إبراهيم أن عثمان صلى أربعا لأنه اتخذها وطنا. وقال يونس عن
الزهري قال: لما اتخذ عثمان الأموال بالطائف وأراد أن يقيم بها صلى أربعا. قال: ثم
أخذ به الأئمة بعده. وقال أيوب عن الزهري، إن عثمان بن عفان أتم الصلاة بمنى من
أجل الأعراب؛ لأنهم كثروا عامئذ فصلى بالناس أربعا ليعلمهم أن الصلاة أربع. ذكر
هذه الأقوال كلها أبو داود في مصنفه في كتاب المناسك في باب الصلاة بمنى. وذكر أبو
عمر في ( التمهيد ) قال ابن جريج: وبلغني إنما أوفاها عثمان أربعا بمنى، من أجل أن
أعرابيا ناداه في مسجد الخيف بمنى فقال: يا أمير المؤمنين، ما زلت أصليها ركعتين
منذ رأيتك عام الأول؛ فخشي عثمان أن يظن جهال الناس أنما الصلاة ركعتان. قال ابن
جريج: وإنما أوفاها بمنى فقط. قال أبو عمر: وأما التأويلات في إتمام عائشة فليس
منها شيء يروى عنها، وإنما هي ظنون وتأويلات لا يصحبها دليل. وأضعف ما قيل في ذلك:
إنها أم المؤمنين، وإن الناس حيث كانوا هم بنوها، وكان منازلهم منازلها، وهل كانت
أم المؤمنين إلا أنها زوج النبي أبي المؤمنين صلى الله عليه وسلم وهو الذي سن
القصر في أسفاره وفي غزواته وحجه وعمره. وفي قراءة أبي بن كعب ومصحفه « النبي أولى بالمؤمنين من
أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم » . وقال مجاهد في قوله تعالى: « هؤلاء بناتي هن أطهر لكم » [ هود: 78 ] قال: لم يكن بناته ولكن كن
نساء أمته، وكل نبي فهو أبو أمته.
قلت:
وقد اعترض على هذا بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان مشرعا، وليست هي كذلك
فانفصلا. وأضعف من هذا قول من قال: إنها حيث أتمت لم تكن في سفر جائز؛ وهذا باطل
قطعا، فإنها كانت أخوف لله وأتقى من أن تخرج في سفر لا يرضاه. وهذا التأويل عليها
من أكاذيب الشيعة المبتدعة وتشنيعاتهم؛ سبحانك هذا بهتان عظيم ! وإنما خرجت رضي
الله عنها مجتهدة محتسبة تريد أن تطفئ نار الفتنة، إذ هي أحق أن يستحيا منها فخرجت
الأمور عن الضبط. وسيأتي بيان هذا المعنى إن شاء الله تعالى. وقيل: إنها أتمت
لأنها لم تكن ترى القصر إلا في الحج والعمرة والغزوة. وهذا باطل؛ لأن ذلك لم ينقل
عنها ولا عرف من مذهبها، ثم هي قد أتمت في سفرها إلى علي. وأحسن ما قيل في قصرها
وإتمامها أنها أخذت برخصة الله؛ لتري الناس، أن الإتمام ليس فيه حرج وإن كان غيره
أفضل. وقد قال عطاء: القصر سنة ورخصة، وهو الراوي عن عائشة أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم صام وأفطر وأتم الصلاة وقصر في السفر، رواه طلحة بن عمر. وعنه قال: كل
ذلك كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، صام وأفطر وقصر الصلاة وأتم. وروى
النسائي بإسناد صحيح أن عائشة اعتمرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة
إلى مكة حتى إذا قدمت مكة قالت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي ! قصرت وأتممت وأفطرت
وصمت ؟ فقال: ( أحسنت يا عائشة ) وما عاب علي. كذا هو مقيد بفتح التاء الأولى وضم
الثانية في الكلمتين. وروى الدارقطني عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان
يقصر في السفر ويتم ويفطر ويصوم؛ قال إسناده صحيح.
قوله
تعالى: « أن
تقصروا من الصلاة » « أن » في موضع نصب، أي في أن
تقصروا. قال أبو عبيد: فيها ثلاث لغات: قصرت الصلاة وقصرتها وأقصرتها. واختلف
العلماء في تأويله، فذهب جماعة من العلماء إلى أنه القصر إلى اثنتين من أربع في
الخوف وغيره؛ لحديث يعلي بن أمية على ما يأتي. وقال آخرون: إنما هو قصر الركعتين
إلى ركعة، والركعتان في السفر إنما هي تمام، كما قال عمر رضي الله عنه: تمام غير
قصر، وقصرها أن تصير ركعة. قال السدي: إذا صليت في السفر ركعتين فهو تمام، والقصر
لا يحل إلا أن تخاف، فهذه الآية مبيحة أن تصلي كل طائفة ركعة لا تزيد عليها شيئا،
ويكون للإمام ركعتان. وروي نحوه عن ابن عمر وجابر بن عبدالله وكعب، وفعله حذيفة
بطبرستان وقد سأله الأمير سعيد بن العاص عن ذلك. وروى ابن عباس أن النبي صلى الله
عليه وسلم صلى كذلك في غزوة ذي قرد ركعة لكل طائفة ولم يقضوا. وروى جابر بن
عبدالله أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى كذلك بأصحابه يوم محارب خصفة وبني ثعلبة.
وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى كذلك بين ضجنان وعسفان.
قلت:
في صحيح مسلم عن ابن عباس قال: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم
في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة. وهذا يؤيد هذا القول ويعضده، إلا
أن القاضي أبا بكر بن العربي ذكر في كتابه المسمى ( بالقبس ) : قال علماؤنا رحمة
الله عليهم هذا الحديث مردود بالإجماع.
قلت:
وهذا لا يصح، وقد ذكر هو وغيره الخلاف والنزاع فلم يصح ما ادعوه من الإجماع وبالله
التوفيق. وحكى أبو بكر الرازي الحنفي في ( أحكام القرآن ) أن المراد بالقصر ههنا
القصر في صفة الصلاة بترك الركوع والسجود إلى الإيماء، وبترك القيام إلى الركوع.
وقال آخرون: هذه الآية مبيحة للقصر من حدود الصلاة وهيئتها عند المسايفة واشتعال
الحرب، فأبيح لمن هذه حاله أن يصلي إيماء برأسه، ويصلي ركعة واحدة حيث توجه، إلى
تكبيرة؛ على ما تقدم في « البقرة
» .
ورجح الطبري هذا القول وقال: إنه يعادل قوله تعالى: « فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة
» [ النساء: 103 ] أي بحدودها وهيئتها
الكاملة.
قلت:
هذه الأقوال الثلاثة في المعنى متقاربة، وهي مبنية على أن فرض المسافر القصر، وإن
الصلاة في حقه ما نزلت إلا ركعتين، فلا قصر. ولا يقال في العزيمة لا جناح، ولا
يقال فيما شرع ركعتين إنه قصر، كما لا يقال في صلاة الصبح ذلك. وذكر الله تعالى
القصر بشرطين والذي يعتبر فيه الشرطان صلاة الخوف؛ هذا ما ذكره أبو بكر الرازي في
( أحكام القرآن ) واحتج به، ورد عليه بحديث يعلى بن أمية على ما يأتي آنفا إن شاء
الله تعالى.
قوله
تعالى: « إن
خفتم » خرج
الكلام على الغالب، إذ كان الغالب على المسلمين الخوف في الأسفار؛ ولهذا قال يعلى
بن أمية قلت لعمر: ما لنا نقصر وقد أمنا. قال عمر: عجبت مما عجبت منه فسألت رسول
الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: ( صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته )
.
قلت:
وقد استدل أصحاب الشافعي وغيرهم على الحنفية بحديث يعلى بن أمية هذا فقالوا: إن
قوله: « ما لنا
نقصر وقد أمنا » دليل
قاطع على أن مفهوم الآية القصر في الركعات. قال الكيا الطبري: ولم يذكر أصحاب أبي
حنيفة على هذا تأويلا يساوي الذكر؛ ثم إن صلاة الخوف لا يعتبر فيها الشرطان؛ فإنه
لو لم يضرب في الأرض ولم يوجد السفر بل جاءنا الكفار وغزونا في بلادنا فتجوز صلاة
الخوف؛ فلا يعتبر وجود الشرطين على ما قال. وفي قراءة أبي « أن تقصروا من الصلاة أن
يفتنكم الذين كفروا » بسقوط
« إن
خفتم » . والمعنى
على قراءته: كراهية أن يفتنكم الذين كفروا. وثبت في مصحف عثمان رضي الله عنه « إن خفتم » . وذهب جماعة إلى أن هذه
الآية إنما هي مبيحة للقصر في السفر للخائف من العدو؛ فمن كان آمنا فلا قصر له.
روي عن عائشة رضى الله عنها أنها كانت تقول في السفر: أتموا صلاتكم؛ فقالوا: إن
رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقصر، فقالت: إنه كان في حرب وكان يخاف، وهل
أنتم تخافون ؟. وقال عطاء: كان يتم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة
وسعد بن أبي وقاص وأتم عثمان، ولكن ذلك معلل بعلل تقدم بعضها. وذهب جماعة إلى أن
الله تعالى لم يبح القصر في كتابه إلا بشرطين: السفر والخوف، وفي غير الخوف
بالسنة، منهم الشافعي وقد تقدم. وذهب آخرون إلى أن قوله تعالى: « إن خفتم » ليس متصلا بما قبل، وإن
الكلام تم عند قوله: « من
الصلاة » ثم
افتتح فقال: « إن
خفتم أن يفتنكم الذين كفروا » فأقم
لهم يا محمد صلاة الخوف. وقوله: « إن
الكافرين. كانوا لكم عدوا مبينا » كلام
معترض، قاله الجرجاني وذكره المهدوي وغيرهما. ورد هذا القول القشيري والقاضي أبو
بكر بن العربي. قال القشيري أبو نصر: وفي الحمل على هذا تكلف شديد، وإن أطنب الرجل
- يريد الجرجاني - في التقدير وضرب الأمثلة. وقال ابن العربي: وهذا كله لم يفتقر
إليه عمر ولا ابنه ولا يعلي بن أمية معهما.
قلت:
قد جاء حديث بما قاله الجرجاني ذكره القاضي أبو الوليد بن رشد في مقدماته، وابن
عطية أيضا في تفسيره عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: سأل قوم من التجار
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنا نضرب في الأرض فكيف نصلي ؟ فأنزل الله
تعالى: « وإذا
ضربتم في الأرض فليس عليم جناح أن تقصروا من الصلاة » ثم انقطع الكلام، فلما كان
بعد ذلك بحول غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى الظهر، فقال المشركون: لقد
أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم هلا شددتم عليهم ؟ فقال قائل منهم: إن لهم أخرى في
أثرها فأنزل الله تعالى بين الصلاتين « إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا » إلى آخر صلاة الخوف. فإن صح
هذا الخبر فليس لأحد معه مقال، ويكون فيه دليل على القصر في غير الخوف بالقرآن.
وقد روى عن ابن عباس أيضا مثله، قال: إن قوله تعالى: « وإذا ضربتم في الأرض فليس
عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة » نزلت
في الصلاة في السفر، ثم نزل « إن
خفتم أن يفتنكم الذين كفروا » في
الخوف بعدها بعام. فالآية على هذا تضمنت قضيتين وحكمين. فقوله: « وإذا ضربتم في الأرض فليس
عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة » يعني
به في السفر؛ وتم الكلام، ثم ابتدأ فريضة أخرى فقدم الشرط؛ والتقدير: إن خفتم أن
يفتنكم الذين كفروا وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة. والواو زائدة، والجواب « فلتقم طائفة منهم معك » . وقوله: « إن الكافرين كانوا لكم عدوا
مبينا » اعتراض.
وذهب قوم إلى أن ذكر الخوف منسوخ بالسنة، وهو حديث عمر إذ روى أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال له: ( هذه صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته ) . قال النحاس:
من جعل قصر النبي صلى الله عليه وسلم في غير خوف وفعله في ذلك ناسخا للآية فقد
غلط؛ لأنه ليس في الآية منع للقصر في الأمن، وإنما فيها إباحة القصر في الخوف فقط.
« أن
يفتنكم الذين كفروا » قال
الفراء: أهل الحجاز يقولون فتنت الرجل. وربيعة وقيس وأسد وجميع أهل نجد يقولون
أفتنت الرجل. وفرق الخليل وسيبويه بينهما فقالا: فتنته جعلت فيه فتنة مثل أكحلته،
وافتنته جعلته مفتتنا. وزعم الأصمعي أنه لا يعرف أفتنته. « إن الكافرين كانوا لكم عدوا
مبينا » « عدوا » ههنا بمعنى أعداء. والله
أعلم.
الآية:
102 ( وإذا كنت فيهم فأقمت لهم
الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت
طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ود الذين كفروا لو
تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ولا جناح عليكم إن كان بكم
أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم إن الله أعد للكافرين عذابا
مهينا )
قوله
تعالى: « وإذا
كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة » روى
الدارقطني عن أبي عياش الزرقي قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان،
فاستقبلنا المشركون، عليهم خالد بن الوليد وهم بيننا وبين القبلة، فصلى بنا النبي
صلى الله عليه وسلم الظهر، فقالوا: قد كانوا على حال لو أصبنا غرتهم؛ قال: ثم
قالوا تأتي الآن عليهم صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وأنفسهم؛ قال: فنزل جبريل
عليه السلام بهذه الآية بين الظهر والعصر « وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة » . وذكر الحديث. وسيأتي تمامه
إن شاء الله تعالى. وهذا كان سبب إسلام خالد رضي الله عنه. وقد اتصلت هذه الآية
بما سبق من ذكر الجهاد. وبين الرب تبارك وتعالى أن الصلاة لا تسقط بعذر السفر ولا
بعذر الجهاد وقتال العدو، ولكن فيها رخص على ما تقدم في « البقرة » وهذه السورة، بيانه من اختلاف
العلماء. وهذه الآية خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو يتناول الأمراء بعده إلى
يوم القيامة، ومثله قوله تعالى: « خذ من
أموالهم صدقة » [ التوبة: 103 ] هذا قول كافة العلماء. وشذ
أبو يوسف وإسماعيل بن علية فقالا: لا نصلي صلاة الخوف بعد النبي صلى الله عليه
وسلم؛ فإن الخطاب كان خاصا له بقوله تعالى: « وإذا كنت فيهم » وإذا لم يكن فيهم لم يكن ذلك لهم؛ لأن النبي صلى الله عليه
وسلم ليس كغيره في ذلك، وكلهم كان يحب أن يأتم به ويصلي خلفه، وليس أحد بعده يقوم
في الفضل مقامه، والناس بعده تستوي أحوالهم وتتقارب؛ فلذلك يصلي الإمام بفريق
ويأمر من يصلي بالفريق الآخر، وأما أن يصلوا بإمام واحد فلا. وقال الجمهور: إنا قد
أمرنا باتباعه والتأسي به في غير ما آية وغير حديث، فقال تعالى: « فليحذر الذين يخالفون عن أمره
أن تصيبهم فتنة... » [ النور: 63 ] وقال صلى الله عليه وسلم: ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) . فلزم اتباعه مطلقا حتى يدل
دليل واضح على الخصوص؛ ولو كان ما ذكروه دليلا على الخصوص للزم قصر الخطابات على
من توجهت له، وحينئذ كان يلزم أن تكون الشريعة قاصرة على من خوطب بها؛ ثم إن
الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين اطرحوا توهم الخصوص في هذه الصلاة وعدوه إلى غير
النبي صلى الله عليه وسلم، وهم أعلم بالمقال وأقعد بالحال. وقد قال تعالى: « وإذا رأيت، الذين يخوضون في
آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره » [
الأنعام: 68 ] وهذا
خطاب له، وأمته داخلة فيه، ومثله كثير. وقال تعالى: « خذ من أموالهم صدقة » [ التوبة: 103 ] وذلك لا يوجب الاقتصار عليه
وحده، وأن من بعده يقوم في ذلك مقامه؛ فكذلك في قوله: « وإذا كنت فيهم » . ألا ترى أن أبا بكر الصديق
في جماعة الصحابة رضي الله عنهم قاتلوا من تأول في الزكاة مثل ما تأولتموه في صلاة
الخوف. قال أبو عمر: ليس في أخذ الزكاة التي قد استوى فيها النبي صلى الله عليه
وسلم ومن بعده من الخلفاء ما يشبه صلاة من صلى خلف النبي صلى الله عليه وسلم وصلى
خلف غيره؛ لأن أخذ الزكاة فائدتها توصيلها للمساكين، وليس فيها فضل للمعطى كما في
الصلاة فضل للمصلي خلفه.
قوله
تعالى: « فلتقم
طائفة منهم معك » يعني
جماعة منهم جماعة منهم تقف معك في الصلاة. « ليأخذوا أسلحتهم » يعني الذين يصلون معك. ويقال: « وليأخذوا أسلحتهم » الذين هم بإزاء العدو، على ما
يأتي بيانه. ولم يذكر الله تعالى في الآية لكل طائفة إلا ركعة واحدة، ولكن روى في
الأحاديث أنهم أضافوا إليها أخرى، على ما يأتي. وحذفت الكسرة من قوله: « فلتقم » و « فليكونوا » لثقلها. وحكى الأخفش والقراء
والكسائي أن لام الأمر ولام كي ولام الجحود يفتحن. وسيبويه يمنع من ذلك لعلة
موجبة، وهى الفرق بين لام الجر ولام التأكيد. والمراد من هذا الأمر الانقسام، أي
وسائرهم وجاه العدو حذر من توقع حملته.
وقد
اختلفت الروايات في هيئة صلاة الخوف، واختلف العلماء لاختلافها؛ فذكر ابن القصار
أنه صلى الله عليه وسلم صلاها في عشرة مواضع. قال ابن العربي: روي عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه صلى صلاة الخوف أربعا وعشرين مرة. وقال الإمام أحمد بن حنبل،
وهو إمام أهل الحديث والمقدم في معرفة علل النقل فيه: لا أعلم أنه روى في صلاة
الخوف إلا حديث ثابت. وهي كلها صحاح ثابتة، فعلى أي حديث صلى منها المصلي صلاة
الخوف أجزأه إن شاء الله. وكذلك قال أبو جعفر الطبري. وأما مالك وسائر أصحابه إلا
أشهب فذهبوا في صلاة الخوف إلى حديث سهل بن أبي حثمة، وهو ما رواه في موطئه عن
يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد عن صالح بن خوات الأنصاري أن سهل بن أبي حثمة حدثه
أن صلاة الخوف أن يقوم الإمام ومعه طائفة من أصحابه وطائفة مواجهة العدو، فيركع
الإمام ركعة وسجد بالذين معه ثم يقوم، فإذا استوى قائما ثبت، وأتموا لأنفسهم
الركعة الباقية ثم يسلمون وينصرفون والإمام قائم، فيكونون وجاه العدو، ثم يقبل
الآخرون الذين لم يصلوا فيكبرون وراء الإمام فيركع بهم الركعة ويسجد ثم يسلم،
فيقومون ويركعون لأنفسهم الركعة الباقية ثم يسلمون. قال ابن القاسم صاحب مالك:
والعمل عند مالك على حديث القاسم بن محمد عن صالح بن خوات. قال ابن القاسم: وقد
كان يأخذ بحديث مزيد بن رومان ثم رجع إلى هذا. قال أبو عمر: حديث القاسم وحديث
يزيد بن رومان كلاهما عن صالح بن خوات: إلا أن بينهما فصلا في السلام، ففي حديث
القاسم أن الإمام يسلم بالطائفة الثانية ثم يقومون فيقضون لأنفسهم الركعة، وفي
حديث يزيد بن رومان أنه ينتظرهم ويسلم بهم. وبه قال الشافعي وإليه ذهب؛ قال
الشافعي: حديث يزيد بن رومان عن صالح بن خوات هذا أشبه الأحاديث في صلاة الخوف
بظاهر كتاب الله، وبه أقول. ومن حجة مالك في اختياره حديث القاسم القياس على سائر
الصلوات، في أن الإمام ليس له أن ينتظر أحدا سبقه بشيء منها، وأن السنة المجتمع
عليها أن يقضي المأمومون ما سبقوا به بعد سلام الإمام. وقول أبي ثور في هذا الباب
كقول مالك، وقال أحمد كقول الشافعي في المختار عنده؛ وكان لا يعيب من فعل شيئا من
الأوجه المرومة في صلاة الخوف.
وذهب
أشهب من أصحاب مالك إلى حديث ابن عمر قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة
الخوف بإحدى الطائفتين ركعة والطائفة الأخرى مواجهة العدو، ثم انصرفوا وقاموا مقام
أصحابهم مقبلين على العدو، وجاء أولئك ثم صلى بهم النبي صلى الله عليه وسلم ركعة
ثم سلم النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قضى هؤلاء ركعة وهؤلاء ركعة. وقال ابن عمر:
فإذا كان خوف أكثر من ذلك صلى راكبا أو قائما يومئ إيماء، أخرجه البخاري ومسلم
ومالك وغيرهم. وإلى هذه الصفة ذهب الأوزاعي، وهو الذي ارتضاه أبو عمر بن عبدالبر،
قال: لأنه أصحها إسنادا، وقد ورد بنقل أهل المدينة وبهم الحجة على من خالفهم،
ولأنه أشبه بالأصول، لأن الطائفة الأولى والثانية لم يقضوا الركعة إلا بعد خروج
النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة، وهو المعروف من سنته المجتمع عليها في سائر
الصلوات. وأما الكوفيون: أبو حنيفة وأصحابه إلا أبا يوسف القاضي يعقوب فذهبوا إلى حديث
عبدالله بن مسعود، أخرجه أبو داود والدارقطني قال: صلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم صلاة الخوف فقاموا صفين، صفا خلف النبي صلى الله عليه وسلم وصفا مستقبل
العدو، فصلى بهم النبي صلى الله عليه وسلم ركعة؛ وجاء الآخرون فقاموا مقامهم،
واستقبل هؤلاء العدو فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم سلم، فقام هؤلاء
فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا ثم ذهبوا فقاموا مقام أولئك مستقبلين العدو، ورجع
أولئك إلى مقامهم فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا. وهذه الصفة والهيئة هي الهيئة
المذكورة في حديث ابن عمر إلا أن بينهما فرقا؛ وهو أن قضاء أولئك في حديث ابن عمر
يظهر أنه في حالة واحدة ويبقى الإمام كالحارس وحده، وههنا قضاؤهم متفرق على صفة
صلاتهم. وقد تأول بعضهم حديث ابن عمر على ما جاء في حديث ابن مسعود. وقد ذهب إلى
حديث ابن مسعود الثوري - في إحدى الروايات الثلاث عنه - وأشهب بن عبدالعزيز فيما
ذكر أبو الحسن اللخمي عنه، والأول ذكره أبو عمر وابن يونس وابن حبيب عنه. وروى أبو
داود من حديث حذيفة وأبي هريرة وابن عمر أنه عليه السلام صلى بكل طائفة ركعة ولم
يقضوا، وهو مقتضى حديث ابن عباس « وفي
الخوف ركعة » . وهذا
قول إسحاق. وقد تقدم في « البقرة
» الإشارة
إلى هذا، وأن الصلاة أولى بما احتيط لها، وأن حديث ابن عباس لا تقوم به حجة، وقوله
في حديث حذيفة وغيره: « ولم
يقضوا » أي في
علم من روى ذلك، لأنه قد روي أنهم قضوا ركعة في تلك الصلاة بعينها، وشهادة من زاد
أولى. ويحتمل أن يكون المراد لم يقضوا، أي لم يقضوا إذا أمنوا، وتكون فائدة أن
الخائف إذا أمن لا يقضي ما صلى على تلك الهيئة من الصلوات في الخوف، قال جميعه أبو
عمر. وفي صحيح مسلم عن جابر أنه عليه الصلاة والسلام صلى بطائفة ركعتين ثم تأخروا،
وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين. قال: فكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربع ركعات
وللقوم ركعتان. وأخرجه أبو داود والدارقطني من حديث الحسن عن أبي بكرة وذكرا فيه
أنه سلم من كل ركعتين. وأخرجه الدارقطني أيضا عن الحسن عن جابر أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم صلى بهم ركعتين ثم سلم، ثم صلى بالآخرين ركعتين ثم سلم. قال أبو
داود: وبذلك كان الحسن يفتي، وروي عن الشافعي. وبه يحتج كل من أجاز اختلاف نية
الإمام والمأموم في الصلاة، وهو مذهب الشافعي والأوزاعي وابن علية وأحمد بن حنبل
وداود. وعضدوا هذا بحديث جابر: أن معاذا كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم
العشاء ثم يأتي فيؤم قومه، الحديث. وقال الطحاوي: إنما كان هذا في أول الإسلام إذ
كان يجوز أن تصلي الفريضة مرتين ثم نسخ ذلك، والله أعلم. فهذه أقاويل العلماء في
صلاة الخوف.
وهذه
الصلاة المذكورة في القرآن إنما يحتاج إليها والمسلمون مستدبرون القبلة ووجه العدو
القبلة، وإنما اتفق هذا بذات الرقاع، فأما بعسفان والموضع الآخر فالمسلمون كانوا
في قبالة القبلة. وما ذكرناه من سبب النزول في قصة خالد بن الوليد لا يلائم تفريق
القوم إلى طائفتين، فإن في الحديث بعد قوله: « فأقمت لهم الصلاة » قال: فحضرت الصلاة فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن
يأخذوا السلاح وصفنا خلفه صفين، قال: ثم ركع فركعنا جميعا، قال: ثم رفع فرفعنا
جميعا، قال: ثم سجد النبي صلى الله عليه وسلم بالصف الذي يليه قال: والآخرون قيام
يحرسونهم، فلما سجدوا وقاموا جلس الآخرون فسجدوا في مكانهم، قال: ثم تقدم هؤلاء في
مصاف هؤلاء وجاء هؤلاء إلى مصاف هؤلاء، قال: ثم ركع فركعوا جميعا، ثم رفع فرفعوا
جميعا، ثم سجد النبي صلى الله عليه وسلم والصف الذي يليه، والآخرون قيام، يحرسونهم
فلما جلس الآخرون سجدوا ثم سلم عليهم. قال: فصلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم
مرتين: مرة بعسفان ومرة في أرض بني سليم. وأخرجه أبو داود من حديث أبي عياش الزرقي
وقال: وهو قول الثوري وهو أحوطها. وأخرجه أبو عيسى الترمذي من حديث أبي هريرة أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل بين ضجنان وعسفان؛ الحديث. وفيه أنه عليه السلام
صدعهم صدعين وصلى بكل طائفة ركعة، فكانت للقوم ركعة ركعة، وللنبي صلى الله عليه
وسلم ركعتان، قال: حديث حسن صحيح غريب. وفي الباب عن عبدالله بن مسعود وزيد بن
ثابت وابن عباس وجابر وأبي عياش الزرقي واسمه زيد بن الصامت، وابن عمر وحذيفة وأبي
بكر وسهل بن أبي حثمة.
قلت: ولا
تعارض بين هذه الروايات، فلعله صلى بهم صلاة كما جاء في حديث أبي عياش مجتمعين،
وصلى بهم صلاة أخرى متفرقين كما جاء في حديث أبي هريرة، ويكون فيه حجة لمن يقول
صلاة الخوف ركعة. قال الخطابي: صلاة الخوف أنواع صلاها النبي صلى الله عليه وسلم
في أيام مختلفة وأشكال متباينة، يتوخى فيها كلها ما هو أحوط للصلاة وأبلغ في
الحراسة.
واختلفوا
في كيفية صلاة المغرب، فروى الدارقطني عن الحسن عن أبي بكرة أن النبي صلى الله
عليه وسلم صلى بالقوم صلاة المغرب ثلاث ركعات ثم انصرفوا، وجاء الآخرون فصلى بهم
ثلاث ركعات، فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم ستا وللقوم ثلاثا ثلاثا، وبه قال
الحسن. والجمهور في صلاة المغرب على خلاف هذا، وهو أنه يصلي بالأولى ركعتين
وبالثانية ركعة، وتقضي على اختلاف أصولهم فيه متى يكون ؟ هل قبل سلام الإمام أو
بعده. هذا قول مالك وأبي حنيفة، لأنه أحفظ لهيئة الصلاة. وقال الشافعي: يصلي
بالأولى ركعة، لأن عليا رضي الله عنه فعلها ليلة الهرير، والله تعالى أعلم.
واختلفوا
في صلاة الخوف عند التحام الحرب وشدة القتال وخيف خروج الوقت فقال مالك والثوري
والأوزاعي والشافعي وعامة العلماء: يصلي كيفما أمكن، لقول ابن عمر: فإن كان خوف
أكثر من ذلك فيصلي راكبا أو قائما يومئ إيماء. قال في الموطأ: مستقبل القبلة وغير
مستقبلها، وقد تقدم في « البقرة
» قول
الضحاك وإسحاق. وقال الأوزاعي: إن كان تهيأ الفتح ولم يقدروا على الصلاة صلوا
إيماء كل امرئ لنفسه؛ فإن لم يقدروا على الإيماء أخروا الصلاة حتى ينكشف القتال
ويأمنوا فيصلوا ركعتين، فإن لم يقدروا صلوا ركعة سجدتين، فإن لم يقدروا يجزئهم
التكبير ويؤخروها حتى يأمنوا؛ وبه قال مكحول.
قلت:
وحكاه الكيا الطبري في « أحكام
القرآن » له عن
أبي حنيفة وأصحابه، قال الكيا: وإذا كان الخوف أشد من ذلك وكان التحام القتال فإن
المسلمين يصلون على ما أمكنهم مستقبلي القبلة ومستدبريها؛ وأبو حنيفة وأصحابه
الثلاثة متفقون على أنهم لا يصلون والحالة هذه بل يؤخرون الصلاة. وإن قاتلوا في
الصلاة قالوا: فسدت الصلاة وحكي عن الشافعي أنه إن تابع الطعن والضرب فسدت صلاته.
قلت:
وهذا القول يدل على صحة قول أنس: حضرت مناهضة حصن تستر عند إضاءة الفجر، واشتد
اشتعال القتال فلم نقدر على الصلاة إلا بعد ارتفاع النهار؛ فصليناها ونحن مع أبي
موسى ففتح لنا. قال أنس: وما يسرني بتلك الصلاة الدنيا وما فيها، ذكره البخاري
وإليه كان يذهب شيخنا الأستاذ أبو جعفر أحمد بن محمد بن محمد القيسي القرطبي المعروف
بأبي حجة؛ وهو اختيار البخاري فيما يظهر؛ لأنه أردفه بحديث جابر، قال: جاء عمر يوم
الخندق فجعل يسب كفار قريش ويقول: يا رسول الله، ما صليت العصر حتى كادت الشمس أن
تغرب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( وأنا والله ما صليتها ) قال: فنزل إلى بطحان فتوضأ وصلى العصر بعد ما غربت الشمس ثم
صلى المغرب بعدها.
واختلفوا
في صلاة الطالب والمطلوب؛ فقال مالك وجماعة من أصحابه هما سواء، كل واحد منهما
يصلي على دابته. وقال الأوزاعي والشافعي وفقهاء أصحاب الحديث وابن عبدالحكم: لا
يصلي الطالب إلا بالأرض وهو الصحيح؛ لأن الطلب تطوع، والصلاة المكتوبة فرضها أن
تصلي بالأرض حيثما أمكن ذلك، ولا يصليها راكب إلا خائف شديد خوفه وليس كذلك
الطالب. والله أعلم.
واختلفوا
أيضا في العسكر إذا رأوا سوادا فظنوه عدوا فصلوا صلاة الخوف ثم بان لهم أنه غير
شيء؛ فلعلمائنا فيه روايتان: إحداهما يعيدون، وبه قال أبو حنيفة. والثانية لا
إعادة عليهم، وهو أظهر قولي الشافعي. ووجه الأولى أنهم تبين لهم الخطأ فعادوا إلى
الصواب كحكم الحاكم. ووجه الثانية أنهم عملوا على اجتهادهم فجاز لهم كما لو أخطؤوا
القبلة؛ وهذا أولى لأنهم فعلوا ما أمروا به. وقد يقال: يعيدون في الوقت، فأما بعد
خروجه فلا. والله أعلم.
قوله
تعالى: «
وليأخذوا أسلحتهم » وقال: « وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم » هذا وصاة بالحذر وأخذ السلاح
لئلا ينال العدو أمله ويدرك فرصته. والسلاح ما يدفع به المرء عن نفسه في الحرب،
قال عنترة:
كسوت
الجعد بني أبان سلاحي بعد عري وافتضاح
يقول:
أعرته سلاحي ليمتنع بها بعد عريه من السلاح. قال ابن عباس: « وليأخذوا أسلحتهم » يعني الطائفة التي وجاه العدو،
لأن المصلية لا تحارب. وقال غيره: هي المصلية أي وليأخذ الذين صلوا أولا أسلحتهم،
ذكره، الزجاج. قال: ويحتمل أن تكون الطائفة الذين هم في الصلاة أمروا بحمل السلاح؛
أي فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإنه أرهب للعدو. النحاس: يجوز أن يكون
للجميع؛ لأنه أهيب. للعدو. ويحتمل أن يكون للتي وجاه العدو خاصة. قال أبو عمر:
أكثر أهل العلم يستحبون للمصلي أخذ سلاحه إذا صلى في الخوف، ويحملون قوله: « وليأخذوا أسلحتهم » على الندب؛ لأنه شيء لولا
الخوف لم يجب أخذه؛ فكان الأمر به ندبا. وقال أهل الظاهر: أخذ السلاح في صلاة
الخوف واجب لأمر الله به، إلا لمن كان به أذى من مطر، فإن كان ذلك جاز له وضع
سلاحه. قال ابن العربي: إذا صلوا أخذوا سلاحهم عند الخوف، وبه قال الشافعي وهو نص
القرآن. وقال أبو حنيفة: لا يحملونها؛ لأنه لو وجب عليهم حملها لبطلت الصلاة
بتركها. قلنا: لم يجب حملها لأجل الصلاة وإنما وجب عليهم قوة لهم ونظرا.
قوله
تعالى: « فإذا
سجدوا » الضمير
في « سجدوا
» للطائفة
المصلية فلينصرفوا؛ هذا على بعض الهيئات المروية. وقيل: المعنى فإذا سجدوا ركعة
القضاء؛ وهذا على هيئة سهل بن أبي حثمة. ودلت هذه الآية على أن السجود قد يعبر به
عن جميع الصلاة؛ وهو كقوله عليه السلام: ( إذا دخل أحدكم المسجد فليسجد سجدتين ) . أي فليصل ركعتين وهو في
السنة. والضمير في قوله: «
فليكونوا » يحتمل
أن يكون للذين سجدوا، ويحتمل أن يكون للطائفة القائمة أولا بإزاء العدو.
قوله
تعالى: « ود
الذين كفروا » أي تمنى
وأحب الكافرون غفلتكم عن أخذ السلاح ليصلوا إلى مقصودهم؛ فبين الله تعالى بهذا وجه
الحكمة في الأمر بأخذ السلاح، وذكر الحذر في الطائفة الثانية دون الأولى؛ لأنها
أولى بأخذ الحذر، لأن العدو لا يؤخر قصده عن هذا الوقت لأنه آخر الصلاة؛ وأيضا
يقول العدو قد أثقلهم السلاح وكلوا. وفي هذه الآية أدل دليل على تعاطي الأسباب،
واتخاذ كل ما ينجي ذوي الألباب، ويوصل إلى السلامة، ويبلغ دار الكرامة. « ميلة واحدة » مبالغة، أي مستأصلة لا يحتاج
معها إلى ثانية.
قوله
تعالى: « ولا
جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر » الآية. للعلماء في وجوب حمل السلاح في الصلاة كلام قد أشرنا
إليه، فإن لم يجب فيستحب للاحتياط. ثم رخص في المطر وضعه؛ لأنه تبتل المبطنات
وتثقل ويصدأ الحديد. وقيل: نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم يوم بطن نخلة لما
انهزم المشركون وغنم المسلمون؛ وذلك أنه كان يوما مطيرا وخرج النبي صلى الله عليه
وسلم لقضاء حاجته واضعا سلاحه، فرآه الكفار منقطعا عن أصحابه فقصده غورث بن الحارث
فانحدر عليه من الجبل بسيفه، فقال: من يمنعك مني اليوم ؟ فقال: ( الله ) ثم قال: ( اللهم اكفني الغورث بما شئت ) . فأهوى بالسيف إلى النبي صلى
الله عليه وسلم ليضربه، فانكب لوجهه لزلقة زلقها. وذكر الواقدي أن جبريل عليه
السلام دفعه في صدره على ما يأتي في المائدة، وسقط السيف من يده فأخذه النبي صلى
الله عليه وسلم وقال: ( من
يمنعك مني يا غورث ) ؟
فقال: لا أحد. فقال: ( تشهد
لي بالحق وأعطيك سيفك ) ؟ قال:
لا؛ ولكن أشهد ألا أقاتلك بعد هذا ولا أعين عليك عدوا؛ فدفع إليه السيف ونزلت
الآية رخصة في وضع السلاح في المطر. ومرض عبدالرحمن بن عوف من جرح كما في صحيح
البخاري، فرخص الله سبحانه لهم في ترك السلاح والتأهب للعدو بعذر المطر، ثم أمرهم
فقال: « خذوا
حذركم » أي
كونوا متيقظين، وضعتم السلاح أو لم تضعوه. وهذا يدل على تأكيد التأهب والحذر من
العدو في كل الأحوال وترك الاستسلام؛ فإن الجيش ما جاءه مصاب قط إلا من تفريط في
حذر. وقال الضحاك. في قوله تعالى: « وخذوا حذركم » يعني تقلدوا سيوفكم فإن ذلك هيئة الغزاة.
الآيتان:
103 - 104 ( فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا
الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على
المؤمنين كتابا موقوتا، ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون
كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وكان الله عليما حكيما )
قوله
تعالى: « قضيتم
» معناه
فرغتم من صلاه الخوف وهذا يدل على أن القضاء يستعمل فيما قد فعل قي وقته؛ ومنه
قوله تعالى: « فإذا
قضيتم مناسككم » [ البقرة: 200 ] وقد تقدم. الثانية: قوله
تعالى: «
فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم » ذهب الجمهور إلى أن هذا الذكر المأمور به. إنما هو إثر صلاة
الخوف؛ أي إذا فرغتم من الصلاة فاذكروا الله بالقلب واللسان، على أي حال كنتم « قياما وقعودا وعلى جنوبكم » وأديموا ذكره بالتكبير والتهليل
والدعاء بالنصر لا سيما في حال القتال. ونظيره « إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون » [ الأنفال: 45 ] . ويقال: « فإذا قضيتم الصلاة » بمعنى إذا صليتم في دار الحرب
فصلوا على الدواب، أو قياما أو قعودا أو على جنوبكم إن لم تستطيعوا القيام، إذا
كان خوفا أو مرضا؛ كما قال تعالى في آية أخرى: « فإن خفتم فرجالا أو ركبانا » [ البقرة: 239 ] وقال قوم: هذه الآية نظيرة
التي في « آل
عمران » ؛ فروي
أن عبدالله بن مسعود رأى الناس يضجون في المسجد فقال: ما هذه الضجة ؟ قالوا: أليس
الله تعالى يقول «
فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم » ؟ قال: إنما يعني بهذا الصلاة المكتوبة إن لم تستطع قائما
فقاعدا، وإن لم تستطع فصل على جنبك. فالمراد نفس الصلاة؛ لأن الصلاة ذكر الله
تعالى، وقد اشتملت على الأذكار المفروضة والمسنونة؛ والقول الأول أظهر. والله
أعلم.
قوله
تعالى: « فإذا
اطمأننتم » أي
أمنتم. والطمأنينة سكون النفس من الخوف. « فأقيموا الصلاة » أي فأتوها بأركانها وبكمال هيئتها في السفر، وبكمال عددها في
الحضر. « إن
الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا » أي مؤقتة مفروضة. وقال زيد بن أسلم: « موقوتا » منجما، أي تؤدونها في أنجمها؛
والمعنى عند أهل اللغة: مفروض لوقت بعينه؛ يقال: وقته فهو موقوت. ووقته فهو مؤقت.
وهذا قول زيد بن أسلم بعينه. وقال: « كتابا » والمصدر
مذكر؛ فلهذا قال: « موقوتا
» .
قوله
تعالى: « ولا
تهنوا » أي لا
تضعفوا، وقد تقدم في « آل
عمران » . « في ابتغاء القوم » طلبهم. قيل: نزلت في حرب أحد
حيث أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالخروج في آثار المشركين، وكان بالمسلمين
جراحات، وكان أمر ألا يخرج معه إلا من كان في الوقعة، كما تقدم في « آل عمران » وقيل: هذا في كل جهاد.
قوله
تعالى: « إن
تكونوا تألمون » أي تتألمون
مما أصابكم من الجراح فهم يتألمون أيضا مما يصيبهم، ولكم مزية وهي أنكم ترجون ثواب
الله وهم لا يرجونه؛ وذلك أن من لا يؤمن بالله. لا يرجون من الله شيئا. ونظير هذه
الآية « إن
يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله » [ آل
عمران: 140 ] وقد
تقدم. وقرأ عبدالرحمن الأعرج « أن
تكونوا » بفتح
الهمزة، أي لأن وقرأ منصور بن المعتمر « إن تكونوا تألمون » بكسر التاء. ولا يجوز عند البصريين كسر التاء لثقل الكسر
فيها. ثم قيل: الرجاء هنا بمعنى الخوف؛ لأن من رجا شيئا فهو غير قاطع بحصوله فلا
يخلو من خوف فوت ما يرجو. وقال الفراء والزجاج: لا يطلق الرجاء بمعنى الخوف إلا مع
النفي؛ كقوله تعالى: « ما لكم
لا ترجون لله وقارا » [ نوح: 13 ] أي لا تخافون لله عظمة. وقوله
تعالى: « للذين
لا يرجون أيام الله » [ الجاثية: 14 ] أي لا يخافون. قال القشيري:
ولا يبعد ذكر الخوف من غير أن يكون في الكلام نفي، ولكنها ادعيا أنه لم يوجد ذلك
إلا مع النفي. والله أعلم.
الآية:
105 ( إنا أنزلنا إليك الكتاب
بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما )
في هذه
الآية تشريف للنبي صلى الله عليه وسلم وتكريم وتعظيم وتفويض إليه، وتقويم أيضا على
الجادة في الحكم، وتأنيب على ما رفع إليه من أمر بني أبيرق ! وكانوا ثلاثة إخوة:
بشر وبشير ومبشر، وأسير بن عروة ابن عم لهم؛ نقبوا مشربة لرفاعة بن زيد في الليل
وسرقوا أدراعا له وطعاما، فعثر على ذلك. وقيل إن السارق بشير وحده، وكان يكنى أبا
طعمة أخذ درعا؛ قيل: كان الدرع في جراب فيه دقيق، فكان الدقيق ينتثر من خرق في
الجراب حتى انتهى إلى داره، فجاء ابن أخي رفاعة واسمه قتادة بن النعمان يشكوهم إلى
النبي صلى الله عليه وسلم؛ فجاء أسير بن عروة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
يا رسول الله، إن هؤلاء عمدوا إلى أهل بيت هم أهل صلاح ودين فأنبوهم بالسرقة
ورموهم بها من غير بينة؛ وجعل يجادل عنهم حتى غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم
على قتادة ورفاعة؛ فأنزل الله تعالى: « ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم » [ النساء: 107 ] الآية. وأنزل الله تعالى: « ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم
يرم به بريئا » [ النساء: 112 ] وكان البريء الذي رموه
بالسرقة لبيد بن سهل. وقيل: زيد بن السمين وقيل: رجل من الأنصار. فلما أنزل الله
ما أنزل، هرب ابن أبيرق السارق إلى مكة، ونزل على سلافة بنت سعد بن شهيد؛ فقال
فيها حسان بن ثابت بيتا يعرض فيه بها، وهو:
وقد
أنزلته بنت سعد وأصبحت ينازعها جلد استها وتنازعه
ظننتم
بأني خفي الذي قد صنعتمو وفينا نبي عنده الوحي واضعه
فلما
بلغها قالت: إنما أهديت لي شعر حسان؛ وأخذت رحله فطرحته خارج المنزل، فهرب إلى
خيبر وأرتد. ثم إنه نقب بيتا ذات ليلة ليسرق فسقط الحائط عليه فمات مرتدا. ذكر هذا
الحديث بكثير من ألفاظه الترمذي وقال: حديث حسن غريب، لا نعلم أحدا أسنده غير محمد
بن سلمة الحراني. وذكره الليث والطبري بألفاظ مختلفة. وذكر قصة موته يحيى بن سلام
في تفسيره، والقشري كذلك وزاد ذكر الردة. ثم قيل: كان زيد بن السمين ولبيد بن سهل
يهوديين. وقيل: كان لبيد مسلما. وذكره المهدوي، وأدخله أبو عمر في كتاب الصحابة
له، فدل ذلك على إسلامه عنده. وكان بشير رجلا منافقا يهجو أصحاب النبي صلى الله
عليه وسلم وينحل الشعر غيره، وكان المسلمون يقولون: والله ما هو إلا شعر الخبيث.
فقال شعرا يتنصل فيه؛ فمنه قوله:
أو كلما
قال الرجال قصيدة نحلت وقالوا ابن الأبيرق قالها
وقال
الضحاك: أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع يده وكان مطاعا، فجاءت اليهود
شاكين في السلاح فأخذوه وهربوا به؛ فنزل « ها أنتم هؤلاء » [
النساء: 109 ] يعني
اليهود. والله أعلم.
قوله
تعالى: « بما
أراك الله » معناه على
قوانين الشرع؛ إما بوحي ونص، أو بنظر جار على سنن الوحي. وهذا أصل في القياس؛ وهو
يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى شيئا أصاب؛ لأن الله تعالى أراه ذلك،
وقد ضمن الله تعالى لأنبيائه العصمة؛ فأما أحدنا إذا رأى شيئا يظنه فلا قطع فيما
رآه، ولم يرد رؤية العين هنا؛ لأن الحكم لا يرى بالعين. وفي الكلام إضمار، أي بما
أراكه الله، وفيه إضمار آخر، وامض الأحكام على ما عرفناك من غير اغترار
باستدلالهم.
قوله
تعالى: « ولا
تكن للخائنين خصيما » اسم
فاعل؛ كقولك: جالسته فأنا جليسه، ولا يكون فعيلا هنا بمعنى مفعول؛ يدل على ذلك « ولا تجادل » فالخصيم هو المجادل وجمع
الخصيم خصماء. وقيل: خصيما مخاصما اسم فاعل أيضا. فنهى الله عز وجل رسول عن عضد
أهل التهم والدفاع عنهم بما يقوله خصمهم من الحجة. وفي هذا دليل على أن النيابة عن
المبطل والمتهم في الخصومة لا تجوز. فلا يجوز لأحد أن يخاصم عن أحد إلا بعد أن
يعلم أنه محق. ومشى الكلام في السورة على حفظ أموال اليتامى والناس؛ فبين أن مال
الكافر محفوظ عليه كمال المسلم، إلا في الموضع الذي أباحه الله تعالى.
قال
العلماء: ولا ينبغي إذا ظهر للمسلمين نفاق قوم أن يجادل فريق منهم فريقا عنهم
ليحموهم ويدفعوا عنهم؛ فإن هذا قد وقع على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفيهم نزل
قوله تعالى: « ولا
تكن للخائنين خصيما » وقوله: « ولا تجادل عن الذين يختانون
أنفسهم » [ النساء: 107 ] . والخطاب للنبي صلى الله
عليه وسلم والمراد منه الذين كانوا يفعلونه من المسلمين دونه لوجهين: أحدهما: أنه
تعالى أبان ذلك بما ذكره بعد بقوله: « ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا » [ النساء: 109 ] . والآخر: أن النبي صلى الله
عليه وسلم كان حكما فيما بينهم، ولذلك كان يعتذر إليه ولا يعتذر هو إلى غيره، فدل
على أن القصد لغيره.
الآية:
106 ( واستغفر الله إن الله كان
غفورا رحيما )
ذهب
الطبري إلى أن المعنى: استغفر الله من ذنبك في خصامك للخائنين؛ فأمره بالاستغفار
لما هم بالدفع عنهم وقطع يد اليهودي. وهذا مذهب من جوز الصغائر على الأنبياء،
صلوات الله عليهم. قال ابن عطية: وهذا ليس بذنب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم
إنما دافع على الظاهر وهو يعتقد براءتهم. والمعنى: واستغفر الله للمذنبين من أمتك
والمتخاصمين بالباطل؛ ومحلك من الناس أن تسمع من المتداعيين وتقضي بنحو ما تسمع،
وتستغفر للمذنب. وقيل: هو أمر بالاستغفار على طريق التسبيح، كالرجل يقول: استغفر
الله؛ على وجه التسبيح من غير أن يقصد توبة من ذنب. وقيل: الخطاب للنبي صلى الله
عليه وسلم والمراد بنو أبيرق، كقوله تعالى: « يا أيها النبي اتق الله » [
الأحزاب: 1 ] ، « فإن كنت في شك » [ يونس: 94 ] .
الآية:
107 ( ولا تجادل عن الذين يختانون
أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما )
أي لا
تحاجج عن الذين يخونون أنفسهم؛ نزلت في أسير بن عروة كما تقدم. والمجادلة
المخاصمة، من الجدل وهو الفتل؛ ومنه رجل مجدول الخلق، ومنه الأجدل للصقر. وقيل: هو
من الجدالة وهي وجه الأرض، فكل واحد من الخصمين يريد أن يلقي صاحبه عليها؛ قال
العجاج:
قد أركب
الحالة بعد الحالة وأترك العاجز بالجدالة
منعفرا
ليست له محاله
الجدالة
الأرض؛ من ذلك قولهم: تركته مجدلا؛ أي مطروحا على الجدالة.
« إن
الله لا يحب » أي لا
يرضى عنه ولا ينوه بذكر. « من كان
خوانا أثيما » خائنا.
(
وخوانا ) أبلغ؛
لأنه من أبنية المبالغة؛ وإنما كان ذلك لعظم قدر تلك الخيانة. والله أعلم.
الآيتان:
108 - 109 ( يستخفون من الناس ولا
يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون
محيطا، ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم
القيامة أم من يكون عليهم وكيلا )
قال
الضحاك: لما سرق الدرع اتخذ حفرة في بيته وجعل الدرع تحت التراب؛ فنزلت « يستخفون من الناس ولا يستخفون
من الله » يقول:
لا يخفى مكان الدرع على الله « وهو
معهم »
أي رقيب
حفيظ عليهم. وقيل: «
يستخفون من الناس » أي
يستترون، كما قال تعالى: « ومن هو
مستخف بالليل » [ الرعد: 10 ] أي مستتر. وقيل: يستحيون من
الناس، وهذا لأن الاستحياء سبب الاستتار. ومعنى « وهو معهم » أي
بالعلم والرؤية والسمع، هذا قول أهل السنة. وقالت الجهمية والقدرية والمعتزلة: هو
بكل مكان، تمسكا بهذه الآية وما كان مثلها، قالوا: لما قال « وهو معهم » ثبت أنه بكل مكان، لأنه قد
أثبت كونه معهم تعالى الله عن قولهم، فإن هذه صفة الأجسام والله تعالى متعال عن
ذلك ألا ترى مناظرة بشر في قول الله عز وجل: « ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم » [ المجادلة: 7 ] حين قال: هو بذاته في كل مكان
فقال له خصمه: هو في قلنسوتك وفي حشوك وفي جوف حمارك. تعالى الله عما يقولون ! حكى
ذلك وكيع رضي الله عنه. ومعنى « يبيتون
» يقولون.
قال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس. « ما لا يرضى من القول » أي ما لا يرضاه الله لأهل طاعته. « من القول » أي من الرأي والاعتقاد، كقولك:
مذهب مالك الشافعي. وقيل: « القول
» بمعنى
المقول؛ لأن نفس القول لا يبيت.
قوله
تعالى: « ها
أنتم هؤلاء » يريد
قوم بشير السارق لما هربوا به وجادلوا عنه. قال الزجاج: « هؤلاء » بمعنى الذين. « جادلتم » حاججتم. « في الدنيا فمن يجادل الله
عنهم يوم القيامة » استفهام
معناه الإنكار والتوبيخ. « أم من
يكون عليهم وكيلا » الوكيل:
القائم بتدبير الأمور، فالله تعالى قائم بتدبير خلقه. والمعنى: لا أحد يقوم بأمرهم
إذا أخذهم الله بعذابه وأدخلهم النار.
الآية:
110 ( ومن يعمل سوء أو يظلم نفسه
ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما )
قال ابن
عباس: عرض الله التوبة على بني أبيرق بهذه الآية، أي « ومن يعمل سوءا » بأن يسرق « أو يظلم نفسه » بأن يشرك « ثم يستغفر الله » يعني بالتوبة، فإن الاستغفار
باللسان من غير توبة لا ينفع، وقد بيناه في « آل عمران » . وقال
الضحاك: نزلت الآية في شأن وحشي قاتل حمزة أشرك بالله وقتل حمزة، ثم جاء إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم وقال: إني لنادم فهل لي من توبة ؟ فنزل: « ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه » الآية. وقيل: المراد بهذه
الآية العموم والشمول لجميع الخلق. وروى سفيان عن أبي إسحاق عن الأسود وعلقمة
قالا: قال عبدالله بن مسعود من قرأ هاتين الآيتين من سورة « النساء » ثم استغفر له: « ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه
ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما » . « ولو
أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا
رحيما » [ النساء: 64 ] . وروي عن علي رضي الله عنه
أنه قال: كنت إذا سمعت حديثا من رسول الله صلى الله عليه وسلم نفعني الله به ما
شاء، وإذا سمعته من غيره حلفته، وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر قال: ما من عبد يذنب
ذنبا ثم يتوضأ ويصلي ركعتين ويستغفر الله إلا غفر له، ثم تلا هذه الآية « ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه
ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما » .
الآيتان:
111 - 112 ( ومن يكسب إثما فإنما يكسبه
على نفسه وكان الله عليما حكيما، ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد
احتمل بهتانا وإثما مبينا )
قوله
تعالى: « ومن
يكسب إثما » أي ذنبا
« فإنما
يكسبه على نفسه » أي
عاقبته عائدة عليه. والكسب ما يجر به الإنسان إلى نفسه نفعا أو يدفع عنه به ضررا؛
ولهذا لا يسمى فعل الرب تعالى كسبا.
قوله
تعالى: « ومن
يكسب خطيئة أو إثما » قيل:
هما بمعنى واحد كرر لاختلف اللفظ تأكيدا. وقال الطبري: إنما فرق بين الخطيئة
والإثم أن الخطيئة تكون عن عمد وعن غير عمد، والإثم لا يكون إلا عن عمد. وقيل:
الخطيئة ما لم تتعمده خاصة كالقتل بالخطأ. وقيل: الخطيئة الصغيرة، والإثم الكبيرة،
وهذه الآية لفظها عام يندرج تحته أهل النازلة وغيرهم.
قوله
تعالى: « ثم يرم
به بريئا » قد تقدم
اسم البريء في البقرة. والهاء في « به » للإثم أو للخطيئة. لأن معناها
الإثم، أولهما جميعا. وقيل: ترجع إلى الكسب. « فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا » تشبيه؛ إذ الذنوب ثقل ووزر فهي
كالمحمولات. وقد قال تعالى: « وليحملن
أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم » [ العنكبوت: 13 ] . والبهتان من البهت، وهو أن
تستقبل أخاك بأن تقذفه بذنب وهو منه بريء. وروى مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: (
أتدرون ما الغيبة ) ؟
قالوا: الله ورسوله أعلم؛ قال: ( ذكرك
أخاك بما يكره ) . قيل:
أفرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ قال: ( إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد بهته ) . وهذا نص؛ فرمي البريء بهت
له. يقال: بهته بهتا وبهتا وبهتانا إذا قال عليه ما لم يفعله. وهو بهات والمقول له
مبهوت. ويقال: بهت الرجل (
بالكسر ) إذا
دهش وتحير. وبهت ( بالضم
) مثله،
وأفصح منهما بهت، كما قال الله تعالى: « فبهت الذي كفر » [
البقرة: 258 ] لأنه
يقال: رجل مبهوت ولا يقال: باهت ولا بهيت، قال الكسائي.
الآية:
113 ( ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت
طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء وأنزل الله عليك
الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما )
قوله
تعالى: « ولولا
فضل الله عليك ورحمته » ما بعد « لولا » مرفوع بالابتداء عند سيبويه،
والخبر محذوف لا يظهر، والمعنى: « ولولا
فضل الله عليك ورحمته » بأن
نبهك على الحق، وقيل: بالنبوءة والعصمة. « لهمت طائفة منهم أن يضلوك » عن الحق؛ لأنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبرئ
ابن أبيرق من التهمة ويلحقها اليهودي، فتفضل الله عز وجل على رسوله عليه السلام
بأن نبهه على ذلك وأعلمه إياه. « وما
يضلون إلا أنفسهم » لأنهم
يعملون عمل الضالين، فوباله لهم راجع عليهم. « وما يضرونك من شيء » لأنك معصوم. « وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة » هذا ابتداء كلام. وقيل: الواو
للحال، كقولك: جئتك والشمس طالعة؛ ومنه قول امرئ القيس:
وقد
أغتدي والطير في وكناتهما
فالكلام
متصل، أي ما يضرونك من شيء مع إنزال الله عليك القرآن. « والحكمة » القضاء بالوحي. « وعلمك ما لم تكن تعلم » يعني من الشرائع والأحكام وكان
فضله عليك كبيرا. و « تعلم » في موضع نصب؛ لأنه خبر كان. وحذفت
الضمة من النون للجزم، وحذفت الواو لالتقاء الساكنين.
الآية:
114 ( لا خير في كثير من نجواهم
إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله
فسوف نؤتيه أجرا عظيما )
أراد ما
تفاوض به قوم بني أبيرق من التدبير، وذكروه النبي صلى الله عليه وسلم. والنجوى:
السر بين الاثنين، تقول: ناجيت فلانا مناجاة ونجاء وهم ينتجون ويتناجون. ونجوت
فلانا أنجوه نجوا، أي ناجيته، فنجوى مشتقة من نجوت الشيء أنجوه، أي خلصته وأفردته،
والنجوة من الأرض المرتفع لانفراده بارتفاعه عما حوله، قال الشاعر:
فمن بنجوته
كمن بعقوته والمستكن كمن يمشي بقرواح
فالنجوى
المسارة، مصدر، وقد تسمى به الجماعة، كما يقال: قوم عدل ورضا. قال الله تعالى: « وإذ هم نجوى » [ الإسراء: 47 ] فعلى الأول يكون الأمر أمر
استثناء من غير الجنس. وهو الاستثناء المنقطع. وقد تقدم، وتكون « من » في موضع رفع، أي لكن من أمر
بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ودعا إليه ففي نجواه خير. ويجوز أن تكون « من » في موضع خفض ويكون التقدير: لا
خير في كثير من نجواهم إلا نجوى من أمر بصدقة ثم حذف. وعلى الثاني وهو أن يكون
النجوى اسما للجماعة المنفردين، فتكون « من » في موضع
خفض على البدل، أي لا خير في كثير من نجواهم إلا فيمن أمر بصدقة. أو تكون في موضع
نصب على قول من قال: ما مررت بأحد إلا زيدا. وقال بعض المفسرين منهم الزجاج:
النجوى كلام الجماعة المنفردة أو الاثنين كان ذلك سرا أو جهرا، وفيه بعد. والله
أعلم. والمعروف لفظ يعم أعمال البر كلها. وقال مقاتل: المعروف هنا الفرض، والأول
أصح. وقال صلى الله عليه وسلم: ( كل
معروف صدقة وإن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق ) . وقال صلى الله عليه وسلم: ( المعروف كاسمه وأول من يدخل،
الجنة يوم القيامة المعروف وأهله ) . وقال
علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لا يزهدنك في المعروف كفر من كفره، فقد يشكر الشاكر
بأضعاف جحود الكافر. وقال الحطيئة:
من يفعل
الخير لا يعدم جوازيه لا يذهب العرف بين الله والناس
وأنشد
الرياشي:
يد
المعروف غنم حيث كانت تحملها كفور أو شكور
ففي شكور
الشكور لها جزاء وعند الله ما كفر الكفور
وقال
الماوردي: « فينبغي
لمن يقدر على إسداء المعروف أن يعجله حذار فواته، ويبادر به خيفة عجزه، وليعلم أنه
من فرص زمانه، وغنائم إمكانه، ولا يهمله ثقة بالقدرة عليه، فكم من واثق بالقدرة
فاتت فأعقبت ندما، ومعول على مكنة زالت فأورثت خجلا، كما قال الشاعر: »
ما زلت
أسمع كم من واثق خجل حتى ابتليت فكنت الواثق الخجلا
ولو فطن
لنوائب دهره، وتحفظ من عواقب أمره لكانت مغانمه مذخورة، ومغارمه مجبورة، فقد روي
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من فتح عليه باب من الخير فلينتهزه فإنه لا يدري متى يغلق
عنه ) . وروي
عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لكل شيء ثمرة وثمرة المعروف السراح ) . وقيل لأنوشروان: ما أعظم
المصائب عندكم ؟ قال: أن تقدر على المعروف فلا تصطنعه حتى يفوت. وقال عبدالحميد:
من أخر الفرصة عن وقتها فليكن على ثقة من فوتها. وقال بعض الشعراء:
إذا هبت
رياحك فاغتنمها فإن لكل خافقة سكون
ولا تغفل
عن الإحسان فيها فما تدري السكون متى يكون
وكتب بعض
ذوي الحرمات إلى وال قصر في رعاية حرمته:
أعلى
الصراط تريد رعية حرمتي أم في الحساب تمن بالإنعام
للنفع في
الدنيا أريدك، فأنتبه لحوائجي من رقدة النوام
وقال العباس
رضي الله عنه: لا يتم المعروف إلا بثلاث خصال: تعجيله وتصغيره وستره، فإذا عجلته
هنأته، وإذا صغرته عظمته، وإذا سترته أتممته. وقال بعض الشعراء:
زاد
معروفك عندي عظما أنه عندك مستور حقير
تتناساه
كأن لم تأته وهو عند الناس مشهور خطير
ومن شرط
المعروف ترك الامتنان به، وترك الإعجاب بفعله، لما فيهما من إسقاط الشكر وإحباط
الأجر. وقد تقدم في « البقرة
» بيانه.
قوله
تعالى: « أو
إصلاح بين الناس » عام في
الدماء والأموال والأعراض، وفي كل شيء يقع التداعي والاختلاف فيه بين المسلمين،
وفي كل كلام يراد به وجه الله تعالى. وفي الخبر: ( كلام ابن آدم كله عليه لا له إلا ما كان من أمر بمعروف أو
نهي عن منكر أو ذكر الله تعالى ) . فأما
من طلب الرياء والترؤس فلا ينال الثواب. وكتب عمر إلى أبي موسى الأشعري رضي الله
عنه: رد الخصوم حتى يصطلحوا، فإن فصل القضاء يورث بينهم الضغائن. وسيأتي في « المجادلة » ما يحرم من المناجاة وما يجوز
إن شاء الله تعالى. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال،: من أصلح بين أثنين
أعطاه الله بكل كلمة عتق رقبة. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي أيوب: ( ألا أدلك على صدقة يحبها
الله ورسوله، تصلح بين أناس إذا تفاسدوا، وتقرب بينهم إذا تباعدوا ) . وقال الأوزاعي: ما خطوة أحب
إلى الله عز وجل من خطوة في إصلاح ذات البين، ومن أصلح بين اثنين كتب الله له
براءة من النار. وقال محمد بن المنكدر: تنازع رجلان في ناحية المسجد فملت إليهما،
فلم أزل بهما حتى اصطلحا؛ فقال أبو هريرة وهو يراني: سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول: ( من
أصلح بين أثنين استوجب ثواب شهيد ) . ذكر
هذه الأخبار أبو مطيع مكحول بن المفضل النسفي في كتاب اللؤلئيات له، وجدته بخط
المصنف في وريقة ولم ينبه على موضعها رضي الله عنه. و ( ابتغاء ) نصب على المفعول من أجله.
الآيتان:
115 - 116 ( ومن يشاقق الرسول من بعد ما
تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا، إن
الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا
بعيدا )
قال العلماء:
هاتان الآيتان نزلنا بسبب ابن أبيرق السارق، لما حكم النبي صلى الله عليه وسلم
عليه بالقطع وهرب إلى مكة وارتد؛ قال سعيد بن جبير: لما صار إلى مكة نقب بيتا بمكة
فلحقه المشركون فقتلوه؛ فأنزل الله تعالى: « إن الله لا يغفر أن يشرك به » إلى قوله: « فقد ضل ضلالا بعيدا » . وقال الضحاك: قدم نفر من
قريش المدينة وأسلموا ثم انقلبوا إلى مكة مرتدين فنزلت هذه الآية « ومن يشاقق الرسول » . والمشاقة المعاداة. والآية
وإن نزلت في سارق الدرع أو غيره فهي عامة في كل من خالف طريق المسلمين. و « الهدى » : الرشد والبيان، وقد تقدم.
وقوله تعالى: « نوله
ما تولى » يقال:
إنه نزل فيمن ارتد؛ والمعنى؛ نتركه وما يعبد؛ عن مجاهد. أي نكله إلى الأصنام التي
لا تنفع ولا تضر؛ وقال مقاتل. وقال الكلبي؛ نزل قوله تعالى: « نوله ما تولى » في ابن أبيرق؛ لما ظهرت حاله
وسرقته هرب إلى مكة وارتد ونقب حائطا لرجل بمكة يقال له: حجاج بن علاط، فسقط فبقي
في النقب حتى وجد على حاله، وأخرجوه من مكة؛ فخرج إلى الشام فسرق بعض أموال
القافلة فرجموه وقتلوه، فنزلت « نوله
ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا » . وقرأ
عاصم وحمزة وأبو عمرو « نولِهْ
» « ونصلِهْ » بجزم الهاء، والباقون بكسرها،
وهما لغتان.
قال
العلماء في قوله تعالى: « ومن
يشاقق الرسول » دليل
على صحة القول بالإجماع، وفي قوله تعالى: « إن الله لا يغفر أن يشرك به » رد على الخوارج؛ حيث زعموا أن
مرتكب الكبيرة كافر. وقد تقدم القول في هذا المعنى. وروى الترمذي عن علي بن أبي طالب
رضي الله عنه قال: ما في القرآن آية أحب إلي من هذه الآية: « إن الله لا يغفر أن يشرك به
ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء » قال:
هذا حديث غريب. قال ابن فورك: وأجمع أصحابنا على أنه لا تخليد إلا للكافر، وأن
الفاسق من أهل القبلة إذا مات غير تائب فإنه إن عذب بالنار فلا محالة أنه يخرج
منها بشفاعة الرسول؛ أو بابتداء رحمة من الله تعالى. وقال الضحاك: إن شيخا من
الأعراب جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني شيخ منهمك
في الذنوب والخطايا، إلا أني لم أشرك بالله شيئا منذ عرفته وآمنت به، فما حالي عند
الله ؟ فأنزل الله تعالى: « إن
الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء » الآية.
الآية:
117 ( إن يدعون من دونه إلا إناثا
وإن يدعون إلا شيطانا مريدا )
قوله
تعالى: « إن
يدعون من دونه » أي من
دون الله « إلا
إناثا » ؛ نزلت
في أهل مكة إذ عبدوا الأصنام. و « إن » نافية بمعنى « ما » . و « إناثا » أصناما، يعني اللات والعزى
ومناة. وكان لكل حي صنم يعبدونه ويقولون: أنثى بني فلان، قال الحسن وابن عباس،
وأتى مع كل صنم شيطانه يتراءى للسدنة والكهنة ويكلمهم؛ فخرج الكلام مخرج التعجب؛
لأن الأنثى من كل جنس أخسه؛ فهذا جهل ممن يشرك بالله جمادا فيسميه أنثى، أو يعتقده
أنثى. وقيل: « إلا
إناثا » مواتا؛
لأن الموات لا روح له، كالخشبة والحجر. والموات يخبر عنه كما يخبر عن المؤنث لا
تضاع المنزلة؛ تقول: الأحجار تجبني، كما تقول: المرأة تعجبني. وقيل: « إلا إناثا » ملائكة؛ لقولهم: الملائكة بنات
الله، وهي شفعاؤنا عند الله؛ عن الضحاك. وقراءة ابن عباس « إلا وثنا » بفتح الواو والثاء على إفراد
اسم الجنس؛ وقرأ أيضا « وثنا » بضم الثاء والواو؛ جمع وثن.
وأوثان أيضا جمع وثن مثل أسد وآساد. النحاس: ولم يقرأ به فيما علمت.
قلت: قد
ذكر أبو بكر الأنباري - حدثنا أبي حدثنا نصر بن داود حدثنا أبو عبيد حدثنا حجاج عن
ابن جريج عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضى الله عنها أنها كانت تقرأ: « إن يدعون من دونه إلا أوثانا
» . وقرأ
ابن عباس أيضا « إلا
أثنا » كأنه
جمع وثنا على وثان؛ كما تقول: جمل وجمال، ثم جمع أوثانا على وثن؛ كما تقول: مثال
ومثل؛ ثم أبدل من الواو همزة لما انضمت؛ كما قال عز وجل: « وإذا الرسل أقتت » [ المرسلات: 11 ] من الوقت؛ فأثن جمع الجمع.
وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم: « إلا
أثنا » جمع
أثين، كغدير وغدر. وحكى الطبري أنه جمع إناث كثمار وثمر. حكى هذه القراءة عن النبي
صلى الله عليه وسلم أبو عمرو الداني؛ قال: وقرأ بها ابن عباس والحسن وأبو حيوة.
قوله
تعالى: « وإن
يدعون إلا شيطانا مريدا » يريد
إبليس؛ لأنهم إذا أطاعوه فيما سول لهم فقد عبدوه؛ ونظيره في المعنى: « اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا
من دون الله » [ التوبة: 31 ] أي أطاعوهم فيما أمروهم به؛
لا أنهم عبدوهم. وسيأتي. وقد تقدم اشتقاق لفظ الشيطان. والمريد: العاتي المتمرد؛
فعيل من مرد إذا عتا. قال الأزهري: المريد الخارج عن الطاعة، وقد مرد الرجل يمرد
مرودا إذا عتا وخرج عن الطاعة، فهو مارد ومريد ومتمرد. ابن عرفة هو الذي ظهر شره؛
ومن هذا يقال: شجرة مرداء إذا تساقط ورقها فظهرت عيدانها؛ ومنه قيل للرجل: أمرد،
أي ظاهر مكان الشعر من عارضيه.
الآية:
118 ( لعنه الله وقال لأتخذن من
عبادك نصيبا مفروضا )
قوله
تعالى: « لعنه
الله » أصل
اللعن الإبعاد، وقد تقدم. وهو في العرف إبعاد مقترن بسخط وغضب؛ فلعنة الله على
إبليس - عليه لعنة الله - على التعيين جائزة، وكذلك سائر الكفرة الموتى كفرعون
وهامان وأبي جهل؛ فأما الأحياء فقد مضى الكلام فيه في « البقرة » .
قوله
تعالى: « وقال
لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا » أي وقال
الشيطان؛ والمعنى: لاستخلصنهم. بغوايتي وأضلنهم بإضلالي، وهم الكفرة والعصاة. وفي
الخبر ( من كل
ألف واحد لله والباقي للشيطان ) .
قلت:
وهذا صحيح معنى؛ يعضده قوله تعالى لآدم يوم القيامة: ( أبعث بعث النار فيقول: وما
بعث النار ؟ فيقول من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين ) . أخرجه مسلم. وبعث النار هو
للمولود مسمارا عند ولادته، ودورانهم به يوم أسبوعه، يقولون: ليعرفه العمار.
الآية:
119 ( ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم
فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ومن يتخذ الشيطان وليا من دون
الله فقد خسر خسرانا مبينا )
قوله
تعالى: «
ولأضلنهم » أي
لأصرفنهم عن طريق الهدى. «
ولأمنينهم » أي
لأسولن لهم، من التمني، وهذا لا ينحصر إلى واحد من الأمنية، لأن كل واحد في نفسه
إنما يمنيه بقدر رغبته وقرائن حاله. وقيل: لأمنينهم طول الحياة الخير والتوبة
والمعرفة مع الإصرار. « ولآمرنهم
فليبتكن آذان الأنعام » البتك
القطع، ومنه سيف باتك. أي أحملهم على قطع آذان البحيرة والسائبة ونحوه. يقال: بتكه
وبتكه، ( مخففا
ومشددا ) وفي
يده قطعة، والجمع بتك، قال زهير:
طارت وفي
كفه من ريشها بتك
قوله
تعالى: «
ولآمرنهم فليغيرن خلق الله » اللامات
كلها للقسم. واختلف العلماء في هذا التغيير إلى ماذا يرجع، فقالت طائفة: هو الخصاء
وفقء الأعين وقطع الآذان، قال معناه ابن عباس وأنس وعكرمة وأبو صالح. وذلك كله
تعذيب، للحيوان، وتحريم وتحليل بالطغيان، وقول بغير حجة ولا برهان. والآذان في
الأنعام جمال ومنفعة، وكذلك غيرها من الأعضاء، فلذلك رأى الشيطان أن يغير بها خلق
الله تعالى. وفي حديث عياض بن حمار المجاشعي: ( وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم وأن الشياطين أتتهم فاجتالتهم
عن دينهم فحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا
وأمرتهم أن يغيروا خلقي ) . الحديث،
أخرجه القاضي إسماعيل ومسلم أيضا. وروى إسماعيل قال: حدثنا أبو الوليد وسليمان بن
حرب قالا حدثنا شعبة عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن أبيه قال: أتيت رسول الله صلى
الله عليه وسلم وأنا قشف الهيئة، قال: ( هل لك من مال ) ؟ قال قلت: نعم. قال ( من أي المال ) ؟ قلت: من كل المال، من الخيل والإبل والرقيق - قال أبو
الوليد: والغنم - قال: ( فإذا
أتاك الله مالا فلير عليك أثره ) ثم
قال: ( هل
تنتج إبل قومك صحاحا آذانها فتعمد إلى موسى فتشق آذانها وتقول هذه بمر وتشق جلودها
وتقول هذه صرم لتحرمها عليك وعلى أهلك ) ؟ قال: قلت أجل. قال: ( وكل ما آتاك الله حل وموسى الله أحد من موسك، وساعد الله
أشد من ساعدك ) . قال
قلت: يا رسول الله، أرأيت رجلا نزلت به فلم يقرني ثم نزل بي أفأقريه أم أكافئه ؟
فقال: ( بل
أقره ) .
ولما كان
هذا من فعل الشيطان وأثره أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم « أن نستشرف العين والأذن ولا
نضحي بعوراء ولا مقابلة ولا مدابرة ولا خرقاء ولا شرقاء ) أخرجه أبو داود عن علي قال:
أمرنا؛ فذكره. المقابلة: المقطوعة طرف الأذن. والمدابرة المقطوعة مؤخر الأذن.
والشرقاء: مشقوقة الأذن. والخرقاء التي تخرق أذنها السمة. والعيب في الأذن مراعى
عند جماعة العلماء. قال مالك والليث: المقطوعة الأذن أو جل الأذن لا تجزئ، والشق
للميسم يجزئ، وهو قول الشافعي وجماعة الفقهاء. فإن كانت سكاء، وهى التي خلقت بلا
أذن فقال مالك والشافعي: لا تجوز. وإن كانت صغيرة الأذن أجزأت، وروي عن أبي حنيفة
مثل ذلك. »
وأما
خصاء البهائم فرخص فيه جماعة من أهل العلم إذا قصدت فيه المنفعة إما لسمن أو غيره.
والجمهور من العلماء وجماعتهم على أنه لا بأس أن يضحي بالخصي، واستحسنه بعضهم إذا
كان أسمن من غيره. ورخص في خصاء الخيل عمر بن عبدالعزيز. وخصى عروة بن الزبير بغلا
له. ورخص مالك في خصاء ذكور الغنم، وإنما جاز ذلك لأنه لا يقصد به تعليق الحيوان
بالدين لصنم يعبد، ولا لرب يوحد. وإنما يقصد به تطييب اللحم فيما يؤكل، وتقوية
الذكر إذا انقطع أمله عن الأنثى. ومنهم من كره ذلك، لقول النبي صلى الله عليه
وسلم: ( إنما
يفعل ذلك الذين لا يعلمون ) .
واختاره ابن المنذر وقال: لأن ذلك ثابت عن ابن عمر، وكان يقول: هو نماء خلق الله؛
وكره ذلك عبدالملك بن مروان. وقال الأوزاعي: كانوا يكرهون خصاء كل شيء له نسل.
وقال ابن المنذر: وفيه حديثان: أحدهما عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى
عن خصاء الغنم والبقر والإبل والخيل. والآخر حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه
وسلم نهى عن صبر الروح وخصاء البهائم. والذي في الموطأ من هذا الباب ما ذكره عن
نافع عن ابن عمر أنه كان يكره الإخصاء ويقول: فيه تمام الخلق. قال أبو عمر: يعني
في ترك الإخصاء تمام الخلق، وروي نماء الخلق.
قلت:
أسنده أبو محمد عبدالغني من حديث عمر بن إسماعيل عن نافع عن ابن عمر قال: كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( لا
تخصوا ما ينمي خلق الله ) . رواه
عن الدارقطني شيخه، قال: حدثنا أبو عبدالله المعدل حدثنا عباس بن محمد حدثنا أبو مالك
النخعي عن عمر بن إسماعيل، فذكره. قال الدارقطني: ورواه عبدالصمد بن النعمان عن
أبي مالك.
الرابعة:
وأما الخصاء في الآدمي فمصيبة، فإنه إذا خصي بطل قلبه وقوته، عكس الحيوان، وانقطع
نسله المأمور به في قوله عليه السلام: ( تناكحوا تناسلوا فإني مكاثر بكم الأمم ) ثم إن فيه ألما عظيما ربما
يفضي بصاحبه إلى الهلاك، فيكون فيه تضييع مال وإذهاب نفس، وكل ذلك منهي عنه. ثم
هذه مثلة، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المثلة، وهو صحيح. وقد كره جماعة
من فقهاء الحجازيين والكوفيين شراء الخصي من الصقالبة وغيرهم وقالوا: لو لم يشتروا
منهم لم يخصوا. ولم يختلفوا أن خصاء بني آدم لا يحل ولا يجوز؛ لأنه مثلة وتغيير
لخلق الله تعالى، وكذلك قطع سائر أعضائهم في غير حد ولا قود، قال أبو عمر.
وإذا
تقرر هذا فاعلم أن الوسم والإشعار مستثنى من نهيه عليه السلام عن شريطة الشيطان،
وهي ما قدمناه من نهيه عن تعذيب الحيوان بالنار، والوسم: الكي بالنار وأصله
العلامة، يقال: وسم الشيء يسمه إذا علمه بعلامة يعرف بها، ومنه قوله تعالى: « سيماهم في وجوههم » [ الفتح: 29 ] . فالسيما العلامة والميسم
المكواة. وثبت في صحيح مسلم عن أنس قال: رأيت في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم
الميسم وهو يسم إبل الصدقة والفيء وغير ذلك حتى يعرف كل مال فيؤدى في حقه، ولا
يتجاوز به إلى غيره.
والوسم
جائز في كل الأعضاء غير الوجه، لما رواه جابر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه
وسلم عن الضرب في الوجه وعن الوسم في الوجه، أخرجه مسلم. وإنما كان ذلك لشرفه على
الأعضاء، إذ هو مقر الحسن والجمال، ولأن به قوام الحيوان، وقد مر النبي صلى الله
عليه وسلم برجل يضرب عبده فقال: ( اتق
الوجه فإن الله خلق آدم على صورته ) . أي على صورة المضروب؛ أي وجه هذا المضروب يشبه وجه آدم،
فينبغي أن يحترم لشبهه. وهذا أحسن ما قيل في تأويله والله أعلم. وقالت طائفة:
الإشارة بالتغيير إلى الوشم وما جرى مجراه من التصنع للحسن؛ قال ابن مسعود والحسن.
ومن ذلك الحديث الصحيح عن عبدالله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لعن الله الواشمات
والمستوشمات والنامصات والمتنمصات والمتفلجات للحسن، المغيرات خلق الله ) الحديث أخرجه مسلم، وسيأتي
بكماله في الحشر إن شاء الله تعالى. والوشم يكون في اليدين، وهو أن يغرز ظهر كف
المرأة ومعصمها بإبرة ثم يحشى بالكحل أو بالنئور فيخضر. وقد وشمت تشم وشما فهي
واشمة. والمستوشمة التي يفعل ذلك بها؛ قال الهروي. وقال ابن العربي: ورجال صقلية
وإفريقية يفعلونه؛ ليدل كل واحد منهم على رجلته في حداثته. قال القاضي عياض: ووقع
في رواية الهروي - أحد رواة مسلم - مكان « الواشمة والمستوشمة » «
الواشية والمستوشية » ( بالياء مكان الميم ) وهو من الوشي وهو التزين؛
وأصل الوشي نسج الثوب على لونين، وثور موشى في وجهه وقوائمه سواد؛ أي تشي المرأة
نفسها بما تفعله فيها من التنميص والتفليج والأشر. والمتنمصات جمع متنمصة وهي التي
تقلع الشعر من وجهها بالمنماص، وهو الذي يقول الشعر؛ ويقال لها النامصة. ابن
العربي: وأهل مصر ينتفون شعر العانة وهو منه؛ فإن السنة حلق العانة ونتف الإبط،
فأما نتف الفرج فإنه يرخيه ويؤذيه، ويبطل كثيرا من المنفعة فيه. والمتفلجات جمع
متفلجة، وهي التي تفعل الفلج في أسنانها؛ أي تعانيه حتى ترجع المصمتة الأسنان خلقة
فلجاء صنعة. وفي غير كتاب مسلم: «
الواشرات » ، وهي
جمع واشرة، وهي التي تشر أسنانها؛ أي تصنع فيها أشرا، وهي التحزيزات التي تكون في
أسنان الشبان؛ تفعل ذلك المرأة الكبيرة تشبها بالشابة. وهذه الأمور كلها قد شهدت
الأحاديث بلعن فاعلها وأنها من الكبائر. واختلف في المعنى الذي نهي لأجلها؛ فقيل:
لأنها من باب التدليس. وقيل: من باب تغيير خلق الله تعالى؛ كما قال ابن مسعود، وهو
أصح، وهو يتضمن المعنى الأول. ثم قيل: هذا المنهي عنه إنما هو فيما يكون باقيا؛
لأنه من باب تغيير خلق الله تعالى، فأما ما لا يكون باقيا كالكحل والتزين به
للنساء فقد أجاز العلماء ذلك مالك وغيره. وكرهه مالك للرجال. وأجاز مالك أيضا أن
تشي المرأة يديها بالحناء. وروي عن عمر إنكار ذلك وقال: إما أن تخضب يديها كلها
وإما أن تدع، وأنكر مالك هذه الرواية عن عمر، ولا تدع الخضاب بالحناء؛ فإن النبي
صلى الله عليه وسلم رأى امرأة لا تختضب قال: ( لا تدع إحداكن يدها كأنها يد رجل ) فما زالت تختضب وقد جاوزت
التسعين حتى ماتت.
قال
القاضي عياض: وجاء حديث بالنهي عن تسويد الحناء، ذكره صاحب المصابيح ولا تتعطل،
ويكون في عنقها قلادة من سير في خرز، فإنه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال لعائشة رضي الله عنها: ( إنه
لا ينبغي أن تكوني بغير قلادة إما بخيط وإما بسير. وقال أنس: يستحب للمرأة أن تعلق
في عنقها في الصلاة ولو سيرا. قال أبو جعفر الطبري: في حديث ابن مسعود دليل على
أنه لا يجوز تغيير شيء من خلقها الذي خلقها الله عليه بزيادة أو نقصان، التماس
الحسن لزوج أو غيره، سواء فلجت أسنانها أو وشرتها، أو كان لها سن زائدة فأزالتها
أو أسنان طوال فقطعت أطرافها. وكذا لا يجوز لها حلق لحية أو شارب أو عنفقة إن نبتت
لها؛ لأن كل ذلك تغيير خلق الله. قال عياض: ويأتي على ما ذكره أن من خلق بأصبع
زائدة أو عضو زائد لا يجوز له قطعه ولا نزعه؛ لأنه من تغيير خلق الله تعالى: إلا
أن تكون هذه الزوائد تؤلمه فلا بأس بنزعها عند أبي جعفر وغيره.
قلت:
ومن هذا الباب قوله صلى الله عليه وسلم: ( لعن الله الواصلة والمستوصلة والواشمة
والمستوشمة ) أخرجه مسلم. فنهى صلى الله عليه وسلم عن وصل المرأة شعرها؛ وهو أن
يضاف إليه شعر آخر يكثر به، والواصلة هي التي تفعل ذلك، والمستوصلة هي التي تستدعي
من يفعل ذلك بها. مسلم عن جابر قال: زجر النبي صلى الله عليه وسلم أن تصل المرأة
بشعرها شيئا. وخرج عن أسماء بنت أبي بكر قالت: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه
وسلم فقالت: يا رسول الله، إن لي ابنة عريسا أصابتها حصبة فتمرق شعرها أفأصله ؟
فقال: ( لعن الله الواصلة والمستوصلة ) . وهذا كله نص في تحريم وصل الشعر، وبه قال
مالك وجماعه العلماء. ومنعوا الوصل بكل شيء من الصوف والخرق وغير ذلك؛ لأنه في
معنى وصله بالشعر. وشذ الليث بن سعد فأجاز وصله بالصوف والخرق وما ليس بشعر؛ وهذا
أشبه بمذهب أهل الظاهر. وأباح آخرون وضع الشعر على الرأس وقالوا: إنما جاء النهي
عن الوصل خاصة، وهذه ظاهرية محضة وإعراض عن المعنى. وشذ قوم فأجازوا الوصل مطلقا،
وهو قول باطل قطعا ترده الأحاديث. وقد روي عن عائشة رضي الله عنها ولم يصح. وروي عن
ابن سيرين أنه سأل رجل فقال: إن أمي كانت تمشط النساء، أتراني آكل من مالها ؟
فقال: إن كانت تصل فلا. ولا يدخل في النهي ما ربط منه بخيوط الحرير الملونة على
وجه الزينة والتجميل، والله أعلم.
وقالت
طائفة: المراد بالتغيير لخلق الله هو أن الله تعالى خلق الشمس والقمر والأحجار
والنار وغيرها من المخلوقات؛ ليعتبر بها وينتفع بها، فغيرها الكفار بأن جعلوها
آلهة معبودة. قال الزجاج: إن الله تعالى خلق الأنعام لتركب وتؤكل فحرموها على
أنفسهم، وجعل الشمس والقمر والحجارة مسخرة للناس فجعلوها آلهة يعبدونها، فقد غيروا
ما خلق الله. وقاله جماعة من أهل التفسير: مجاهد والضحاك وسعيد بن جبير وقتادة.
وروي عن ابن عباس «
فليغيرن خلق الله » دين
الله؛ وقال النخعي، واختاره الطبري قال: وإذا كان ذلك معناه دخل فيه فعل كل ما نهى
الله عنه من خصاء ووشم وغير ذلك من المعاصي؛ لأن الشيطان يدعو إلى جميع المعاصي؛
أي فليغيرن ما خلق الله في دينه. وقال مجاهد أيضا: « فليغيرن خلق الله » فطرة الله التي فطر الناس
عليها؛ يعني أنهم ولدوا على الإسلام فأمرهم الشيطان بتغييره، وهو معنى قوله عليه
السلام: ( كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ) . فيرجع
معنى الخلق إلى ما أوجده فيهم يوم الذر من الإيمان به في قوله تعالى: « ألست بربكم قالوا بلى » [ الأعراف: 172 ] . قال ابن العربي: روي عن
طاوس أنه كان لا يحضر نكاح سوداء بأبيض ولا بيضاء بأسوده ويقول: هذا من قول الله « فليغيرن خلق الله » . قال القاضي: وهذا وإن كان
يحتمله اللفظ فهو مخصوص بما أنفذه النبي صلى الله عليه وسلم من نكاح مولاه زيد
وكان أبيض؛ بظئره بركة الحبشية أم أسامة وكان أسود من أبيض، وهذا مما خفي على طاوس
مع علمه.
قلت:
ثم أنكح أسامة فاطمة بنت قيس وكانت بيضاء قرشية. وقد كانت تحت بلال أخت عبدالرحمن
بن عوف زهرية. وهذا أيضا يخص وقد خفي عليهما.
قوله
تعالى: « ومن
يتخذ الشيطان وليا من دون الله » أي
يطيعه ويدع أمر الله. « فقد
خسر » أي
نقص نفسه وغبنها بأن أعطى الشيطان حق الله تعالى فيه وتركه من أجله.
الآية
[ 120
] في
الصفحة التالية ...
الآيات:
120 - 122 ( يعدهم ويمنيهم وما يعدهم
الشيطان إلا غرورا، أولئك مأواهم جهنم ولا يجدون عنها محيصا، والذين آمنوا وعملوا
الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا وعد الله حقا ومن
أصدق من الله قيلا )
قوله
تعالى: « يعدهم
» المعنى يعدهم
أباطيله وترهاته من المال والجاه والرياسة، وأن لا بعث ولا عقاب، ويوهمهم الفقر
حتى لا ينفقوا في الخير «
ويمنيهم » كذلك « وما يعدهم الشيطان إلا غرورا
» أي
خديعة. قال ابن عرفة: الغرور ما رأيت له ظاهرا تحبه وفيه باطن مكروه أو مجهول.
والشيطان غرور؛ لأنه يحمل على محاب النفس، ووراء ذلك ما يسوء. « أولئك » ابتداء « مأواهم » ابتداء ثان « جهنم » خبر الثاني والجملة خبر الأول.
و « محيصا
» ملجأ،
والفعل منه حاص يحيص. « ومن
أصدق من الله قيلا » ابتداء
وخبر. « قيلا » على البيان؛ قال قيلا وقولا
وقالا، بمعنى أي لا أحد أصدق من الله. وقد مضى الكلام على ما تضمنته هذه الآي من
المعاني والحمد لله.
الآية:
123 ( ليس بأمانيكم ولا أماني أهل
الكتاب من يعمل سوء يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا )
قوله
تعالى: « ليس
بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب » وقرأ
أبو جعفر المدني « ليس
بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب » بتخفيف
الياء فيها جميعا. ومن أحسن ما روي في نزولها ما رواه الحكم بن أبان عن عكرمة عن
ابن عباس قال: قالت اليهود والنصارى لن يدخل الجنة إلا من كان منا. وقالت قريش:
ليس نبعث، فأنزل الله « ليس
بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب » . وقال
قتادة والسدي: تفاخر المؤمنون وأهل الكتاب فقال أهل الكتاب: نبينا قبل نبيكم
وكتابنا قبل كتابكم ونحن أحق بالله منكم. وقال المؤمنون: نبينا خاتم النبيين
وكتابنا يقضي على سائر الكتب، فنزلت الآية.
قوله
تعالى: « من
يعمل سوءا يجز به » السوء
ههنا الشرك، قال الحسن: هذه الآية في الكافر، وقرأ « وهل يجازى إلا الكفور » [ سبأ: 17 ] . وعنه أيضا « من يعمل سوءا يجز به » قال: ذلك لمن أراد الله هوانه،
فأما من أراد كرامته فلا، قد ذكر الله قوما فقال: « أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم
في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون » [
الأحقاف: 16 ] . وقال
الضحاك: يعني اليهود والنصارى والمجوس وكفار العرب. وقال الجمهور: لفظ الآية عام،
والكافر والمؤمن مجازى بعمله السوء، فأما مجازاة الكافر فالنار؛ لأن كفره أوبقه،
وأما المؤمن فبنكبات الدنيا، كما روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: لما نزلت « من يعمل سوءا يجز به » بلغت من المسلمين مبلغا شديدا،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( قاربوا وسددوا ففي كل ما يصاب به المسلم كفارة حتى النكبة
ينكبها والشوكة يشاكها ) . وخرج
الترمذي الحكيم في ( نوادر
الأصول، في الفصل الخامس والتسعين ) حدثنا إبراهيم بن المستمر الهذلي قال حدثنا عبدالرحمن بن
سليم بن حيان أبو زيد قال: سمعت أبي يذكر عن أبيه قال صحبت ابن عمر من مكة إلى
المدينة فقال لنافع: لا تمر بي على المصلوب؛ يعني ابن الزبير، قال: فما فجئه في
جوف الليل أن صك محمله جذعه؛ فجلس فمسح عينيه ثم قال: يرحمك الله أبا خبيب أن كنت
وأن كنت ! ولقد سمعت أباك الزبير يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من يعمل سوءا يجز به في
الدنيا أو في الآخرة ) فإن يك
هذا بذاك فهيه. قال الترمذي أبو عبدالله: فأما في التنزيل فقد أجمله فقال: « من يعمل سوءا يجز به ولا يجد
له من دون الله وليا ولا نصيرا » فدخل
فيه البر والفاجر والعدو والولي والمؤمن والكافر؛ ثم ميز رسول الله صلى الله عليه
وسلم في هذا الحديث بين الموطنين فقال: ( يجز به في الدنيا أو في الآخرة ) وليس يجمع عليه الجزاء في
الموطنين؛ ألا ترى أن ابن عمر قال: فإن يك هذا بذاك فهيه؛ معناه أنه قاتل في حرم
الله وأحدث فيه حدثا عظيما حتى أحرق البيت ورمي الحجر الأسود بالمنجنيق فانصدع حتى
ضبب بالفضة فهو إلى يومنا هذا كذلك، وسمع للبيت أنينا: آه آه ! فلما رأى ابن عمر
فعله ثم رآه مقتولا مصلوبا ذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من يعمل سوءا يجز به ) . ثم قال: إن يك هذا القتل
بذاك الذي فعله فهيه؛ أي كأنه جوزي بذلك السوء هذا القتل والصلب. رحمه الله ! ثم
ميز رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث آخر بين الفريقين؛ حدثنا أبي رحمه الله قال
حدثنا أبو نعيم قال حدثنا محمد بن مسلم عن يزيد بن عبدالله بن أسامة بن الهاد
الليثي قال: لما نزلت « من
يعمل سوءا يجز به » قال أبو
بكر الصديق رضي الله عنه: ما هذه بمبقية منا؛ قال: ( يا أبا بكر إنما يجزى المؤمن
بها في الدنيا ويجزى بها الكافر يوم القيامة ) . حدثنا الجارود قال حدثنا وكيع وأبو معاوية وعبدة عن
إسماعيل بن أبي خالد عن أبي بكر بن أبي زهير الثقفي قال: لما نزلت « من يعمل سوءا يجز به » قال أبو بكر: كيف الصلاح يا
رسول الله مع هذا ؟ كل شيء عملناه جزينا به، فقال: ( غفر الله لك يا أبا بكر ألست
تنصب، ألست تحزن، الست تصيبك اللأواء ؟. قال: بلى. قال ( فذلك مما تجزون به ) ففسر
رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أجمله التنزيل من قوله: « من يعمل سوءا يجز به » . وروى الترمذي عن أبي بكر
الصديق رضي الله عنه أنها لما نزلت قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( أما أنت يا
أبا بكر والمؤمنون فتجزون بذلك في الدنيا حتى تلقوا الله وليس لكم ذنوب وأما
الآخرون فيجمع ذلك لهم حتى يجزوا به يوم القيامة ) . قال: حديث غريب: وفي إسناده
مقال: وموسى بن عبيدة يضعف في الحديث، ضعفه يحيى بن سعيد القطان وأحمد بن حنبل.
ومولى بن سباع مجهول، وقد روي هذا من غير وجه عن أبي بكر وليس له إسناد صحيح أيضا؛
وفي الباب عن عائشة.
قلت:
خرجه إسماعيل بن إسحاق القاضي قال حدثنا سليمان بن حرب قال حدثنا قال حدثنا حماد
بن سلمة عن علي بن يزيد عن أمه أنها سألت عائشة عن هذه الآية « وإن تبدوا ما في أنفسكم أو
تخفوه » [ البقرة: 284 ] وعن هذه الآية « من يعمل سوءا يجز به » فقالت عائشة: ما سألني أحد
منذ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها؛ فقال: ( يا عائشة، هذه مبايعة الله
بما يصيبه من الحمى والنكبة والشوكة حتى البضاعة يضعها في كمه فيفقدها فيفزع
فيجدها في عيبته، حتى إن المؤمن ليخرج من ذنوبه كما يخرج التبر من الكير ) . واسم « ليس » مضمر فيها في جميع هذه
الأقوال؛ والتقدير: ليس الكائن من أموركم ما تتمنونه، بل من يعمل سوءا يجز به.
وقيل: المعنى ليس ثواب الله بأمانيكم « إذ قد تقدم » والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات « .»
قوله
تعالى: « ولا
يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا » يعني المشركين؛ لقوله تعالى: « إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا
في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد » [
غافر: 51 ] .
وقيل: « من
يعمل سوءا يجز به » إلا
أن يتوب. وقراءة الجماعة « ولا
يجد له »
بالجزم عطفا على « يجز به
» .
وروى ابن بكار عن ابن عامر « ولا
يجد »
بالرفع استئنافا. فإن حملت الآية على الكافر فليس له غدا ولي ولا نصير. وإن حملت
على المؤمن فليس له ولي ولا نصير دون الله.
الآية:
124 ( ومن يعمل
من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا )
شرط
الإيمان لأن المشركين أدلوا بخدمة الكعبة وإطعام الحجيج وقرى الأضياف، وأهل الكتاب
بسبقهم، وقولهم نحن أبناء الله وأحباؤه؛ فبين تعالى أن الأعمال الحسنة لا تقبل من
غير إيمان. وقرأ « يدخلون
الجنة »
الشيخان أبو عمرو وابن كثير ( بضم الياء وفتح الخاء ) على ما لم يسم فاعله.
الباقون بفتح الياء وضم الخاء؛ يعني يدخلون الجنة بأعمالهم. وقد مضى ذكر النقير
وهي النكتة في ظهر النواة.
الآية:
125 ( ومن
أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم
خليلا )
قوله
تعالى: « ومن
أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا » فضل دين الإسلام على سائر
الأديان و « أسلم
وجهه لله » معناه
أخلص دينه لله وخضع له وتوجه إليه بالعبادة. قال ابن عباس: أراد أبا بكر الصديق
رضي الله عنه. وانتصب « دينا » على البيان. « وهو محسن » ابتداء وخبر في موضع الحال،
أي موحد فلا يدخل فيه أهل الكتاب؛ لأنهم تركوا الإيمان بمحمد عليه السلام. والملة
الدين، والحنيف المسلم وقد تقدم.
قوله
تعالى: « واتخذ
الله إبراهيم خليلا » قال
ثعلب: إنما سمي الخليل خليلا لأن محبته تتخلل القلب فلا تدع فيه خللا إلا ملأته؛
وأنشد قول بشار:
قد
تخللت مسلك الروح مني وبه سمي الخليل خليلا
وخليل
فعيل بمعنى فاعل كالعليم بمعنى العالم وقيل: هو بمعنى المفعول كالحبيب بمعنى
المحبوب، وإبراهيم كان محبا لله وكان محبوبا لله. وقيل: الخليل من الاختصاص فالله
عز وجل أعلم اختص إبراهيم في وقته للرسالة. واختار هذا النحاس قال: والدليل على
هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم ( وقد اتخذ الله صاحبكم خليلا ) يعني نفسه. وقال
صلى الله عليه وسلم: ( لو كنت متخذا أبا بكر خليلا ) أي لو كنت مختصا أحدا بشيء
لاختصصت أبا بكر. رضي الله عنه. وفي هذا رد على من زعم أن النبي صلى الله عليه
وسلم اختص بعض أصحابه بشيء من الدين. وقيل: الخليل المحتاج؛ فإبراهيم خليل الله
معنى أنه فقير محتاج إلى الله تعالى؛ كأنه الذي به الاختلال. وقال زهير يمدح هرم
بن سنان
وإن
أتاه خليل يوم مسغبة يقول لا غالب مالي ولا حرم
أي لا
ممنوع. قال الزجاج: ومعنى الخليل: الذي ليس في محبته خلل؛ فجائز أن يكون سمي خليلا
لله بأنه الذي أحبه واصطفاه محبة تامة. وجائز أن يسمى خليل الله أي فقيرا إلى الله
تعالى؛ لأنه لم يجعل فقره ولا فاقته إلا إلى الله تعالى مخلصا في ذلك. والاختلال
الفقر؛ فروي أنه لما رمي بالمنجنيق وصار في الهواء أتاه جبريل عليه السلام فقال:
ألك حاجة ؟ قال: أما إليك فلا. فخلق الله تعالى لإبراهيم نصرته إياه. وقيل: سمي
بذلك بسبب أنه مضى إلى خليل له بمصر، وقيل: بالموصل ليمتار من عنده طعاما فلم يجد
صاحبه، فملأ غرائره رملا وراح به إلى أهله فحطه ونام؛ ففتحه أهله فوجدوه دقيقا
فصنعوا له منه، فلما قدموه إليه قال: من أين لكم هذا ؟ قالوا: من الذي جئت به من
عند خليلك المصري؛ فقال: هو من عند خليلي؛ يعني الله تعالى؛ فسمي خليل الله بذلك.
وقيل: إنه أضاف رؤساء الكفار وأهدى لهم هدايا وأحسن إليهم فقالوا له: ما حاجتك ؟
قال: حاجتي أن تسجدوا سجدة؛ فسجدوا فدعا الله تعالى وقال: اللهم إني قد فعلت ما
أمكنني فافعل اللهم ما أنت أهل لذلك؛ فوفقهم الله تعالى للإسلام فاتخذه الله خليلا
لذلك. ويقال: لما دخلت عليه الملائكة بشبه الآدميين وجاء بعجل سمين فلم يأكلوا منه
وقالوا: إنا لا نأكل شيئا بغير ثمن فقال لهم: أعطوا ثمنه وكلوا، قالوا: وما ثمنه ؟
قال: أن تقولوا في أوله باسم الله وفي آخره الحمد لله، فقالوا فيما بينهم: حق على
الله أن يتخذه خليلا؛ فاتخذه الله خليلا. وروى جابر بن عبدالله عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال: ( اتخذ الله إبراهيم خليلا لإطعامه الطعام وإفشائه السلام
وصلاته بالليل والناس نيام ) . وروى عبدالله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال: ( يا جبريل لم اتخذ الله إبراهيم خليلا ) ؟ قال: لإطعامه الطعام يا
محمد. وقيل: معنى الخليل الذي يوالي في الله ويعادي في الله. والخلة بين الآدميين
الصداقة؛ مشتقة من تخلل الأسراء بين المتخالين. وقيل: هي من الخلة فكل واحد من
الخليلين يسد خلة صاحبه. وفي مصنف أبي داود عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: ( الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل ) . ولقد أحسن من قال:
من لم
تكن في الله خلته فخليله منه على خطر
آخر:
إذا ما
كنت متخذا خليلا فلا تثقن بكل أخي إخاء
فإن
خيرت بينهم فألصق بأهل العقل منهم والحياء
فإن
العقل ليس له إذا ما تفاضلت الفضائل من كفاء
وقال
حسان بن ثابت رضي الله عنه:
أخلاء
الرجال هم كثير ولكن في البلاء هم قليل
فلا
تغررك خلة من تؤاخي فمالك عند نائبة خليل
وكل أخ
يقول أنا وفي ولكن ليس يفعل ما يقول
سوى خل
له حسب ودين فذاك لما يقول هو الفعول
الآية:
126 ( ولله
ما في السماوات وما في الأرض وكان الله بكل شيء محيطا )
قوله
تعالى: « ولله
ما في السماوات وما في الأرض » أي
ملكا واختراعا. والمعنى إنه اتخذ إبراهيم خليلا بحسن طاعته لا لحاجته إلى مخالته
ولا للتكثير به والاعتضاد؛ وكيف وله ما في السموات وما في الأرض ؟ وإنما أكرمه
لامتثاله لأمره.
قوله
تعالى: « وكان
الله بكل شيء محيطا » أي
أحاط علمه بكل الأشياء.
الآية:
127 (
ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى
النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن والمستضعفين من الولدان
وأن تقوموا لليتامى بالقسط وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما )
نزلت
بسبب سؤال قوم من الصحابة عن أمر النساء وأحكامهن في الميراث وغير ذلك؛ فأمر الله
نبيه عليه السلام أن يقول لهم: الله يفتيكم فيهن؛ أي يبين لكم حكم ما سألتم عنه.
وهذه الآية رجوع إلى ما افتتحت به السورة من أمر النساء، وكان قد بقيت لهم أحكام
لم يعرفوها فسألوا فقيل لهم: إن الله يفتيكم فيهن. روى أشهب عن مالك قال: كان
النبي صلى الله عليه وسلم يسأل فلا يجيب حتى ينزل عليه الوحي، وذلك في كتاب الله « ويستفتونك في النساء قل الله
يفتيكم فيهن » . « ويسألونك عن اليتامى » [ البقرة: 220 ] . و « يسألونك عن الخمر والميسر » [ البقرة: 219 ] . « ويسألونك عن الجبال » [ طه: 105 ] .
قوله
تعالى: « وما
يتلى عليكم » « ما » في موضع رفع، عطف على اسم
الله تعالى. والمعنى: والقرآن يفتيكم فيهن، وهو قوله: « فانكحوا ما طاب لكم من النساء
» [ النساء:3 ] وقد تقدم.
وقوله
تعالى: «
وترغبون أن تنكحوهن » أي
وترغبون عن أن تنكحوهن، ثم حذفت « عن » . وقيل: وترغبون في أن
تنكحوهن ثم حذفت « في » . قال سعيد بن جبير ومجاهد:
ويرغب في نكاحها وإذا كانت كثيرة المال. وحديث عائشة يقوي حذف « عن » فإن في حديثها: وترغبون أن
تنكحوهن رغبة أحدكم عن يتيمته التي تكون في حجره حين تكون قليلة المال والجمال؛
وقد تقدم أول السورة.
الآية:
128 ( وإن امرأة خافت من بعلها
نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير وأحضرت الأنفس
الشح وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا )
قوله
تعالى: « وإن
امرأة » رفع
بإضمار فعل يفسره ما بعده. و « خافت » بمعنى توقعت. وقول من قال:
خافت تيقنت خطأ. قال الزجاج: المعنى وإن امرأة. خافت من بعلها دوام النشوز. قال
النحاس: الفرق بين النشوز والإعراض أن النشوز التباعد، والإعراض ألا يكلمها ولا يأنس
بها. ونزلت الآية بسبب سودة بنت زمعة. روى الترمذي عن ابن عباس قال: خشيت سودة أن
يطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: لا تطلقني وأمسكني، وأجعل يومي منك
لعائشة؛ ففعل فنزلت: « فلا
جناح عليهما أن يصالحا بينهما صلحا والصلح خير » فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز، قال: هذا حديث حسن غريب.
وروى ابن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب أن رافع بن خديج كانت تحته خولة بنة
محمد بن مسلمة، فكره من أمرها إما كبرا وإما غيره، فأراد أن يطلقها فقالت: لا
تطلقني واقسم لي ما شئت؛ فجرت السنة بذلك فنزلت « وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا » . وروى البخاري عن عائشة رضي
الله عنها « وإن
امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا » قالت: الرجل تكون عنده المرأة ليس بمستكثر منها يريد أن
يفارقها فتقول: أجعلك من شأني في حل؛ فنزلت هذه الآية. وقراءة العامة « أن يصالحا » . وقرأ أكثر الكوفيين « أن يصلحا » . وقرأ الجحدري وعثمان البتي « أن يصلحا » والمعنى يصطلحا ثم أدغم.
في هذه
الآية من الفقه الرد على الرعن الجهال الذين يرون أن الرجل إذا أخذ شباب المرأة
وأسنت لا ينبغي أن يتبدل بها. قال ابن أبي مليكة: إن سودة بنت زمعة لما أسنت أراد النبي
صلى الله عليه وسلم أن يطلقها، فآثرت الكون معه، فقالت له: أمسكني وأجعل يومي
لعائشة؛ ففعل صلى الله عليه وسلم، وماتت وهي من أزواجه.
قلت:
وكذلك فعلت بنت محمد بن مسلمة؛ روى مالك عن ابن شهاب عن رافع بن خديج أنه تزوج بنت
محمد بن مسلمة الأنصارية، فكانت عنده حتى كبرت، فتزوج عليها فتاة شابة، فآثر
الشابة عليها، فناشدته الطلاق، فطلقها واحدة، ثم أهملها حتى إذا كانت تحل راجعها،
ثم عاد فآثر الشابة عليها فناشدته الطلاق فطلقها واحدة، ثم راجعها فآثر الشابة
عليها فناشدته الطلاق فقال: ما شئت إنما بقيت واحدة، فإن شئت استقررت على ما ترين
من الأثرة، وإن شئت فارقتك. قالت: بل أستقر على الأثرة. فأمسكها على ذلك؛ ولم ير
رافع عليه إثما حين قرت عنده على الأثرة. رواه معمر عن الزهري بلفظه ومعناه وزاد:
فذلك الصلح الذي بلغنا أنه نزل فيه « وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما
أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير » . قال أبو عمر بن عبدالبر: قول والله أعلم: « فآثر الشابة عليها » يريد في الميل بنفسه إليها
والنشاط لها؛ لا أنه آثرها عليها في مطعم وملبس ومبيت؛ لأن هذا لا ينبغي أن يظن
بمثل رافع، والله أعلم. وذكر أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا أبو الأحوص عن سماك
بن حرب عن خالد بن عرعرة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رجلا سأل عن هذه
الآية فقال: هي المرأة تكون عند الرجل فتنبو عيناه عنها من دمامتها أو فقرها أو
كبرها أو سوء خلقها وتكره فراقه؛ فإن وضعت له من مهرها شيئا حل له أن يأخذ وإن
جعلت له من أيامها فلا حرج. وقال الضحاك: لا بأس أن ينقصها من حقها إذا تزوج من هي
أشب منها وأعجب إليه. وقال مقاتل بن حيان: هو الرجل تكون تحته المرأة الكبيرة
فيتزوج عليها الشابة؛ فيقول لهذه الكبيرة: أعطيك من مالي على أن أقسم لهذه الشابة
أكثر مما أقسم لك من الليل والنهار؛ فترضى الأخرى بما اصطلحا عليه؛ وإن أبت ألا
ترضى فعليه أن يعدل بينهما في القسم
قال
علماؤنا: وفي هذا أن أنواع الصلح كلها مباحة في هذه النازلة؛ بأن يعطي الزوج على
أن تصبر هي، أو تعطي هي على أن يؤثر الزوج، أو على أن يؤثر ويتمسك بالعصمة، أو يقع
الصلح على الصبر والأثرة من غير عطاء؛ فهذا كله مباح. وقد يجوز أن تصالح إحداهن
صاحبتها عن يومها بشيء تعطيها، كما فعل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم؛ وذلك أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم كان غضب على صفية، فقالت لعائشة: أصلحي بيني وبين
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد وهبت يومي لك. ذكره ابن خويز منداد في أحكامه
عن عائشة قالت: وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم على صفية في شيء؛ فقالت لي صفية:
هل لك أن ترضين رسول الله صلى الله عليه وسلم عني ولك يومي ؟ قالت: فلبست خمارا
كان عندي مصبوغا بزعفران ونضحته، ثم جئت فجلست إلى جنب رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقال: « إليك
عني فإنه ليس بيومك ) .
فقلت: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء؛ وأخبرته الخبر، فرضي عنها. وفيه أن ترك التسوية
بين النساء وتفضيل بعضهن على بعض لا يجوز إلا بإذن المفضولة ورضاها. »
قرأ
الكوفيون « يصلحا
» .
والباقون « أن
يصالحا » .
الجحدري « يصلحا
» فمن قرأ
« يصالحا
» فوجهه
أن المعروف في كلام العرب إذا كان بين قوم تشاجر أن يقال: تصالح القوم، ولا يقال:
أصلح القوم ؟ ولو كان أصلح لكان مصدره إصلاحا. ومن قرأ « يصلحا » فقد استعمل مثله في التشاجر
والتنازع؛ كما قال « فاصلح بينهم
» . ونصب
قوله: « صلحا » على هذه القراءة على أنه
مفعول، وهو اسم مثل العطاء من أعطيت. فأصلحت صلحا مثل أصلحت أمرا؛ وكذلك هو مفعول
أيضا على قراءة من قرأ « يصالحا
» لأن
تفاعل قد جاء متعديا؛ ويحتمل أن يكون مصدرا حذفت زوائده. ومن قرأ « يصلحا » فالأصل « يصتلح » ثم صار إلى يصطلحا، ثم أبدلت
الطاء صادا وأدغمت فيها الصاد؛ ولم تبدل الصاد طاء لما فيها من امتداد الزفير.
قوله
تعالى: « والصلح
خير » لفظ عام
مطلق يقتضي أن الصلح الحقيقي الذي تسكن إليه النفوس ويزول به الخلاف خير على
الإطلاق. ويدخل في هذا المعنى جميع ما يقع عليه الصلح بين الرجل وامرأته في مال أو
وطء أو غير ذلك. « خير » أي خير من الفرقة؛ فإن التمادي
على الخلاف والشحناء والمباغضة هي قواعد الشر، وقال عليه السلام في البغضة: ( إنها الحالقة ) يعني حالقة الدين لا حالقة
الشعر.
قوله
تعالى: « وأحضرت
الأنفس الشح » إخبار
بأن الشح في كل أحد. وأن الإنسان لا بد أن يشح بحكم خلقته وجبلته حتى يحمل صاحبه
على بعض ما يكره؛ يقال: شح يشح ( بكسر
الشين ) قال
ابن جبير: هو شح المرأة بالنفقة من زوجها وبقسمه لها أيامها. وقال ابن زيد: الشح
هنا منه ومنها. وقال ابن عطية: وهذا أحسن؛ فإن الغالب على المرأة الشح بنصيبها من
زوجها، والغالب على الزوج الشح بنصيبه من الشابة. والشح الضبط على المعتقدات
والإرادة وفي الهمم والأموال ونحو ذلك، فما أفرط منه على الدين فهو محمود، وما
أفرط منه في غيره ففيه بعض المذمة، وهو الذي قال الله فيه: « ومن يوق شح نفسه فأولئك هم
المفلحون » [ التغابن:16 ] . وما صار إلى حيز منع الحقوق
الشرعية أو التي تقتضيها المروءة فهو البخل وهي رذيلة. وإذا آل البخل إلى هذه
الأخلاق المذمومة والشيم اللئيمة لم يبق معه خير مرجو ولا صلاح مأمول.
قلت: وقد
روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأنصار: ( من سيدكم ) ؟
قالوا: الجد بن قيس على بخل فيه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( وأي داء أدوى من البخل ) ! قالوا: وكيف ذاك يا رسول
الله ؟ قال: ( إن
قوما نزلوا بساحل البحر فكرهوا لبخلهم نزول الأضياف بهم فقالوا ليبعد الرجال منا
عن النساء حتى يعتذر الرجال بالرجال والنساء بالنساء ) . وقد تقدم، ذكره الماوردي.
قوله
تعالى: « وإن
تحسنوا وتتقوا » شرط « فإن الله كان بما تعملون
خبيرا » جوابه.
وهذا خطاب للأزواج من حيث إن للزوج أن يشح ولا يحسن؛ أي إن تحسنوا وتتقوا في عشرة
النساء بإقامتكم عليهن مع كراهيتكم لصحبتهن واتقاء ظلمهن فهو أفضل لكم.
الآية:
129 ( ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين
النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة وإن تصلحوا وتتقوا فإن
الله كان غفورا رحيما )
قوله
تعالى: « ولن
تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل » أخبر تعالى بنفي الاستطاعة في
العدل بين النساء، وذلك في ميل الطبع بالمحبة والجماع والحظ من القلب. فوصف الله
تعالى حالة البشر وأنهم بحكم الخلقة لا يملكون ميل قلوبهم إلى بعض دون بعض؛ ولهذا
كان عليه السلام يقول: ( اللهم
إن هذه قسمتي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك ) . ثم نهى فقال: « فلا تميلوا كل الميل » قال مجاهد: لا تتعمدوا الإساءة
بل الزموا التسوية في القسم والنفقة؛ لأن هذا مما يستطاع. وسيأتي بيان هذا في « الأحزاب » مبسوطا إن شاء الله تعالى.
وروى قتادة عن النضر بن أنس عن بشير بن نهيك عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: ( من
كانت له امرأتان فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وشقه مائل ) .
قوله
تعالى: «
فتذروها كالمعلقة » أي لا
هي مطلقة ولا ذات زوج؛ قاله الحسن. وهذا تشبيه بالشيء المعلق من شيء؛ لأنه لا على
الأرض استقر ولا على ما علق عليه انحمل؛ وهذا مطرد في قولهم في المثل: « ارض من المركب بالتعليق » . وفي عرف النحويين فمن تعليق
الفعل. ومنه في حديث أم زرع في قول المرأة: زوجي العشنق، إن أنطق أطلق، وإن أسكت
أعلق. وقال قتادة: كالمسجونة؛ وكذا قرأ أبي « فتذروها كالمسجونة » . وقرأ ابن مسعود « فتذروها كأنها معلقة » . وموضع «
فتذروها » نصب؛
لأنه جواب النهي. والكاف في «
كالمعلقة » في موضع
نصب أيضا.
الآيات:
130 - 132 ( وإن يتفرقا يغن الله كلا من
سعته وكان الله واسعا حكيما، ولله ما في السماوات وما في الأرض ولقد وصينا الذين
أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات
وما في الأرض وكان الله غنيا حميدا، ولله ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله
وكيلا )
قوله
تعالى: « وإن
يتفرقا يغن الله كلا من سعته » أي وإن
لم يصطلحا بل تفرقا فليحسنا ظنهما بالله، فقد يقيض للرجل امرأة تقر بها عينه،
وللمرأة من يوسع عليها. وروي عن جعفر بن محمد أن رجلا شكا إليه الفقر، فأمره
بالنكاح، فذهب الرجل وتزوج؛ ثم جاء إليه وشكا إليه الفقر، فأمره بالطلاق؛ فسئل عن
هذه الآية فقال: أمرته بالنكاح لعله من أهل هذه الآية: « إن يكونوا فقراء يغنهم الله
من فضله » فلما لم
يكن من أهل تلك الآية أمرته بالطلاق فقلت: فلعله من أهل هذه الآية « وإن يتفرقا يغن الله كلا من
سعته » .
قوله
تعالى: « ولقد
وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم » أي الأمر بالتقوى كان عاما لجميع الأمم: وقد مضى القول في
التقوى. « وإياكم
» عطف على
« الذين » . « أن اتقوا الله » في موضع نصب؛ قال الأخفش: أي
بأن اتقوا الله. وقال بعض العارفين: هذه الآية هي رحى أي القرآن، لأن جميعه يدور
عليها.
قوله
تعالى: « وإن
تكفروا فإن لله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله غنيا حميدا، ولله ما في
السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا » إن قال قائل: ما فائدة هذا التكرير ؟ فعنه جوابان: أحدهما:
أنه كرر تأكيدا؛ ليتنبه العباد وينظروا ما في ملكوته وملكه وأنه غني عن العالمين.
الجواب الثاني: أنه كرر لفوائد: فأخبر في الأول أن الله تعالى يغني كلا من سعته؛
لأن له ما في السموات وما في الأرض فلا تنفد خزائنه. ثم قال: أوصيناكم وأهل الكتاب
بالتقوى « وإن
تكفروا » أي وإن
تكفروا فإنه غني عنكم؛ لأن له ما في السموات وما في الأرض. ثم أعلم في الثالث بحفظ
خلقه وتدبيره إياهم بقوله: « وكفى
بالله وكيلا » لأن له
ما في السموات وما في الأرض. وقال: « ما في السموات » ولم يقل من في السموات؛ لأنه ذهب به مذهب الجنس، وفي السموات
والأرض من يعقل ومن لا يعقل.
الآية:
133 ( إن يشأ يذهبكم أيها الناس
ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرا )
قوله
تعالى: « إن يشأ
يذهبكم » يعني
بالموت « أيها
الناس » يريد
المشركين والمنافقين « ويأت
بآخرين » يعني
بغيركم. ولما نزلت هذه الآية ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ظهر سلمان
وقال: ( هم
قوم هذا ) .
وقيل: الآية عامة، أي وإن تكفروا يذهبكم ويأت بخلق أطوع لله منكم. وهذا كما قال في
آية أخرى: « وإن
تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم » [
محمد: 38 ] . وفي
الآية تخويف وتنبيه لجميع من كانت له ولاية وإمارة ورياسة فلا يعدل في رعيته، أو
كان عالما فلا يعمل بعلمه ولا ينصح الناس، أن يذهبه ويأتي بغيره. « وكان الله على ذلك قديرا » والقدرة صفة أزلية، لا تتناهى مقدوراته،
كما لا تتناهى معلوماته، والماضي والمستقبل في صفاته بمعنى واحد، وإنما خص الماضي
بالذكر لئلا يتوهم أنه يحدث في ذاته وصفاته. والقدرة هي التي يكون بها الفعل ولا
يجوز وجود العجز معها.
الآية:
134 ( من كان يريد ثواب الدنيا
فعند الله ثواب الدنيا والآخرة وكان الله سميعا بصيرا )
أي من
عمل بما افترضه الله عليه طلبا للآخرة أتاه الله ذلك في الآخرة، ومن عمل طلبا
للدنيا أتاه بما كتب له في الدنيا وليس له في الآخرة من ثواب؛ لأنه عمل لغير الله
كما قال تعالى: « وما له
في الآخرة من نصيب » [ الشورى: 20 ] . وقال تعالى: « أولئك الذين ليس لهم في
الآخرة إلا النار » [ هود: 16 ] . وهذا على أن يكون المراد
بالآية المنافقون والكفار، وهو اختيار الطبري. وروي أن المشركين كانوا لا يؤمنون
بالقيامة، وإنما. يتقربون إلى الله تعالى ليوسع عليهم في الدنيا ويرفع عنهم
مكروهها؛ فأنزل الله عز وجل « من كان
يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة وكان الله سميعا بصيرا » أي يسمع ما يقولونه ويبصر ما
يسرونه.
الآية:
135 ( يا أيها الذين آمنوا كونوا
قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو
فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله
كان بما تعملون خبيرا )
قوله
تعالى: « كونوا
قوامين » « قوامين » بناء مبالغة، أي ليتكرر منكم
القيام بالقسط، وهو العدل في شهادتكم على أنفسكم، وشهادة المرء على نفسه إقراره
بالحقوق عليها. ثم ذكر الوالدين لوجوب برهما وعظم قدرهما، ثم ثنى بالأقربين إذ هم
مظنة المودة والتعصب؛ فكان الأجنبي من الناس أحرى أن يقام عليه بالقسط ويشهد عليه،
فجاء الكلام في السورة في حفظ حقوق الخلق في الأموال.
لا خلاف
بين أهل العلم في صحة أحكام هذه الآية، وأن شهادة الولد على الوالدين الأب والأم
ماضية، ولا يمنع ذلك من برهما، بل من برهما أن يشهد عليهما ويخلصهما من الباطل،
وهو معنى قوله تعالى: « قوا
أنفسكم وأهليكم نارا » [ التحريم:6 ] فإن شهد لهما أو شهدا له وهي:
فقد
اختلف فيها قديما وحديثا؛ فقال ابن شهاب الزهري: كان من مضى من السلف الصالح
يجيزون شهادة الوالدين والأخ، ويتأولون في ذلك قول الله تعالى: « كونوا قوامين بالقسط شهداء
لله » فلم يكن
أحد يتهم في ذلك من السلف الصالح رضوان الله عليهم. ثم ظهرت من الناس أمور حملت
الولاة على اتهامهم، فتركت شهادة من يتهم، وصار ذلك لا يجوز في الولد والوالد
والأخ والزوج والزوجة، وهو مذهب الحسن والنخعي والشعبي وشريح ومالك والثوري
والشافعي وابن حنبل. وقد أجاز قوم شهادة بعضهم لبعض إذا كانوا عدولا. وروي عن عمر
بن الخطاب أنه أجازه؛ وكذلك روي عن عمر بن عبدالعزيز، وبه قال إسحاق والثوري
والمزني. ومذهب مالك جواز شهادة الأخ لأخيه إذا كان عدلا إلا في النسب. وروى عنه
ابن وهب أنها لا تجوز إذا كان في عياله أو في نصيب من مال يرثه. وقال مالك وأبو
حنيفة: شهادة الزوج لزوجته لا تقبل؛ لتواصل منافع الأملاك بينهما وهي محل الشهادة.
وقال الشافعي: تجوز شهادة الزوجين بعضهما لبعض؛ لأنهما أجنبيان، وإنما بينهما عقد
الزوجية وهو معرض للزوال. والأصل قبول الشهادة إلا حيث خص فيما عدا المخصوص فبقي
على الأصل؛ وهذا ضعيف؛ فإن الزوجية توجب الحنان والمواصلة والألفة والمحبة،
فالتهمة قوية ظاهرة. وقد روى أبو داود من حديث سليمان بن موسى عمرو بن شعيب عن
أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد شهادة الخائن والخائنة وذي الغمر
على أخيه، ورد شهادة القانع لأهل البيت وأجازها لغيرهم. قال الخطابي: ذو الغمر
الذي بينه وبين المشهود عليه عداوة ظاهرة، فترد شهادته عليه للتهمة. وقال أبو
حنيفة: شهادته على العدو مقبولة إذا كان عدلا. والقانع السائل والمستطعم، وأصل
القنوع السؤال. ويقال في القانع: إنه المنقطع إلى القوم يخدمهم ويكون في حوائجهم؛
وذلك مثل الأجير أو الوكيل ونحوه. ومعنى رد هذه الشهادة التهمة في جر المنفعة إلى
نفسه؛ لأن القانع لأهل البيت ينتفع بما يصير إليهم من نفع. وكل من جر إلى نفسه
بشهادته نفعا فشهادته مردودة؛ كمن شهد لرجل على شراء دار هو شفيعها، أو كمن حكم له
على رجل بدين وهو مفلس، فشهد المفلس على رجل بدين ونحوه. قال الخطابي: ومن رد
شهادة القانع لأهل البيت بسبب جر المنفعة فقياس قوله أن يرد شهادة الزوج لزوجته؛
لأن ما بينهما من التهمة في جر المنفعة أكثر؛ وإلى هذا ذهب أبو حنيفة. والحديث حجة
على من أجاز شهادة الأب لابنه؛ لأنه يجر به النفع لما جبل عليه من حبه والميل
إليه؛ ولأنه يمتلك ماله، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( أنت ومالك لأبيك ) .
وممن ترد
شهادته عند مالك البدوي على القروي؛ قال: إلا أن يكون في بادية أو قرية، فأما الذي
يشهد في الحضر بدويا ويدع جيرته من أهل الحضر عندي مريب. وقد روى أبو داود
والدارقطني عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( لا تجوز شهادة بدوي على صاحب
قرية ) . قال محمد
بن عبدالحكم: تأول مالك هذا الحديث على أن المراد به الشهادة في الحقوق والأموال،
ولا ترد الشهادة في الدماء وما في معناها مما يطلب به الخلق. وقال عامة أهل العلم:
شهادة البدوي إذا كان عدلا يقيم الشهادة على وجهها جائزة؛ والله أعلم. وقد مضى
القول في هذا في « البقرة
» ، ويأتي
في « براءة
» تمامها
إن شاء الله تعالى.
قوله
تعالى: « شهداء
لله » نصب على
النعت لـ « قوامين
» ، وإن
شئت كان خبرا بعد خبر. قال النحاس: وأجود من هذين أن يكون نصبا على الحال بما في « قوامين » من ذكر الذين آمنوا؛ لأنه نفس المعنى،
أي كونوا قوامين بالعدل عند شهادتكم. قال ابن عطية: والحال فيه ضعيفة في المعنى؛
لأنها تخصيص القيام بالقسط إلى معنى الشهادة فقط. ولم ينصرف « شهداء » لأن فيه ألف التأنيث.
قوله
تعالى: « لله » معناه لذات الله ولوجهه
ولمرضاته وثوابه. « ولو
على أنفسكم أو الوالدين والأقربين » متعلق بـ « شهداء
» ؛ هذا
هو الظاهر الذي فسر عليه الناس، وإن هذه الشهادة المذكورة هي في الحقوق فيقر بها
لأهلها، فذلك قيامه بالشهادة على نفسه؛ كما تقدم. أدب الله جل وعز المؤمنين بهذا؛
كما قال ابن عباس: أمروا أن يقولوا الحق ولو على أنفسهم. ويحتمل أن يكون قوله: « شهداء لله » معناه بالوحدانية لله، ويتعلق
قوله: « ولو
على أنفسكم » ب « قوامين » والتأويل الأول أبين.
قوله
تعالى: « إن يكن
غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما » في
الكلام إضمار وهو اسم كان؛ أي إن يكن الطالب أو المشهود غنيا فلا يراعى لغناه ولا
يخاف منه، وإن يكن فقيرا فلا يراعى إشفاقا عليه. « فالله أولى بهما » أي فيما اختار لهما من فقر وغنى. قال السدي: اختصم إلى النبي
صلى الله عليه وسلم غني وفقير، فكان ضلعه صلى الله عليه وسلم مع الفقير، ورأى أن
الفقير لا يظلم الغني؛ فنزلت الآية.
قوله
تعالى: « فالله
أولى بهما » إنما
قال « بهما » ولم يقل « به » وإن كانت « أو » إنما تدل على الحصول الواحد؛
لأن المعنى فالله أولى بكل واحد منهما. وقال الأخفش: تكون « أو » بمعنى الواو؛ أي إن يكن غنيا
وفقيرا فالله أولى بالخصمين كيفما كانا؛ وفيه ضعف. وقيل: إنما قال: « بهما » لأنه قد تقدم ذكرهما؛ كما قال
تعالى: « وله أخ
أو أخت فلكل واحد منهما السدس » [ النساء:12 ] .
قوله
تعالى: « فلا
تتبعوا الهوى » نهي،
فإن اتباع الهوى مرد، أي مهلك؛ قال الله تعالى: « فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله » [ ص: 26 ] فاتباع الهوى يحمل على
الشهادة بغير الحق، وعلى الجور في الحكم، إلى غير ذلك. وقال الشعبي: أخذ الله عز
وجل على الحكام ثلاثة أشياء: ألا يتبعوا الهوى، وألا يخشوا الناس ويخشوه، وألا
يشتروا بآياته ثمنا قليلا. « أن
تعدلوا » في موضع
نصب.
قوله
تعالى: « وإن
تلووا أو تعرضوا » قرئ « وإن تلووا » من لويت فلانا حقه ليا إذا
دفعته به، والفعل منه « لوى » والأصل فيه « لوى » قلبت الياء ألفا لحركتها وحركة
ما قبلها، والمصدر « ليا » والأصل لويا، وليانا والأصل
لويانا، ثم أدغمت الواو في الياء. وقال القتبي: « تلووا » من اللي
في الشهادة والميل إلى أحد الخصمين. وقرأ ابن عامر والكوفيون « تلوا » أراد قمتم بالأمر وأعرضتم، من
قولك: وليت الأمر، فيكون في الكلام. التوبيخ للإعراض عن القيام بالأمر وقيل: إن
معنى « تلوا » الإعراض. فالقراءة بضم اللام
تفيد معنيين: الولاية والإعراض، والقراءة بواوين تفيد معنى واحدا وهو الإعراض.
وزعم بعض النحويين أن من قرأ « تلوا » فقد لحن؛ لأنه لا معنى للولاية
ههنا. قال النحاس وغيره: وليس يلزم هذا ولكن تكون « تلوا » بمعنى « تلووا » وذلك أن أصله « تلووا » فاستثقلت الضمة على الواو
بعدها واو أخرى. فألقيت الحركة على اللام وحذفت إحدى الواوين لالتقاء الساكنين؛
وهي كالقراءة بإسكان اللام وواوين؛ ذكره مكي. وقال الزجاج: المعنى على قراءته « وإن تلووا » ثم همز الواو الأولى فصارت « تلؤوا » ثم خففت الهمزة بإلقاء حركتها
على اللام فصارت « تلوا » وأصلها « تلووا » . فتتفق القراءتان على هذا
التقدير. وذكره النحاس ومكي وابن العربي وغيرهم. قال ابن عباس: هو في الخصمين
يجلسان بين يدي القاضي فيكون لي القاضي وإعراضه لأحدهما على الآخر؛ فاللي على هذا
مطل الكلام وجره حتى يفوت فصل القضاء وإنفاذه للذي يميل القاضي إليه. قال ابن
عطية: وقد شاهدت بعض القضاة يفعلون ذلك، والله حسيب الكل. وقال ابن عباس أيضا
والسدي وابن زيد والضحاك ومجاهد: هي في الشهود يلوي الشاهد الشهادة بلسانه ويحرفها
فلا يقول الحق فيها، أو يعرض عن أداء الحق فيها. ولفظ الآية يعم القضاء والشهادة،
وكل إنسان مأمور بأن يعدل. وفي الحديث: ( لي الواجد يحل عرضه وعقوبته ) . قال ابن الأعرابي: عقوبته
حبسه، وعرضه شكايته.
وقد
استدل بعض العلماء في رد شهادة العبد بهذه الآية؛ فقال: جعل الله تعالى الحاكم
شاهدا في هذه الآية، وذلك أدل دليل على أن العبد ليس من أهل الشهادة؛ لأن المقصود منه
الاستقلال بهذا المهم إذا دعت الحاجة إليه، ولا يتأتى ذلك من العبد أصلا فلذلك ردت
الشهادة.
الآية:
136 ( يا أيها الذين آمنوا آمنوا
بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ومن يكفر بالله
وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا )
قوله
تعالى: « يا
أيها الذين آمنوا آمنوا » الآية.
نزلت في جميع المؤمنين؛ والمعنى: يا أيها الذين صدقوا أقيموا على تصديقكم وأثبتوا
عليه. «
والكتاب الذي نزل على رسوله » أي
القرآن. «
والكتاب الذي أنزل من قبل » أي كل
كتاب أنزل على النبيين. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر « نزل » و « أنزل » بالضم. الباقون « نزل » و « أنزل » بالفتح. وقيل: نزلت فيمن آمن
بمن تقدم محمدا صلى الله عليه وسلم من الأنبياء عليهم السلام. وقيل: إنه خطاب
للمنافقين؛ والمعنى على هذا يا أيها الذين آمنوا في الظاهر أخلصوا لله. وقيل: المراد
المشركون؛ والمعنى يا أيها الذين آمنوا باللات والعزى والطاغوت آمنوا بالله؛ أي
صدقوا بالله وبكتبه.
الآية:
137 ( إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم
آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا )
قيل:
المعنى آمنوا بموسى وكفروا بعزير، ثم آمنوا بعزير ثم كفروا بعيسى، ثم ازدادوا كفرا
بمحمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: إن الذين آمنوا بموسى ثم آمنوا بعزير، ثم كفروا
بعد عزير بالمسيح، وكفرت النصارى بما جاء به موسى وآمنوا بعيسى، ثم ازدادوا كفرا
بمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من القرآن. فإن قيل: إن الله تعالى لا يغفر
شيئا من الكفر فكيف قال: « إن
الذين آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم » فالجواب أن الكافر إذا آمن غفر
له كفره، فإذا رجع فكفر لم يغفر له الكفر الأول؛ وهذا كما جاء في صحيح مسلم عن
عبدالله قال: قال أناس لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله أنؤاخذ بما
عملنا في الجاهلية ؟ قال: ( أما
من أحسن منكم في الإسلام فلا يؤاخذ بها ومن أساء أخذ بعمله في الجاهلية والإسلام ) . وفي رواية ( ومن أساء في الإسلام أخذ
بالأول والآخر ) .
الإساءة هنا بمعنى الكفر؛ إذ لا يصح أن يراد بههنا ارتكاب سيئة، فإنه يلزم عليه
ألا يهدم الإسلام ما سبق قبله إلا لمن يعصم من جميع السيئات إلا حين موته، وذلك
باطل بالإجماع. ومعنى: « ثم
ازدادوا كفرا » أصروا
على الكفر. « لم يكن
الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا » ليرشدهم. « سبيلا
» طريقا
إلى الجنة. وقيل: لا يخصهم بالتوفيق يخص أولياءه. وفي هذه الآية رد على أهل القدر؛
فإن الله تعالى بين أنه لا يهدي الكافرين طريق خير ليعلم العبد أنه إنما ينال
الهدى بالله تعالى، ويحرم الهدى بإرادة الله تعالى أيضا. وتضمنت الآية أيضا حكم
المرتدين، وقد مضى القول فيهم في « البقرة
» عند
قوله تعالى: « ومن
يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر » [
البقرة: 217 ] .
الآية:
138 ( بشر المنافقين بأن لهم عذابا
أليما )
التبشير
الإخبار بما ظهر أثره على البشرة، وقد تقدم بيانه في « البقرة » ومعنى النفاق.
الآية:
139 ( الذين يتخذون الكافرين
أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا )
قوله
تعالى: « الذين
يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين » « الذين
» نعت
للمنافقين. وفي هذا دليل على أن من عمل معصية من الموحدين ليس بمنافق؛ لأنه لا
يتولى الكفار. وتضمنت المنع من موالاة الكافر، وأن يتخذوا أعوانا على الأعمال
المتعلقة بالدين. وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها أن رجلا من المشركين لحق
بالنبي صلى الله عليه وسلم يقاتل معه، فقال له: ( ارجع فإنا لا نستعين بمشرك ) . « العزة » أي الغلبة، عزه يعزه عزا إذا
غلبه. « فإن
العزة لله جميعا » أي
الغلبة والقوة لله. قال ابن عباس: « أيبتغون عندهم » يريد بني قينقاع، فإن ابن أبي كان يواليهم.
الآية [ 140 ] في الصفحة التالية ...
الآيتان:
140 - 141 ( وقد نزل عليكم في الكتاب أن
إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث
غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا، الذين
يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب
قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن
يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا )
قوله
تعالى: « وقد
نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها » الخطاب لجميع من أظهر الإيمان
من محق ومنافق؛ لأنه إذا أظهر الإيمان فقد لزمه أن يمتثل أوامر كتاب الله. فالمنزل
قوله تعالى: « وإذا
رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره » [ الأنعام: 68 ] . وكان المنافقين يجلسون إلى
أحبار اليهود فيسخرون من القرآن. وقرأ عاصم ويعقوب « وقد نزل » بفتح النون والزاي وشدها؛
لتقدم اسم الله جل جلاله في قوله تعالى: « فإن العزة لله جميعا » . وقرأ حميد كذلك، إلا أنه خفف الزاي. الباقون « نزل » غير مسمى الفاعل. « أن إذا سمعتم آيات الله » موضع « أن إذا سمعتم » على قراءة عاصم ويعقوب نصب
بوقوع الفعل عليه. وفي قراءة الباقين رفع؛ لكونه اسم ما لم يسم فاعله. « يكفر بها » أي إذا سمعتم الكفر والاستهزاء
بآيات الله؛ فأوقع السماع على الآيات، والمراد سماع الكفر والاستهزاء؛ كما تقول:
سمعت عبدالله يلام، أي سمعت اللوم في عبدالله.
قوله
تعالى: « فلا
تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره » أي غير الكفر. « إنكم إذا مثلهم » فدل بهذا على وجوب اجتناب أصحاب المعاصي إذا ظهر منهم منكر؛
لأن من لم يجتنبهم فقد رضي فعلهم، والرضا بالكفر كفر؛ قال الله عز وجل: « إنكم إذا مثلهم » . فكل من جلس في مجلس معصية
ولم ينكر عليهم يكون معهم في الوزر سواء، وينبغي أن ينكر عليهم إذا تكلموا
بالمعصية وعملوا بها؛ فإن لم يقدر على النكير عليهم فينبغي أن يقوم عنهم حتى لا
يكون من أهل هذه الآية. وقد روي عن عمر بن عبدالعزيز رضى الله عنه أنه أخذ قوما
يشربون الخمر، فقيل له عن أحد الحاضرين: إنه صائم، فحمل عليه الأدب وقرأ هذه الآية
« إنكم
إذا مثلهم » أي إن
الرضا بالمعصية معصية؛ ولهذا يؤاخذ الفاعل والراضي بعقوبة المعاصي حتى يهلكوا
بأجمعهم. وهذه المماثلة ليست في جميع الصفات، ولكنه إلزام شبه بحكم الظاهر من
المقارنة؛ كما قال:
فكل قرين
بالمقارن يقتدي
وقد
تقدم. وإذا ثبت تجنب أصحاب المعاصي كما بينا فتجنب أهل البدع والأهواء أولى. وقال
الكلبي: قوله تعالى: « فلا
تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره » نسخ بقوله تعالى: « وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء » [ الأنعام: 69 ] . وقال عامة. المفسرين: هي
محكمة. وروى جويبر عن الضحاك قال: دخل في هذه الآية كل محدث في الدين مبتدع إلى
يوم القيامة.
قوله
تعالى: « إن
الله جامع المنافقين » الأصل « جامع » بالتنوين فحذف استخفافا؛ فإنه
بمعنى يجمع. « الذين
يتربصون بكم » يعني
المنافقين، أي ينتظرون بكم الدوائر. « فإن كان لكم فتح من الله » أي غلبة على اليهود وغنيمة. « قالوا ألم نكن معكم » أي أعطونا من الغنيمة. « وإن كان للكافرين نصيب » أي ظفر. « قالوا
ألم نستحوذ عليكم » أي ألم
نغلب عليكم حتى هابكم المسلمون وخذلناهم عنكم. يقال: استحوذ على كذا أي غلب عليه؛
ومنه قوله تعالى: « استحوذ
عليهم الشيطان » [ المجادلة: 19 ] . وقيل: أصل الاستحواذ الحوط؛
حاذه يحوذه حوذا إذا حاطه. وهذا الفعل جاء على الأصل، ولو أعل لكان ألم نستحذ،
والفعل على الإعلال استحاذ يستحيذ، وعلى غير الإعلال استحوذ يستحوذ. « ونمنعكم من المؤمنين » أي بتخذيلنا إياهم عنكم،
وتفريقنا إياهم مما يريدونه منكم. والآية تدل على أن المنافقين كانوا يخرجون في
الغزوات مع المسلمين ولهذا قالوا: ألم نكن معكم ؟ وتدل على أنهم كانوا لا يعطونهم
الغنيمة ولهذا طلبوها وقالوا: ألم نكن معكم ! ويحتمل أن يريدوا بقولهم « ألم نكن معكم » الامتنان على المسلمين. أي كنا
نعلمكم بأخبارهم وكنا أنصارا لكم.
قوله
تعالى: « ولن
يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا » للعلماء فيه تأويلات خمس:
أحدها:
ما روي عن يسيع الحضرمي قال: كنت عند علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال له رجل يا
أمير المؤمنين، أرأيت قول الله: « ولن
يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا » كيف ذلك، وهم يقاتلوننا ويظهرون علينا أحيانا ! فقال علي رضي
الله عنه: معنى ذلك يوم القيامة يوم الحكم. وكذا قال ابن عباس: ذاك يوم القيامة.
قال ابن عطية: وبهذا قال جميع أهل التأويل. قال ابن العربي: وهذا ضعيف: لعدم فائدة
الخبر فيه، وإن أوهم صدر الكلام معناه؛ لقوله تعالى: « فلله يحكم بينكم يوم القيامة
» فأخر
الحكم إلى يوم القيامة. وجعل الأمر في الدنيا دولا تغلب الكفار تارة وتغلب أخرى؛
بما رأى من الحكمة وسبق من الكلمة. ثم قال: « ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا » فتوهم من توهم أن آخر الكلام
يرجع إلى أوله، وذلك يسقط فائدته، إذ يكون تكرارا.
الثاني:
إن الله لا يجعل لهم سبيلا يمحو به دولة المؤمنين، ويذهب آثارهم ويستبيح بيضتهم؛
كما جاء في صحيح مسلم من حديث ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( وإني سألت ربي ألا يهلكها
بسنة عامة وألا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم وإن ربي قال يا محمد
إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد وإني قد أعطيتك لأمتك ألا أهلكهم بسنة عامة وألا
أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها حتى
يكون بعضهم يهلك بعضا ويسبي بعضهم بعضا ) .
الثالث:
إن الله سبحانه لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا منه إلا أن يتواصوا بالباطل
ولا يتناهوا عن المنكر ويتقاعدوا عن التوبة فيكون تسليط العدو من قبلهم؛ كما قال
تعالى: « وما
أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم » [
الشورى: 30 ] . قال
ابن العربي: وهذا نفيس جدا.
قلت:
ويدل عليه قوله عليه السلام في حديث ثوبان ( حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ويسبي بعضهم بعضا ) وذلك أن « حتى » غاية؛ فيقتضي ظاهر الكلام أنه
لا يسلط عليهم عدوهم فيستبيحهم إلا إذا كان منهم إهلاك بعضهم لبعض، وسبي بعضهم
لبعض، وقد وجد ذلك في هذه الأزمان بالفتن الواقعة بين المسلمين؛ فغلظت شوكة
الكافرين واستولوا على بلاد المسلمين حتى لم يبق من الإسلام إلا أقله؛ فنسأل الله
أن يتداركنا بعفوه ونصره ولطفه.
الرابع:
إن الله سبحانه لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا شرعا؛ فإن وجد فبخلاف الشرع.
الخامس: « ولن يجعل الله للكافرين على
المؤمنين سبيلا » أي حجة
عقلية ولا شرعيه يستظهرون بها إلا أبطلها ودحضت.
ابن
العربي: ونزع علماؤنا بهذه الآية في الاحتجاج على أن الكافر لا يملك العبد المسلم.
وبه قال أشهب والشافعي: لأن الله سبحانه نفى السبيل للكافر عليه، والملك بالشراء
سبيل، فلا يشرع له ولا ينعقد العقد بذلك. وقال ابن القاسم عن مالك، وهو قول أبي
حنيفة: إن معنى « ولن
يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا » في دوام الملك؛ لأنا نجد الابتداء يكون له عليه وذلك بالإرث.
وصورته أن يسلم عبد كافر في يد كافر فيلزم القضاء عليه ببيعه، فقبل الحكم عليه
ببيعه مات، فيرث العبد المسلم وارث الكافر. فهده سبيل قد ثبت قهرا لا قصد فيه، وإن
ملك الشراء ثبت بقصد النية، فقد أراد الكافر تملكه باختياره، فإن حكم بعقد بيعه
وثبوت ملكه فقد حقق فيه قصده، وجعل له سبيل عليه. قال أبو عمر: وقد أجمع المسلمون على
أن عتق النصراني أو اليهودي لعبده المسلم صحيح نافذ عليه. وأجمعوا أنه إذا أسلم
عبدالكافر فبيع عليه أن ثمنه يدفع إليه. فدل على أنه على ملكه بيع وعلى ملكه ثبت
العتق له، إلا أنه ملك غير مستقر لوجوب بيعه عليه؛ وذلك والله أعلم لقول الله عز
وجل: « ولن
يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا » يريد الاسترقاق والملك والعبودية ملكا مستقرا دائما.
واختلف
العلماء في شراء العبد الكافر العبد المسلم على قولين: أحدهما: البيع مفسوخ.
والثاني: البيع صحيح ويباع على المشتري.
واختلف
العلماء أيضا من هذا الباب في رجل نصراني دبر عبدا له نصرانيا فأسلم العبد؛ فقال
مالك والشافعي في أحد قوليه: يحال بينه وبين العبد، ويخارج على سيده النصراني، ولا
يباع عليه حتى يتبين أمره. فإن هلك النصراني وعليه دين قضي دينه من ثمن العبد
المدبر، إلا أن يكون في ماله ما يحمل المدبر فيعتق المدبر. وقال الشافعي في القول
الآخر: إنه يباع عليه ساعة أسلم؛ واختاره المزني؛ لأن المدبر وصية ولا يجوز ترك
مسلم في ملك مشرك يذله ويخارجه، وقد صار بالإسلام عدوا له. وقال الليث بن سعد:
يباع النصراني من مسلم فيعتقه، ويكون ولاؤه للذي اشتراه وأعتقه، ويدفع إلى
النصراني ثمنه. وقال سفيان والكوفيون: إذا أسلم مدبر النصراني قوم قيمته فيسعى في
قيمته، فإن مات النصراني قبل أن يفرغ المدبر من سعايته عتق العبد وبطلت السعاية.
الآية:
142 ( إن المنافقين يخادعون الله
وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا
)
قوله
تعالى: « إن
المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم » قد مضى في « البقرة
» معنى
الخدع. والخداع من الله مجازاتهم على خداعهم أولياءه ورسله. قال الحسن: يعطى كل
إنسان من مؤمن ومنافق نور يوم القيامة فيفرج المنافقون ويظنون أنهم قد نجوا؛ فإذا
جاؤوا إلى الصراط طفئ نور كل منافق، فذلك قولهم: « انظرونا نقتبس من نوركم » [
الحديد: 13 ] .
قوله
تعالى: « وإذا
قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى » أي
يصلون مراءاة وهم متكاسلون متثاقلون، لا يرجون ثوابا ولا يعتقدون تركها عقابا. وفي
صحيح الحديث: ( إن أثقل
صلاة على المنافقين العتمة والصبح ) . فإن العتمة تأتي وقد أتعبهم عمل النهار فيثقل عليهم
القيام إليها، وصلاة الصبح تأتي والنوم أحب إليهم من مفروح به، ولولا السيف ما
قاموا.
والرياء:
إظهار الجميل ليراه الناس، لا لاتباع أمر الله؛ وقد تقدم بيانه. ثم وصفهم بقلة
الذكر عند المراءاة وعند الخوف. وقال صلى الله عليه وسلم ذاما لمن أخر الصلاة: ( تلك صلاة المنافقين - ثلاثا
- يجلس أحدهم يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان - أو - على قرني الشيطان
قام فنقر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا ) رواه مالك وغيره. فقيل: وصفهم بقلة الذكر لأنهم كانوا لا
يذكرون الله بقراءة ولا تسبيح، وإنما كانوا يذكرونه بالتكبير. وقيل: وصفه بالقلة
لأن الله تعالى لا يقبله. وقيل: لعدم الإخلاص فيه. وهنا مسألتان:
الأولى:
بين الله تعالى في هذه الآية صلاة المنافقين، وبينها رسوله محمد صلى الله عليه
وسلم؛ فمن صلى كصلاتهم وذكر كذكرهم لحق بهم في عدم القبول، وخرج من مقتضى قوله
تعالى: « قد
أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون » [
المؤمنون: 1 ] .
وسيأتي اللهم إلا أن يكون له عذر فيقتصر على الفرض حسب ما علمه النبي صلى الله عليه
وسلم. للأعرابي حين رآه أخل بالصلاة فقال له: ( إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة ثم أقرأ
ما تيسر معك من القرآن ثم أركع حتى تطمئن راكعا ثم أرفع حتى تعتدل قائما ثم أسجد
حتى تطمئن ساجدا ثم أرفع حتى تطمئن جالسا ثم أفعل ذلك في صلاتك كلها ) . رواه الأئمة. وقال صلى الله
عليه وسلم: ( لا
صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن ) .
وقال: ( لا
تجزئ صلاة لا يقيم الرجل فيها صلبه. الركوع والسجود ) . أخرجه الترمذي وقال: حديث
حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن
بعدهم، يرون أن يقيم الرجل صلبه في الركوع والسجود. قال الشافعي وأحمد وإسحاق: من
لا يقيم صلبه في الركوع والسجود فصلاته فاسدة؛ لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: ( تجزئ صلاة لا يقيم الرجل
فيها صلبه في الركوع والسجود ) . قال
ابن العربي: وذهب ابن القاسم وأبو حنيفة إلى أن الطمأنينة ليست بفرض. وهي رواية
عراقية لا ينبغي لأحد من المالكيين أن يشتغل بها. وقد مضى في « البقرة » هذا المعنى.
الثانية:
قال ابن العربي: إن من صلاة ليراها الناس ويرونه فيها فيشهدون له بالإيمان، أو
أراد طلب المنزلة والظهور لقبول الشهادة جواز الإمامة فليس ذلك بالرياء المنهي
عنه، ولم يكن عليه حرج؛ وإنما الرياء المعصية أن يظهرها صيدا للناس وطريقا إلى
الأكل، فهذه نية لا تجزئ وعليه الإعادة.
قلت:
قوله « وأراد
طلب المنزلة والظهور لقبول الشهادة » فيه نظر. وقد تقدم بيانه في « النساء » فتأمله
هناك. ودلت هذه الآية على أن الرياء يدخل الفرض والنفل؛ لقول الله تعالى: « وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا
» فعم.
وقال قوم: إنما يدخل النفل خاصة؛ لأن الفرض واجب على جميع الناس والنفل عرضة لذلك.
وقيل بالعكس؛ لأنه لو لم يأت بالنوافل لم يؤاخذ بها.
الآية:
143 ( مذبذبين بين ذلك لا إلى
هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا )
المذبذب:
المتردد بين أمرين؛ والذبذبة الاضطراب. يقال: ذبذبته فتذبذب؛ ومنه قول النابغة:
ألم تر
أن الله أعطاك سورة ترى كل ملك دونها يتذبذب
آخر:
خيال لأم
السلسبيل ودونها مسيرة شهر للبريد المذبذب
كذا روي
بكسر الذال الثانية. قال ابن جني: أي المهتز القلق الذي لا يثبت ولا يتمهل. فهؤلاء
المنافقون مترددون بين المؤمنين والمشركين، لا مخلصين الإيمان ولا مصرحين بالكفر.
وفي صحيح مسلم من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( مثل المنافق كمثل الشاة
العائرة بين الغنمين تعير إلى هذه مرة وإلى هذه أخرى ) وفي رواية ( تكر ) بدل ( تعير ) . وقرأ الجمهور « مذبذبين » بضم الميم وفتح الذالين. وقرأ
ابن عباس بكسر الذال الثانية. وفي حرف أبي « متذبذبين » . ويجوز
الإدغام على هذه القراءة «
مذبذبين » بتشديد
الذال الأولى وكسر الثانية. وعن الحسن « مذبذبين » بفتح
الميم والذالين.
الآية:
144 ( يا أيها الذين آمنوا لا
تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا
)
قوله
تعالى: « يا
أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء » مفعولان؛ أي لا تجعلوا خاصتكم وبطانتكم منهم؛ وقد تقدم هذا
المعنى. «
أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا » أي في تعذيبه إياكم بإقامته حجته عليكم إذ قد نهاكم.
الآية:
145 ( إن المنافقين في الدرك
الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا )
قوله
تعالى: « في
الدرك » . قرأ
الكوفيون « الدرك
» بإسكان
الراء، والأولى أفصح؛ لأنه يقال في الجمع: أدراك مثل جمل وأجمال؛ قال النحاس. وقال
أبو علي: هما لغتان كالشمع والشمع ونحوه، والجمع أدراك. وقيل: جمع الدرك أدرك؛
كفلس وأفلس. والنار دركات سبعة؛ أي طبقات ومنازل؛ إلا أن استعمال العرب لكل ما
تسافل أدراك. يقال: للبئر أدراك، ولما تعالى درج؛ فللجنة درج، وللنار أدراك. وقد
تقدم هذا. فالمنافق في الدرك الأسفل وهي الهاوية؛ لغلظ كفره وكثرة غوائله وتمكنه
من أذى المؤمنين. وأعلى الدركات جهنم ثم لظى ثم الحطمة ثم السعير ثم سقر ثم الجحيم
ثم الهاوية؛ وقد يسمى جميعها باسم الطبقة الأولى، أعاذنا الله من عذابها بمنه
وكرمه. وعن ابن مسعود في تأويل قوله تعالى: « في الدرك الأسفل من النار » قال: توابيت من حديد مقفلة في النار تقفل عليهم. وقال ابن
عمر: إن أشد الناس عذابا يوم القيامة ثلاثة: المنافقون، ومن كفر من أصحاب المائدة،
وآل فرعون؛ تصديق ذلك في كتاب الله تعالى، قال الله تعالى: « إن المنافقين في الدرك الأسفل
من النار » . وقال
تعالى أصحاب المائدة: « فإني
أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين » [
المائدة: 115 ] . وقال
في آل فرعون: « أدخلوا
آل فرعون أشد العذاب » [ غافر: 46 ] .
الآية:
146 ( إلا الذين تابوا وأصلحوا
واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا
عظيما )
استثناء
ممن نافق. ومن شرط التائب. من النفاق أن يصلح في قوله وفعله، ويعتصم بالله أي
يجعله ملجأ ومعاذا، ويخلص دينه لله؛ كما نصت عليه. هذه الآية؛ وإلا فليس بتائب؛
ولهذا أوقع أجر المؤمنين في التسويف لانضمام المنافقين إليهم. والله أعلم. روى
البخاري عن الأسود قال: كنا في حلقة عبدالله فجاء حذيفة حتى قام علينا فسلم ثم
قال: لقد نزل النفاق على قوم خير منكم، قال الأسود: سبحان الله ! إن الله تعالى
يقول: « إن
المنافقين في الدرك الأسفل من النار » . فتبسم عبدالله وجلس حذيفة في ناحية المسجد؛ فقام عبدالله
فتفرق أصحابه فرماني بالحصى فأتيته. فقال حذيفة: عجبت من ضحكه وقد عرف ما قلت: لقد
أنزل النفاق على قوم كانوا خيرا منكم ثم تابوا فتاب الله عليهم. وقال الفراء: معنى
« فأولئك
مع المؤمنين » أي من
المؤمنين. وقال القتبي: حاد عن كلامهم غضبا عليهم فقال: « فأولئك مع المؤمنين » ولم يقل: هم المؤمنون. وحذفت
الياء من « يؤت » في الخط كما حذفت في اللفظ؛
لسكونها وسكون اللام بعدها، ومثله « يوم يناد المنادي » [ ق:
41 ] و « سندع الزبانية » [ العلق: 18 ] و « يوم يدع الداعي » [ القمر: 6 ] حذفت الواوات لالتقاء
الساكنين.
الآية:
147 ( ما يفعل الله بعذابكم إن
شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما )
استفهام
بمعنى التقرير للمنافقين. التقدير: أي منفعة له في عذابكم إن شكرتم وآمنتم؛ فنبه تعالى
أنه لا يعذب الشاكر المؤمن، وأن تعذيبه عباده لا يزيد في ملكه، وتركه عقوبتهم على
فعلهم لا ينقص من سلطانه. وقال مكحول: أربع من كن فيه كن له، وثلاث من كن فيه كن
عليه؛ فالأربع اللاتي له: فالشكر والإيمان والدعاء والاستغفار، قال الله تعالى: « ما يفعل الله بعذابكم إن
شكرتم وآمنتم » وقال
الله تعالى: « وما
كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون » [ الأنفال: 33 ] وقال تعالى: « قل ما يعبأ بكم ربي لولا
دعاؤكم » [ الفرقان: 77 ] . وأما الثلاث اللاتي عليه:
فالمكر والبغي والنكث؛ قال الله تعالى: « فمن نكث فإنما ينكث على نفسه » [ الفتح: 10 ] . وقال تعالى: « ولا يحيق المكر السيئ إلا
بأهله » [ فاطر: 43 ] وقال تعالى: « إنما بغيكم على أنفسكم » [ يونس: 23 ] . « وكان الله شاكرا عليما » أي يشكر عباده على طاعته.
ومعنى « يشكرهم
» يثيبهم؛
فيتقبل العمل القليل ويعطي عليه الثواب الجزيل، وذلك شكر منه على عبادته. والشكر
في اللغة الظهور، يقال: دابة شكور إذا أظهرت من السمن فوق ما تعطى من العلف، وقد
تقدم هذا المعنى مستوفى. والعرب تقول في المثل: « أشكر من بروقة » لأنها يقال: تخضر وتنضر بظل السحاب دون مطر. والله أعلم.
استفهام
بمعنى التقرير للمنافقين. التقدير: أي منفعة له في عذابكم إن شكرتم وآمنتم؛ فنبه
تعالى أنه لا يعذب الشاكر المؤمن، وأن تعذيبه عباده لا يزيد في ملكه، وتركه
عقوبتهم على فعلهم لا ينقص من سلطانه. وقال مكحول: أربع من كن فيه كن له، وثلاث من
كن فيه كن عليه؛ فالأربع اللاتي له: فالشكر والإيمان والدعاء والاستغفار، قال الله
تعالى: « ما
يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم » وقال الله تعالى: « وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم
يستغفرون » [ الأنفال: 33 ] وقال تعالى: « قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم
» [ الفرقان: 77 ] . وأما الثلاث اللاتي عليه:
فالمكر والبغي والنكث؛ قال الله تعالى: « فمن نكث فإنما ينكث على نفسه » [ الفتح: 10 ] . وقال تعالى: « ولا يحيق المكر السيئ إلا
بأهله » [ فاطر: 43 ] وقال تعالى: « إنما بغيكم على أنفسكم » [ يونس: 23 ] . « وكان الله شاكرا عليما » أي يشكر عباده على طاعته.
ومعنى « يشكرهم
» يثيبهم؛
فيتقبل العمل القليل ويعطي عليه الثواب الجزيل، وذلك شكر منه على عبادته. والشكر
في اللغة الظهور، يقال: دابة شكور إذا أظهرت من السمن فوق ما تعطى من العلف، وقد
تقدم هذا المعنى مستوفى. والعرب تقول في المثل: « أشكر من بروقة » لأنها يقال: تخضر وتنضر بظل السحاب دون مطر. والله أعلم.
الآيتان:
148 - 149 ( لا يحب الله الجهر بالسوء من
القول إلا من ظلم وكان الله سميعا عليما، إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء
فإن الله كان عفوا قديرا )
قوله تعالى:
« لا يحب
الله الجهر بالسوء من القول » وتم
الكلام. ثم قال عز وجل: « إلا من
ظلم » استثناء
ليس من الأول في موضع نصب؛ أي لكن من ظلم فله أن يقول ظلمني فلان. ويجوز أن يكون
في موضع رفع ويكون التقدير: لا يحب الله أن يجهر أحد بالسوء إلا من ظلم. وقراءة
الجمهور « ظلم » بضم الظاء وكسر اللام؛ ويجوز
إسكانها. ومن قرأ « ظلم » بفتح الظاء وفتح اللام وهو زيد
بن أسلم وابن أبي إسحاق وغيرهما على ما يأتي، فلا يجوز له أن يسكن اللام لخفة
الفتحة. فعلى القراءة الأولى قالت طائفة: المعنى لا يحب الله أن يجهر أحد بالسوء
من القول إلا من ظلم فلا يكره له الجهر به. ثم اختلفوا في كيفية الجهر بالسوء وما
هو المباح من ذلك؛ فقال الحسن: هو الرجل يظلم الرجل فلا يدع عليه، ولكن ليقل:
اللهم أعني عليه، اللهم استخرج حقي، اللهم حل بينه وبين ما يريد من ظلمي. فهذا
دعاء في المدافعة وهي أقل منازل السوء. وقال ابن عباس وغيره: المباح لمن ظلم أن
يدعو على من ظلمه، وإن صبر فهو خير له؛ فهذا إطلاق في نوع الدعاء على الظالم. وقال
أيضا هو والسدي: لا بأس لمن ظلم أن ينتصر ممن ظلمه بمثل ظلمه ويجهر له بالسوء من
القول. وقال ابن المستنير: « إلا من
ظلم » معناه؛
إلا من أكره على أن يجهر بسوء من القول كفر أو نحوه فذلك مباح. والآية على هذا في
الإكراه؛ وكذا قال قطرب: « إلا من
ظلم » يريد
المكره؛ لأنه مظلوم فذلك موضوع عنه وإن كفر؛ قال: ويجوز أن يكون المعنى « إلا من ظلم » على البدل؛ كأنه قال: لا يحب
الله إلا من ظلم، أي لا يحب الله الظالم؛ فكأنه يقول: يحب من ظلم أي يأجر من ظلم.
والتقدير على هذا القول: لا يحب الله ذا الجهر بالسوء إلا من ظلم، على البدل. وقال
مجاهد: نزلت في الضيافة فرخص له أن يقول فيه. قال ابن جريج عن مجاهد: نزلت في رجل
ضاف رجلا بفلاة من الأرض فلم يضيفه فنزلت « إلا من ظلم » ورواه ابن أبي نجيح أيضا عن مجاهد؛ قال: نزلت هذه الآية « لا يحب الله الجهر بالسوء من
القول إلا من ظلم » في
الرجل يمر بالرجل فلا يضيفه فرخص له أن يقول فيه: إنه لم يحسن ضيافته. وقد استدل من
أوجب الضيافة بهذه الآية؛ قالوا: لأن الظلم ممنوع منه فدل على وجوبها؛ وهو قول
الليث بن سعد. والجمهور على أنها من مكارم الأخلاق وسيأتي بيانها في « هود » والذي يقتضيه ظاهر الآية أن
للمظلوم أن ينتصر من ظالمه - ولكن مع اقتصاد - وإن كان مؤمنا كما قال الحسن؛ فأما
أن يقابل القذف بالقذف ونحوه فلا؛ وقد تقدم في « البقرة » . وإن
كان كافرا فأرسل لسانك وأدع بما شئت من الهلكة وبكل دعاء؛ كما فعل النبي صلى الله
عليه وسلم حيث قال: ( اللهم
أشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف ) وقال: ( اللهم
عليك بفلان وفلان ) سماهم.
وإن كان مجاهرا بالظلم دعي عليه جهرا، ولم يكن له عرض محترم ولا بدن محترم ولا مال
محترم. وقد روي أبو داود عن عائشة قال: سرق لها شيء فجعلت تدعو عليه؛ فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: ( لا
تسبخي عنه ) أي لا
تخففي عنه العقوبة بدعائك عليه. وروي، أيضا عن عمرو بن الشريد عن أبيه عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لي
الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته ) . قال
ابن المبارك: يحل عرضه يغلظ له، وعقوبته يحبس له. وفي صحيح مسلم ( مطل الغني ظلم ) . فالموسر المتمكن إذا طولب
بالأداء ومطل ظلم، وذلك يبيح من عرضه أن يقال فيه: فلان يمطل الناس ويحبس حقوقهم
ويبيح للإمام أدبه وتعزيره حتى يرتدع عن ذلك؛ حكي معناه عن سفيان، وهو معنى قول
ابن المبارك رضي الله عنهما.
وليس من
هذا الباب ما وقع في صحيح مسلم من قول العباس في علي رضي الله عنهما بحضرة عمر
وعثمان والزبير وعبدالرحمن بن عوف: يا أمير المؤمنين اقض بيني وبين هذا الكاذب
الآثم الغادر الخائن. الحديث. ولم يرد عليه واحد منهم؛ لأنها كانت حكومة، كل واحد
منهما يعتقدها لنفسه، حتى أنفذ فيها عليهم عمر الواجب؛ قاله ابن العربي. وقال
علماؤنا: هذا إنما يكون فيما إذا استوت المنازل أو تقاربت، وأما إذا تفاوتت، فلا
تمكن الغوغاء من أن تستطيل على الفضلاء، وإنما تطلب حقها بمجرد الدعوى من غير
تصريح بظلم ولا غضب؛ وهذا صحيح وعليه تدل الآثار. ووجه آخر: وهو أن هذا القول
أخرجه من العباس الغضب وصولة سلطة العمومة ! فإن العم صنو الأب، ولا شك أن الأب
إذا أطلق هذه الألفاظ على ولده إنما يحمل ذلك منه على أنه قصد الإغلاظ والردع
مبالغة في تأديبه، لا أنه موصوف بتلك الأمور؛ ثم أنضاف إلى هذا أنهم في محاجة
ولاية دينية؛ فكان العباس يعتقد أن مخالفته فيها لا تجوز، وأن مخالفته فيها تؤدي
إلى أن يتصف المخالف بتلك الأمور؛ فأطلقها ببوادر الغضب على هذه الأوجه؛ ولما علم
الحاضرون ذلك لم ينكروا عليه؛ أشار إلى هذا المازري والقاضي عياض وغيرهما.
فأما من
قرأ « ظلم » بالفتح في الظاء واللام - وهي،
قراءة زيد بن أسلم، وكان من العلماء بالقرآن بالمدينة بعد محمد بن كعب القرظي،
وقراءة ابن أبي إسحاق والضحاك وابن عباس وابن جبير وعطاء بن السائب - فالمعنى: إلا
من ظلم في فعل أو قول فاجهروا له بالسوء من القول؛ في معنى النهي عن فعله والتوبيخ
له والرد عليه؛ المعنى لا يحب الله أن يقال لمن تاب من النفاق: ألست نافقت ؟ إلا
من ظلم، أي أقام على النفاق؛ ودل على هذا قوله تعالى: « إلا الذين تابوا » . قال ابن زيد: وذلك أنه
سبحانه لما أخبر عن المنافقين أنهم في الدرك الأسفل من النار كان ذلك جهرا بسوء من
القول، ثم قال لهم بعد ذلك: « ما
يفعل الله بعذابكم » [ النساء: 147 ] على معنى التأنيس والاستدعاء
إلى الشكر والإيمان. ثم قال للمؤمنين: « لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم » في إقامته على النفاق؛ فإنه
يقال له: ألست المنافق الكافر الذي لك في الآخرة الدرك الأسفل من النار ؟ ونحو هذا
من القول. وقال قوم: معنى الكلام: لا يحب الله أن يجهر أحد بالسوء من القول، ثم
استثنى استثناء منقطعا؛ أي لكن من ظلم فإنه يجهر بالسوء ظلما وعدوانا وهو ظالم في
ذلك.
قلت:
وهذا شأن كثير من الظلمة ودأبهم؛ فإنهم مع ظلمهم يستطيلون بألسنتهم وينالون من عرض
مظلومهم ما حرم عليهم. وقال أبو إسحاق الزجاج: يجوز أن يكون المعنى « إلا من ظلم » فقال سوءا؛ فإنه ينبغي أن
تأخذوا على يديه؛ ويكون الاستثناء ليس من الأول.
قلت:
ويدل على هذا أحاديث منها قوله عليه السلام: ( خذوا على أيدي سفهائكم ) . وقوله: ( انصر
أخاك ظالما أو مظلوما ) قالوا:
هذا ننصره مظلوما فكيف ننصره ظالما ؟ قال: ( تكفه عن الظلم ) . وقال الفراء: « إلا من ظلم » يعني ولا من ظلم.
قوله
تعالى: « وكان
الله سميعا عليما » تحذير
للظالم حتى لا يظلم، وللمظلوم حتى لا يتعدى الحد في الانتصار. ثم أتبع هذا بقوله: « إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو
تعفوا عن سوء » فندب
إلى العفو ورغب فيه. والعفو من صفة الله تعالى مع القدرة على الانتقام؛ وقد تقدم
في « آل
عمران » فضل
العافين عن الناس. ففي هذه الألفاظ اليسيرة معان كثيرة لمن تأملها. وقيل: إن عفوت
فإن الله يعفو عنك. روي ابن المبارك قال: حدثني من سمع الحسن يقول: إذا جئت الأمم
بين يدي رب العالمين يوم القيامة نودي ليقم من أجره على الله فلا يقوم إلا من عفا
في الدنيا؛ يصدق هذا الحديث قوله تعالى: « فمن عفا وأصلح فأجره على الله » [ الشورى: 40 ] .
الآيتان:
150 - 151 ( إن الذين يكفرون بالله ورسله
ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا
بين ذلك سبيلا، أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا )
قوله
تعالى: « إن
الذين يكفرون » لما ذكر
المشركين والمنافقين ذكر الكفار من أهل الكتاب، اليهود والنصارى؛ إذ كفروا بمحمد
صلى الله عليه وسلم، وبين أن الكفر به كفر بالكل؛ لأنه ما من نبي إلا وقد أمر قومه
بالإيمان بحمد صلى الله عليه وسلم وبجميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. ومعنى « يريدون أن يفرقوا بين الله
ورسله » أي بين
الإيمان بالله ورسله؛ فنص سبحانه على أن التفريق بين الله ورسله كفر؛ وإنما كان
كفرا لأن الله سبحانه فرض على الناس أن يعبدوه بما شرع لهم على ألسنة الرسل، فإذا
جحدوا الرسل ردوا عليهم شرائعهم ولم يقبلوها منهم، فكانوا ممتنعين من التزام
العبودية التي أمروا بالتزامها؛ فكان كجحد الصانع سبحانه، وجحد الصانع كفر لما فيه
من ترك التزام الطاعة والعبودية. وكذلك التفريق بين رسله في الإيمان بهم كفر.
قوله تعالى:
«
ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض » وهم
اليهود آمنوا بموسى وكفروا بعيسى ومحمد؛ وقد تقدم هذا من قولهم في « البقرة » . ويقولون لعوامهم: لم نجد ذكر
محمد في كتبنا. «
ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا » أي يتخذوا بين الإيمان والجحد طريقا، أي دينا مبتدعا بين الإسلام
واليهودية. وقال: « ذلك » ولم يقل ذينك؛ لأن ذلك تقع
للاثنين ولو كان ذينك لجاز.
قوله
تعالى: « أولئك
هم الكافرون حقا » تأكيد
يزيل التوهم في إيمانهم حين وصفهم بأنهم يقولون نؤمن ببعض، وأن ذلك لا ينفعهم إذا كفروا
برسوله؛ وإذا كفروا برسوله فقد كفروا به عز وجل، وكفروا بكل رسول مبشر بذلك
الرسول؛ فلذلك صاروا الكافرين حقا. « وأعتدنا للكافرين » يقوم مقام المفعول الثاني لأعتدنا؛ أي أعتدنا لجميع أصنافهم « عذابا مهينا » أي مذلا.
الآية:
152 ( والذين آمنوا بالله ورسله ولم
يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما )
يعني به
النبي صلى الله عليه وسلم وأمته.
الآية:
153 ( يسألك أهل الكتاب أن تنزل
عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة
بظلمهم ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات فعفونا عن ذلك وآتينا موسى
سلطانا مبينا )
سألت
اليهود محمدا صلى الله عليه وسلم أن يصعد إلى السماء وهم يرونه فينزل عليهم كتابا
مكتوبا فيما يدعيه على صدقه دفعة واحدة، كما أتى موسى بالتوراة؛ تعنتا له صلى الله
عليه وسلم؛ فأعلم الله عز وجل أن آباءهم قد عنتوا موسى عليه السلام بأكبر من هذا « فقالوا أرنا الله جهرة » أي عيانا؛ وقد تقدم في « البقرة » . و « جهرة » نعت لمصدر محذوف أي رؤية جهرة؛
فعوقبوا بالصاعقة لعظم ما جاؤوا به من السؤال والظلم من بعد ما رأوا من المعجزات.
قوله
تعالى: « ثم
اتخذوا العجل » في
الكلام حذف تقديره: فأحييناهم فلم يبرحوا فاتخذوا العجل؛ وقد تقدم في « البقرة » ويأتي ذكره في « طه » إن شاء الله. « من بعد ما جاءتهم البينات » أي البراهين والدلالات
والمعجزات الظاهرات من اليد والعصا وفلق البحر وغيرها بأنه لا معبود إلا الله عز
وجل. « فعفونا
عن ذلك » أي عما
كان منهم من التعنت. « وآتينا
موسى سلطانا مبينا » أي حجة
بينة وهي الآيات التي جاء بها؛ وسميت سلطانا لأن من جاء بها قاهر بالحجة، وهي
قاهرة للقلوب، بأن تعلم أنه ليس في قوى البشر أن يأتوا بمثلها.
الآية:
154 ( ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم
وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدا وقلنا لهم لا تعدوا في السبت وأخذنا منهم ميثاقا
غليظا )
قوله
تعالى: « ورفعنا
فوقهم الطور بميثاقهم » أي بسبب
نقضهم الميثاق الذي أخذ منهم، وهو العمل بما في التوراة؛ وقد تقدم رفع الجبل
ودخولهم الباب في « البقرة
» . و « سجدا » نصب على الحال. وقرأ ورش وحده « وقلنا لهم لا تعدوا في السبت
» بفتح
العين من عدا يعدو عدوا وعدوانا وعدوا وعداء، أي باقتناص الحيتان كما تقدم في « البقرة » . والأصل فيه وتعتدوا أدغمت
التاء في الدال؛ قال النحاس: ولا يجوز إسكان العين ولا يوصل إلى الجمع بين ساكنين
في هذا، والذي يقرأ به إنما يروم الخطأ. « وأخذنا منهم ميثاقا غليظا » يعني العهد الذي أخذ عليهم في التوراة. وقيل: عهد مؤكد
باليمين فسمي غليظا لذلك.
الآيتان:
155 - 156 ( فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم
بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم
فلا يؤمنون إلا قليلا، وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما )
قوله
تعالى: « فبما
نقضهم ميثاقهم » « فبما نقضهم » خفض بالباء و « ما » زائدة مؤكدة كقوله: « فبما رحمة من الله » [ آل عمران: 159 ] وقد تقدم؛ والباء متعلقة
بمحذوف، التقدير: فبنقضهم ميثاقهم لعناهم؛ عن قتادة وغيره. وحذف هذا لعلم السامع.
وقال أبو الحسن علي بن حمزة الكسائي: هو متعلق بما قبله؛ والمعنى فأخذتهم الصاعقة
بظلمهم إلى قوله: « فبما
نقضهم ميثاقهم » قال:
ففسر ظلمهم الذي أخذتهم الصاعقة من أجله بما بعده من نقضهم الميثاق وقتلهم
الأنبياء وسائر ما بين من الأشياء التي ظلموا فيها أنفسهم. وأنكر ذلك الطبري
وغيره؛ لأن الذين أخذتهم الصاعقة كانوا على عهد موسى، والذين قتلوا الأنبياء ورموا
مريم بالبهتان كانوا بعد موسى بزمان، فلم تأخذ الصاعقة الذين أخذتهم برميهم مريم
بالبهتان. قال المهدوي وغيره: وهذا لا يلزم؛ لأنه يجوز أن يخبر عنهم والمراد
آباؤهم؛ على ما تقدم في « البقرة
» . قال
الزجاج: المعنى فبنقضهم ميثاقهم حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم؛ لأن هذه القصة ممتدة
إلى قوله: « فبظلم
من الذين هادوا حرمنا » [ النساء: 160 ] . ونقضهم الميثاق أنه أخذ
عليهم أن يبينوا صفة النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: المعنى فبنقضهم ميثاقهم
وفعلهم كذا وفعلهم كذا طبع الله على قلوبهم. وقيل: المعنى فبنقضهم لا يؤمنون إلا
قليلا؛ والفاء مقحمة. و « كفرهم
» عطف،
وكذا و « قتلهم
» .
والمراد « بآيات
الله » كتبهم
التي حرفوها. و « غلف » جمع غلاف؛ أي قلوبنا أوعية
للعلم فلا حاجة بنا إلى علم سوى ما عندنا. وقيل: هو جمع أغلف وهو المغطى بالغلاف؛
أي قلوبنا في أغطية فلا نفقه ما تقول؛ وهو كقوله: « قلوبنا في أكنة » [
فصلت: 5 ] وقد
تقدم هذا في « البقرة
» وغرضهم
بهذا درء حجة الرسل. والطبع الختم؛ وقد تقدم في « البقرة » . « بكفرهم » أي جزاء لهم على كفرهم؛ كما
قال: « بل
لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون » [
البقرة: 88 ] أي إلا
إيمانا قليلا أي ببعض الأنبياء، وذلك غير نافع لهم. ثم كرر « وبكفرهم » ليخبر أنهم كفروا كفرا بعد
كفر. وقيل: المعنى «
وبكفرهم »
بالمسيح؛ فحذف لدلالة ما بعده عليه، والعامل في « بكفرهم » هو
العامل في « بنقضهم
» لأنه
معطوف عليه، ولا يجوز أن يكون العامل فيه « طبع » .
والبهتان العظيم رميها بيوسف النجار وكان من الصالحين منهم. والبهتان الكذب المفرط
الذي يتعجب منه وقد تقدم. والله سبحانه وتعالى أعلم.
الآيتان:
157 - 158 ( وقولهم إنا قتلنا المسيح
عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه
لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا، بل رفعه الله إليه
وكان الله عزيزا حكيما )
قوله
تعالى: « وقولهم
إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم » كسرت « إن » لأنها مبتدأة بعد القول وفتحها
لغة. وقد تقدم في « آل
عمران » اشتقاق
لفظ المسيح. « رسول
الله » بدل،
وإن شئت على معنى أعني. « وما
قتلوه وما صلبوه » رد
لقولهم. « ولكن شبه
لهم » أي ألقي
شبهه على غيره كما تقدم في « آل
عمران » . وقيل:
لم يكونوا يعرفون شخصه وقتلوا الذي قتلوه وهم شاكون فيه؛ كما قال تعالى: « وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك
منه »
والإخبار قيل: إنه عن جميعهم. وقيل: إنه لم يختلف فيه إلا عوامهم؛ ومعنى اختلافهم
قول بعضهم إنه إله، وبعضهم هو ابن الله. قاله الحسن: وقيل اختلافهم أن عوامهم
قالوا قتلنا عيسى. وقال من عاين رفعه إلى السماء: ما قتلناه. وقيل: اختلافهم أن
النسطورية من النصارى قالوا: صلب عيسى من جهة ناسوته لا من جهة لاهوته. وقالت
الملكانية: وقع الصلب والقتل على المسيح بكماله ناسوته ولا هوته. وقيل: اختلافهم
هو أنهم قالوا: إن كان هذا صاحبنا فأين عيسى ؟ ! وإن كان هذا عيسى فأين صاحبنا ؟ !
وقيل: اختلافهم هو أن اليهود قالوا: نحن قتلناه؛ لأن يهوذا رأس اليهود هو الذي سعى
في قتله. وقالت طائفة من النصارى: بل قتلناه نحن. وقالت طائفة منهم: بل رفعه الله
إلى السماء ونحن ننظر إليه. « ما لهم
به من علم » من
زائدة؛ وتم الكلام. ثم قال عز وجل: « إلا اتباع الظن » استثناء ليس من الأول في موضع نصب، ويجوز أن يكون في موضع
رفع على البدل؛ أي ما لهم به من علم إلا اتباع الظن. وأنشد سيبويه:
وبلدة
ليس بها أنيس إلا اليعافير وإلا العيس
قوله
تعالى: « وما
قتلوه يقينا » قال ابن
عباس والسدي: المعنى ما قتلوا ظنهم يقينا؛ كقولك: قتلته علما إذا علمته علما تاما؛
فالهاء عائدة على الظن. قال أبو عبيد: ولو كان المعنى وما قتلوا عيسى يقينا لقال:
وما قتلوه فقط. وقيل: المعنى وما قتلوا الذي شبه لهم أنه عيسى يقينا؛ فالوقف على
هذا على « يقينا
» . وقيل:
المعنى وما قتلوا عيسى، والوقف على « وما قتلوه » و « يقينا
» نعت
لمصدر محذوف، وفيه تقديران: أحدهما: أي قالوا هذا قولا يقينا، أو قال الله هذا
قولا يقينا. والقول الآخر: أن يكون المعنى وما علموه علما يقينا. النحاس: إن قدرت
المعنى بل رفعه الله إليه يقينا فهو خطأ؛ لأنه لا يعمل ما بعد « بل » فيما قبلها لضعفها. وأجاز ابن
الأنباري الوقف على « وما
قتلوه » على أن
ينصب « يقينا
» بفعل
مضمر هو جواب القسم، تقديره: ولقد صدقتم يقينا أي صدقا يقينا. « بل رفعه الله إليه » ابتداء كلام مستأنف؛ أي إلى
السماء، والله تعالى متعال عن المكان؛ وقد تقدم كيفية رفعه في « آل عمران » . « وكان الله عزيزا » أي قويا بالنقمة من اليهود
فسلط عليهم بطرس بن استيسانوس الرومي فقتل منهم مقتلة عظيمة. « حكيما » حكم عليهم باللعنة والغضب.
الآية:
159 ( وإن من أهل الكتاب إلا
ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا )
قوله
تعالى: « وإن من
أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته » قال ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة: المعنى ليؤمنن بالمسيح « قبل موته » أي الكتابي؛ فالهاء الأولى
عائدة على عيسى، والثانية على الكتابي؛ وذلك أنه ليس أحد من أهل الكتاب اليهود
والنصارى إلا ويؤمن بعيسى عليه السلام إذا عاين الملك، ولكنه إيمان لا ينفع؛ لأنه
إيمان عند اليأس وحين التلبس بحالة الموت؛ فاليهودي يقر في ذلك الوقت بأنه رسول
الله، والنصراني يقر بأنه كان رسول الله. وروي أن الحجاج سأل شهر بن حوشب عن هذه
الآية فقال: إني لأوتى بالأسير من اليهود والنصارى فآمر بضرب عنقه، وأنظر إليه في
ذلك الوقت فلا أرى منه الإيمان؛ فقال له شهر بن حوشب: إنه حين عاين أمر الآخرة يقر
بأن عيسى عبدالله ورسوله فيؤمن به ولا ينفعه؛ فقال له الحجاج: من أين أخذت هذا ؟
قال: أخذته من محمد بن الحنفية؛ فقال له الحجاج: أخذت من عين صافية. وروي عن مجاهد
أنه قال: ما من أحد من أهل الكتاب إلا يؤمن بعيسى قبل موته؛ فقيل له: إن غرق أو
احترق أو أكله السبع يؤمن بعيسى ؟ فقال: نعم ! وقيل: إن الهاءين جميعا لعيسى عليه
السلام؛ والمعنى ليؤمنن به من كان حيا حين نزوله يوم القيامة؛ قال قتادة وابن زيد
وغيرهما واختاره الطبري. وروى يزيد بن زريع عن رجل عن الحسن في قوله تعالى: « وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن
به قبل موته » قال:
قبل موت عيسى؛ والله إنه لحي عند الله الآن؛ ولكن إذا نزل آمنوا به أجمعون؛ ونحوه
عن الضحاك وسعيد. بن جبير. وقيل: « ليؤمنن
به » أي
بمحمد عليه السلام وإن لم يجر له ذكر؛ لأن هذه الأقاصيص أنزلت عليه والمقصود
الإيمان به، والإيمان بعيسى يتضمن الإيمان بمحمد عليه الصلاة والسلام أيضا؛ إذ لا
يجوز أن يفرق بينهم. وقيل: « ليؤمنن
به » أي
بالله تعالى قبل أن يموت ولا ينفعه الإيمان عند المعاينة. والتأويلان الأولان
أظهر. وروى الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال: « لينزلن
ابن مريم حكما عدلا فليقتلن الدجال وليقتلن الخنزير وليكسرن الصليب وتكون السجدة
واحدة لله رب العالمين ) ، ثم
قال أبو هريرة: واقرؤوا إن شئتم « وإن من
أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته » قال أبو هريرة: قبل موت عيسى؛ يعيدها ثلاث مرات. وتقدير
الآية عند سيبويه: وإن من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمنن به. وتقدير الكوفيين: وإن من
أهل الكتاب إلا من ليؤمنن به، وفيه قبح، لأن فيه حذف الموصول، والصلة بعض الموصول
فكأنه حذف بعض الاسم. »
قوله
تعالى: « ويوم
القيامة يكون عليهم شهيدا » أي
بتكذيب من كذبه وتصديق من صدقه.
الآيتان:
160 - 161 ( فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم
طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا، وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم
أموال الناس بالباطل وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما )
قوله
تعالى: « فبظلم
من الذين هادوا » قال
الزجاج: هذا بدل من « فبما
نقضهم » .
والطيبات ما نصه في قوله تعالى: « وعلى
الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر » [ الأنعام: 146 ] . وقدم الظلم على التحريم إذ
هو الغرض الذي قصد إلى الإخبار عنه بأنه سبب التحريم. « وبصدهم عن سبيل الله كثيرا » أي وبصدهم أنفسهم وغيرهم عن
أتباع محمد صلى الله عليه وسلم. « وأخذهم
الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل » كله تفسير للظلم الذي تعاطوه، وكذلك ما قبله من نقضهم
الميثاق وما بعده؛ وقد مضى في « آل
عمران » أن
اختلاف العلماء في سبب التحريم على ثلاثة أقوال هذا أحدها.
قال ابن
العربي: لا خلاف في مذهب مالك أن الكفار مخاطبون، وقد بين الله في هذه الآية أنهم
قد نهوا عن الربا وأكل الأموال بالباطل؛ فإن كان ذلك خبرا عما نزل على محمد في
القرآن وأنهم دخلوا في الخطاب فبها ونعمت، وإن كان خبرا عما أنزل الله على موسى في
التوراة، وأنهم بدلوا وحرفوا وعصوا وخالفوا فهل يجوز لنا معاملتهم والقوم قد
أفسدوا أموالهم في دينهم أم لا؟ فظنت طائفة أن معاملتهم لا تجوز؛ وذلك لما في
أموالهم من هذا الفساد. والصحيح جواز معاملتهم مع رباهم واقتحام ما حرم الله
سبحانه عليهم؛ فقد قام الليل القاطع على ذلك قرآنا وسنة؛ قال الله تعالى: « وطعام الذين أوتوا الكتاب حل
لكم » [ المائدة:5 ] وهذا نص؛ وقد عامل النبي صلى
الله عليه وسلم اليهود ومات ودرعه مرهونة عند يهودي في شعير أخذه لعياله. والحاسم
لداء الشك والخلاف اتفاق الأمة على جواز التجارة مع أهل الحرب؛ وقد سافر النبي صلى
الله عليه وسلم إليهم تاجرا، وذلك من سفره أمر قاطع على جواز السفر إليهم والتجارة
معهم. فإن قيل: كان ذلك قبل النبوة؛ قلنا: إنه لم يتدنس قبل النبوة بحرام - ثبت
ذلك تواترا - ولا اعتذر عنه إذ بعث، ولا منع منه إذ نبئ، ولا قطعه أحد من الصحابة
في حياته، ولا أحد من المسلمين بعد وفاته؛ فقد كانوا يسافرون في فك الأسرى وذلك
واجب، وفي الصلح كما أرسل عثمان وغيره؛ وقد يجب وقد يكون ندبا؛ فأما السفر إليهم
لمجرد التجارة فمباح.
الآية:
162 ( كن الراسخون في العلم منهم
والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون
الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما )
قوله
تعالى: « لكن
الراسخون في العلم منهم » استثنى
مؤمني أهل الكتاب؛ وذلك أن اليهود أنكروا وقالوا: إن هذه الأشياء كانت حراما في
الأصل وأنت تحلها ولم تكن حرمت بظلمنا؛ فنزل « لكن الراسخون في العلم » والراسخ هو المبالغ في علم الكتاب الثابت فيه، والرسوخ
الثبوت؛ وقد تقدم في « آل
عمران » والمراد
عبدالله بن سلام وكعب الأحبار ونظراؤهما. « والمؤمنون » أي من المهاجرين والأنصار، أصحاب محمد عليه السلام. « والمقيمين الصلاة » وقرأ الحسن ومالك بن دينار
وجماعة: «
والمقيمون » على
العطف، وكذا هو في حرف عبدالله، وأما حرف أبي فهو فيه « والمقيمين » كما في المصاحف. واختلف في
نصبه على أقوال ستة؛ أصحها قول سيبويه بأنه نصب على المدح؛ أي وأعني المقيمين؛ قال
سيبويه: هذا باب ما ينتصب على التعظيم؛ ومن ذلك « والمقيمين الصلاة » وأنشد:
وكل قوم
أطاعوا أمر سيدهم إلا نميرا أطاعت أمر غاويها
ويروى ( أمر مرشدهم ) .
الظاعنين
ولما يظعنوا أحدا والقائلون لمن دار نخليها
وأنشد:
لا يبعدن
قومي الذين هم سم العداة وآفة الجزر
النازلين
بكل معترك والطيبون معاقد الأزر
قال
النحاس: وهذا أصح ما قيل في «
المقيمين » . وقال
الكسائي: « والمقيمين
» معطوف
على « ما » . قال النحاس قال الأخفش: وهذا
بعيد؛ لأن المعنى يكون ويؤمنون بالمقيمين. وحكى محمد بن جرير أنه قيل له: إن
المقيمين ههنا الملائكة عليهم السلام؛ لدوامهم على الصلاة والتسبيح والاستغفار،
واختار هذا القول، وحكى أن النصب على المدح بعيد؛ لأن المدح إنما يأتي بعد تمام
الخبر، وخبر الراسخين في « أولئك
سنؤتيهم أجرا عظيما » فلا
ينتصب «
المقيمين » على
المدح. قال النحاس: ومذهب سيبويه في قوله: « والمؤتون » رفع
بالابتداء. وقال غيره: هو مرفوع على إضمار مبتدأ؛ أي هم المؤتون الزكاة. وقيل: « والمقيمين » عطف على الكاف التي في « قبلك » . أي من قبلك ومن قبل
المقيمين. وقيل: «
المقيمين » عطف على
الكاف التي في « إليك » . وقيل: هو عطف على الهاء
والميم، أي منهم ومن المقيمين؛ وهذه الأجوبة الثلاثة لا تجوز؛ لأن فيها عطف مظهر
على مضمر مخفوض. والجواب السادس: ما روي أن عائشة رضي الله عنها سئلت عن هذه الآية
وعن قوله: « إن
هذان لساحران » [ طه: 63 ] ، وقوله: « والصابئون » في « المائدة: 69 ] ، فقالت للسائل: يا ابن أخي
الكتاب أخطؤوا. وقال أبان بن عثمان: كان الكاتب يملى عليه فيكتب فكتب » لكن
الراسخون في العلم منهم والمؤمنون « ثم قال له: ما أكتب ؟ فقيل له: اكتب » والمقيمين الصلاة « فمن ثم وقع هذا. قال القشيري:
وهذا المسلك باطل؛ لأن الذين جمعوا الكتاب كانوا قدوة في اللغة، فلا يظن بهم أنهم
يدرجون في القرآن ما لم ينزل. وأصح هذه الأقوال قول سيبويه وهو قول الخليل، وقول الكسائي
هو اختيار القفال والطبري، والله أعلم.»
الآية:
163 ( إنا أوحينا إليك كما أوحينا
إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط
وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا )
قوله
تعالى: « إنا
أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح » هذا
متصل بقوله: « يسألك
أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء » [
النساء: 153 ] ،
فأعلم تعالى أن أمر محمد صلى الله عليه وسلم كأمر من تقدمه من الأنبياء. وقال ابن
عباس فيما ذكره ابن إسحاق: نزلت في قوم من اليهود - منهم سكين وعدي بن زيد - قالوا
للنبي صلى الله عليه وسلم: ما أوحى الله إلى أحد من بعد موسى فكذبهم الله. والوحي
إعلام في خفاء؛ يقال: وحى إليه بالكلام يحي وحيا، وأوحى يوحي إيحاء. « إلى نوح » قدمه لأنه أول نبي شرعت على
لسانه الشرائع. وقيل غير هذا؛ ذكر الزبير بن بكار حدثني أبو الحسن علي بن المغيرة
عن هشام بن محمد بن السائب عن أبيه قال: أول نبي بعثه الله تبارك وتعالى في الأرض
إدريس واسمه أخنوخ؛ ثم انقطعت الرسل حتى بعث الله نوح بن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ،
وقد كان سام بن نوح نبيا، ثم انقطعت الرسل حتى بعث الله إبراهيم نبيا واتخذه
خليلا؛ وهو إبراهيم بن تارخ واسم تارخ آزر، ثم بعث إسماعيل بن إبراهيم فمات بمكة،
ثم إسحاق بن إبراهيم فمات بالشام، ثم لوط وإبراهيم عمه، ثم يعقوب وهو إسرائيل بن
إسحاق ثم يوسف بن يعقوب ثم شعيب بن يوبب، ثم هود بن عبدالله، ثم صالح بن أسف، ثم
موسى وهارون ابنا عمران، ثم أيوب ثم الخضر وهو خضرون، ثم داود بن إيشا، ثم سليمان
بن داود، ثم يونس بن متى، ثم إلياس، ثم ذا الكفل واسمه عويدنا من سبط يهوذا بن
يعقوب؛ قال: وبين موسى بن عمران ومريم بنت عمران أم عيسى ألف سنة وسبعمائة سنة
وليسا من سبط؛ ثم محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب النبي صلى الله عليه وسلم. قال
الزبير: كل نبي ذكر في القرآن من ولد إبراهيم غير إدريس ونوح ولوط وهود وصالح. ولم
يكن من العرب أنبياء إلا خمسة: هود وصالح وإسماعيل وشعيب ومحمد صلى الله عليه
وعليهم أجمعين؛ وإنما سموا عربا لأنه لم يتكلم بالعربية غيرهم.
قوله
تعالى: «
والنبيين من بعده » هذا
يتناول جميع الأنبياء ثم قال: «
وأوحينا إلى إبراهيم » فخص
أقواما بالذكر تشريفا لهم؛ كقوله تعالى: « وملائكته ورسله وجبريل ومكيال » ثم قال: « وعيسى وأيوب » قدم عيسى على قوم كانوا قبله؛
لأن الواو لا تقتضي الترتيب، وأيضا فيه تخصيص عيسى ردا على اليهود. وفي هذه الآية
تنبيه على قدر نبينا صلى الله عليه وسلم وشرفه، حيث قدمه في الذكر على أنبيائه؛
ومثله قوله تعالى: « وإذ
أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح » [
الأحزاب: 7 ] ؛ ونوح
مشتق من النوح؛ وقد تقدم ذكره موعبا في « آل عمران » وانصرف
وهو اسم أعجمي؛ لأنه على ثلاثة أحرف فخف؛ فأما إبراهيم وإسماعيل وإسحاق فأعجمية
وهي معرفة ولذلك لم تنصرف، وكذا يعقوب وعيسى وموسى إلا أن عيسى وموسى يجوز أن تكون
الألف فيهما للتأنيث فلا ينصرفان في معرفة ولا نكرة؛ فأما يونس ويوسف فروي عن
الحسن أنه قرأ « ويونس
» بكسر
النون وكذا « يوسف » يجعلهما من آنس وآسف، ويجب على
هذا أن يصرفا ويهمزا ويكون جمعهما يآنس ويآسف. ومن لم يهمز قال: يونس ويوسف. وحكى
أبو زيد: يونس ويوسف بفتح النون والسين؛ قال المهدوي: وكأن « يونس » في الأصل فعل مبني للفاعل، و « يونس » فعل مبني للمفعول، فسمي بهما.
قوله
تعالى: « وآتينا
داود زبورا » الزبور
كتاب داود وكان مائة وخمسين سورة ليس فيها حكم ولا حلال ولا حرام، وإنما هي حكم
ومواعظ. والزبر الكتابة، والزبور بمعنى المزبور أي المكتوب، كالرسول والركوب
والحلوب. وقرأ حمزة « زبورا
» بضم
الزاي جمع زبر كفلس وفلوس، وزبر بمعنى المزبور؛ كما يقال: هذا الدرهم ضرب الأمير
أي مضروبه؛ والأصل في الكلمة التوثيق؛ يقال: بئر مزبورة أي مطوية بالحجارة،
والكتاب يسمى زبورا لقوة الوثيقة به. وكان داود عليه السلام حسن الصوت؛ فإذا أخذ
في قراءة الزبور اجتمع إليه الإنس والجن والطير والوحش لحسن صوته، وكان متواضعا
يأكل من عمل يده؛ روى أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو أسامة عن هشام بن عروة عن
أبيه قال: أن كان داود صلى الله عليه وسلم ليخطب الناس وفي يده القفة من الخوص،
فإذا فرغ ناولها بعض من إلى جنبه يبيعها، وكان يصنع الدروع؛ وسيأتي. وفي الحديث: ( الزرقة في العين يمن ) وكان داود أزرق.
الآية:
164 ( ورسلا قد قصصناهم عليك من
قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما )
قوله
تعالى: « ورسلا
قد قصصناهم عليك من قبل » يعني
بمكة. « ورسلا
» منصوب
بإضمار فعل، أي وأرسلنا رسلا؛ لأن معنى « وأوحينا إلى نوح » وأرسلنا نوحا. وقيل: هو منصوب بفعل دل عليه « قصصناهم » أي وقصصنا رسلا؛ ومثله ما أنشد
سيبويه:
أصبحت لا
أحمل السلاح ولا أملك رأس البعير إن نفرا
والذئب
أخشاه إن مررت به وحدي وأخشى الرياح والمطرا
أي وأخشى
الذئب. وفي حرف أبي « ورسل » بالرفع على تقدير ومنهم رسل.
ثم قيل: إن الله تعالى لما قص في كتابه بعض أسماء أنبيائه، ولم يذكر أسماء بعض،
ولمن ذكر فضل على من لم يذكر. قالت اليهود: ذكر محمد الأنبياء ولم يذكر موسى؛
فنزلت « وكلم
الله موسى تكليما » « تكليما » مصدر معناه التأكيد؛ يدل على
بطلان من يقول: خلق لنفسه كلاما في شجرة فسمعه موسى، بل هو الكلام الحقيقي الذي
يكون به المتكلم متكلما. قال النحاس: وأجمع النحويون على أنك إذا أكدت الفعل
بالمصدر لم يكن مجازا، وأنه لا يجوز في قول الشاعر:
امتلأ
الحوض وقال قطني
أن يقول:
قال قولا؛ فكذا لما قال: « تكليما
» وجب أن
يكون كلاما على الحقيقة من الكلام الذي يعقل. وقال وهب بن منبه: إن موسى عليه
السلام قال: « يا رب
بم اتخذتني كليما » ؟ طلب
العمل الذي أسعده الله به ليكثر منه؛ فقال الله تعالى له: أتذكر إذ ند من غنمك جدي
فأتبعته أكثر النهار وأتعبك، ثم أخذته وقبلته وضممته إلى صدرك وقلت له: أتعبتني
وأتعبت نفسك، ولم تغضب عليه؛ من أجل ذلك اتخذتك كليما.
الآية:
165 ( رسلا مبشرين ومنذرين لئلا
يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما )
قوله
تعالى: « رسلا
مبشرين ومنذرين » هو نصب
على البدل من « ورسلا
قد قصصناهم » ويجوز
أن يكون على إضمار فعل؛ ويجوز نصبه على الحال؛ أي كما أوحينا إلى نوح والنبيين من
بعده رسلا. « لئلا
يكون للناس على الله حجة بعد الرسل » فيقولوا ما أرسلت إلينا رسولا، وما أنزلت علينا كتابا؛ وفي
التنزيل: « وما
كنا معذبين حتى نبعث رسولا » [ الإسراء: 15 ] ، وقوله تعالى: « ولو أنا أهلكناهم بعذاب من
قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك » [ طه: 134 ] وفي هذا كله دليل واضح أنه لا
يجب شيء من ناحية العقل. وروي عن كعب الأحبار أنه قال: كان الأنبياء ألفي ألف
ومائتي ألف. وقال مقاتل: كان الأنبياء ألف ألف وأربعمائة ألف وأربعة وعشرين ألفا.
وروى أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( بعثت على أثر ثمانية آلاف من
الأنبياء منهم أربعة آلاف من بني إسرائيل ) ذكره أبو الليث السمرقندي في التفسير له؛ ثم أسند عن شعبة
عن أبي إسحاق عن الحارث الأعور عن أبي ذر الغفاري قال: قلت يا رسول الله كم كانت
الأنبياء وكم كان المرسلون ؟ قال: ( كانت الأنبياء مائة ألف نبي وأربعة وعشرين ألف نبي وكان
المرسلون ثلاثمائة وثلاثة عشر ) .
قلت: هذا
أصح ما روي في ذلك؛ خرجه الآجري وأبو حاتم البستي في المسند الصحيح له.
الآية:
166 ( لكن الله يشهد بما أنزل إليك
أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا )
قوله
تعالى: « لكن
الله يشهد » رفع
بالابتداء، وإن شئت شددت النون ونصبت. وفي الكلام حذف دل عليه الكلام؛ كأن الكفار
قالوا: ما نشهد لك يا محمد فيما تقول فمن يشهد لك ؟ فنزل « ولكن الله يشهد » . ومعنى « أنزله بعلمه » أي وهو يعلم أنك أهل لإنزاله
عليك؛ ودلت الآية على أنه تعالى عالم بعلم. « والملائكة يشهدون » ذكر شهادة الملائكة ليقابل بها نفي شهادتهم. « وكفى بالله شهيدا » أي كفى الله شاهدا، والباء
زائدة.
الآية:
167 ( إن الذين كفروا وصدوا عن
سبيل الله قد ضلوا ضلالا بعيدا )
قوله
تعالى: « إن
الذين كفروا » يعني
اليهود أي ظلموا. « وصدوا
عن سبيل الله » أي عن
اتباع الرسول محمد صلى الله عليه وسلم بقولهم: ما نجد صفته في كتابنا، وإنما
النبوة في ولد هارون وداود، وإن في التوراة أن شرع موسى لا ينسخ. « قد ضلوا ضلالا بعيدا » لأنهم كفروا ومع ذلك منعوا
الناس من الإسلام.
الآية:
168 - 169 ( إن الذين كفروا وظلموا لم
يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا، إلا طريق جهنم خالدين فيها أبدا وكان ذلك
على الله يسيرا )
قوله
تعالى: « إن
الذين كفروا وظلموا » يعني
اليهود؛ أي ظلموا محمدا بكتمان نعته، وأنفسهم إذ كفروا، والناس إذ كتموهم. « لم يكن الله ليغفر لهم » هذا فيمن يموت على كفره ولم
يتب.
الآية:
170 ( يا أيها الناس قد جاءكم
الرسول بالحق من ربكم فآمنوا خيرا لكم وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات والأرض
وكان الله عليما حكيما )
قوله
تعالى: « يا
أيها الناس » هذا
خطاب للكل. « قد
جاءكم الرسول » يريد
محمدا عليه الصلاة والسلام. « بالحق
»
بالقرآن. وقيل: بالدين الحق؛ وقيل: بشهادة أن لا إله إلا الله، وقيل: الباء
للتعدية؛ أي جاءكم ومعه الحق؛ فهو في موضع الحال. « فآمنوا خيرا لكم » في الكلام إضمار؛ أي وأتوا خيرا لكم؛ هذا مذهب سيبويه، وعلى
قول الفراء نعت لمصدر محذوف؛ أي إيمانا خيرا لكم، وعلى قول أبي عبيدة يكن خيرا
لكم.
الآية:
171 ( يا أهل الكتاب لا تغلوا في
دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته
ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم
إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى
بالله وكيلا )
قوله
تعالى: « يا أهل
الكتاب لا تغلوا في دينكم » نهى عن الغلو.
والغلو التجاوز في الحد؛ ومنه غلا السعر يغلو غلاء؛ وغلا الرجل في الأمر غلوا،
وغلا بالجارية لحمها وعظمها إذا أسرعت الشباب فجاوزت لداتها؛ ويعني بذلك فيما ذكره
المفسرون غلو اليهود في عيسى حتى قذفوا مريم، وغلو النصارى فيه حتى جعلوه ربا؛
فالإفراط والتقصير كله سيئة وكفر؛ ولذلك قال مطرف بن عبدالله: الحسنة بين سيئتين؛
وقال الشاعر:
وأوف ولا
تستوف حقك كله وصافح فلم يستوف قط كريم
ولا تغل
في شيء من الأمر وأقتصد كلا طرفي قصد الأمور ذميم
وقال
آخر:
عليك
بأوساط الأمور فإنها نجاة ولا تركب ذلولا ولا صعبا
وفي صحيح
البخاري عنه عليه السلام: ( لا
تطروني كما أطرت النصارى عيسى وقولوا عبدالله ورسوله ) .
قوله
تعالى: « ولا
تقولوا على الله إلا الحق » أي لا
تقولوا إن له شريكا أو ابنا. ثم بين تعالى حال عيسى عليه السلام وصفته فقال: « إنما المسيح عيسى ابن مريم
رسول الله وكلمته »
وفيه
ثلاث مسائل:
الأولى:
قوله تعالى: « إنما
المسيح » المسيح
رفع بالابتداء؛ و « عيسى » بدل منه وكذا « ابن مريم » . ويجوز أن يكون خبر الابتداء
ويكون المعنى: إنما المسيح ابن مريم. ودل بقوله: « عيسى ابن مريم » على أن من كان منسوبا بوالدته كيف يكون إلها، وحق الإله أن
يكون قديما لا محدثا. ويكون « رسول
الله » خبرا
بعد خبر.
الثانية:
لم يذكر الله عز وجل امرأة وسماها باسمها في كتابه إلا مريم ابنة عمران؛ فإنه ذكر
اسمها في نحو من ثلاثين موضعا لحكمة ذكرها بعض الأشياخ؛ فإن الملوك والأشراف لا
يذكرون حرائرهم في الملأ، ولا يبتذلون أسماءهن؛ بل يكنون عن الزوجة بالعرس والأهل
والعيال ونحو ذلك؛ فإن ذكروا الإماء لم يكنوا عنهن ولم يصونوا أسماءهن عن الذكر
والتصريح بها؛ فلما قالت النصارى في مريم ما قالت، وفي ابنها صرح الله باسمها، ولم
يكن عنها بالأموة والعبودية التي هي صفة لها؛ وأجرى الكلام على عادة العرب في ذكر
إمائها.
الثالثة:
اعتقاد أن عيسى عليه السلام لا أب له واجب، فإذا تكرر اسمه منسوبا للام استشعرت
القلوب ما يجب عليها اعتقاده من نفي الأب عنه، وتنزيه الأم الطاهرة عن مقالة
اليهود لعنهم الله. والله أعلم.
قوله
تعالى: « وكلمته
ألقاها إلى مريم » أي هو
مكون بكلمة « كن » فكان بشرا من غير أب؛ والعرب
تسمي الشيء باسم الشيء إذا كان صادرا عنه. وقيل: « كلمته » بشارة
الله تعالى مريم عليها السلام، ورسالته إليها على لسان جبريل عليه السلام؛ وذلك
قوله: « إذ
قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه » [ آل
عمران: 45 ] .
وقيل: « الكلمة
» ههنا
بمعنى الآية؛ قال الله تعالى: « وصدقت
بكلمات ربها » [ التحريم: 12 ] و « ما نفدت كلمات الله » [ لقمان: 27 ] . وكان لعيسى أربعة أسماء؛
المسيح وعيسى وكلمة وروح، وقيل غير هذا مما ليس في القرآن. ومعنى « ألقاها إلى مريم » أمر بها مريم.
قوله
تعالى: « وروح
منه » هذا
الذي أوقع النصارى في الإضلال؛ فقالوا: عيسى جزء منه فجهلوا وضلوا؛ وعنه أجوبة
ثمانية: الأول: قال أبي بن كعب: خلق الله أرواح بني آدم لما أخذ عليهم الميثاق؛ ثم
ردها إلى صلب آدم وأمسك عنده روح عيسى عليه السلام؛ فلما أراد خلقه أرسل ذلك الروح
إلى مريم، فكان منه عيسى عليه السلام؛ فلهذا قال: « وروح منه » . وقيل:
هذه الإضافة للتفضيل وإن كان جميع الأرواح من خلقه؛ وهذا كقوله: « وطهر بيتي للطائفين » [ الحج: 26 ] ، وقيل: قد يسمى من تظهر منه
الأشياء العجيبة روحا، وتضاف إلى الله تعالى فيقال: هذا روح من الله أي من خلقه؛
كما يقال في النعمة إنها من الله. وكان عيسى يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى
فاستحق هذا الاسم. وقيل: يسمى روحا بسبب نفخة جبريل عليه السلام، ويسمى النفخ
روحا؛ لأنه ريح يخرج من الروح. قال الشاعر - هو ذو الرمة:
فقلت له
أرفعها إليك وأحيها بروحك وأقتته لها قيتة قدرا
وقد ورد
أن جبريل نفخ في درع مريم فحملت منه بإذن الله؛ وعلى هذا يكون « وروح منه » معطوفا على المضمر الذي هو اسم
الله في « ألقاها
»
التقدير: ألقى الله وجبريل الكلمة إلى مريم. وقيل: « روح منه » أي من خلقه؛ كما قال: « وسخر لكم ما في السموات وما
في الأرض جميعا منه » [ الجاثية: 13 ] أي من خلقه. وقيل: « روح منه » أي رحمة منه؛ فكان عيسى رحمة
من الله لمن اتبعه؛ ومنه قوله تعالى: « وأيدهم بروح منه » [
المجادلة: 22 ] أي
برحمة، وقرئ: « فروح
وريحان » . وقيل:
« وروح
منه » وبرهان
منه؛ وكان عيسى برهانا وحجة على قومه صلى الله عليه وسلم.
قوله
تعالى: « فآمنوا
بالله ورسله » أي
آمنوا بأن الله إله واحد خالق المسيح ومرسله، وآمنوا برسله ومنهم عيسى فلا تجعلوه
إلها. « ولا
تقولوا » آلهتنا « ثلاثة » عن الزجاج. قال ابن عباس: يريد
بالتثليث الله تعالى وصاحبته وابنه. وقال الفراء وأبو عبيد: أي لا تقولوا هم
ثلاثة؛ كقوله تعالى: «
سيقولون ثلاثة » [ الكهف: 22 ] . قال أبو علي: التقدير ولا
تقولوا هو ثالث ثلاثة؛ فحذف المبتدأ والمضاف. والنصارى مع فرقهم مجمعون على
التثليث ويقولون: إن الله جوهر واحد وله ثلاثة أقانيم؛ فيجعلون كل أقنوم إلها
ويعنون بالأقانيم الوجود والحياة والعلم، وربما يعبرون عن الأقانيم بالأب والابن
وروح القدس؛ فيعنون بالأب الوجود، وبالروح الحياة، وبالابن المسيح، في كلام لهم
فيه تخبط بيانه في أصول الدين. ومحصول كلامهم يؤول إلى التمسك بأن عيسى إله بما
كان يجريه الله سبحانه وتعالى على يديه من خوارق العادات على حسب دواعيه وإرادته؛
وقالوا: قد علمنا خروج هذه الأمور عن مقدور البشر، فينبغي أن يكون المقتدر عليها
موصوفا بالإلهية؛ فيقال لهم: لو كان ذلك من مقدوراته وكان مستقلا به كان تخليص
نفسه من أعدائه ودفع شرهم عنه من مقدوراته، وليس كذلك؛ فإن اعترفت النصارى بذلك
فقد سقط قولهم ودعواهم أنه كان يفعلها مستقلا به؛ وإن لم يسلموا ذلك فلا حجة لهم
أيضا؛ لأنهم معارضون بموسى عليه السلام، وما كان يجري على يديه من الأمور العظام،
مثل قلب العصا ثعبانا، وفلق البحر واليد البيضاء والمن والسلوى، وغير ذلك؛ وكذلك
ما جرى على يد الأنبياء؛ فإن أنكروا ذلك فننكر ما يدعونه هم أيضا من ظهوره على يد
عيسى عليه السلام، فلا يمكنهم إثبات شيء من ذلك لعيسى؛ فإن طريق إثباته عندنا نصوص
القرآن وهم ينكرون القرآن، ويكذبون من أتى به، فلا يمكنهم إثبات ذلك بأخبار
التواتر. وقد قيل: إن النصارى كانوا على دين الإسلام إحدى وثمانين سنة بعدما رفع
عيسى؛ يصلون إلى القبلة؛ ويصومون شهر رمضان، حتى وقع فيما بينهم وبين اليهود حرب،
وكان في اليهود رجل شجاع يقال له بولس، قتل جماعة من أصحاب عيسى فقال: إن كان الحق
مع عيسى فقد كفرنا وجحدنا وإلى النار مصيرنا، ونحن مغبونون إن دخلوا الجنة ودخلنا
النار؛ وإني أحتال فيهم فأضلهم فيدخلون النار؛ وكان له فرس يقال لها العقاب، فأظهر
الندامة ووضع على رأسه التراب وقال للنصارى: أنا بولس عدوكم قد نوديت من السماء أن
ليست لك توبة إلا أن تتنصر، فأدخلوه في الكنيسة بيتا فأقام فيه سنة لا يخرج ليلا
ولا نهارا حتى تعلم الإنجيل؛ فخرج وقال: نوديت من السماء أن الله قد قبل توبتك
فصدقوه وأحبوه، ثم مضى إلى بيت المقدس واستخلف عليهم نسطورا وأعلمه أن عيسى ابن
مريم إله، ثم توجه إلى الروم وعلمهم اللاهوت والناسوت وقال: لم يكن عيسى بإنس
فتأنس ولا بجسم فتجسم ولكنه ابن الله. وعلم رجلا يقال له يعقوب ذلك؛ ثم دعا رجلا
يقال له الملك فقال له؛ إن الإله لم يزل ولا يزال عيسى؛ فلما استمكن منهم دعا
هؤلاء الثلاثة واحدا واحدا وقال له: أنت خالصتي ولقد رأيت المسيح في النوم ورضي
عني، وقال لكل واحد منهم: إني غدا أذبح نفسي وأتقرب بها، فأدع الناس إلى نحلتك، ثم
دخل المذبح فذبح نفسه؛ فلما كان يوم ثالثه دعا كل واحد منهم الناس إلى نحلته، فتبع
كل واحد منهم طائفة، فاقتتلوا واختلفوا إلى يومنا هذا، فجميع النصارى من الفرق
الثلاث؛ فهذا كان سبب شركهم فيما يقال؛ والله أعلم. وقد رويت هذه القصة في معنى
قوله تعالى: «
فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة » [
المائدة: 14 ] وسيأتي
إن شاء الله تعالى.
قوله
تعالى: « انتهوا
خيرا لكم » « خيرا » منصوب عند سيبويه بإضمار فعل؛
كأنه قال: ائتوا خيرا لكم، لأنه إذا نهاهم عن الشرك فقد أمرهم بإتيان ما هو خير
لهم؛ قال سيبويه: ومما ينتصب على إضمار الفعل المتروك إظهاره « انتهوا خيرا لكم » لأنك إذا قلت: انته فأنت تخرجه
من أمر وتدخله في أخر؛ وأنشد:
فواعديه
سرحتي مالك أو الربا بينهما أسهلا
ومذهب
أبي عبيدة: انتهوا يكن خيرا لكم؛ قال محمد بن يزيد: هذا خطأ؛ لأنه يضمر الشرط
وجوابه، وهذا لا يوجد في كلام العرب. ومذهب الفراء أنه نعت لمصدر محذوف؛ قال علي
بن سليمان: هذا خطأ فاحش؛ لأنه يكون المعنى: انتهوا الانتهاء الذي هو خير لكم.
قوله
تعالى: « إنما
الله إله واحد » هذا
ابتداء وخبر؛ و « واحد » نعت له. ويجوز أن يكون « إله » بدلا من اسم الله عز وجل و « واحد » خبره؛ التقدير إنما المعبود
واحد. « سبحانه
أن يكون له ولد » أي
تنزيها عن أن يكون له ولد؛ فلما سقط « عن » كان « أن » في محل النصب بنزع الخافض؛ أي
كيف يكون له ولد ؟ وولد الرجل مشبه له، ولا شبيه لله عز وجل. « له ما في السماوات وما في
الأرض » فلا
شريك له، وعيسى ومريم من جملة ما في السموات وما في الأرض، وما فيهما مخلوق، فكيف يكون
عيسى إلها وهو مخلوق ! وإن جاز ولد فليجز أولاد حتى يكون كل من ظهرت عليه معجزة
ولدا له. « وكفى
بالله وكيلا » أي
لأوليائه؛ وقد تقدم.
الآية:
172 - 173 ( لن يستنكف المسيح أن يكون
عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا،
فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين
استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا
)
قوله
تعالى: « لن
يستنكف المسيح » أي لن
يأنف ولن يحتشم. « أن
يكون عبدا لله » أي من
أن يكون؛ فهو في موضع نصب. وقرأ الحسن: « إن يكون » بكسر
الهمزة على أنها نفي هو بمعنى « ما » والمعنى ما يكون له ولد؛
وينبغي رفع يكون ولم يذكره الرواة. « ولا الملائكة المقربون » أي من رحمة الله ورضاه؛ فدل بهذا على أن الملائكة أفضل من
الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين. وكذا « ولا أقول إني ملك » [
هود: 31 ] وقد
تقدمت الإشارة إلى هذا المعنى في « البقرة
» . « ومن يستنكف » أي يأنف « عن عبادته ويستكبر » فلا يفعلها. « فسيحشرهم إليه » أي إلى المحشر. « جميعا » فيجازي كلا بما يستحق، كما
بينه في الآية بعد هذا « فأما
الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله » إلى قوله: « نصيرا » . وأصل « يستنكف » نكف، فالياء والسين والتاء
زوائد؛ يقال: نكفت من الشيء واستنكفت منه وأنكفته أي نزهته عما يستنكف منه؛ ومنه
الحديث سئل عن « سبحان
الله » فقال: ( إنكاف الله من كل سوء ) يعني تنزيهه وتقديسه عن
الأنداد والأولاد. وقال الزجاج: استنكف أي أنف مأخوذ من نكفت الدمع إذا نحيته
بإصبعك عن خدك، ومنه الحديث ( ما
ينكف العرق عن جبينه ) أي ما
ينقطع؛ ومنه الحديث ( جاء
بجيش لا ينكف آخره ) أي لا
ينقطع آخره. وقيل: هو من النكف وهو العيب؛ يقال: ما عليه في هذا الأمر نكف ولا وكف
أي عيب: أي لن يمتنع المسيح ولن يتنزه من العبودية ولن ينقطع عنها ولن يعيبها.
الآية:
174 ( يا أيها الناس قد جاءكم
برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا )
قوله
تعالى: « يا
أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم » يعني محمدا صلى الله عليه وسلم؛ عن الثوري؛ وسماه برهانا لأن
معه البرهان وهو المعجزة. وقال مجاهد: البرهان ههنا الحجة؛ والمعنى متقارب؛ فإن
المعجزات حجته صلى الله عليه وسلم. والنور المنزل هو القرآن؛ عن الحسن؛ وسماه نورا
لأن به تتبين الأحكام ويهتدى به من الضلالة، فهو نور مبين، أي واضح بين.
الآية:
175 ( فأما الذين آمنوا بالله
واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما )
قوله
تعالى: « فأما
الذين آمنوا بالله واعتصموا به » أي
بالقرآن عن معاصيه، وإذا اعتصموا بكتابه فقد اعتصموا به وبنبيه. وقيل: « اعتصموا به » أي بالله. والعصمة الامتناع،
وقد تقدم.
قوله
تعالى: «
ويهديهم » أي وهو
يهديهم؛ فأضمر هو ليدل على أن الكلام مقطوع مما قبله. « إليه » أي إلى ثوابه. وقيل: إلى الحق
ليعرفوه. « صراطا
مستقيما » أي دينا
مستقيما. و « صراطا
» منصوب
بإضمار فعل دل عليه «
ويهديهم »
التقدير؛ ويعرفهم صراطا مستقيما. وقيل: هو مفعول ثان على تقدير؛ ويهديهم إلى ثوابه
صراطا مستقيما. وقيل: هو حال. والهاء في « إليه » قيل: هي
للقرآن، وقيل: للفضل، وقيل للفضل والرحمة؛ لأنهما بمعنى الثواب. وقيل: هي لله عز
وجل على حذف المضاف كما تقدم من أن المعنى ويهديهم إلى ثوابه. أبو علي: الهاء
راجعة إلى ما تقدم من اسم الله عز وجل، والمعنى ويهديهم إلى صراطه؛ فإذا جعلنا « صراطا مستقيما » نصبا على الحال كانت الحال من
هذا المحذوف. وفي قوله: « وفضل » دليل على أنه تعالى يتفضل على
عباده بثوابه؛ إذ لو كان في مقابلة العمل لما كان فضلا. والله أعلم.
الآية:
176 ( يستفتونك قل الله يفتيكم في
الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها
ولد فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل
حظ الأنثيين يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم )
قال
البراء بن عازب: هذه آخر آية نزلت من القرآن؛ كذا في كتاب مسلم. وقيل: نزلت والنبي
صلى الله عليه وسلم متجهز لحجة الوداع، ونزلت بسبب جابر؛ قال جابر بن عبدالله:
مرضت فأتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يعوداني ماشيين، فأغمي علي؛
فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صب علي من وضوئه فأفقت، فقلت: يا رسول الله
كيف أقضي في مالي ؟ فلم يرد علي شيئا حتى نزلت آية الميراث « يستفتونك قل الله يفتيكم في
الكلالة » رواه
مسلم؛ وقال: آخر آية نزلت: « واتقوا
يوما ترجعون فيه إلى الله » [ البقرة: 281 ] وقد تقدم. ومضى في أول السورة
الكلام في «
الكلالة » مستوفى،
وأن المراد بالإخوة هنا الإخوة للأب والأم أو للأب وكان لجابر تسع أخوات.
قوله
تعالى: « إن
امرؤ هلك ليس له ولد » أي ليس
له ولد ولا والد؛ فاكتفى بذكر أحدهما؛ قال الجرجاني: لفظ الولد ينطلق على الوالد
والمولود، فالوالد يسمى، والدا لأنه ولد، والمولود يسمى ولدا لأنه ولد؛ كالذرية
فإنها من ذرا ثم تطلق على المولود وعلى الوالد؛ قال الله تعالى: « وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في
الفلك المشحون » [ يس: 41 ] .
والجمهور
من العلماء من الصحابة والتابعين يجعلون الأخوات عصبة البنات وإن لم يكن معهن أخ،
غير ابن عباس؛ فإنه كان لا يجعل الأخوات عصبة البنات؛ وإليه ذهب داود وطائفة؛
وحجتهم ظاهر قول الله تعالى: « إن
امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك » ولم يورث الأخت إلا إذا لم يكن للميت ولد؛ قالوا: ومعلوم أن
الابنة من الولد، فوجب ألا ترث الأخت مع وجودها. وكان ابن الزبير يقول بقول ابن
عباس في هذه المسألة حتى أخبره الأسود بن يزيد: أن معاذا قضى في بنت وأخت فجعل
المال بينهما نصفين.
هذه
الآية تسمى بآية الصيف؛ لأنها نزلت في زمن الصيف؛ قال عمر: إني والله لا أدع شيئا
أهم إلي من أمر الكلالة، وقد سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها فما أغلظ لي
في شيء ما أغلظ لي فيها، حتى طعن بإصبعه في جنبي أو في صدري ثم قال: ( يا عمر ألا تكفيك آية الصيف
التي أنزلت في آخر سورة النساء ) . وعنه
رضي الله عنه قال: ثلاث لأن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهن أحب إلي من
الدنيا وما فيها: الكلالة والربا والخلافة؛ خرجه ابن ماجة في سننه.
طعن بعض
الرافضة بقول عمر: ( والله
لا أدع )
الحديث.
قوله
تعالى: « يبين
الله لكم أن تضلوا » قال
الكسائي: المعنى يبين الله لكم لئلا تضلوا. قال أبو عبيد؛ فحدثت الكسائي بحديث
رواه ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لا يدعون أحدكم على ولده أن
يوافق من الله إجابة )
فاستحسنه. قال النحاس: والمعنى عند أبي عبيد لئلا يوافق من الله إجابة، وهذا القول
عند البصريين خطأ صراح؛ لأنهم لا يجيزون إضمار لا؛ والمعنى عندهم: يبين الله لكم
كراهة أن تضلوا، ثم حذف؛ كما قال: « واسأل القرية » [
يوسف: 82 ] وكذا
معنى حديث النبي صلى الله عليه وسلم؛ أي كراهية أن يوافق من الله إجابة. « والله بكل شيء عليم » تقدم في غير موضع. والله أعلم.
تمت سورة
« النساء
» والحمد
لله الذي وفق.