سورة ق
مقدمة
السورة
مكية كلها
في قول الحسن وعطاء وعكرمة وجابر. قال ابن عباس وقتادة: إلا آية، وهي قوله تعالى: « ولقد خلقنا السموات والأرض وما
بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب » [ ق: 38
] . وفي
صحيح مسلم عن أم هشام بنت حارثة بن النعمان قالت: لقد كان تنورنا وتنور رسول الله
صلى الله عليه وسلم واحدا سنتين - أو سنة وبعض سنة - وما أخذت « ق والقرآن المجيد » إلا عن لسان رسول الله صلى الله
عليه وسلم؛ يقرؤها كل يوم جمعة على المنبر إذا خطب الناس. وعن عمر بن الخطاب رضي
الله عنه سأل أبا واقد الليثي ما كان يقرأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم في
لأضحى والفطر؟ فقال: كان يقرأ فيهما بـ « ق والقرآن المجيد » و « اقتربت
الساعة وانشق القمر » . وعن
جابر بن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الفجر بـ « ق والقرآن المجيد » وكانت صلاته بعد تخفيفا.
الآيات:
1 - 5 ( ق والقرآن المجيد، بل عجبوا أن
جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب، أئذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد،
قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ، بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في
أمر مريج )
قوله
تعالى: « ق
والقرآن المجيد » قرأ
العامة « قاف » بالجزم. وقرأ الحسن وابن أبي
إسحاق ونصر بن عاصم « قاف » بكسر الفاء؛ لأن الكسر أخو
الجزم، فلما سكن آخره حركوه بحركة الخفض. وقرأ عيسى الثقفي بفتح الفاء حركه إلى
أخف الحركات. وقرأ هارون ومحمد بن السميقع « قاف » بالضم؛
لأنه في غالب الأمر حركة البناء نحو منذ وقد وقبل وبعد. واختلف في معنى « قاف » ما هو؟ فقال ابن زيد وعكرمة
والضحاك: هو جبل محيط بالأرض من زمردة خضراء أخضرت السماء منه، وعليه طرفا السماء
والسماء عليه مقبية، وما أصاب الناس من زمرد كان مما تساقط من ذلك الجبل. ورواه
أبو الجوزاء عن عبدالله بن عباس. قال الفراء: كان يجب على هذا أن يظهر الإعراب في « ق » ؛ لأنه اسم وليس بهجاء. قال:
ولعل القاف وحدها ذكرت من اسمه؛ كقوله القائل:
قلت لها
قفي فقالت قاف
أي أنا واقفة.
وهذا وجه حسن وقد تقدم أول « البقرة » . وقال وهب: أشرف ذو القرنين على
جبل قاف فرأى تحته جبالا صغارا، فقال له: ما أنت؟ قال: أنا قاف، قال: فما هذه
الجبال حولك ؟ قال: هي عروقي وما من مدينة إلا وفيها عرق من عروقي، فإذا أراد الله
أن يزلزل مدينة أمرني فحركت عرقي ذلك فتزلزلت تلك الأرض؛ فقال له: يا قاف أخبرني
بشيء من عظمة الله؛ قال: إن شأن ربنا لعظيم، وإن ورائي أرضا مسيرة خمسمائة عام في
خمسمائة عام من جبال ثلج يحطم به بعضها بعضا، لولا هي لاحترقت من حر جهنم. فهذا
يدل على أن جهنم على وجه الأرض والله أعلم بموضعها؛ وأين هي من الأرض. قال: زدني،
قال: إن جبريل عليه السلام واقف بين يدي الله ترعد فرائصه، يخلق الله من كل رعدة
مائة ألف ملك، فأولئك الملائكة وقوف بين يدي الله تعالى منكسو رؤوسهم، فاذا أذن
الله لهم في الكلام قالوا: لا إله إلا الله؛ وهو قوله تعالى: « يوم يقوم الروح والملائكة صفا
لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا » [
النبأ: 38 ] يعني
قوله: لا إله إلا الله.
وقال
الزجاج: قوله « ق » أي قضي الأمر، كما قيل في « حم » أي حم الأمر. وقال ابن عباس: « ق » اسم من أسماء الله تعالى أقسم
به. وعنه أيضا: أنه اسم من أسماء القرآن. وهو قول قتادة. وقال القرظي: افتتاح
أسماء الله تعالى قدير وقاهر وقريب وقاض وقابض. وقال الشعبي: فاتحة السورة. وقال
أبوبكر الوراق: معناه قف عند أمرنا ونهينا ولا تعدهما. وقال محمد بن عاصم
الأنطاكي: هو قرب الله من عباده، بيانه « ونحن أقرب إليه من حبل الوريد » [ ق: 16 ] وقال ابن عطاء: أقسم الله بقوة
قلب حبيبه محمد صلى الله عليه وسلم، حيث حمل الخطاب ولم يؤثر ذلك فيه لعلو حاله.
قوله
تعالى: « والقرآن
المجيد » أي الرفيع
القدر. وقيل: الكريم؛ قاله الحسن. وقيل: الكثير؛ مأخوذ من كثرة القدر والمنزلة لا
من كثرة العدد، من قولهم: كثير فلان في النفوس؛ ومنه قول العرب في المثل السائر: « كل شجر نار، واستمجد المرخ
والعفار » . أي
استكثر هذان النوعان من النار فزادا على سائر الشجر؛ قال ابن بحر. وجواب القسم قيل
هو: « قد علمنا
ما تنقص الأرض منهم » على إرادة
اللام؛ أي لقد علمنا. وقيل: هو « إن في
ذلك لذكرى » وهو
اختيار الترمذي محمد بن علي قال: « ق » قسم باسم هو أعظم الأسماء التي
خرجت إلى العباد وهو القدرة، وأقسم أيضا بالقرآن المجيد، ثم اقتص ما خرج من القدرة
من خلق السموات والأرضين وأرزاق العباد، وخلق الآدميين، وصفة يوم القيامة والجنة
والنار، ثم قال: « إن في
ذلك لذكرى لمن كان له قلب » [ ق: 37 ] فوقع القسم على هذه الكلمة كأنه
قال: « ق » أي بالقدرة والقرآن المجيد أقسمت
أن فيما أقتصصت في هذه السورة « لذكرى
لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد » [ ق: 37
] . وقال
ابن كيسان: جوابه « ما يلفظ
من قول » . وقال
أهل الكوفة: جواب هذا القسم « بل عجبوا
» . وقال
الأخفش: جوابه محذوف كأنه قال: « ق
والقرآن المجيد » لتبعثن؛
يدل عليه « أئذا
متنا وكنا ترابا » .
قوله
تعالى: « بل عجبوا
أن جاءهم منذر منهم » « أن » في موضع نصب على تقدير لأن جاءهم
منذر منهم، يعني محمدا صلى الله عليه وسلم والضمير للكفار. وقيل: للمؤمنين والكفار
جميعا. ثم ميز بينهم « فقال
الكافرون » ولم يقل
فقالوا، بل قبح حالهم وفعلهم ووصفهم بالكفر، كما تقول: جاءني فلان فأسمعني
المكروه، وقال لي الفاسق أنت كذا وكذا. « هذا شيء عجيب » العجيب الأمر الذي يتعجب منه، وكذلك العجاب بالضم، والعجاب
بالتشديد أكثر منه، وكذلك الأعجوبة. وقال قتادة: عجبهم أن دعوا إلى إله واحد.
وقيل: من إنذارهم بالبعث والنشور. والذي نص عليه القرآن أولى.
قوله
تعالى: « أئذا
متنا وكنا ترابا » نبعث؛
ففيه إضمار. « ذلك رجع
بعيد » الرجع
الرد أي هو رد بعيد أي محال. يقال: رجعته أرجعه رجعا، ورجع هو يرجع رجوعا، وفيه
إضمار آخر؛ أي وقالوا أنبعث إذا متنا. وذكر البعث وإن لم يجرها هنا فقد جرى في
مواضع، والقرآن كالسورة الواحدة. وأيضا ذكر البعث منطو تحت قوله: « بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم » لأنه إنما ينذر بالعقاب والحساب
في الآخرة. « قد علمنا
ما تنقص الأرض منهم » أي ما
تأكل من أجسادهم فلا يضل عنا شيء حتى تتعذر علينا الإعادة. وفي التنزيل: « قال فما بال القرون الأولى قال
علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى » [ طه:
51 ] . وفي
الصحيح: ( كل ابن
آدم يأكله التراب إلا عجب الذنب منه خلق وفيه يركب ) وقد تقدم. وثبت أن لأنبياء
والأولياء والشهداء لا تأكل الأرض أجسادهم؛ حرم الله على الأرض أن تأكل أجسادهم.
وقد بينا هذا في كتاب « التذكرة
» وتقدم
أيضا في هذا الكتاب. وقال السدي: النقص هنا الموت يقول قد علمنا منهم من يموت ومن
يبقى؛ لأن من مات دفن فكأن الأرض تنقص من الناس. وعن ابن عباس:هو من يدخل في
الإسلام من المشركين. « وعندنا
كتاب حفيظ » أي بعدتهم
وأسمائهم فهو فعيل بمعنى فاعل. وقيل: اللوح المحفوظ أي محفوظ من الشياطين أو محفوظ
فيه كل شيء. وقيل: الكتاب عبارة عن العلم والإحصاء؛ كما تقول: كتبت عليك هذا أي
حفظته؛ وهذا ترك الظاهر من غير ضرورة. وقيل: أي وعندنا كتاب حفيظ لأعمال بني آدم
لنحاسبهم عليها.
قوله
تعالى: « بل كذبوا
بالحق » أي القرآن
في قول الجميع؛ حكاه الماوردي. وقال الثعلبي: بالحق القرآن. وقيل: الإسلام. وقيل:
محمد صلى الله عليه وسلم. « فهم في
أمر مريج » أي مختلط.
يقولون مرة ساحر ومرة شاعر ومرة كاهن؛ قاله الضحاك وابن زيد. وقال قتادة: مختلف.
الحسن: ملتبس؛ والمعنى متقارب. وقال أبو هريرة: فاسد، ومنه مرجت أمانات الناس أي
فسدت؛ ومرج الدين والأمر اختلط؛ قال أبو دواد:
مرج الدين
فأعددت له مشرف الحارك محبوك الكتد
وقال ابن
عباس: المريج الأمر المنكر. وقال عنه عمران بن أبي عطاء: « مريج » مختلط. وأنشد:
فجالت
فالتمست به حشاها فخر كأنه خوط مريج
الخوط
الغصن. وقال عنه العوفي: في أمر ضلالة وهو قولهم ساحر شاعر مجنون كاهن. وقيل:
متغير. وأصل المرج الاضطراب والقلق؛ يقال: مرج أمر الناس ومرج أمر الدبن ومرج
الخاتم في إصبعي إذا قلق من الهزال. وفي الحديث: ( كيف بك يا عبدالله إذا كنت في قوم قد مرجت عهودهم وأماناتهم
واختلفوا فكانوا هكذا وهكذا ) وشبك بين
أصابعه. أخرجه أبو داود وقد ذكرناه في كتاب « التذكرة » ..
الآيات:
6 - 11 ( أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم
كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج، والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا
فيها من كل زوج بهيج، تبصرة وذكرى لكل عبد منيب، ونزلنا من السماء ماء مباركا
فأنبتنا به جنات وحب الحصيد، والنخل باسقات لها طلع نضيد، رزقا للعباد وأحيينا به
بلدة ميتا كذلك الخروج )
قوله
تعالى: « أفلم
ينظروا إلى السماء فوقهم » نظر
اعتبار وتفكر، وأن القادر على إيجادها قادر على الإعادة. « كيف بنيناها » فرفعناها بلا عمد « وزيناها » بالنجوم « وما لها من فروج » جمع فرج وهو الشق؛ ومنه قول
امرىء القيس:
تسد به
فرجها من دبر
وقال
الكسائي: ليس فيها تفاوت ولا اختلاف ولا فتوق. « والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي » تقدم في « الرعد. » وأنبتنا فيها من كل زوج « أي من كل نوع من النبات » بهيج « أي حسن يسر الناظرين؛ وقد تقدم
في » الحج « بيانه. » تبصرة « أي جعلنا ذلك تبصرة لندل به على
كمال قدرتنا. وقال أبو حاتم: نصب على المصدر؛ يعني جعلنا ذلك تبصيرا وتنبيها على
قدرتنا » وذكرى « معطوف عليه. » لكل عبد منيب « راجع إلى الله تعالى، مفكر في
قدرته.»
قوله
تعالى: « وأنزلنا
من السماء » أي من السحاب
« ماء
مباركا » أي كثير
البركة. « فأنبتنا
به جنات وحب الحصيد » التقدير:
وحب النبت الحصيد وهو كل ما يحصد. هذا قول البصريين. وقال الكوفيون: هو من باب
إضافة الشيء إلى نفسه، كما يقال: مسجد الجامع وربيع الأول وحق اليقين وحبل الوريد
ونحوها؛ قال الفراء. والأصل الحب الحصيد فحذفت الألف واللام وأضيف المنعوت إلى
النعت. وقال الضحاك: حب الحصيد البر والشعير. وقيل: كل حب يحصد ويدخر ويقتات. « والنخل باسقات » نصب على الحال ردا على قوله: « وحب الحصيد » و « باسقات » حال. والباسقات الطوال؛ قال
مجاهد وعكرمة. وقال قتادة وعبدالله بن شداد: بسوقها استقامتها في الطول. وقال سعيد
بن جبير: مستويات. وقال الحسن وعكرمة أيضا والفراء: مواقير حوامل؛ يقال للشاة بسقت
إذا ولدت، قال الشاعر:
فلما تركنا
الدار ظلت منيفة بقران فيه الباسقات المواقر
والأول في
اللغة أكثر وأشهر؛ يقال بسق النخل بسوقا إذا طال. قال:
لنا خمر
وليست خمر كرم ولكن من نتاج الباسقات
كرام في
السماء ذهبن طولا وفات ثمارها أيدي الجناة
ويقال: بسق
فلان على أصحابه أي علاهم، وأبسقت الناقة إذا وقع في ضرعها للبن قبل النتاج فهي
مبسق ونوق مباسيق. وقال قطبة بن مالك: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ « باصقات » بالصاد؛ ذكره الثعلبي.
قلت: الذي
في صحيح مسلم عن قطبة بن مالك قال: صليت وصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقرأ « ق
والقرآن المجيد » حتى قرأ « والنخل باسقات » قال فجعلت أرددها ولا أدري ما
قال؛ إلا أنه لا يجوز إبدال الصاد من السين لأجل القاف. « لها طلع نضيد » الطلع هو أول ما يخرج من ثمر
النخل؛ يقال: طلع الطلع طلوعا وأطلعت النخلة، وطلعها كفراها قبل أن ينشق. « نضيد » أي متراكب قد نضد بعضه على بعض.
وفي البخاري « النضيد » الكفري ما دام في أكمامه ومعناه
منضود بعضه على بعض؛ فإذا خرج من أكمامه فليس بنضيد. « رزقا للعباد » أي رزقناهم رزقا، أوعلى معنى
أنبتناها رزقا؛ لأن الإنبات في معنى الرزق، أو على أنه مفعول له أي أنبتناها
لرزقهم، والرزق ما كان مهيأ للانتفاع به. وقد تقدم القول فيه. « وأحيينا به بلدة ميتا كذلك
الخروج » أي من
القبور أي كما أحيا الله هذه الأرض الميتة فكذلك يخرجكم أحياء بعد موتكم؛ فالكاف
في محل رفع على الابتداء. وقد مضى هذا المعنى في غير موضع. وقال « مبتا » لأن المقصود المكان ولو قال ميتة
لجاز.
الآيات:
12 - 15 ( كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب
الرس وثمود، وعاد وفرعون وإخوان لوط، وأصحاب الأيكة وقوم تبع كل كذب الرسل فحق
وعيد، أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد )
قوله
تعالى: « كذبت
قبلهم قوم نوح » أي كما
كذب هؤلاء فكذلك كذب أولئك فحل بهم العقاب؛ ذكرهم نبأ من كان قبلهم من المكذبين
وخوفهم ما أخذهم. وقد ذكرنا قصصهم في غير موضع عند ذكرهم. « كل كذب الرسل » من هذه الأمم المكذبة. « فحق وعيد » أي فحق عليهم وعيدي وعقابي.
قوله
تعالى: « أفعيينا
بالخلق الأول » أي
أفعيينا به فنعيا بالبعث. وهذا توبيخ لمنكري البعث وجواب قولهم: « ذلك رجع بعيد » [ ق: 3 ] . يقال: عييت بالأمر إذا لم
تعرف وجهه. « بل هم في
لبس من خلق جديد » أي في
حيرة من البعث منهم مصدق ومنهم مكذب؛ يقال: لبس عليه الأمر يلبسه لبسا.
الآيات:
16 - 19 ( ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما
توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد، إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن
الشمال قعيد، ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد، وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما
كنت منه تحيد )
قوله
تعالى: « ولقد
خلقنا الإنسان » يعني
الناس، وقيل آدم. « ونعلم ما
توسوس به نفسه » أي ما
يختلج في سره وقلبه وضميره، وفي هذا زجر عن المعاصي التي يستخفي بها. ومن قال: إن
المراد بالإنسان آدم؛ فالذي وسوست به نفسه هو الأكل من الشجرة، ثم هو عام لولده.
والوسوسة حديث النفس بمنزلة الكلام الخفي. قال الأعشى:
تسمع للحلي
وسواسا إذا انصرفت كما استعان بريح عشرق زجل
وقد مضى في
« الأعراف
» . « ونحن أقرب إليه من حبل الوريد » هو حبل العاتق وهو ممتد من ناحية
حلقه إلى عاتقه، وهما وريدان عن يمين وشمال. روي معناه عن ابن عباس وغيره وهو
المعروف في اللغة. والحبل هو الوريد فأضيف إلى نفسه لاختلاف اللفظين. وقال الحسن:
الوريد الوتين وهو عرق معلق بالقلب. وهذا تمثيل للقرب؛ أي نحن أقرب إليه من حبل
وريده الذي هو منه، وليس على وجه قرب المسافة. وقيل: أي ونحن أملك به من حبل وريده
مع استيلائه عليه. وقيل: أي ونحن أعلم بما توسوس به نفسه من حبل وريده الذي هو من
نفسه، لأنه عرق يخالط القلب، فعلم الرب أقرب إليه من علم القلب، روي معناه عن
مقاتل قال: الوريد عرق يخالط القلب، وهذا القرب قرب العلم والقدرة، وأبعاض الإنسان
يحجب البعض البعض ولا يحجب علم الله شيء.
قوله
تعالى: « إذ يتلقى
المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد » أي نحن أقرب إليه من حبل وريده حين يتلقى المتلقيان، وهما
الملكان الموكلان به، أي نحن أعلم بأحواله فلا نحتاج إلى ملك يخبر، ولكنهما وكلا
به إلزاما للحجة، وتوكيدا للأمر عليه. وقال الحسن ومجاهد وقتادة: « المتلقيان » ملكان يتلقيان عملك: أحدهما عن
يمينك يكتب حسناتك، والآخر عن شمالك يكب سيئاتك. قال الحسن: حتى إذا مت طويت صحيفة
عملك وقيل لك يوم القيامة: « اقرأ
كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا » [
الإسراء: 14 ] عدل
والله عليك من جعلك حسيب نفسك. وقال مجاهد: وكل الله بالإنسان مع علمه بأحوال
ملكين بالليل وملكين بالنهار يحفظان عمله، ويكتبان أثره إلزاما للحجة: أحدهما عن
يمينه يكتب الحسنات، والآخر عن شماله يكتب السيئات، فذلك قوله تعالى: « عن اليمين وعن الشمال قعيد » . وقال سفيان: بلغني أن كاتب
الحسنات أمين على كاتب السيئات فإذا أذنب العبد قال لا تعجل لعله يستغفر الله.
وروي معناه من حديث أبي أمامة؛ قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( كاتب الحسنات على يمين الرجل
وكاتب السيئات على يساره وكاتب الحسنات أمين علي كاتب السيئات فإذا عمل حسنة كتبها
صاحب اليمين عشرا وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال دعه سبع ساعات لعله
يسبح أو يستغفر ) . وروي
من حديث علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن مقعد ملكيك على ثنيتك لسانك
قلمهما وريقك مدادهما وأنت تجري فيما لا يعنيك فلا تستحي من الله ولا منهما ) . وقال الضحاك: مجلسهما تحت
الثغر. على الحنك. ورواه عوف عن الحسن قال: وكان الحسن يعجبه أن ينظف عنفقته.
وإنما قال: « قعيد » ولم يقل قعيدان وهما أثنان؛ لأن
المراد عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد فحذف الأول لدلالة الثاني عليه. قاله
سيبويه؛ ومنه قول الشاعر: نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأي مختلف وقال
الفرزدق:
إني ضمنت
لمن أتاني ما جنى وأبى فكان وكنت غير غدور
ولم يقل
راضيان ولا غدورين. ومذهب المبرد: أن الذي في التلاوة أول أخر اتساعا، وحذف الثاني
لدلالة الأول عليه. ومذهب الأخفش والفراء: أن الذي في التلاوة يؤدي عن الاثنين
والجمع ولا حذف في الكلام. و « قعيد » بمعنى قاعد كالسميع والعليم
والقدير والشهيد. وقيل: « قعيد » بمعنى مقاعد مثل أكيل ونديم
بمعنى مؤاكل ومنادم.
وقال
الجوهري: فعيل وفعول مما يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع؛ كقوله تعالى: « إنا رسول رب العالمين » [ الشعراء: 16 ] وقوله: « والملائكة بعد ذلك ظهير » [ التحريم: 4 ] . وقال الشاعر في الجمع، أنشده
الثعلبي:
ألكني
إليها وخير الرسو ل أعلمهم بنواحي الخبر
والمراد
بالقعيد ها هنا الملازم الثابت لا ضد القائم.
قوله
تعالى: « ما يلفظ
من قول إلا لديه رقيب عتيد » أي ما
يتكلم بشيء إلا كتب عليه؛ مأخوذ من لفظ الطعام وهو إخراجه من الفم. وفي الرقيب
ثلاثة أوجه: أحدها أنه المتبع للأمور. الثاني أنه الحافظ، قال السدي. الثالث أنه
الشاهد، قال الضحاك. وفي العتيد وجهان: أحدهما أنه الحاضر الذي لا يغيب. الثاني
أنه الحافظ المعد إما للحفظ وإما للشهادة. قال الجوهري: العتيد الشيء الحاضر
المهيأ؛ وقد عتده تعتيدا وأعتده إعتادا أي أعده ليوم، ومنه قوله تعالى: « وأعتدت لهن متكأ » [ يوسف: 31 ] وفرس عَتَد وعتِد بفتح التاء
وكسرها المعد للجري.
قلت وكله
يرجع إلى معنى الحضور، ومنه قول الشاعر:
لئن كنت
مني في العيان مغيبا فذكرك عندي في الفؤاد عتيد
قال أبو
الجوزاء ومجاهد: يكتب على الإنسان كل شيء حتى الأنين في مرضه. وقال عكرمة: لا يكتب
إلا ما يؤجر به أو يؤزر عليه. وقيل: يكتب عليه كل ما يتكلم به، فإذا كان آخر
النهار محي عنه ما كان مباحا، نحو أنطلق أقعد كل مما لا يتعلق به أجر ولا وزر،
والله أعلم. وروي عن أبي هريرة وأنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما من حافظين يرفعان إلى الله
ما حفظا فيرى الله في أول الصحيفة خيرا وفي آخرها خيرا إلا قال الله تعالى
لملائكته اشهدوا أني قد غفرت لعبدي ما بين طرفي الصحيفة ) . وقال علي رضي الله عنه: ( إن لله ملائكة معهم صحف بيض
فأملوا في أولها وفي أخرها خيرا يغفر لكم ما بين ذلك ) . وأخرج أبو نعيم الحافظ قال
حدثنا أبو طاهر محمد بن الفضل بن محمد بن إسحاق بن خزيمة قال حدثنا جدي محمد بن
إسحاق قال حدثنا محمد بن موسى الحرشي قال حدثنا سهيل بن عبدالله قال: سمعت الأعمش
يحدث عن زيد بن وهب عن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الحافظين إذا نزلا على
العبد أو الأمة منهما كتاب مختوم فيكتبان ما يلفظ به العبد أو الأمة فإذا أرادا أن
ينهضا قال أحدهما للأخر فك الكتاب المختوم الذي معك فيفكه له فاذا فيه ما كتب سواء
فذلك قوله تعالى « ما يلفظ
من قول إلا لديه رقيب عتيد » غريب،
من حديث الأعمش عن زيد، لم يروه عنه إلا سهيل. وروي من حديث أنس أن نبي الله صلى
الله عليه وسلم قال: ( إن الله وكل بعبده ملكين يكتبان عمله فإذا مات قالا ربنا قد
مات فلان فأذن لنا أن نصعد إلى السماء فيقول الله تعالى إن، إن سمواتي مملوءة من
ملائكتي يسبحونني فيقولان ربنا نقيم في الأرض فيقول الله تعالى إن أرضي مملوءة من
خلقي يسبحونني فيقولان يا رب فأين نكون فيقول الله تعالى كونا على قبر عبدي
فكبراني وهللاني وسبحاني واكتبا ذلك لعبدي إلى يوم القيامة ) .
قوله
تعالى: « وجاءت
سكرة الموت بالحق » أي
غمرته شدته؛ فالإنسان ما دام حيا تكتب عليه أقوال وأفعال ليحاسب عليها، ثم يجيئه
الموت وهو ما يراه عند المعاينة من ظهور الحق فيما كان الله تعالى وعده وأوعده.
وقيل: الحق هو الموت سمي حقا إما لاستحقاقه وإما لانتقاله إلي دار الحق؛ فعلى هذا
يكون في الكلام تقديم وتأخير، وتقديره وجاءت سكرة الحق بالموت، وكذلك في قراءة أبي
بكر وابن مسعود رضي الله عنهما؛ لأن السكرة هي الحق فأضيفت إلى نفسها لاختلاف
اللفظين. وقيل: يجوز أن يكون الحق على هذه القراءة هو الله تعالى؛ أي جاءت سكرة
أمر الله تعالى بالموت. وقيل: الحق هو الموت والمعنى وجاءت سكرة الموت بالموت؛
ذكره المهدوي. وقد زعم من طعن على القرآن فقال: أخالف المصحف كما خالف أبو بكر الصديق
فقرأ: وجاءت سكرة الحق بالموت. فاحتج عليه بأن أبا بكر رويت عنه روايتان: إحداهما
موافقة للمصحف فعليها العمل، والأخرى مرفوضة تجري مجرى النسيان منه إن كان قالها،
أو الغلط من بعض من نقل الحديث. قال أبوبكر الأنباري: حدثنا إسماعيل بن إسحاق
القاضي حدثنا علي بن عبدالله حدثنا جرير عن منصور عن أبي وائل عن مسروق قال: لما
احتضر أبو بكر أرسل إلى عائشة فلما. دخلت عليه قالت: هذا كما قال الشاعر:
إذا
حشرجت يوما وضاق بها الصدر
فقال أبو
بكر: هلا قلت كما قال الله: « وجاءت
سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد » وذكر الحديث. والسكرة واحدة السكرات. وفي الصحيح عن عائشة
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت بين يديه ركوة - أوعلبة - فيها ماء فجعل
يدخل يديه في الماء، فيمسح بهما وجهه ويقول: ( لا إله إلا الله إن للموت سكرات )
ثم نصب يده فجعل يقول: ( في الرفيق الأعلى ) حتى قبض ومالت يده. خرجه البخاري.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن العبد الصالح ليعالج الموت
وسكراته وإن مفاصله ليسلم بعضها على بعض تقول السلام عليك تفارقني وأفارقك إلى يوم
القيامة ) . وقال عيسى ابن مريم: « يا معشر
الحواريين ادعوا الله أن يهون عليكم هذه السكرة » يعني سكرات الموت. وروي: ( إن الموت أشد من ضرب بالسيوف
ونشر بالمناشير وقرض بالمقاريض ) . « ذلك ما كنت منه تحيد » أي يقال لمن جاءته سكرة الموت ذلك ما كنت تفر منه وتميل
عنه. يقال: حاد عن الشيء يحيد حيودا وحيدة وحيدودة مال عنه وعدل. وأصله حيدودة
بتحريك الياء فسكنت؛ لأنه ليس في الكلام فعلول غير صعفوق. وتقول في الأخبار عن
نفسك: حدت عن الشيء أحيد حيدا ومحيدا إذا ملت عنه؛ قال طرفة:
أبا منذر
رمت الوفاء فهبته وحدت كما حاد البعير عن الدحض
الآيات:
20 - 22 ( ونفخ
في الصور ذلك يوم الوعيد، وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد، لقد كنت في غفلة من هذا
فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد )
قوله
تعالى: « ونفخ في
الصور » هي
النفخة الآخرة للبعث « ذلك يوم
الوعيد » الذي
وعده الله للكفار أن يعذبهم فيه. وقد مضى الكلام في النفخ في الصور مستوفى والحمد
لله.
قوله
تعالى: « وجاءت كل
نفس معها سائق وشهيد » اختلف
في السائق والشهيد؛ فقال ابن عباس: السائق من الملائكة والشهيد من أنفسهم الأيدي
والأرجل؛ رواه العوفي عن ابن عباس. وقال أبو هريرة: السائق الملك والشهيد العمل.
وقال الحسن وقتادة: المعنى سائق يسوقها وشاهد يشهد عليها بعملها. وقال ابن مسلم: السائق
قرينها من الشياطين سمي سائقا لأنه يتبعها وإن لم يحثها. وقال مجاهد: السائق
والشهيد ملكان. وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قال وهو على المنبر: « وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد » سائق: ملك يسوقها إلى أمر
الله، وشهيد: يشهد عليها بعملها.
قلت: هذا
أصح فإن في حديث جابر بن عبدالله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (
إن ابن آدم لفي غفلة عما خلقه الله عز وجل له إن الله لا اله غيره إذا أراد خلقه
قال للملك اكتب رزقه وأثره وأجله واكتبه شقيا أو سعيدا ثم يرتفع ذلك الملك ويبعث
الله ملكا آخر فيحفظه حتى يدرك ثم يبعث الله ملكين يكتبان حسناته وسيئاته فإذا
جاءه الموت ارتفع ذلك الملكان ثم جاء ملك الموت عليه السلام فيقبض روحه فإذا أودخل
حفرته رد الروح في جسده ثم يرتفع ملك الموت ثم جاءه ملكا القبر فامتحناه ثم
يرتفعان فاذا قامت الساعة انحط عليه ملك الحسنات وملك السيئات فأنشطا كتابا معقودا
في عنقه ثم حضرا معه واحد سائق والآخر شهيد ثم قال الله تعالى « لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا
عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد » قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لتركبن طبقا عن طبق قال: ( حالا بعد حال ) ثم قال
النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن قدامكم أمرا عظيما فاستعينوا بالله العظيم ) خرجه
أبو نعيم الحافظ من حديث جعفر بن محمد بن علي عن جابر وقال فيه: هذا حديث غريب من
حديث جعفر، وحديث جابر تفرد به عنه جابر الجعفي وعنه المفضل. ثم في الآية قولان:
أحدهما أنها عامة في المسلم والكافر وهو قول الجمهور. الثاني أنها خاصة في الكافر؛
قاله الضحاك.
قوله
تعالى: « لقد كنت
في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك » قال ابن زيد: المراد به النبي صلى الله عليه وسلم؛ أي لقد
كنت يا محمد في غفلة من الرسالة في قريش في جاهليتهم. وقال ابن عباس والضحاك: إن
المراد به المشركون أي كانوا في غفلة من عواقب أمورهم. وقال أكثر المفسرين: إن
المراد به البر والفاجر. وهو اختيار الطبري. وقيل: أي لقد كنت أيها الإنسان في
غفلة عن أن كل نفس معها سائق وشهيد؛ لأن هذا لا يعرف إلا بالنصوص الإلهية. « فكشفنا عنك غطاءك » أي عماك؛ وفيه أربعة أوجه: أحدها
إذ كان في بطن أمه فولد؛ قاله السدي. الثاني إذا كان في القبر فنشر. وهذا معنى قول
ابن عباس. الثالث وقت العرض في القيامة؛ قاله مجاهد. الرابع أنه نزول الوحي وتحمل
الرسالة. وهذا معنى قول ابن زيد. « فبصرك
اليوم حديد » قيل:
يراد به. بصر القلب كما يقال هو بصير بالفقه؛ فبصر القلب وبصيرته تبصرته شواهد
الأفكار ونتائج الاعتبار، كما تبصر العين ما قابلها من الأشخاص والأجسام. وقيل:
المراد به بصر العين وهو الظاهر أي بصر عينك اليوم حديد؛ أي قوي نافذ يرى ما كان
محجوبا عنك. قال مجاهد: « فبصرك
اليوم حديد » يعني
نظرك إلى لسان ميزانك حين توزن سيئاتك وحسناتك. وقال الضحاك. وقيل: يعاين ما يصير
إليه من ثواب وعقاب. وهو معنى قول ابن عباس. وقيل: يعني أن الكافر يحشر وبصره حديد
ثم يزرق ويعمى. وقرئ « لقد كنت
» « عنك » « فبصرك » بالكسر على خطاب النفس.
الآيات:
23 - 26 ( وقال
قرينه هذا ما لدي عتيد، ألقيا في جهنم كل كفار عنيد، مناع للخير معتد مريب، الذي
جعل مع الله إلها آخر فألقياه في العذاب الشديد )
قوله
تعالى: « وقال
قرينه » يعني
الملك الموكل به في قول الحسن وقتادة والضحاك. « هذا ما لدي عتيد » أي هذا ما عندي من كتابة عمله معد محفوظ. وقال مجاهد: يقول
هذا الذي وكلتني به من بني آدم قد أحضرته وأحضرت ديوان عمله. وقيل: المعنى هذا ما
عندي من العذاب حاضر. وعن مجاهد أيضا: قرينه الذي قيض له من الشياطين. « ألقيا في جهنم » قال ابن زيد في رواية ابن وهب
عنه: إنه قرينه من الإنس، فيقول الله تعالى لقرينه: « ألقيا في جهنم » قال الخليل والأخفش: هذا كلام
العرب الفصيح أن تخاطب الواحد بلفظ الاثنين فتقول: ويلك ارحلاها وازجراها، وخذاه
وأطلقاه للواحد. قال الفراء: تقول للواحد قوما عنا، وأصل ذلك أن أدنى، أعوان الرجل
في إبله وغنمه ورفقته في سفره أثنان فجرى كلام الرجل على صاحبيه، ومنه قولهم
للواحد في الشعر: خليلي، ثم يقول: يا صاح. قال امرؤ القيس:
خليلي
مرا بي على أم جندب نقض لبانات الفؤاد المعذب
وقال
أيضا:
قفا نبك
من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوى بين الدخول فحومل
وقال
آخر:
فإن
تزجراني يا ابن عفان أنزجر وإن تدعاني أحم عرضا ممنعا
وقيل:
جاء كذلك لأن القرين يقع للجماعة والاثنين. وقال المازني: قوله « ألقيا » يدل على ألق ألق. وقال المبرد:
هي تثنية على التوكيد، المعنى ألق ألق فناب « ألقيا » مناب
التكرار. ويجوز أن يكون « ألقيا » تثنية على خطاب الحقيقة من قول
الله تعالى يخاطب به الملكين. وقيل: هو مخاطبة للسائق والحافظ. وقيل: إن الأصل
القين بالنون الخفيفة تقلب في الوقف ألفا فحمل الوصل على الوقف. وقرأ الحسن « ألقين » بالنون الخفيفة نحو قوله: « وليكونا من الصاغرين » [ يوسف: 32 ] وقوله: « لنسفعا » [ العلق: 15 ] . « كل كفار عنيد » أي معاند؛ قال مجاهد وعكرمة.
وقال بعضهم: العنيد المعرض عن الحق؛ يقال عند يعند بالكسر عنودا أي خالف ورد الحق
وهو يعرفه فهو عنيد وعاند، وجمع العنيد عند مثل رغيف ورغف. « مناع للخير » يعني الزكاة المفروضة وكل حق
واجب. « معتد » في منطقه وسيرته وأمره؛ ظالم. « مريب » شاك في التوحيد؛ قاله الحسن
وقتادة. يقال: أراب الرجل فهو مريب إذا جاء بالريبة. وهو المشرك يدل عليه قوله
تعالى: « الذي جعل
مع الله إلها آخر » وقيل:
نزلت في الوليد بن المغيرة. وأراد بقوله: « مناع للخير » أنه كان يمنع بني أخيه من الإسلام. « فألقياه في العذاب الشديد » تأكيد للأمر الأول.
الآيات:
27 - 29 ( قال
قرينه ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد، قال لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم
بالوعيد، ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد )
قوله
تعالى: « قال
قرينه ربنا ما أطغيته » يعني
الشيطان الذي قيض لهذا الكافر العنيد تبرأ منه وكذبه. « ولكن كان في ضلال بعيد » عن الحق وكان طاغيا باختياره
وإنما دعوته فاستجاب لي. وقرينه هنا هو شيطانه بغير أختلاف. حكاه المهدوي. وحكى
الثعلبي قال ابن عباس ومقاتل: قرينه الملك؛ وذلك أن الوليد بن المغيرة يقول للملك
الذي كان يكتب سيئاته: رب إنه أعجلني، فيقول الملك: ربنا ما أطغيته أي ما أعجلته.
وقال سعيد بن جبير: يقول الكافر رب إنه زاد علي في الكتابة، فيقول الملك: ربنا ما
أطغيته أي ما زدت عليه في الكتابة؛ فحينئذ يقول الله تعالى: « قال لا تختصموا لدي » يعني الكافرين وقرناءهم من
الشياطين. قال القشيري: وهذا يدل على أن القرين الشيطان. « وقد قدمت إليكم بالوعيد » أي أرسلت الرسل. وقيل: هذا
خطاب لكل من اختصم. وقيل: هو للاثنين وجاء بلفظ الجمع. « ما يبدل القول لدي » قيل هو قوله: « من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها
ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها » [ الأنعام:
160 ] وقيل
هو قوله: « لأملأن
جهنم من الجنة والناس أجمعين » [ السجدة: 13 ] . وقال الفراء: ما يكذب عندي
أي ما يزاد في القول ولا ينقص لعلمي بالغيب. « وما أنا بظلام للعبيد » أي ما أنا بمعذب من لم يجرم؛ قال ابن عباس. وقد مضى القول
في معناه في « الحج » وغيرها.
الآيات:
30 - 35 ( يوم
نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد، وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد، هذا ما
توعدون لكل أواب حفيظ، من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب، ادخلوها بسلام ذلك
يوم الخلود، لهم ما يشاؤون فيها ولدينا مزيد )
قوله
تعالى: « يوم نقول
لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد » قرأ نافع وأبو بكر « يوم يقول » بالياء
أعتبارا بقوله: « لا
تختصموا لدي » .
الباقون بالنون على الخطاب من الله تعالى وهي نون العظمة. وقرأ الحسن « يوم أقول » . وعن ابن مسعود وغيره « يوم يقال » . وأنتصب « يوم » علي معنى ما يبدل القول لدي
يوم. وقيل: بفعل مقدر معناه: وأنذرهم « يوم نقول لجهنم هل أمتلات » لما سبق من وعده إياها أنه يملؤها. وهذا الاستفهام على سبيل
التصديق لخبره، والتحقيق لوعده، والتقريع لأعدائه، والتنبيه لجميع عباده. « وتقول » جهنم « هل من مزيد » أي ما بقي في موضع للزيادة؛
كقوله عليه السلام: ( هل ترك لنا عقيل من ربع أومنزل ) أي ما ترك؛ بمعنى الكلام
الجحد. ويحتمل أن يكون استفهاما بمعنى الاستزادة؛ أي هل من مزيد فأزداد؟. وإنما
صلح هذا للوجهين؛ لأن في الاستفهام ضربا من الجحد. وقيل: ليس ثم قول وإنما هو على
طريق، المثل؛ أي إنها فيما يظهر من حالها بمنزلة الناطقة بذلك؛ كما قال الشاعر:
امتلأ
الحوض وقال قَطني مهلا رويدا قد ملأتَ بطني
وهذا
تفسير مجاهد وغيره. أي هل في من مسلك قد امتلأت. وقيل: ينطق الله النار حتى تقول
هذا كما تنطق الجوارح. وهذا أصح على ما بيناه في سورة « الفرقان » وفي صحيح مسلم والبخاري
والترمذي عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تزال جهنم يلقى
فيها وتقول هل من مزيد حتى يضع رب العزة فيها قدمه فينزوي بعضها إلى بعض وتقول قط
قط به بعزتك وكرمك ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشئ الله لها خلقا فيسكنهم فضل الجنة
) لفظ مسلم. وفي رواية أخرى من حديث أبي هريرة: ( وأما النار فلا تمتلئ حتى يضع
الله عليها رجله يقول لها قط قط فهنالك تمتلئ وينزوي بعضها إلى بعض فلا يظلم الله
من خلقه أحدا وأما الجنة فإن الله ينشئ لها خلقا ) . علماؤنا رحمهم الله: أما معنى
القدم هنا فهم قوم يقدمهم الله إلى النار، وقد سبق في علمه أنهم من أهل النار.
وكذلك الرجل وهو العدد الكثير من الناس وغيرهم؛ يقال:رأيت رجلا من الناس ورجلا من
جراد، فال الشاعر:
فمر بنا
رجل من الناس وانزوى إليهم من الحي اليماني أرجل
قبائل من
لخم وعكل وحمير على ابني نزار بالعداوة أحفل
وبين هذا
المعنى ما روي عن ابن مسعود أنه قال: ما في النار بيت ولا سلسلة ولا مقمع ولا
تابوت إلا وعليه اسم صاحبه، فكل واحد من الخزنة ينتظر صاحبه الذي قد عرف اسمه
وصفته، فإذا استوفى كل واحد منهم ما أمر به وما ينتظره ولم يبق منهم أحد قال
الخزنة: قط قط حسبنا حسبنا! أي اكتفينا اكتفينا، وحينئذ تنزوي جهنم على من فيها
وتنطبق إذ لم يبق أحد ينتظر. فعبر عن ذلك الجمع المنتظر بالرجل والقدم؛ ويشهد لهذا
التأويل قوله في نفس الحديث: ( ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشئ الله لها خلقا
فيسكنهم فضل الجنة ) وقد زدنا هذا المعنى بيانا ومهدناه في كتاب الأسماء والصفات
من الكتاب الأسنى والحمد لله. وقال النضر بن شميل في معنى قوله عليه السلام: ( حتى
يضع الجبار فيها قدمه ) أي من سبق في علمه أنه من أهل النار.
قوله
تعالى: « وأزلفت
الجنة للمتقين غير بعيد » أي قربت
منهم. وقيل: هذا قبل الدخول في الدنيا؛ أي قربت من قلوبهم حين قيل لهم اجتنبوا
المعاصي. وقيل: بعد الدخول قربت لهم مواضعهم فيها فلا تبعد. « غير بعيد » أي منهم وهذا تأكيد. « هذا ما توعدون » أي ويقال لهم هذا الجزاء الذي
وعدتم في الدنيا على ألسنة الرسل. وقراءة العامة « توعدون » بالتاء
على الخطاب. وقرأ ابن كثير بالياء على الخبر؛ لأنه أتى بعد ذكر المتقين. « لكل أواب حفيظ » أواب أي رجاع إلى الله عن
المعاصي، ثم يرجع يذنب ثم يرج هكذا قاله الضحاك وغيره. وقال ابن عباس وعطاء:
الأواب المسبح من قوله: « يا جبال
أوبي معه » [ سبأ: 10 ] . وقال الحكم بن عتيبة: هو
الذاكر لله تعالى في الخلوة. وقال الشعبي ومجاهد: هو الذي يذكر ذنوبه في الخلوة
فيستغفر الله منها. وهو قول ابن مسعود. وقال عبيد بن عمير: هو الذي لا يجلس مجلسا
حتى يستغفر الله تعالى فيه. وعنه قال: كنا نحدث أن الأواب الحفيظ الذي إذا قام من
مجلسه قال سبحان الله وبحمده، اللهم إني أستغفرك مما أصبت في مجلسي هذا. وفي
الحديث: ( من قال إذا قام من مجلسه سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت أستغفرك
وأتوب إليك غفر الله له ما كان في ذلك المجلس ) . وهكذا كان النبي صلى صلى الله
عليه وسلم يقول. وقال بعض العلماء: أنا أحب أن أقول أستغفرك وأسألك التوبة، ولا
أحب أن أقول وأتوب إليك إلا على حقيقته.
قلت: هذا
استحسان واتباع الحديث أولى. وقال أبو بكر الوراق: هو المتوكل على الله في السراء
والضراء. وقال القاسم: هو الذي لا يشتغل إلا بالله عز وجل. « حفيظ » قال ابن عباس: هو الذي حفظ
ذنوبه حتى يرجع عنها. وقال قتادة: حفيظ لما استودعه الله من حقه ونعمته وأتمنه
عليه. وعن ابن عباس أيضا: هو الحافظ لأمر الله. مجاهد: هو الحافظ لحق الله تعالى
بالاعتراف ولنعمه بالشكر. قال الضحاك: هو الحافظ لوصية الله تعالى بالقبول. وروى
مكحول عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من حافظ على أربع
ركعات من أول النهار كان أوابا حفيظا ) ذكره الماوردي.
قوله
تعالى: « من خشي
الرحمن بالغيب » « من » في محل خفض على البدل من قوله:
« لكل أواب
حفيظ » أو في
موضع الصفة لـ « أواب » . ويجوز الرفع على الاستئناف،
والخبر « ادخلوها
» على
تقدير حذف جواب الشرط والتقدير فيقال لهم: « ادخلوها » .
والخشية بالغيب أن تخافه ولم تره. وقال الضحاك والسدي: يعني في الخلوة حين يراه
أحد. وقال الحسن: إذا أرخى الستر وأغلق الباب. « وجاء بقلب منيب » مقبل على الطاعة. وقيل: مخلص. وقال أبو بكر الوراق: علامة
المنيب أن يكون عارفا لحرمته ومواليا له، متواضعا لجلاله تاركا لهوى نفسه. قلت:
ويحتمل أن يكون القلب المنيب القلب السليم؛ كما قال تعالى: « إلا من أتى الله بقلب سليم » [ الشعراء: 89 ] على ما تقدم؛ والله أعلم. « ادخلوها » أي يقال لأهل هذه الصفات: « ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود » أي بسلامة من العذاب. وقيل:
بسلام من الله وملائكته عليهم. وقيل: بسلامة من زوال النعم. وقال: « أدخلوها » وفي أول الكلام « من خشي » ؛ لأن « من » تكون بمعنى الجمع.
قوله
تعالى: « لهم ما
يشاؤون فيها » يعني ما
تشتهيه أنفسهم وتلذ أعينهم. « ولدينا
مزيد » من
النعم مما لم يخطر على بالهم. وقال أنس وجابر: المزيد النظر إلى وجه الله تعالى
بلا كيف. وقد ورد ذلك في أخبار مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم في قوله
تعالى: « للذين
أحسنوا الحسنى وزيادة » [ يونس: 26 ] قال: الزيادة النظر إلى وجه
الله الكريم. وذكر ابن المبارك ويحيى بن سلام، قالا: أخبرنا المسعودي عن المنهال
بن عمرو عن أبي عبيدة بن عبدالله بن عتبة عن ابن مسعود قال: تسارعوا إلى الجمعة
فإن الله تبارك وتعالى يبرز لأهل الجنة كل يوم جمعة في كثيب من كافور أبيض فيكونون
منه في القرب. قال ابن المبارك: على قدر تسارعهم إلى الجمعة في الدنيا. وقال يحيى
بن سلام: لمسارعتهم إلى الجمع في الدنيا، وزاد ( فيحدث الله لهم من الكرامة شيئا
لم يكونوا رأوه قبل ذلك ) . فال يحيى: وسمعت غير المسعودي يزيد فيه قوله تعالى: « ولدينا مزيد » .
قلت:
قوله ( في كثيب ) يريد أهل الجنة، أي وهم على كثب؛ كما في مرسل الحسن، قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن أهل الجنة ينظرون ربهم في كل يوم جمعة على
كثيب من كافور ) الحديث وقد ذكرناه في كتاب « التذكرة » . وقيل:
إن المزيد ما يزوجون به من الحور العين؛ رواه أبو سعيد الخدري مرفوعا.
الآيات:
36 - 38 ( وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم
أشد منهم بطشا فنقبوا في البلاد هل من محيص، إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو
ألقى السمع وهو شهيد، ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا
من لغوب )
قوله
تعالى: « وكم
أهلكنا قبلهم من قرن » أي كم
أهلكنا يا محمد قبل قومك من أمة هم أشد منهم بطشا وقوة. « فنقبوا في البلاد » أي ساروا فيها طلبا للمهرب.
وقيل: أثروا في البلاد؛ قال ابن عباس. وقال مجاهد: ضربوا وطافوا. وقال النضر بن
شميل: دوروا. وقال قتادة: طوفوا. وقال المؤرخ تباعدوا؛ ومنه قول امرئ القيس:
وقد نقبت
في الآفاق حتى رضيت من الغنيمة بالإياب
ثم قيل:
طافوا في أقاصي البلاد طلبا للتجارات، وهل وجدوا من الموت محيصا؟. وقيل: طوفوا في
البلاد يلتمسون محيصا من الموت. قال الحرث بن حلزة:
نقبوا في
البلاد من حذر المو ت وجالوا في الأرض كل مجال
وقرأ الحسن
وأبو العالية « فنقبوا » بفتح القاف وتخفيفها. والنقب هو
الخرق والدخول في الشيء. وقيل: النقب الطريق في الجبل، وكذلك المنقب والمنقبة؛ عن
ابن السكيت. ونقب الجدار نقبا، واسم تلك النقبة نقب أيضا، وجمع النقب النقوب؛ أي
خرقوا البلاد وساروا في نقوبها. وقيل: أثروا فيها كتأثير الحديد فيما ينقب. وقرأ
السلمي يحيى بن يعمر « فنقبوا » بكسر القاف والتشديد على الأمر
بالتهديد والوعيد؛ أي طوفوا البلاد وسيروا فيها فانظروا « هل من » الموت « محيص » ومهرب؛ ذكره الثعلبي. وحكى
القشيري « فنقبوا » بكسر القاف مع التخفيف؛ أي أكثروا
السير فيها حتى نقبت دوابهم. الجوهري: ونقب البعير بالكسر إذا رقت أخفافه، وأنقب
الرجل، إذا نقب بعيره، ونقب الخف الملبوس أي تخرق. والمحيص مصدر حاص عنه يحيص حيصا
وحيوصا ومحيصا ومحاصا وحيصانا؛ أي عدل وحاد. يقال: ما عنه محيص أي محيد ومهرب.
والانحياص مثله؛ يقال للأولياء: حاصوا عن العدو وللأعداء انهزموا. « إن في ذلك لذكرى » أي فيما ذكرناه في هذه السورة
تذكرة وموعظة « لمن كان
له قلب » أي عقل
يتدبر به؛ فكنى بالقلب عن العقل لأنه موضعه؛ قال معناه مجاهد وغيره. وقيل: لمن كان
له حياة ونفس مميزة، فعبر عن النفس الحية بالقلب؛ لأنه وطنها ومعدن حياتها؛ كما
قال امرؤ القيس:
أغرك مني
أن حبك قاتلي وأنك مهما تأمري القلب يفعل
وفي
التنزيل: « لينذر من
كان حيا » [ يس: 70 ] . وقال يحيى بن معاذ: القلب
قلبان؛ قلب محتشى بأشغال الدنيا حتى إذا حضر أمر من الأمور الآخرة لم يدر ما يصنع،
وقلب قد أحتشى بأهوال الآخرة حتى إذا حضر أمر من أمور الدنيا لم يدر ما يصنع لذهاب
قلبه في الآخرة. « أو ألقى
السمع » أي استمع
القرآن. تقول العرب: ألق إلى سمعك أي استمع. وقد مضى في « طه » كيفية الاستماع وثمرته. « وهو شهيد » أي شاهد القلب؛ قال الزجاج: أي
قلبه حاضر فيما يسمع. وقال سفيان: أي لا يكون حاضرا وقلبه غائب. ثم قيل: الآية
لأهل الكتاب؛ قال مجاهد وقتادة. وقال الحسن: إنها في اليهود والنصارى خاصة. وقال
محمد بن كعب وأبو صالح: إنها في أهل القرآن خاصة.
قوله
تعالى: « ولقد
خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب » تقدم في « الأعراف » وغيرها. واللغوب التعب والإعياء،
تقول منه: لغب يلغب بالضم لغوبا، ولغب بالكسر يلغب لغوبا لغة ضعيفة فيه. وألغبته
أنا أي أنصبته. قال قتادة والكلبي: هذه الآية نزلت في يهود المدينة؛ زعموا أن الله
تعالى خلق السموات والأرض في ستة أيام، أولها يوم الأحد وآخرها يوم الجمعة،
واستراح يوم السبت؛ فجعلوه راحة، فأكذبهم الله تعالى في ذلك.
الآيات:
39 - 40 ( فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد
ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب، ومن الليل فسبحه وأدبار السجود )
قوله
تعالى: « فاصبر
على ما يقولون » خطاب
للنبي صلى الله عليه وسلم؛ أمره بالصبر على ما يقوله المشركون؛ أي هون أمرهم عليك.
ونزلت قبل الأمر بالقتال فهي منسوخة. وقيل: هو ثابت للنبي صلى الله عليه وسلم
وأمته. وقيل معناه: فاصبر على ما يقوله اليهود من قولهم: إن الله استراح يوم
السبت. « وسبح
بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب » قيل: إنه أراد به الصلوات الخمس. قال أبو صالح: قبل طلوع
الشمس صلاة الصبح، وقبل الغروب صلاة العصر. ورواه جرير بن عبدالله مرفوعا؛ قال:
كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ نظر إلى القمر ليلة البدر، فقال: ( أما انكم سترون ربكم كما ترون
هذا القمر لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس
وقبل غروبها - يعني العصر والفجر ثم قرأ جرير - « وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها » [ طه: 130 ] متفق عليه واللفظ لمسلم. وقال
ابن عباس: « قبل
الغروب » الظهر
والعصر. « ومن
الليل فسبحه » يعني
صلاة العشاءين. وقيل: المراد تسبيحه بالقول تنزيها قبل طلوع الشمس وقبل الغروب؛
قاله عطاء الخراساني وأبو الأحوص. وقال بعض العلماء في قوله: « قبل طلوع الشمس » قال ركعتي الفجر « وقبل الغروب » الركعتين قبل المغرب؛ وقال
ثمامة ابن عبدالله بن أنس: كان ذوو الألباب من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم
يصلون الركعتين قبل المغرب. وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك قال: كنا بالمدينة فإذا
أذن المؤذن لصلاة المغرب ابتدروا السواري فركعوا ركعتين، حتى إن الرجل الغريب
ليدخل المسجد فيحسب أن الصلاة قد صليت من كثرة من يصليهما. وقال قتادة: ما أدركت
أحدا يصلي الركعتين إلا أنسا وأبا برزة الأسلمي.
قوله
تعالى: « ومن
الليل فسبحه وأدبار السجود » فيه
أربعة أقوال: الأول: هو تسبيح الله تعالى في الليل، قال أبو الأحوص. الثاني: أنها
صلاة الليل كله، قال مجاهد. الثالث: أنها ركعتا الفجر، قاله ابن عباس. الرابع:
أنها صلاة العشاء الآخرة، قاله ابن زيد. قال ابن العربي: من قال إنه التسبيح في
الليل فيعضده الصحيح ( من تعار من الليل فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له
الملك وله الحمد وهو على كل شي قدير سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله
أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ) . وأما من قال إنها الصلاة بالليل
فإن الصلاة تسمى تسبيحا لما فيها من تسبيح الله، ومنه سبحة الضحى. وأما من قال
إنها صلاة الفجر أو العشاء فلأنهما من صلاة الليل، والعشاء أوضحه. « وأدبار السجود » قال عمر وعلي وأبو هريرة
والحسن بن علي والحسن البصري والنخعي والشعبي والأوزاعي والزهري: أدبار السجود
الركعتان بعد المغرب، وأدبار النجوم الركعتان قبل الفجر، ورواه العوفي عن ابن
عباس، وقد رفعه ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ركعتان بعد
المغرب أدبار السجود ) ذكره الثعلبي. ولفظ الماوردي: وروي عن ابن عباس قال: بت
ليلة عند النبي صلى الله عليه وسلم فصلى ركعتين قبل الفجر، ثم خرج إلى الصلاة
فقال: ( يا ابن عباس ركعتان قبل الفجر أدبار النجوم وركعتان بعد المغرب أدبار
السجود ) . وقال أنس: قال النبي صلى الله عليه وسلم ( من صلى ركعتين بعد المغرب
قبل أن يتكلم كتبت صلاته في عليين « . قال أنس فقرأ في الركعة الأولى » قل يا أيها الكافرون « [ الكافرون: 1 ] وفي الثانية » قل هو الله أحد « [ الإخلاص: 1 ] قال مقاتل: ووقتها ما لم يغرب
الشفق الأحمر. وعن ابن عباس أيضا: هو الوتر. قال ابن زيد: هو النوافل بعد الصلوات،
ركعتان بعد كل صلاة مكتوبة، قال النحاس: والظاهر يدل على هذا إلا أن الأولى اتباع
الأكثر وهو صحيح عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وقال أبو الأحوص: هو التسبيح في
أدبار السجود. قال ابن العربي وهو الأقوى في النظر. وفي صحيح الحديث: أن النبي صلى
الله عليه وسلم كان يقول في دبر الصلاة المكتوبة ( لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو
على كل شيء قدير اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك
الجد ) وقيل:
إنه منسوخ بالفرائض فلا يجب على أحد إلا خمس صلوات، نقل ذلك الجماعة.»
قرأ نافع
وابن كثير وحمزة « وإدبار
السجود » بكسر
الهمزة على المصدر من أدبر الشيء إدبارا إذا ولى. الباقون بفتحها جمع دبر. وهي
قراءة علي وابن عباس، ومثالها طنب وأطناب، أو دبر كقفل وأقفال. وقد استعملوه ظرفا
نحو جئتك في دبر الصلاة وفي أدبار الصلاة. ولا خلاف في آخر « والطور » . « وإدبار النجوم » [ الطور: 49 ] أنه بالكسر مصدر، وهو ذهاب
ضوئها إذا طلع الفجر الثاني، وهو البياض المنشق من سواد الليل.
الآيات:
41 - 45 ( واستمع
يوم يناد المناد من مكان قريب، يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج، إنا نحن
نحيي ونميت وإلينا المصير، يوم تشقق الأرض عنهم سراعا ذلك حشر علينا يسير، نحن
أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد )
قوله
تعالى: « واستمع
يوم يناد المناد من مكان قريب » مفعول
الاستماع محذوف؛ أي استمع النداء والصوت أو الصيحة وهي صيحة القيامة، وهي النفخة
الثانية، والمنادي جبريل. وقيل: إسرافيل. الزمخشري: وقيل إسرافيل ينفخ وجبريل
ينادي، فينادي بالحشر ويقول: هلموا إلى الحساب فالنداء على هذا في المحشر. وقيل:
واستمع نداء الكفار بالويل والثبور من مكان قريب، أي يسمع الجميع فلا يبعد أحد عن
ذلك النداء. قال عكرمة: ينادي منادي الرحمن فكأنما ينادي في آذانهم. وقيل: المكان
القريب صخرة بيت المقدس. ويقال: إنها وسط الأرض وأقرب الأرض من السماء باثني عشر
ميلا. وقال كعب: بثمانية عشر ميلا، ذكر الأول القشيري والزمخشري، والثاني
الماوردي. فيقف جبريل أو إسرافيل على الصخرة فينادي بالحشر: أيتها العظام البالية،
والأوصال المتقطعة، ويا عظاما نخرة، ويا أكفانا فانية، ويا قلوبا خاوية، ويا
أبدانا فاسدة، ويا عيونا سائلة، قوموا لعرض رب العالمين. قال قتادة: هو إسرافيل
صاحب الصور. « يوم
يسمعون الصيحة بالحق » يعني
صيحة البعث. ومعنى « الخروج » الاجتماع إلى الحساب. « ذلك يوم الخروج » أي يوم الخروج من القبور. « إنا نحن نحيي ونميت » نميت الأحياء ونحيي الموتى؛
أثبت هنا الحقيقة « يوم
تتشقق الأرض عنهم سراعا » إلى
المنادي صاحب الصور إلى بيت المقدس. « ذلك حشر علينا يسير » أي هين سهل. وقرأ الكوفيون « تشقق » بتخفيف
الشين على حذف التاء الأولى. الباقون بإدغام التاء في الشين. وأثبت ابن محيصن وابن
كثير ويعقوب ياء « المنادي
» في
الحالين على الأصل، وأثبتها نافع وأبو عمرو في الوصل لا غير، وحذف الباقون في
الحالين.
قلت: وقد
زادت السنة هذه الآية بيانا؛ فروى الترمذي عن معاوية بن حيدة عن النبي صلى الله
عليه وسلم في حديث ذكره؛ قال وأشار بيده إلى الشام فقال: ( من ها هنا إلى ها هنا
تحشرون ركبانا ومشاة وتجرون على وجوهكم يوم القيامة على أفواهكم الفدام توفون
سبعين أمة أنتم خيرهم وأكرمهم على الله وإن أول ما يعرب عن أحدكم فخذه ) في رواية
أخرى ( فخذه وكفه ) وخرج علي بن معبد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في
حديث ذكره: ثم يقول - يعني الله تعالى - لإسرافيل: ( أنفخ نفخة البعث فينفخ فتخرج
الأرواح كأمثال النحل قد ملأت ما بين السماء والأرض فيقول الله عز وجل وعزتي
وجلالي ليرجعن كل روح إلى جسده فتدخل الأرواح في الأرض إلى الأجساد ثم تدخل في
الخياشيم فتمشي في الأجساد مشي السم في اللديغ ثم تنشق الأرض عنكم وأنا أول من
تنشق عنه الأرض فتخرجون منها شبابا كلكم أبناء ثلاث وثلاثين واللسان يومئذ بالسريانية
) وذكر الحديث، وقد ذكرنا جميع هذا وغيره في « التذكرة » مستوفى
والحمد لله.
قوله
تعالى: « نحن أعلم
بما يقولون » أي من
تكذيبك وشتمك. « وما أنت
عليهم بجبار » أي
بمسلط تجبرهم على الإسلام؛ فتكون الآية منسوخة بالأمر بالقتال. والجبار من الجبرية
والتسلط إذ لا يقال جبار بمعنى مجبر، كما لا يقال خراج بمعنى مخرج؛ حكاه القشيري.
النحاس: وقيل معنى جبار لست تجبرهم، وهو خطأ لأنه لا يكون فعال من أفعل. وحكى،
الثعلبي: وقال ثعلب قد جاءت احرف فعال بمعنى مفعل وهي شاذة، جبار بمعنى مجبر،
ودراك بمعنى مدرك، وسراع بمعنى مسرع، وبكاء بمعنى مبك، وعداء بمعنى معد. وقد قرئ « وما أهديكم إلا سبيل الرشاد » [ غافر: 29 ] بتشديد الشين بمعنى المرشد
وهو موسى. وقيل: هو الله. وكذلك قرئ « أما السفينة فكانت لمساكين » [
الكهف: 79 ] يعني
ممسكين. وقال أبو حامد الخارزنجي: تقول العرب: سيف سقاط بمعنى مسقط. وقيل: « بجبار » بمسيطر كما في الغاشية « لست عليهم بمصيطر » [ الغاشية: 21 ] . وقال الفراء: سمعت من العرب
من يقول جبره على الأمر أي قهره، فالجبار من هذه اللغة بمعنى القهر صحيح. قيل:
الجبار من قولهم جبرته على الأمر أي أجبرته وهي لغة كنانية وهما لغتان. الجوهري:
وأجبرته على الأمر أكرهته عليه، وأجبرته أيضا نسبته إلى الجبر، كما تقول أكفرته
إذا نسبته إلى الكفر. « فذكر
بالقرآن من يخاف وعيد » قال ابن
عباس: قالوا يا رسول الله لو خوفتنا فنزلت: « فذكر بالقرآن من يخاف وعيد » أي ما أعددته لمن عصاني من العذاب؛ فالوعيد العذاب والوعد
الثواب، قال الشاعر:
وإني وإن
أوعدته أو وعدته لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
وكان
قتادة يقول: اللهم اجعلنا ممن يخاف وعيدك ويرجو موعدك. وأثبت الياء في « وعيدي » يعقوب في الحالين، وأثبتها ورش
في الوصل دون الوقف، وحذف الباقون في الحالين. والله أعلم. تم تفسير سورة « ق » والحمد لله.