سورة
الإنسان
مقدمة
السورة
مكية في
قول ابن عباس ومقاتل والكلبي. وقال الجمهور: مدنية. وقيل: فيها مكي، من قوله
تعالى: « إنا نحن
نزلنا عليك القرآن تنزيلا » [ الإنسان: 23 ] إلى آخر السورة، وما تقدمه
مدني.
وذكر ابن
وهب قال: وحدثنا ابن زيد قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقرأ: « هل أتى على الإنسان حين من
الدهر » وقد
أنزلت عليه وعنده رجل أسود كان يسأل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له عمر بن
الخطاب: لا تثقل على النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ( دعه يا ابن الخطاب ) قال:
فنزلت عليه هذه السورة وهو عنده، فلما قرأها عليه وبلغ صفة الجنان زفر زفرة فخرجت
نفسه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أخرج نفس صاحبكم - أو أخيكم - الشوق
إلى الجنة ) وروي عن ابن عمر بخلاف هذا اللفظ، وسيأتي. وقال القشيري: إن هذه
السورة نزلت في علي بن أبي طالب رضي الله عنه. والمقصود من السورة عام. وهكذا
القول في كل ما يقال إنه نزل بسبب كذا وكذا.
الآيات:
1 - 3 ( هل أتى
على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا، إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج
نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا، إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا )
قوله
تعالى: « هل أتى
على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا » « هل » : بمعنى قد؛ قال الكسائي
والفراء وأبو عبيدة. وقد حكي عن سيبويه « هل » بمعنى
قد. قال الفراء: هل تكون جحدا، وتكون خبرا، فهذا من الخبر؛ لأنك تقول: هل أعطيتك؟
تقرره بأنك أعطيته. والجحد أن تقول: هل يقدر أحد على مثل هذا؟ وقيل: هي بمنزلة
الاستفهام، والمعنى: أتى. والإنسان هنا آدم عليه السلام؛ قاله قتادة والثوري وعكرمة
والسدي. وروي عن ابن عباس. « حين من
الدهر » قال ابن
عباس في رواية أبي صالح: أربعون سنة مرت به، قبل أن ينفخ فيه الروح، وهو ملقى بين
مكة والطائف وعين ابن عباس أيضا في رواية الضحاك أنه خلق من طين، فأقام أربعين
سنة، ثم من حمأ مسنون أربعين سنة، ثم من صلصال أربعين سنة، فتم خلقه بعد مائة
وعشرين سنة. وزاد ابن مسعود فقال: أقام وهو من تراب أربعين سنة، فتم خلقه بعد مائة
وستين سنة، ثم نفخ فيه الروح. وقيل: الحين المذكور ها هنا: لا يعرف مقداره؛ عن ابن
عباس أيضا، حكاه الماوردي. « لم يكن
شيئا مذكورا » قال
الضحاك عن ابن عباس: لا في السماء ولا في الأرض. وقيل: أي كان جسدا مصورا ترابا
وطينا، لا يذكر ولا يعرف، ولا يدرى ما اسمه ولا ما يراد به، ثم نفخ فيه الروح،
فصار مذكورا؛ قال الفراء وقطرب وثعلب. وقال يحيى بن سلام: لم يكن شيئا مذكورا في
الخلق وإن كان عند الله شيئا مذكورا.
وقيل:
ليس هذا الذكر بمعنى الإخبار، فإن إخبار الرب عن الكائنات قديم، بل هذا الذكر
بمعنى الخطر والشرف والقدر؛ تقول: فلان مذكور أي له شرف وقدر. وقد قال تعالى: « وإنه لذكر لك ولقومك » [ الزخرف: 44 ] . أي قد أتى على الإنسان حين
لم يكن له قدر عند الخليقة. ثم لما عرف الله الملائكة أنه جعل آدم خليفة، وحمله
الأمانة التي عجز عنها السموات والأرض والجبال، ظهر فضله على الكل، فصار مذكورا.
قال القشيري: وعلى الجملة ما كان مذكورا للخلق، وإن كان مذكورا لله. وحكى محمد بن
الجهم عن الفراء: « لم يكن
شيئا » قال:
كان شيئا ولم يكن مذكورا. وقال قوم: النفي يرجع إلى الشيء؛ أي قد مضى مدد من الدهر
وآدم لم يكن شيئا يذكر في الخليقة؛ لأنه آخر ما خلقه من أصناف الخليقة، والمعدوم
ليس بشيء حتى يأتي عليه حين. والمعنى: قد مضت عليه أزمنة وما كان آدم شيئا ولا
مخلوقا ولا مذكورا لأحد من الخليقة. وهذا معنى قول قتادة ومقاتل: قال قتادة: إنما
خلق الإنسان حديثا ما نعلم من خليقة الله جل ثناؤه خليقة كانت بعد الإنسان.
وقال
مقاتل: في الكلام تقديم وتأخير، وتقديره: هل أتى حين من الدهر لم يكن الإنسان شيئا
مذكورا؛ لأنه خلقه بعد خلق الحيوان كله، ولم يخلق بعده حيوانا.
وقد قيل:
« الإنسان
» في قوله
تعالى « هل أتى
على الإنسان حين » عني به
الجنس من ذرية آدم، وأن الحين تسعة أشهر، مدة حمل الإنسان في بطن أمه « لم يكن شيئا مذكورا » : إذ كان علقة ومضغة؛ لأنه في
هذه الحالة جماد لا خطر له. وقال أبو بكر رضي الله عنه لما قرأ هذه الآية: ليتها
تمت فلا نبتلى. أي ليت المدة التي أتت على آدم لم تكن شيئا مذكورا تمت على ذلك،
فلا يلد ولا يبتلى أولاده. وسمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلا يقرأ « هل أتى على الإنسان حين من
الدهر لم يكن شيئا مذكورا » فقال
ليتها تمت.
قوله
تعالى: « إنا
خلقنا الإنسان » أي ابن
آدم من غير خلاف « من نطفة
» أي من
ماء يقطر وهو المني، وكل ماء قليل في وعاء فهو نطفة؛ كقول عبدالله بن رواحة يعاتب
نفسه:
مالي
أراك تكرهين الجنة هل أنت إلا نطفة في شنه
وجمعها:
نطف ونطاف. « أمشاج » أخلاط. واحدها: مشج ومشيج، مثل
خدن وخدين؛ قال: رؤبة:
يطرحن كل
معجل نشاج لم يُكس جلدا في دم أمشاج
ويقال:
مشجت هذا بهذا أي خلطته، فهو ممشوج ومشيج؛ مثل مخلوط وخليط. وقال المبرد: واحد
الأمشاج: مشيج؛ يقال: مشج يمشج: إذا خلط، وهو هنا اختلاط النطفة بالدم؛ قال
الشماخ:
طوت
أحشاء مرتجة لوقت على مشج سلالته مهين
وقال
الفراء: أمشاج: أخلاط ماء الرجل وماء المرأة، والدم والعلقة. ويقال للشيء من هذا
إذا خلط: مشيج كقولك خليط، وممشوج كقولك مخلوط. وروي عن ابن عباس رضي الله عنه
قال: الأمشاج: الحمرة في البياض، والبياض في الحمرة. وهذا قول يختاره كثير من أهل
اللغة؛ قال الهذلي:
كان
الريش والفوقين منه خلاف النصل سيط به مشيج
وعن ابن
عباس أيضا قال: يختلط ماء الرجل وهو أبيض غليظ بماء المرأة وهو أصفر رقيق فيخلق
منهما الولد، فما كان من عصب وعظم وقوة فهو من ماء الرجل، وما كان من لحم ودم وشعر
فهو من ماء المرأة. وقد روي هذا مرفوعا؛ ذكره البزار.
وروي عن
ابن مسعود: أمشاجها عروق المضغة. وعنه: ماء الرجل وماء المرأة وهما لونان. وقال
مجاهد: نطفة الرجل بيضاء وحمراء ونطفة المرأة خضراء وصفراء. وقال ابن عباس: خلق من
ألوان؛ خلق من تراب، ثم من ماء الفرج والرحم، وهي نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظم ثم
لحم. ونحوه قال قتادة: هي أطوار الخلق: طور وطور علقة وطور مضغة عظام ثم يكسو
العظام لحما؛ كما قال في سورة « المؤمنون
» « ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من
طين » [ المؤمنون: 12 ] الآية. وقال ابن السكيت:
الأمشاج الأخلاط؛ لأنها ممتزجة من أنواع فخلق الإنسان منها ذا طبائع مختلفة. وقال
أهل المعاني: الأمشاج ما جمع وهو في معنى الواحد؛ لأنه نعت للنطفة؛ كما يقال: برمة
أعشار وثوب أخلاق. وروي عن أبي أيوب الأنصاري: قال جاء حبر من اليهود إلى النبي
صلى الله عليه وسلم فقال: أخبرني عن ماء الرجل وماء المرأة؟ فقال: [ ماء الرجل أبيض غليظ وماء
المرأة أصفر رقيق فإذا علا ماء المرأة آنثت وإذا علا ماء الرجل أذكرت ] فقال الحبر: أشهد أن لا إله
إلا الله وأنك رسول الله. وقد مضى هذا القول مستوفى في سورة « البقرة » .
قوله
تعالى: « نبتليه » أي نختبره. وقيل: نقدر فيه
الابتلاء وهو الاختبار. وفيما يختبر به وجهان: أحدهما: نختبره بالخير والشر؛ قال
الكلبي. الثاني: نختبر شكره في السراء وصبره في الضراء؛ قال الحسن. وقيل: « نبتليه » نكلفه. وفيه أيضا وجهان:
أحدهما: بالعمل بعد الخلق؛ قال مقاتل. الثاني: بالدين ليكون مأمورا بالطاعة ومنهيا
عن المعاصي. وروي عن ابن عباس: « نبتليه » : نصرفه خلقا بعد خلق؛ لنبتليه
بالخير والشر. وحكى محمد بن الجهم عن الفراء قال: المعنى والله أعلم « فجعلناه سميعا بصيرا » لنبتليه، وهي مقدمة معناها
التأخير.
قلت: لأن
الابتلاء لا يقع إلا بعد تمام الخلقة. وقيل: « جعلناه سميعا بصيرا » : يعني جعلنا له سمعا يسمع به الهدى، وبصرا يبصر به الهدى.
قوله
تعالى: « إنا
هديناه السبيل » أي بينا
له وعرفناه طريق الهدى والضلال، والخير والشر ببعث الرسل، فآمن أو كفر؛ كقوله
تعالى: « وهديناه
النجدين » [ البلد: 10 ] . وقال مجاهد: أي بينا له
السبيل إلى الشقاء والسعادة. وقال الضحاك وأبو صالح والسدي: السبيل هنا خروجه من
الرحم. وقيل: منافعه ومضاره التي يهتدي إليها بطبعه وكمال عقله. « إما شاكرا وإما كفورا » أي أيهما فعل فقد بينا له. قال
الكوفيون: « إن » ها هنا تكون جزاء و « ما » زائدة أي بينا له الطريق إن
شكر أو كفر. واختاره الفراء ولم يجزه البصريون؛ إذ لا تدخل « إن » للجزاء على الأسماء إلا أن
يضمر بعدها فعل. وقيل: أي هديناه الرشد، أي بينا له سبيل التوحيد بنصب الأدلة
عليه؛ ثم إن خلقنا له الهداية اهتدى وآمن، وإن خذلناه كفر. وهو كما تقول: قد نصحت
لك، إن شئت فاقبل، وإن شئت فاترك؛ أي فإن شئت، فتحذف الفاء. وكذا « إما شاكرا » والله أعلم. ويقال: هديته
السبيل وللسبيل وإلى السبيل. وقد تقدم في « الفاتحة » وغيرها.
وجمع بين الشاكر والكفور، ولم يجمع بين الشكور والكفور مع اجتماعهما في معنى
المبالغة؛ نفيا للمبالغة في الشكر وإثباتا لها في الكفر؛ لأن شكر الله تعالى لا
يؤدى، فانتفت عنه المبالغة، ولم تنتف عن الكفر المبالغة، فقل شكره، لكثرة النعم
عليه وكثرة كفره وإن قل مع الإحسان إليه. حكاه الماوردي.
الآية:
4 ( إنا
أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالا وسعيرا )
قوله
تعالى: « إنا
أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالا وسعيرا » بين حال الفريقين، وأنه تعبد العقلاء وكلفهم ومكنهم مما
أمرهم، فمن كفر فله العقاب، ومن وحد وشكر فله الثواب. والسلاسل: القيود في جهنم
طول كل سلسلة سبعون ذراعا كما مضى في « الحاقة » . وقرأ
نافع والكسائي وأبو بكر عن عاصم وهشام عن ابن عامر « سلاسلا » منونا. الباقون بغير تنوين.
ووقف قنبل وابن كثير وحمزة بغير ألف. الباقون بالألف. فأما « قوارير » الأول فنونه نافع وابن كثير
والكسائي وأبو بكر عن عاصم، ولم ينون الباقون. ووقف فيه يعقوب وحمزة بغير ألف.
والباقون بالألف. وأما « قوارير » الثانية فنونه أيضا نافع
والكسائي وأبو بكر، ولم ينون الباقون. فمن نون قرأها بالألف، ومن لم ينون أسقط
منها الألف، واختار أبو عبيد التنوين في الثلاثة، والوقف بالألف اتباعا لخط
المصحف؛ قال: رأيت في مصحف عثمان « سلاسلا » بالألف و « وقواريرا » الأول بالألف، وكان الثاني
مكتوبا بالألف فحكت فرأيت أثرها هناك بينا. فمن صرف فله أربع حجج: أحدها: أن
الجموع أشبهت الآحاد فجمعت جمع الآحاد، فجعلت في حكم الآحاد فصرفت. الثانية: أن
الأخفش حكى عن العرب صرف جميع ما لا ينصرف إلا أفعل منك، وكذا قال الكسائي
والفراء: هو على لغة من يجر الأسماء كلها إلا قولهم هو أظرف منك فإنهم لا يجرونه؛
وأنشد ابن الأنباري في ذلك قول عمرو بن كلثوم:
كأن
سيوفنا فينا وفيهم مخاريق بأيدي لا عبينا
وقال
لبيد:
وجزور
أيسار دعوت لحتفها بمغالق متشابه أجسامها
وقال
لبيد أيضا:
فضلا وذو
كرم يعين على الندى سمح كسوب رغائب غنامها
فصرف
مخاريق ومغالق ورغائب، وسبيلها ألا تصرف. والحجة الثالثة: أن يقول نونت قوارير
الأول لأنه رأس آية، ورؤوس الآي جاءت بالنون، كقوله جل وعز: « مذكورا » . « سميعا بصيرا » فنونا الأول ليوقف بين رؤوس
الآي، ونونا الثاني على الجوار للأول. والحجة الرابعة: اتباع المصاحف، وذلك أنهما
جميعا في مصاحف مكة والمدينة والكوفة بالألف. وقد احتج من لم يصرفهن بأن قال: إن
كل جمع بعد الألف منه ثلاثة أحرف أو حرفان أو حرف مشدد لم يصرف في معرفة ولا نكرة؛
فالذي بعد الألف منه ثلاثة أحرف قولك: قناديل ودنانير ومناديل، والذي بعد الألف منه
حرفان قول الله عز وجل: « لهدمت
صوامع » [ الحج: 40 ] لأن بعد الألف منه حرفين،
وكذلك قوله: « ومساجد
يذكر فيها اسم الله كثيرا » [ الحج: 40 ] . والذي بعد الألف منه حرف
مشدد شواب ودواب. وقال خلف: سمعت يحيى بن آدم يحدث عن ابن إدريس قال: في المصاحف
الأول الحرف الأول بالألف والثاني بغير ألف؛ فهذا حجة لمذهب حمزة. وقال خلف: رأيت
في مصحف ينسب إلى قراءة ابن مسعود الأول بالألف والثاني بغير ألف. وأما أفعل منك
فلا يقول أحد من العرب في شعره ولا في غيره هو أفعل منك منونا؛ لأن من تقوم مقام
الإضافة فلا يجمع بين تنوين وإضافة في حرف؛ لأنهما دليلان من دلائل الأسماء ولا
يجمع بين دليلين؛ قال الفراء وغيره.
قوله
تعالى: « وأغلالا
» جمع غل
تغل بها أيديهم إلى أعناقهم. وعن جبير بن نفير عن أبي الدرداء كان يقول: ارفعوا
هذه الأيدي إلى الله جل ثناؤه قبل أن تغل بالأغلال. قال الحسن: إن الأغلال لم تجعل
في أعناق أهل النار؛ لأنهم أعجزوا الرب سبحانه ولكن إذلالا. « وسعيرا » تقدم القول فيه.
الآية [ 5 ] في الصفحة التالية ...
الآيات:
5 - 6 ( إن الأبرار يشربون من كأس كان
مزاجها كافورا، عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا " )
قوله
تعالى: « إن الأبرار
يشربون من كأس » الأبرار:
أهل الصدق واحدهم بر، وهو من امتثل أمر الله تعالى. وقيل: البر الموحد والأبرار
جمع بار مثل شاهد وأشهاد، وقيل: هو جمع بر مثل نهر وأنهار؛ وفي الصحاح: وجمع البر
الأبرار، وجمع البار البررة، وفلان يبر خالقه ويتبرره أي يطيعه، والأم برة بولدها.
وروى ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إنما سماهم الله جل ثناؤه
الأبرار لأنهم بروا الآباء والأبناء، كما أن لوالدك عليك حقا كذلك لولدك عليك حقا ) . وقال الحسن: البر الذي لا
يؤذي الذر. وقال قتادة: الأبرار الذين يؤدون حق الله ويوفون بالنذر.
وفي
الحديث: ( الأبرار
الذين لا يؤذون أحدا ) . « يشربون من كأس » أي من إناء فيه الشراب. قال ابن
عباس: يريد الخمر. والكأس في اللغة الإناء فيه الشراب: وإذا لم يكن فيه شراب لم
يسم كأسا. قال عمرو بن كلثوم:
صَبْنتِ
الكأسَ عنا أمَّ عمرو وكان الكأس مجراها اليمينا
وقال
الأصمعي: يقال صبنت عنا الهدية أو ما كان من معروف تصبن صبنا: بمعنى كففت؛ قاله
الجوهري. « كان
مزاجها » أي شوبها
وخلطها، قال حسان:
كأن سبيئة
من بيت رأس يكون مزاجها عسل وماء
ومنه مزاج
البدن وهو ما يمازجه من الصفراء والسوداء والحرارة والبرودة. « كافورا » قال ابن عباس: هو اسم عين ماء في
الجنة، يقال له عين الكافور. أي يمازجه ماء هذه العين التي تسمى كافورا. وقال سعيد
عن قتادة: تمزج لهم بالكافور وتختم بالمسك. وقال مجاهد. وقال عكرمة: مزاجها طعمها.
وقيل: إنما الكافور في ريحها لا في طعمها. وقيل: أراد كالكافور في بياضه وطيب
رائحته وبرده؛ لأن الكافور لا يشرب؛ كقوله تعالى: « حتى إذا جعله نارا » [
الكهف: 96 ] أي كنار.
وقال ابن كيسان: طيب بالمسك والكافور والزنجبيل. وقال مقاتل: ليس بكافور الدنيا.
ولكن سمى الله ما عنده بما عندكم حتى تهتدي لها القلوب. وقوله: « كان مزاجها » « كان » زائدة أي
من كأس مزاجها كافور. « عينا
يشرب بها عباد الله » قال
الفراء: إن الكافور اسم لعين ماء في الجنة؛ « فعينا » بدل من
كافور على هذا. وقيل: بدل من كأس على الموضع. وقيل: هي حال من المضمر في « مزاجها » . وقيل: ( نصب على المدح؛ كما يذكر الرجل
فتقول: العاقل اللبيب؛ أي ذكرتم العاقل اللبيب فهو نصب بإضمار أعني. وقيل يشربون
عينا. وقال الزجاج المعنى من عين. ويقال: كافور وقافور. والكافور أيضا: وعاء طلع
النخل وكذلك الكفرى؛ قاله الأصمعي. وأما قول الراعي:
تكسو
المفارق واللبات ذا أرج من قصب معتلف الكافور دراج
فإن
الظبي الذي يكون منه المسك إنما يرعى سنبل الطيب فجعله كافورا. « يشرب بها » قال الفراء: يشرب بها ويشربها
سواء في المعنى، وكأن يشرب بها يروى بها وينقع؛ وأنشد:
شربن
بماء البحر ثم ترفعت متى لجج خضر لهن نئيج
قال:
ومثله فلان يتكلم بكلام حسن، ويتكم كلاما حسنا. وقيل: المعنى يشربها والباء زائدة
وقيل: الباء بدل « من » تقديره يشرب منها؛ قاله
القتبي. « يفجرونها
تفجيرا » فيقال:
إن الرجل منهم ليمشي في بيوتاته ويصعد إلى قصوره، وبيده قضيب يشير به إلى الماء
فيجري معه حيثما دار في منازله على مستوى الأرض في غير أخدود، ويتبعه حيثما صعد
إلى أعلى قصوره؛ وذلك قوله تعالى: « عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا » أي يشققونها شقا كما يفجر
الرجل النهر ها هنا وها هنا إلى حيث يريد. وعن ابن أبي نجيح عن مجاهد « يفجرونها تفجيرا » يقودونها حيث شاؤوا وتتبعهم
حيثما مالوا مالت معهم. وروى أبو مقاتل عن أبي صالح عن سعد عن أبي سهل عن الحسن
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أربع عيون في الجنة عينان تجريان من تحت
العرش إحداهما التي ذكر الله « يفجرونها
تفجيرا » [ والأخرى الزنجبيل ] والأخريان نضاختان من فوق
العرش إحداهما التي ذكر الله [ عينا
فيها تسمى ] « سلسبيلا » والأخرى التسنيم ) ذكره
الترمذي الحكيم في « نوادر
الأصول » . وقال:
فالتسنيم للمقربين خاصة شربا لهم، والكافور للأبرار شربا لهم؛ يمزج للأبرار من
التسنيم شرابهم، وأما الزنجبيل والسلسبيل فللإبرار منها مزاج هكذا ذكره في التنزيل
وسكت عن ذكر ذلك لمن هي شرب، فما كان للإبرار مزاج فهو للمقربين صرف، وما كان
للإبرار صرف فهو لسائر أهل الجنة مزاج. والأبرار هم الصادقون، والمقربون: هم
الصديقون.
الآيات:
7 - 9 ( يوفون
بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا، ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما
وأسيرا، إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا )
قوله
تعالى: « يوفون
بالنذر » أي لا
يخلفون إذا نذروا. وقال معمر عن قتادة: بما فرض الله عليهم من الصلاة والزكاة
والصوم والحج والعمرة وغيره من الواجبات. وقال مجاهد وعكرمة: يوفون إذا نذروا في
حق الله جل ثناؤه. وقال الفراء والجرجاني: وفي الكلام إضمار؛ أي كانوا يوفون
بالنذر في الدنيا. والعرب قد تزيد مرة « كان » وتحذف
أخرى. والنذر: حقيقته ما أوجبه المكلف على نفسه من شيء يفعله. وإن شئت قلت في حده:
النذر: هو إيجاب المكلف على نفسه من الطاعات ما لو لم يوجبه لم يلزمه. وقال
الكلبي: « يوفون
بالنذر » أي
يتممون العهود والمعنى واحد؛ وقد قال الله تعالى: « ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم » [ الحج: 29 ] أي أعمال نسكهم التي ألزموها
أنفسهم بإحرامهم بالحج. وهذا يقوي قول قتادة.
وأن
النذر يندرج فيه ما التزمه المرء بإيمانه من امتثال أمر الله؛ قال القشيري.
وروى
أشهب عن مالك أنه قال: « يوفون
بالنذر » هو نذر
العتق والصيام والصلاة.
وروى عنه
أبو بكر بن عبدالعزيز قال مالك. « يوفون
بالنذر » قال:
النذر: هو اليمين.
قوله
تعالى: « ويخافون
» أي
يحذرون « يوما » أي يوم القيامة. « كان شره مستطيرا » أي عاليا داهيا فاشيا وهو في
اللغة ممتدا؛ والعرب تقول: استطار الصدع في القارورة والزجاجة واستطال: إذا امتد؛
قال الأعشى:
وبانت
وقد أسأرت في الفؤاد صدعا على نأيها مستطيرا
ويقال:
استطار الحريق: إذا انتشر. واستطار الفجر إذا انتشر الضوء.
وقال حسان:
وهان على
سراء بني لؤي حريق بالبويرة مستطير
وكان
قتادة يقول: استطار والله شر ذلك اليوم حتى ملأ السموات والأرض.
وقال
مقاتل: كان شره فاشيا في السموات فانشقت، وتناثرت الكواكب، وفزعت الملائكة، وفي
الأرض نسفت الجبال وغارت المياه.
قوله
تعالى: « ويطعمون
الطعام على حبه » قال ابن
عباس ومجاهد: على قلته وحبهم إياه وشهوتهم له. وقال الداراني: على حب الله. وقال
الفضيل بن عياض: على حب إطعام الطعام. وكان الربيع بن خيثم إذا جاءه السائل قال:
أطعموه سكرا فإن الربيع يحب السكر. « مسكينا » أي ذا
مسكنة. وروى أبو صالح عن ابن عباس قال: هو الطواف يسألك مالك « ويتيما » أي من يتامى المسلمين. وروى
منصور عن الحسن: أن يتيما كان يحضر طعام ابن عمر، فدعا ذات يوم بطعامه، وطلب
اليتيم فلم يجده، وجاءه بعد ما فرغ ابن عمر من طعامه فلم يجد الطعام، فدعا له
بسويق وعسل؛ فقال: دونك هذا، فوالله ما غبنت؛ قال الحسن وابن عمر: والله ما غبن.
« وأسيرا » أي الذي يؤسر فيحبس. فروى أبو
صالح عن ابن عباس قال: الأسير من أهل الشرك يكون في أيديهم. وقال قتادة. وروى ابن
أبي نجيح عن مجاهد قال: الأسير هو المحبوس. وكذا قال سعيد بن جبير وعطاء: هو
المسلم يحبس بحق. وعن سعيد بن جبير مثل قول قتادة وابن عباس. قال قتادة: لقد أمر
الله بالأسرى أن يحسن إليهم، وأن أسراهم يومئذ لأهل الشرك، وأخوك المسلم أحق أن
تطعمه.
وقال
عكرمة: الأسير العبد. وقال أبو حمزة الثمالي: الأسير المرأة، يدل عليه قوله عليه
السلام: ( استوصوا بالنساء خيرا فإنهن عوان عندكم ) أي أسيرات. وقال أبو سعيد
الخدري: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم « ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا » فقال: ( المسكين الفقير،
واليتيم الذي لا أب له، والأسير المملوك والمسجون ) ذكره الثعلبي. وقيل: نسخ إطعام
المسكين آية الصدقات؛ وإطعام الأسير ( آية ) السيف؛ قال سعيد بن جبير. وقال غيره:
بل هو ثابت الحكم، وإطعام اليتيم والمسكين على التطوع، وإطعام الأسير لحفظ نفسه
إلا أن يتخير فيه الإمام. الماوردي: ويحتمل أن يريد بالأسير الناقص العقل؛ لأنه في
أسر خبله وجنونه، وأسر المشرك انتقام يقف على رأي الإمام؛ وهذا بر وإحسان. وعن
عطاء قال: الأمير من أهل القبلة وغيرهم.
قلت:
وكأن هذا القول عام يجمع جميع الأقوال، ويكون إطعام الأسير المشرك قربة إلى الله
تعالى، غير أنه من صدقة التطوع، فأما المفروضة فلا. والله أعلم.
ومضى
القول في المسكين واليتيم والأسير واشتقاق ذلك من اللغة في « البقرة » مستوفى والحمد لله.
قوله
تعالى: « إنما
نطعمكم لوجه الله » أي
يقولون بألسنتهم للمسكين واليتيم والأسير « إنما نطعمكم » في الله جل ثناؤه فزعا من عذابه وطمعا في ثوابه. « لا نريد منكم جزاء ولا شكورا » « لا نريد منكم جزاء » أي مكافأة. « ولا شكورا » أي ولا أن تثنوا علينا بذلك؛
قال ابن عباس: كذلك كانت نياتهم في الدنيا حين أطعموا. وعن سالم عن مجاهد قال: أما
إنهم ما تكلموا به ولكن علمه الله جل ثناؤه منهم فأثنى به عليهم؛ ليرغب في ذلك
راغب. وقال سعيد بن جبير حكاه عنه القشيري. وقيل: إن هذه الآية نزلت في مطعم بن
ورقاء الأنصاري نذر نذرا فوفى به. وقيل: نزلت فيمن تكفل بأسرى بدر وهم سبعة من
المهاجرين: أبو بكر وعمر وعلي والزبير وعبدالرحمن بن عوف وسعد وأبو عبيدة رضي الله
عنهم؛ ذكره الماوردي. وقال مقاتل: نزلت في رجل من الأنصار أطعم في يوم واحد مسكينا
ويتيما وأسيرا. وقال أبو حمزة الثمالي: بلغني أن رجلا قال يا رسول الله أطعمني
فإني والله مجهود؛ فقال: ( والذي نفسي بيده ما عندي ما أطعمك ولكن اطلب ) فأتى
رجلا من الأنصار وهو يتعشى مع امرأته فسأله؛ وأخبره بقول النبي صلى الله عليه
وسلم؛ فقالت المرأة: اطعمه واسقه. ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم يتيم فقال: يا
رسول الله! أطعمني فإني مجهود. فقال: ( ما عندي ما أطعمك ولكن اطلب ) فاستطعم ذلك
الأنصاري فقالت المرأة: أطعمه واسقه، فأطعمه. ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم
أسير فقال: يا رسول الله! أطعمني فإني مجهود. فقال: ( والله ما معي ما أطعمك ولكن
اطلب ) فجاء الأنصاري فطلب، فقالت المرأة: أطعمه واسقه. فنزلت: « ويطعمون الطعام على حبه مسكينا
ويتيما وأسيرا » ذكره
الثعلبي. وقال أهل التفسير: نزلت في علي وفاطمة رضي الله عنهما وجارية لهما اسمها
فضة.
قلت:
والصحيح أنها نزلت في جميع الأبرار، ومن فعل فعلا حسنا؛ فهي عامة.
وقد ذكر
النقاش والثعلبي والقشيري وغير واحد من المفسرين في قصة علي وفاطمة وجاريتهما
حديثا لا يصح ولا يثبت، رواه ليث عن مجاهد عن ابن عباس في قوله عز وجل: « يوفون بالنذر ويخافون يوما كان
شره مستطيرا. ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا » قال: مرض الحسن والحسين
فعادهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعادهما عامة العرب؛ فقالوا: يا أبا الحسن
- ورواه جابر الجعفي عن قنبر مولى علي قال: مرض الحسن والحسين حتى عادهما أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا أبا الحسن - رجع
الحديث إلى حديث ليث بن أبي سليم - لو نذرت عن ولديك شيئا، وكل نذر ليس له وفاء
فليس بشيء. فقال رضي الله عنه: إن برأ ولداي صمت لله ثلاثة أيام شكرا. وقالت جارية
لهم نوبية: إن برأ سيداي صمت لله ثلاثة أيام شكرا. وقالت فاطمة مثل ذلك. وفي حديث
الجعفي فقال الحسن والحسين: علينا مثل ذلك فألبس الغلامان العافية، وليس عند آل
محمد قليل ولا كثير، فانطلق علي إلى شمعون بن حاريا الخيبري، وكان يهوديا، فاستقرض
منه ثلاثة أصوع من شعير، فجاء به، فوضعه ناحية البيت، فقامت فاطمة إلى صاع فطحنته
واختبزته، وصلى علي مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أتى المنزل فوضع الطعام بين
يديه. وفي حديث الجعفي: فقامت الجارية إلى صاع من شعير فخبزت منه خمسة أقراص، لكل
واحد منهم قرص، فلما مضى صيامهم الأول وضع بين أيديهم الخبز والملح الجريش؛ إذ
أتاهم مسكين، فوقف بالباب وقال: السلام عليكم أهل بيت محمد - في حديث الجعفي - أنا
مسكين من مساكين أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأنا والله جائع؛ أطعموني أطعمكم
الله من موائد الجنة. فسمعه علي رضي الله عنه، فأنشأ يقول:
فاطم ذات
الفضل اليقين يا بنت خير الناس أجمعين
أما ترين
البائس المسكين قد قام بالباب له حنين
يشكو إلى
الله ويستكين يشكو إلينا جائع حزين
كل امرئ
بكسبه رهين وفاعل الخيرات يستبين
موعدنا
جنة عليين حرمها الله على الضنين
وللبخيل
موقف مهين تهوى به النار إلى سجين
شرابه
الحميم والغسلين من يفعل الخير يقم سمين
ويدخل
الجنة أي حين
فأنشأت
فاطمة رضي الله عنها تقول:
أمرك
عندي يا ابن عم طاعه ما بي من لؤم ولا وضاعه
غديت في
الخبز له صناعه أطعمه ولا أبالي الساعه
أرجو إذا
أشبعت ذا المجاعه أن ألحق الأخيار والجماعه
وأدخل
الجنة لي شفاعه
فأطعموه
الطعام، ومكثوا يومهم وليلتهم لم يذوقوا شيئا إلا الماء القراح، فلما أن كان في
اليوم الثاني قامت إلى صاع فطحنته واختبزته، وصلى علي مع النبي صلى الله عليه
وسلم، ثم أتى المنزل فوضع الطعام بين أيديهم؛ فوقف بالباب يتيم فقال: السلام عليكم
أهل بيت محمد، يتيم من أولاد المهاجرين استشهد والدي يوم العقبة. أطعموني أطعمكم
الله من موائد الجنة. فسمعه علي فأنشأ يقول:
فاطم بنت
السيد الكريم بنت نبي ليس بالزنيم
لقد أتى
الله بذي اليتيم من يرحم اليوم يكن رحيم
ويدخل
الجنة أي سليم قد حرم الخلد على اللئيم
ألا يجوز
الصراط المستقيم يزل في النار إلى الجحيم
شرابه
الصديد والحميم
فأنشأت فاطمة
رضي الله عنها تقول:
أطعمه
اليوم ولا أبالي وأوثر الله على عيالي
أمسوا
جياعا وهمُ أشبالي أصغرهم يقتل في القتال
بكر بلا
يقتل باغتيال يا ويل للقاتل مع وبال
تهوي به
النار إلى سفال وفي يديه الغل والأغلال
كبولة
زادت على الأكبال
فأطعموه
الطعام ومكثوا يومين وليلتين لم يذوقوا شيئا إلا الماء القراح؛ فلما كانت في اليوم
الثالث قامت إلى الصاع الباقي فطحنته واختبزته، وصلى علي مع النبي صلى الله عليه
وسلم، ثم أتى المنزل، فوضع الطعام بين أيديهم؛ إذ أتاهم أسير فوقف بالباب فقال:
السلام عليكم أهل بيت محمد، تأسروننا وتشدوننا ولا تطعموننا! أطعموني فإني أسير
محمد. فسمعه علي فأنشأ يقول:
فاطم يا
بنت النبي أحمد بنت نبي سيد مسود
وسماه
الله فهو محمد قد زانه الله بحسن أغيد
هذا أسير
للنبي المهتد مثقل في غله مقيد
ينكو
إلينا الجوع قد تمدد من يطعم اليوم يجده في غد
عند
العلي الواحد الموحد ما يزرع الزارع سوف يحصد
أعطيه لا
لا تجعليه أقعد
فأنشأت
فاطمة رضي الله تعالى عنها تقول:
لم يبق
مما جاء غير صاع قد ذهبت كفي مع الذراع
ابناي
والله هما جياع يا رب لا تتركهما ضياع
أبوهما
للخير ذو اصطناع يصطنع المعروف بابتداع
عبل
الذراعين شديد الباع وما على رأسي من قناع
إلا
قناعا نسجه أنساع
فأعطوه
الطعام ومكثوا ثلاثة أيام ولياليها لم يذوقوا شيئا إلا الماء القراح، فلما أن كان
في اليوم الرابع، وقد قضى الله النذر أخذ بيده اليمنى الحسن، وبيده اليسرى الحسين،
وأقبل نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يرتعشون كالفراخ من شدة الجوع؛ فلما
أبصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [ يا أبا الحسن ما أشد ما يسوءني ما أرى بكم انطلق بنا إلى
ابنتي فاطمة ]
فانطلقوا إليها وهي في محرابها، وقد لصق بطنها بظهرها، وغارت عيناها من شدة الجوع،
فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرف المجاعة في وجهها بكى وقال: [ واغوثاه يا الله، أهل بيت
محمد يموتون جوعا ] فهبط
جبريل عليه السلام وقال: السلام عليك، ربك يقرئك السلام يا محمد، خذه هنيئا في أهل
بيتك. قال: ( وما أخذ يا جبريل ) فأقرأه « هل أتى على الإنسان حين من الدهر » إلى قوله: « ويطعمون الطعام على حبه مسكينا
ويتيما وأسيرا. إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا » قال الترمذي الحكيم أبو
عبدالله في نوادر الأصول: فهذا حديث مزوق مزيف، قد تطرف فيه صاحبه حتى تشبه على
المستمعين، فالجاهل بهذا الحديث يعض شفتيه تلهفا ألا يكون بهذه الصفة، ولا يعلم أن
صاحب هذا الفعل مذموم؛ وقد قال الله تعالى في تنزيله: « ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو
» [ البقرة: 219 ] وهو الفضل الذي يفضل عن نفسك
وعيالك، وجرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم متواترة بأن [ خير الصدقة ما كان عن ظهر
غنى ] . [ وابدأ بنفسك ثم بمن تعول ] وافترض الله على الأزواج نفقة
أهاليهم وأولادهم. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ كفى بالمرء إثما أن يضيع من
يقوت ] أفيحسب
عاقل أن عليا جهل هذا الأمر حتى أجهد صبيانا صغارا من أبناء خمس أو ست على جوع
ثلاثة أيام ولياليهن؟ حتى تضوروا من الجوع، وغارت العيون منهم؛ لخلاء أجوافهم، حتى
أبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بهم من الجهد. هب أنه آثر على نفسه هذا
السائل، فهل كان يجوز له أن يحمل أهله على ذلك؟! وهب أن أهله سمحت بذلك لعلي فهل
جاز له أن يحمل أطفاله على جوع ثلاثة أيام بلياليهن؟! ما يروج مثل هذا إلا على
حمقى جهال؛ أبى الله لقلوب متنبهة أن تظن بعلي مثل هذا. وليت شعري من حفظ هذه
الأبيات كل ليلة عن علي وفاطمة، وإجابة كل واحد منهما صاحبه، حتى أداه إلى هؤلاء
الرواة؟
فهذا
وأشباهه من أحاديث أهل السجون فيما أرى بلغني أن قوما يخلدون في السجون فيبقون بلا
حيلة، فيكتبون أحاديث في السمر وأشباهه، ومثل هذه الأحاديث مفتعلة، فإذا صارت إلى
الجهابذة رموا بها وزيفوها، وما من شيء إلا له آفة ومكيدة، وآفة الدين وكيده أكثر.
الآيات:
10 - 11 ( إنا
نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا، فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورا )
قوله
تعالى: « إنا نخاف
من ربنا يوما عبوسا قمطريرا » « عبوسا » من صفة اليوم، أي يوما تعبس
فيه الوجوه من هوله وشدته، فالمعنى نخاف يوما ذا عبوس. وقال ابن عباس يعبس الكافر
يومئذ حتى يسيل منه عرق كالقطران. وعن ابن عباس: العبوس: الضيق، والقمطرير: الطويل؛
قال الشاعر:
شديدا
عبوسا قمطريرا
وقيل:
القمطرير الشديد؛ تقول العرب: يوم قمطرير وقماطر وعصيب بمعنى؛ وأنشد الفراء:
بني عمنا
هل تذكرون بلاءنا عليكم إذا ما كان يوم قماطر
بضم
القاف. وقمطر إذا اشتد. وقال الأخفش: القمطرير: أشد ما يكون من الأيام وأطوله في
البلاء؛ قال الشاعر:
ففروا
إذا ما الحرب ثار غبارها ولج بها اليوم العبوس القماطر
وقال
الكسائي: يقال اقمطر اليوم وازمهر اقمطرارا وازمهرارا، وهو القمطرير والزمهرير،
ويوم مقمطر إذا كان صعبا شديدا؛ قال الهذلي:
بنو
الحرب أرضعنا لهم مقمطرة ومن يلق منا ذلك اليوم يهرب
وقال
مجاهد: إن العبوس بالشفتين، والقمطرير بالجبهة والحاجبين؛ فجعلها من صفات الوجه
المتغير من شدائد ذلك اليوم؛ وأنشد ابن الأعرابي:
يغدو على
الصيد يعود منكسر ويقمطر ساعة ويكفهر
وقال أبو
عبيدة: يقال رجل قمطرير أي متقبض ما بين العينين. وقال الزجاج: يقال أقمطرت
الناقة: إذا رفعت ذنبها وجمعت قطريها، وزمت بأنفها؛ فاشتقه من القطر، وجعل الميم
مزيدة. قال أسد بن ناعصة:
واصطليت
الحروب في كل يوم باسل الشطر قمطرير الصباح
قوله
تعالى: « فوقاهم
الله » أي دفع
عنهم « شر ذلك
اليوم » أي بأسه
وشدته وعذابه
« ولقاهم » أي أتاهم وأعطاهم حين لقوه أي
رأوه « نضرة » أي حسنا « وسرورا » أي حبورا. قال الحسن ومجاهد: « نضرة » في وجوههم « وسرورا » في قلوبهم. وفي النضرة ثلاثة
أوجه: أحدها أنها البياض والنقاء؛ قال الضحاك. الثاني الحسن والبهاء؛ قال ابن
جبير. الثالث أنها أثر النعمة؛ قال ابن زيد.
الآيات:
12 - 14 ( وجزاهم
بما صبروا جنة وحريرا، متكئين فيها على الأرائك لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا،
ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا )
قوله
تعالى: « وجزاهم
بما صبروا » على
الفقر. وقال القرظي: على الصوم. وقال عطاء: على الجوع ثلاثة أيام وهي أيام النذر.
وقيل: بصبرهم على طاعة الله، وصبرهم على معصية الله ومحارمه. و « ما » : مصدرية، وهذا على أن الآية
نزلت في جميع الأبرار ومن فعل فعلا حسنا. وروى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم سئل عن الصبر فقال: ( الصبر أربعة: أولها الصبر عند الصدمة الأولى، والصبر
على أداء الفرائض، والصبر على اجتناب محارم الله، والصبر على المصائب ) . « جنة وحريرا » أي أدخلهم الجنة وألبسهم
الحرير. أي يسمى بحرير الدنيا وكذلك الذي في الآخرة [ وفيه ] ما شاء الله عز وجل من الفضل.
وقد تقدم: أن من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة، وإنما ألبسه من ألبسه
في الجنة عوضا عن حبسهم أنفسهم في الدنيا عن الملابس التي حرم الله فيها.
قوله
تعالى: « متكئين
فيها » أي في
الجنة؛ ونصب « متكئين » على الحال من الهاء والميم في « جزاهم » والعامل فيها جزى ولا يعمل
فيها « صبروا » ؛ لأن الصبر إنما كان في
الدنيا والاتكاء في الآخرة. وقال الفراء. وإن شئت جعلت « متكئين » تابعا، كأنه قال جزاهم جنة « متكئين فيها » . « على الأرائك » السرر في الحجال وقد تقدم.
وجاءت عن العرب أسماء تحتوي على صفات: أحدها الأريكة لا تكون إلا في حجلة على
سرير، ومنها السجل، وهو الدلو الممتلئ ماء، فإذا صفرت لم تسم سجلا، وكذلك الذنوب
لا تسمى ذنوبا حتى تملأ، والكأس لا تسمو، كأسا حتى تترع من الخمر. وكذلك الطبق
الذي تهدى عليه الهدية مهدى، فإذا كان فارغا قيل طبق أو خوان؛ قال ذو الرمة:
خدود جفت
في السير حتى كأنما يباشرن بالمعزاء مس الأرائك
أي الفرش
على السرر. « لا يرون
فيها شمسا » أي لا
يرون في الجنة شدة حر كحر الشمس « ولا
زمهريرا » أي ولا
بردا مفرطا؛ قال الأعشى:
منعمة
طفلة كالمهاة لم تر شمسا ولا زمهريرا
وعن أبي
صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( اشتكت النار
إلى ربها عز وجل قالت: يا رب أكل بعضي بعضا، فجعل لها نفسين نفسا في الشتاء ونفسا
في الصيف، فشدة ما تجدون من البرد من زمهريرها، وشدة ما تجدون من الحر في الصيف من
سمومها ) . وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن هواء الجنة سجسج: لا حر
ولا برد ) والسجسج: الظل الممتد كما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس. وقال مرة
الهمداني: الزمهرير البرد القاطع. وقال مقاتل بن حيان: هو شيء مثل رؤوس الإبر ينزل
من السماء في غاية البرد. وقال ابن مسعود: هو لون من العذاب، وهو البرد الشديد،
حتى إن أهل النار إذا ألقوا فيه سألوا الله أن يعذبهم بالنار ألف سنة أهون عليهم
من عذاب الزمهرير يوما واحدا. قال أبو النجم:
أو كنت
ريحا كنت زمهريرا
وقال
ثعلب: الزمهرير: القمر بلغة طيي؛ قال شاعرهم:
وليلة
ظلامها قد اعتكر قطعتها والزمهرير ما زهر
ويروى:
ما ظهر؛ أي لم يطلع القمر. فالمعنى لا يرون فيها شمسا كشمس الدنيا ولا قمرا كقمر
الدنيا، أي إنهم في ضياء مستديم، لا ليل فيه ولا نهار؛ لأن ضوء النهار بالشمس،
وضوء الليل بالقمر. وقد مضى هذا المعنى مجودا في سورة « مريم » عند قوله تعالى: « ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا » [ مريم: 62 ] . وقال ابن عباس: بينما أهل
الجنة في الجنة إذ رأوا نورا ظنوه شمسا قد أشرقت بذلك النور الجنة، فيقولون: قال
ربنا: « لا يرون
فيها شمسا ولا زمهريرا » فما هذا
النور؟ فيقول لهم رضوان: ليست هذه شمس ولا قمر، ولكن هذه فاطمة وعلي ضحكا، فأشرقت
الجنان من نور ضحكهما، وفيهما أنزل الله تعالى: « هل أتى على الإنسان » وأنشد:
أنا مولى
لفتى أنزل فيه هل أتى
ذاك علي
المرتضى وابن عم المصطفى
قوله
تعالى: « ودانية
عليهم ظلالها » أي ظل
الأشجار في الجنة قريبة من الأبرار، فهي مظلة عليهم زيادة في نعيمهم وإن كان لا
شمس ولا قمر ثم؛ كما أن أمشاطهم الذهب والفضة، وإن كان لا وسخ ولا شعث ثم. ويقال:
إن ارتفاع الأشجار في الجنة مقدار مائة عام، فإذا اشتهى ولي الله ثمرتها دانت حتى
يتناولها. وانتصبت « دانية » على الحال عطفا على « متكئين » كما تقول: في الدار عبدالله
متكئا ومرسلة عليه الحجال. وقيل: انتصبت نعتا للجنة؛ أي وجزاهم جنة دانية، فهي،
صفة لموصوف محذوف. وقيل: على موضع « لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا » ويرون دانية، وقيل: على المدح
أي دنت دانية. قاله الفراء. « ظلالها » الظلال مرفوعة بدانية، ولو قرئ
برفع دانية على أن تكون الظلال مبتدأ ودانية الخبر لجاز، وتكون الجملة في موضع الحال
من الهاء والميم في « وجزاهم » وقد قرئ بذلك. وفي قراءة
عبدالله « ودانيا
عليهم » لتقدم
الفعل. وفي حرف أبي « ودان » رفع على الاستئناف « وذللت » أي سخرت لهم « قطوفها » أي ثمارها « تذليلا » أي تسخيرا، فيتناولها القائم
والقاعد والمضطجع، لا يرد أيديهم عنها بعد ولا شوك؛ قاله قتادة. وقال مجاهد: إن
قام أحدا ارتفعت له، وإن جلس تدلت عليه، وإن اضطجع دنت منه فأكل منها. وعنه أيضا:
أرض الجنة من ورق، وترابها الزعفران، وطيبها مسك أذفر، وأصول شجرها ذهب وورق،
وأفنانها اللؤلؤ والزبرجد والياقوت، والثمر تحت ذلك كله؛ فمن أكل منها قائما لم
تؤذه، ومن أكل منها قاعدا لم تؤذه، ومن أكل منها مضطجعا لم تؤذه.
وقال ابن
عباس: إذا هم أن يتناول من ثمارها تدلت إليه حتى يتناول منها ما يريد، وتذليل
القطوف تسهيل التناول. والقطوف: الثمار، الواحد قطف بكسر القاف، سمي به لأنه يقطف،
كما سمي الجنى لأنه يجنى. « تذليلا » تأكيد لما وصف به من الذل؛
كقوله: « ونزلناه
تنزيلا » [ الإسراء: 106 ] « وكلم الله موسى تكليما » [ النساء: 164 ] . الماوردي: ويحتمل أن يكون
تذليل قطوفها أن تبرز لهم من أكمامها، وتخلص لهم من نواها.
قلت: وفي
هذا بعد؛ فقد روى ابن المبارك، قال: أخبرنا سفيان عن حماد عن سعيد بن جبير عن ابن
عباس قال: نخل الجنة: جذوعها زمرد أخضر، وكربها ذهب أحمر، وسعفها كسوة لأهل الجنة،
منها مقطعاتهم وحللهم، وثمرها أمثال القلال والدلاء، أشد بياضا من اللبن، وأحلى من
العسل، وألين من الزبد ليس فيه عجم.
قال أبو
جعفر النحاس: ويقال المذلل الذي قد ذلله الماء أي أرواه. ويقال المذلل الذي يفيئه
أدنى ريح لنعمته، ويقال المذلل المسوى؛ لأن أهل الحجاز يقولون: ذلل نخلك أي سوه،
ويقال المذلل القريب المتناول، من قولهم: حائط ذليل أي قصير. قال أبو جعفر: وهذه
الأقوال التي حكيناها ذكرها أهل العلم باللغة وقالوها في قول امرئ القيس:
وساق
كأنبوب السقي المذلل
الآيات:
15 - 18 ( ويطاف
عليهم بآنية من فضة وأكواب كانت قواريرا، قوارير من فضة قدروها تقديرا، ويسقون
فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا، عينا فيها تسمى سلسبيلا )
قوله
تعالى: « ويطاف
عليهم بأنية من فضة وأكواب » أي يدور
على هؤلاء الأبرار الخدم إذا أرادوا الشراب « بآنية من فضة » قال ابن عباس: ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء؛
أي ما في الجنة أشرف وأعلى وأنقى. ثم لم تنف الأواني الذهبية بل المعنى يسقون في
أواني الفضة، وقد يسقون في أواني الذهب. وقد قال تعالى: « يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب
» [ الزخرف: 71 ] . وقيل: نبه بذكر الفضة على
الذهب؛ كقوله: « سرابيل
تقيكم الحر » [ النحل: 81 ] أي والبرد؛ فنبه بذكر أحدهما
على الثاني. والأكواب: الكيزان العظام التي لا آذان لها ولا عرى، الواحد منها كوب؛
وقال عدي:
متكئا
تقرع أبوابه يسعى عليه العبد بالكوب
وقد مضى
في « الزخرف » . « قوارير من فضة » أي في صفاء القوارير وبياض
الفضة؛ فصفاؤها صفاء الزجاج وهي من فضة. وقيل: أرض الجنة من فضة، والأواني تتخذ من
تربة الأرض التي هي منها. ذكره ابن عباس وقال: ليس في الجنة شيء إلا قد أعطيتم في
الدنيا شبهه، إلا القوارير من فضة. وقال: لو أخذت فضة من فضة الدنيا فضربتها حتى
تجعلها مثل جناح الذباب لم تر من ورائها الماء، ولكن قوارير الجنة مثل الفضة في
صفاء القوارير. « قدروها
تقديرا » قراءة
العامة بفتح القاف والدال؛ أي قدرها لهم السقاة الذين يطوفون بها عليهم. قال ابن
عباس ومجاهد وغيرهما: أتوا بها على قدر ريهم، بغير زيادة ولا نقصان. الكلبى: وذلك
ألذ وأشهى؛ والمعنى: قدرتها الملائكة التي تطوف عليهم. وعن ابن عباس أيضا: قدروها
على ملء الكف لا تزيد ولا تنقص، حتى لا تؤذيهم بثقل أو بإفراط صغر. وقيل: إن
الشاربين قدروا لها مقادير في أنفسهم على ما اشتهوا وقدروا. وقرأ عبيد بن عمير
والشعبي وابن سيرين « قدروها » بضم القاف وكسر الدال؛ أي جعلت
لهم على قدر إرادتهم. وذكر هذه القراءة المهدوي عن علي وابن عباس رضي الله عنهما؛
وقال: ومن قرأ « قدروها » فهو راجع إلى معنى القراءة
الأخرى، وكأن الأصل قدروا عليها فحذف الجر؛ والمعنى قدرت عليهم؛ وأنشد سيبويه:
آليت حب
العراق الدهر آكله والحب يأكله في القرية السوس
وذهب إلى
أن المعنى على حب العراق. وقيل: هذا التقدير هو أن الأقداح تطير فتغترف بمقدار
شهوة الشارب؛ وذلك قوله تعالى: « قدروها
تقديرا » أي لا
يفضل عن الري لا ينقص منه، فقد ألهمت الأقداح معرفة مقدار ري المشتهى حتى تغترف
بذلك المقدار. ذكر هذا القول الترمذي الحكيم في « نوادر الأصول » .
قوله
تعالى: « ويسقون
فيها كأسا » وهي
الخمر في الإناء. « كان
مزاجها زنجبيلا » « كان » صلة؛ أي مزاجها زنجبيل، أو كان
في حكم الله زنجبيلا. وكانت العرب تستلذ من الشراب ما يمزج بالزنجبيل لطيب رائحته؛
لأنه يحذو اللسان، ويهضم المأكول، فرغبوا في نعيم الآخرة بما اعتقدوه نهاية النعمة
والطيب. وقال المسيب عن علس يصف ثغر المرأة:
وكأن طعم
الزنجبيل به إذ ذقته وسلافة الخمر
ويروى.
الكرم. وقال آخر:،
كأن جنيا
من الزنجبيـ ـل بات بفيها وأريا مشورا
ونحوه
قول الأعشى:
كأن
القرنفل والزنجبيـ ـل باتا بفيها وأريا مشورا
وقال
مجاهد: الزنجبيل اسم للعين التي منها مزاج شراب الأبرار. وكذا قال قتادة:
والزنجبيل اسم العين التي يشرب بها المقربون صرفا وتمزج لسائر أهل الجنة. وقيل: هي
عين في الجنة يوجد فيها طعم الزنجبيل. وقيل: إن فيه معنى الشراب الممزوج
بالزنجبيل. والمعنى كأن فيها زنجبيلا. « عينا » بدل من
كأس. ويجوز أن ينتصب بإضمار فعل أي يسقون عينا. ويجوز نصبه بإسقاط الخافض أي من
عين على ما تقدم في قوله تعالى: « عينا
يشرب بها عباد الله » [ الإنسان: 6 ] . « فيها » أي في الجنة
« تسمى
سلسبيلا »
السلسبيل الشراب اللذيذ، وهو فعليل من السلالة؛ تقول العرب: هذا شراب سلس وسلسال
وسلسل وسلسبيل بمعنى؛ أي طيب الطعم لذيذه. وفي الصحاح: وتسلسل الماء في الحلق جرى،
وسلسلته أنا صببته فيه، وماء سلسل وسلسال: سهل الدخول في الحلق لعذوبته وصفائه،
والسلاسل بالضم مثله.
وقال
الزجاج: السلسبيل في اللغة: اسم لما كان في غاية السلاسة؛ فكأن العين سميت بصفتها.
وعن مجاهد قال: سلسبيلا: حديدة الجرية تسيل في حلوقهم انسلالا.
ونحوه عن
ابن عباس: إنها الحديدة الجري. ذكره الماوردي؛ ومنه قول حسان بن ثابت رضي الله
عنه:
يسقون من
ورد البريص عليهم بردى يصفق بالرحيق السلسل
وقال أبو
العالية ومقاتل: إنما سميت سلسبيلا؛ لأنها تسيل عليهم في الطرق وفي منازلهم، تنبع
من أصل العرش من جنة عدن إلى أهل الجنة. وقال قتادة: سلسة منقاد ماؤها حيث شاؤوا.
ونحوه عن عكرمة. وقال القفال: أي تلك عين شريفة فسل سبيلا إليها. وروي هذا عن علي
رضي الله عنه. وقوله: « تسمى » أي إنها مذكورة عند الملائكة
وعند الأبرار وأهل الجنة بهذا الاسم. وصرف سلسبيل؛ لأنه رأس آية؛ كقوله تعالى: « الظنونا » [ الأحزاب: 10 ] و « السبيلا » [ الأحزاب: 67 ] .
الآيات:
19 - 22 ( ويطوف
عليهم ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا، وإذا رأيت ثم رأيت نعيما
وملكا كبيرا، عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق وحلوا أساور من فضة وسقاهم ربهم شرابا
طهورا، إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا )
قوله
تعالى: « ويطوف
عليهم ولدان مخلدون » بين من
الذي يطوف عليهم بالآنية؛ أي ويخدمهم ولدان مخلدون، فإنهم أخف في الخدمة. ثم قال: « مخلدون » أي باقون على ما هم عليه من
الشباب والغضاضة والحسن، لا يهرمون ولا يتغيرون، ويكونون على سن واحدة على مر
الأزمنة. وقيل: مخلدون لا يموتون. وقيل: مسورون مقرطون؛ أي محلون والتخليد
التحلية. وقد تقدم هذا. « إذا
رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا » أي
ظننتهم من حسنهم وكثرتهم وصفاء ألوانهم: لؤلؤا مفرقا في عرصة المجلس، واللؤلؤ إذا نثر
على بساط كان أحسن منه منظوما. وعن المأمون أنه ليلة زفت إليه بوران بنت الحسن بن
سهل، وهو على بساط منسوج من ذهب، وقد نثرت عليه نساء دار الخليفة اللؤلؤ، فنظر
إليه منثورا على ذلك البساط فاستحسن المنظر وقال: لله در أبي نواس كأنه أبصر هذا
حيث يقول:
كأن صغرى
وكبرى من فقاقعها حصباء در على أرض من الذهب
وقيل:
إنما شبههم بالمنثور؛ لأنهم سراع في الخدمة، بخلاف الحور العين إذ شبههن باللؤلؤ
المكنون المخزون؛ لأنهن لا يمتهن بالخدمة.
قوله
تعالى: « وإذا
رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا » « ثم » : ظرف مكان أي هناك في الجنة،
والعامل في « ثم » معنى « رأيت » أي وإذا رأيت ببصرك « ثم » . وقال الفراء: في الكلام « ما » مضمرة؛ أي وإذا رأيت ما ثم؛
كقوله تعالى: « لقد تقطع
بينكم » [ الأنعام: 94 ] أي ما بينكم. وقال الزجاج: « ما » موصولة « بثم » على ما ذكره الفراء، ولا يجوز
إسقاط الموصول وترك الصلة، ولكن « رأيت » يتعدى في المعنى إلى « ثم » والمعنى: إذا رأيت ببصرك « ثم » ويعني « بثم » الجنة، وقد ذكر الفراء هذا
أيضا.
والنعيم:
سائر ما يتنعم به. والملك الكبير: استئذان الملائكة عليهم؛ قال السدي وغيره. قال
الكلبي: هو أن يأتي الرسول من عند الله بكرامة من الكسوة والطعام والشراب والتحف
إلى ولي الله وهو في منزله، فيستأذن عليه؛ فذلك الملك العظيم. وقاله مقاتل بن
سليمان. وقيل: الملك الكبير: هو أن يكون لأحدهم سبعون حاجبا، حاجبا دون حاجب،
فبينما ولي الله فيما هو فيه من اللذة والسرور إذ يستأذن عليه ملك من عند الله، قد
أرسله الله بكتاب وهدية وتحفة من رب العالمين لم يرها ذلك الولي في الجنة قط،
فيقول للحاجب الخارج: استأذن على ولي الله فإن معي كتابا وهدية من رب العالمين.
فيقول هذا الحاجب للحاجب الذي يليه: هذا رسول من رب العالمين، معه كتاب وهدية
يستأذن على ولي الله؛ فيستأذن كذلك حتى يبلغ إلى الحاجب الذي يلي ولي الله فيقول
له: يا ولي الله! هذا رسول من رب العالمين يستأذن عليك، معه كتاب وتحفة من رب
العالمين أفيؤذن له؟ فيقول: نعم! فأذنوا له. فيقول ذلك الحاجب الذي يليه: نعم
فأذنوا له. فيقول الذي يليه للآخر كذلك حتى يبلغ الحاجب الآخر. فيقول له: نعم أيها
الملك؛ قد أذن لك، فيدخل فيسلم عليه ويقول: السلام يقرئك السلام، وهذه تحفة، وهذا
كتاب من رب العالمين إليك. فإذا هو مكتوب عليه: من الحي الذي لا يموت، إلى الحي
الذي يموت. فيفتحه فإذا فيه: سلام على عبدي ووليي ورحمتي وبركاتي، يا وليي أما آن
لك أن تشتاق إلى رؤية ربك؟ فيستخفه الشوق فيركب البراق فيطير به البراق شوقا إلى
زيادة علام الغيوب، فيعطيه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. وقال
سفيان الثوري: بلغنا أن الملك الكبير تسليم الملائكة عليهم؛ دليله قوله تعالى: « والملائكة يدخلون عليهم من كل
باب. سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار » [
الرعد: 23 ] وقيل:
الملك الكبير كون التيجان على رؤوسهم كما تكون على رأس ملك من الملوك. وقال
الترمذي الحكيم: يعني ملك التكوين، فإذا أرادوا شيئا قالوا له كن. وقال أبو بكر
الوراق: ملك لا يتعقبه هلك. وفي الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن الملك
الكبير هو - أن - أدناهم منزلة ينظر في ملكه مسيرة ألفي عام، يرى أقصاه كما يرى
أدناه ) قال: [ وإن
أفضلهم منزلة من ينظر في وجه ربه تعالى كل يوم مرتين ] سبحان المنعم.
قوله
تعالى: « عاليهم
ثياب سندس خضر وإستبرق » قرأ
نافع وحمزة وابن محيصن « عاليهم » ساكنة الياء، واختاره أبو عبيد
أعتبارا بقراءة ابن مسعود وابن وثاب وغيرهما « عاليتهم » وبتفسير
ابن عباس: أما رأيت الرجل عليه ثياب يعلوها أفضل منها. الفراء: وهو مرفوع
بالابتداء وخبره « ثياب
سندس » واسم
الفاعل يراد به الجمع. ويجوز في قول الأخفش أن يكون إفراده على أنه اسم فاعل متقدم
و « ثياب » مرتفعة به وسدت مسد الخبر،
والإضافة فيه في تقدير الانفصال لأنه لم يخص، وابتدئ به لأنه اختص بالإضافة. وقرأ
الباقون « عاليهم » بالنصب. وقال الفراء: هو كقولك
فوقهم، والعرب تقول: قومك داخل الدار فينصبون داخل على الظرف، لأنه محل. وأنكر
الزجاج هذا وقال: هو مما لا نعرفه في الظروف، ولو كان ظرفا لم يجز إسكان الياء.
ولكنه بالنصب على الحال من شيئين: أحدهما الهاء والميم في قوله: « يطوف عليهم » أي على الأبرار « ولدان » عاليا الأبرار ثياب سندس؛ أي
يطوف عليهم في هذه الحال، والثاني: أن يكون حالا من الولدان؛ أي « إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا
» في حال
علو الثياب أبدانهم. وقال أبو علي: العامل في الحال إما « لقاهم نضرة وسرورا » وإما « جزاهم بما صبروا » قال: ويجوز أن يكون ظرفا فصرف.
المهدوي: ويجوز أن يكون اسم فاعل ظرفا؛ كقولك هو ناحية من الدار، وعلى أن عاليا
لما كان بمعنى فوق أجري مجراه فجعل ظرفا. وقرأ ابن محيصن وابن كثير وأبو بكر عن
عاصم « خضر » بالجر على نعت السندس « وإستبرق » بالرفع نسقا على الثياب،
ومعناه عاليهم [ ثياب ] سندس وإستبرق. وقرأ ابن عامر
وأبو عمرو ويعقوب « خضر » رفعا نعتا للثياب « وإستبرق » بالخفض نعتا للسندس، واختاره
أبو عبيد وأبو حاتم لجودة معناه؛ لأن الخضر أحسن ما كانت نعتا للثياب فهي مرفوعة،
وأحسن ما عطف الإستبرق على السندس عطف جنس على جنس، والمعنى: عاليهم ثياب خضر من
سندس وإستبرق، أي من هذين النوعين. وقرأ نافع وحفص كلاهما بالرفع ويكون « خضر » نعتا للثياب؛ لأنهما جميعا
بلفظ الجمع « وإستبرق
» عطفا
على الثياب. وقرأ الأعمش وابن وثاب وحمزة والكسائي كلاهما بالخفض ويكون قوله: « خضر » نعتا للسندس، والسندس اسم جنس،
وأجاز الأخفش وصف اسم الجنس بالجمع على استقباح له؛ وتقول: أهلك الناس الدينار
الصفر والدرهم البيض؛ ولكنه مستبعد في الكلام. والمعنى على هذه القراءة: عاليهم
ثياب سندس خضر وثياب إستبرق. وكلهم صرف الإستبرق، إلا ابن محيصن، فإنه فتحه ولم
يصرفه فقرأ « وإستبرق
» نصبا في
موضع الجر، على منع الصرف، لأنه أعجمي، وهو غلط؛ لأنه نكرة يدخله حرف التعريف؛
تقول الإستبرق إلا أن يزعم [ ابن
محيصن ] أنه قد
يجعل علما لهذا الضرب من الثياب. وقرئ « واستبرق » بوصل
الهمزة والفتح على أنه سمي باستفعل من البريق، وليس بصحيح أيضا، لأنه معرب مشهور
تعريبه، وأن أصله استبرك والسندس: ما رق من الديباج. والإستبرق: ما غلظ منه. وقد
تقدم.
قوله
تعالى: « وحلوا » عطف على « ويطوف » . « أساور من فضة » وفي سورة فاطر « يحلون فيها من أساور من ذهب » وفي سورة الحج « يحلون فيها من أساور من ذهب
ولؤلؤا » [ الحج: 23 ] ، فقيل: حلي الرجل الفضة وحلي
المرأة الذهب. وقيل: تارة يلبسون الذهب وتارة يلبسون الفضة. وقيل: يجمع في يد
أحدهم سواران من ذهب وسواران من فضة وسواران من لؤلؤ، ليجتمع لهم محاسن الجنة؛
قاله سعيد بن المسيب. وقيل: أي لكل قوم ما تميل إليه نفوسهم. « وسقاهم ربهم شرابا طهورا » قال علي رضي الله عنه في قوله
تعالى: « وسقاهم
ربهم شرابا طهورا » قال:
إذا توجه أهل الجنة إلى الجنة مروا بشجرة يخرج من تحت ساقها عينان، فيشربون من
إحداهما، فتجري عليهم بنضرة النعيم، فلا تتغير أبشارهم، ولا تتشعث أشعارهم أبدا،
ثم يشربون من الأخرى، فيخرج ما في بطونهم من الأذى، ثم تستقبلهم خزنة الجنة
فيقولون لهم: « سلام
عليكم طبتم فادخلوها خالدي » [ الزمر: 73 ] . وقال النخعي وأبو قلابة: هو
إذا شربوه بعد أكلهم طهرهم، وصار ما أكلوه وما شربوه رشح مسك، وضمرت بطونهم. وقال
مقاتل: هو من عين ماء على باب الجنة، تنبع من ساق شجرة، من شرب منها نزع الله ما
كان في قلبه من غل وغش وحسد، وما كان في جوفه من أذى وقذر. وهذا معنى ما روي عن
علي، إلا أنه في قول مقاتل عين واحدة وعليه فيكون فعولا للمبالغة، ولا يكون فيه
حجة للحنفي أنه بمعنى الطاهر. وقد مضى بيانه في سورة « الفرقان » والحمد لله. وقال طيب الجمال:
صليت خلف سهل بن عبدالله العتمة فقرأ « وسقاهم ربهم شرابا طهورا » وجعل يحرك شفتيه وفمه، كأنه يمص شيئا، فلما فرغ قيل له:
أتشرب أم تقرأ؟ فقال: والله لو لم أجد لذته عند قراءته كلذته عند شربه ما قرأته.
قوله
تعالى: « إن هذا
كان لكم جزاء » أي يقال
لهم: إنما هذا جزاء لكم أي ثواب. « وكان
سعيكم » أي
عملكم « مشكورا » أي من قبل الله، وشكره للعبد
قبول طاعته، وثناؤه عليه، وإثابته إياه. وروى سعيد عن قتادة قال: غفر لهم الذنب
وشكر لهم الحسنى. وقال مجاهد: « مشكورا » أي مقبولا والمعنى متقارب؛
فإنه سبحانه إذا قبل العمل شكره، فإذا شكره أثاب عليه بالجزيل؛ إذ هو سبحانه ذو
الفضل العظيم. روي عن ابن عمر: أن رجلا حبشيا قال: يا رسول الله! فضلتم علينا
بالصور والألوان والنبوة، أفرأيت إن آمنت بما آمنت به، وعملت بما عملت، أكائن أنا
معك في الجنة؟ قال: [ نعم
والذي نفسي بيده إنه ليرى بياض الأسود في الجنة وضياؤه من مسيرة ألف عام ] ثم قال النبي صلى الله عليه
وسلم: [ من
قال لا إله إلا الله كان له بها عند الله عهد، ومن قال سبحان الله والحمد لله كان
له بها عند الله مائة ألف حسنة وأربعة وعشرون ألف حسنة ] ، فقال الرجل: كيف نهلك بعدها
يا رسول الله؟ فقال: [ إن
الرجل ليأتي يوم القيامة بالعمل لو وضعه على جبل لأثقله. فتجيء النعمة من نعم الله
فتكاد أن تستنفد ذلك كله إلا أن يلطف الله برحمته ] . قال: ثم نزلت « هل أتى على الإنسان حين من الدهر » إلى قوله: « وملكا كبيرا » قال الحبشي: يا رسول الله! وإن
عيني لترى ما ترى، عيناك في الجنة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( نعم ) فبكى
الحبشي حتى فاضت نفسه. وقال ابن عمر: فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يدليه في حفرته ويقول: « إن هذا
كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا » قلنا:
يا رسول الله وما هو؟ قال: [ والذي
نفسي بيده لقد أوقفه الله ثم قال أي عبدي لأبيضن وجهك ولأبوئنك من الجنة حيث شئت،
فنعم أجر العاملين ] .
الآية [ 23 ] في الصفحة التالية ...
الآيات:
23 - 26 ( إنا نحن نزلنا عليك القرآن
تنزيلا، فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثما أو كفورا، واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا،
ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا )
قوله
تعالى: « إنا نحن
نزلنا عليك القرآن تنزيلا » ما
افتريته ولا جئت به من عندك، ولا من تلقاء نفسك، فسك، كما يدعيه المشركون. ووجه
اتصال هذه الآية بنا قيل أنه سبحانه لما ذكر أصناف الوعد والوعيد، بين أن هذا الكتاب
يتضمن ما بالناس حاجة إليه، فليس بسحر ولا كهانة، ولا شعر، وأنه حق. وقال ابن
عباس: أنزل القرآن متفرقا: آية بعد آية، ولم ينزل جملة واحدة؛ فلذلك قال « نزلنا » وقد مضى القول في هذا مبينا
والحمد لله.
قوله
تعالى: « فاصبر
لحكم ربك » أي لقضاء
ربك. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: اصبر على أذى المشركين؛ هكذا قضيت. ثم نسخ بآية
القتال. وقيل: أي اصبر لما حكم به عليك من الطاعات، أو انتظر حكم الله إذ وعدك أنه
ينصرك عليهم، ولا تستعجل فإنه كائن لا محالة. « ولا تطع منهم آثما أو كفورا » أي ذا إثم
« أو كفورا » أي لا تطع الكفار. فروى معمر عن
قتادة قال: قال أبو جهل: إن رأيت محمدا يصلي لأطأن على عنقه. فأنزل الله عز وجل: « ولا تطع منهم آثما أو كفورا » .
ويقال:
نزلت في عتبة بن ربيعة والوليد بن المغيرة، وكانا أتيا رسول الله صلى الله عليه
وسلم يعرضان عليه الأموال والتزويج، على أن يترك ذكر النبوة، ففيهما نزلت: « ولا تطع منهم آثما أو كفورا » . قال مقاتل: الذي عرض التزويج
عتبة بن ربيعة؛ قال: إن بناتي من أجمل نساء قريش، فأنا أزوجك ابنتي من غير مهر
وارجع عن هذا الأمر. وقال الوليد: إن كنت صنعت ما صنعت لأجل المال، فأنا أعطيك من
المال حتى ترضى وارجع عن هذا الأمر؛ فنزلت. ثم قيل: « أو » في قوله تعالى: « آثما أو كفورا » أوكد من الواو؛ لأن الواو إذا
قلت: لا تطع زيدا وعمرا فأطاع أحدهما كان غير عاص؛ لأنه أمره ألا يطيع الاثنين،
فإذا قال: « لا تطع
منهم آثما أو كفورا » « فأو » قد دلت على أن كل واحد منهما أهل
أن يعصي؛ كما أنك إذا قلت: لا تخالف الحسن أو ابن سيرين، أو اتبع الحسن أو ابن
سيرين فقد قلت: هذان أهل أن يتبعا وكل واحد منهما أهل لأن يتبع؛ قاله الزجاج. وقال
الفراء: « أو » هنا بمنزلة « لا » كأنه قال: ولا كفورا؛ قال
الشاعر:
لا وجد
ثكلى كما وجدت ولا وجد عجول أضلها ربع
أو وجد شيخ
أضل ناقته يوم توافى الحجيج فاندفعوا
أراد ولا
وجد شيخ. وقيل: الآثم المنافق، والكفور الكافر الذي يظهر الكفر؛ أي لا تطع منهم
آثما ولا كفورا. وهو قريب من قول الفراء.
قوله
تعالى: « واذكر
اسم ربك بكرة وأصيلا » أي صل
لربك أول النهار وآخره، ففي أوله صلاة الصبح وفي آخره صلاة الظهر والعصر. « ومن الليل فاسجد له » يعني صلاة المغرب والعشاء
الآخرة. « وسبحه
ليلا طويلا » يعني
التطوع في الليل؛ قاله ابن حبيب. وقال ابن عباس وسفيان: كل تسبيح في القرآن فهو
صلاة. وقيل: هو الذكر المطلق سواء كان في الصلاة أو في غيرها وقال ابن زيد وغيره:
إن قوله: « وسبحه
ليلا طويلا » منسوخ
بالصلوات الخمس وقيل: هو ندب. وقيل: هو مخصوص بالنبي صلى الله عليه وسلم. وقد تقدم
القول في مثله في سورة « المزمل » وقول ابن حبيب حسن. وجمع الأصيل:
الأصائل والأصل؛ كقولك سفائن وسفن؛ قال: ولا بأحسن منها إذ دنا الأصل وقال في
الأصائل، وهو جمع الجمع:
لعمري لأنت
البيت أكرم أهله وأقعد في أفيائه بالأصائل
وقد مضى في
آخر « الأعراف
» مستوفى.
ودخلت « من » على الظرف للتبعيض، كما دخلت على
المفعول في قوله تعالى: « يغفر لكم
ذنوبكم » [ الصف: 12 ] .
الآيات:
27 - 28 ( إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون
وراءهم يوما ثقيلا، نحن خلقناهم وشددنا أسرهم وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا )
قوله
تعالى: « إن هؤلاء
يحبون العاجلة » توبيخ
وتقريع؛ والمراد أهل مكة. والعجلة الدنيا « ويذرون » أي ويدعون
« وراءهم » أي بين أيديهم « يوما ثقيلا » أي عسيرا شديدا كما قال: « ثقلت في السموات والأرض » [ الأعراف: 187 ] . أي يتركون الإيمان بيوم
القيامة. وقيل: « ورائهم » أي خلفهم، أي ويذرون الآخرة خلف
ظهورهم، فلا يعملون لها. وقيل: « نزلت في
اليهود فيما كتموه من صفة الرسول صلى الله عليه وسلم وصحة نبوته. وحبهم العاجلة:
أخذهم الرشا على ما أراد المنافقين؛ لاستبطانهم الكفر وطلب الدنيا. والآية تعم.
واليوم الثقيل يوم القيامة. وإنما سمي ثقيلا لشدائده وأهواله. وقيل: للقضاء فيه
بين عباده.»
قوله
تعالى: « نحن
خلقناهم » أي من
طين. « وشددنا
أسرهم » أي خلقهم؛
قال ابن عباس ومجاهد وقتادة ومقاتل وغيرهم. والأسر الخلق؛ قال أبو عبيد: يقال فرس
شديد الأسر أي الخلق. ويقال أسره الله جل ثناؤه إذا شدد خلقه؛ قال لبيد:
ساهم الوجه
شديد أسره مشرف الحارك محبوك الكتد
وقال
الأخطل:
من كل
مجتنب شديد أسره سلس القياد تخاله مختالا
وقال أبو
هريرة والحسن والربيع: شددنا مفاصلهم وأوصالهم بعضها إلى بعض بالعروق والعصب. وقال
مجاهد في تفسير الأسر: هو الشرج، أي إذا خرج الغائط والبول تقبض الموضع. وقال ابن
زيد القوة. وقال ابن أحمر يصف فرسا:
يمشي
بأوظفة شداد أسرها صم السنابك لا تقي بالجدجد
واشتقاقه
من الأسار وهو القد الذي يشد به الأقتاب؛ يقال: أسرت القتب أسرا أي شددته وربطه؛
ويقال: ما أحسن أسر قتبه أي شده وربطه؛ ومنه قولهم: خذه بأسره إذا أرادوا أن
يقولوا هو لك كله؛ كأنهم أرادوا تعكيمه وشده لم يفتح ولم ينقص منه شيء. ومنه
الأسير، لأنه كان يكتف بالإسار. والكلام خرج مخرج الامتنان عليهم بالنعم حين
قابلوها بالمعصية. أي سويت خلقك وأحكمته بالقوي ثم أنت تكفر بي. « وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا
» قال ابن
عباس: يقول لو نشاء لأهلكناهم وجئنا بأطوع لله منهم. وعنه أيضا: لغيرنا محاسنهم
إلى أسمج الصور وأقبحها. كذلك روى الضحاك عنه. والأول رواه عنه أبو صالح.
الآيات:
29 - 31 ( إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى
ربه سبيلا، وما تشاؤون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما، يدخل من يشاء في
رحمته والظالمين أعد لهم عذابا أليما )
قوله
تعالى: « إن هذه » أي السورة « تذكرة » أي موعظة « فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا » أي طريقا موصلا إلى طاعته وطلب
مرضاته. وقيل: « سبيلا » أي وسيلة. وقيل وجهة وطريقا إلى
الجنة. والمعنى واحد. « وما
تشاؤون » أي الطاعة
والاستقامة واتخاذ السبيل إلى الله « إلا أن يشاء الله » فأخبر أن الأمر إليه سبحانه ليس إليهم، وأنه لا تنفذ مشيئة
أحد ولا تتقدم، إلا أن تتقدم مشيئته. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو « وما يشاؤون » بالياء على معنى الخبر عنهم.
والباقون بالتاء على معنى المخاطبة لله سبحانه.
وقيل: إن
الآية الأولى منسوخة بالثانية. والأشبه أنه ليس بنسخ، بل هو تبيين أن ذلك لا يكون
إلا بمشيئته. قال الفراء: « وما
تشاؤون إلا أن يشاء الله » جواب
لقوله: « فمن شاء
اتخذ إلى ربه سبيلا » ثم أخبرهم
أن الأمر ليس إليهم فقال: « وما
تشاؤون » ذلك
السبيل « إلا أن
يشاء الله » لكم. « إن الله كان عليما » بأعمالكم « حكيما » في أمره ونهيه لكم. وقد مضى في
غير موضع. « يدخل من
يشاء في رحمته » أي يدخله
الجنة راحما له «
والظالمين » أي ويعذب
الظالمين فنصبه بإضمار يعذب. قال الزجاج: نصب الظالمين لأن قبله منصوب؛ أي يدخل من
يشاء في رحمته ويعذب الظالمين أي المشركين ويكون « أعد لهم » تفسيرا
لهذا المضمر؛ كما قال الشاعر:
أصبحت لا
أحمل السلاح ولا أملك رأس البعير إن نفرا
والذئب
أخشاه إن مررت به وحدي وأخشى الرياح والمطرا
أي أخشى
الذئب أخشاه. قال الزجاج: والاختيار النصب وإن جاز الرفع؛ تقول: أعطيت زيدا وعمرا
أعددت له برا، فيختار النصب؛ أي وبررت عمرا أو أبر عمرا. وقوله في « الشورى » : « يدخل من يشاء في رحمته
والظالمون » [ الشورى: 8 ] ارتفع لأنه لم يذكر بعده فعل
يقع عليه فينصب في المعنى؛ فلم يجز العطف على المنصوب قبله فارتفع بالابتداء. وها
هنا قوله: « أعد لهم
عذابا » يدل على
ويعذب، فجاز النصب. وقرأ أبان بن عثمان « والظالمون » رفعا
بالابتداء والخبر « أعد لهم
» .
« عذابا
أليما » أي مؤلما
موجعا. وقد تقدم هذا في سورة « البقرة » وغيرها والحمد لله. ختمت السورة.