تفسير سورة اقتربت
مكية
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ( 1 )
وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ ( 2 ) وَكَذَّبُوا
وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ ( 3 )
وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ ( 4 )
حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ ( 5 ) .
يخبر تعالى أن الساعة وهي
القيامة اقتربت وآن أوانها، وحان وقت مجيئها، ومع ذلك، فهؤلاء المكذبون لم يزالوا
مكذبين بها، غير مستعدين لنزولها، ويريهم الله من الآيات العظيمة الدالة على
وقوعها ما يؤمن على مثله البشر، فمن أعظم الآيات الدالة على صحة ما جاء به محمد بن
عبد الله صلى الله عليه وسلم، أنه لما طلب منه المكذبون أن يريهم من خوارق العادات
ما يدل على [ صحة ما جاء به و ] صدقه، أشار صلى الله عليه وسلم إلى القمر بإذن
الله تعالى، فانشق فلقتين، فلقة على جبل أبي قبيس، وفلقة على جبل قعيقعان،
والمشركون وغيرهم يشاهدون هذه الآية الكبرى الكائنة في العالم العلوي، التي لا
يقدر الخلق على التمويه بها والتخييل.
فشاهدوا أمرا ما رأوا مثله، بل
ولم يسمعوا أنه جرى لأحد من المرسلين قبله نظيره، فانبهروا لذلك، ولم يدخل الإيمان
في قلوبهم، ولم يرد الله بهم خيرا، ففزعوا إلى بهتهم وطغيانهم، وقالوا: سحرنا
محمد، ولكن علامة ذلك أنكم تسألون من قدم إليكم من السفر، فإنه وإن قدر على سحركم،
لا يقدر أن يسحر من ليس مشاهدا مثلكم، فسألوا كل من قدم، فأخبرهم بوقوع ذلك،
فقالوا: ( سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ ) سحرنا
محمد وسحر غيرنا، وهذا من البهت، الذي لا يروج إلا على أسفه الخلق وأضلهم عن الهدى
والعقل، وهذا ليس إنكارا منهم لهذه الآية وحدها، بل كل آية تأتيهم، فإنهم مستعدون
لمقابلتها بالباطل والرد لها، ولهذا قال: (
وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا ) ولم
يعد الضمير على انشقاق القمر فلم يقل: وإن يروها بل قال: (
وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا ) وليس
قصدهم اتباع الحق والهدى، وإنما قصدهم اتباع الهوى، ولهذا قال: (
وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ) كقوله
تعالى: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ
أَهْوَاءَهُمْ فإنه لو كان قصدهم اتباع الهدى، لآمنوا قطعا، واتبعوا محمدا صلى
الله عليه وسلم، لأنه أراهم الله على يديه من البينات والبراهين والحجج القواطع،
ما دل على جميع المطالب الإلهية، والمقاصد الشرعية، (
وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ ) أي: إلى الآن، لم يبلغ الأمر
غايته ومنتهاه، وسيصير الأمر إلى آخره، فالمصدق يتقلب في جنات النعيم، ومغفرة الله
ورضوانه، والمكذب يتقلب في سخط الله وعذابه، خالدا مخلدا أبدا.
وقال تعالى - مبينا أنهم ليس
لهم قصد صحيح، ولا اتباع للهدى- : (
وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الأنْبَاءِ ) أي:
الأخبار السابقة واللاحقة والمعجزات الظاهرة ( مَا
فِيهِ مُزْدَجَرٌ ) أي: زاجر يزجرهم عن غيهم
وضلالهم، وذلك ( حِكْمَةٌ ) منه
تعالى ( بَالِغَةٌ ) أي:
لتقوم حجته على المخالفين ولا يبقى لأحد على الله حجة بعد الرسل، ( فَمَا
تُغْنِ النُّذُرُ ) كقوله تعالى: وَلَوْ
جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ لا يؤمنوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ
يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ ( 6 ) .
يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: قد بان أن المكذبين لا
حيلة في هداهم، فلم يبق إلا الإعراض عنهم والتولي عنهم، [ فقال: ] (
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ ) وانتظر بهم يوما عظيما وهولا
جسيما، وذلك حين ( يدع الداع )
إسرافيل عليه السلام ( إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ ) أي:
إلى أمر فظيع تنكره الخليقة، فلم تر منظرا أفظع ولا أوجع منه، فينفخ إسرافيل نفخة،
يخرج بها الأموات من قبورهم لموقف القيامة .
خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ
يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ ( 7 )
مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ ( 8 ) .
(
خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ ) أي: من الهول والفزع الذي وصل
إلى قلوبهم، فخضعت وذلت، وخشعت لذلك أبصارهم.
( يَخْرُجُونَ مِنَ الأجْدَاثِ
) وهي القبور، (
كَأَنَّهُمْ ) من كثرتهم، وروجان بعضهم ببعض ( جَرَادٌ
مُنْتَشِرٌ ) أي: مبثوث في الأرض، متكاثر جدا، (
مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ ) أي: مسرعين لإجابة النداء
الداعي وهذا يدل على أن الداعي يدعوهم ويأمرهم بالحضور لموقف القيامة، فيلبون
دعوته، ويسرعون إلى إجابته، ( يَقُولُ الْكَافِرُونَ ) الذين
قد حضر عذابهم: ( هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ ) كما
قال تعالى عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ [ مفهوم ذلك أنه يسير سهل على
المؤمنين ] .
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ
نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ ( 9 )
فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ ( 10 )
فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ ( 11 )
وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ( 12 )
وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ ( 13 )
تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ ( 14 )
وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ( 15 )
فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ ( 16 )
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ( 17 ) .
لما ذكر تبارك وتعالى حال
المكذبين لرسوله، وأن الآيات لا تنفع فيهم، ولا تجدي عليهم شيئا، أنذرهم وخوفهم
بعقوبات الأمم الماضية المكذبة للرسل، وكيف أهلكهم الله وأحل بهم عقابه.
فذكر قوم نوح، أول رسول بعثه
الله إلى قوم يعبدون الأصنام، فدعاهم إلى توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له،
فامتنعوا من ترك الشرك وقالوا: لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا
وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا
ولم يزل نوح يدعوهم إلى الله
ليلا ونهارا، وسرا وجهارا، فلم يزدهم ذلك إلا عنادا وطغيانا، وقدحا في نبيهم،
ولهذا قال هنا: ( فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا
وَقَالُوا مَجْنُونٌ ) لزعمهم أن ما هم عليه وآباؤهم
من الشرك والضلال هو الذي يدل عليه العقل، وأن ما جاء به نوح عليه الصلاة والسلام
جهل وضلال، لا يصدر إلا من المجانين، وكذبوا في ذلك، وقلبوا الحقائق الثابتة شرعا
وعقلا فإن ما جاء به هو الحق الثابت، الذي يرشد العقول النيرة المستقيمة، إلى
الهدى والنور والرشد، وما هم عليه جهل وضلال مبين، [ وقوله: ] (
وَازْدُجِرَ ) أي: زجره قومه وعنفوه عندما دعاهم إلى الله تعالى، فلم
يكفهم - قبحهم الله- عدم الإيمان به، ولا تكذيبهم إياه، حتى أوصلوا إليه من أذيتهم
ما قدروا عليه، وهكذا جميع أعداء الرسل، هذه حالهم مع أنبيائهم.
فعند ذلك دعا نوح ربه [ فقال: ]
( أَنِّي مَغْلُوبٌ ) لا
قدرة لي على الانتصار منهم، لأنه لم يؤمن من قومه إلا القليل النادر، ولا قدرة لهم
على مقاومة قومهم، ( فَانْتَصِرْ ) اللهم
لي منهم، وقال في الآية الأخرى: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ
الْكَافِرِينَ دَيَّارًا الآيات .
فأجاب الله سؤاله، وانتصر له من
قومه، قال تعالى: ( فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ
السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ ) أي: كثير جدا متتابع .
( وَفَجَّرْنَا الأرْضَ
عُيُونًا ) فجعلت السماء ينزل منها من الماء شيء خارق للعادة، وتفجرت
الأرض كلها، حتى التنور الذي لم تجر العادة بوجود الماء فيه، فضلا عن كونه منبعا
للماء، لأنه موضع النار.
(
فَالْتَقَى الْمَاءُ ) أي: ماء السماء والأرض ( عَلَى
أَمْرٍ ) من الله له بذلك، ( قَدْ
قُدِرَ ) أي: قد كتبه الله في الأزل وقضاه، عقوبة لهؤلاء الظالمين
الطاغين .
( وَحَمَلْنَاهُ
عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ ) أي: ونجينا عبدنا نوحا على
السفينة ذات الألواح والدسر أي: المسامير [ التي ] قد سمرت [ بها ] ألواحها وشد
بها أسرها .
(
تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا ) أي: تجري بنوح ومن آمن معه،
ومن حمله من أصناف المخلوقات برعاية من الله، وحفظ [ منه ] لها عن الغرق [ ونظر ]
، وكلائه منه تعالى، وهو نعم الحافظ الوكيل، (
جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ ) أي: فعلنا بنوح ما فعلنا من
النجاة من الغرق العام، جزاء له حيث كذبه قومه وكفروا به فصبر على دعوتهم، واستمر
على أمر الله، فلم يرده عنه راد، ولا صده عنه صاد، كما قال [ تعالى ] عنه في الآية
الأخرى: قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى
أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ الآية.
ويحتمل أن المراد: أنا أهلكنا
قوم نوح، وفعلنا بهم ما فعلنا من العذاب والخزي، جزاء لهم على كفرهم وعنادهم، وهذا
متوجه على قراءة من قرأها بفتح الكاف .
(
وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ) أي:
ولقد تركنا قصة نوح مع قومه آية يتذكر بها المتذكرون، على أن من عصى الرسل وعاندهم
أهلكه الله بعقاب عام شديد، أو أن الضمير يعود إلى السفينة وجنسها، وأن أصل صنعتها
تعليم من الله لعبده نوح عليه السلام، ثم أبقى الله تعالى صنعتها وجنسها بين الناس
ليدل ذلك على رحمته بخلقه وعنايته، وكمال قدرته، وبديع صنعته، (
فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ) ؟ أي: فهل من متذكر للآيات،
ملق ذهنه وفكرته لما يأتيه منها، فإنها في غاية البيان واليسر؟
(
فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ ) أي:
فكيف رأيت أيها المخاطب عذاب الله الأليم وإنذاره الذي لا يبقي لأحد عليه حجة.
(
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ) أي:
ولقد يسرنا وسهلنا هذا القرآن الكريم، ألفاظه للحفظ والأداء، ومعانيه للفهم
والعلم، لأنه أحسن الكلام لفظا، وأصدقه معنى، وأبينه تفسيرا، فكل من أقبل عليه يسر
الله عليه مطلوبه غاية التيسير، وسهله عليه، والذكر شامل لكل ما يتذكر به العاملون
من الحلال والحرام، وأحكام الأمر والنهي، وأحكام الجزاء والمواعظ والعبر، والعقائد
النافعة والأخبار الصادقة، ولهذا كان علم القرآن حفظا وتفسيرا، أسهل العلوم،
وأجلها على الإطلاق، وهو العلم النافع الذي إذا طلبه العبد أعين عليه، قال بعض
السلف عند هذه الآية: هل من طالب علم فيعان [ عليه ] ؟ ولهذا يدعو الله عباده إلى
الإقبال عليه والتذكر بقوله: ( فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ) .
كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ
كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ ( 18 )
إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ ( 19 )
تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ ( 20 )
فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ ( 21 )
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ( 22 ) .
( وعاد ) هي
القبيلة المعروفة باليمن، أرسل الله إليهم هودا عليه السلام يدعوهم إلى توحيد الله
وعبادته، فكذبوه، فأرسل الله عليهم (
رِيحًا صَرْصَرًا ) أي: شديدة جدا، ( فِي يَوْمِ
نَحْسٍ ) أي: شديد العذاب والشقاء عليهم، (
مُسْتَمِرٍّ ) عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما.
(
تَنزعُ النَّاسَ ) من شدتها، فترفعهم إلى جو
السماء، ثم تدفعهم بالأرض فتهلكهم، فيصبحون (
كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ ) أي:
كأن جثثهم بعد هلاكهم مثل جذوع النخل الخاوي الذي أصابته الريح فسقط على الأرض،
فما أهون الخلق على الله إذا عصوا أمره .
(
فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ ) كان [
والله ] العذاب الأليم، والنذارة التي ما أبقت لأحد عليه حجة، (
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ) كرر
تعالى ذلك رحمة بعباده وعناية بهم، حيث دعاهم إلى ما يصلح دنياهم وأخراهم.
كَذَّبَتْ ثَمُودُ
بِالنُّذُرِ ( 23 )
فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلالٍ
وَسُعُرٍ ( 24 )
أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ ( 25 )
سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الأَشِرُ ( 26 )
إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ ( 27 ) .
أي كذبت ثمود وهم القبيلة المعروفة المشهورة في أرض الحجر،
نبيهم صالحا عليه السلام، حين دعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وأنذرهم
العقاب إن هم خالفوه فكذبوه واستكبروا عليه، وقالوا - كبرا وتيها- : (
أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ ) أي:
كيف نتبع بشرا، لا ملكا منا، لا من غيرنا، ممن هو أكبر عند الناس منا، ومع ذلك فهو
شخص واحد ( إِنَّا إِذًا ) أي: إن
اتبعناه وهو بهذه الحال ( لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ ) أي:
إنا لضالون أشقياء، وهذا الكلام من ضلالهم وشقائهم، فإنهم أنفوا أن يتبعوا رسولا
من البشر، ولم يأنفوا أن يكونوا عابدين للشجر والحجر والصور.
( أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ
عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا ) أي: كيف يخصه الله من بيننا
وينزل عليه الذكر؟ فأي مزية خصه من بيننا؟ وهذا اعتراض من المكذبين على الله، لم
يزالوا يدلون به، ويصولون ويجولون ويردون به دعوة الرسل، وقد أجاب الله عن هذه
الشبهة بقول الرسل لأممهم: قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلا بَشَرٌ
مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فالرسل
من الله عليهم بصفات وأخلاق وكمالات، بها صلحوا لرسالات ربهم والاختصاص بوحيه، ومن
رحمته وحكمته أن كانوا من البشر، فلو كانوا من الملائكة لم يمكن البشر، أن يتلقوا
عنهم، ولو جعلهم من الملائكة لعاجل الله المكذبين لهم بالعقاب العاجل.
والمقصود بهذا الكلام الصادر من ثمود لنبيهم صالح، تكذيبه،
ولهذا حكموا عليه بهذا الحكم الجائر، فقالوا: ( بَلْ
هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ ) أي: كثير الكذب والشر، فقبحهم
الله ما أسفه أحلامهم وأظلمهم، وأشدهم مقابلة للصادقين الناصحين بالخطاب الشنيع،
لا جرم عاقبهم الله حين اشتد طغيانهم، فأرسل الله الناقة التي هي من أكبر النعم
عليهم، آية من آيات الله، ونعمة يحتلبون من ضرعها ما يكفيهم أجمعين، (
فِتْنَةً لَهُمْ ) أي: اختبارا منه لهم وامتحانا
( فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ ) أي:
اصبر على دعوتك إياهم، وارتقب ما يحل بهم، أو ارتقب هل يؤمنون أو يكفرون؟
وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ
قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ ( 28 )
فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ ( 29 )
فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ ( 30 )
إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ
الْمُحْتَظِرِ ( 31 )
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ( 32 ) .
(
وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ ) أي:
وأخبرهم أن الماء أي: موردهم الذي يستعذبونه، قسمة بينهم وبين الناقة، لها شرب يوم
ولهم شرب يوم آخر معلوم، ( كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ ) أي:
يحضره من كان قسمته، ويحظر على من ليس بقسمة له.
( فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ ) الذي
باشر عقرها، الذي هو أشقى القبيلة (
فَتَعَاطَى ) أي: انقاد لما أمروه به من عقرها ( فَعَقَرَ
)
(
فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ ) كان
أشد عذاب، أرسل الله عليهم صيحة ورجفة أهلكتهم عن آخرهم، ونجى الله صالحا ومن آمن
معه ( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ
مُدَّكِرٍ ) .
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ
بِالنُّذُرِ ( 33 )
إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ ( 34 )
نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ ( 35 )
وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ ( 36 )
وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي
وَنُذُرِ ( 37 )
وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ ( 38 )
فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ ( 39 )
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ( 40 ) .
أي: (
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ ) لوطا عليه السلام، حين دعاهم
إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ونهاهم عن الشرك والفاحشة التي ما سبقهم بها أحد
من العالمين، فكذبوه واستمروا على شركهم وقبائحهم، حتى إن الملائكة الذين جاءوه
بصورة أضياف حين سمع بهم قوم لوط، جاؤوهم مسرعين، يريدون إيقاع الفاحشة فيهم،
لعنهم الله وقبحهم، وراودوه عنهم، فأمر الله جبريل عليه السلام، فطمس أعينهم
بجناحه، وأنذرهم نبيهم بطشة الله وعقوبته (
فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ ) (
وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ ) قلب الله
عليهم ديارهم، وجعل أسفلها أعلاها، وتتبعهم بحجارة من سجيل منضود، مسومة عند ربك
للمسرفين، ونجى الله لوطا وأهله من الكرب العظيم، جزاء لهم على شكرهم لربهم،
وعبادته وحده لا شريك له.
وَلَقَدْ جَاءَ آلَ
فِرْعَوْنَ النُّذُرُ ( 41 )
كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ ( 42 )
أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ ( 43 ) أَمْ
يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ ( 44 )
سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ( 45 ) بَلِ
السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ ( 46 )
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ ( 47 )
يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ ( 48 )
إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ( 49 ) .
أي: ( وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ
) أي: فرعون وقومه (
النُّذُرُ ) فأرسل الله إليهم موسى الكليم، وأيده بالآيات الباهرات،
والمعجزات القاهرات وأشهدهم من العبر ما لم يشهد عليه أحدا غيرهم فكذبوا بآيات
الله كلها، فأخذهم أخذ عزيز مقتدر، فأغرقهم في اليم هو وجنوده والمراد من ذكر هذه
القصص تحذير [ الناس و ] المكذبين لمحمد صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال: (
أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ ) أي:
هؤلاء الذين كذبوا أفضل الرسل، خير من أولئك المكذبين، الذين ذكر الله هلاكهم وما
جرى عليهم؟ فإن كانوا خيرا منهم، أمكن أن ينجوا من العذاب، ولم يصبهم ما أصاب
أولئك الأشرار، وليس الأمر كذلك، فإنهم إن لم يكونوا شرا منهم، فليسوا بخير منهم،
( أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ ) أي: أم
أعطاكم الله عهدا وميثاقا في الكتب التي أنزلها على الأنبياء، فتعتقدون حينئذ أنكم
الناجون بإخبار الله ووعده؟ وهذا غير واقع، بل غير ممكن عقلا وشرعا، أن تكتب
براءتهم في الكتب الإلهية المتضمنة للعدل والحكمة، فليس من الحكمة نجاة أمثال
هؤلاء المعاندين المكذبين، لأفضل الرسل وأكرمهم على الله، فلم يبق إلا أن يكون بهم
قوة ينتصرون بها، فأخبر تعالى أنهم يقولون: (
نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ ) قال تعالى مبينا لضعفهم،
وأنهم مهزومون: ( سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ
وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ) فوقع كما أخبر، هزم الله
جمعهم الأكبر يوم بدر، وقتل من صناديدهم وكبرائهم ما ذلوا به ونصر الله دينه ونبيه
وحزبه المؤمنين.
ومع ذلك، فلهم موعد يجمع به أولهم وآخرهم، ومن أصيب في الدنيا
منهم، ومن متع بلذاته، ولهذا قال: ( بَلِ
السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ ) الذي يحازون به، ويؤخذ منهم
الحق بالقسط، ( وَالسَّاعَةُ أَدْهَى
وَأَمَرُّ ) أي: أعظم وأشق، وأكبر من كل ما يتوهم، أو يدور بالبال .
( إِنَّ الْمُجْرِمِينَ ) أي:
الذين أكثروا من فعل الجرائم، وهي الذنوب العظيمة من الشرك وغيره، من المعاصي ( فِي
ضَلالٍ وَسُعُرٍ ) أي: هم ضالون في الدنيا، ضلال
عن العلم، وضلال عن العمل، الذي ينجيهم من العذاب، ويوم القيامة في العذاب الأليم،
والنار التي تتسعر بهم، وتشتعل في أجسامهم، حتى تبلغ أفئدتهم.
( يَوْمَ
يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ) التي
هي أشرف ما بهم من الأعضاء، وألمها أشد من ألم غيرها، فيهانون بذلك ويخزون، ويقال
لهم: ( ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ ) أي:
ذوقوا ألم النار وأسفها وغيظها ولهبها.
( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ
خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ) وهذا شامل للمخلوقات والعوالم
العلوية والسفلية، أن الله تعالى وحده خلقها لا خالق لها سواه، ولا مشارك له في
خلقها .
وخلقها بقضاء سبق به علمه، وجرى به قلمه، بوقتها ومقدارها،
وجميع ما اشتملت عليه من الأوصاف، وذلك على الله يسير، فلهذا قال:
وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ
كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ( 50 )
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ( 51 )
وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ ( 52 )
وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ ( 53 )
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ ( 54 ) فِي
مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ( 55 ) .
( وَمَا
أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ) فإذا
أراد شيئا قال له كن فيكون كما أراد، كلمح البصر، من غير ممانعة ولا صعوبة.
(
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ ) من
الأمم السابقين الذين عملوا كما عملتم، وكذبوا كما كذبتم (
فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ) أي: متذكر يعلم أن سنة الله
في الأولين والآخرين واحدة، وأن حكمته كما اقتضت إهلاك أولئك الأشرار، فإن هؤلاء
مثلهم، ولا فرق بين الفريقين.
( وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ
فِي الزُّبُرِ ) أي: كل ما فعلوه من خير وشر
مكتوب
عليهم في الكتب القدرية (
وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ ) أي:
مسطر مكتوب،
وهذا حقيقة القضاء والقدر، وأن
جميع الأشياء كلها، قد علمها الله تعالى، وسطرها عنده في اللوح المحفوظ، فما شاء
الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن
ليصيبه.
( إِنَّ
الْمُتَّقِينَ ) لله، بفعل أوامره وترك
نواهيه، الذين اتقوا الشرك والكبائر والصغائر.
( فِي
جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ ) أي: في جنات النعيم، التي
فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، من الأشجار اليانعة، والأنهار
الجارية، والقصور الرفيعة، والمنازل الأنيقة، والمآكل والمشارب اللذيذة، والحور
الحسان، والروضات البهية في الجنان، ورضوان الملك الديان، والفوز بقربه، ولهذا
قال: ( فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ) فلا
تسأل بعد هذا عما يعطيهم ربهم من كرامته وجوده، ويمدهم به من إحسانه ومنته، جعلنا
الله منهم، ولا حرمنا خير ما عنده بشر ما عندنا.
تم تفسير سورة اقتربت، ولله
الحمد والشكر