تفسير سورة فاطر
بسم الله الرحمن الرحيم
القول
في تأويل قوله تعالى : الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ
وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ
وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ ( 1 )
يقول
تعالى ذكره: الشكر الكامل للمعبود الذي لا تصلح العبادة إلا له، ولا ينبغي أن تكون
لغيره خالق السماوات السبع والأرض، ( جَاعِلِ الْمَلائِكَةَ رُسُلا ) إلى من يشاء من عباده، وفيما
شاء من أمره ونهيه (
أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ ) يقول: أصحاب أجنحة يعني ملائكة، فمنهم من له اثنان من
الأجنحة، ومنهم من له ثلاثة أجنحة، ومنهم من له أربعة.
كما
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى
وَثُلاثَ وَرُبَاعَ ) قال:
بعضهم له جناحان وبعضهم ثلاثة وبعضهم أربعة.
واختلف
أهل العربية في علة ترك إجراء مثنى وثلاث ورباع، وهي ترجمة عن أجنحة وأجنحة نكرة؛
فقال بعض نحويي البصرة: تُرك إجراؤهن لأنهن مصروفات عن وجوههن، وذلك أن مثنى مصروف
عن اثنين وثلاث عن ثلاثة ورباع عن أربعة، فصرف نظير عُمَرَ وَزُفَرَ، إذ صرف هذا
عن عامر إلى عمر وهذا عن زافر إلى زفر، وأنشد بعضهم في ذلك:
وَلَقَــدْ
قَتَلْتُكُــمْ ثُنَــاءَ وَمَوْحَــدَا وَتَــركتُ مـرَّةَ مِثْـلَ أمسِ
المُدبِـرِ
وقال آخر
منهم: لم يصرف ذلك لأنه يوهم به الثلاثة والأربعة، قال: وهذا لا يستعمل إلا في حال
العدد.
وقال بعض
نحويي الكوفة: هن مصروفات عن المعارف، لأن الألف واللام لا تدخلها، والإضافة لا
تدخلها، قال: ولو دخلتها الإضافة والألف واللام لكانت نكرة، وهي ترجمة عن النكرة،
قال: وكذلك ما كان في القرآن مثل أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى وكذلك
وحاد وأحاد، وما أشبهه من مصروف العدد.
وقوله ( يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا
يَشَاءُ ) وذلك
زيادته تبارك وتعالى في خلق هذا الملك من الأجنحة على الآخر ما يشاء، ونقصانه عن
الآخر ما أحب، وكذلك ذلك في جميع خلقه يزيد ما يشاء في خلق ما شاء منه، وينقص ما
شاء من خلق ما شاء، له الخلق والأمر وله القدرة والسلطان ( إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ ) يقول:
إن الله تعالى ذكره قدير على زيادة ما شاء من ذلك فيما شاء، ونقصان ما شاء منه ممن
شاء، وغير ذلك من الأشياء كلها، لا يمتنع عليه فعل شيء أراده سبحانه وتعالى.
القول
في تأويل قوله تعالى : مَا يَفْتَحِ اللَّهُ
لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ
مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 2 )
يقول
تعالى ذكره: مفاتيح الخير ومغالقه كلها بيده؛ فما يفتح الله للناس من خير فلا
مُغلق له، ولا ممسك عنهم، لأن ذلك أمره لا يستطيع أمره أحد، وكذلك ما يغلق من خير
عنهم فلا يبسطه عليهم ولا يفتحه لهم، فلا فاتح له سواه؛ لأن الأمور كلها إليه وله.
وبنحو
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ ) أي: من خير ( فَلا مُمْسِكَ لَهَا ) فلا يستطيع أحد حبسها ( وَمَا يُمْسِكْ فَلا
مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ ) وقال
تعالى ذكره ( فَلا
مُمْسِكَ لَهَا ) فأنث
ما لذكر الرحمة من بعده وقال ( وَمَا
يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ ) فذكر للفظ « ما » لأن لفظه لفظ مذكر، ولو أنث في
موضع التذكير للمعنى وذكر في موضع التأنيث للفظ، جاز، ولكن الأفصح من الكلام
التأنيث إذا ظهر بعد ما يدل على تأنيثها والتذكير إذا لم يظهر ذلك.
وقوله ( وَهُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ ) يقول:
وهو العزيز في نِقمته ممن انتقم منه من خلقه بحبس رحمته عنه وخيراته، الحكيم في
تدبير خلقه وفتحه لهم الرحمة إذا كان فتح ذلك صلاحًا، وإمساكه إياه عنهم إذا كان
إمساكه حكمة.
القول
في تأويل قوله تعالى : يَا أَيُّهَا النَّاسُ
اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ
يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى
تُؤْفَكُونَ ( 3 )
يقول
تعالى ذكره للمشركين به من قوم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم من قريش:
( يَا
أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ ) التي أنعمها ( عَلَيْكُمْ ) بفتحه لكم من خيراته ما فتح وبسطه لكم من العيش ما بسط
وفكروا فانظروا هل من خالق سوى فاطر السماوات والأرض الذي بيده مفاتيح أرزاقكم
ومغالقها (
يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ ) فتعبدوه دونه ( لا إله إلا هو ) يقول: لا معبود تنبغي له العبادة إلا الذي فطر السماوات والأرض
القادر على كل شيء، الذي بيده مفاتح الأشياء وخزائنها، ومغالق ذلك كله، فلا تعبدوا
أيها الناس شيئًا سواه، فإنه لا يقدر على نفعكم وضركم سواه، فله فأخلصوا العبادة
وإياه فأفردوا بالألوهة (
فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ) يقول:
فأي وجه عن خالقكم ورازقكم الذي بيده نفعكم وضركم تصرفون.
كما
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله ( فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ) يقول الرجل: إنه ليوفك عني
كذا وكذا. وقد بينت معنى الإفك، وتأويل قوله ( تُؤْفَكُونَ ) فيما مضى بشواهده المغنية عن تكريره.
القول
في تأويل قوله تعالى : وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ
كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ ( 4 ) يَا
أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ
الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ( 5 )
يقول
تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: وإن يكذبك يا محمد هؤلاء
المشركون بالله من قومك فلا يحزننك ذاك، ولا يعظم عليك، فإن ذلك سنة أمثالهم من
كفرة الأمم بالله، من قبلهم وتكذيبهم رسل الله التي أرسلها إليهم من قبلك، ولن
يعدو مشركو قومك أن يكونوا مثلهم، فيتبعوا في تكذيبك منهاجهم ويسلكوا سبيلهم ( وَإِلَى اللَّهِ تُرْجعُ
الأمُورُ ) يقول
تعالى ذكره: وإلى الله مرجع أمرك وأمرهم، فمُحِل بهم العقوبة، إن هم لم ينيبوا إلى
طاعتنا في اتباعك والإقرار بنبوتك، وقبول ما دعوتهم إليه من النصيحة، نظير ما
أحللنا بنظرائهم من الأمم المكذبة رسلها قبلك، ومنجيك وأتباعك من ذلك، سنتنا بمن
قبلك في رسلنا وأوليائنا.
وبنحو
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ
قَبْلِكَ ) يعزي
نبيه كما تسمعون.
وقوله ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ
وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ) يقول
تعالى ذكره لمشركي قريش المكذبي رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: يا أيها
الناس إن وعد الله إياكم بأسه على إصراركم على الكفر به، وتكذيب رسوله محمد صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، وتحذيركم نـزول سطوته بكم على ذلك، حق، فأيقنوا بذلك
وبادروا حلول عقوبتكم بالتوبة والإنابة إلى طاعة الله والإيمان به وبرسوله ( فَلا تَغُرَّنَّكُمُ
الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ) يقول:
فلا يغرنكم ما أنتم فيه من العيش في هذه الدنيا ورياستكم التي تترأسون بها في
ضعفائكم فيها عن اتباع محمد والإيمان ( وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ) يقول: ولا يخدعنكم بالله
الشيطان، فيمنيكم الأماني، ويعدكم من الله العدات الكاذبة، ويحملكم على الإصرار
على كفركم بالله.
كما حدثني
علي قال: ثنا أَبو صالح قال: ثني معاوية عن علي عن ابن عباس في قوله ( وَلا يَغُرَّنَّكُمْ
بِاللَّهِ الْغَرُورُ ) يقول:
الشيطان.
القول
في تأويل قوله تعالى : إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ
عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ
أَصْحَابِ السَّعِيرِ ( 6 )
يقول
تعالى ذكره: ( إِنَّ
الشَّيْطَانَ ) الذي
نهيتكم أيها الناس أن تغتروا بغروره إياكم بالله ( لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ) يقول: فأنـزلوه من أنفسكم
منـزلة العدو منكم واحذروه بطاعة الله واستغشاشكم إياه حذركم من عدوكم الذي تخافون
غائلته على أنفسكم، فلا تطيعوه ولا تتبعوا خطواته، فإنه إنما يدعو حزبه، ينعي
شيعته ومن أطاعه، إلى طاعته والقبول منه، والكفر بالله ( لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ
السَّعِيرِ ) يقول:
ليكونوا من المخلدين في نار جهنم التي تتوقد على أهلها.
وبنحو الذي
قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله ( إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ
عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ) فإنه
لحق على كل مسلم عداوته، وعداوته أن يعاديه بطاعة الله ( إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ ) وحزبه: أولياؤه ( لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ
السَّعِيرِ ) أي:
ليسوقهم إلى النار فهذه عداوته.
حدثني
يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ
لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ) وقال: هؤلاء حزبه من الإنس، يقول: أولئك حزب الشيطان،
والحزب: ولاته الذين يتولاهم ويتولونه وقرأ إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي
نَـزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ .
القول
في تأويل قوله تعالى : الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ
عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ
وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ( 7 )
يقول
تعالى ذكره: (
الَّذِينَ كَفَرُوا ) بالله
ورسوله (
لَهُمْ عَذَابٌ ) من
الله (
شَدِيدٌ ) وذلك
عذاب النار. وقوله (
وَالَّذِينَ آمَنُوا ) يقول:
والذين صدقوا الله ورسوله، وعملوا بما أمرهم الله وانتهوا عما نهاهم عنه ( لَهُمْ مَغْفِرَةٌ ) من الله لذنوبهم ( وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ) وذلك الجنة.
كما
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ
كَبِيرٌ ) وهي
الجنة.
القول
في تأويل قوله تعالى : أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ
فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ
فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا
يَصْنَعُونَ ( 8 )
يقول
تعالى ذكره: أفمن حسَّن له الشيطان أعماله السيئة من معاصي الله والكفر به، وعبادة
ما دونه من الآلهة والأوثان، فرآه حسنًا فحسب سيئ ذلك حسنًا، وظن أن قبحه جميل،
لتزيين الشيطان ذلك له. ذهبت نفسك عليهم حسرات، وحذف من الكلام: ذهبت نفسك عليهم
حسرات اكتفاء بدلالة قوله ( فَلا
تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ ) منه، وقوله ( فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ
يَشَاءُ ) يقول:
فإن الله يخذل من يشاء عن الإيمان به واتباعك وتصديقك، فيضله عن الرشاد إلى الحق
في ذلك، ويهدي من يشاء، يقول: ويوفق من يشاء للإيمان به واتباعك والقبول منك،
فتهديه إلى سبيل الرشاد ( فَلا
تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ ) يقول: فلا تهلك نفسك حزنًا على ضلالتهم وكفرهم بالله
وتكذيبهم لك.
وبنحو
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ
اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ) قال قتادة والحسن: الشيطان
زيَّن لهم ( فَلا
تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ ) أي: لا يحزنك ذلك عليهم؛ فإن الله يضل من يشاء ويهدي من
يشاء.
حدثني
يونس قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قول الله ( فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ
عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ ) قال:
الحسرات الحزن، وقرأ قول الله يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ
اللَّهِ ووقع قوله (
فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ) موضع الجواب، وإنما هو منبع
الجواب، لأن الجواب هو المتروك الذي ذكرت، فاكتفى به من الجواب لدلالته على الجواب
ومعنى الكلام.
واختلفت
القراء في قراءة قوله ( فَلا
تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ ) فقرأته قراء الأمصار سوى أَبي جعفر المدني ( فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ ) بفتح التاء من « تذهب » و « نفسك » برفعها. وقرأ ذلك أَبو جعفر ( فَلا تُذْهِبَ ) بضم التاء من « تذهب » و « نفسك » بنصبها، بمعنى: لا تذهب أنت يا
محمد نفسك.
والصواب
من القراءة في ذلك عندنا ما عليه قراء الأمصار؛ لإجماع الحجة من القراء عليه.
وقوله ( إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا
يَصْنَعُونَ ) يقول
تعالى ذكره: إن الله يا محمد ذو علم بما يصنع هؤلاء الذين زين لهم الشيطان سوء
أعمالهم، وهو محصيه عليهم، ومجازيهم به جزاءهم.
القول
في تأويل قوله تعالى : وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ
الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا
بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ ( 9 )
يقول
تعالى ذكره: والله الذي أرسل الرياح فتثير السحاب للحيا والغيث ( فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ
مَيِّتٍ ) يقول:
فسقناه إلى بلد مجدب الأهل، محل الأرض، داثر لا نبت فيه ولا زرع ( فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأرْضَ
بَعْدَ مَوْتِهَا ) يقول:
فأخصبنا بغيث ذلك السحاب الأرض التي سقناه إليها بعد جدوبها، وأنبتنا فيها الزرع
بعد المحل (
كَذَلِكَ النُّشُورُ ) يقول
تعالى ذكره: هكذا يُنْشِر الله الموتى بعد بلائهم في قبورهم، فيحييهم بعد فنائهم،
كما أحيينا هذه الأرض بالغيث بعد مماتها.
وبنحو
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
ابن بشار قال: ثنا عبد الرحمن قال: ثنا سفيان عن سلمة بن كهيل قال: ثنا أَبو
الزعراء عن عبد الله قال: يكون بين النفختين ما شاء الله أن يكون، فليس من بني آدم
إلا وفي الأرض منه شيء، قال: فيرسل الله ماءً من تحت العرش؛ منيًّا كمني الرجل،
فتنبت أجسادهم ولحمانهم من ذلك، كما تنبت الأرض من الثرى، ثم قرأ ( وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ
الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ ... ) إلى قوله ( كَذَلِكَ النُّشُورُ ) قال: ثم يقوم ملك بالصور بين
السماء والأرض، فينفخ فيه فتنطلق كل نفس إلى جسدها فتدخل فيه.
حدثنا
بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله ( وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ
الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا ) قال: يرسل
الرياح فتسوق السحاب، فأحيا الله به هذه الأرض الميتة بهذا الماء، فكذلك يبعثه يوم
القيامة.
القول
في تأويل قوله تعالى : مَنْ كَانَ يُرِيدُ
الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ
وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ
عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ ( 10 )
اختلف
أهل التأويل في معنى قوله ( مَنْ
كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا ) فقال بعضهم: معنى ذلك: من كان
يريد العزة بعبادة الآلهة والأوثان فإن العزة لله جميعًا.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
محمد بن عمرو، قال: ثنا أَبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن،
قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أَبي نجيح، عن مجاهد في قول الله ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ
الْعِزَّةَ ) يقول:
من كان يريد العزة بعبادته الآلهة فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا.
وقال
آخرون: معنى ذلك من كان يريد العزة فليتعزز بطاعة الله.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ
الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا ) يقول: فليتعزز بطاعة الله.
وقال
آخرون: بل معنى ذلك: من كان يريد علم العزة لمن هي، فإنها لله جميعًا كلها أي: كل
وجه من العزة فلله.
والذي هو
أولى الأقوال بالصواب عندي قول من قال: من كان يريد العزة فبالله فليتعزز، فلله
العزة جميعًا، دون كل ما دونه من الآلهة والأوثان.
وإنما
قلت: ذلك أولى بالصواب لأن الآيات التي قبل هذه الآية، جرت بتقريع الله المشركين
على عبادتهم الأوثان، وتوبيخه إياهم، ووعيده لهم عليها، فأولى بهذه أيضًا أن تكون
من جنس الحث على فراق ذلك، فكانت قصتها شبيهة بقصتها، وكانت في سياقها.
وقوله ( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ
الطَّيِّبُ ) يقول
تعالى ذكره: إلى الله يصعد ذكر العبد إياه وثناؤه عليه ( وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ
يَرْفَعُهُ ) يقول:
ويرفع ذكر العبد ربه إليه عمله الصالح، وهو العمل بطاعته، وأداء فرائضه والانتهاء
إلى ما أمر به.
وبنحو
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثني
محمد بن إسماعيل الأحمسي قال: أخبرني جعفر بن عون عن عبد الرحمن بن عبد الله
المسعودي عن عبد الله بن المخارق عن أبيه المخارق بن سليم قال: قال لنا عبد الله:
إذا حدثناكم بحديث أتيناكم بتصديق ذلك من كتاب الله، إن العبد المسلم إذا قال:
سبحان الله وبحمده، الحمد لله لا إله إلا الله، والله أكبر، تبارك الله، أخذهن ملك
فجعلهن تحت جناحيه ثم صعد بهن إلى السماء، فلا يمر بهن على جمع من الملائكة إلا
استغفروا لقائلهن حتى يحيي بهن وجه الرحمن، ثم قرأ عبد الله ( وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ
يَرْفَعُهُ ) .
حدثني
يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن عُلية، قال: أخبرنا سعيد الجريري عن عبد الله بن
شقيق قال: قال كعب: إن لسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر،
لدويًّا حول العرش كدوي النحل يذكرن بصاحبهن والعمل الصالح في الخزائن.
حدثني
يونس، قال: ثنا سفيان عن ليث بن أبي سليم عن شهر بن حوشب الأشعري قوله ( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ
الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) قال: العمل الصالح يرفع الكلم الطيب.
حدثني
علي، ثنا أَبو صالح قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله ( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ
الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) قال: الكلام الطيب: ذكر الله، والعمل الصالح: أداء فرائضه،
فمن ذكر الله سبحانه في أداء فرائضه حمل عليه ذكر الله فصعد به إلى الله، ومن ذكر
الله، ولم يؤد فرائضه رد كلامه على عمله فكان أولى به.
حدثني
محمد بن عمرو، قال: ثنا أَبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن،
قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أَبي نجيح، عن مجاهد قوله ( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ
الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) قال: العمل الصالح يرفع الكلام الطيب.
حدثنا
بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله ( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ
الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) قال: قال الحسن وقتادة: لا يقبل الله قولا إلا بعمل، من قال
وأحسن العمل قبل الله منه.
وقوله ( وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ
السَّيِّئَاتِ ) يقول
تعالى ذكره: والذين يكسبون السيئات لهم عذاب جهنم.
وبنحو
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثني سعيد، عن قتادة قوله ( وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ
السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ) قال: هؤلاء أهل الشرك.
وقوله ( وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ
يَبُورُ ) يقول:
وعمل هؤلاء المشركين يبور، فيبطل فيذهب؛ لأنه لم يكن لله، فلم ينفع عامله.
وبنحو
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ ) أى: يفسد.
حدثني
يونس قال: أخبرنا سفيان عن ليث بن أبي سليم عن شهر بن حوشب ( وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ
يَبُورُ ) قال:
هم أصحاب الرياء.
حدثني
محمد بن عمارة قال: ثنا سهل بن أبي عامر قال: ثنا جعفر الأحمر عن شهر بن حوشب في
قوله (
وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ ) قال:
هم أصحاب الرياء.
حدثني
يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ
يَبُورُ ) قال:
بار فلم ينفعهم ولم ينتفعوا به، وضرهم.
القول
في تأويل قوله تعالى : وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ
تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ
أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا
يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ( 11
)
يقول
تعالى ذكره: (
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ) أيها
الناس ( مِنْ
تُرَابٍ ) يعني
بذلك أنه خلق أباهم آدم من تراب؛ فجعل خلق أبيهم منه لهم خلقًا ( ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ) يقول: ثم خلقكم من نطفة الرجل
والمرأة ( ثُمَّ
جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا ) يعني
أنه زوج منهم الأنثى من الذكر.
وبنحو
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثني
بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ) يعني آدم ( ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ) يعني ذريته ( ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا
) فزوج
بعضكم بعضًا.
وقوله ( وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى
وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِهِ ) يقول
تعالى ذكره: وما تحمل من أنثى منكم أيها الناس من حمل ولا نطفة إلا وهو عالم
بحملها إياه ووضعها وما هو؟ ذكر أو أنثى؟ لا يخفى عليه شيء من ذلك.
وقوله ( وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ
مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ ) اختلف أهل التأويل في تأويل
ذلك؛ فقال بعضهم: معناه: وما يعمر من معمر فيطول عمره، ولا ينقص من عمر آخر غيره
عن عمر هذا الذي عمر عمرًا طويلا ( إِلا فِي كِتَابٍ ) عنده مكتوب قبل أن تحمل به أمه، وقبل أن تضعه، قد أحصى ذلك
كله وعلمه قبل أن يخلقه، لا يزاد فيما كتب له ولا ينقص.
ذكر
من قال ذلك:
حدثني
محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباس
قوله ( وَمَا
يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ ... ) إلى ( يَسِير ) يقول: ليس أحد قضيت له طول
العمر والحياة إلا وهو بالغ ما قدرت له من العمر، وقد قضيت ذلك له، وإنما ينتهي
إلى الكتاب الذي قدرت له لا يزاد عليه، وليس أحد قضيت له أنه قصير العمر والحياة
ببالغ العمر، ولكن ينتهي إلى الكتاب الذي قدرت له لا يزاد عليه فذلك قوله ( وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ
إِلا فِي كِتَابٍ ) يقول:
كل ذلك في كتاب عنده.
حُدثت عن
الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: من قضيت له أن يعمر حتى يدركه الكبر، أو يعمر
أنقص من ذلك، فكل بالغ أجله الذي قد قضى له، كل ذلك في كتاب.
حدثني
يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ
مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ ) قال: ألا ترى الناس؛ الإنسان
يعيش مائة سنة، وآخر يموت حين يولد؟ فهذا هذا، فالهاء التي في قوله ( ولا يُنْقَصُ مِنْ عُمْرِهِ ) على هذا التأويل، وإن كانت في
الظاهر أنها كناية عن اسم المعمر الأول، فهي كناية اسم آخر غيره، وإنما حسن ذلك لأن
صاحبها لو أظهر لظهر بلفظ الأول، وذلك كقولهم: عندي ثوب ونصفه، والمعنى: ونصف
الآخر.
وقال
آخرون: بل معنى ذلك: وما يعمر من معمَّر ولا ينقص من عمره بفناء ما فني من أيام
حياته، فذلك هو نقصان عمره، والهاء على هذا التأويل للمعمر الأول، لأن معنى
الكلام: ما يطول عمر أحد، ولا يذهب من عمره شيء، فيُنقَص إلا وهو في كتاب عند الله
مكتوب، قد أحصاه وعلمه.
ذكر
من قال ذلك:
حدثني
أَبو حصين عبد الله بن أحمد بن يونس قال: ثنا عبثر قال: ثنا حصين عن أَبي مالك في
هذه الآية ( وَمَا
يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ ) قال: ما يقضي من أيامه التي
عددت له إلا في كتاب.
وأولى
التأويلين في ذلك عندي الصواب التأويل الأول، وذلك أن ذلك هو أظهر معنييه،
وأشبههما بظاهر التنـزيل.
وقوله ( إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ
يَسِيرٌ ) يقول تعالى
ذكره: إن إحصاء أعمار خلقه عليه يسير سهل، طويل ذلك وقصيره، لا يتعذر عليه شيء
منه.
القول
في تأويل قوله تعالى : وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ
هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ
تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى
الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
( 12 )
يقول
تعالى ذكره: وما يعتدل البحران فيستويان؛ أحدهما عذب فرات، والفرات: هو أعذب
العذب، وهذا ملح أجاج يقول: والآخر منهما ملح أجاج وذلك هو ماء البحر الأخضر،
والأجاج: المر وهو أشد المياه ملوحة.
كما
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله ( وهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ ) والأجاج: المر.
وقوله ( وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ
لَحْمًا طَرِيًّا ) يقول:
ومن كل البحار تأكلون لحمًا طريًّا، وذلك السمك من عذبهما الفرات وملحهما الأجاج ( وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً
تَلْبَسُونَهَا ) يعني:
الدر والمرجان تستخرجونها من الملح الأجاج، وقد بيَّنا قبل وجه ( تَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً ) وإنما يستخرج من الملح، فيما
مضى بما أغنى عن إعادته. (
وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ ) يقول تعالى ذكره: وترى السفن في كل تلك البحار مواخر تمخر
الماء بصدورها، وذلك خرقها إياه إذا مرت واحدتها ماخرة، يقال منه: مَخَرت تَمْخُر
وتمخَر مخرًا، وذلك إذا شقت الماء بصدورها.
وبنحو
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله ( وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ
لَحْمًا طَرِيًّا ) أي:
منهما جميعًا (
وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا ) هذا اللؤلؤ ( وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ ) فيه السفن مقبلة ومدبرة بريح
واحدة.
حدثنا
علي قال: ثنا أَبو صالح قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله ( وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ
مَوَاخِرَ ) يقول:
جواريَ.
وقوله ( لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ) يقول: لتطلبوا بركوبكم في هذه
البحار في الفلك من معايشكم، ولتتصرفوا فيها في تجاراتكم، وتشكروا الله على تسخيره
ذلك لكم، وما رزقكم منه من طيبات الرزق وفاخر الحلي.
القول
في تأويل قوله تعالى : يُولِجُ اللَّيْلَ فِي
النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ
كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ
وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ ( 13 )
يقول
تعالى ذكره: يدخل الليل في النهار وذلك ما نقص من الليل أدخله في النهار فزاده
فيه، ويولج النهار في الليل وذلك ما نقص من أجزاء النهار زاد في أجزاء الليل
فأدخله فيها.
كما
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله ( يُولِجُ اللَّيْلَ فِي
النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ ) زيادة هذا فى نقصان هذا، ونقصان هذا في زيادة هذا.
حدثني
محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس
قوله (
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ ) يقول: هو انتقاص أحدهما من
الآخر.
وقوله ( وَسَخَّرَ الشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأجَلٍ مُسَمًّى ) يقول: وأجرى لكم الشمس والقمر نعمة منه عليكم، ورحمة منه
بكم؛ لتعلموا عدد السنين والحساب، وتعرفوا الليل من النهار.
وقوله ( كُلٌّ يَجْرِي لأجَلٍ
مُسَمًّى ) يقول:
كل ذلك يجري لوقت معلوم.
وبنحو
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله ( وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ
كُلٌّ يَجْرِي لأجَلٍ مُسَمًّى ) أجل
معلوم، وحد لا يقصر دونه ولا يتعداه.
وقوله ( ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ ) يقول: الذي يفعل هذه الأفعال
معبودكم أيها الناس الذي لا تصلح العبادة إلا له، وهو الله ربكم.
كما
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله ( ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ
لَهُ الْمُلْكُ ) أي: هو
الذي يفعل هذا.
وقوله ( لَهُ الْمُلْكُ ) يقول تعالى ذكره: له الملك
التام الذي لا شىء إلا وهو في ملكه وسلطانه.
وقوله ( وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ
دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ ) يقول تعالى ذكره: والذين تعبدون أيها الناس من دون ربكم
الذي هذه الصفة التي ذكرها في هذه الآيات الذي له الملك الكامل، الذي لا يشبهه
ملك، صفته ( مَا
يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ ) يقول:
ما يملكون قشر نواة فما فوقها.
وبنحو
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من
قال ذلك:
حدثني
يعقوب قال: ثنا هشيم قال: أخبرنا عوف عمن حدثه عن ابن عباس في قوله ( مَا يَمْلِكُونَ مِنْ
قِطْمِيرٍ ) قال:
هو جلد النواة.
حدثني
علي قال: ثنا أَبو صالح قال: ثني معاوية عن علي عن ابن عباس قوله ( مِنْ قِطْمِيرٍ ) يقول: الجلد الذي يكون على ظهر
النواة.
حدثني
محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباس
قوله ( مَا
يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ ) يعني:
قشر النواة.
حدثني
محمد بن عمرو، قال: ثنا أَبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن،
قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أَبي نجيح، عن مجاهد في قول الله ( مِنْ قِطْمِيرٍ ) قال: لفافة النواة كسحاة
البيضة.
حدثنا
بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة في قوله ( مَا يَمْلِكُونَ مِنْ
قِطْمِيرٍ )
والقطمير: القشرة التي على رأس النواة.
حدثنا عمرو
بن عبد الحميد قال: ثنا مروان بن معاوية، عن جويبر عن بعض أصحابه في قوله ( مَا يَمْلِكُونَ مِنْ
قِطْمِيرٍ ) قال:
هو القِمَع الذي يكون على التمرة.
حدثنا
ابن بشار قال: ثنا أبو عامر قال: ثنا مرة عن عطية قال: القطمير: قشر النواة.
القول
في تأويل قوله تعالى : إِنْ تَدْعُوهُمْ لا
يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ
الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ( 14 )
قوله ( إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا
دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ ) يقول تعالى ذكره: إن تدعوا
أيها الناس هؤلاء الآلهة التي تعبدونها من دون الله لا يسمعوا دعاءكم؛ لأنها جماد
لا تفهم عنكم ما تقولون (
وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ ) يقول: ولو سمعوا دعاءكم إياهم، وفهموا عنكم أنها قولكم، بأن
جعل لهم سمع يسمعون به، ما استجابوا لكم؛ لأنها ليست ناطقة، وليس كل سامع قولا
متيسرًا له الجواب عنه، يقول تعالى ذكره للمشركين به الآلهة والأوثان: فكيف تعبدون
من دون الله من هذه صفته، وهو لا نفع لكم عنده، ولا قدرة له على ضركم، وتدعون
عبادة الذي بيده نفعكم وضركم، وهو الذي خلقكم وأنعم عليكم.
وبنحو
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله ( إِنْ تَدْعُوهُمْ لا
يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ ) أي: ما قبلوا ذلك عنكم، ولا
نفعوكم فيه.
وقوله ( وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ
يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ ) يقول
تعالى ذكره للمشركين من عبدة الأوثان: ويوم القيامة تتبرأ آلهتكم التي تعبدونها من
دون الله من أن تكون كانت لله شريكًا في الدنيا.
كما
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ
يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ ) إياهم
ولا يرضون ولا يقرون به.
وقوله ( وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ
خَبِيرٍ ) يقول
تعالى ذكره: ولا يخبرك يا محمد عن آلهة هؤلاء المشركين وما يكون من أمرها وأمر
عَبَدَتها يوم القيامة؛ من تبرئها منهم، وكفرها بهم، مثل ذي خبرة بأمرها وأمرهم،
وذلك الخبير هو الله الذي لا يخفى عليه شيء كان أو يكون سبحانه.
وبنحو
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله ( وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ
خَبِيرٍ ) والله
هو الخبير أنه سيكون هذا منهم يوم القيامة.
القول
في تأويل قوله تعالى : يَا أَيُّهَا النَّاسُ
أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ( 15 )
يقول
تعالى ذكره: يا أيها الناس أنتم أولو الحاجة والفقر إلى ربكم فإياه فاعبدوا، وفي
رضاه فسارعوا، يغنكم من فقركم، وتُنْجِح لديه حوائجكم ( وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ ) عن عبادتكم إياه وعن خدمتكم،
وعن غير ذلك من الأشياء؛ منكم ومن غيركم ( الْحَمِيدُ ) يعني: المحمود على نعمه؛ فإن كل نعمة بكم وبغيركم فمنه، فله
الحمد والشكر بكل حال.
القول
في تأويل قوله تعالى : إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ
وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ( 16 ) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ ( 17 )
وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا
لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ
يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى
فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ( 18 )
يقول
تعالى ذكره: إن يشأ يهلكُّم أيها الناس ربكم، لأنه أنشأكم من غير ما حاجة به إليكم
(
وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ) يقول:
ويأت بخلق سواكم يطيعونه ويأتمرون لأمره وينتهون عمَّا نهاهم عنه.
كما
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله ( إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ
وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ) أي:
ويأت بغيركم.
وقوله ( وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ
بِعَزِيزٍ ) يقول:
وما إذهابكم والإتيان بخلق سواكم على الله بشديد، بل ذلك عليه يسير سهل، يقول:
فاتقوا الله أيها الناس، وأطيعوه قبل أن يفعل بكم ذلك.
وقوله ( وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ
وِزْرَ أُخْرَى ) يقول
تعالى ذكره: ولا تحمل آثمة إثم أخرى غيرها ( وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ
مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ) يقول تعالى: وإن تسأل ذاتُ ثِقَل من الذنوب من يحمل عنها
ذنوبها وتطلب ذلك لم تجد من يحمل عنها شيئًا منها ولو كان الذي سألته ذا قرابة من
أب أو أخ.
وبنحو
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثني
محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس
قوله ( وَلا
تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا
يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ) يقول: يكون عليه وزر لا يجد أحدًا يحمل عنه من وزره شيئًا.
حدثني
محمد بن عمرو، قال: ثنا أَبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن،
قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أَبي نجيح، عن مجاهد ( وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ
إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ ) كنحو ( لا
تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) .
حدثنا
بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا ) إلى ذنوبها ( لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ
وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ) أي:
قريب القرابة منها، لايحمل من ذنوبها شيئًا، ولا تحمل على غيرها من ذنوبها شيئا ( وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ
وِزْرَ أُخْرَى ) ، ونصب
« ذَا
قُرْبَى » على
تمام « كان » لأن معنى الكلام: ولو كان الذي
تسأله أن يحمل عنها ذنوبها ذا قربى لها. وأنثت « مثقلة » لأنه
ذهب بالكلام إلى النفس، كأنه قيل: وإن تدع نفس مثقلة من الذنوب إلى حمل ذنوبها،
وإنما قيل كذلك لأن النفس تؤدي عن الذكر والأنثى كما قيل: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ
الْمَوْتِ يعني بذلك: كل ذكر وأنثى.
وقوله ( إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ
يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم:
إنما تنذر يا محمد الذين يخافون عقاب الله يوم القيامة من غير معاينة منهم لذلك،
ولكن لإيمانهم بما أتيتهم به، وتصديقهم لك فيما أنبأتهم عن الله، فهؤلاء الذين
ينفعهم إنذارك ويتعظون بمواعظك، لا الذين طبع الله على قلوبهم فهم لا يفقهون.
كما
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قول: ( إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ
يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ ) أي: يخشون النار.
وقوله ( وَأَقَامُوا الصَّلاةَ ) يقول: وأدوا الصلاة المفروضة
بحدودها على ما فرضها الله عليهم.
وقوله ( وَمَنْ تَزَكَّى فإِنَّمَا
يَتَزكَّى لِنَفْسِهِ ) يقول
تعالى ذكره: ومن يتطهر من دنس الكفر والذنوب بالتوبة إلى الله، والإيمان به،
والعمل بطاعته. فإنما يتطهر لنفسه، وذلك أنه يثيبها به رضا الله، والفوز بجنانه،
والنجاة من عقابه الذي أعده لأهل الكفر به.
كما
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله ( وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا
يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ ) أي: من
يعمل صالحًا فإنما يعمله لنفسه.
وقوله ( وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ) يقول: وإلى الله مصير كل عامل
منكم أيها الناس، مؤمنكم وكافركم، وبركم وفاجركم، وهو مجازٍ جميعكم بما قدم من خير
وشر على ما أهل منه.
القول
في تأويل قوله تعالى : وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى
وَالْبَصِيرُ ( 19 ) وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ ( 20 ) وَلا الظِّلُّ وَلا
الْحَرُورُ ( 21 ) وَمَا يَسْتَوِي الأحْيَاءُ وَلا الأمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ
يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ( 22 ) إِنْ
أَنْتَ إِلا نَذِيرٌ ( 23 )
يقول
تعالى ذكره: ( وَمَا
يَسْتَوِي الأعْمَى ) عن دين
الله الذي ابتعث به نبيه محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ( وَالْبَصِيرُ ) الذي قد أبصر فيه رشده؛ فاتبع
محمدًا وصدقه، وقبل عن الله ما ابتعثه به ( وَلا الظُّلُمَاتُ ) يقول: وما تستوي ظلمات الكفر ونور الإيمان ( وَلا الظِّلُّ ) قيل: ولا الجنة ( وَلا الْحَرُورُ ) قيل: النار، كأن معناه عندهم:
وما تستوي الجنة والنار، والحرور بمنـزلة السموم، وهي الرياح الحارة. وذكر أَبو
عبيدة معمر بن المثنى، عن رؤبة بن العجاج، أنه كان يقول: الحرور بالليل والسموم
بالنهار. وأما أَبو عبيدة فإنه قال: الحرور في هذا الموضع والنهار مع الشمس، وأما
الفراء فإنه كان يقول: الحرور يكون بالليل والنهار، والسموم لا يكون بالليل إنما
يكون بالنهار.
والقول
في ذلك عندى: أن الحرور يكون بالليل والنهار، غير أنه في هذا الموضع بأن يكون كما
قال أَبو عبيدة: أشبه مع الشمس لأن الظل إنما يكون في يوم شمس، فذلك يدل على أنه
أريد بالحرور: الذي يوجد في حال وجود الظل.
وقوله ( وَمَا يَسْتَوِي الأحْيَاءُ
وَلا الأمْوَاتُ ) يقول:
وما يستوي الأحياء القلوب بالإيمان بالله ورسوله، ومعرفة تنـزيل الله، والأموات
القلوب لغلبة الكفر عليها، حتى صارت لا تعقل عن الله أمره ونهيه، ولا تعرف الهدى
من الضلال، وكل هذه أمثال ضربها الله للمؤمن والإيمان والكافر والكفر.
وبنحو
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثني
محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أَبي، عن أبيه، عن ابن عباس
قوله ( وَمَا
يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ ... ) الآية، قال: هو مثل ضربه الله لأهل الطاعة وأهل المعصية؛
يقول: وما يستوي الأعمى والظلمات والحرور ولا الأموات، فهو مثل أهل المعصية، ولا
يستوي البصير ولا النور ولا الظل والأحياء، فهو مثل أهل الطاعة.
حدثنا
بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله ( وَمَا يَسْتَوِي الأعْمَى
... ) الآية،
خلقًا فضل بعضه على بعض؛ فأما المؤمن فعبد حي الأثر، حي البصر، حي النية، حي
العمل، وأما الكافر فعبد ميت؛ ميت البصر، ميت القلب، ميت العمل.
حدثني
يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( وَمَا يَسْتَوِي الأعْمَى
وَالْبَصِيرُ وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ
وَمَا يَسْتَوِي الأحْيَاءُ وَلا الأمْوَاتُ ) قال: هذا مثل ضربه الله؛ فالمؤمن بصير في دين الله، والكافر
أعمى، كما لا يستوي الظل ولا الحرور ولا الأحياء ولا الأموات، فكذلك لا يستوي هذا
المؤمن الذي يبصر دينه ولا هذا الأعمى، وقرأ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا
فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ قال: الهدى
الذي هداه الله به ونور له، هذا مثل ضربه الله لهذا المؤمن الذي يبصر دينه، وهذا
الكافر الأعمى فجعل المؤمن حيًّا وجعل الكافر ميتًا ميت القلب أَوَمَنْ كَانَ
مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ قال: هديناه إلى الإسلام كمن مثله في الظلمات أعمى القلب
وهو في الظلمات، أهذا وهذا سواء؟.
واختلف
أهل العربية في وجه دخول « لا » مع حرف العطف في قوله ( وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا
النُّورُ وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ ) فقال بعض نحويي البصرة: قال: ولا الظل ولا الحرور، فيشبه أن
تكون « لا » زائدة، لأنك لو قلت: لا يستوي
عمرو ولا زيد في هذا المعنى لم يجز إلا أن تكون « لا » زائدة،
وكان غيره يقول: إذا لم تدخل « لا » مع الواو، فإنما لم تدخل
اكتفاء بدخولها في أول الكلام، فإذا أدخلت فإنه يراد بالكلام أن كل واحد منهما لا
يساوي صاحبه، فكان معنى الكلام إذا أعيدت « لا » مع
الواو عند صاحب هذا القول لا يساوي الأعمى البصير ولا يساوي البصير الأعمى، فكل
واحد منهما لا يساوي صاحبه.
وقوله ( إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ
يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ) يقول تعالى ذكره: كما لا يقدر
أن يسمع من في القبور كتاب الله فيهديهم به إلى سبيل الرشاد، فكذلك لا يقدر أن
ينفع بمواعظ الله وبيان حججه من كان ميت القلب من أحياء عباده، عن معرفة الله،
وفهم كتابه وتنـزيله، وواضح حججه.
كما
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ
يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ) كذلك الكافر لا يسمع، ولا
ينتفع بما يسمع.
وقوله ( إِنْ أَنْتَ إِلا نَذِيرٌ ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: ما أنت إلا نذير تنذر هؤلاء المشركين بالله الذين
طبع الله على قلوبهم، ولم يرسلك ربك إليهم إلا لتبلغهم رسالته، ولم يكلفك من الأمر
ما لا سبيل لك إليه، فأما اهتداؤهم وقبولهم منك ما جئتهم به فإن ذلك بيد الله لا
بيدك ولا بيد غيرك من الناس؛ فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن هم لم يستجيبوا لك.
القول
في تأويل قوله تعالى : إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ
بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ (
24 ) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ
بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ( 25 ) ثُمَّ أَخَذْتُ
الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ( 26 )
يقول جل
ثناؤه لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: ( إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ ) يا محمد ( بِالْحَقِّ ) وهو الإيمان بالله وشرائع
الدين التي افترضها على عباده (
بَشِيرًا ) يقول:
مبشرًا بالجنة من صدقك وقبل منك ما جئت به من عند الله من النصيحة ( وَنَذِيرًا ) تنذر الناس مَن كذبك ورد عليك
ما جئت به من عند الله من النصيحة ( وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ ) يقول: وما من أمة من الأمم
الدائنة بملة إلا خلا فيها من قبلك نذير ينذرهم بأسنا على كفرهم بالله.
كما
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلا
خَلا فِيهَا نَذِيرٌ ) كل أمة
كان لها رسول.
وقوله ( وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ
كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) يقول تعالى ذكره مسليًا نبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم
فيما يلقى من مشركي قومه من التكذيب: وإن يكذبك يا محمد مشركو قومك فقد كذب الذين
من قبلهم من الأمم الذين جاءتهم رسلهم بالبينات، يقول: بحجج من الله واضحة،
وبالزبر يقول: وجاءتهم بالكتب من عند الله.
كما
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله ( بِالْبَيِّنَاتِ
وَبِالزُّبُرِ ) أي:
الكتب.
وقوله ( وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ) يقول: وجاءهم من الله الكتاب
المنير لمن تأمله وتدبره أنه الحق.
كما
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله ( وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ) يضعف الشيء وهو واحد.
وقوله ( ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ
كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ) يقول
تعالى ذكره: ثم أهلكنا الذين جحدوا رسالة رسلنا، وحقيقة ما دعوهم إليه من آياتنا
وأصروا على جحودهم ( فَكَيْفَ
كَانَ نَكِير ) يقول:
فانظر يا محمد كيف كان تغييري بهم وحلول عقوبتي بهم.
القول
في تأويل قوله تعالى : أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ
أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا
أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا
وَغَرَابِيبُ سُودٌ ( 27 ) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ
مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ
الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ( 28 )
يقول
تعالى ذكره: ألم تر يا محمد أن الله أنـزل من السماء غيثًا فأخرجنا به ثمرات
مختلفًا ألوانها: يقول: فسقيناه أشجارًا في الأرض فأخرجنا به من تلك الأشجار ثمرات
مختلفا ألوانها؛ منها الأحمر ومنها الأسود والأصفر، وغير ذلك من ألوانها ( وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ
بِيضٌ وَحُمْرٌ ) يقول
تعالى ذكره: ومن الجبال طرائق، وهي الجدد، وهي الخطط تكون في الجبال بيض وحمر
وسود، كالطرق واحدتها جدة، ومنه قول امرىء القيس في صفة حمار:
كـــأنَّ
سَــرَاتَهُ وَجُــدَّةَ مَتْنِــهِ كَنَــائِنُ يَجْــرِي فَـوْقَهُنَّ دَلِيـصُ
يعني بالجدة:
الخطة السوداء تكون في متن الحمار.
وقوله ( مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا ) يعني: مختلف ألوان الجدد ( وَغَرَابِيبُ سُودٌ ) وذلك من المقدم الذي هو بمعنى
التأخير، وذلك أن العرب تقول: هو أسود غربيب، إذا وصفوه بشدة السواد، وجعل السواد
ها هنا صفة للغرابيب.
وقوله ( وَمِنَ النَّاسِ
وَالدَّوَابِّ وَالأنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ ) كما من الثمرات والجبال مختلف
ألوانه بالحمرة والبياض والسواد والصفرة، وغير ذلك.
وبنحو
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة في قوله ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ
أَنـزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا
أَلْوَانُهَا ) أحمر
وأخضر وأصفر (
وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ ) أي:
طرائق بيض (
وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا ) أي: جبال حمر وبيض ( وَغَرَابِيبُ سُودٌ ) هو الأسود يعني لونه كما اختلف ألوان هذه اختلف ألوان الناس
والدواب والأنعام كذلك.
حُدثت عن
الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله ( وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ
بِيضٌ ) طرائق
بيض وحمر وسود، وكذلك الناس مختلف ألوانهم.
حدثنا
عمرو بن عبد الحميد الآملي، قال: ثنا مروان، عن جويبر عن الضحاك قوله ( وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ
بِيضٌ ) قال:
هي طرائق حمر وسود.
وقوله ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ
مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ) يقول
تعالى ذكره: إنما يخاف الله فيتقي عقابه بطاعته العلماء، بقدرته على ما يشاء من
شيء، وأنه يفعل ما يريد، لأن من علم ذلك أيقن بعقابه على معصيته؛ فخافه ورهبه خشية
منه أن يعاقبه.
وبنحو
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثني
علي قال: ثنا عبد الله قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ
مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ) قال:
الذين يعلمون أن الله على كل شيء قدير.
حدثنا
بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ
مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ) قال:
كان يقال: كفى بالرهبة علمًا.
وقوله ( إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ
غَفُورٌ ) يقول
تعالى ذكره: إن الله عزيز في انتقامه ممن كفر به غفور لذنوب من آمن به وأطاعه.
القول
في تأويل قوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ
كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا
وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ ( 29 ) لِيُوَفِّيَهُمْ
أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ( 30 )
يقول
تعالى ذكره: إن الذين يقرءون كتاب الله الذي أنـزله على محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم (
وَأَقَامُوا الصَّلاةَ ) يقول:
وأدوا الصلاة المفروضة لمواقيتها بحدودها، وقال: وأقاموا الصلاة بمعنى: ويقيموا
الصلاة.
وقوله ( وَأَنْفَقُوا مِمَّا
رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً ) يقول: وتصدقوا بما أعطيناهم من الأموال سرًّا في خفاء
وعلانية جهارًا، وإنما معنى ذلك أنهم يؤدون الزكاة المفروضة، ويتطوعون أيضًا
بالصدقة منه بعد أداء الفرض الواجب عليهم فيه.
وقوله ( يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ
تَبُورَ ) يقول
تعالى ذكره: يرجون بفعلهم ذلك تجارة لن تبور: لن تكسد ولن تهلك، من قولهم: بارت
السوق إذا كسدت وبار الطعام. وقوله ( تِجَارَةً ) جواب لأول الكلام.
وقوله ( لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ
) يقول:
ويوفيهم الله على فعلهم ذلك ثواب أعمالهم التى عملوها في الدنيا ( وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ
) يقول:
وكي يزيدهم على الوفاء من فضله ما هو له أهل، وكان مطرف بن عبد الله يقول: هذه آية
القراء.
حدثنا محمد
بن بشار قال: ثنا عمرو بن عاصم قال: ثنا معتمر عن أبيه، عن قتادة قال: كان مطرف
إذا مر بهذه الآية ( إِنَّ
الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ ) يقول:
هذه آية القراء.
حدثنا
ابن المثنى قال: ثنا محمد بن جعفر قال: ثنا شعبة، عن يزيد، عن مطرف بن عبد الله
أنه قال في هذه الآية ( إِنَّ
الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ ... ) إلى
آخر الآية، قال: هذه آية القراء.
حدثنا
بشر، قال : ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قال: كان مطرف بن عبد الله يقول:
هذه آية القراء (
لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ) .
وقوله ( إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ) يقول: إن الله غفور لذنوب
هؤلاء القوم الذين هذه صفتهم شكور لحسناتهم.
كما
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ) إنه غفور لذنوبهم، شكور
لحسناتهم.
القول
في تأويل قوله تعالى : وَالَّذِي أَوْحَيْنَا
إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ
اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ ( 31 )
يقول
تعالى ذكره: (
وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ ) يا محمد وهو هذا القرآن الذي أنـزله الله عليه ( هُوَ الْحَقُّ ) يقول: هو الحق عليك وعلى أمتك
أن تعمل به، وتتبع ما فيه دون غيره من الكتب التي أوحيت إلى غيرك ( مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ
يَدَيْهِ ) يقول:
هو يصدق ما مضى بين يديه فصار أمامه من الكتب التي أنـزلتها إلى من قبلك من الرسل.
كما
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله ( وَالَّذِي أَوْحَيْنَا
إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ) للكتب التي خلت قبله.
وقوله ( إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ
لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ ) يقول
تعالى ذكره: إن الله بعباده لذو علم وخبرة بما يعملون بصير بما يصلحهم من التدبير.
القول
في تأويل قوله تعالى : ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ
الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ
مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ
الْكَبِيرُ ( 32 )
اختلف
أهل التأويل في معنى الكتاب الذي ذكر الله في هذه الآية أنه أورثه الذين اصطفاهم
من عباده، ومن المصطفون من عباده، والظالم لنفسه؛ فقال بعضهم: الكتاب هو الكتب
التي أنـزلها الله من قبل الفرقان. والمصطفون من عباده أمة محمد صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم. والظالم لنفسه أهل الإجرام منهم.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
علي قال: ثنا أَبو صالح قال: ثني معاوية عن علي عن ابن عباس قوله ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا
الْكِتَابَ ... ) إلى
قوله (
الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ) هم أمة
محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ورثهم الله كل كتاب أنـزله؛ فظالمهم يغفر له،
ومقتصدهم يحاسب حسابًا يسيرًا، وسابقهم يدخل الجنة بغير حساب.
حدثنا
ابن حميد قال: ثنا الحكم بن بشير قال: ثنا عمرو بن قيسٍ عن عبد الله بن عيسى، عن
يزيد بن الحارث عن شقيق، عن أَبي وائل عن عبد الله بن مسعود أنه قال: هذه الأمة
ثلاثة أثلاث يوم القيامة؛ ثلث يدخلون الجنة بغير حساب، وثلث يحاسبون حسابًا
يسيرًا، وثلث يجيئون بذنوب عظام حتى يقول: ما هؤلاء؟ وهو أعلم تبارك وتعالى، فتقول
الملائكة: هؤلاء جاءوا بذنوب عظام إلا أنهم لم يشركوا بك، فيقول الرب: أدخلوا
هؤلاء في سعة رحمتي، وتلا عبد الله هذه الآية ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ
عِبَادِنَا ) .
حدثنا
حميد بن مسعدة قال: ثنا يزيد بن زريع قال: ثنا عون قال: ثنا عبد الله بن الحارث بن
نوفل قال: ثنا كعب الأحبار أن الظالم لنفسه من هذه الأمة، والمقتصد والسابق
بالخيرات كلهم في الجنة، ألم تر أن الله قال ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ
عِبَادِنَا ... ) إلى
قوله كُلَّ كَفُورٍ .
حدثني
علي بن سعيد الكندي قال: ثنا عبد الله بن المبارك، عن عوف، عن عبد الله بن الحارث
بن نوفل، قال: سمعت كعبًا يقول: (
فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ
بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ) قال:
كلهم في الجنة، وتلا هذه الآية جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا .
حدثنا
الحسن بن عرفة قال: ثنا مروان بن معاوية الفزاري عن عوف بن أبي جبلة قال: ثنا عبد
الله بن الحارث بن نوفل قال: ثنا كعب أن الظالم من هذه الأمة والمقتصد والسابق
بالخيرات كلهم في الجنة، ألم تر أن الله قال ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ
عِبَادِنَا ... ) إلى
قوله لُغُوبٌ والذين كفروا لهم نار جهنم، قال: قال كعب: فهؤلاء أهل النار.
حدثني
يعقوب قال: ثنا ابن علية عن عوف قال: سمعت عبد الله بن الحارث يقول: قال كعب: إن
الظالم لنفسه والمقتصد والسابق بالخيرات من هذه الأمة كلهم في الجنة، ألم تر أن
الله يقول ( ثُمَّ
أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ... ) حتى بلغ قوله جَنَّاتُ عَدْنٍ
يَدْخُلُونَهَا .
حدثني
يعقوب بن إبراهيم قال: ثنا ابن عُلية، قال: أخبرنا حميد عن إسحاق بن عبد الله بن
الحارث عن أبيه أن ابن عباس سأل كعبًا عن قوله تعالى ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا
الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ... ) إلى قوله ( بِإِذْنِ اللَّهِ ) فقال: تماست مناكبهم ورب
الكعبة ثم أعطوا الفضل بأعمالهم.
حدثنا
ابن حميد قال: ثنا الحكم بن بشير قال: ثنا عمرو بن قيس عن أَبي إسحاق السبيعي في
هذه الآية ( ثُمَّ
أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا ) قال: قال أَبو إسحاق: أما ما سمعت منذ ستين سنة، فكلهم
ناجٍ.
قال: ثنا
عمرو عن محمد بن الحنفية قال: إنها أمة مرحومة، الظالم مغفور له والمقتصد في
الجنات عند الله والسابق بالخيرات في الدرجات عند الله.
وقال
آخرون: الكتاب الذي أورث هؤلاء القوم هو شهادة أن لا إله إلا الله، والمصطفون هم
أمة محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، والظالم لنفسه منهم هو المنافق، وهو في
النار، والمقتصد والسابق بالخيرات في الجنة.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
أَبو عمار الحسين بن حريث المروزي قال: ثنا الفضل بن موسى عن حسين بن واقد عن يزيد
عن عكرمة عن عبد الله (
فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ
بِالْخَيْرَاتِ ) قال:
اثنان في الجنة وواحد في النار.
حدثني
محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس
قوله ( ثُمَّ
أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ... ) إلى آخر الآية قال: جعل أهل
الإيمان على ثلاثة منازل، كقوله فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ
الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ *
وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فهم على هذا المثال.
حدثنا
ابن حميد قال: ثنا يحيى بن واضح قال: ثنا الحسين عن يزيد عن عكرمة ( فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ
لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ ... ) الآية، قال: الاثنان في الجنة وواحد في النار، وهي بمنـزلة
التي في الواقعة فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ *
وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ
السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ .
حدثنا
سهل بن موسى قال: ثنا عبد المجيد عن ابن جريج عن مجاهد في قوله ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ
الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ ) قال: هم أصحاب المشأمة ( وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ ) قال: هم أصحاب الميمنة ( وَمِنْهُمْ سَابِقٌ
بِالْخَيْرِاتِ ) قال:
هم السابقون من الناس كلهم.
حدثنا الحسن
بن عرفة قال: ثنا مروان بن معاوية قال: قال عوف: قال الحسن: أما الظالم لنفسه فإنه
هو المنافق، سقط هذا وأما المقتصد والسابق بالخيرات فهما صاحبا الجنة.
حدثني
يعقوب قال: ثنا ابن علية عن عوف قال: قال الحسن: الظالم لنفسه المنافق.
حدثنا
بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا
الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ) شهادة أن لا إله إلا الله ( فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ
لِنَفْسِهِ ) هذا
المنافق في قول قتادة والحسن (
وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ ) قال:
هذا صاحب اليمين (
وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ ) قال: هذا المقرب، قال قتادة: كان الناس ثلاث منازل في
الدنيا، وثلاث منازل عند الموت، وثلاث منازل في الآخرة؛ أما الدنيا فكانوا: مؤمن
ومنافق ومشرك، وأما عند الموت فإن الله قال فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ
الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ
مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا
إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ *
وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ وأما في الآخرة فكانوا أزواجًا ثلاثة فَأَصْحَابُ
الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا
أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ
الْمُقَرَّبُونَ .
حدثني
محمد بن عمرو، قال: ثنا أَبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن،
قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أَبي نجيح، عن مجاهد قوله ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا
الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ
) قال:
هم أصحاب المشأمة (
وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ ) قال:
أصحاب الميمنة (
وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ ) قال: فهم السابقون من الناس كلهم.
حدثنا
ابن بشار، قال: ثنا أَبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن،
قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أَبي نجيح، عن مجاهد ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا
الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ
) قال:
سقط هذا (
وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ) قال: سبق هذا بالخيرات وهذا
مقتصد على أثره.
وأولى
الأقوال في ذلك بالصواب تأويل من قال: عنى بقوله ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ
عِبَادِنَا ) الكتب
التي أنـزلت من قبل الفرقان.
فإن قال
قائل: وكيف يجوز أن يكون ذلك معناه وأمة محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم لا
يتلون غير كتابهم، ولا يعملون إلا بما فيه من الأحكام والشرائع؟ قيل: إن معنى ذلك على
غير الذي ذهبت إليه وإنما معناه: ثم أورثنا الإيمان بالكتاب الذين اصطفينا؛ فمنهم
مؤمنون بكل كتاب أنـزله الله من السماء قبل كتابهم وعاملون به؛ لأن كل كتاب أنـزل
من السماء قبل الفرقان، فإنه يأمر بالعمل بالفرقان عند نـزوله، وباتباع من جاء به،
وذلك عمل من أقر بمحمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وبما جاء به وعمل بما دعاه
إليه بما فى القرآن، وبما في غيره من الكتب التي أنـزلت قبله.
وإنما
قيل: عنى بقوله ( ثُمَّ
أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ ) الكتب
التي ذكرنا؛ لأن الله جل ثناؤه قال لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم
وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا
بَيْنَ يَدَيْهِ ثم أتبع ذلك قوله ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا ) فكان معلومًا إذ كان معنى
الميراث إنما هو انتقال معنى من قوم إلى آخرين، ولم تكن أمة على عهد نبينا صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم انتقل إليهم كتاب من قوم كانوا قبلهم غير أمته أن ذلك
معناه: وإذ كان ذلك كذلك فبين أن المصطفين من عباده هم مؤمنو أمته، وأما الظالم
لنفسه فإنه لأن يكون من أهل الذنوب والمعاصي التي هي دون النفاق والشرك عندي أشبه
بمعنى الآية من أن يكون المنافق أو الكافر، وذلك أن الله تعالى ذكره أتبع هذه
الآية قوله جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا فعم بدخول الجنة جميع الأصناف الثلاثة.
فإن قال
قائل: فإن قوله يَدْخُلُونَهَا إنما عنى به المقتصد والسابق! قيل له: وما برهانك
على أن ذلك كذلك من خبر أو عقل؟ فإن قال: قيام الحجة أن الظالم من هذه الأمة سيدخل
النار، ولو لم يدخل النار من هذه الأصناف الثلاثة أحد وجب أن لا يكون لأهل الإيمان
وعيد؟ قيل: إنه ليس في الآية خبر أنهم لا يدخلون النار، وإنما فيها إخبار من الله
تعالى ذكره أنهم يدخلون جنات عدن، وجائز أن يدخلها الظالم لنفسه بعد عقوبة الله
إياه على ذنوبه التي أصابها في الدنيا، وظلمه نفسه فيها بالنار أو بما شاء من
عقابه، ثم يدخله الجنة، فيكون ممن عمه خبر الله جل ثناؤه بقوله جَنَّاتُ عَدْنٍ
يَدْخُلُونَهَا .
وقد روي
عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بنحو الذي قلنا في ذلك أخبار وإن كان
في أسانيدها نظر مع دليل الكتاب على صحته على النحو الذي بينت.
* ذكر
الرواية الواردة بذلك:
حدثنا
محمد بن بشار قال: ثنا أَبو أحمد الزبيري قال: ثنا سفيان عن الأعمش قالَ: ذكر أَبو
ثابت أنه دخل المسجد، فجلس إلى جنب أَبي الدرداء، فقال: اللهم آنس وحشتي وارحم
غربتي ويسر لي جليسًا صالحًا، فقال أَبو الدرداء: لئن كنت صادقًا لأنا أسعد به
منك، سأحدثك حديثًا سمعته من رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم لم أحدث به
منذ سمعته ذَكَرَ هذه الآية ( ثُمَّ
أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ
ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ ) فأما السابق بالخيرات فيدخلها
بغير حساب وأما المقتصد فيحاسب حسابًا يسيرًا، وأما الظالم لنفسه فيُصيبه في ذلك
المكان من الغم والحزن فذلك قوله الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا
الْحَزَنَ .
حدثنا
ابن المثنى قال: ثنا محمد بن جعفر قال: ثنا شعبة عن الوليد بن المغيرة، أنه سمع
رجلا من ثقيف حدث عن رجل من كنانة عن أَبي سعيد الخدري عن النبي صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم أنه قال في هذه الآية: ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ
عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ
سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ) قال: « هؤلاء
كلهم بمنـزلة واحدة وكلهم في الجنة » . وعنى بقوله ( الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ) الذين اخترناهم لطاعتنا
واجتبيناهم، وقوله (
فَمْنِهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ ) يقول:
فمن هؤلاء الذين اصطفينا من عبادنا من يظلم نفسه بركوبه المآثم واجترامه المعاصي
واقترافه الفواحش (
وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ ) وهو
غير المبالغ في طاعة ربه وغير المجتهد فيما ألزمه من خدمة ربه حتى يكون عمله في
ذلك قصدًا (
وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ ) وهو المبرز الذي قد تقدم المجتهدين في خدمة ربه وأداء ما
لزمه من فرائضه، فسبقهم بصالح الأعمال وهي الخيرات التي قال الله جل ثناؤه ( بِإِذْنِ اللِّهِ ) يقول: بتوفيق الله إياه لذلك.
وقوله ( ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ
الْكَبِيرُ ) يقول
تعالى ذكره: سبق هذا السابق من سبقه بالخيرات بإذن الله، هو الفضل الكبير الذي فضل
به من كان مقتصرًا عن منـزلته في طاعة الله من المقتصد والظالم لنفسه.
القول
في تأويل قوله تعالى : جَنَّاتُ عَدْنٍ
يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا
وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ( 33 ) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي
أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ( 34 )
يقول
تعالى ذكره: بساتين إقامة يدخلونها هؤلاء الذين أورثناهم الكتاب، الذين اصطفينا من
عبادنا يوم القيامة (
يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ ) يلبسون في جنات عدن أسورة من ذهب ( وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ
فِيهَا حَرِيرٌ ) يقول:
ولباسهم في الجنة حرير.
وقوله ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي
أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ) اختلف
أهل التأويل في الحَزَنِ الذي حمد الله على إذهابه عنهم هؤلاء القوم؛ فقال بعضهم:
ذلك الحزَن الذي كانوا فيه قبل دخولهم الجنة من خوف النار إذ كانوا خائفين أن
يدخلوها.
ذكر
من قال ذلك:
حدثني
قتادة بن سعيد بن قتادة السدوسي قال: ثنا معاذ بن هشام صاحب الدستوائي قال: ثنا
أَبي عن عمرو بن مالك عن أَبي الجوزاء عن ابن عباس في قوله ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي
أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ) قال:
حزن النار.
حدثنا
ابن حميد قال: ثنا ابن المبارك عن مَعْمَر عن يحيى بن المختار عن الحسن وَإِذَا
خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا قال: إن المؤمنين قوم ذُلُل ذلَّت
والله الأسماع والأبصار والجوارح، حتى يحسبهم الجاهل مَرضَى، وما بالقوم مرض،
وإنهم لأصحة القلوب ولكن دخلهم من الخوف ما لم يدخل غيرهم، ومنعهم من الدنيا علمهم
بالآخرة، فقالوا (
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ) والحَزَنُ، والله ما حزنهم
حزن الدنيا ولا تعاظم في أنفسهم ما طلبوا به الجنة أبكاهم الخوف من النار، وأنه من
لا يتعزَّ بعزاء الله يقطِّع نفسه على الدنيا حسرات، ومن لم ير لله عليه نعمة إلا
في مطعم أو مشرب فقد قل علمه وحضر عذابه.
وقال
آخرون: عني به الموت.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
أَبو كريب قال: ثنا ابن إدريس عن أبيه عن عطية في قوله ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي
أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ) قال:
الموت.
وقال
آخرون: عني به حزن الخبز .
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
ابن حميد قال: ثنا يعقوب عن حفص يعني ابن حميد عن شمر قال: لما أدخل الله أهل
الجنة الجنة قالوا (
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ) قال: حزن الخبز.
وقال
آخرون. عني بذلك: الحزن من التعب الذي كانوا فيه في الدنيا.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله ( وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ) قال: كانوا في الدنيا يعملون وينصبون وهم في خوف، أو
يحزنون.
وقال
آخرون: بل عني بذلك الحزن الذي ينال الظالم لنفسه في موقف القيامة.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
ابن بشار قال: ثنا أَبو أحمد قال: ثنا سفيان عن الأعمش قال: ذكر أَبو ثابت أن أبا
الدرداء قال: سمعت رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يقول: « أما الظالم لنفسه فيصيبه في
ذلك المكان من الغم والحزن فذلك قوله ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ) » .
وأولى
الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر عن هؤلاء القوم الذين
أكرمهم بما أكرمهم به أنهم قالوا حين دخلوا الجنة ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي
أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ) وخوف
دخول النار من الحزن، والجَزَع من الموت من الحزن، والجزع من الحاجة إلى المطعم من
الحزن. ولم يخصص الله إذ أخبر عنهم أنهم حمدوه على إذهابه الحزن عنهم نوعًا دون
نوع، بل أخبر عنهم أنهم عموا جميع أنوع الحزن بقولهم ذلك، وكذلك ذلك؛ لأن من دخل
الجنة فلا حزن عليه بعد ذلك، فحمدهم على إذهابه عنهم جميع معاني الحزن.
وقوله ( إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ
شَكُورٌ ) يقول
تعالى ذكره مخبرًا عن قيل هذه الأصناف الذين أخبر أنه اصطفاهم من عباده عند دخولهم
الجنة: إن ربنا لغفور لذنوب عباده الذين تابوا من ذنوبهم، فساترها عليهم بعفوه لهم
عنها، شكور لهم على طاعتهم إياه، وصالح ما قدموا في الدنيا من الأعمال.
وبنحو
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله ( إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ
شَكُورٌ )
لحسناتهم.
حدثنا
ابن حميد قال: ثنا يعقوب عن حفص عن شمر ( إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ) غفر لهم ما كان من ذنب، وشكر
لهم ما كان منهم.
القول
في تأويل قوله تعالى : الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ
الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا
لُغُوبٌ ( 35 )
يقول تعالى
ذكره مخبرًا عن قيل الذين أدخلوا الجنة إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ *
الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ أي: ربنا الذي أنـزلنا هذه الدار يعنون
الجنة، فدار المقامة: دار الإقامة التي لا نقلة معها عنها ولا تحول، والميم إذا
ضمت من «
المقامة » فهو من
الإقامة، فإذا فتحت فهي من المجلس، والمكان الذي يقام فيه، قال الشاعر:
يَومَــانِ
يَــومُ مَقامَــاتٍ وأنْدِيـةٍ وَيَـومُ سَـيرٍ إلَـى الأعْـدَاءِ تَـأويب
وبنحو
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ ) أقاموا فلا يتحولون.
وقوله ( لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ
) يقول:
لا يصيبنا فيها تعب ولا وجع ( وَلا
يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ ) يعني
باللغوب: العناء والإعياء.
وبنحو
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
محمد بن عبيد قال: ثنا موسى بن عمير عن أَبي صالح عن ابن عباس في قوله ( لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ
وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ ) قال:
اللغوب: العناء
حدثنا
بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله ( لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ
) أي:
وجع.
القول
في تأويل قوله تعالى : وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ
نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ
عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ ( 36 ) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا
رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ
نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ
فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ ( 37 )
يقول
تعالى ذكره (
وَالَّذِينَ كَفَرُوا ) بالله
ورسوله (
لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ ) يقول:
لهم نار جهنم مخلدين فيها لا حظ لهم في الجنة ولا نعيمها.
كما
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا
يُقْضَى عَلَيْهِمْ ) بالموت
(
فَيَمُوتُوا ) ،
لأنهم لو ماتوا لاستراحوا ( وَلا
يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا ) يقول: ولا يخفف عنهم من عذاب نار جهنم بإماتتهم، فيخفف ذلك
عنهم.
كما
حدثني مطرَّف بن عبد الله الضَّبِّي قال: ثنا أَبو قتيبة قال ثنا أَبو هلال
الراسبي عن قتادة عن أَبي السوداء قال: مساكين أهل النار لا يموتون، لو ماتوا
لاستراحوا.
حدثني
عقبة بن سنان القزاز قال: ثنا غسان بن مضر قال: ثنا سعيد بن يزيد وحدثني يعقوب
قال: ثنا ابن علية عن سعيد بن يزيد، وحدثنا سَوَّار بن عبد الله قال: ثنا بشر بن
المفضل، ثنا أَبو سلمة عن أَبي نضرة عن أَبي سعيد قال: قال رسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم: « أما
أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون، لكنَّ ناسًا، أو كما
قال، تُصيبهمُ النارُ بذنوبِهم، أو قال: بخطاياهم، فَيُمِيتُهم إماتةً حتى إذا
صاروا فَحْمًا أذن في الشفاعة، فجيء بهم ضَبَائرَ ضَبَائرَ، فَبُثُّوا على أهل
الجنة، فقال: يا أهلَ الجنة أفِيضُوا عليهم فَيَنْبُتُون كما تَنْبُتُ الحبة في
حَمِيلِ السيل » فقال
رجل من القوم حينئذٍ: كأن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قد كان
بالبادية .
فإن قال
قائل: وكيف قيل ( وَلا
يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا ) وقد قيل في موضع آخر كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا
؟ قيل: معنى ذلك: ولا يخفف عنهم من هذا النوع من العذاب.
وقوله ( كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ
كَفُورٍ ) يقول
تعالى ذكره: هكذا يكافِئ كل جحود لنعم ربه يوم القيامة؛ بأن يدخلهم نار جهنم
بسيئاتهم التي قدموها في الدنيا.
وقوله ( وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا
رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ) يقول تعالى ذكره: هؤلاء
الكفار يستغيثون ويضجون في النار، يقولون: يا ربنا أخرجنا نعمل صالحًا أي: تعمل
بطاعتك (
غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ) قبلُ
من معاصيك. وقولهُ (
يَصْطَرِخُونَ )
يفتعلون من الصراخ؛ حولتْ تاؤها طاءً لقرب مخرجها من الصاد لما ثَقُلت.
وقوله ( أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا
يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ ) اختلف أهل التأويل في مبلغ ذلك؛ فقال بعضهم: ذلك أربعون
سنة.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا ابن
عبد الأعلى قال: ثنا بشر بن المفضل قال: ثنا عبد الله بن عثمان بن خُثَيم عن مجاهد
قال: سمعت ابن عباس يقول: العمر الذي أعذر الله إلى ابن آدم ( أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا
يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ ) أربعون سنة.
حدثني
يعقوب قال: ثنا هشيم، عن مجالد، عن الشعبي عن مسروق أنه كان يقول: إذا بلغ أحدكم
أربعين سنة فليأخذ حذره من الله.
وقال
آخرون: بل ذلك ستون سنة.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
محمد بن بشار قال: ثنا عبد الرحمن قال: ثنا سفيان عن ابن خُثَيم عن مجاهد عن ابن
عباس (
أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ ) قال: ستون سنة.
حدثنا
أَبو كريب قال: ثنا ابن إدريس قال: سمعت عبد الله بن عثمان بن خُثَيم عن مجاهد عن
ابن عباس قال: العمر الذي أعذر الله فيه لابن آدم ستون سنة.
حدثنا
علي بن شعيب قال: ثنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك عن إبراهيم بن الفضل عن أَبي
حسين المكي عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم: « إذا
كان يومُ القيامةِ نُودِي: أين أبناء الستين، وهو العمر الذي قال الله ( أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا
يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ ) » .
حدثني
أحمد بن الفرج الحمصي قال: ثنا بقية بن الوليد قال: ثنا مطرف بن مازن الكناني قال:
ثني معمر بن راشد قال: سمعت محمد بن عبد الرحمن الغفاري يقول: سمعت أبا هريرة
يقول: قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: « لَقدْ أعْذَرَ اللهُ إلَى صاحب
السِّتَّين سنة والسَّبعين » .
حدثنا
أَبو صالح الفزاري قال: ثنا محمد بن سوار قال: ثنا يعقوب بن عبدٍ القاريُّ
الإسكندريُّ قال: ثنا أَبو حازم عن سعيد المقبري عن أَبي هريرة قال: قال رسول الله
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: « منْ
عَمَّرهُ اللهُ ستين سنةً فَقَد أعذرَ إليهِ في العُمْرِ » .
حدثنا
محمد بن سوار قال: ثنا أسد بن حميدٍ عن سعيد بن طريف عن الأصبغ بن نباتة عن علي
رضي الله عنه في قوله (
أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ
النَّذِيرُ ) قال:
العمر الذي عمركم الله به ستون سنة.
وأشبه
القولين بتأويل الآية إذ كان الخبر الذي ذكرناه عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم خبرًا في إسناده بعض من يجب التثبت في نقله، قول من قال ذلك أربعون سنة،
لأن في الأربعين يتناهى عقل الإنسان وفهمه، وما قبل ذلك وما بعده منتقص عن كماله
في حال الأربعين.
وقوله ( وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ ) اختلف أهل التأويل في معنى
النذير؛ فقال بعضهم: عنى به محمدًا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
ذكر
من قال ذلك:
حدثني
يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ ) قال: النذير: النبي، وقرأ
هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأُولَى .
وقيل:
عَنى به الشيب.
فتأويل
الكلام إذن: أولم نعمركم يا معشر المشركين بالله من قريش من السنين، ما يتذكر فيه
من تذكر، من ذوي الألباب والعقول، واتعظ منهم من اتعظ، وتاب من تاب، وجاءكم من
الله منذر ينذركم ما أنتم فيه اليوم من عذاب الله، فلم تتذكروا مواعظ الله، ولم
تقبلوا من نذير الله الذي جاءكم ما أتاكم به من عند ربكم.
القول
في تأويل قوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ( 38 )
يقول
تعالى ذكره: فَذُوقُوا نار عذاب جهنم الذي قد صَلِيتموه أيها الكافرون بالله فَمَا
لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ يقول: فما للكافرين الذين ظلموا أنفسهم فأكسبوها غضب
الله بكفرهم بالله في الدنيا من نصير ينصرهم من الله ليستنقذهم من عقابه. وقوله ( إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ
غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) يقول
تعالى ذكره: إن الله عالم ما تخفون أيها الناس في أنفسكم وتضمرونه، وما لم تضمروه
ولم تنووه مما ستنوونه، وما هو غائب عن أبصاركم في السماوات والأرض، فاتقوه أن
يطلع عليكم، وأنتم تضمرون في أنفسكم من الشك في وحدانية الله أو في نبوة محمد، غير
الذي تبدونه بألسنتكم، (
إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) .
القول
في تأويل قوله تعالى : هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ
خَلائِفَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ
الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلا مَقْتًا وَلا يَزِيدُ
الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلا خَسَارًا ( 39 )
يقول
تعالى ذكره: الله الذي جعلكم أيها الناس خلائف في الأرض من بعد عاد وثمود، ومن مضى
من قبلكم من الأمم فجعلكم تخلفونهم في ديارهم ومساكنهم.
كما
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله ( هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ
خَلائِفَ فِي الأرْضِ ) أمة
بعد أمة، وقرنًا بعد قرن.
وقوله ( فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ
كُفْرُهُ ) يقول
تعالى ذكره: فمن كفر بالله منكم أيها الناس فعلى نفسه ضر كفره، لا يضر بذلك غير
نفسه، لأنه المعاقب عليه دون غيره. وقوله ( وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ
إِلا مَقْتًا ) يقول
تعالى: ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا بعدًا من رحمة الله ( وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ
كُفْرُهُمْ إِلا خَسَارًا ) يقول:
ولا يزيد الكافرين كفرهم بالله إلا هلاكا.
القول
في تأويل قوله تعالى : قُلْ أَرَأَيْتُمْ
شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا
مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا
فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا
إِلا غُرُورًا ( 40 )
يقول
تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: ( قُلْ ) يا محمد لمشركي قومك ( أَرَأَيْتُمْ ) أيها القوم ( شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ
تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأرْضِ ) يقول: أروني أي شيء خلقوا من
الأرض ( أَمْ
لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ) يقول:
أم لشركائكم شرك مع الله في السماوات إن لم يكونوا خلقوا من الأرض شيئًا ( أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا
فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ ) يقول: أم
آتينا هؤلاء المشركين كتابًا أنـزلناه عليهم من السماء بأن يشركوا بالله الأوثان
والأصنام، فهم على بينة منه، فهم على برهان مما أمرتهم فيه من الإشراك بي.
وبنحو
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا بشر،
قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ
دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأرْضِ ) لا شيء والله خلقوا منها ( أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي
السَّمَاوَاتِ ) لا
والله ما لهم فيها شرك ( أَمْ
آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ ) يقول: أم آتيناهم كتابًا فهو
يأمرهم أن يشركوا.
وقوله ( بَلْ إِنْ يَعِدُ
الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلا غُرُورًا ) وذلك قول بعضهم لبعض مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا
إِلَى اللَّهِ زُلْفَى خداعًا من بعضهم لبعض وغرورًا، وإنما تزلفهم آلهتهم من
النار، وتقصيهم من الله ورحمته.
القول
في تأويل قوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ
أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ( 41 )
يقول
تعالى ذكره: ( إِنَّ
اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ ) لئلا تزولا من أماكنهما ( وَلَئِنْ زَالَتَا ) يقول: ولو زالتا ( إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ ) يقول: ما أمسكهما أحد سواه.
ووضعت « لئن » في قوله ( وَلَئِنْ زَالَتَا ) في موضع « لو » لأنهما يجابان بجواب واحد،
فيتشابهان في المعنى، ونظير ذلك قوله وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ
مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ بمعنى: ولو أرسلنا ريحًا، وكما
قال وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بمعنى: لو أتيت. وقد بيَّنا
ذلك فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
وبنحو
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله ( إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ
السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ أَنْ تَزُولا ) من مكانهما.
حدثنا
ابن بشار قال: ثنا عبد الرحمن قال: ثنا سفيان عن الأعمش عن أَبي وائل قال: جاء رجل
إلى عبد الله فقال: من أين جئت ؟ قال: من الشأم. قال: من لَقيتَ؟ قال: لقيتُ
كعبًا. فقال: ما حدثك كعب ؟ قال: حدثني أن السماوات تدور على منكب ملك. قال:
فصدقته أو كذبته ؟ قال: ما صدقته ولا كذبته. قال: لوددت أنك افتديت من رحلتك إليه
براحلتك ورحلها، وكذب كعب، إن الله يقول ( إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ أَنْ
تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ ) .
حدثنا
جرير عن مغيرة عن إبراهيم قال: ذهب جُندَب البَجَلي إلى كعب الأحبار فقدم عليه ثم
رجع فقال له عبد الله: حدثنا ما حدثك. فقال: حدثني أن السماء في قطب كقطب الرحا،
والقطب عمود على منكب ملك. قال عبد الله: لوددت أنك افتديت رحلتك بمثل راحلتك، ثم
قال: ما تنتكت اليهودية في قلب عبد فكادت أن تفارقه، ثم قال ( إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ
السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ أَنْ تَزُولا ) كفى بها زوالا أن تدور.
وقوله ( إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا
غَفُورًا ) يقول
تعالى ذكره: إن الله كان حليمًا عمن أشرك وكفر به من خلقه فى تركه تعجيل عذابه له،
غفورًا لذنوب من تاب منهم، وأناب إلى الإيمان به، والعمل بما يرضيه.
القول
في تأويل قوله تعالى : وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ
جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى
الأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلا نُفُورًا ( 42 ) اسْتِكْبَارًا
فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا
بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ
اللَّهِ تَبْدِيلا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلا ( 43 )
يقول
تعالى ذكره: وأقسم هؤلاء المشركون بالله جهد أيمانهم، يقول: أشد الأيمان فبالغوا
فيها، لئن جاءهم من الله منذر ينذرهم بأس الله ( لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأمَمِ ) يقول: ليكونن أسلك لطريق الحق
وأشد قبولا لما يأتيهم به النذير من عند الله، من إحدى الأمم التي خلت من قبلهم ( فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ ) يعني بالنذير محمدًا صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، يقول: فلما جاءهم محمد ينذرهم عقاب الله على كفرهم.
كما
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله ( فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ ) وهو محمد صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم.
وقوله ( مَا زَادَهُمْ إِلا نُفُورًا
) يقول:
ما زادهم مجيء النذير من الإيمان بالله واتباع الحق وسلوك هدى الطريق، إلا نفورًا
وهربًا.
وقوله ( اسْتِكْبَارًا فِي الأرْضِ ) يقول: نفروا استكبارًا في
الأرض وخدعة سيئة، وذلك أنهم صدوا الضعفاء عن اتباعه مع كفرهم به. والمكر هاهنا:
هو الشرك.
كما
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَمَكْرَ السَّيِّئِ ) وهو الشرك. وأضيف المكر إلى
السيئ ، والسيئ من نعت المكر كما قيل إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ وقيل:
إن ذلك في قراءة عبد الله (
وَمَكْرًا سَيِّئًا ) ، وفي
ذلك تحقيق القول الذي قلناه من أن السيئ في المعنى من نعت المكر. وقرأ ذلك قراء
الأمصار غير الأعمش وحمزة بهمزة محركة بالخفض. وقرأ ذلك الأعمش وحمزة بهمزة وتسكين
الهمزة اعتلالا منهما بأن الحركات لما كثرت في ذلك ثقل، فسكَّنا الهمزة، كما قال
الشاعر:
إذَا
اعْوَجَجْنَ قُلْتُ صَاحِبْ قَوّمِ
فسكن
الباء لكثرة الحركات.
والصواب
من القراءة ما عليه قراء الأمصار من تحريك الهمزة فيه إلى الخفض وغير جائز في
القرآن أن يقرأ بكل ما جاز في العربية؛ لأن القراءة إنما هي ما قرأت به الأئمة
الماضية، وجاء به السلف على النحو الذي أخذوا عمن قبلهم.
وقوله ( وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ
السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ ) يقول:
ولا ينـزل المكر السيئ إلا بأهله، يعني بالذين يمكرونه، وإنما عنى أنه لا يحل
مكروه ذلك المكر الذي مكره هؤلاء المشركون إلا بهم.
وقال
قتادة في ذلك ما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ
السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ ) وهو
الشرك.
وقوله ( فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا
سُنَّةَ الأوَّلِينَ ) يقول
تعالى ذكره: فهل ينتظر هؤلاء المشركون من قومك يا محمد إلا سنة الله بهم في عاجل
الدنيا على كفرهم به أليم العقاب، يقول: فهل ينتظر هؤلاء إلا أن أحل بهم من نقمتي
على شركهم بي وتكذيبهم رسولي مثل الذي أحللت بمن قبلهم من أشكالهم من الأمم.
كما
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله ( فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا
سُنَّةَ الأوَّلِينَ ) أي:
عقوبة الأولين (
فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا ) يقول: فلن تجد يا محمد لسنة الله تغييرًا.
وقوله ( وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ
اللَّهِ تَحْوِيلا ) يقول:
ولن تجد لسنة الله في خلقه تبديلا يقول: لن يغير ذلك ولا يبدله؛ لأنه لا مرد
لقضائه.
القول
في تأويل قوله تعالى : أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي
الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ
فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا ( 44 )
يقول
تعالى ذكره: أولم يَسِرْ يا محمد هؤلاء المشركون بالله في الأرض التي أهلكنا أهلها
بكفرهم بنا وتكذيبهم رسلنا فإنهم تجار يسلكون طريق الشأم ( فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ
عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) من الأمم التي كانوا يمرون بها ألم نهلكهم ونخرب مساكنهم
ونجعلهم مثلا لمن بعدهم، فيتعظوا بهم وينـزجروا عمَّا هم عليه من عبادة الآلهة
بالشرك بالله، ويعلموا أن الذي فعل بأولئك ما فعل ( وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ
قُوَّةً ) لن
يتعذر عليه أن يفعل بهم مثل الذي فعل بأولئك من تعجيل النقمة والعذاب لهم.
وبنحو
الذي قلنا في قوله (
وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً ) قال أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً ) يخبركم أنه أعطى القوم ما لم
يعطكم.
وقوله ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ
مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ ) يقول تعالى ذكره: ولن يعجزنا هؤلاء المشركون بالله من عبدة
الآلهة المكذبون محمدًا، فيسبقونا هربًا في الأرض إذا نحن أردنا هلاكهم؛ لأن الله
لم يكن ليعجزه شيء يريده في السماوات ولا في الأرض، ولن يقدر هؤلاء المشركون أن
ينفذوا من أقطار السماوات والأرض. وقوله ( إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا ) يقول تعالى ذكره: إن الله كان
عليمًا بخلقه، وما هو كائن، ومن هو المستحق منهم تعجيل العقوبة، ومن هو عن ضلالته
منهم راجع إلى الهدى آيب، قديرا على الانتقام ممن شاء منهم، وتوفيق من أراد منهم
للإيمان.
القول
في تأويل قوله تعالى : وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ
النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ
يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ
كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا ( 45 )
يقول
تعالى ذكره: (
وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ ) يقول ولو يعاقب الله الناس ويكافئهم بما عملوا من الذنوب
والمعاصي واجترحوا من الآثام ما ترك على ظهرها من دابة تدب عليها ( وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ
إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ) يقول:
ولكن يؤخر عقابهم ومؤاخذتهم بما كسبوا إلى أجل معلوم عنده، محدود لا يقصرون دونه،
ولا يجاوزونه إذا بلغوه.
وبنحو
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ
عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ ) إلا ما
حمل نوح في السفينة.
وقوله ( فإذا جاء أجلهم فإن الله كان
بعباده بصيرا ) يقول
تعالى ذكره: فإذا جاء أجل عقابهم فإن الله كان بعباده بصيرًا من الذي يستحق أن
يعاقب منهم، ومن الذي يستوجب الكرامة ومن الذي كان منهم في الدنيا له مطيعًا، ومن
كان فيها به مشركًا، لا يخفى عليه أحد منهم، ولا يعزب عنه علم شيء من أمرهم.
آخر
تفسير سورة فاطر