سورة
المعارج
مقدمة
السورة
وهي مكية
باتفاق. وهي أربع وأربعون آية.
الآيات:
1 - 4 ( سأل سائل بعذاب واقع، للكافرين
ليس له دافع، من الله ذي المعارج، تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره
خمسين ألف سنة )
قوله
تعالى: « سأل سائل
بعذاب واقع » قرأ نافع
وابن عامر « سال سايل
» بغير
همزة. الباقون بالهمز. فمن همز فهو من السؤال. والباء يجوز أن تكون زائدة، ويجوز
أن تكون بمعنى عن. والسؤال بمعنى الدعاء؛ أي دعا داع بعذاب؛ عن ابن عباس وغيره.
يقال: دعا على فلان بالويل، ودعا عليه بالعذاب. ويقال: دعوت زيدا؛ أي ألتمست
إحضاره. أي التمس ملتمس عذابا للكافرين؛ وهو واقع بهم لا محالة يوم القيامة. وعلى
هذا فالباء زائدة؛ كقوله تعالى: « تنبت
بالدهن » [ المؤمنون: 20 ] ، وقوله. « وهزي إليك بجذع النخلة » [ مريم: 25 ] فهي تأكيد. أي سأل سائل عذابا
واقعا. « للكافرين
» أي على
الكافرين. وهو النضر بن الحارث حيث قال: « اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من
السماء أو ائتنا بعذاب أليم » [ الأنفال: 32 ] فنزل سؤاله، وقتل يوم بدر صبرا
هو وعقبة بن أبي معيط؛ لم يقتل صبرا غيرهما؛ قاله ابن عباس ومجاهد. وقيل: إن
السائل هنا هو الحارث بن النعمان الفهري. وذلك أنه لما بلغه قول النبي صلى الله
عليه وسلم في علي رضي الله عنه: ( من كنت
مولاه فعلي مولاه ) ركب
ناقته فجاء حتى أناخ راحلته بالأبطح ثم قال: يا محمد، أمرتنا عن الله أن نشهد أن
لا إله إلا الله وأنك رسول الله فقبلناه منك، وأن نصلي خمسا فقبلناه منك، ونزكي
أموالنا فقبلناه منك، وأن نصوم شهر رمضان في كل عام فقبلناه منك، وأن نحج فقبلناه
منك، ثم لم ترض بهذا حتى فضلت ابن عمك علينا! أفهذا شيء منك أم من الله؟! فقال
النبي صلى الله عليه وسلم: ( والله الذي
لا إله إلا هو ما هو إلا من الله ) فولى
الحارث وهو يقول: اللهم إن كان ما يقول محمد حقا فأمطر علينا حجارة من السماء أو
ائتنا بعذاب أليم. فوالله ما وصل إلى ناقته حتى رماه الله بحجر فوقع على دماغه
فخرج من دبره فقتله؛ فنزلت: « سأل سائل
بعذاب واقع » الآية. وقيل:
إن السائل هنا أبو جهل وهو القائل لذلك، قال الربيع. وقيل: إنه قول جماعة من كفار
قريش. وقيل: هو نوح عليه السلام سأل العذاب على الكافرين. وقيل: هو رسول الله صلى
الله عليه وسلم أي دعا عليه السلام بالعقاب وطلب أن يوقعه الله بالكفار؛ وهو واقع
بهم لا محالة. وأمتد الكلام إلى قوله تعالى: « فاصبر صبرا جميلا » [
المعارج: 5 ] أي لا
تستعجل فإنه قريب. وإذا كانت الباء بمعنى عن - وهو قول قتادة - فكأن سائلا سأل عن
العذاب بمن يقع أو متى يقع. قال الله تعالى: « فاسأل به خبيرا » [
الفرقان: 59 ] أي سل
عنه. وقال علقمة:
فإن
تسألوني بالنساء فإنني بصير بأدواء النساء طبيب
أي عن
النساء. ويقال: خرجنا نسأل عن فلان وبفلان. فالمعنى سألوا بمن يقع العذاب ولمن
يكون فقال الله: « للكافرين
» . قال أبو
علي وغيره: وإذا كان من السؤال فأصله أن يتعدى إلى مفعولين ويجوز الاقتصار على
أحدهما. وإذا اقتصر على أحدهما جاز أن يتعدى إليه بحرف جر؛ فيكون التقدير سأل سائل
النبي صلى الله عليه وسلم أو المسلمين بعذاب أو عن عذاب. ومن قرأ بغير همز فله
وجهان: أحدهما: أنه لغة في السؤال وهي لغة قريش؛ تقول العرب: سال يسال؛ مثل نال
ينال وخاف يخاف. والثاني: أن يكون من السيلان؛ ويؤيده قراءة ابن عباس « سال سيل » . قال عبدالرحمن بن زيد: سال واد
من أودية جهنم يقال له: سائل؛ وقول زيد بن ثابت. قال الثعلبي: والأول أحسن؛ كقول
الأعشى في تخفيف الهمزة:
سالتاني
الطلاق إذ رأتاني قل مالي قد جئتماني بنكر
وفي
الصحاح: قال الأخفش: يقال خرجنا نسأل عن فلان وبفلان. وقد تخفف همزته فيقال: سال
يسال. وقال:
ومرهق سال
إمتاعا بِأُصْدَته لم يستعن وحوامي الموت تغشاه
المرهق:
الذي أدرك ليقتل. والأصدة بالضم: قميص صغير يلبس تحت الثوب. المهدوي: من قرأ « سال » جاز أن يكون خفف الهمزة بإبدالها
ألفا، وهو البدل على غير قياس. وجاز أن تكون الألف منقلبة عن واو على لغة من قال:
سلت أسال؛ كخفت أخاف. النحاس: حكى سيبويه سلت أسال؛ مثل خفت أخاف؛ بمعنى سألت.
وأنشد:
سالت هذيلٌ
رسول الله فاحشة ضلت هذيل بما سالت ولم تصب
ويقال: هما
يتساولان. المهدوي: وجاز أن تكون مبدلة من ياء، من سال يسيل. ويكون سايل واديا في
جهنم؛ فهمزة سايل على القول الأول أصلية، وعلى الثاني بدل من واو، وعلى الثالث بدل
من ياء. القشيري: وسائل مهموز؛ لأنه إن كان من سأل بالهمز فهو مهموز، وإن كان من
غير الهمز كان مهموزا أيضا؛ نحو قائل وخائف؛ لأن العين اعتل في الفعل واعتل في اسم
الفاعل أيضا. ولم يكن الاعتلال بالحذف لخوف الالتباس، فكان بالقلب إلى الهمزة، ولك
تخفيف الهمزة حتى تكون بين بين. « واقع » أي يقع بالكفار بين أنه من الله
ذي المعارج. وقال الحسن: أنزل الله تعالى: « سأل سائل بعذاب واقع » فقال لمن هو؟ فقال للكافرين؛ فاللام في الكافرين متعلقة « بواقع » . وقال الفراء: التقدير بعذاب
للكافرين واقع؛ فالواقع من نعت العذاب واللام دخلت للعذاب لا للواقع، أي هذا
العذاب للكافرين في الآخرة لا يدفعه عنهم أحد. وقيل إن اللام بمعنى على، والمعنى:
واقع على الكافرين. وروي أنها في قراءة أبي كذلك. وقيل: بمعنى عن؛ أي ليس له دافع
عن الكافرين من الله. أي ذلك العذاب من الله ذي المعارج أي ذي العلو والدرجات
الفواضل والنعم؛ قاله ابن عباس وقتادة فالمعارج مراتب إنعامه على الخلق وقيل ذي
العظمة والعلاء وقال مجاهد: هي معارج السماء. وقيل: هي معارج الملائكة؛ لأن
الملائكة تعرج إلى السماء فوصف نفسه بذلك. وقيل: المعارج الغرف؛ أي إنه ذو الغرف،
أي جعل لأوليائه في الجنة غرفا. وقرأ عبدالله « ذي المعاريج » بالياء. يقال: معرج ومعراج ومعارج ومعاريج؛ مثل مفتاح
ومفاتيح. والمعارج الدرجات؛ ومنه: « ومعارج عليها يظهرون » [
الزخرف: 33 ] .
قوله
تعالى: « تعرج
الملائكة والروح » أي تصعد
في المعارج التي جعلها الله لهم. وقرأ ابن مسعود وأصحابه والسلمي والكسائي « يعرج » بالياء على إرادة الجمع؛ ولقوله:
اذكروا الملائكة ولا تؤنثوهم. وقرأ الباقون بالتاء على إرادة الجماعة. « والروح » جبريل عليه السلام؛ قال ابن
عباس. دليله قوله تعالى: « نزل به
الروح الأمين » [ الشعراء: 193 ] . وقيل: هو ملك آخر عظيم
الخلقة. وقال أبو صالح: إنه خلق من خلق الله كهيئة الناس وليس بالناس. قال قبيصة
بن ذؤيب: إنه روح الميت حين يقبض. « إليه » أي إلى
المكان الذي هو محلهم وهو في السماء؛ لأنها محل بره وكرامته. وقيل: هو كقول
إبراهيم « إني ذاهب
إلى ربي » [ الصافات: 99 ] . أي إلى الموضع الذي أمرني به.
وقيل: « إليه » أي إلى عرشه. « في يوم كان مقداره خمسين ألف
سنة » قال وهب
والكلبي ومحمد بن إسحاق: أي عروج الملائكة إلى المكان الذي هو محلهم في وقت كان
مقداره على غيرهم لو صعد خمسين ألف سنة. وقال وهب أيضا: ما بين أسفل الأرض إلى
العرش مسيرة خمسين ألف سنة. وهو قول مجاهد. وجمع بين هذة الآية وبين قوله: « في يوم كان مقداره ألف سنة » في سورة السجدة، فقال: « في يوم كان مقداره خمسين ألف
سنة » من منتهى
أمره من أسفل الأرضين إلى منتهى أمره من فوق السموات خمسون ألف سنة. وقوله تعالى
في ( آلم
تنزيل ) : « في يوم كان مقداره ألف سنة » [ السجدة: 5 ] يعني بذلك نزول الأمر من سماء
الدنيا إلى الأرض، ومن الأرض إلى السماء في يوم واحد فذلك مقدار ألف سنة لأن ما
بين السماء إلى الأرض مسيرة خمسمائة عام. وعن مجاهد أيضا والحكم وعكرمة: هو مدة
عمر الدنيا من أول ما خلقت إلى آخر ما بقي خمسون ألف سنة. لا يدري أحدكم مضى ولا
كم بقي إلا الله عز وجل. وقيل: المراد يوم القيامة، أي مقدار الحكم فيه لو تولاه
مخلوق خمسون ألف سنة، قاله عكرمة أيضا والكلبي ومحمد بن كعب. يقول سبحانه وتعالى
وأنا أفرغ منه في ساعة. وقال الحسن: هو يوم القيامة، ولكن يوم القيامة لا نفاد له
فالمراد ذكر موقفهم للحساب فهو في خمسين ألف سنة من سني الدنيا، ثم حينئذ يستقر
أهل الدارين في الدارين. وقال يمان: هو يوم القيامة، فيه خمسون موطنا كل موطن ألف
سنة. وقال ابن عباس: هو يوم القيامة، جعله الله على الكافرين مقدار خمسين ألف سنة،
ثم يدخلون النار للاستقرار.
قلت: وهذا
القول أحسن ما قيل في الآية إن شاء الله، بدليل ما رواه قاسم بن أصبغ من حديث أبي
سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « في يوم كان مقداره خمسين ألف
سنة » . فقلت:
ما أطول هذا! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( والذي نفسي بيده إنه ليخفف عن المؤمن حتى يكون أخف عليه من
صلاة المكتوبة يصليها في الدنيا ) . واستدل
النحاس على صحة هذا القول بما رواه سهيل عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه قال: ( ما من
رجل لم يؤد زكاة مال إلا جعل شجاعا من نار تكوى به جبهته وظهره وجنباه في يوم كان
مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضي الله بين الناس ) . قال: فهذا يدل على أنه يوم القيامة. وقال إبراهيم التيمي:
ما قدر ذلك اليوم على المؤمن إلا قدر ما بين الظهر والعصر. وروي هذا المعنى مرفوعا
من حديث معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( يحاسبكم الله تعالى بمقدار ما
بين الصلاتين ولذلك سمى نفسه سريع الحساب وأسرع الحاسبين ) . ذكره الماوردي. وقبل: بل يكون
الفراغ لنصف يوم، كقوله تعالى: « أصحاب
الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا » [
الفرقان: 24 ] . وهذا
على قدر فهم الخلائق، وإلا فلا يشغله شأن عن شأن. وكما يرزقهم في ساعة كذا يحاسبهم
في لحظة، قال الله تعالى: « ما خلقكم
ولا بعثكم إلا كنفس واحدة » [ لقمان: 28 ] . وعن ابن عباس أيضا أنه سماها
هذه الآية وعن قوله تعالى: « في يوم
كان مقداره ألف سنة » [ السجدة: 5 ] فقال: أيام سماها الله عز وجل
هو أعلم بها كيف تكون، وأكره أن أقول فيها ما لا أعلم. وقيل: معنى ذكر خمسين ألف
سنة تمثيل، وهو تعريف طول مدة القيامة في الموقف، وما يلقى الناس فيه من الشدائد.
والعرب تصف أيام الشدة بالطول، وأيام الفرح بالقصر؛ قال الشاعر:
ويوم كظل
الرمح قصر طوله دم الزق عنا واصطفاق المزاهر
وقيل: في
الكلام تقديم وتأخير؛ والمعنى: سأل سائل بعذاب واقع للكافرين ليس له من الله دافع،
في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة تعرج الملائكة والروح إليه. وهذا القول هو معنى
ما أخترناه، والموفق الإله.
الآيات:
5 - 7 ( فاصبر صبرا جميلا، إنهم يرونه
بعيدا، ونراه قريبا )
قوله
تعالى: « فاصبر
صبرا جميلا » أي على
أذى قومك. والصبر الجميل: هو الذي لا جزع فيه ولا شكوى لغير الله. وقيل: هو أن
يكون صاحب المصيبة في القوم لا يدرى من هو. والمعنى متقارب. وقال ابن زيد: هي
منسوخة بآية السيف. « إنهم
يرونه بعيدا » يريد أهل
مكة يرون العذاب بالنار بعيدا؛ أي غير كائن. « ونراه قريبا » لأن ما هو آت فهو قريب. وقال الأعمش: يرون البعث بعيدا لأنهم
لا يؤمنون به كأنهم يستبعدونه على جهة الإحالة. كما تقول لمن تناظره: هذا بعيد لا
يكون وقيل: أي يرون هذا اليوم بعيدا « ونراه » أي نعلمه؛
لأن الرؤية إنما تتعلق بالموجود. وهو كقولك: الشافعي يرى في هذه المسألة كذا وكذا.
الآيات:
8 - 10 ( يوم تكون السماء كالمهل، وتكون
الجبال كالعهن، ولا يسأل حميم حميما )
قوله
تعالى: « يوم تكون
السماء كالمهل » العامل في
« يوم » « واقع » ؛ تقديره
يقع بهم العذاب يوم. وقيل: « نراه » أو « يبصرونهم » أو يكون بدلا من قريب. والمهل:
دردي الزيت وعكره؛ في قول ابن عباس وغيره. وقال ابن مسعود: ما أذيب من الرصاص
والنحاس والفضة. وقال مجاهد: « كالمهل » كقيح من دم وصديد. وقد مضى في
سورة « الدخان » ، و « الكهف » القول فيه. « وتكون الجبال كالعهن » أي كالصوف المصبوغ. ولا يقال
للصوف عهن إلا أن يكون مصبوغا. وقال الحسن: « وتكون الجبال كالعهن » وهو الصوف الأحمر، وهو أضعف الصوف. ومنه قول زهير:
كأن فتات
العهن في كل منزل نزلن به حب الفنا لم يحطم
الفتات
القطع. والعهن الصوف الأحمر؛ واحده عهنة. وقيل: العهن الصوف ذو الألوان؛ فشبه
الجبال به في تلونها ألوانا. والمعنى: أنها تلين بعد الشدة، وتتفرق بعد الاجتماع.
وقيل: أول ما تتغير الجبال تصير رملا مهيلا، ثم عهنا منفوشا، ثم هباء منبثا. « ولا يسأل حميم حميما » أي عن شأنه لشغل كل إنسان بنفسه،
قال قتادة. كما قال تعالى: « لكل امرئ
منهم يومئذ شأن يغنيه » [ عبس: 37 ] . وقيل: لا يسأل حميم عن حميم،
فحذف الجار ووصل الفعل. وقراءة العامة « يسأل » بفتح
الياء. وقرأ شيبة والبزي عن عاصم « ولا يسأل
بالضم على ما لم يسم فاعله، أي لا يسأل حميم عن حميمه ولا ذو قرابة عن قرابته، بل
كل إنسان يسأل عن عمله. نظيره: » كل نفس
بما كسبت رهينة « [ المدثر: 38 ] .»
الآيات:
11 - 14 ( يبصرونهم يود المجرم لو يفتدي
من عذاب يومئذ ببنيه، وصاحبته وأخيه، وفصيلته التي تؤويه، ومن في الأرض جميعا ثم
ينجيه )
قوله
تعالى: « يبصرونهم
» أي
يرونهم. وليس في القيامة مخلوق إلا وهو نصب عين صاحبه من الجن والإنس. فيبصر الرجل
أباه وأخاه وقرابته وعشيرته ولا يسأله ولا يكلمه؛ لاشتغالهم بأنفسهم. وقال ابن
عباس: يتعارفون ساعة ثم لا يتعارفون بعد تلك الساعة. وفي بعض الأخبار: أن أهل
القيامة يفرون من المعارف مخافة المظالم. وقال ابن عباس أيضا: « يبصرونهم » يبصر بعضهم بعضا فيتعارفون ثم
يفر بعضهم من بعض. فالضمير في « يبصرونهم
» على هذا
للكفار، والميم للأقرباء. وقال مجاهد: المعنى يبصر الله المؤمنين الكفار في يوم
القيامة؛ فالضمير في يبصرونهم «
للمؤمنين، والهاء والميم للكفار. ابن زيد: المعنى يبصر الله الكفار في النار الذين
أضلوهم في الدنيا؛ فالضمير في « يبصرونهم » للتابعين، والهاء والميم للمتبوعين.
وقيل: إنه يبصر المظلوم ظالمه والمقتول قاتله. وقيل: « يبصرونهم » يرجع إلى
الملائكة؛ أي يعرفون أحوال الناس فيسوقون كل فريق إلى ما يليق بهم. وتم الكلام عند
قوله: « يبصرونهم » . ثم قال: » يود
المجرم « أي يتمنى
الكافر. » لو يفتدي
من عذاب يومئذ ببنيه « يعني من
عذاب جهنم بأعز من كان عليه في الدنيا من أقاربه فلا يقدر. ثم ذكرهم فقال: » ببنيه، وصاحبته « زوجته » وأخيه، وفصيلته « أي عشيرته. » التي تؤويه « تنصره؛ قاله مجاهد وابن زيد.
وقال مالك: أمه التي تربيه. حكاه الماوردي ورواه عنه أشهب. وقال أبو عبيدة:
الفصيلة دون القبيلة. وقال ثعلب: هم آباؤه الأدنون. وقال المبرد: الفصيلة القطعة
من أعضاء الجسد، وهي دون القبيلة. وسميت عترة الرجل فصيلته تشبيها بالبعض منه. وقد
مضى في سورة » الحجرات « القول في القبيلة وغيرها.»
وهنا
مسألة، وهي: إذا حبس على فصيلته أو أوصى لها فمن أدعى العموم حمله على العشيرة،
ومن أدعى الخصوص حمله على الآباء؛ الأدنى فالأدنى. والأول أكثر في النطق. والله
أعلم. ومعنى: « تؤويه » تضمه وتؤمنه من خوف إن كان به. « ومن في الأرض جميعا » أي ويود لو فدي بهم لافتدى « ثم ينجيه » أي يخلصه ذلك الفداء. فلا بد من
هذا الإضمار، كقوله: « وإنه
لفسق » [ الأنعام: 121 ] أي وإن أكله لفسق. وقيل: « يود المجرم » يقتضي جوابا بالفاء؛ كقوله: « ودوا لو تدهن فيدهنون » [ القلم: 9 ] . والجواب في هذه الآية « ثم ينجيه » لأنها من حروف العطف؛ أي يود
المجرم لو يفتدى فينجيه الافتداء.
الآيات:
15 - 18 ( كلا إنها لظى، نزاعة للشوى،
تدعوا من أدبر وتولى، وجمع فأوعى )
قوله
تعالى: « كلا » تقدم القول في « كلا » وأنها تكون بمعنى حقا، وبمعنى
لا. وهي هنا تحتمل الأمرين؛ فإذا كانت بمعنى حقا كان تمام الكلام « ينجيه » . وإذا كانت بمعنى لا كان تمام
الكلام عليها؛ أي ليس ينجيه من عذاب الله الافتداء ثم قال: « إنها لظى » أي هي جهنم؛ أي تتلظى نيرانها؛
كقوله تعالى: « فأنذرتكم
نارا تلظى » [ الليل: 14 ] واشتقاق لظى من التلظي. والتظاء
النار التهابها، وتلظيها تلهبها. وقيل: كان أصلها « لظظ » أي ما
دامت لدوام عذابها؛ فقلبت إحدى الظاءين ألفا فبقيت لظى. وقيل: هي الدركة الثانية
من طبقات جهنم. وهي اسم مؤنث معرفة فلا ينصرف. « نزاعة للشوى » قرأ أبو جعفر وشيبة ونافع وعاصم في رواية أبي بكر عنه والأعمش
وأبو عمرو وحمزة والكسائي « نزاعة » بالرفع. وروى أبو عمرو عن عاصم « نزاعة » بالنصب. فمن رفع فله خمسة أوجه:
أحدها أن تجعل « لظى » خبر « إن » وترفع « نزاعة » بإضمار هي؛ فمن هذا الوجه يحسن
الوقف على « لظى » . والوجه الثاني أن تكون « لظى » و « نزاعة » خبران لإن. كما تقول إنه خلق
مخاصم. والوجه الثالث أن تكون « نزاعة » بدلا من « لظى » و « لظى » خبر « إن » . والوجه الرابع أن يكون « لظى » بدلا من اسم « إن » و « نزاعة » خبر « إن » . والمعنى: أن القصة والخبر لظى
نزاعة للشوى ومن نصب « نزاعة » حسن له أن يقف على « لظى » وينصب « نزاعة » على القطع من « لظى » إذ كانت نكرة متصلة بمعرفة.
ويجوز نصبها على الحال المؤكدة؛ كما قال: « وهو الحق مصدقا » [
البقرة: 91 ] . ويجوز
أن تنصب على معنى أنها تتلظى نزاعة؛ أي في حال نزعها للشوى. والعامل فيها ما دل
عليه الكلام من معنى التلظي. ويجوز أن يكون حالا؛ على أنه حال للمكذبين بخبرها.
ويجوز نصبها عل القطع؛ كما تقول: مررت بزيد العاقل الفاضل. فهذه خمسة أوجه للنصب
أيضا. والشوى. جمع شواة وهي جلدة الرأس. قال الأعشى:
قالت
قُـتَيلة مالَه قد جللت شيبا شواته
وقال آخر:
لأصبحت
هدتك الحوادث هدة لها فشواة الرأس باد قتيرها
القتير:
الشيب. وفي الصحاح: « والشوى:
جمع شواة وهي جلدة الرأس » . والشوى:
اليدان والرجلان والرأس من الآدميين، وكل ما ليس مقتلا. يقال: رماه فأشواه إذا لم
يصب المقتل. قال الهذلي:
فإن من
القول التي لا شوى لها إذا زل عن ظهر اللسان انفلاتها
يقول: إن
من القول كلمة لا تشوي ولكن تقتل. قال الأعشى:
قالت قتيلة
ماله قد جللت شيبا شواته
قال أبو
عبيد: أنشدها أبو الخطاب الأخفش أبا عمرو بن العلاء فقال له: « صحفت! إنما هو سراته؛ أي نواحيه
فسكت أبو الخطاب ثم قال لنا: بل هو صحف، إنما هو شواته » . وشوى الفرس: قوائمه؛ لأنه
يقال: عبل الشوى، ولا يكون هذا للرأس؛ لأنهم وصفوا الخيل بإسالة الخدين وعتق الوجه
وهو رقته. والشوى: رذال المال. والشوى: هو الشيء الهين اليسير. وقال ثابت البناني
والحسن: « نزاعة
للشوى » أي لمكارم
وجهه. أبو العالية: لمحاسن وجهه. قتادة: لمكارم خلقته وأطرافه. وقال الضحاك: تفري
اللحم والجلد عن العظم حتى لا تترك منه شيئا. وقال الكسائي: هي المفاصل. وقال بعض
الأئمة: هي القوائم والجلود. قال امرؤ القيس:
سليم الشظى
عبل الشوى شنج النسا له حجبات مشرفات على الفال
وقال أبو
صالح: أطراف اليدين والرجلين. قال الشاعر:
إذا نظرت
عرفت الفخر منها وعينيها ولم تعرف شواها
يعني
أطرافها. وقال الحسن أيضا: الشوى الهام. « تدعو من أدبر وتولى » أي تدعو لظى من أدبر في الدنيا عن طاعة الله وتولى عن
الإيمان. ودعاؤها أن تقول: إلي يا مشرك، إلي يا كافر. وقال ابن عباس: تدعو
الكافرين والمنافقين بأسمائهم بلسان فصيح: إلي يا كافر، إلي يا منافق؛ ثم تلتقطهم
كما يلتقط الطير الحب. وقال ثعلب: « تدعو » أي تهلك.
تقول العرب: دعاك الله؛ أي أهلكك الله. وقال الخليل: إنه ليس كالدعاء « تعالوا » ولكن دعوتها إياهم تمكنها من
تعذيبهم. وقيل: الداعي خزنة جهنم؛ أضيف دعاؤهم إليها. وقيل هو ضرب مثل؛ أي إن مصير
من أدبر وتولى إليها؛ فكأنها الداعية لهم. ومثله قول الشاعر:
ولقد هبطنا
الواديين فواديا يدعو الأنيس به العضيض الأبكم
العضيض
الأبكم: الذباب. وهو لا يدعو وإنما طنينه نبه عليه فدعا إليه.
قلت: القول
الأول هو الحقيقة؛ حسب ما تقدم بيانه بآي القرآن والأخبار الصحيحة. القشيري: ودعاء
لظى بخلق الحياة فيها حين تدعو، وخوارق العادة غدا كثيرة. « وجمع فأوعى » أي جمع المال فجعله في وعائه
ومنع منه حق الله تعالى؛ فكان جموعا منوعا. قال الحكم: كان عبدالله بن عكيم لا
يربط كيسه ويقول سمعت الله يقول: « وجمع
فأوعى » .
الآيات:
19 - 21 ( إن الإنسان خلق هلوعا، إذا مسه
الشر جزوعا، وإذا مسه الخير منوعا )
قوله
تعالى: « إن
الإنسان خلق هلوعا » يعني
الكافر؛ عن الضحاك. والهلع في اللغة: أشد الحرص وأسوأ الجزع وأفحشه. وكذلك قال
قتادة ومجاهد وغيرهما. وقد هلع ( بالكسر ) يهلع فهو هليع وهلوع؛ على
التكثير. والمعنى أنه لا يصبر على خير ولا شر حتى يفعل فيهما ما لا ينبغي. عكرمة:
هو الضجور. الضحاك: هو الذي لا يشبع. والمنوع: هو الذي إذا أصاب المال منع منه حق
الله تعالى. وقال ابن كيسان: خلق الله الإنسان يحب ما يسره ويرضيه، ويهرب مما
يكرهه ويسخطه، ثم تعبده الله بإنفاق ما يحب والصبر على ما يكره. وقال أبو عبيدة:
الهلوع هو الذي إذا مسه الخير لم يشكر، وإذا مسه الضر لم يصبر؛ قاله ثعلب. وقال
ثعلب أيضا: قد فسر الله الهلوع، وهو الذي إذا ناله الشر أظهر شدة الجزع، وإذا ناله
الخير بخل به ومنعه الناس. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( شر ما أعطي العبد شح هالع وجبن
خالع ) . والعرب
تقول: ناقة هلواعة وهلواع؛ إذا كانت سريعة السير خفيفة. قال:
صكّاء
ذِعْلِبة إذا استدبرتها حرج إذا استقبلتها هِلواع
الذعلب
والذعلبة الناقة السريعة. و « جزوعا » و « منوعا » نعتان لهلوع. على أن ينوي بهما
التقديم قبل « إذا » . وقيل: هو خبر كان مضمرة.
الآيات:
22 - 28 ( إلا المصلين، الذين هم على
صلاتهم دائمون، والذين في أموالهم حق معلوم، للسائل والمحروم، والذين يصدقون بيوم
الدين، والذين هم من عذاب ربهم مشفقون، إن عذاب ربهم غير مأمون )
قوله
تعالى: « إلا
المصلين » دل على أن
ما قبله في الكفار؛ فالإنسان اسم جنس بدليل الاستثناء الذي يعقبه كقوله تعالى: « إن الإنسان لفي خسر. إلا الذين
آمنوا » [ العصر: 3 ] . النخعي: المراد بالمصلين الذي
يؤدون الصلاة المكتوبة. ابن مسعود: الذين يصلونها لوقتها، فأما تركها فكفر. وقيل:
هم الصحابة. وقيل: هم المؤمنون عامة، فإنهم يغلبون فرط الجزع بثقتهم بربهم
ويقينهم. « الذين هم
على صلاتهم دائمون » أي على
مواقيتها. وقال عقبة بن عامر: هم الذين إذا صلوا لم يلتفتوا يمينا ولا شمالا.
والدائم الساكن، ومنه: نهي عن البول في الماء الدائم، أي الساكن. وقال ابن جريج
والحسن: هم الذين يكثرون فعل التطوع منها. « والذين في أموالهم حق معلوم » يريد الزكاة المفروضة، قاله
قتادة وابن سيرين. وقال مجاهد: سوى الزكاة. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: صلة
رحم وحمل كل. والأول أصح؛ لأنه وصف الحق بأنه معلوم، وسوى الزكاة ليس بمعلوم، إنما
هو على قدر الحاجة، وذلك يقل ويكثر. « للسائل والمحروم » « تقدم في
» الذاريات « . » والذين يصدقون بيوم الدين « أي بيوم الجزاء وهو يوم
القيامة. وقد مضى في سورة » الفاتحة « القول فيه. » والذين هم من عذاب ربهم مشفقون « أي خائفون. » إن عذاب ربهم غير مأمون « قال ابن عباس: لمن أشرك أو كذب
أنبياءه. وقيل: لا يأمنه أحد، بل الواجب على كل أحد أن يخافه ويشفق منه.»
الآيات:
29 - 35 ( والذين هم لفروجهم حافظون، إلا
على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين، فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم
العادون، والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون، والذين هم بشهاداتهم قائمون، والذين
هم على صلاتهم يحافظون، أولئك في جنات مكرمون )
قوله
تعالى: « والذين
هم لفروجهم حافظون، إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين، فمن
ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون » « تقدم
القول فيه. » والذين هم
لأماناتهم وعهدهم راعون « » تقدم. « والذين هم بشهاداتهم قائمون » على من كانت عليه من قريب أو
بعيد، يقومون بها عند الحاكم ولا يكتمونها ولا يغيرونها. وقد مضى القول في الشهادة
وأحكامها في سورة « البقرة » . وقال ابن عباس: « بشهاداتهم » أن الله واحد لا شريك له وأن
محمدا عبده ورسوله. وقرئ « لأمانتهم
» على
التوحيد. وهي قراءة ابن كثير وابن محيصن. فالأمانة اسم جنس، فيدخل فيها أمانات
الدين، فإن الشرائع أمانات ائتمن الله عليها عباده. ويدخل فيها أمانات الناس من
الودائع؛ وقد مضى هذا كله مستوفى في سورة « النساء » . وقرأ
عباس الدوري عن أبي عمرو ويعقوب «
بشهاداتهم » جمعا.
الباقون « بشهادتهم
» على
التوحيد، لأنها تؤدي عن الجمع. والمصدر قد يفرد وإن أضيف إلى جمع، كقوله تعالى: « إن أنكر الأصوات لصوت الحمير » . [ لقمان: 19 ] وقال الفراء: ويدل على أنها « بشهادتهم » توحيدا قوله تعالى: « وأقيموا الشهادة لله » [ الطلاق: 2 ] .
قوله
تعالى: « والذين
هم على صلاتهم يحافظون » قال
قتادة: على وضوئها وركوعها وسجودها. وقال ابن جريج: التطوع. وقد مضى في سورة « المؤمنون » . فالدوام خلاف المحافظة.
فدوامهم عليها أن يحافظوا على أدائها لا يخلون بها ولا يشتغلون عنها بشيء من
الشواغل، ومحافظتهم عليها أن يراعوا إسباغ الوضوء لها ومواقيتها، ويقيموا أركانها،
ويكملوها بسننها وآدابها، ويجفظوها من الإحباط باقتراب المأثم. فالدوام يرجع إلى
نفس الصلوات والمحافظة إلى أحوالها. « أولئك في جنات مكرمون » أي أكرمهم الله فيها بأنواع الكرامات.
الآيات:
36 - 39 ( فمال الذين كفروا قبلك مهطعين،
عن اليمين وعن الشمال عزين، أيطمع كل امرئ منهم أن يدخل جنة نعيم، كلا إنا خلقناهم
مما يعلمون )
قوله
تعالى: « فمال
الذين كفروا قبلك مهطعين » قال
الأخفش: مسرعين. قال:
بمكة أهلها
ولقد أراهم إليه مهطعين إلى السماع
والمعنى:
ما بالهم يسرعون إليك ويجلسون حواليك ولا يعملون بما تأمرهم. وقيل: أي ما بالهم
مسرعين في التكذيب لك. وقيل: أي ما بال الذين كفروا يسرعون إلى السماع منك ليعيبوك
ويستهزؤوا بك. وقال عطية: مهطعين: معرضين. الكلبي: ناظرين إليك تعجبا. وقال قتادة:
عامدين. والمعنى متقارب؛ أي ما بالهم مسرعين عليك، مادين أعناقهم، مدمني النظر
إليك. وذلك من نظر العدو. وهو منصوب على الحال. نزلت في جمع من المنافقين
المستهزئين، كانوا يحضرونه - عليه السلام - ولا يؤمنون به. و « قبلك » أي نحوك. « عن اليمين وعن الشمال عزين » أي عن يمين النبي صلى الله عليه
وسلم وشماله حلقا حلقا وجماعات. والعزين: جماعات في تفرقة، قاله أبو عبيدة. ومنه
حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه خرج على أصحابه فرأهم حلقا فقال: ( مالي أراكم عزين ألا تصفون كما
تصف الملائكة عند ربها - قالوا: وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: يتمون الصفوف
الأول ويتراصون في الصف ) خرجه
مسلم وغيره. وقال الشاعر:
ترانا عنده
والليل داج على أبوابه حلقا عزينا
أي
متفرقين. وقال الراعي:
أخليفة
الرحمن إن عشيرتي أمسى سراتهم إليك عزينا
أي
متفرقين. وقال آخر:
كأن
الجماجم من وقعها خناطيل يهوين شتى عزينا
أي
متفرقين. وقال آخر:
فلما أن
أتين على أُضاخٍ ضرحن حصاه أشتاتا عزينا
وقال
الكميت:
ونحن وجندل
باغ تركنا كتائب جندل شتى عزينا
وقال
عنترة:
وقرن قد
تركت لذي ولي عليه الطير كالعصب العزين
وواحد عزين
عزة، جمع بالواو والنون ليكون ذلك عوضا مما حذف منها. وأصلها عزهة، فاعتلت كما
اعتلت سنة فيمن جعل أصلها سنهة. وقيل: أصلها عزوة، من عزاه يعزوه إذا أضافه إلى
غيره. فكل واحد من الجماعات مضافة إلى الأخرى، والمحذوف منها الواو. وفي الصحاح: « والعزة الفرقة من الناس، والهاء
عوض من الياء، والجمع عزى - على فعل - وعزون وعزون أيضا بالضم، ولم يقولوا عزات
كما قالوا ثبات » . قال
الأصمعي: يقال في الدار عزون، أي أصناف من الناس. و « عن اليمين وعن الشمال » متعلق « بمهطعين » ويجوز أن يتعلق « بعزين » على حد قولك: أخذته عن زيد. « أيطمع كل امرئ منهم أن يدخل جنة
نعيم » قال
المفسرون: كان المشركون يجتمعون حول النبي صلى الله عليه وسلم ويستمعون كلامه
فيكذبونه ويكذبون عليه، ويستهزئون بأصحابه ويقولون: لئن دخل هؤلاء الجنة لندخلنها
قبلهم، ولئن أعطوا منها شيئا لنعطين أكثر منه؛ فنزلت: « أيطعم » الآية. وقيل: كان المستهزئون
خمسة أرهط. وقرأ الحسن طلحة بن مصرف والأعرج « أن يدخل » بفتح
الياء وضم الخاء مسمى الفاعل. ورواه المفضل عن عاصم. الباقون « أن يدخل » على الفعل المجهول. « كلا » لا يدخلونها. « إنا خلقناهم مما يعلمون » ثم ابتدأ فقال: « إنا خلقناهم مما يعلمون » أي إنهم يعلمون أنهم مخلوقون من
نطفة ثم من علقة ثم من مضغة؛ كما خلق سائر جنسهم. فليس لهم فضل يستوجبون به الجنة،
وإنما تستوجب بالإيمان والعمل الصالح ورحمة الله تعالى. وقيل: كانوا يستهزئون
بفقراء المسلمين ويتكبرون عليهم. فقال: « إنا خلقناهم مما يعلمون » من القذر، فلا يليق بهم هذا التكبر. وقال قتادة في هذه الآية:
إنما خلقت يا ابن آدم من قذر فاتق الله. وروي أن مطرف بن عبدالله بن الشخير رأى
المهلب بن أبي صفرة يتبختر في مطرف خز وجبة خز فقال له: يا عبدالله، ما هذه المشية
التي يبغضها الله؟ فقال له: أتعرفني؟ قال نعم، أولك نطفة مذرة، وآخرك جيفة قذرة،
وأنت فيما بين ذلك تحمل العذرة. فمضى المهلب وترك مشيته. نظم الكلام محمود الوراق
فقال:
عجبت من
معجب بصورته وكان في الأصل نطفة مذره
وهو غدا
بعد حسن صورته يصير في اللحد جيفة قذره
وهو على
تيهه ونخوته ما بين ثوبيه يحمل العذره
وقال آخر:
هل في ابن
آدم غير الرأس مكرمة وهو بخمس من الأوساخ مضروب
أنف يسيل
وأذن ريحها سَهِك والعين مُرْمَصة والثغر ملهوب
يا ابن
التراب ومأكول التراب غدا قصر فإنك مأكول ومشروب
وقيل:
معناه من أجل ما يعلمون؛ وهو الأمر والنهي والثواب والعقاب. كقول الشاعر وهو
الأعشى:
أأزمعت من
آل ليلى ابتكارا وشطت على ذي هوى أن تزارا
أي من أجل
ليلى.
الآيات:
40 - 41 ( فلا أقسم برب المشارق والمغارب
إنا لقادرون، على أن نبدل خيرا منهم وما نحن بمسبوقين )
قوله
تعالى: « فلا أقسم
» أي أقسم.
و « لا » صلة. « برب المشارق والمغارب » هي مشارق الشمس ومغاربها. وقد
مضى الكلام فيها. وقرأ أبو حيوة وابن محيصن وحميد « برب المشرق والمغرب » على التوحيد. « إنا لقادرون. على أن نبدل خيرا منهم » يقول: نقدر على إهلاكهم والذهاب
بهم والمجيء بخير منهم في الفضل والطوع والمال. « وما نحن بمسبوقين » أي لا يفوتنا شيء ولا يعجزنا أمر نريده.
الآية:
42 ( فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى
يلاقوا يومهم الذي يوعدون )
أي اتركهم
يخوضوا في باطلهم ويلعبوا في دنياهم؛ على جهة الوعيد. واشتغل أنت بما أمرت به ولا
يعظمن عليك شركهم؛ فإن لهم يوما يلقون فيه ما وعدوا. وقرأ ابن محيصن ومجاهد وحميد « حتى يلقوا يومهم الذي يوعدون » . وهذه الآية منسوخة بآية السيف.
الآية:
43 ( يوم يخرجون من الأجداث سراعا
كأنهم إلى نصب يوفضون )
قوله
تعالى: « يوم
يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب » « يوم » بدل من « يومهم » الذي قبله، وقراءة العامة « يخرجون » بفتح الياء وضم الراء على أنه
مسمى الفاعل. وقرأ السلمي والمغيرة والأعشى عن عاصم « يخرجون » بضم الياء وفتح الراء على الفعل
المجهول. والأجداث: القبور؛ وأحدها جدث. وقد مضى في سورة « يس » . « سراعا » حين يسمعون الصيحة الآخرة إلى
إجابة الداعي؛ وهو نصب على الحال « كأنهم
إلى نصب يوفضون » قراءة
العامة بفتح النون وجزم الصاد. وقرأ ابن عامر وحفص بضم النون والصاد. وقرأ عمرو بن
ميمون وأبو رجاء وغيرهما بضم النون وإسكان الصاد. والنصب والنصب لغتان مثل الضعف،
والضعف. الجوهري: والنصب ما نصب فعبد من دون الله، وكذلك النصب بالضم؛ وقد يحرك.
قال الأعشى:
وذا النصب
المنصوب لا تنسكنه لعافية والله ربك فاعبدا
أراد « فأعبدن » فوقف بالألف؛ كما تقول: رأيت
زيدا. والجمع الأنصاب. وقوله: « وذا
النصب » بمعنى
إياك وذا النصب. والنصب الشر والبلاء؛ ومنه قوله تعالى: « أني مسني الشيطان بنصب وعذاب » [ ص: 41 ] . وقال الأخفش والفراء: النصب
جمع النصب مثل رهن ورهن، والأنصاب جمع نصب؛ فهو جمع الجمع. وقيل: النصب والأنصاب
واحد. وقيل: النصب جمع نصاب، هو حجر أو صنم يذبح عليه؛ ومنه قوله تعالى: « وما ذبح على النصب » [ المائدة: 3 ] . وقد قيل: نصب ونصب ونصب معنى
واحد؛ كما قيل عمر وعمر وعمر. ذكره النحاس. قال ابن عباس: « إلى نصب » إلى غاية، وهي التي تنصب إليها
بصرك. وقال الكلبي: إلى شيء منصوب؛ علم أو راية. وقال الحسن: كانوا يبتدرون إذا
طلعت الشمس إلى نصبهم التي كانوا يعبدونها من دون الله لا يلوي أولهم على آخرهم.
قوله
تعالى: « يوفضون » يسرعون والإيفاض الإسراع. قال
الشاعر:
فوارس
ذبيان تحت الحديـ ـد كالجن يوفضن من عبقر
عبقر: موضع
تزعم العرب أنه من أرض الجن. قال لبيد:
كهول وشبان
كجنة عبقر
وقال
الليث: وفضت الإبل تفض وفضا؛ وأوفضها صاحبها. فالإيفاض متعد، والذي في الآية لازم.
يقال: وفض وأوفض واستوفض بمعنى أسرع.
الآية:
44 ( خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة ذلك
اليوم الذي كانوا يوعدون )
قوله
تعالى: « خاشعة
أبصارهم » أي ذليلة
خاضعة، لا يرفعونها لما يتوقعونه من عذاب الله. « ترهقهم ذلة » أي يغشاهم الهوان. قال قتادة: هو سواد الوجوه. والرهق:
الغشيان؛ ومنه غلام مراهق إذا غشي الاحتلام. رهقه ( بالكسر ) يرهقه رهقا أي غشيه؛ ومنه قوله
تعالى: « ولا يرهق
وجوههم قتر ولا ذلة » [ يونس: 26 ] . « ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون » أي يوعدونه في الدنيا أن لهم فيه
العذاب. وأخرج الخبر بلفظ الماضي لأن ما وعد الله به يكون ولا محالة.