تفسير سورة فاطر
وهي مكية
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ
الْمَلائِكَةِ رُسُلا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي
الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 1 ) مَا
يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ
فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 2 ) .
يمدح الله تعالى نفسه الكريمة
المقدسة، على خلقه السماوات والأرض، وما اشتملتا عليه من المخلوقات، لأن ذلك دليل
على كمال قدرته، وسعة ملكه، وعموم رحمته، وبديع حكمته، وإحاطة علمه.
ولما ذكر الخلق، ذكر بعده ما
يتضمن الأمر، وهو: أنه ( جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ
رُسُلا ) في تدبير أوامره القدرية، ووسائط بينه وبين خلقه، في تبليغ
أوامره الدينية.
وفي ذكره أنه جعل الملائكة رسلا
ولم يستثن منهم أحدا، دليل على كمال طاعتهم لربهم وانقيادهم لأمره، كما قال تعالى:
لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ
ولما كانت الملائكة مدبرات بإذن
اللّه، ما جعلهم اللّه موكلين فيه، ذكر قوتهم على ذلك وسرعة سيرهم، بأن جعلهم (
أُولِي أَجْنِحَةٍ ) تطير بها، فتسرع بتنفيذ ما
أمرت به. ( مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ ) أي:
منهم من له جناحان وثلاثة وأربعة، بحسب ما اقتضته حكمته.
( يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا
يَشَاءُ ) أي: يزيد بعض مخلوقاته على بعض، في صفة خلقها، وفي القوة،
وفي الحسن، وفي زيادة الأعضاء المعهودة، وفي حسن الأصوات، ولذة النغمات.
( إِنَّ
اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) فقدرته
تعالى تأتي على ما يشاؤه، ولا يستعصي عليها شيء، ومن ذلك، زيادة مخلوقاته بعضها
على بعض.
ثم ذكر انفراده تعالى بالتدبير
والعطاء والمنع فقال: ( مَا يَفْتَحِ اللَّهُ
لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ ) من
رحمته عنهم ( فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ ) فهذا
يوجب التعلق باللّه تعالى، والافتقار إليه من جميع الوجوه، وأن لا يدعى إلا هو،
ولا يخاف ويرجى، إلا هو. ( وَهُوَ الْعَزِيزُ ) الذي
قهر الأشياء كلها ( الْحَكِيمُ ) الذي
يضع الأشياء مواضعها وينزلها منازلها.
يَا أَيُّهَا النَّاسُ
اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ
يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى
تُؤْفَكُونَ ( 3 ) .
يأمر تعالى، جميع الناس أن يذكروا نعمته عليهم، وهذا شامل
لذكرها بالقلب اعترافا، وباللسان ثناء، وبالجوارح انقيادا، فإن ذكر نعمه تعالى داع
لشكره، ثم نبههم على أصول النعم، وهي الخلق والرزق، فقال: ( هَلْ
مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ )
ولما كان من المعلوم أنه ليس أحد يخلق ويرزق إلا اللّه، نتج
من ذلك، أن كان ذلك دليلا على ألوهيته وعبوديته، ولهذا قال: ( لا
إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ) أي:
تصرفون عن عبادة الخالق الرازق لعبادة المخلوق المرزوق.
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ
كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ ( 4 ) .
(
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ ) يا أيها الرسول، فلك أسوة بمن
قبلك من المرسلين، ( فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ
مِنْ قَبْلِكَ ) فأهلك المكذبون، ونجى اللّه
الرسل وأتباعهم. ( وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ
الأمُورُ )
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ
وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا
يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ( 5 ) إِنَّ
الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ
لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ( 6 )
الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ( 7 ) .
يقول تعالى: ( يَا
أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ ) بالبعث
والجزاء على الأعمال، ( حَقٌّ ) أي: لا
شك فيه، ولا مرية، ولا تردد، قد دلت على ذلك الأدلة السمعية والبراهين العقلية،
فإذا كان وعده حقا، فتهيئوا له، وبادروا أوقاتكم الشريفة بالأعمال الصالحة، ولا
يقطعكم عن ذلك قاطع، ( فَلا تَغُرَّنَّكُمُ
الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ) بلذاتها وشهواتها ومطالبها
النفسية، فتلهيكم عما خلقتم له، ( وَلا
يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ) الذي
هو ( الشَّيْطَانُ ) الذي
هو عدوكم في الحقيقة ( فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ) أي:
لتكن منكم عداوته على بال، ولا تهملوا محاربته كل وقت، فإنه يراكم وأنتم لا ترونه،
وهو دائما لكم بالمرصاد.
(
إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ) هذا
غايته ومقصوده ممن تبعه، أن يهان غاية الإهانة بالعذاب الشديد.
ثم ذكر أن الناس انقسموا بحسب
طاعة الشيطان وعدمها إلى قسمين، وذكر جزاء كل منهما، فقال: (
الَّذِينَ كَفَرُوا ) أي: جحدوا ما جاءت به الرسل،
ودلت عليه الكتب ( لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ) في نار
جهنم، شديد في ذاته ووصفه، وأنهم خالدون فيها أبدا.
(
وَالَّذِينَ آمَنُوا ) بقلوبهم، بما دعا اللّه إلى
الإيمان به ( وَعَمِلُوا ) بمقتضى
ذلك الإيمان، بجوارحهم، الأعمال (
الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ )
لذنوبهم، يزول بها عنهم الشر والمكروه (
وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ) يحصل به المطلوب.
أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ
عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ
يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا
يَصْنَعُونَ ( 8 ) .
يقول تعالى: (
أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ ) عمله السيئ، القبيح، زينه له
الشيطان، وحسنه في عينه.
(
فَرَآهُ حَسَنًا ) أي: كمن هداه اللّه إلى
الصراط المستقيم والدين القويم، فهل يستوي هذا وهذا؟
فالأول: عمل السيئ، ورأى الحق
باطلا والباطل حقا.
والثاني: عمل الحسن، ورأى الحق
حقا، والباطل باطلا ولكن الهداية والإضلال بيد اللّه تعالى، (
فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ
نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ ) أي: على الضالين الذين زين
لهم سوء أعمالهم، وصدهم الشيطان عن الحق (
حَسَرَاتٍ ) فليس عليك إلا البلاغ، وليس عليك من هداهم شيء، والله [ هو
] الذي يجازيهم بأعمالهم. ( إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا
يَصْنَعُونَ )
وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ
الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا
بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ ( 9 ) .
يخبر تعالى عن كمال اقتداره،
وسعة جوده، وأنه ( أَرْسَلَ الرِّيَاحَ
فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ ) فأنزله
اللّه عليها ( فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا )
فحييت البلاد والعباد، وارتزقت
الحيوانات، ورتعت في تلك الخيرات، (
كَذَلِكَ ) الذي أحيا الأرض بعد موتها، ينشر الله الأموات من قبورهم،
بعدما مزقهم البلى، فيسوق إليهم مطرا، كما ساقه إلى الأرض الميتة، فينزله عليهم
فتحيا الأجساد والأرواح من القبور، ويأتون للقيام بين يدي الله ليحكم بينهم، ويفصل
بحكمه العدل.
مَنْ كَانَ يُرِيدُ
الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ
وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ
عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ ( 10 ) .
أي: يا من يريد العزة، اطلبها
ممن هي بيده، فإن العزة بيد اللّه، ولا تنال إلا بطاعته، وقد ذكرها بقوله: (
إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ ) من قراءة
وتسبيح وتحميد وتهليل وكل كلام حسن طيب، فيرفع إلى اللّه ويعرض عليه ويثني اللّه
على صاحبه بين الملأ الأعلى ( وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ ) من
أعمال القلوب وأعمال الجوارح ( يَرْفَعُهُ ) اللّه
تعالى إليه أيضا، كالكلم الطيب.
وقيل: والعمل الصالح يرفع الكلم
الطيب، فيكون رفع الكلم الطيب بحسب أعمال العبد الصالحة، فهي التي ترفع كلمه
الطيب، فإذا لم يكن له عمل صالح، لم يرفع له قول إلى اللّه تعالى، فهذه الأعمال
التي ترفع إلى اللّه تعالى، ويرفع اللّه صاحبها ويعزه.
وأما السيئات فإنها بالعكس، يريد
صاحبها الرفعة بها، ويمكر ويكيد ويعود ذلك عليه، ولا يزداد إلا إهانة ونزولا ولهذا
قال: ( والعمل الصالح يرفعه وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ
السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ) يهانون
فيه غاية الإهانة. ( وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ
يَبُورُ ) أي: يهلك ويضمحل، ولا يفيدهم شيئا، لأنه مكر بالباطل، لأجل
الباطل.
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ
تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ
أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا
يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ( 11 ) .
يذكر تعالى خلقه الآدمي، وتنقله في هذه الأطوار، من تراب إلى
نطفة وما بعدها.
( ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا
) أي: لم يزل ينقلكم، طورا بعد طور، حتى أوصلكم إلى أن كنتم
أزواجا، ذكرا يتزوج أنثى، ويراد بالزواج، الذرية والأولاد، فهو وإن كان النكاح من
الأسباب فيه، فإنه مقترن بقضاء اللّه وقدره، وعلمه، ( وَمَا
تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِهِ ) وكذلك
أطوار الآدمي، كلها بعلمه وقضائه.
( وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ
مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ ) أي:
عمر الذي كان معمرا عمرا طويلا ( إِلا ) بعلمه
تعالى، أو ما ينقص من عمر الإنسان الذي هو بصدد أن يصل إليه، لولا ما سلكه من
أسباب قصر العمر، كالزنا، وعقوق الوالدين، وقطيعة الأرحام، ونحو ذلك مما ذكر أنها
من أسباب قصر العمر.
والمعنى: أن طول العمر وقصره، بسبب وبغير سبب كله بعلمه
تعالى، وقد أثبت ذلك ( فِي كِتَابٍ ) حوى ما
يجري على العبد، في جميع أوقاته وأيام حياته.
( إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ
يَسِيرٌ ) أي: إحاطة علمه بتلك المعلومات الكثيرة، وإحاطة كتابه فيها،
فهذه ثلاثة أدلة من أدلة البعث والنشور، كلها عقلية، نبه اللّه عليها في هذه
الآيات: إحياء الأرض بعد موتها، وأن الذي أحياها سيحيي الموتى، وتنقل الآدمي في
تلك الأطوار.
فالذي أوجده ونقله، طبقا بعد طبق، وحالا بعد حال، حتى بلغ ما
قدر له، فهو على إعادته وإنشائه النشأة الأخرى أقدر، وهو أهون عليه، وإحاطة علمه
بجميع أجزاء العالم، العلوي والسفلي، دقيقها وجليلها، الذي في القلوب، والأجنة
التي في البطون، وزيادة الأعمار ونقصها، وإثبات ذلك كله في كتاب. فالذي كان هذا [
نعته ] يسيرا عليه، فإعادته للأموات أيسر وأيسر. فتبارك من كثر خيره، ونبه عباده
على ما فيه صلاحهم، في معاشهم ومعادهم.
وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ
هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ
تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى
الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
( 12 )
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ
الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ
لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ
قِطْمِيرٍ ( 13 ) إِنْ
تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ
وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ
( 14 ) .
هذا إخبار عن قدرته وحكمته
ورحمته، أنه جعل البحرين لمصالح العالم الأرضي كلهم، وأنه لم يسوِّ بينهما، لأن
المصلحة تقتضي أن تكون الأنهار عذبة فراتا، سائغا شرابها، لينتفع بها الشاربون
والغارسون والزارعون، وأن يكون البحر ملحا أجاجا، لئلا يفسد الهواء المحيط بالأرض
بروائح ما يموت في البحر من الحيوانات ولأنه ساكن لا يجري، فملوحته تمنعه من التغير،
ولتكون حيواناته أحسن وألذ، ولهذا قال: (
وَمِنْ كُلٍ ) من البحر الملح والعذب (
تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا ) وهو السمك المتيسر صيده في
البحر، ( وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا ) من
لؤلؤ ومرجان وغيرهما، مما يوجد في البحر، فهذه مصالح عظيمة للعباد.
ومن المصالح أيضا والمنافع في
البحر، أن سخره اللّه تعالى يحمل الفلك من السفن والمراكب، فتراها تمخر البحر
وتشقه، فتسلك من إقليم إلى إقليم آخر، ومن محل إلى محل، فتحمل السائرين وأثقالهم
وتجاراتهم، فيحصل بذلك من فضل اللّه وإحسانه شيء كثير، ولهذا قال: ( وَلِتَبْتَغُوا
مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )
ومن ذلك أيضا، إيلاجه تعالى
الليل بالنهار والنهار بالليل، يدخل هذا على هذا، وهذا على هذا، كلما أتى أحدهما
ذهب الآخر، ويزيد أحدهما وينقص الآخر، ويتساويان، فيقوم بذلك ما يقوم من مصالح
العباد في أبدانهم وحيواناتهم وأشجارهم وزروعهم.
وكذلك ما جعل اللّه في تسخير
الشمس والقمر، الضياء والنور، والحركة والسكون، وانتشار العباد في طلب فضله، وما
فيهما من تنضيج الثمار وتجفيف ما يجفف وغير ذلك مما هو من الضروريات، التي لو فقدت
لَلَحِقَ الناس الضرر.
وقوله: ( كُلٌّ
يَجْرِي لأجَلٍ مُسَمًّى ) أي: كل من الشمس والقمر،
يسيران في فلكهما ما شاء اللّه أن يسيرا، فإذا جاء الأجل، وقرب انقضاء الدنيا،
انقطع سيرهما، وتعطل سلطانهما، وخسف القمر، وكورت الشمس، وانتثرت النجوم.
فلما بين تعالى ما بيَّن من هذه
المخلوقات العظيمة، وما فيها من العبر الدالة على كماله وإحسانه، قال: (
ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ ) أي:
الذي انفرد بخلق هذه المذكورات وتسخيرها، هو الرب المألوه المعبود، الذي له الملك
كله.
(
وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ) من
الأوثان والأصنام ( مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ
) أي: لا يملكون شيئا، لا قليلا ولا كثيرا، حتى ولا القطمير
الذي هو أحقر الأشياء، وهذا من تنصيص النفي وعمومه، فكيف يُدْعَوْنَ، وهم غير
مالكين لشيء من ملك السماوات والأرض؟
ومع هذا ( إِنْ
تَدْعُوهُمْ ) لا يسمعوكم لأنهم ما بين جماد وأموات وملائكة مشغولين بطاعة
ربهم. ( وَلَوْ سَمِعُوا ) على
وجه الفرض والتقدير ( مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ ) لأنهم
لا يملكون شيئا، ولا يرضى أكثرهم بعبادة من عبده، ولهذا قال: (
وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ ) أي:
يتبرأون منكم، ويقولون: سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ
( وَلا
يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ) أي: لا أحد ينبئك، أصدق من
الله العليم الخبير، فاجزم بأن هذا الأمر، الذي نبأ به كأنه رَأْيُ عين، فلا تشك
فيه ولا تمتر. فتضمنت هذه الآيات، الأدلة والبراهين الساطعة، الدالة على أنه تعالى
المألوه المعبود، الذي لا يستحق شيئا من العبادة سواه، وأن عبادة ما سواه باطلة
متعلقة بباطل، لا تفيد عابده شيئا.
يَا أَيُّهَا النَّاسُ
أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ( 15 ) إِنْ
يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ( 16 )
وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ ( 17 ) وَلا
تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا
يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ
يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى
فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ( 18 ) .
يخاطب تعالى جميع الناس، ويخبرهم بحالهم ووصفهم، وأنهم فقراء
إلى اللّه من جميع الوجوه:
فقراء في إيجادهم، فلولا إيجاده إياهم، لم يوجدوا.
فقراء في إعدادهم بالقوى والأعضاء والجوارح، التي لولا إعداده
إياهم [ بها ] ، لما استعدوا لأي عمل كان.
فقراء في إمدادهم بالأقوات والأرزاق والنعم الظاهرة والباطنة،
فلولا فضله وإحسانه وتيسيره الأمور، لما حصل [ لهم ] من الرزق والنعم شيء.
فقراء في صرف النقم عنهم، ودفع المكاره، وإزالة الكروب
والشدائد. فلولا دفعه عنهم، وتفريجه لكرباتهم، وإزالته لعسرهم، لاستمرت عليهم
المكاره والشدائد.
فقراء إليه في تربيتهم بأنواع التربية، وأجناس التدبير.
فقراء إليه، في تألههم له، وحبهم له، وتعبدهم، وإخلاص العبادة
له تعالى، فلو لم يوفقهم لذلك، لهلكوا، وفسدت أرواحهم، وقلوبهم وأحوالهم.
فقراء إليه، في تعليمهم ما لا يعلمون، وعملهم بما يصلحهم،
فلولا تعليمه، لم يتعلموا، ولولا توفيقه، لم يصلحوا.
فهم فقراء بالذات إليه، بكل معنى، وبكل اعتبار، سواء شعروا
ببعض أنواع الفقر أم لم يشعروا، ولكن الموفق منهم، الذي لا يزال يشاهد فقره في كل
حال من أمور دينه ودنياه، ويتضرع له، ويسأله أن لا يكله إلى نفسه طرفة عين، وأن
يعينه على جميع أموره، ويستصحب هذا المعنى في كل وقت، فهذا أحرى بالإعانة التامة
من ربه وإلهه، الذي هو أرحم به من الوالدة بولدها.
( وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ
الْحَمِيدُ ) أي: الذي له الغنى التام من جميع الوجوه، فلا يحتاج إلى ما
يحتاج إليه خلقه، ولا يفتقر إلى شيء مما يفتقر إليه الخلق، وذلك لكمال صفاته،
وكونها كلها، صفات كمال، ونعوت وجلال.
ومن غناه تعالى، أن أغنى الخلق في الدنيا والآخرة، الحميد في
ذاته، وأسمائه، لأنها حسنى، وأوصافه، لكونها عليا، وأفعاله لأنها فضل وإحسان وعدل
وحكمة ورحمة، وفي أوامره ونواهيه، فهو الحميد على ما فيه، وعلى ما منه، وهو الحميد
في غناه [ الغني في حمده ] .
( إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ
وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ) يحتمل أن المراد: إن يشأ
يذهبكم أيها الناس ويأت بغيركم من الناس، أطوع للّه منكم، ويكون في هذا تهديد لهم
بالهلاك والإبادة، وأن مشيئته غير قاصرة عن ذلك.
ويحتمل أن المراد بذلك، إثبات البعث والنشور، وأن مشيئة اللّه
تعالى نافذة في كل شيء، وفي إعادتكم بعد موتكم خلقا جديدا، ولكن لذلك الوقت أجل
قدره اللّه، لا يتقدم عنه ولا يتأخر.
( وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ
بِعَزِيزٍ ) أي: بممتنع، ولا معجز له.
ويدل على المعنى الأخير، ما ذكره بعده في قوله: ( وَلا
تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) أي: في
يوم القيامة كل أحد يجازى بعمله، ولا يحمل أحد ذنب أحد. (
وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ ) أي: نفس مثقلة بالخطايا
والذنوب، تستغيث بمن يحمل عنها بعض أوزارها ( لا
يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ) فإنه
لا يحمل عن قريب، فليست حال الآخرة بمنزلة حال الدنيا، يساعد الحميم حميمه،
والصديق صديقه، بل يوم القيامة، يتمنى العبد أن يكون له حق على أحد، ولو على
والديه وأقاربه.
( إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ
يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ ) أي:
هؤلاء الذين يقبلون النذارة وينتفعون بها، أهل الخشية للّه بالغيب، أي: الذين
يخشونه في حال السر والعلانية، والمشهد والمغيب، وأهل إقامة الصلاة، بحدودها
وشروطها وأركانها وواجباتها وخشوعها، لأن الخشية للّه تستدعي من العبد العمل بما
يخشى من تضييعه العقاب، والهرب مما يخشى من ارتكابه العذاب، والصلاة تدعو إلى
الخير، وتنهى عن الفحشاء والمنكر.
( وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا
يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ ) أي: ومن زكى نفسه بالتنقِّي
من العيوب، كالرياء والكبر، والكذب والغش، والمكر والخداع والنفاق، ونحو ذلك من
الأخلاق الرذيلة، وتحلَّى بالأخلاق الجميلة، من الصدق، والإخلاص، والتواضع، ولين
الجانب، والنصح للعباد، وسلامة الصدر من الحقد والحسد وغيرهما من مساوئ الأخلاق،
فإن تزكيته يعود نفعها إليه، ويصل مقصودها إليه، ليس يضيع من عمله شيء.
( وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ) فيجازي
الخلائق على ما أسلفوه، ويحاسبهم على ما قدموه وعملوه، ولا يغادر صغيرة ولا كبيرة
إلا أحصاها.
وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى
وَالْبَصِيرُ ( 19 ) وَلا
الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ ( 20 ) وَلا
الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ ( 21 )
وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ
وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ( 22 ) إِنْ
أَنْتَ إِلا نَذِيرٌ ( 23 )
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلا
خَلا فِيهَا نَذِيرٌ ( 24 ) .
يخبر تعالى أنه لا يتساوى
الأضداد في حكمة اللّه، وفيما أودعه في فطر عباده. ( وَمَا
يَسْتَوِي الأعْمَى ) فاقد البصر (
وَالْبَصِيرُ وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ
وَمَا يَسْتَوِي الأحْيَاءُ وَلا الأمْوَاتُ ) فكما
أنه من المتقرر عندكم، الذي لا يقبل الشك، أن هذه المذكورات لا تتساوى، فكذلك
فلتعلموا أن عدم تساوي المتضادات المعنوية أولى وأولى.
فلا يستوي المؤمن والكافر، ولا
المهتدي والضال، ولا العالم والجاهل، ولا أصحاب الجنة وأصحاب النار، ولا أحياء
القلوب وأمواتها، فبين هذه الأشياء من التفاوت والفرق ما لا يعلمه إلا اللّه
تعالى، فإذا علمت المراتب، وميزت الأشياء، وبان الذي ينبغي أن يتنافس في تحصيله من
ضده، فليختر الحازم لنفسه، ما هو أولى به وأحقها بالإيثار.
( إِنَّ
اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ ) سماع فهم وقبول، لأنه تعالى
هو الهادي الموفق ( وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ
مَنْ فِي الْقُبُورِ ) أي: أموات القلوب، أو كما أن
دعاءك لا يفيد سكان القبور شيئا، كذلك لا يفيد المعرض المعاند شيئا، ولكن وظيفتك
النذارة، وإبلاغ ما أرسلت به، قبل منك أم لا.
ولهذا قال: ( إِنْ
أَنْتَ إِلا نَذِيرٌ * إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ ) أي
مجرد إرسالنا إياك بالحق لأن اللّه تعالى بعثك على حين فترة من الرسل وطموس من
السبل واندراس من العلم وضرورة عظيمة إلى بعثك فبعثك اللّه رحمة للعالمين
وكذلك ما بعثناك به من الدين
القويم والصراط المستقيم حق لا باطل وكذلك ما أرسلناك به من هذا القرآن العظيم وما
اشتمل عليه من الذكر الحكيم حق وصدق (
بَشِيرًا ) لمن أطاعك بثواب اللّه العاجل والآجل (
وَنَذِيرًا ) لمن عصاك بعقاب اللّه العاجل والآجل ولست ببدع من الرسل
فما ( مِنْ
أُمَّةٍ ) من الأمم الماضية والقرون الخالية ( إِلا
خَلا فِيهَا نَذِيرٌ ) يقيم عليهم حجة اللّه
لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ
كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ
وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ( 25 )
ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ( 26 ) .
أي: وإن يكذبك أيها الرسول،
هؤلاء المشركون، فلست أول رسول كذب، (
فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ
) الدالات على الحق، وعلى صدقهم فيما أخبروهم به، (
وَبالزُّبُرِ ) أي: الكتب المكتوبة، المجموع فيها كثير من الأحكام، (
وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ) أي: المضيء في أخباره
الصادقة، وأحكامه العادلة، فلم يكن تكذيبهم إياهم ناشئا عن اشتباه، أو قصور بما
جاءتهم به الرسل، بل بسبب ظلمهم وعنادهم.
( ثُمَّ
أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا ) بأنواع العقوبات (
فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ) عليهم؟ كان أشد النكير وأعظم
التنكيل، فإياكم وتكذيب هذا الرسول الكريم، فيصيبكم كما أصاب أولئك، من العذاب
الأليم والخزي الوخيم.
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ
أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا
أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا
وَغَرَابِيبُ سُودٌ ( 27 )
وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ
إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ
غَفُورٌ ( 28 ) .
يذكر تعالى خلقه للأشياء
المتضادات، التي أصلها واحد، ومادتها واحدة، وفيها من التفاوت والفرق ما هو مشاهد
معروف، ليدل العباد على كمال قدرته وبديع حكمته.
فمن ذلك: أن اللّه تعالى أنزل
من السماء ماء، فأخرج به من الثمرات المختلفات، والنباتات المتنوعات، ما هو مشاهد
للناظرين، والماء واحد، والأرض واحدة.
ومن ذلك: الجبال التي جعلها
اللّه أوتادا للأرض، تجدها جبالا مشتبكة، بل جبلا واحدا، وفيها ألوان متعددة، فيها
جدد بيض، أي: طرائق بيض، وفيها طرائق صفر وحمر، وفيها غرابيب سود، أي: شديدة
السواد جدا.
ومن ذلك: الناس والدواب،
والأنعام، فيها من اختلاف الألوان والأوصاف والأصوات والهيئات، ما هو مرئي
بالأبصار، مشهود للنظار، والكل من أصل واحد ومادة واحدة.
فتفاوتها دليل عقلي على مشيئة
اللّه تعالى، التي خصصت ما خصصت منها، بلونه، ووصفه، وقدرة اللّه تعالى حيث أوجدها
كذلك، وحكمته ورحمته، حيث كان ذلك الاختلاف، وذلك التفاوت، فيه من المصالح
والمنافع، ومعرفة الطرق، ومعرفة الناس بعضهم بعضا، ما هو معلوم.
وذلك أيضا، دليل على سعة علم
اللّه تعالى، وأنه يبعث من في القبور، ولكن الغافل ينظر في هذه الأشياء وغيرها نظر
غفلة لا تحدث له التذكر، وإنما ينتفع بها من يخشى اللّه تعالى، ويعلم بفكره الصائب
وجه الحكمة فيها.
ولهذا قال: (
إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ) فكل من
كان باللّه أعلم، كان أكثر له خشية، وأوجبت له خشية اللّه، الانكفاف عن المعاصي،
والاستعداد للقاء من يخشاه، وهذا دليل على فضيلة العلم، فإنه داع إلى خشية اللّه،
وأهل خشيته هم أهل كرامته، كما قال تعالى: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا
عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ
( إِنَّ
اللَّهَ عَزِيزٌ ) كامل العزة، ومن عزته خلق هذه
المخلوقات المتضادات.
(
غَفُورٌ ) لذنوب التائبين.
إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ
كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا
وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ ( 29 )
لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ
( 30 ) .
( إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ
اللَّهِ ) أي: يتبعونه في أوامره فيمتثلونها، وفي نواهيه فيتركونها،
وفي أخباره، فيصدقونها ويعتقدونها، ولا يقدمون عليه ما خالفه من الأقوال، ويتلون
أيضا ألفاظه، بدراسته، ومعانيه، بتتبعها واستخراجها.
ثم خص من التلاوة بعد ما عم، الصلاة التي هي عماد الدين، ونور
المسلمين، وميزان الإيمان، وعلامة صدق الإسلام، والنفقة على الأقارب والمساكين
واليتامى وغيرهم، من الزكاة والكفارات والنذور والصدقات. (
سِرًّا وَعَلانِيَةً ) في جميع الأوقات.
( يَرْجُونَ ) [ بذلك
] ( تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ ) أي: لن
تكسد وتفسد، بل تجارة، هي أجل التجارات وأعلاها وأفضلها، ألا وهي رضا ربهم، والفوز
بجزيل ثوابه، والنجاة من سخطه وعقابه، وهذا فيه أنهم يخلصون بأعمالهم، وأنهم لا
يرجون بها من المقاصد السيئة والنيات الفاسدة شيئا.
وذكر أنهم حصل لهم ما رجوه فقال: (
لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ ) أي: أجور أعمالهم، على حسب
قلتها وكثرتها، وحسنها وعدمه، ( وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ
) زيادة عن أجورهم. (
إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ) غفر لهم السيئات، وقبل منهم
القليل من الحسنات.
وَالَّذِي أَوْحَيْنَا
إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ
اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ ( 31 )
ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ
ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ
بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ( 32 )
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ
وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ( 33 )
وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا
لَغَفُورٌ شَكُورٌ ( 34 )
الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ
وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ ( 35 ) .
يذكر تعالى أن الكتاب الذي
أوحاه إلى رسوله ( هُوَ الْحَقُّ ) من
كثرة ما اشتمل عليه من الحق، كأن الحق منحصر فيه، فلا يكن في قلوبكم حرج منه، ولا
تتبرموا منه، ولا تستهينوا به، فإذا كان هو الحق، لزم أن كل ما دل عليه من المسائل
الإلهية والغيبية وغيرها، مطابق لما في الواقع، فلا يجوز أن يراد به ما يخالف
ظاهره وما دل عليه.
( مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ
يَدَيْهِ ) من الكتب والرسل، لأنها أخبرت به، فلما وجد وظهر، ظهر به
صدقها. فهي بشرت به وأخبرت، وهو صدقها، ولهذا لا يمكن أحدا أن يؤمن بالكتب
السابقة، وهو كافر بالقرآن أبدا، لأن كفره به، ينقض إيمانه بها، لأن من جملة
أخبارها الخبر عن القرآن، ولأن أخبارها مطابقة لأخبار القرآن.
( إِنَّ
اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ ) فيعطي
كل أمة وكل شخص، ما هو اللائق بحاله. ومن ذلك، أن الشرائع السابقة لا تليق إلا
بوقتها وزمانها، ولهذا، ما زال اللّه يرسل الرسل رسولا بعد رسول، حتى ختمهم بمحمد
صلى اللّه عليه وسلم، فجاء بهذا الشرع، الذي يصلح لمصالح الخلق إلى يوم القيامة،
ويتكفل بما هو الخير في كل وقت.
ولهذا، لما كانت هذه الأمة أكمل
الأمم عقولا وأحسنهم أفكارا، وأرقهم قلوبا، وأزكاهم أنفسا، اصطفاهم الله تعالى،
واصطفى لهم دين الإسلام، وأورثهم الكتاب المهيمن على سائر الكتب، ولهذا قال: ( ثُمَّ
أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ) وهم
هذه الأمة. ( فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ )
بالمعاصي، [ التي ] هي دون الكفر. (
وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ ) مقتصر على ما يجب عليه، تارك
للمحرم. ( وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ ) أي:
سارع فيها واجتهد، فسبق غيره، وهو المؤدي للفرائض، المكثر من النوافل، التارك
للمحرم والمكروه.
فكلهم اصطفاه اللّه تعالى،
لوراثة هذا الكتاب، وإن تفاوتت مراتبهم، وتميزت أحوالهم، فلكل منهم قسط من وراثته،
حتى الظالم لنفسه، فإن ما معه من أصل الإيمان، وعلوم الإيمان، وأعمال الإيمان، من
وراثة الكتاب، لأن المراد بوراثة الكتاب، وراثة علمه وعمله، ودراسة ألفاظه،
واستخراج معانيه.
وقوله (
بِإِذْنِ اللَّهِ ) راجع إلى السابق إلى الخيرات،
لئلا يغتر بعمله، بل ما سبق إلى الخيرات إلا بتوفيق اللّه تعالى ومعونته، فينبغي
له أن يشتغل بشكر اللّه تعالى على ما أنعم به عليه.
(
ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ) أي:
وراثة الكتاب الجليل، لمن اصطفى تعالى من عباده، هو الفضل الكبير، الذي جميع النعم
بالنسبة إليه، كالعدم، فأجل النعم على الإطلاق، وأكبر الفضل، وراثة هذا الكتاب.
ثم ذكر جزاء الذين أورثهم كتابه
فقال: ( جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا ) أي:
جنات مشتملات على الأشجار، والظل، والظليل، والحدائق الحسنة، والأنهار المتدفقة،
والقصور العالية، والمنازل المزخرفة، في أبد لا يزول، وعيش لا ينفد.
والعدن «
الإقامة » فجنات عدن أي: جنات إقامة، أضافها للإقامة، لأن الإقامة
والخلود وصفها ووصف أهلها.
( يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ
أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ ) وهو الحلي الذي يجعل في
اليدين، على ما يحبون، ويرون أنه أحسن من غيره، الرجال والنساء في الحلية في الجنة
سواء.
( و ) يحلون
فيها ( لُؤْلُؤًا ) ينظم في
ثيابهم وأجسادهم. ( وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا
حَرِيرٌ ) من سندس، ومن إستبرق أخضر.
( و ) لما تم
نعيمهم، وكملت لذتهم ( قَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ) وهذا
يشمل كل حزن، فلا حزن يعرض لهم بسبب نقص في جمالهم، ولا في طعامهم وشرابهم، ولا في
لذاتهم ولا في أجسادهم، ولا في دوام لبثهم، فهم في نعيم ما يرون عليه مزيدا، وهو
في تزايد أبد الآباد.
( إِنَّ
رَبَّنَا لَغَفُورٌ ) حيث غفر لنا الزلات (
شَكُورٌ ) حيث قبل منا الحسنات وضاعفها، وأعطانا من فضله ما لم تبلغه
أعمالنا ولا أمانينا، فبمغفرته نجوا من كل مكروه ومرهوب، وبشكره وفضله حصل لهم كل
مرغوب محبوب.
(
الَّذِي أَحَلَّنَا ) أي: أنزلنا نزول حلول
واستقرار، لا نزول معبر واعتبار. ( دَارَ
الْمُقَامَةِ ) أي: الدار التي تدوم فيها الإقامة، والدار التي يرغب في
المقام فيها، لكثرة خيراتها، وتوالي مسراتها، وزوال كدوراتها، وذلك الإحلال ( مِنْ
فَضْلِهِ ) علينا وكرمه، لا بأعمالنا، فلولا فضله، لما وصلنا إلى ما
وصلنا إليه.
( لا
يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ ) أي: لا
تعب في الأبدان ولا في القلب والقوى، ولا في كثرة التمتع، وهذا يدل على أن اللّه
تعالى يجعل أبدانهم في نشأة كاملة، ويهيئ لهم من أسباب الراحة على الدوام، ما
يكونون بهذه الصفة، بحيث لا يمسهم نصب ولا لغوب، ولا هم ولا حزن.
ويدل على أنهم لا ينامون في
الجنة، لأن النوم فائدته زوال التعب، وحصول الراحة به، وأهل الجنة بخلاف ذلك،
ولأنه موت أصغر، وأهل الجنة لا يموتون، جعلنا اللّه منهم، بمنه وكرمه.
وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ
نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ
عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ ( 36 )
وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ
الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ
تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ ( 37 ) .
لما ذكر تعالى حال أهل الجنة
ونعيمهم، ذكر حال أهل النار وعذابهم فقال: (
وَالَّذِينَ كَفَرُوا ) أي: جحدوا ما جاءتهم به رسلهم
من الآيات، وأنكروا لقاء ربهم.
(
لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ ) يعذبون فيها أشد العذاب،
وأبلغ العقاب. ( لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ ) بالموت
( فَيَمُوتُوا )
فيستريحوا، ( وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا ) فشدة
العذاب وعظمه، مستمر عليهم في جميع الآنات واللحظات.
(
كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا ) أي:
يصرخون ويتصايحون ويستغيثون ويقولون: (
رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ )
فاعترفوا بذنبهم، وعرفوا أن اللّه عدل فيهم، ولكن سألوا الرجعة في غير وقتها،
فيقال لهم: ( أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا ) أي:
دهرا وعمرا ( يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ ) أي:
يتمكن فيه من أراد التذكر من العمل، متعناكم في الدنيا، وأدررنا عليكم الأرزاق،
وقيضنا لكم أسباب الراحة، ومددنا لكم في العمر، وتابعنا عليكم الآيات، وأوصلنا
إليكم النذر، وابتليناكم بالسراء والضراء، لتنيبوا إلينا وترجعوا إلينا، فلم ينجع
فيكم إنذار، ولم تفد فيكم موعظة، وأخرنا عنكم العقوبة، حتى إذا انقضت آجالكم، وتمت
أعماركم، ورحلتم عن دار الإمكان، بأشر الحالات، ووصلتم إلى هذه الدار دار الجزاء
على الأعمال، سألتم الرجعة؟ هيهات هيهات، فات وقت الإمكان، وغضب عليكم الرحيم
الرحمن، واشتد عليكم عذاب النار، ونسيكم أهل الجنة، فامكثوا فيها خالدين مخلدين،
وفي العذاب مهانين، ولهذا قال: ( فَذُوقُوا فَمَا
لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ ) ينصرهم فيخرجهم منها، أو يخفف
عنهم من عذابها.
إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ( 38 ) .
لما ذكر تعالى جزاء أهل الدارين، وذكر أعمال الفريقين، أخبر
تعالى عن سعة علمه تعالى، واطلاعه على غيب السماوات والأرض، التي غابت عن أبصار
الخلق وعن علمهم، وأنه عالم بالسرائر، وما تنطوي عليه الصدور من الخير والشر
والزكاء وغيره، فيعطي كلا ما يستحقه، وينزل كل أحد منزلته.
هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ
خَلائِفَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ
كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلا مَقْتًا وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ
إِلا خَسَارًا ( 39 ) .
يخبر تعالى عن كمال حكمته
ورحمته بعباده، أنه قدر بقضائه السابق، أن يجعل بعضهم يخلف بعضا في الأرض، ويرسل
لكل أمة من الأمم النذر، فينظر كيف يعملون، فمن كفر باللّه وبما جاءت به رسله، فإن
كفره عليه، وعليه إثمه وعقوبته، ولا يحمل عنه أحد، ولا يزداد الكافر بكفره إلا مقت
ربه له وبغضه إياه، وأي: عقوبة أعظم من مقت الرب الكريم؟!
( وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ
كُفْرُهُمْ إِلا خَسَارًا ) أي: يخسرون أنفسهم وأهليهم وأعمالهم
ومنازلهم في الجنة، فالكافر لا يزال في زيادة من الشقاء والخسران، والخزي عند
اللّه وعند خلقه والحرمان.
قُلْ أَرَأَيْتُمْ
شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا
مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا
فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا
إِلا غُرُورًا ( 40 ) .
يقول تعالى مُعجِّزًا لآلهة
المشركين، ومبينا نقصها، وبطلان شركهم من جميع الوجوه.
( قُلْ ) يا
أيها الرسول لهم: ( أَرَأَيْتُمْ ) أي:
أخبروني عن شركائكم ( الذين تدعون من دون الله ) هل هم
مستحقون للدعاء والعبادة، فـ ( أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا [
مِنَ الأرْضِ ) هل خلقوا بحرا أم خلقوا جبالا أو خلقوا ] حيوانا، أو خلقوا
جمادا؟ سيقرون أن الخالق لجميع الأشياء، هو اللّه تعالى، أَمْ لشركائكم شِرْكٌة ( فِي
السَّمَاوَاتِ ) في خلقها وتدبيرها؟ سيقولون:
ليس لهم شركة.
فإذا لم يخلقوا شيئا، ولم
يشاركوا الخالق في خلقه، فلم عبدتموهم ودعوتموهم مع إقراركم بعجزهم؟ فانتفى الدليل
العقلي على صحة عبادتهم، ودل على بطلانها.
ثم ذكر الدليل السمعي، وأنه
أيضا منتف، فلهذا قال: ( أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا ) يتكلم
بما كانوا به يشركون، يأمرهم بالشرك وعبادة الأوثان. (
فَهُمْ ) في شركهم ( عَلَى
بَيِّنَةٍ ) من ذلك الكتاب الذي نزل عليهم في صحة الشرك؟
ليس الأمر كذلك؟ فإنهم ما نزل
عليهم كتاب قبل القرآن، ولا جاءهم نذير قبل رسول اللّه محمد صلى اللّه عليه وسلم،
ولو قدر نزول كتاب إليهم، وإرسال رسول إليهم، وزعموا أنه أمرهم بشركهم، فإنا نجزم
بكذبهم، لأن اللّه قال: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي
إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ فالرسل والكتب، كلها متفقة
على الأمر بإخلاص الدين للّه تعالى، وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ
مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ
فإن قيل: إذا كان الدليل
العقلي، والنقلي قد دلا على بطلان الشرك، فما الذي حمل المشركين على الشرك، وفيهم
ذوو العقول والذكاء والفطنة؟
أجاب تعالى بقوله: ( بَلْ
إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلا غُرُورًا ) أي:
ذلك الذي مشوا عليه، ليس لهم فيه حجة، فإنما ذلك توصية بعضهم لبعض به، وتزيين
بعضهم لبعض، واقتداء المتأخر بالمتقدم الضال، وأمانيّ مَنَّاها الشيطان، وزين لهم
[ سوء ] أعمالهم، فنشأت في قلوبهم، وصارت صفة من صفاتها، فعسر زوالها، وتعسر
انفصالها، فحصل ما حصل من الإقامة على الكفر والشرك الباطل المضمحل.
إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ
أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ( 41 ) .
يخبر تعالى عن كمال قدرته،
وتمام رحمته، وسعة حلمه ومغفرته، وأنه تعالى يمسك السماوات والأرض عن الزوال،
فإنهما لو زالتا ما أمسكهما أحد من الخلق، ولعجزت قدرهم وقواهم عنهما.
ولكنه تعالى، قضى أن يكونا كما
وجدا، ليحصل للخلق القرار، والنفع، والاعتبار، وليعلموا من عظيم سلطانه وقوة
قدرته، ما به تمتلئ قلوبهم له إجلالا وتعظيما، ومحبة وتكريما، وليعلموا كمال حلمه
ومغفرته، بإمهال المذنبين، وعدم معالجته للعاصين، مع أنه لو أمر السماء لحصبتهم،
ولو أذن للأرض لابتلعتهم، ولكن وسعتهم مغفرته، وحلمه، وكرمه (
إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا )
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ
جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى
الأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلا نُفُورًا ( 42 )
اسْتِكْبَارًا فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ
السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا سُنَّتَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ
تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلا ( 43 ) .
أي وأقسم هؤلاء، الذين كذبوك يا
رسول اللّه، قسما اجتهدوا فيه بالأيمان الغليظة. (
لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأمَمِ ) أي:
أهدى من اليهود والنصارى [ أهل الكتب ] ، فلم يفوا بتلك الإقسامات والعهود.
(
فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ ) لم يهتدوا، ولم يصيروا أهدى
من إحدى الأمم، بل لم يدوموا على ضلالهم الذي كان، بل ( مَا
زَادَهُمْ ) ذلك ( إِلا نُفُورًا ) وزيادة
ضلال وبغي وعناد.
وليس إقسامهم المذكور، لقصد
حسن، وطلب للحق، وإلا لوفقوا له، ولكنه صادر عن استكبار في الأرض على الخلق، وعلى
الحق، وبهرجة في كلامهم هذا، يريدون به المكر والخداع، وأنهم أهل الحق، الحريصون
على طلبه، فيغتر به المغترون، ويمشي خلفهم المقتدون.
( وَلا
يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ ) الذي مقصوده مقصود سيئ، ومآله
وما يرمي إليه سيئ باطل ( إِلا بِأَهْلِهِ ) فمكرهم
إنما يعود عليهم، وقد أبان اللّه لعباده في هذه المقالات وتلك الإقسامات، أنهم
كذبة في ذلك مزورون، فاستبان خزيهم، وظهرت فضيحتهم، وتبين قصدهم السيئ، فعاد مكرهم
في نحورهم، ورد اللّه كيدهم في صدورهم.
فلم يبق لهم إلا انتظار ما يحل
بهم من العذاب، الذي هو سنة اللّه في الأولين، التي لا تبدل ولا تغير، أن كل من
سار في الظلم والعناد والاستكبار على العباد، أن يحل به نقمته، وتسلب عنه نعمته،
فَلْيَتَرَّقب هؤلاء، ما فعل بأولئك.
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي
الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا
أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي
السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا ( 44 ) .
يحض تعالى على السير في الأرض، في القلوب والأبدان، للاعتبار،
لا لمجرد النظر والغفلة، وأن ينظروا إلى عاقبة الذين من قبلهم ممن كذبوا الرسل،
وكانوا أكثر منهم أموالا وأولادا وأشد قوة، وعمروا الأرض أكثر مما عمرها هؤلاء،
فلما جاءهم العذاب، لم تنفعهم قوتهم، ولم تغن عنهم أموالهم ولا أولادهم من اللّه
شيئا، ونفذت فيهم قدرة اللّه ومشيئته.
( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ
مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ ) لكمال
علمه وقدرته ( إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا ) .
وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ
النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ
يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ
كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا ( 45 ) .
ثم ذكر تعالى كمال حلمه، وشدة
إمهاله وإنظاره أرباب الجرائم والذنوب، فقال: (
وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا ) من
الذنوب ( مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ ) أي: لاستوعبت
العقوبة، حتى الحيوانات غير المكلفة.
( وَلَكِنْ ) يمهلهم
تعالى ولا يهملهم و ( يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ
مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا )
فيجازيهم بحسب ما علمه منهم، من خير وشر.
تم تفسير سورة فاطر، والحمد
للّه رب العالمين