سورة
المدثر
الآيات:
1 - 4 ( يا أيها المدثر، قم فأنذر،
وربك فكبر، وثيابك فطهر )
قوله
تعالى: « يا أيها
المدثر » أي يا ذا
الذي قد تدثر بثيابه، أي تغشى بها ونام، وأصله المتدثر فأدغمت التاء في الدال
لتجانسهما. وقرأ أبي « المتدثر
» على
الأصل.
وقال
مقاتل: معظم هذه السورة في الوليد بن المغيرة. وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبدالله
وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحدث - قال. قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم وهو يحدث عن فترة الوحي - قال في حديثه: ( فبينما أنا أمشي سمعت صوتا من
السماء فرفعت رأسي، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالسا على كرسي بين السماء والأرض
) . قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( فجئثت
منه فرقا، فرجعت فقلت زملوني زملوني، فدثروني، فأنزل الله تعالى: « يا أيها المدثر. قم فأنذر. وربك
فكبر. وثيابك فطهر. والرجز فاهجر » ) في رواية
- قبل أن تفرض الصلاة - وهي الأوثان قال: ( ثم تتابع الوحي ) . خرجه الترمذي أيضا وقال: حديث حسن صحيح. قال مسلم: وحدثنا
زهير بن حرب، قال: حدثنا الوليد بن مسلم، قال: حدثنا الأوزاعي قال: سمعت يحيى
يقول: سألت أبا سلمة: أي القرآن أنزل قبل؟ قال: « يا أيها المدثر » فقلت: أو « أقرأ » . فقال: سألت جابر بن عبدالله أي
القرآن أنزل قبل؟ قال: « يا أيها
المدثر » فقلت: أو « أقرأ » فقال جابر: أحدثكم ما حدثنا رسول
الله صلى الله عليه وسلم، قال: ( جاورت
بحراء شهرا، فلما قضيت جواري نزلت فاستبطنت بطن الوادي، فنوديت فنظرت أمامي وخلفي
وعن يميني وعن شمالي فلم أرا أحدا، ثم نوديت فنظرت فلم أر أحدا، ثم نوديت فرفعت
رأسي فإذا هو على العرش في الهواء - يعني جبريل صلى الله عليه وسلم فأخذتني رجفة شديدة،
فأتيت خديجة فقلت دثروني، فدثروني فصبوا علي ماء، فأنزل الله عز وجل: « يا أيها المدثر. قم فأنذر. وربك
فكبر وثيابك فطهر » ) خرجه البخاري وقال فيه: ( فأتيت خديجة فقلت دثروني وصبوا
علي ماء باردا، فدثروني وصبوا علي ماء باردا فنزلت: « يا أيها المدثر. قم فأنذر. وربك
فكبر. وثيابك فطهر. والرجز فاهجر. ولا تمنن تستكثر » ) . ابن العربي: وقد قال بعض
المفسرين إنه جرى على النبي صلى الله عليه وسلم من عقبة ( بن ربيعة ) أمر، فرجع إلى منزله مغموما،
فقلق واضطجع، فنزلت: « يا أيها
المدثر » وهذا
باطل. وقال القشيري أبو نصر: وقيل بلغه قول كفار مكة أنت ساحر، فوجد من ذلك غما
وحم، فتدثر بثيابه، فقال الله تعالى: « قم فانذر » أي لا
تفكر في قولهم، وبلغهم الرسالة.
وقيل:
اجتمع أبو لهب وأبو سفيان والوليد بن المغيرة والنضر بن الحرث وأمية بن خلف والعاص
بن وائل ومطعم بن عدي وقالوا: قد اجتمعت وفود العرب في أيام الحج، وهم يتساءلون عن
أمر محمد، وقد اختلفتم في الإخبار عنه؛ فمن قائل يقول مجنون، وآخر يقول كاهن، وآخر
يقول شاعر، وتعلم العرب أن هذا كله لا يجتمع في رجل واحد، فسموا محمدا باسم واحد
يجتمعون عليه، وتسميه العرب به، فقام منهم رجل فقال: شاعر؛ فقال الوليد: سمعت كلام
ابن الأبرص، وأمية بن أبي الصلت، وما يشبه كلام محمد كلام واحد منهما؛ فقالوا:
كاهن. فقال: الكاهن يصدق ويكذب وما كذب محمد قط؛ فقام آخر فقال: مجنون؛ فقال
الوليد: المجنون يخنق الناس وما خنق محمد قط. وانصرف الوليد إلى بيته، فقالوا: صبأ
الوليد بن المغيرة؛ فدخل عليه أبو جهل وقال: مالك يا أبا عبد شمس! هذه قريش تجمع
لك شيئا يعطونكه، زعموا أنك قد احتجت وصبأت. فقال الوليد: ما لي إلى ذلك حاجة،
ولكني فكرت في محمد، فقلت: ما يكون من الساحر؟ فقيل: يفرق بين الأب وابنه، وبين
الأخ وأخيه، وبين المرأة وزوجها، فقلت: إنه ساحر. شاع هذا في الناس وصاحوا يقولون:
إن محمدا ساحر. ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته محزونا فتدثر بقطيفة،
ونزلت: « يا أيها
المدثر » . وقال
عكرمة: معنى « يا أيها
المدثر » أي المدثر
بالنبوة وأثقالها. ابن العربي: وهذا مجاز بعيد؛ لأنه لم يكن تنبأ بعد. وعلى أنها
أول القرآن لم يكن تمكن منها بعد أن كانت ثاني ما نزل.
قوله
تعالى: « يا أيها
المدثر » : ملاطفة
في الخطاب من الكريم إلى الحبيب إذ ناداه بحاله، وعبر عنه بصفته، ولم يقل يا محمد
ويا فلان، ليستشعر اللين والملاطفة من ربه كما تقدم في سورة « المزمل » . ومثله قول النبي صلى الله عليه
وسلم لعلي إذ نام في المسجد: ( قم أبا
تراب ) وكان خرج
مغاضبا لفاطمة رضي الله عنها فسقط رداؤه وأصابه ترابه؛ خرجه مسلم. ومثله قوله عليه
الصلاة والسلام لحذيفة ليلة الخندق: ( قم يا نومان ) وقد تقدم. « قم فأنذر
» أي خوف
أهل مكة وحذرهم العذاب إن لم يسلموا. وقيل: الإنذار هنا إعلامهم بنبوته؛ لأنه
مقدمة الرسالة. وقيل: هو دعاؤهم إلى التوحيد؛ لأنه المقصود بها. وقال الفراء: قم
فصل وأمر بالصلاة. « وربك
فكبر » أي سيدك
ومالكك ومصلح أمرك فعظم، وصفه بأنه أكبر من أن يكون له صاحبة أو ولد. وفي حديث
أنهم قالوا: بم تفتتح الصلاة؟ فنزلت: « وربك فكبر » أي وصفه
بأنه أكبر. قال ابن العربي: وهذا القول وإن كان يقتضي بعمومه تكبير الصلاة، فإنه
مراد به التكبير والتقديس والتنزيه، لخلع الأنداد والأصنام دونه، ولا تتخذ وليا
غيره، ولا تعبد سواه، ولا ترى لغيره فعلا إلا له، ولا نعمة إلا منه. وقد روي أن
أبا سفيان قال يوم أحد: اعل هبل؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( قولوا الله أعلى وأجل ) وقد صار هذا اللفظ بعرف الشرع
في تكبير العبادات كلها أذانا وصلاة وذكرا بقوله: « الله أكبر » وحمل عليه
لفظ النبي صلى الله عليه وسلم الوارد على الإطلاق في موارد؛ منها قوله: ( تحريمها التكبير، وتحليلها
التسليم ) والشرع
يقتضي بعرفه ما يقتضي بعمومه، ومن موارده أوقات الإهلال بالذبائح لله تخليصا له من
الشرك، وإعلانا باسمه في النسك، وإفرادا لما شرع منه لأمره بالسفك.
قلت: قد تقدم
في أول سورة « البقرة » أن هذا اللفظ « الله أكبر » هو المتعبد به في الصلاة،
المنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم. وفي التفسير: أنه لما نزل قوله تعالى: « وربك فكبر » قام رسول الله صلى الله عليه
وسلم وقال: ( الله
أكبر ) فكبرت
خديجة، وعلمت أنه الوحي من الله تعالى؛ ذكره القشيري.
الفاء في
قوله تعالى: « وربك
فكبر » دخلت على
معنى جواب الجزاء كما دخلت في ( فأنذر ) أي قم فأنذر وقم فكبر ربك؛ قاله
الزجاج. وقال ابن جني: هو كقولك زيدا فاضرب؛ أي زيدا اضرب، فالفاء زائدة.
قوله
تعالى: « وثيابك
فطهر » فيه
ثمانية أقوال: أحدهما أن المراد بالثياب العمل. الثاني القلب. الثالث النفس.
الرابع الجسم. الخامس الأهل. السادس الخلق. السابع الدين. الثامن الثياب الملبوسات
على الظاهر. فمن ذهب إلى القول الأول قال: تأويل الآية وعملك فأصلح؛ قال مجاهد
وابن زيد. وروى منصور عن أبي رزين قال: يقول وعملك فأصلح؛ قال: وإذا كان الرجل
خبيث العمل قالوا إن فلانا خبيث الثياب، وإذا كان حسن العمل قالوا إن فلانا طاهر
الثياب؛ ونحوه عن السدي. ومنه قول الشاعر:
لا هم إن
عامر بن جهم أو ذم حجا في ثياب دسم
ومنه ما
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( يحشر المرء في ثوبيه اللذين مات عليهما ) يعني عمله الصالح والطالح؛ ذكره
الماوردي. ومن ذهب إلى القول الثاني قال: إن تأويل الآية وقلبك فطهر؛ قاله ابن
عباس وسعيد بن جبير؛ دليله قول امرئ القيس:
فسُلِّي
ثيابي من ثيابك تنسل
أي قلبي من
قلبك. قال الماوردي: ولهم في تأويل الآية وجهان: أحدهما: معناه وقلبك فطهر من
الإثم والمعاصي؛ قاله ابن عباس وقتادة. الثاني: وقلبك فطهر من الغدر؛ أي لا تغدر
فتكون دنس الثياب. وهذا مروي عن ابن عباس، واستشهد بقول غيلان بن سلمة الثقفي:
فإني بحمد
الله لا ثوب فاجر لبست ولا من غدرة أتقنع
ومن ذهب إلى
القول الثالث قال: تأويل الآية ونفسك فطهر؛ أي من الذنوب. والعرب تكني عن النفس
بالثياب؛ قاله ابن عباس. ومنه قول عنترة:
فشككت
بالرمح الطويل ثيابه ليس الكريم على القنا بمحرم
وقال امرؤ
القيس:
فسلي ثيابي
من ثيابك تنسل
وقال:
ثياب بني
عوف طهارى نقية وأوجههم بيض المسافر غران
أي أنفس
بني عوف. ومن ذهب إلى القول الرابع قال: تأويل الآية وجسمك فطهر؛ أي عن المعاصي
الظاهرة. ومما جاء عن العرب في الكناية عن الجسم بالثياب قول ليلى، وذكرت إبلا:
رموها
بأثياب خفاف فلا ترى لها شبها إلا النعام المنفرا
أي ركبوها
فرموها بأنفسهم.
ومن ذهب
إلى القول الخامس قال: تأويل الآية وأهلك فطهرهم من الخطايا بالوعظ والتأديب؛
والعرب تسمي الأهل ثوبا ولباسا وإزارا؛ قال الله تعالى: « هن لباس لكم وأنتم لباس لهن » [ البقرة: 187 ] . الماوردي: ولهم في تأويل
الآية وجهان: أحدهما: معناه ونساءك فطهر، باختيار المؤمنات العفائف. الثاني:
الاستمتاع بهن في القبل دون الدبر، في الطهر لا في الحيض. حكاه ابن بحر. ومن ذهب
إلى القول السادس قال: تأويل الآية وخلقك فحسن قاله الحسن والقرظي؛ لأن خلق
الإنسان مشتمل على أحواله اشتمال ثيابه على نفسه. وقال الشاعر:
ويحيى لا
يلام بسوء خلق ويحيى طاهر الأثواب حر
أي حسن
الأخلاق. ومن ذهب إلى القول السابع قال: تأويل الآية ودينك فطهر. وفي الصحيحين عنه
عليه السلام قال: ( ورأيت
الناس وعليهم ثياب، منها ما يبلغ الثدي، ومنها ما دون ذلك، ورأيت عمر بن الخطاب
وعليه إزار يجره ) . قالوا:
يا رسول الله فما أولت ذلك؟ قال: الدين. وروى ابن وهب عن مالك أنه قال: ما يعجبني
أن أقرأ القرآن إلا في الصلاة والمساجد لا في الطريق، قال الله تعالى: « وثيابك فطهر » يريد مالك أنه كنى عن الثياب
بالدين. وقد روى عبدالله بن نافع عن أبي بكر بن عبدالعزيز بن عبدالله بن عمر بن
الخطاب عن مالك بن أنس في قوله تعالى: « وثيابك فطهر » أي لا تلبسها على غدرة؛ ومنه قول أبي كبشة:
ثياب بني
عوف طهارى نقية وأوجههم بيض المسافر غران
يعني
بطهارة ثيابهم: سلامتهم من الدناءات، ويعني بغرة وجوههم تنزيههم عن المحرمات، أو
جمالهم في الخلقة أو كليهما؛ قال ابن العربي. وقال سفيان بن عيينة: لا تلبس ثيابك
على كذب ولا جور ولا غدر ولا إثم؛ قاله عكرمة. ومنه قول الشاعر:
أو ذم حجا
في ثياب دسم
أي قد
دنسها بالمعاصي. وقال النابغة:
رقاق
النعال طيب حجزاتهم يُحَيون بالريحان يوم السباسب
ومن ذهب
إلى القول الثامن قال: إن المراد بها الثياب الملبوسات، فلهم في تأويله أربعة
أوجه: أحدهما: معناه وثيابك فأنق؛ ومنه قول امرئ القيس:
ثياب بني
عوف طهارى نقية
الثاني:
وثيابك فشمر وقصر، فإن تقصير الثياب أبعد من النجاسة، فإذا انجرت على الأرض لم
يؤمن أن يصيبها ما ينجسها، قال الزجاج وطاوس. الثالث: « وثيابك فطهر » من النجاسة بالماء؛ قال محمد بن
سيرين وابن زيد والفقهاء. الرابع: لا تلبس ثيابك إلا من كسب حلال لتكون مطهرة من
الحرام. وعن ابن عباس: لا تكن ثيابك التي تلبس من مكسب غير طاهر. ابن العربي وذكر
بعض ما ذكرناه: ليس بممتنع أن تحمل الآية على عموم المراد فيها بالحقيقة والمجاز،
وإذا حملناها على الثياب المعلومة الطاهرة فهي تتناول معنيين: أحدهما: تقصير
الأذيال؛ لأنها إذا أرسلت تدنست، ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لغلام من
الأنصار وقد رأى ذيله مسترخيا: ارفع إزارك فإنه أتقى وأنقى وأبقى. وقد قال النبي
صلى الله عليه وسلم: ( إزرة
المؤمن إلى أنصاف ساقيه، لا جناح عليه فيما بينه وبين الكعبين، ما كان أسفل من ذلك
ففي النار ) فقد جعل
النبي صلى الله عليه وسلم الغاية في لباس الإزار الكعب وتوعد ما تحته بالنار، فما
بال رجال يرسلون أذيالهم، ويطيلون ثيابهم، ثم يتكلفون رفعها بأيديهم، وهذه حالة
الكبر، وقائدة العجب، ( وأشد ما
في الأمر أنهم يعصون وينجسون ويلحقون أنفسهم ) بمن لم يجعل الله معه غيره ولا ألحق به سواه. قال النبي صلى
الله عليه وسلم: ( لا ينظر
الله إلى من جر ثوبه خيلاء ) ولفظ
الصحيح: ( من جر إزاره
خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة ) . قال أبو بكر: يا رسول الله! إن أحد شقي إزاري يسترخي إلا
أن أتعاهد ذلك منه؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لست ممن يصنعه خيلاء ) فعم رسول الله صلى الله عليه
وسلم بالنهي، واستثنى الصديق، فأراد الأدنياء إلحاق أنفسهم بالرفعاء، وليس ذلك
لهم.
والمعنى
الثاني: غسلها من النجاسة وهو ظاهر منها، صحيح فيها. المهدوي: وبه استدل بعض
العلماء على وجوب طهارة الثوب؛ قال ابن سيرين وابن زيد: لا تصل إلا في ثوب طاهر.
واحتج بها الشافعي على وجوب طهارة الثوب. وليست عند مالك وأهل المدينة بفرض، وكذلك
طهارة البدن، ويدل على ذلك الإجماع على جواز الصلاة بالاستجمار من غير غسل. وقد
مضى هذا القول في سورة « التوبة » مستوفى.
الآية:
5 ( والرجز فاهجر )
قوله
تعالى: « والرجز
فاهجر » قال مجاهد
وعكرمة: يعني الأوثان؛ دليله قوله تعالى: « فاجتنبوا الرجس من الأوثان » [ الحج:
30 ] . قاله
ابن عباس وابن زيد. وعن ابن عباس أيضا: والمأثم فاهجر؛ أي فاترك. وكذا روى مغيرة
عن إبراهيم النخعي قال: الرجز الإثم. وقال قتادة: الرجز: إساف ونائلة، صنمان كانا
عند البيت. وقيل: الرجز العذاب، على تقدير حذف المضاف؛ المعنى: وعمل الرجز فاهجر،
أو العمل المؤدي إلى العذاب. وأصل الرجز العذاب، قال الله تعالى: « لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك » [ الأعراف: 134 ] . وقال تعالى: « فأرسلنا عليهم رجزا من السماء » [ الأعراف: 162 ] . فسميت الأوثان رجزا؛ لأنها
تؤدي إلى العذاب. وقراءة العامة « الرجز » بكسر الراء. وقرأ الحسن وعكرمة
ومجاهد وابن محيصن وحفص عن عاصم « والرجز » بضم الراء وهما لغتان مثل الذكر
والذكر. وقال أبو العالية والربيع والكسائي: الرجز بالضم: الصنم، وبالكسر: النجاسة
والمعصية. وقال الكسائي أيضا: بالضم: الوثن، وبالكسر: العذاب. وقال السدي: الرجز
ينصب الراء: الوعيد.
الآية:
6 ( ولا تمنن تستكثر )
قوله
تعالى: « ولا تمنن
تستكثر » فيه أحد
عشر تأويلا؛ الأول: لا تمنن على ربك بما تتحمله من أثقال النبوة، كالذي يستكثر ما
يتحمله بسبب الغير. الثاني: لا تعط عطية تلتمس بها أفضل منها؛ قاله ابن عباس وعكرمة
وقتادة. قال الضحاك: هذا حرمه الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه مأمور
بأشرف الآداب وأجل الأخلاق، وأباحه لأمته؛ وقال مجاهد. الثالث: عن مجاهد أيضا لا
تضعف أن تستكثر من الخير؛ من قولك حبل منين إذا كان ضعيفا؛ ودليله قراءة ابن مسعود
« ولا تمنن
تستكثر من الخير » . الرابع:
عن مجاهد أيضا والربيع: لا تعظم عملك في عينك أن تستكثر من الخير، فإنه مما أنعم
الله عليك. قال ابن كيسان: لا تستكثر عملك فتراه من نفسك، إنما عملك منة من الله
عليك؛ إذ جعل الله لك سبيلا إلى عبادته. الخامس: قال الحسن: لا تمنن على الله بعملك
فتستكثره. السادس: لا تمنن بالنبوة والقرآن على الناس فتأخذ منهم أجرا تستكثر به.
السابع: قال القرظي: لا تعط مالك مصانعة. الثامن: قال زيد بن أسلم: إذا أعطيت عطية
فأعطها لربك. التاسع: لا تقل دعوت فلم يستجب لي. العاشر: لا تعمل طاعة وتطلب
ثوابها، ولكن اصبر حتى يكون الله هو الذي يثيبك عليها. الحادي عشر: لا تفعل الخير
لترائي به الناس.
هذه
الأقوال وإن كانت مرادة فأظهرها قول ابن عباس: لا تعط لتأخذ أكثر مما أعطيت من
المال؛ يقال: مننت فلانا كذا أي أعطيته. ويقال للعطية المنة؛ فكأنه أمر بأن تكون
عطاياه لله، لا لارتقاب ثواب من الخلق عليها؛ لأنه عليه السلام ما كان يجمع
الدنيا، ولهذا قال: [ ما لي
مما أفاء الله عليكم إلا الخمس والخمس مردود عليكم ] . وكان ما يفضل من نفقة عياله
مصروفا إلى مصالح المسلمين؛ ولهذا لم يورث؛ لأنه كان لا يملك لنفسه الادخار
والاقتناء، وقد عصمه الله تعالى عن الرغبة في شيء من الدنيا؛ ولذلك حرمت عليه
الصدقة وأبيحت له الهدية، فكان يقبلها ويثيب عليها. وقال: [ لو دعيت إلى كراع لأجبت ولو
أهدي إلي ذراع لقبلت ] ابن
العربي: وكان يقبلها سنة ولا يستكثرها شرعة، وإذا كان لا يعطي عطية يستكثر بها
فالأغنياء أولى بالاجتناب؛ لأنها باب من أبواب المذلة، وكذلك قول من قال: إن
معناها لا تعطي عطية تنتظر ثوابها، فإن الانتظار تعلق بالأطماع، وذلك في حيزه بحكم
الامتناع، وقد قال الله تعالى له: « ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة
الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى » [ طه:
131 ] . وذلك
جائز لسائر الخلق؛ لأنه من متاع الدنيا، وطلب الكسب والتكاثر بها. وأما من قال
أراد به العمل أي لا تمنن بعملك على الله فتستكثره فهو صحيح؛ فإن ابن آدم لو أطاع
الله عمره من غير فتور لما بلغ لنعم الله بعض الشكر.
قوله
تعالى: « ولا تمنن
» قراءة
العامة بإظهار التضعيف. وقرأ أبو السمال العدوي وأشهب العقيلي والحسن « ولا تمن » مدغمة مفتوحة. « تستكثر » : قراءة العامة بالرفع وهو في
معنى الحال، تقول: جاء زيد يركض أي راكضا؛ أي لا تعط شيئا مقدرا أن تأخذ بدله ما
هو أكثر منه. وقرأ الحسن بالجزم على جواب النهي وهو رديء؛ لأنه ليس بجواب. ويجوز
أن يكون بدلا من « تمنن » كأنه قال: لا تستكثر. وأنكره أبو
حاتم وقال: لأن المن ليس بالاستكثار فيبدل منه. ويحتمل أن يكون سكن تخفيفا كعضد.
أو أن يعتبر حال الوقف. وقرأ الأعمش ويحيى « تستكثر » بالنصب،
توهم لام كي، كأنه قال: ولا تمنن لتستكثر. وقيل: هو بإضمار « أن » كقوله:
( ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى )
ويؤيده
قراءة ابن مسعود « ولا تمنن
أن تستكثر » . قال
الكسائي: فإذا حذف « أن » رفع وكان المعنى واحدا. وقد يكون
المن بمعنى التعداد على المنعم عليه بالنعم، فيرجع إلى القول الثاني:، ويعضده قوله
تعالى: « لا
تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى » [ البقرة: 264 ] وقد يكون مرادا في هذه الآية.
والله أعلم.
الآية:
7 ( ولربك فاصبر )
قوله
تعالى: « ولربك
فاصبر » أي ولسيدك
ومالكك فاصبر على أداء فرائضه وعبادته. وقال مجاهد: على ما أوذيت. وقال ابن زيد:
حملت أمرا عظيما؛ محاربة العرب والعجم، فاصبر عليه لله. وقيل: فاصبر تحت موارد
القضاء لأجل الله تعالى.
وقيل:
فاصبر على البلوى؛ لأنه يمتحن أولياءه وأصفياءه. وقيل: على أوامره ونواهيه. وقيل:
على فراق الأهل والأوطان.
الآيات:
8 - 10 ( فإذا نقر في الناقور، فذلك
يومئذ يوم عسير، على الكافرين غير يسير )
قوله
تعالى: « فإذا نقر
في الناقور » إذا نفخ
في الصور. والناقور: فاعول من النقر، كأنه الذي من شأنه أن ينقر فيه للتصويت،
والنقر في كلام العرب: الصوت؛ ومنه قول امرئ القيس:
أخفضه
بالنقر لما علوته ويرفع طرفا غير خاف غضيض
وهم
يقولون: نقر باسم الرجل إذ دعاه مختص له بدعائه. وقال مجاهد وغيره: هو كهيئة
البوق، ويعني به النفخة الثانية. وقيل: الأولى؛ لأنها أول الشدة الهائلة العامة.
وقد مضى الكلام في هذا مستوفى في « النمل » و « الأنعام » وفي كتاب « التذكرة » ، والحمد لله. وعن أبي حبان قال:
أمنا زرارة بن أوفى فلما بلغ « فإذا نقر
في الناقور » خر ميتا. « فذلك يومئذ يوم عسير » أي فذلك اليوم يوم شديد « على الكافرين » أي على من كفر بالله وبأنبيائه
صلى الله عليهم « غير يسير
» أي، غير
سهل ولا هين؛ وذلك أن عقدهم لا تنحل إلا إلى عقدة أشد منها، بخلاف المؤمنين
الموحدين المذنبين فإنها تنحل إلى ما هو أخف منها حتى يدخلوا الجنة برحمة الله
تعالى. و « يومئذ » نصب، على تقدير فذلك يوم عسير
يومئذ. وقيل: جر بتقدير حرف جر، مجازه: فذلك في يومئذ. وقيل: يجوز أن يكون رفعا
إلا أنه بني على الفتح لإضافته إلى غير متمكن.
الآيات:
11 - 17 ( ذرني ومن خلقت وحيدا، وجعلت له
مالا ممدودا، وبنين شهودا، ومهدت له تمهيدا، ثم يطمع أن أزيد، كلا إنه كان لآياتنا
عنيدا، سأرهقه صعودا )
قوله
تعالى: « ذرني ومن
خلقت وحيدا » « ذرني » أي دعني؛ وهي كلمة وعيد وتهديد. « ومن خلقت » أي دعني والذي خلقته وحيدا؛ فـ « وحيدا » على هذا حال من ضمير المفعول
المحذوف، أي خلقته وحده، لا مال له ولا ولد، ثم أعطيته بعد ذلك ما أعطيته.
والمفسرون على أنه الوليد بن المغيرة المخزومي، وإن كان الناس خلقوا مثل خلقه.
وإنما خص بالذكر لاختصاصه بكفر النعمة وإيذاء الرسول عليه السلام، وكان يسمى
الوحيد في قومه. قال ابن عباس: كان الوليد يقول: أنا الوحيد بن الوحيد، ليس لي في
العرب نظير، ولا لأبي المغيرة نظير، وكان يسمى الوحيد؛ فقال الله تعالى: « ذرني ومن خلقت » بزعمه « وحيدا » لا أن الله تعالى صدقه بأنه
وحيد. وقال قوم: إن قوله تعالى: « وحيدا » يرجع إلى الرب تعالى على معنيين:
أحدهما: ذرني وحدي معه فأنا أجزيك في الانتقام منه عن كل منتقم. والثاني: أني
أنفردت بخلقه ولم يشركني فيه أحد، فأنا أهلكه ولا أحتاج إلى ناصر في إهلاكه؛ « فوحيدا » على هذا حال من ضمير الفاعل، وهو
التاء في « خلقت » والأول قول مجاهد، أي خلقته
وحيدا في بطن أمه لا مال له ولا ولد، فأنعمت عليه فكفر؛ فقوله: « وحيدا » على هذا يرجع إلى الوليد، أي لم
يكن له شيء فملكته. وقيل: أراد بذلك ليدله على أنه يبعث وحيدا كما خلق وحيدا.
وقيل: الوحيد الذي لا يعرف أبوه، وكان الوليد معروفا بأنه دعي، كما ذكرنا في قوله
تعالى: « عتل بعد
ذلك زنيم » [ القلم: 13 ] وهو في صفة الوليد أيضا.
قوله
تعالى: « وجعلت له
مالا ممدودا » أي خولته
وأعطيته مالا ممدودا، وهو ما كان للوليد بين مكة والطائف من الإبل والحجور والنعم
والجنان والعبيد والجواري، كذا كان ابن عباس يقول: وقال مجاهد: غلة ألف دينار، قال
سعيد بن جبير وابن عباس أيضا. وقال قتادة: ستة آلاف دينار. وقال سفيان الثوري
وقتادة: أربعة آلاف دينار. الثوري أيضا: ألف ألف دينار. مقاتل: كان له بستان لا
ينقطع خيره شتاء ولا صيفا. وقال عمر رضى الله عنه: « وجعلت له مالا ممدودا » غلة شهر بشهر. النعمان بن سالم:
أرضا يزرع فيها. القشيري: والأظهر أنه إشارة إلى ما لا ينقطع رزقه، بل يتوالى
كالزرع والضرع والتجارة.
قوله
تعالى: « وبنين
شهودا » أي حضورا
لا يغيبون عنه في تصرف. قال مجاهد وقتادة: كانوا عشرة. وقيل: اثنا عشر؛ قال السدي
والضحاك. قال الضحاك: سبعة ولدوا بمكة وخمسة ولدوا بالطائف. وقال سعيد بن جبير:
كانوا ثلاثة عشر ولدا. مقاتل: كانوا سبعة كلهم رجال، اسلم منهم ثلاثة: خالد وهشام
والوليد بن الوليد. قال: فما زال الوليد بعد نزول هذه الآية في نقصان من ماله وولده
حتى هلك. وقيل: شهودا، أي إذا ذكر ذكروا معه؛ قاله ابن عباس. وقيل: شهودا، أي قد
صاروا مثله في شهود ما كان يشهده، والقيام بما كان يباشره. والأول قول السدي، أي
حاضرين مكة لا يظعنون عنه في تجارة ولا يغيبون.
قوله
تعالى: « ومهدت له
تمهيدا » أي بسطت
له في العيش بسطا، حتى أقام ببلدته مطمئنا مترفها يرجع إلى رأيه. والتمهيد عند
العرب: التوطئة والتهيئة؛ ومنه مهد الصبي. وقال ابن عباس: « ومهدت له تمهيدا » أي وسعت له ما بين اليمن والشام
وقاله مجاهد. وعن مجاهد أيضا في « ومهدت له
تمهيدا » أنه المال
بعضه فوق بعض كما يمهد الفراش.
قوله
تعالى: « ثم يطمع
أن أزيد » أي ثم إن
الوليد يطمع بعد هذا كله أن أزيده في المال والولد. وقال الحسن وغيره: أي ثم يطمع
أن أدخله الجنة، وكان الوليد يقول: إن كان محمد صادقا فما خلقت الجنة إلا لي؛ فقال
الله تعالى ردا عليه وتكذيبا له: « كلا » أي لست أزيده، فلم يزل يرى
النقصان في ماله وولده حتى هلك. و « ثم » في قوله
تعالى: « ثم يطمع
» ليست بثم
التي للنسق ولكنها تعجيب، وهي كقوله تعالى: « وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ) [ الأنعام: 1 ] وذلك كما تقول: أعطيتك ثم أنت
تجفوني؛ كالمتعجب من ذلك. وقيل يطمع أن أترك ذلك في عقبه؛ وذلك أنه كان يقول: إن
محمدا مبتور؛ أي أبتر وينقطع ذكره بموته. وكان يظن أن ما رزق لا ينقطع بموته.
وقيل: أي ثم يطمع أن أنصره على كفره. و « كلا » قطع
للرجاء عما كان يطمع فيه من الزيادة؛ فيكون متصلا بالكلام الأول. »
وقيل: « كلا » بمعنى حقا ويكون ابتداء « إنه » يعني الوليد « كان لآياتنا عنيدا » أي معاندا للنبي صلى الله عليه
وسلم وما جاء به؛ يقال: عاند فهو عنيد مثل جالس فهو جليس؛ قال مجاهد. وعند يعند
بالكسر أي خالف ورد الحق وهو يعرفه فهو عنيد وعاند. والعاند: البعير الذي يحور عن
الطريق ويعدل عن القصد والجمع عند مثل راكع وركع؛ وأنشد أبو عبيدة قول الحارثي:
إذا ركبت
فاجعلاني وسطا إني كبير لا أطيق العندا
وقال أبو
صالح: « عنيدا » معناه مباعدا؛ قال الشاعر:
أرانا على
حال تفرق بيننا نوى غربة إن الفراق عنود
قتادة:
جاحدا. مقاتل: معرضا. ابن عباس: جحودا. وقيل: إنه المجاهر بعدوانه.
وعن مجاهد
أيضا قال: مجانبا للحق معاندا له معرضا عنه. والمعنى كله متقارب. والعرب تقول: عند
الرجل إذا عتا وجاوز قدره. والعنود من الإبل: الذي لا يخالط الإبل، إنما هو في
ناحية. ورجل عنود إذا كان يحل وحده لا يخالط الناس والعنيد من التجبر. وعرق عاند:
إذا لم يرقأ دمه. كل هذا قياس واحد وقد مضى في سورة « إبراهيم » . وجمع العنيد عند، مثل رغيف
ورغف.
قوله
تعالى: « سأرهقه » أي سأكلفه. وكان ابن عباس يقول:
سألجئه؛ والإرهاق في كلام العرب: أن يحمل الإنسان على الشيء. « صعودا » ( الصعود: جبل من نار يتصعد فيه
سبعين خريفا ثم يهوي كذلك فيه أبدا ) رواه أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم، خرجه
الترمذي وقال فيه حديث غريب. وروى عطية عن أبي سعيد قال: صخرة في جهنم إذا وضعوا
عليها أيديهم ذابت فإذا رفعوها عادت، قال: فيبلغ أعلاها في أربعين سنة يجذب من
أمامه بسلاسل ويضرب من خلفه بمقامع، حتى إذا بلغ أعلاها رمى به إلى أسفلها، فذلك
دأبه أبدا. وقد مضى هذا المعنى في سورة « قل أوحي » [ الجن: 1 ] وفي التفسير: أنه صخرة ملساء
يكلف صعودها فإذا صار في أعلاها حدر في جهنم، فيقوم يهوي ألف عام من قبل أن يبلغ
قرار جهنم، يحترق في كل يوم سبعين مرة ثم يعاد خلقا جديدا. وقال ابن عباس: المعنى
سأكلفه مشقة من العذاب لا راحة له فيه ونحوه عن الحسن وقتادة. وقيل: إنه تصاعد
نفسه للنزع وإن لم يتعقبه موت، ليعذب من داخل جسده كما يعذب من خارجه.
الآيات:
18 - 25 ( إنه فكر وقدر، فقتل كيف قدر،
ثم قتل كيف قدر، ثم نظر، ثم عبس وبسر، ثم أدبر واستكبر، فقال إن هذا إلا سحر يؤثر،
إن هذا إلا قول البشر )
قوله
تعالى: « إنه فكر
وقدر » يعني
الوليد فكر في شأن النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن و « قدر » أي هيأ الكلام في نفسه، والعرب
تقول: قدرت الشيء إذا هيأته، وذلك أنه لما نزل: « حم. تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم » [ غافر: 1 ] إلى قوله: « إليه المصير » سمعه الوليد يقرؤها فقال: والله
لقد سمعت منه كلاما ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، وإن له لحلاوة، وإن
عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه، وما
يقول هذا بشر. فقالت قريش: صبا الوليد لتصبون قريش كلها. وكان يقال للوليد ريحانة
قريش؛ فقال أبو جهل: أنا أكفيكموه. فمضى إليه حزينا؟ فقال له: مالي أراك حزينا.
فقال له: ومالي لا أحزن وهذه قريش يجمعون لك نفقة يعينونك بها على كبر سنك ويزعمون
أنك زينت كلام محمد، وتدخل على ابن أبي كبشة وابن أبي قحافة لتنال من فضل طعامهما؛
فغضب الوليد وتكبر، وقال: أنا أحتاج إلى كسر محمد وصاحبه، فأنتم تعرفون قدر مالي،
واللات والعزى ما بي حاجة إلى ذلك، وإنما أنتم تزعمون أن محمدا مجنون، فهل رأيتموه
قط يخنق؟ قالوا: لا والله، قال: وتزعمون أنه شاعر، فهل رأيتموه نطق بشعر قط؟
قالوا: لا والله. قال: فتزعمون أنه كذاب فهل جربتم عليه كذبا قط؟ قالوا: لا والله.
قال: فتزعمون أنه كاهن فهل رأيتموه تكهن قط، ولقد رأينا للكهنة أسجاعا وتخالجا فهل
رأيتموه كذلك؟ قالوا: لا والله. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسمى الصادق الأمين
من كثرة صدقه. فقالت قريش للوليد: فما هو؟ ففكر في نفسه، ثم نظر، ثم عبس، فقال ما
هو إلا ساحر! أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله وولده ومواليه؟ فذلك قوله تعالى: « إنه فكر » أي في أمر محمد والقرآن « وقدر » في نفسه ماذا يمكنه أن يقول
فيهما. « فقتل » أي لعن. وكان بعض أهل التأويل
يقول: معناها فقهر وغلب، وكل مذلل مقتل؛ قال الشاعر:
وما ذرفت
عيناك إلا لتقدحي بسهميك في أعشار قلب مقتل
وقال
الزهري: عذب؛ وهو من باب الدعاء. « كيف قدر
» قال ناس: « كيف » تعجيب؛ كما يقال للرجل تتعجب من
صنيعه: كيف فعلت هذا؟ وذلك كقوله: « انظر كيف ضربوا لك الأمثال » [
الإسراء: 48 ] . « ثم قتل » أي لعن لعنا بعد لعن. وقيل: فقتل
بضرب من العقوبة، ثم قتل بضرب آخر من العقوبة « كيف قدر » أي على أي
حال قدر. « ثم نظر » بأي شيء يرد الحق ويدفعه. « ثم عبس » أي قطب بين عينيه في وجوه
المؤمنين؛ وذلك أنه لما حمل قريشا على ما حملهم عليه من القول في محمد صلى الله
عليه وسلم بأنه ساحر، مر على جماعة من المسلمين، فدعوه إلى الإسلام، فعبس في
وجوههم.. قيل: عبس وبسر على النبي صلى الله عليه وسلم حين دعاه. والعبس مخففا مصدر
عبس يعبس عبسا وعبوسا: إذا قطب. والعبس ما يتعلق بأذناب الإبل من أبعارها
وأبوالها؛ قال أبو النجم:
كأن في
أذنابهن الشول من عبس الصيف قرون الأيل
قوله
تعالى: « وبسر » أي كلح وجهه وتغير لونه؛ قال
قتادة والسدي؛ ومنه قول بشر بن أبي خازم:
صبحنا تميما
غداة الجفار بشهباء ملمومة باسره
وقال آخر:
وقد رابني
منها صدود رأيته وإعراضها عن حاجتي وبسورها
وقيل: إن
ظهور العبوس في الوجه بعد المحاورة، وظهور البسور في الوجه قبل المحاورة. وقال
قوم: « بسر » وقف لا يتقدم ولا يتأخر. قالوا:
وكذلك يقول أهل اليمن إذا وقف المركب، فلم يجيء ولم يذهب: قد بسر المركب، وأبسر أي
وقف وقد أبسرنا. والعرب تقول: وجه باسر بين البسور: إذا تغير واسود. « ثم أدبر » أي ولى وأعرض ذاهبا إلى أهله. « واستكبر » أي تعظم عن أن يؤمن. وقيل: أدبر
عن الإيمان واستكبر حين دعي إليه. « فقال إن هذا » أي ما هذا الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم « إلا سحر يؤثر » أي يأثره عن غيره. والسحر:
الخديعة. وقد تقدم بيانه في سورة ( البقرة ) . وقال
قوم: السحر: إظهار الباطل في صورة الحق. والأثره: مصدر قولك: أثرت الحديث آثره إذا
ذكرته عن غيرك؛ ومنه قيل: حديث مأثور: أي ينقله خلف عن سلف؛ قال امرؤ القيس:
ولو عن نثا
غيره جاءني وجرح اللسان كجرح اليد
لقلت من
القول ما لا يزا ل يؤثر عني يد المسند
يريد: آخر
الدهر، وقال الأعشى:
إن الذي
فيه تماريتما بين للسامع والآثر
ويروى:
بين. « إن هذا
إلا قول البشر » أي ما هذا
إلا كلام المخلوقين، يختدع به القلوب كما تختدع بالسحر، قال السدي: يعنون أنه من
قول سيار عبد لبني الحضرمي، كان يجالس النبي صلى الله عليه وسلم، فنسبوه إلى أنه
تعلم منه ذلك.
وقيل: أراد
أنه تلقنه من أهل بابل. وقيل: عن مسيلمة. وقيل: عن عدي الحضرمي الكاهن. وقيل: إنما
تلقنه ممن ادعى النبوة قبله، فنسج على منوالهم. قال أبو سعيد الضرير: إن هذا إلا
أمر سحر يؤثر؛ أي يورث.
الآيات:
26 - 29 ( سأصليه سقر، وما أدراك ما سقر،
لا تبقي ولا تذر، لواحة للبشر )
أي سأدخله
سقر كي يصلى حرها. وإنما سميت سقر من سقرته الشمس: إذا أذابته ولوحته، وأحرقت جلدة
وجهه. ولا ينصرف للتعريف والتأنيث. قال ابن عباس: هي الطبق السادس من جهنم. وروى
أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [ سأل موسى ربه فقال: أي رب، أي عبادك أفقر؟ قال صاحب سقر ] ذكره الثعلبي: « وما أدراك ما سقر » ؟ هذه مبالغة في وصفها؛ أي وما أعلمك
أي شيء هي؟ وهي كلمة تعظيم، ثم فسر حالها فقال: « لا تبقي ولا تذر » أي لا تترك لهم عظما ولا لحما ولا دما إلا أحرقته. وقيل: لا
تبقي منهم شيئا ثم يعادون خلقا جديدا، فلا تذر أن تعاود إحراقهم هكذا أبدا. وقال
مجاهد: لا تبقى من فيها حيا ولا تذره ميتا، تحرقهم كلما جددوا. وقال السدي: لا
تبقي لهم لحما ولا تذر لهم عظما « لواحة
للبشر » أي مغيرة
من لاحه إذا غيره. وقراءة العامة « لواحة » بالرفع نعت لـ « سقر » في قوله تعالى: « وما أدراك ما سقر » . وقرأ عطية العوفي ونصر بن عاصم
وعيسى بن عمر « لواحة » بالنصب على الاختصاص، للتهويل.
وقال أبو رزين: تلفح وجوههم لفحة تدعها أشد سوادا من الليل؛ وقاله مجاهد. والعرب
تقول: لاحه البرد والحر والسقم والحزن: إذا غيره، ومنه قول الشاعر:
تقول ما لا
حك يا مسافر يا ابنة عمي لاحني الهواجر
وقال آخر:
وتعجب هند
أن رأتني شاحبا تقول لشيء لوحته السمائم
وقال رؤبة
بن العجاج:
لوح منه
بعد بدن وسنق تلويحك الضامر يطوى للسبق
وقيل: إن
اللوح شدة العطش؛ يقال: لاحة العطش ولوحه أي غيره. والمعنى أنها معطشة للبشر أي
لأهلها؛ قاله الأخفش؛ وأنشد:
سقتني على
لوح من الماء شربة سقاها بها الله الرهام الغواديا
يعني باللوح
شدة العطش، والتاح أي عطش، والرهام جمع رهمة بالكسر وهي المطرة الضعيفة وأرهمت
السحابة أتت بالرهام. وقال ابن عباس: « لواحة » أي تلوح
للبشر من مسيرة خمسمائة عام. الحسن وابن كيسان: تلوح لهم جهنم حتى يروها عيانا.
نظيره: « وبرزت
الجحيم للغاوين » [ الشعراء: 91 ] وفي البشر وجهان: أحدهما: أنه
الإنس من أهل النار؛ قاله الأخفش والأكثرون. الثاني: أنه جمع بشرة، وهي جلدة
الإنسان الظاهرة؛ قال مجاهد وقتادة، وجمع البشر أبشار، وهذا على التفسير الأول،
وأما على تفسير ابن عباس فلا يستقيم فيه إلا الناس لا الجلود؛ لأنه من لاح الشيء
يلوح، إذا لمع.
الآيات:
30 - 31 ( عليها تسعة عشر، وما جعلنا
أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا
الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول
الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا كذلك يضل الله من يشاء
ويهدي من يشاء وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر )
قوله
تعالى: « عليها
تسعة عشر » أي على
سقر تسعه عشر من الملائكة يلقون فيها أهلها. ثم قيل: على جملة النار تسعة عشر من
الملائكة هم خزنتها؛ مالك وثمانية عشر ملكا. ويحتمل أن تكون التسعة عشر نقيبا،
ويحتمل أن يكون تسعة عشر ملكا بأعيانهم. وعلى هذا أكثر المفسرين. الثعلبي: ولا
ينكر هذا، فإذا كان ملك واحد يقبض أرواح جميع الخلائق كان أحرى أن يكون تسعة عشر
على عذاب بعض الخلائق. وقال ابن جريج: نعت النبي صلى الله عليه وسلم خزنة جهنم
فقال: [ فكأن
أعينهم البرق، وكأن أفواههم الصياصي، يجرون أشعارهم، لأحدهم من القوة مثل قوة
الثقلين، يسوق أحدهم الأمة وعلى رقبته جبل، فيرميهم في النار، ويرمي فوقهم الجبل ] .
قلت: وذكر
ابن المبارك قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن الأزرق بن قيس، عن رجل من بني تميم قال:
كنا عند أبي العوام، فقرأ هذه الآية: « وما أدراك ما سقر. لا تبقى ولا تذر. لواحة للبشر. عليها تسعة
عشر » فقال ما
تسعة عشر؟ تسعة عشر ألف ملك، أو تسعة عشر ملكا؟ قال: قلت: لا بل تسعة عشر ملكا.
فقال: وأنى تعلم ذلك؟ فقلت: لقول الله عز وجل: « وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا » قال: صدقت هم تسعة عشر ملكا، بيد
كل ملك منهم مرزبة لها شعبتان، فيضرب الضربة فيهوي بها في النار سبعين ألفا. وعن
عمرو بن دينار: كل واحد منهم يدفع بالدفعة الواحدة في جهنم أكثر من ربيعة ومضر.
خرج الترمذي عن جابر بن عبدالله. قال: قال ناس من اليهود لأناس من أصحاب النبي صلى
الله عليه وسلم: هل يعلم نبيكم عدد خزنة جهنم؟ قالوا: لا ندري حتى نسأل نبينا.
فجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد غلب أصحابك اليوم؛ فقال: ( وماذا غلبوا ) ؟ قال: سألهم يهود: هل يعلم
نبيكم عدد خزنة جهنم؟ قال: ( فماذا
قالوا ) قال:
قالوا لا ندري حتى نسأل نبينا. قال: ( أفغلب قوم سئلوا عما لا يعلمون، فقالوا لا نعلم حتى نسأل
نبينا؟ لكنهم قد سألوا نبيهم فقالوا أرنا الله جهرة، علي بأعداء الله! إني سائلهم
عن تربة الجنة وهي الدرمك ) . فلما
جاؤوا قالوا: يا أبا القاسم كم عدد خزنة جهنم؟ قال: ( هكذا وهكذا ) في مرة عشرة وفي مرة تسعة.
قالوا: نعم. قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما تربة الجنة ) قال: فسكتوا هنيهة ثم قالوا: أخبزة يا أبا القاسم؟ فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: ( الخبز
من الدرمك ) . قال
أبو عيسى: هذا حديث غريب، إنما نعرفه من هذا الوجه من حديث مجالد عن الشعبي عن
جابر. وذكر ابن وهب قال: حدثنا عبدالرحمن بن زيد، قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم في خزنة جهنم: [ ما
بين منكبي أحدهم كما بين المشرق والمغرب ] .
وقال ابن
عباس: ما بين منكبي الواحد منهم مسيرة سنة، وقوة الواحد منهم أن يضرب بالمقمع
فيدفع بتلك الضربة سبعين ألف إنسان في قعر جهنم.
قلت:
والصحيح إن شاء الله أن هؤلاء التسعة عشر، هم الرؤساء والنقباء، وأما جملتهم
فالعبارة تعجز عنها؛ كما قال الله تعالى: « وما يعلم جنود ربك إلا هو » وقد ثبت في الصحيح عن عبدالله بن مسعود قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: ( يؤتى
بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها ) . وقال ابن عباس وقتادة
والضحاك: لما نزل: « عليها
تسعة عشر » قال أبو
جهل لقريش: ثكلتكم أمهاتكم! أسمع بن أبي كبشة يخبركم أن خزنة جهنم تسعة عشر، وأنتم
الدهم - أي العدد - والشجعان، فيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا بواحد منهم! قال
السدي: فقال أبو الأسود بن كلدة الجمحي: لا يهولنكم التسعة عشر، أنا أدفع بمنكبي
الأيمن عشرة من الملائكة، وبمنكبي الأيسر التسعة، ثم تمرون إلى الجنة؛ يقولها
مستهزئا. في رواية: أن الحرث بن كلدة قال أنا أكفيكم سبعة عشر، واكفوني أنتم
اثنين. وقيل: إن أبا جهل قال أفيعجز كل مائة منكم أن يبطشوا بواحد منهم، ثم تخرجون
من النار؟ فنزل قوله تعالى: « وما
جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة » أي لم
نجعلهم رجالا فتتعاطون مغالبتهم. وقيل: جعلهم ملائكة لأنهم خلاف جنس المعذبين من
الجن والإنس، فلا يأخذهم ما يأخذ المجانس من الرأفة والرقة، ولا يستروحون إليهم؛
ولأنهم أقوم خلق الله بحق الله وبالغضب له، فتؤمن هوادتهم؛ ولأنهم أشد خلق الله
بأسا وأقواهم بطشا. « وما
جعلنا عدتهم إلا فتنة » أي بلية.
وروي عن ابن عباس من غير وجه قال: ضلالة للذين كفروا، يريد أبا جهل وذويه. وقيل:
إلا عذابا، كما قال تعالى: « يوم هم
على النار يفتنون. ذوقوا فتنتكم » [ الذاريات: 14 ] . أي جعلنا ذلك سبب كفرهم وسبب
العذاب. وفي « تسعة عشر
» سبع
قراءات: قراءة العامة « تسعة عشر
» . وقرأ
أبو جعفر بن القعقاع وطلحة بن سليمان « تسعة عشر » بإسكان
العين. وعن ابن عباس « تسعة عشر
» بضم
الهاء. وعن أنس بن مالك « تسعة
وعشر » وعنه أيضا
« تسعة
وعشر » . وعنه
أيضا « تسعة
أعشر » ذكرها
المهدوي وقال: من قرأ « تسعة عشر
» أسكن
العين لتوالي الحركات. ومن قرأ « تسعة
وعشر » جاء به
على الأصل قبل التركيب، وعطف عشرا على تسعة، وحذف التنوين لكثرة الاستعمال، وأسكن
الراء من عشر على نية السكوت عليها. ومن قرأ « تسعة عشر » فكأنه من
التداخل؛ كأنه أراد العطف وترك التركيب، فرفع هاء التأنيث، ثم راجع البناء وأسكن.
وأما « تسعة
أعشر » : فغير
معروف، وقد أنكرها أبو حاتم. وكذلك « تسعة وعشر » لأنها
محمولة على « تسعة
أعشر » والواو
بدل من الهمزة، وليس لذلك وجه عند النحويين. الزمخشري: وقرئ: « تسعة أعشر » جمع عشير، مثل يمين وأيمن.
قوله
تعالى: « ليستيقن
الذين أوتوا الكتاب » أي ليوقن
الذين أعطوا التوراة والإنجيل أن عدة خزنة جهنم موافقة لما عندهم؛ قال ابن عباس
وقتادة والضحاك ومجاهد وغيرهم. ثم يحتمل أنه يريد الذين آمنوا منهم كعبدالله بن
سلام. ويحتمل أنه يريد الكل. ويزداد الذين آمنوا إيمانا « بذلك؛ لأنهم كلما صدقوا بما في
كتاب الله آمنوا، ثم ازدادوا إيمانا لتصديقهم بعدد خزنة جهنم. » ولا يرتاب « أي ولا يشك » الذين أوتوا الكتاب « أي أعطوا الكتاب » والمؤمنون « أي المصدقون من أصحاب محمد صلى
الله عليه وسلم في أن عدة خزنة جهنم تسعة عشر. » وليقول الذين في قلوبهم مرض « أي في صدورهم شك ونفاق من منافقي أهل المدينة، الذين ينجمون
في مستقبل الزمان بعد الهجرة ولم يكن بمكة نفاق وإنما نجم بالمدينة. وقيل: المعنى؛
أي وليقول المنافقون الذين ينجمون في مستقبل الزمان بعد الهجرة. » والكافرون « أي اليهود والنصارى » ماذا أراد الله بهذا مثلا « يعني بعدد خزنة جهنم. وقال
الحسين بن الفضل: السورة مكية ولم يكن بمكة نفاق؛ فالمرض في هذه الآية الخلاف و » الكافرون « أي مشركو العرب. وعلى القول
الأول أكثر المفسرين. ويجوز أن يراد بالمرض: الشك والارتياب؛ لأن أهل مكة كان
أكثرهم شاكين، وبعضهم قاطعين بالكذب وقوله تعالى إخبارا عنهم: » ماذا أراد الله « أي ما أراد » بهذا « العدد الذي ذكره حديثا، أي ما
هذا من الحديث. قال الليث: المثل الحديث؛ ومنه: » مثل الجنة التي وعد المتقون « أي حديثها والخبر عنها » كذلك « أي
كإضلال الله أبا جهل وأصحابه المنكرين لخزنة جهنم » يضل الله « أي يخزي ويعمي » من يشاء ويهدي « أي ويرشد » من يشاء « كإرشاد أصحاب محمد صلى الله
عليه وسلم. وقيل: » كذلك يضل
الله « عن الجنة
» من يشاء
ويهدي « إليها » من يشاء « . » وما يعلم جنود ربك إلا هو « أي وما يدري عدد ملائكة ربك
الذين خلقهم لتعذيب أهل النار » إلا هو « أي إلا الله جل ثناؤه وهذا جواب
لأبي جهل حين قال: أما لمحمد من الجنود إلا تسعة عشر! وعن ابن عباس: أن النبي صلى
الله عليه وسلم كان يقسم غنائم حنين، فأتاه جبريل فجلس عنده، فأتى ملك فقال: إن
ربك يأمرك بكذا وكذا، فخشي النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون شيطانا، فقال: ( يا جبريل أتعرفه ) ؟ فقال: هو ملك وما كل ملائكة
ربك أعرف. وقال الأوزاعي: قال موسى: » يا رب من في السماء؟ قال ملائكتي. قال كم عدتهم يا رب؟ قال:
اثني عشر سبطا. قال: كم عدة كل سبط؟ قال: عدد التراب « ذكرهما الثعلبي. وفي الترمذي عن
النبي صلى الله عليه وسلم: ( أطت السماء
وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته لله ساجدا ) . »
قوله
تعالى: « وما هي
إلا ذكرى للبشر » يعني
الدلائل والحجج والقرآن. وقيل: « وما هي » أي وما هذه النار التي هي سقر « إلا ذكري » أي عظة « للبشر » أي للخلق. وقيل: نار الدنيا تذكرة
لنار الآخرة. قال الزجاج. وقيل: أي ما هذه العدة « إلا ذكري للبشر » أي ليتذكروا ويعلموا كمال قدرة الله تعالى، وأنه لا يحتاج إلى
أعوان وأنصار؛ فالكناية على هذا في قوله تعالى: « وما هي » ترجع إلى
الجنود؛ لأنه أقرب مذكور.
الآية [ 32 ] في الصفحة التالية ...
الآيات:
32 - 48 ( كلا والقمر، والليل إذ أدبر،
والصبح إذا أسفر، إنها لإحدى الكبر، نذيرا للبشر، لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر،
كل نفس بما كسبت رهينة، إلا أصحاب اليمين، في جنات يتساءلون، عن المجرمين، ما
سلككم في سقر، قالوا لم نك من المصلين، ولم نك نطعم المسكين، وكنا نخوض مع
الخائضين، وكنا نكذب بيوم الدين، حتى أتانا اليقين، فما تنفعهم شفاعة الشافعين )
قوله
تعالى: « كلا
والقمر » قال
الفراء: « كلا » صلة للقسم، التقدير أي والقمر.
وقيل: المعنى حقا والقمر؛ فلا يوقف على هذين التقديرين على « كلا » وأجاز الطبري الوقف عليها،
وجعلها ردا للذين زعموا أنهم يقاومون خزنة جهنم؛ أي ليس الأم كما يقول من زعم أنه
يقاوم خزنة النار. ثم أقسم على ذلك جل وعز بالقمر وبما بعده، فقال: « والليل إذا أدبر » أي ولى وكذلك « دبر » . وقرأ نافع وحمزة وحفص « إذ أدبر » الباقون « إذا » بألف و « دبر » بغير ألف وهما لغتان بمعنى؛ يقال
دبر وأدبر، وكذلك قبل الليل وأقبل. وقد قالوا: أمس الدابر والمدابر؛ قال صخر بن
عمرو بن الشريد السلمي:
ولقد
قتلناكم ثناء وموحدا وتركت مرة مثل أمس الدابر
ويروي
المدبر. وهذا قول الفراء والأخفش.
وقال بعض
أهل اللغة: دبر الليل: إذا مضى، وأدبر: أخذ في الإدبار. وقال مجاهد: سألت ابن عباس
عن قوله تعالى: « والليل
إذا دبر » فسكت حتى
إذا دبر قال: يا مجاهد، هذا حين دبر الليل. وقرأ محمد بن السميقع « والليل إذا أدبر » بألفين، وكذلك في مصحف عبدالله
وأبي بألفين. وقال قطرب من قرأ « دبر » فيعني أقبل، من قول العرب دبر
فلان: إذا جاء من خلفي. قال أبو عمرو: وهي لغة قريش. وقال ابن عباس في رواية عنه:
الصواب: « أدبر » ، إنما يدبر ظهر البعير. واختار
أبو عبيد: « إذا أدبر
» قال:
لأنها أكثر موافقة للحروف التي تليه؛ ألا تراه يقول: « والصبح إذا أسفر » ، فكيف يكون أحدهما « إذ » والآخر « إذا » وليس في القرآن قسم تعقبه « إذ » وإنما يتعقبه « إذا » . ومعنى « أسفر » : ضاء. وقراءة العامة « أسفر » بالألف. وقرأ ابن السميقع: « سفر » . وهما لغتان. يقال: سفر وجه
فلان وأسفر: إذا أضاء.
وفي
الحديث: ( أسفروا
بالفجر، فإنه أعظم للأجر ) أي صلوا
صلاة الصبح مسفرين، ويقال: طولوها إلى الإسفار، والإسفار: الإنارة. وأسفر وجهه
حسنا أي أشرق، وسفرت المرأة كشفت عن وجهها فهي سافر. ويجوز أن يكون ( من ) سفر الظلام أي كنسه، كما يسفر
البيت، أي يكنس؛ ومنه السفير: لما سقط من ورق الشجر وتحات؛ يقال: إنما سمي سفيرا
لأن الريح تسفره أي تكنسه. والمسفرة: المكنسة.
قوله
تعالى: « إنها
لإحدى الكبر » جواب
القسم؛ أي إن هذه النار « لإحدى
الكبر » أي لإحدى
الدواهي. وفي تفسير مقاتل « الكبر » : اسم من أسماء النار. وروي عن
ابن عباس « إنها » أي إن تكذيبهم بمحمد صلى الله
عليه وسلم « لإحدى
الكبر » أي لكبيرة
من الكبائر. وقيل: أي إن قيام الساعة لإحدى الكبر. والكبر: هي العظائم من
العقوبات؛ قال الراجز:
يا ابن
المعلى نزلت إحدى الكبر داهية الدهر وصماء الغير
وواحدة ( الكبر ) ، كبرى مثل الصغرى والصغر،
والعظمى والعظم. وقرأ العامة ( لإحدى ) وهو اسم بني ابتداء للتأنيث،
وليس مبنيا على المذكر؛ نحو عقبى وأخرى، وألفه ألف قطع، لا تذهب في الوصل. وروى
جرير بن حازم عن ابن كثير « إنها
لحدى الكبر » بحذف
الهمزة. « نذيرا
للبشر » يريد
النار؛ أي أن هذه النار الموصوفة « نذيرا
للبشر » فهو نصب
على الحال من المضمر في « إنها » قال الزجاج. وذكر؛ لأن معناه
معنى العذاب، أو أراد ذات إنذار على معنى النسب؛ كقولهم: امرأة طالق وطاهر. وقال
الخليل: النذير: مصدر كالنكير، ولذلك يوصف به المؤنث. وقال الحسن: والله ما أنذر
الخلائق بشيء أدهى منها. وقيل: المراد بالنذير محمد صلى الله عليه وسلم؛ أي قم
نذيرا للبشر، أي مخوفا لهم « فنذيرا » حال من « قم » في أول السورة حين قال: « قم فأنذر » [ المدثر: 2 ] قال أبو علي الفارسي وابن زيد،
وروي عن ابن عباس وأنكره الفراء. ابن الأنباري: وقال بعض المفسرين معناه « يا أيها المدثر قم نذيرا للبشر
» . وهذا
قبيح؛ لأن الكلام قد طال فيما بينهما. وقيل. هو من صفة الله تعالى. روى أبو معاوية
الضرير: حدثنا إسماعيل بن سميع عن أبي رزين « نذيرا للبشر » قال: يقول الله عز وجل: أنا لكم منها نذير فاتقوها. و ( نذيرا ) على هذا نصب على الحال؛ أي « وما جعلنا أصحاب النار إلا
ملائكة » منذرا
بذلك البشر. وقيل: هو حال من « هو » في قوله تعالى: « وما يعلم جنود ربك إلا هو » . وقيل: هو في موضع المصدر، كأنه
قال: إنذار للبشر. قال الفراء: يجوز أن يكون النذير بمعنى الإنذار، أي أنذر
إنذارا؛ فهو كقوله تعالى: « فكيف كان
نذير » أي
إنذاري؛ فعلى هذا يكون راجعا إلى أول السورة؛ أي ( قم فأنذر ) أي
إنذارا. وقيل: هو منصوب بإضمار فعل. وقرأ ابن أبي عبلة « نذير » بالرفع على إضمار هو. وقيل: أي
إن القرآن نذير للبشر، لما تضمنه من الوعد والوعيد.
قوله
تعالى: « لمن شاء
منكم أن يتقدم أو يتأخر » اللام
متعلقة « بنذيرا » ، أي نذيرا لمن شاء منكم أن
يتقدم إلى الخير والطاعة، أو يتأخر إلى الشر والمعصية؛ نظيره: « ولقد علمنا المستقدمين منكم » [ الحجر: 24 ] أي في الخير « ولقد علمنا المستأخرين » [ الحجر: 24 ] عنه. قال الحسن: هذا وعيد
وتهديد وإن خرج مخرج الخبر؛ كقوله تعالى: « فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر » [ الكهف: 29 ] . وقال بعض أهل التأويل: معناه
لمن شاء الله أن يتقدم أو يتأخر، فالمشيئة متصلة بالله جل ثناؤه، والتقديم
الإيمان، والتأخير الكفر. وكان ابن عباس يقول: هذا تهديد وإعلام أن من تقدم إلى
الطاعة والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم جوزي بثواب لا ينقطع، ومن تأخر عن
الطاعة وكذب محمدا صلى الله عليه وسلم عوقب عقابا لا ينقطع.
وقال
السدي: « لمن شاء
منكم أن يتقدم » إلى النار
المتقدم ذكرها، « أو يتأخر
» عنها إلى
الجنة.
قوله
تعالى: « كل نفس
بما كسبت رهينة » أي مرتهنة
بكسبها، مأخوذة بعملها، إما خلصها وإما أوبقها. وليست « رهينة » تأنيث رهين في قوله تعالى: « كل امرئ بما كسب رهين » [ الطور: 21 ] لتأنيث النفس؛ لأنه لو قصدت
الصفة لقيل رهين؛ لأن فعيلا بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث. وإنما هو اسم
بمعنى الرهن كالشتيمة بمعنى الشتم؛ كأنه قيل: كل نفس بما كسبت رهين؛ ومنه بيت
الحماسة:
أبعد الذي
بالنعف نعف كويكب رهينة رمس ذي تراب وجندل
كأنه قال
رهن رمس. والمعنى: كل نفس رهن بكسبها عند الله غير مفكوك « إلا أصحاب اليمين » فإنهم لا يرتهنون بذنوبهم.
واختلف في تعيينهم؛ فقال ابن عباس: الملائكة. علي بن أبي طالب: أولاد المسلمين لم
يكتسبوا فيرتهنوا بكسبهم. الضحاك: الذين سبقت لهم من الله الحسنى، ونحوه عن ابن
جريج؛ قال: كل نفس بعملها محاسبة « إلا
أصحاب اليمين » وهم أهل
الجنة، فإنهم لا يحاسبون. وكذا قال مقاتل أيضا: هم أصحاب الجنة الذين كانوا عن
يمين آدم يوم الميثاق حين قال الله لهم: هؤلاء في الجنة ولا أبالي. وقال الحسن
وابن كيسان: هم المسلمون المخلصون ليسوا بمرتهنين؛ لأنهم أدوا ما كان عليهم. وعن
أبي ظبيان عن ابن عباس قال: هم المسلمون. وقيل: إلا أصحاب الحق وأهل الإيمان.
وقيل: هم الذين يعطون كتبهم بأيمانهم. وقال أبو جعفر الباقر: نحن وشيعتنا أصحاب
اليمين، وكل من أبغضنا أهل البيت فهم المرتهنون. وقال الحكم: هم الذين اختارهم
الله لخدمته، فلم يدخلوا في الرهن، لأنهم خدام الله وصفوته وكسبهم لم يضرهم. وقال
القاسم: كل نفس مأخوذة بكسبها من خير أو شر، إلا من اعتمد على الفضل والرحمة، دون
الكسب والخدمة، فكل من اعتمد على الكسب فهو مرهون، وكل من اعتمد على الفضل فهو غير
مأخوذ به. « في جنات
» أي في
بساتين « يتساءلون
» أي يسألون
« عن
المجرمين » أي
المشركين « ما سلككم
» أي أدخلكم
« في سقر » كما تقول: سلكت الخيط في كذا أي
أدخلته فيه. قال الكلبي: فيسأل الرجل من أهل الجنة الرجل من أهل النار باسمه،
فيقول له: يا فلان. وفي قراءة عبدالله بن الزبير « يا فلان ما سلكك في سقر » ؟ وعنه قال: قرأ عمر بن الخطاب « يا فلان ما سلككم في سقر » وهي قراءة على التفسير؛ لا أنها
قرآن كما زعم من طعن في القرآن؛ قال أبو بكر بن الأنباري.
وقيل: إن
المؤمنين يسألون الملائكة عن أقربائهم، فتسأل الملائكة المشركين فيقولون لهم: « ما سلككم في سقر » . قال الفراء: في هذا ما يقوي أن
أصحاب اليمين الولدان؛ لأنهم لا يعرفون الذنوب. « قالوا » يعني أهل
النار « لم نك من
المصلين » أي
المؤمنين الذين يصلون. « ولم نك
نطعم المسكين » أي لم نك
نتصدق. « وكنا
نخوض مع الخائضين » أي كنا
نخالط أهل الباطل في باطلهم. وقال ابن زيد: نخوض مع الخائضين في أمر محمد صلى الله
عليه وسلم، وهو قولهم - لعنهم الله - كاهن، مجنون، شاعر، ساحر. وقال السدي: أي
وكنا نكذب مع المكذبين. وقال قتادة: كلما غوى غاو غوينا معه. وقيل معناه: وكنا
أتباعا ولم نكن متبوعين. « وكنا
نكذب بيوم الدين » أي لم نك
نصدق بيوم القيامة، يوم الجزاء والحكم. « حتى أتانا اليقين » أي جاءنا ونزل بنا الموت؛ ومنه قوله تعالى: « واعبد ربك حتى يأتيك اليقين » [ الحجر: 99 ] .
قوله
تعالى: « فما
تنفعهم شفاعة الشافعين » هذا دليل
على صحة الشفاعة للمذنبين؛ وذلك أن قوما من أهل التوحيد عذبوا بذنوبهم، ثم شفع
فيهم، فرحمهم الله بتوحيدهم والشفاعة، فأخرجوا من النار، وليس للكفار شفيع يشفع
فيهم.
وقال
عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: يشفع نبيكم صلى الله عليه وسلم رابع أربعة: جبريل،
ثم إبراهيم، ثم موسى أو عيسى، ثم نبيكم صلى الله عليه وسلم، ثم الملائكة، ثم
النبيون، ثم الصديقون، ثم الشهداء، ويبقى قوم في جهنم، فيقال لهم: « ما سلككم في سقر قالوا لم نك من
المصلين. ولم نك نطعم المسكين » إلى قوله:
« فما
تنفعهم شفاعة الشافعين » قال
عبدالله بن مسعود: فهؤلاء هم الذين يبقون في جهنم؛ وقد ذكرنا إسناده في كتاب ( التذكرة ) .
الآيات:
49 - 53 ( فما لهم عن التذكرة معرضين،
كأنهم حمر مستنفرة، فرت من قسورة، بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة، كلا
بل لا يخافون الآخرة )
قوله
تعالى: « فما لهم
عن التذكرة معرضين » أي فما
لأهل مكة أعرضوا وولوا عما جئتم به. وفي تفسير مقاتل: الإعراض عن القرآن من وجهين:
أحدهما الجحود والإنكار، والوجه الآخر ترك العمل بما فيه. و « معرضين » نصب على الحال من الهاء والميم
في « لهم » وفي اللام معنى الفعل؛ فانتصاب
الحال على معنى الفعل. « كأنهم » أي كأن هؤلاء الكفار في فرارهم
من محمد صلى الله عليه وسلم « حمر
مستنفرة » قال ابن
عباس: أراد الحمر الوحشية. وقرأ نافع وابن عامر بفتح الفاء، أي منفرة مذعورة؛
واختاره أبو عبيد وأبو حاتم. الباقون بالكسر، أي نافرة. يقال. نفرت واستنفرت
بمعنى؛ مثل عجبت واستعجبت، وسخرت واستسخرت، وأنشد الفراء:
أمسك حمارك
إنه مستنفر في إثر أحمرة عمدن لغرب
قوله
تعالى: « فرت » أي نفرت وهربت « من قسورة » أي من رماة يرمونها.
وقال بعض
أهل اللغة: إن القسورة الرامي، وجمعه القسورة. وكذا قال سعيد بن جبير وعكرمة
ومجاهد وقتادة والضحاك وابن كيسان: القسورة: هم الرماة والصيادون، ورواه عطاء عن
ابن عباس وأبو [ ظبيان
] عن أبي
موسى الأشعري. وقيل: إنه الأسد؛ قال أبو هريرة وابن عباس أيضا. ابن عرفة: من العسر
بمعنى القهر أي؛ إنه يقهر السباع، والحمر الوحشية تهرب من السباع. وروى أبو جمرة
عن ابن عباس قال: ما أعلم القسورة الأسد في لغة أحد من العرب، ولكنها عصب الرجال؛
قال: فالقسورة جمع الرجال، وأنشد:
يا بنت
كوني خيرة لخيرة أخوالها الجن وأهل القسورة
وعنه: ركز
الناس أي حسهم وأصواتهم. وعنه أيضا: « فرت من قسورة » أي من حبال الصيادين. وعنه أيضا: القسورة بلسان العرب: الأسد،
وبلسان الحبشة: الرماة؛ وبلسان فارس: شير، وبلسان النبط: أريا. وقال ابن الأعرابي:
القسورة: أول الليل؛ أي فرت من ظلمة الليل. وقاله عكرمة أيضا. وقيل: هو أول سواد
الليل، ولا يقال لآخر سواد الليل قسورة. وقال زيد بن أسلم: من رجال أقوياء، وكل
شديد عند العرب فهو قسورة وقسور. وقال لبيد بن ربيعة:
إذا ما
هتفنا هتفة في ندينا أتانا الرجال العائدون القساور
قوله
تعالى: « بل يريد
كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة » أي يعطى كتبا مفتوحة؛ وذلك أن أبا جهل وجماعة من قريش قالوا:
يا محمد! ايتنا بكتب من رب العالمين مكتوب فيها: إني قد أرسلت إليكم محمدا، صلى
الله عليه وسلم. نظيره: « ولن نؤمن
لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه » [
الإسراء: 93 ] . وقال
ابن عباس: كانوا يقولون إن كان محمد صادقا فليصبح عند كل رجل منا صحيفة فيها
براءته وأمنه من النار. قال مطر الوراق: أرادوا أن يعطوا بغير عمل. وقال الكلبي:
قال المشركون: بلغنا أن الرجل من بني إسرائيل كان يصبح عند رأسه مكتوبا ذنبه
وكفارته، فأتنا بمثل ذلك. وقال مجاهد: أرادوا أن ينزل على كل واحد منهم كتاب فيه
من الله عز وجل: إلى فلان بن فلان. وقيل: المعنى أن يذكر بذكر جميل، فجعلت الصحف
موضع الذكر مجازا. وقالوا: إذا كانت ذنوب الإنسان تكتب عليه فما بالنا لا نرى ذلك؟
« كلا » أي ليس يكون ذلك. وقيل: حقا.
والأول أجود؛ لأنه رد لقولهم. « بل لا
يخافون الآخرة » أي لا
أعطيهم ما يتمنون لأنهم لا يخافون الآخرة، اغترارا بالدنيا. وقرأ سعيد بن جبير « صحفا منشرة » بسكون الحاء والنون، فأما تسكين
الحاء فتخفيف، وأما النون فشاذ. إنما يقال: نشرت الثوب وشبهه ولا يقال أنشرت.
ويجوز أن يكون شبه الصحيفة بالميت كأنها ميتة بطيها، فإذا نشرت حييت، فجاء على
أنشر الله الميت، كما شبه إحياء الميت بنشر الثوب، فقيل فيه نشر الله الميت، فهي
لغة فيه.
الآيات:
54 - 56 ( كلا إنه تذكرة، فمن شاء ذكره،
وما يذكرون إلا أن يشاء الله هو أهل التقوى وأهل المغفرة )
قوله
تعالى: « كلا إنه
تذكرة » أي حقا إن
القرآن عظة. « فمن شاء
ذكره » أي اتعظ
به. « وما
يذكرون » أي وما
يتعظون « إلا أن
يشاء الله » أي ليس
يقدرون على الاتعاظ والتذكر إلا بمشيئة الله ذلك لهم. وقراءة العامة « يذكرون » بالياء واختاره أبو عبيد؛ لقوله
تعالى: « كلا بل
لا يخافون الآخرة » . وقرأ
نافع ويعقوب بالتاء، واختاره أبو حاتم، لأنه أعم واتفقوا على تخفيفها. « هو أهل التقوى وأهل المغفرة » في الترمذي وسنن ابن ماجة عن أنس
بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في هذه الآية: « هو أهل التقوى وأهل المغفرة » قال: [ قال الله تبارك وتعالى أنا
أهل أن أتقى فمن اتقاني فلم يجعل معي إلها فأنا أهل أن أغفر له ] لفظ الترمذي، وقال فيه: حديث
حسن غريب. وفي بعض التفسير: هو أهل المغفرة لمن تاب إليه من الذنوب الكبار، وأهل
المغفرة أيضا للذنوب الصغار، باجتناب الذنوب الكبار.
وقال محمد
بن نصر: أنا أهل أن يتقيني عبدي، فإن لم يفعل كنت أهلا أن أغفر له [ وأرحمه، وأنا الغفور الرحيم ] .