تفسير سورة ص
بسم الله الرحمن الرحيم
القول
في تأويل قوله تعالى : ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ
( 1 ) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ ( 2 )
قال أبو
جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى قول الله عزّ وجلّ: ( ص ) فقال بعضهم: هو من المصاداة,
من صاديت فلانا, وهو أمر من ذلك, كأن معناه عندهم: صاد بعملك القرآن: أي عارضه به,
ومن قال هذا تأويله, فإنه يقرؤه بكسر الدال, لأنه أمر, وكذلك رُوي عن الحسن .
* ذكر الرواية بذلك:
حدثنا
بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قال: قال الحسن ( ص ) قال: حادث القرآن.
وحُدثت
عن عليّ بن عاصم, عن عمرو بن عبيد, عن الحسن, في قوله ( ص ) قال: عارض القرآن بعملك.
حُدثت عن
عبد الوهاب, عن سعيد, عن قتادة, عن الحسن, في قوله ( ص والقرآن ) قال: عارض القرآن, قال عبد
الوهاب: يقول اعرضه على عملك, فانظر أين عملك من القرآن.
حدثني
أحمد بن يوسف, قال: ثنا القاسم, قال: ثنا حجاج, عن هارون, عن إسماعيل, عن الحسن
أنه كان يقرأ: ( ص
والقرآن ) بخفض
الدال, وكان يجعلها من المصاداة, يقول: عارض القرآن.
وقال
آخرون: هي حرف هجاء.
ذكر
من قال ذلك:
حدثني
محمد بن الحسين, قال: ثنا أحمد بن المفضل, قال: ثنا أسباط, عن السديّ: أما ( ص ) فمن الحروف. وقال آخرون: هو قسم
أقسم الله به.
ذكر
من قال ذلك:
حدثني
علي, قال: ثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله ( ص ) قال: قسم أقسمه الله, وهو من
أسماء الله.
وقال
آخرون: هو اسم من أسماء القرآن أقسم الله به.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( ص ) قال:
هو اسم من أسماء القرآن أقسم الله به. وقال آخرون: معنى ذلك: صدق الله.
ذكر
من قال ذلك:
حُدثت عن
المسيب بن شريك, عن أبي روق, عن الضحاك فى قوله ( ص ) قال:
صدق الله.
واختلفت
القرّاء في قراءة ذلك فقرأته عامة قرّاء الأمصار خلا عبد الله بن أبي إسحاق وعيسى
بن عمر, بسكون الدال, فأما عبد الله بن أبي إسحاق فإنه كان يكسرها لاجتماع
الساكنين, ويجعل ذلك بمنـزلة الأداة, كقول العرب: تركته حاثِ باثِ, وخازِ بازِ
يخفضان من أجل أن الذي يلي آخر الحروف ألف فيخفضون مع الألف, وينصبون مع غيرها,
فيقولون حيث بيث, ولأجعلنك في حيص بيص: إذا ضيق عليه. وأما عيسى بن عمر فكان يوفق
بين جميع ما كان قبل آخر الحروف منه ألف, وما كان قبل آخره ياء أو واو فيفتح جميع
ذلك وينصبه, فيقول: ص و ق و ن ويس, فيجعل ذلك مثل الأداة كقولهم: ليتَ, وأينَ وما
أشبه ذلك.
والصواب
من القراءة في ذلك عندنا السكون في كل ذلك, لأن ذلك القراءة التي جاءت بها قرّاء
الأمصار مستفيضة فيهم, وأنها حروف هجاء لأسماء المسميات, فيعرب إعراب الأسماء
والأدوات والأصوات, فيسلك به مسالكهن, فتأويلها إذ كانت كذلك تأويل نظائرها التي
قد تقدم بيانها قبل فيما مضى.
وكان بعض
أهل العربية يقول: ( ص ) في معناها كقولك: وجب والله,
نـزل والله, وحق والله, وهي جواب لقوله ( والقرآن ) كما
تقول: حقا والله, نـزل والله.
وقوله ( وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ) وهذا قسم أقسمه الله تبارك
وتعالى بهذا القرآن فقال: (
وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ )
واختلف
أهل التأويل في تأويل قوله ( ذِي
الذِّكْرِ ) فقال
بعضهم: معناه: ذي لشرف.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
نصر بن عليّ, قال: ثنا أبو أحمد, عن قيس, عن أبي حصين, عن سعيد ( ص وَالْقُرْآنِ ذِي
الذِّكْرِ ) قال:
ذي الشرف.
حدثنا
نصر بن عليّ وابن بشار, قالا ثنا أبو أحمد, عن مسعر, عن أبي حصين ( ذي الذكر ) : ذي الشرف.
قال: ثنا
أبو أحمد, عن سفيان, عن إسماعيل, عن أبي صالح أو غيره ( ذي الذكر ) : ذي الشرف.
حدثنا
محمد بن الحسين, قال: ثنا أحمد بن المفضل, قال: ثنا أسباط, عن السديّ ( والقرآن ذي الذكر ) قال: ذي الشرف.
حدثنا
أبو كُرَيب, قال: ثنا معاوية بن هشام, عن سفيان, عن يحيى بن عُمارة, عن سعيد بن
جُبَير عن ابن عباس ( ص
والقرآن ذي الذكر ) ذي
الشرف.
وقال
بعضهم: بل معناه: ذي التذكير, ذكَّركمُ الله به.
ذكر
من قال ذلك:
حُدثت عن
المسيب بن شريك, عن أبي روق, عن الضحاك ( ذي الذكر ) قال:
فيه ذكركم, قال: ونظيرتها: لَقَدْ أَنْـزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ
ذِكْرُكُمْ .
حدثنا
بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( ذي الذكر ) : أي
ما ذكر فيه.
وأولى
القولين في ذلك بالصواب قول من قال: معناه: ذي التذكير لكم, لأن الله أتبع ذلك
قوله ( بل
الذين كفروا في عزة وشقاق ) فكان
معلوما بذلك أنه إنما أخبر عن القرآن أنه أنـزله ذكرًا لعباده ذكرهم به, وأن
الكفار من الإيمان به في عزّة وشقاق.
واختلف
في الذي وقع عليه اسم القسم, فقال بعضهم; وقع القسم على قوله ( بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي
عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ )
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة. ( بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ ) قال: ها هنا وقع القسم.
وكان بعض
أهل العربية يقول: « بل » دليل على تكذيبهم, فاكتفى ببل من
جواب القسم, وكأنه قيل: ص, ما الأمر كما قلتم, بل أنتم في عزة وشقاق. وكان بعض
نحويي الكوفة يقول: زعموا أن موضع القسم في قوله إِنْ كُلٌّ إِلا كَذَّبَ
الرُّسُلَ وقال بعض نحويي الكوفة: قد زعم قوم أن جواب ( والقرآن ) قوله إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ
تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ قال: وذلك كلام قد تأخر عن قوله ( والقرآن ) تأخرا شديدا, وجرت بينهما قصص
مختلفة, فلا نجد ذلك مستقيما في العربية, والله أعلم.
قال:
ويقال: إن قوله (
والقُرآنِ ) يمين
اعترض كلام دون موقع جوابها, فصار جوابها للمعترض ولليمين, فكأنه أراد: والقرآن ذي
الذكر, لَكَمْ أهلكنا, فلما اعترض قوله ( بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ ) صارت كم جوابا للعزة واليمين.
قال: ومثله قوله وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا اعترض دون الجواب قوله وَنَفْسٍ وَمَا
سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فصارت قد أفلح تابعة لقوله: فألهمها, وكفى من جواب القسم,
فكأنه قال: والشمس وضحاها لقد أفلح.
والصواب
من القول في ذلك عندي, القول الذي قاله قتادة, وأن قوله ( بَلْ ) لما دلّت على التكذيب وحلَّت
محلّ الجواب استغني بها من الجواب, إذ عرف المعنى, فمعنى الكلام إذ كان ذلك كذلك:
( ص
وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ) ما
الأمر, كما يقول هؤلاء الكافرون: بل هم في عزّة وشقاق.
وقوله ( بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي
عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ ) يقول
تعالى ذكره: بل الذين كفروا بالله من مشركي قريش في حمية ومشاقة, وفراق لمحمد
وعداوة, وما بهم أن لا يكونوا أهل علم, بأنه ليس بساحر ولا كذاب.
وبنحو
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثني
محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن,
قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله ( في عزة وشقاق ) قال: مُعَازِّين.
حدثنا
بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( في عزة وشقاقٍ ) : أي في حَمِيَّة وفراق.
حدثني
يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله ( بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي
عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ ) قال: يعادون
أمر الله ورسله وكتابه, ويشاقون, ذلك عزّة وشِقاق, فقلت له: الشقاق: الخلاف, فقال:
نعم.
القول
في تأويل قوله تعالى : كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ
قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ ( 3 )
يقول
تعالى ذكره: كثيرا أهلكنا من قبل هؤلاء المشركين من قريش الذين كذّبوا رسولنا
محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فيما جاءهم به من عندنا من الحقّ ( مِنْ قَرْنٍ ) يعني: من الأمم الذين كانوا
قبلهم, فسلكوا سبيلهم في تكذيب رسلهم فيما أتوهم به من عند الله ( فَنَادَوْا ) يقول: فعجوا إلى ربهم وضجوا
واستغاثوا بالتوبة إليه, حين نـزل بهم بأس الله وعاينوا به عذابه فرارا من عقابه,
وهربا من أليم عذابه (
وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ ) يقول:
وليس ذلك حين فرار ولا هرب من العذاب بالتوبة, وقد حَقَّت كلمة العذاب عليهم,
وتابوا حين لا تنفعهم التوبة, واستقالوا في غير وقت الإقالة. وقوله ( مَنَاصٍ ) مفعل من النوص, والنوص في
كلام العرب: التأخر, والمناص: المفرّ; ومنه قول امرئ القيس:
أمِـنْ
ذِكْـر سَـلْمَى إذْ نـأتْكَ تَنُوصُ فَتقْصِــرُ عَنْهــا خَـطْوَةً وَتَبـوصُ
يقول: أو
تقدم يقال من ذلك: ناصني فلان: إذا ذهب عنك, وباصني: إذا سبقك, وناض في البلاد:
إذا ذهب فيها, بالضاد. وذكر الفراء أن العقيلي أنشده:
إذَا
عـاشَ إسْـحاقُ وَشَـيْخُهُ لَـمْ أُبَلْ فَقِيـدًا وَلَـمْ يَصْعُـبْ عَـليَّ
مَنـاضُ
وَلَـوْ
أشْـرَفَتْ مِـنْ كُفَّةِ السِّتْرِ عاطِلا لَقُلْـتُ غَـزَالٌ مَـا عَلَيْـهِ
خُضَـاضُ
والخُضاض:
الحلي.
وبنحو
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
ابن بشار, قال: ثنا عبد الرحمن, قال: ثنا سفيان, عن أبي إسحاق عن التميمي, عن ابن
عباس في قوله (
وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ ) قال:
ليس بحين نـزو, ولا حين فرار.
حدثنا
أبو كُريب, قال: ثنا ابن عطية, قال: ثنا إسرائيل, عن أبي إسحاق, عن التميمي, قال:
قلت لابن عباس: أرأيت قول الله (
وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ ) قال:
ليس بحين نـزو ولا فرار ضبط القوم.
حدثنا
ابن حميد, قال: ثنا حكام, عن عنبسة, عن أبي إسحاق الهمداني, عن التميمي, قال: سألت
ابن عباس, قول الله (
وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ ) قال:
ليس حين نـزو ولا فرار.
حدثني
محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس,
قوله (
وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ ) قال:
ليس حين نـزو ولا فرار.
حدثني
عليّ, قال: ثنا عبد الله, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله ( وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ ) يقول: ليس حين مَغاث.
حدثني
محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى, وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن.
قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قول الله: ( وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ ) قال: ليس هذا بحين فرار.
حدثنا
بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ ) قال: نادى القوم على غير حين
نداء, وأرادوا التوبة حين عاينوا عذاب الله فلم يقبل منهم ذلك.
حدثنا
محمد بن الحسين, قال: ثنا أحمد بن المفضل, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, قوله ( وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ ) قال: حين نـزل بهم العذاب لم
يستطيعوا الرجوع إلى التوبة, ولا فرارا من العذاب.
حُدثت عن
الحسين, قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله ( فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ
مَنَاصٍ ) يقول:
وليس حين فرار.
حدثني يونس,
قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله ( وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ ) ولات حين مَنْجى ينجون منه, ونصب حين في قوله ( وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ ) تشبيها للات بليس, وأضمر فيها
اسم الفاعل.
وحكى بعض
نحويِّي أهل البصرة الرفع مع لات في حين زعم أن بعضهم رفع « ولاتَ حينُ مَناصٍ » فجعله في قوله ليس, كأنه قال:
ليس وأضمر الحين; قال: وفي الشعر:
طَلَبُــــوا
صُلْحَنـــا وَلاتَ أوَان فَأَجَبْنَـــا أنْ لَيْسَ حِـــينَ بقــاءِ
فجرّ « أوان » وأضمر الحين إلى أوان, لأن لات
لا تكون إلا مع الحين; قال: ولا تكون لات إلا مع حين. وقال بعض نحويي الكوفة: من
العرب من يضيف لات فيخفض بها, وذكر أنه أنشد:
لات ساعة
مندم
بخفض
الساعة; قال: والكلام أن ينصب بها, لأنها في معنى ليس, وذكر أنه أنشد:
تَذَكَّــرَ
حُــبَّ لَيْــلَى لاتَ حِينـا وأضْحَـى الشَّـيْبُ قَـدْ قَطَـعَ القَرِينا
قال:
وأنشدني بعضهم:
طَلَبُــــوا
صُلْحَنـــا وَلاتَ أوَانٍ فأجَبْنَـــا أنْ لَيْسَ حَـــينَ بَقــاءِ
بخفض « أوانٍ » ; قال: وتكون لات مع الأوقات
كلها.
واختلفوا
في وجه الوقف على قراءة: ( لاتَ
حينَ ) فقال
بعض أهل العربية: الوقف عليه ولاتْ بالتاء, ثم يبتدأ حين مناص, قالوا: وإنما هي « لا » التي بمعنى: « ما » , وإن في الجحد وُصلت بالتاء,
كما وُصلت ثم بها, فقيل: ثمت, وكما وصلت ربّ فقيل: ربت.
وقال
آخرون منهم: بل هي هاء زيدت في لا فالوقف عليها لاه, لأنها هاء زيدت للوقف, كما
زيدت في قولهم:
العاطِفُونَـةَ
حِـينَ مـا مِـنْ عـاطِفٍ والمُطْعِمُونَــةَ حِـينَ أيْـنَ المَطْعَـمُ
فإذا
وُصلت صارت تاء. وقال بعضهم: الوقف على « لا » ,
والابتداء بعدها تحين, وزعم أن حكم التاء أن تكون في ابتداء حين, وأوان, والآن;
ويستشهد لقيله ذلك بقول الشاعر:
تَــوَلّى
قَبْــلَ يَـوْمِ سَـبْيٍ جُمانـا وَصَلِينــا كمــا زَعَمْــتِ تَلانـا
وأنه ليس
ها هنا « لا » فيوصل بها هاء أو تاء; ويقول:
إن قوله ( لاتَ
حِينَ ) إنما
هي: ليس حين, ولم توجد لات في شيء من الكلام.
والصواب
من القول في ذلك عندنا: أن « لا » حرف جحد كما، وإن وَصلت بها
تصير في الوصل تاء, كما فعلت العرب ذلك بالأدوات, ولم تستعمل ذلك كذلك مع « لا » المُدَّة إلا للأوقات دون
غيرها, ولا وجه للعلة التي اعتل بها القائل: إنه لم يجد لات في شيء من كلام العرب,
فيجوز توجيه قوله (
وَلاتَ حِينَ ) إلى
ذلك, لأنها تستعمل الكلمة في موضع, ثم تستعملها في موضع آخر بخلاف ذلك, وليس ذلك
بأبعد في القياس من الصحة من قولهم: رأيت بالهمز, ثم قالوا: فأنا أراه بترك الهمز
لما جرى به استعمالهم, وما أشبه ذلك من الحروف التي تأتي في موضع على صورة, ثم
تأتي بخلاف ذلك في موضع آخر للجاري من استعمال العرب ذلك بينها. وأما ما استشهد به
من قول الشاعر: « وكما
زعمت تلانا » , فإن
ذلك منه غلط في تأويل الكلمة; وإنما أراد الشاعر بقوله: « وَصِلِينَا كما زَعمْتِ
تَلانا » :
وصلينا كما زعمت أنت الآن, فأسقط الهمزة من أنت, فلقيت التاء من زعمت النون من أنت
وهي ساكنة, فسقطت من اللفظ, وبقيت التاء من أنت, ثم حذفت الهمزة من الآن, فصارت
الكلمة في اللفظ كهيئة تلان, والتاء الثانية على الحقيقة منفصلة من الآن, لأنها
تاء أنت. وأما زعمه أنه رأى في المصحف الذي يقال له الإمام التاء متصلة بحين, فإن
الذي جاءت به مصاحف المسلمين في أمصارها هو الحجة على أهل الإسلام, والتاء في
جميعها منفصلة عن حين, فلذلك اخترنا أن يكون الوقف على الهاء في قوله ( وَلاتَ حِينَ )
القول
في تأويل قوله تعالى : وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ
مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ( 4 ) أَجَعَلَ الآلِهَةَ
إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ( 5 )
يقول
تعالى ذكره: وعجب هؤلاء المشركون من قريش أن جاءهم منذر ينذرهم بأس الله على كفرهم
به من أنفسهم, ولم يأتهم ملك من السماء بذلك ( وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ) يقول: وقال المنكرون وحدانية
الله: هذا, يعنون محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم, ساحر كذّاب.
وبنحو
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ ) يعني محمدا صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم (
وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ )
حدثنا
محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, قوله ( سَاحِرٌ كَذَّابٌ ) يعني محمدا صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم.
وقوله ( أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا
وَاحِدًا ) يقول:
وقال هؤلاء الكافرون الذين قالوا: محمد ساحر كذاب: أجعل محمد المعبودات كلها
واحدا, يسمع دعاءنا جميعنا, ويعلم عبادة كل عابد عبدَه منا ( إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ
عُجَابٌ ) : أي
إن هذا لشيء عجيب.
كما
حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا
وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ) قال: عجب المشركون أن دُعوا إلى الله وحده, وقالوا: يسمع
لحاجاتنا جميعا إله واحد! ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة.
وكان سبب
قيل هؤلاء المشركين ما أخبر الله عنهم أنهم قالوه, من ذلك, أن رسول الله صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال لهم: ( أسألكم أن تجيبوني إلى واحدة تدين لكم بها العرب, وتعطيكم
بها الخراج العجم ، فقالوا: وما هي؟ فقال:تقولون لا إله إلا الله, فعند ذلك قالوا:
( أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا ) تعجبا منهم من ذلك ) .
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا أبو
كُرَيب وابن وكيع, قالا ثنا أبو أسامة, قال: ثنا الأعمش, قال: ثنا عباد, عن سعيد
بن جُبَير, عن ابن عباس, قال: ( لما
مرض أبو طالب دخل عليه رهط من قريش فيهم أبو جهل بن هشام فقالوا: إن ابن أخيك يشتم
آلهتنا, ويفعل ويفعل, ويقول ويقول, فلو بعثت إليه فنهيته; فبعث إليه, فجاء النبي
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فدخل البيت, وبينهم وبين أبي طالب قدر مجلس رجل,
قال: فخشي أبو جهل إن جلس إلى جنب أبي طالب أن يكون أرق له عليه, فوثب فجلس في ذلك
المجلس, ولم يجد رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم مجلسا قرب عمه, فجلس عند
الباب, فقال له أبو طالب: أي ابن أخي, ما بال قومك يشكونك؟ يزعمون أنك تشتم
آلهتهم, وتقول وتقول; قال: فأكثروا عليه القول, وتكلم رسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم فقال: « يا
عَمّ إنّي أُرِيدهُمْ عَلى كَلِمَةٍ وَاحِدةٍ يَقُولُونَهَا, تَدِينُ لَهُمْ بِها
العَرَبُ, وتُؤَدِّي إلَيْهِم بِها العَجَمُ الجِزْيَةَ » , ففزعوا لكلمته ولقوله,
فقال القوم: كلمة واحدة؟ نعم وأبيك عَشْرًا; فقالوا: وما هي؟ فقال أبو طالب: وأيّ
كلمة هي يا ابن أخي؟ قال: « لا
إلَهَ إلا الله » ;
قال: فقاموا فزِعين ينفضون ثيابهم, وهم يقولون: ( أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا
وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ) قال: ونـزلت من هذا الموضع إلى قوله
لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ اللفظ لأبي كريب.
حدثنا
أبو كُرَيب, قال: ثنا معاوية بن هشام, عن سفيان, عن يحيى بن عمارة, عن سعيد بن
جُبَير عن ابن عباس, قال: مرض أبو طالب, فأتاه رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم يعوده, وهم حوله جلوس, وعند رأسه مكان فارغ, فقام أبو جهل فجلس فيه, فقال
أبو طالب: يا ابن أخي ما لقومك يشكونك؟ قال: يا عَمّ أُرِيدُهُمْ عَلى كَلِمَةٍ
تَدِينُ لَهُمْ بِهَا العَرَبُ, وتُؤَدِّي إلَيْهِمْ بِهَا العَجَمُ الجِزْيَةَ
قال: ما هي؟ قال: لا إلَهَ إلا الله « فقاموا وهم يقولون: مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ
الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلا اخْتِلاقٌ ونـزل القرآن: ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ
ذي الشرف بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ حتى قوله ( أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا
وَاحِدًا ) . »
حدثنا
ابن وكيع, قال: ثنا يحيى بن سعيد, عن سفيان, عن الأعمش, عن يحيى بن عمارة, عن سعيد
بن جُبَير, عن ابن عباس, قال: مرض أبو طالب, ثم ذكر نحوه, إلا أنه لم يقل ذي
الشرف, وقال: إلى قوله ( إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ) .
حدثنا
ابن بشار, قال: ثنا عبد الرحمن, قال: ثنا سفيان, عن الأعمش, عن يحيى بن عمارة, عن
سعيد بن جُبَير, قال: مرض أبو طالب, قال: فجاء النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم يعوده, فكان عند رأسه مقعدُ رجل, فقام أبو جهل, فجلس فيه, فشَكَوا النبيّ
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم إلى أبي طالب, وقالوا: إنه يقع في آلهتنا, فقال: يا
ابن أخي ما تريد إلى هذا؟ قال: « يا عمّ
إنَّي أُرِيدُهُمْ عَلَى كَلِمَةٍ تَدِينُ لَهُمْ بِهَا العَرَبُ, وتُؤَدِّي
إلَيْهِمُ العَجَمُ الْجِزْيَةَ » قال:
وما هي؟ قال: « لا
إلَهَ إلا الله » ,
فقالوا: ( أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ) .
القول
في تأويل قوله تعالى :
وَانْطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ
هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ ( 6 ) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ
إِنْ هَذَا إِلا اخْتِلاقٌ ( 7 )
يقول
تعالى ذكره: وانطلق الأشراف من هؤلاء الكافرين من قريش, القائلين: أَجَعَلَ
الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا بأن امضُوا فاصبروا على دينكم وعبادة آلهتكم. فـ « أن » من قوله ( أَنِ امْشُوا ) في
موضع نصب يتعلق انطلقوا بها, كأنه قيل: انطلقوا مشيا, ومضيا على دينكم. وذُكر أن
ذلك في قراءة عبد الله: «
وَانْطَلَقَ المَلأ مِنْهُمْ يَمْشُونَ أنِ اصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ » . وذُكر أن قائل ذلك كان
عُقْبَة بن أبي مُعيط.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
ابن بشار, قال: ثنا عبد الرحمن, قال: ثنا سفيان, عن إبراهيم بن مهاجر, عن مجاهد: (
وَانْطَلَقَ الْمَلأ مِنْهُمْ ) قال: عقبة بن أبى معيط.
وقوله
( إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ ) : أي إن هذا القول الذي يقول محمد, ويدعونا
إليه, من قول لا إله إلا الله, شيء يريده منا محمد يطلب به الاستعلاء علينا, وأن
نكون له فيه أتباعا ولسنا مجيبيه إلى ذلك.
وقوله
( مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ ) اختلف أهل التأويل في تأويله,
فقال بعضهم: معناه: ما سمعنا بهذا الذي يدعونا إليه محمد من البراءة من جميع
الآلهة إلا من الله تعالى ذكره, وبهذا الكتاب الذي جاء به في الملة النصرانية,
قالوا: وهي الملة الآخرة.
ذكر
من قال ذلك:
حدثني
عليّ, قال: ثنا عبد الله, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله ( مَا
سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ ) يقول: النصرانية.
حدثني
محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس,
قوله ( مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ ) يعني النصرانية; فقالوا:
لو كان هذا القرآن حقا أخبرتنا به النصارى.
حدثني
محمد بن إسحاق, قال: ثنا يحيى بن معين, قال: ثنا ابن عيينة, عن ابن أبي لبيد, عن
القرطبي في قوله ( مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ ) قال: ملة
عيسى.
حدثني
محمد بن الحسين, قال: ثنا أحمد بن المفضل, قال: ثنا أسباط عن السديّ ( مَا
سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ ) النصرانية.
وقال
آخرون: بل عنوا بذلك: ما سمعنا بهذا في ديننا دين قريش.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
ابن حميد, قال: ثنا حكام, عن عنبسة, عن محمد بن عبد الرحمن, عن القاسم بن أبي
بَزّة, عن مجاهد, في قوله ( مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ )
قال: ملة قريش.
حدثني
محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن,
قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله ( فِي الْمِلَّةِ
الآخِرَةِ ) قال: ملة قريش.
حدثنا
بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي
الْمِلَّةِ الآخِرَةِ ) : أي في ديننا هذا, ولا في زماننا قَطُّ.
حدثني
يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله ( مَا سَمِعْنَا بِهَذَا
فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ ) قال: الملة الآخرة: الدين الآخر. قال: والملة الدين.
وقيل: إن الملأ الذين انطلقوا نفر من مشيخة قريش, منهم أبو جهل, والعاص بن وائل,
والأسود بن عبد يغوث.
ذكر
من قال ذلك:
حدثني
محمد بن الحسين, قال: ثنا أحمد بن المفضل, قال: ثنا أسباط, عن السديّ أن أناسا من
قُرَيش اجتمعوا, فيهم أبو جهل بن هشام, والعاص بن وائل, والأسود بن المطلب,
والأسود بن عبد يغوث في نفر من مشيخة قريش, فقال بعضهم لبعض: انطلقوا بنا إلى أبي
طالب, فلنكلمه فيه, فلينصفنا منه, فيأمره فليكفّ عن شتم آلهتنا, وندعه وإلهه الذي
يَعبُد, فإنا نخاف أن يموت هذا الشيخ, فيكون منا شيء, فتعيرنا العرب فيقولون:
تركوه حتى إذا مات عمه تناولوه, قال: فبعثوا رجلا منهم يُدعى المطَّلب, فاستأذن لهم
على أبي طالب, فقال: هؤلاء مشيخة قومك وسَرَواتهم يستأذنون عليك, قال: أدخلهم;
فلما دخلوا عليه قالوا: يا أبا طالب أنت كبيرنا وسيدنا, فأنصفنا من ابن أخيك,
فمُره فليكفّ عن شتم آلهتنا, ونَدَعَه وإلهه; قال: فبعث إليه أبو طالب; فلما دخل
عليه رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال: يا ابن أخي هؤلاء مشيخة قومك
وسَرَواتهم, وقد سألوك النَّصَف أن تكفّ عن شتم آلهتهم, ويدعوك وإلهك; قال: فقال: « أي عم أولا أدعوهم إلى ما هو
خير لهم منها؟ » قال:
وإلامَ تَدْعُوهُمْ؟ قال: « أدعوهم
إلى أن يَتَكَلَّمُوا بِكَلِمَةٍ تَدِينُ لَهُمْ بِها العَرَبُ وَيَمْلِكُونَ
بِهَا العَجَمَ » ;
قال: فقال أبو جهل من بين القوم: ما هي وأبيك لنعطينكها وعشر أمثالها, قال: « تَقُولُونَ لا إلَهَ إلا الله
» .
قال: فنفروا وقالوا: سلنا غير هذه, قال: « لَوْ جِئْتُمُونِي بالشَّمْسِ حتى تَضَعُوها في يَدِي ما
سأَلْتُكُمْ غيرَها » ;
قال: فغضبوا وقاموا من عنده غضابا وقالوا: والله لنشتمنك والذي يأمرك بهذا (
وَانْطَلَقَ الْمَلأ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ
هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ ) .. إلى قوله ( إِلا اخْتِلاقٌ ) وأقبل على عمه, فقال له
عمه: يا ابن أخي ما شططت عليهم, فأقبل على عمه فدعاه, فقال: « قُلْ كَلِمَةً أَشْهَدُ لَكَ
بِهَا يَوْمَ القِيَامَةِ, تَقُولُ: لا إلَهَ إلا الله » , فقال: لولا أن تعيبكم بها
العرب يقولون جزع من الموت لأعطيتكها, ولكن على مِلَّة الأشياخ; قال: فنـزلت هذه
الآية إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ
.
حدثني
محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمى, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس,
قوله ( وَانْطَلَقَ الْمَلأ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ
إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ ) قال: نـزلت حين انطلق أشراف قريش إلى أبي طالب
فكلموه في النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
وقوله
( إِنْ هَذَا إِلا اخْتِلاقٌ ) يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل هؤلاء المشركين في
القرآن: ما هذا القرآن إلا اختلاق: أي كذب اختلقه محمد وتخرَّصه.
وبنحو
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
عليّ, قال: ثنا عبد الله, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله ( إِنْ
هَذَا إِلا اخْتِلاقٌ ) يقول: تخريص.
حدثني
محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن,
قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله ( إِنْ هَذَا إِلا
اخْتِلاقٌ ) قال: كذب.
حدثنا
ابن حميد, قال: ثنا حكام, عن عنبسة, عن محمد بن عبد الرحمن, عن القاسم بن أبي بزة,
عن مجاهد ( إِنْ هَذَا إِلا اخْتِلاقٌ ) : يقول: كذب.
حدثنا
بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( إِنْ هَذَا إِلا اخْتِلاقٌ ) إلا
شيء تخْلُقه.
حدثنا
محمد بن الحسين, قال: ثنا أحمد بن المفضل, قال: ثنا أسباط, عن السديّ ( إِنْ هَذَا
إِلا اخْتِلاقٌ ) اختلقه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
حدثني
يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله ( إِنْ هَذَا إِلا
اخْتِلاقٌ ) قالوا: إن هذا إلا كذب.
القول
في تأويل قوله تعالى :
أَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي
بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ ( 8 ) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ
الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ ( 9 )
يقول
تعالى ذكره مخبرا عن قيل هؤلاء المشركين من قريش: أأنـزل على محمد الذكر من بيننا
فخصّ به, وليس بأشرف منا حسبا. وقوله ( بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي ) يقول
تعالى ذكره: ما بهؤلاء المشركين أن لا يكونوا أهل علم بأن محمدا صادق, ولكنهم في
شك من وحينا إليه, وفي هذا القرآن الذي أنـزلناه إليه أنه من عندنا ( بَلْ لَمَّا
يَذُوقُوا عَذَابِ ) يقول: بل لم ينـزل بهم بأسنا, فيذوقوا وبال تكذيبهم محمدا,
وشكهم في تنـزيلنا هذا القرآن عليه, ولو ذاقوا العذاب على ذلك علموا وأيقنوا حقيقة
ما هم به مكذِّبون, حين لا ينفعهم علمهم
( أَمْ
عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ ) يقول تعالى ذكره:
أم عند هؤلاء المشركين المنكرين وحي الله إلى محمد خزائن رحمة ربك, يعنى مفاتيح
رحمة ربك يا محمد, العزيز في سلطانه, الوهاب لمن يشاء من خلقه, ما يشاء من ملك
وسلطان ونبوة, فيمنعوك يا محمد, ما من الله به عليك من الكرامة, وفضَّلك به من
الرسالة.
القول
في تأويل قوله تعالى : أَمْ
لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي
الأَسْبَابِ ( 10 ) جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الأَحْزَابِ ( 11 )
يقول
تعالى ذكره: أم لهؤلاء المشركين الذين هم في عزّة وشقاق ( مُلْكُ السَّمَاوَاتِ
وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ) فإنه لا يُعازُّني ويُشاقُّني من كان في مُلكي
وسلطاني. وقوله ( فَلْيَرْتَقُوا فِي الأسْبَابِ ) يقول: وإن كان لهم ملك السموات
والأرض وما بينهما, فليصعدوّا في أبواب السماء وطرقها, فإن كان له مُلك شيء لم
يتعذر عليه الإشراف عليه, وتفقُّده وتعهُّده.
واختلف
أهل التأويل في معنى الأسباب التي ذكرها الله في هذا الموضع, فقال بعضهم: عُنِي
بها أبواب السماء.
ذكر
من قال ذلك:
حدثني
محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن,
قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله ( فَلْيَرْتَقُوا فِي
الأسْبَابِ ) قال: طرق السماء وأبوابها.
حدثنا بشر,
قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( فَلْيَرْتَقُوا فِي الأسْبَابِ ) يقول:
في أبواب السماء.
حدثنا
محمد بن الحسين, قال: ثنا أحمد بن المفضل, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, قوله ( فِي
الأسْبَابِ ) قال: أسباب السموات.
حدثني
يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله ( فَلْيَرْتَقُوا فِي
الأسْبَابِ ) قال: طرق السموات.
حُدثت
عن المحاربي, عن جُوَيبر, عن الضحاك ( أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ
) يقول: إن كان ( لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا
فَلْيَرْتَقُوا فِي الأسْبَابِ ) يقول: فليرتقوا إلى السماء السابعة.
حدثني
عليّ, قال: ثنا عبد الله, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله (
فَلْيَرْتَقُوا فِي الأسْبَابِ ) يقول: في السماء.
وذُكر
عن الربيع بن أنس في ذلك ما حُدثت عن المسيب بن شريك, عن أبي جعفر الرازيّ, عن
الربيع بن أنس, قال: الأسباب: أدقّ من الشعر, وأشدّ من الحديد, وهو بكل مكان, غير
أنه لا يرى.
وأصل
السبب عند العرب: كل ما تسبب به إلى الوصول إلى المطلوب من حبل أو وسيلة, أو رحم,
أو قرابة أو طريق, أو محجة وغير ذلك.
وقوله
( جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الأحْزَابِ ) يقول تعالى ذكره: هم ( جُنْد
) يعني الذين في عزّة وشقاق هنالك, يعني: ببدر مهزوم. وقوله ( هُنَالِكَ ) من صلة
مهزوم وقوله ( مِنَ الأحْزَابِ ) يعني من أحزاب إبليس وأتباعه الذين مضوا قبلهم,
فأهلكهم الله بذنوبهم. و « مِنْ » من قوله ( مِنَ الأحْزَابِ )
من صلة قوله جند, ومعنى الكلام: هم جند من الأحزاب مهزوم هنالك, وما في قوله (
جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ ) صلة.
وبنحو
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثني
محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن,
قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد ( جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ
مَهْزُومٌ مِنَ الأحْزَابِ ) قال: قُريش من الأحزاب, قال: القرون الماضية.
حدثنا
بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ
مِنَ الأحْزَابِ ) قال: وعده الله وهو بمكة يومئذ أنه سيهزم جندا من المشركين,
فجاء تأويلها يوم بدر.
وكان
بعض أهل العربية يتأول ذلك ( جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ ) مغلوب عن أن يصعد إلى السماء.
القول
في تأويل قوله تعالى : كَذَّبَتْ
قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الأَوْتَادِ ( 12 ) وَثَمُودُ
وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ أُولَئِكَ الأَحْزَابُ ( 13 ) إِنْ كُلٌّ
إِلا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ ( 14 )
يقول
تعالى ذكره: كذّبت قبل هؤلاء المشركين من قريش, القائلين: أجعل الآلهة إلها واحدا,
رسلها, قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد.
واختلف
أهل العلم في السبب الذي من أجله قيل لفرعون ذو الأوتاد, فقال بعضهم: قيل ذلك له
لأنه كانت له ملاعب من أوتاد, يُلْعَب له عليها.
ذكر
من قال ذلك:
حُدثت
عن عليّ بن الهيثم, عن عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن سعيد بن جُبَير, عن ابن
عباس ( وَفِرْعَوْنُ ذُو الأوْتَادِ ) قال: كانت ملاعب يلعب له تحتها.
حدثنا
بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قوله ( وَفِرْعَوْنُ ذُو الأوْتَادِ
) قال: كان له أوتاد وأرسان, وملاعب يلعب له عليها.
وقال
آخرون: بل قيل ذلك له كذلك لتعذيبه الناس بالأوتاد.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
محمد بن الحسين, قال: ثنا أحمد بن المفضل, قال: ثنا أسباط, عن السديّ,, قوله ( ذُو
الأوْتَادِ ) قال: كان يعذِّب الناسَ بالأوتاد, يعذّبهم بأربعة أوتاد, ثم يرفع
صخرة تُمَدّ بالحبال, ثم تُلْقى عليه فتشدخه.
حُدثت
عن عليّ بن الهيثم, عن ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس, قال: كان يعذب
الناس بالأوتاد.
وقال
آخرون: معنى ذلك: ذو البنيان, قالوا: والبنيان: هو الأوتاد.
ذكر
من قال ذلك:
حُدثت
عن المحاربي, عن جويبر, عن الضحاك ( ذُو الأوْتَادِ ) قال: ذو البنيان.
وأشبه
الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: عني بذلك الأوتاد, إما لتعذيب الناس, وإما
للعب, كان يُلْعَب له بها, وذلك أن ذلك هو المعروف من معنى الأوتاد, وثمود وقوم
لوط، وقد ذكرنا أخبار كل هؤلاء فيما مضى قبل من كتابنا هذا. ( وَأَصْحَابُ
الأيْكَةِ ) يعني: وأصحاب الغَيْضَة.
وكان
أبو عمرو بن العلاء فِيما حُدثت عن معمر بن المثني, عن أبي عمرو يقول: الأيكة:
الحَرَجَة من النبع والسدر, وهو الملتفّ منه, قال الشاعر:
أفَمِــنْ
بُكَــاءِ حَمَامَـةٍ فِـي أيْكَـةٍ يَـرْفَضُّ دَمْعُـكَ فَـوْقَ ظَهْـرِ
المَحْمِلِ
يعني:
مَحْمِل السيف.
وبنحو
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( وَأَصْحَابُ الأيْكَةِ ) قال:
كانوا أصحاب شجر, قال: وكان عامَّة شجرهم الدوم.
حدثنا
محمد بن الحسين, قال: ثنا أحمد بن المفضل, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, قوله (
وَأَصْحَابُ الأيْكَةِ ) قال: أصحاب الغَيْضَة.
وقوله
( أُولَئِكَ الأحْزَابُ ) يقول تعالى ذكره: هؤلاء الجماعات المجتمعة, والأحزاب
المتحزّبة على معاصي الله والكفر به, الذين منهم يا محمد مشركو قومك, وهم مسلوك
بهم سبيلهم.
( إِنْ
كُلٌّ إِلا كَذَّبَ الرُّسُلَ ) يقول: ما كلّ هؤلاء الأمم إلا كذّب رسل الله; وهي
في قراءة عبد الله كما ذكر لي: « إنْ
كُلٌّ لَمَّا كَذَّبَ الرُّسُل فَحَقَّ عِقَابِ » يقول: فوجب عليهم عقاب الله إياهم.
كما
حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( إِنْ كُلٌّ إِلا كَذَّبَ
الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ ) قال: هؤلاء كلهم قد كذبوا الرسل, فحقّ عليهم العذاب.
القول
في تأويل قوله تعالى :
وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلاءِ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ ( 15 )
وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ ( 16 )
يقول
تعالى ذكره: ( وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلاءِ ) المشركون بالله من قُريش ( إِلا صَيْحَةً
وَاحِدَةً ) يعني بالصيحة الواحدة: النفخة الأولى في الصور ( مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ
) يقول: ما لتلك الصيحة من فيقة, يعني من فتور ولا انقطاع.
وبنحو
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قوله ( وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلاءِ
إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً ) يعني: أمة محمد ( مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ )
حدثنا
أبو كُرَيب, قال: ثنا المحاربي, عن إسماعيل بن رافع, عن يزيد بن زياد, عن رجل من
الأنصار, عن محمد بن كعب القرظي, عن أبي هريرة, قال: قال رسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم: « إنَّ
الله لما فَرغَ مِنْ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ خَلَقَ الصُّورَ, فَأَعْطَاهُ
إسْرَافِيلَ, فَهُوَ وَاضِعُهُ عَلَى فِيهِ شَاخِص بِبَصَرِهِ إلَى العَرْشِ
يَنْتَظِرُ مَتَى يُؤْمَرُ » . قال
أبو هريرة: يا رسول الله وما الصور؟ قال: « قَرْنٌ » ,
قال: كيف هو؟ قال: « قَرْنٌ
عَظِيمٌ يُنْفَخُ فِيهِ ثَلاثُ نَفَخَاتٍ: نَفْخَةُ الفَزَعِ الأولى,
والثَّانِيَةُ: نَفْخَةُ الصَّعْقِ, والثَّالِثَةُ: نَفْخَةُ القِيَامِ لِرَبّ
العَالَمِينَ, يَأْمُرُ الله إسْرَافِيلَ بالنَّفْخَةِ الأولى, فَيَقُولُ: انْفُخْ
نَفْخَةَ الفَزَعِ, فَيَفْزَعُ أهْلُ السَّمَاوَاتِ وَأهْلُ الأرْضِ إلا مَنْ
شَاءَ الله, وَيَأْمُرُهُ الله فَيُدِيمُهَا وَيُطَوِّلُهَا, فَلا يَفْتُرُ وَهِيَ
الَّتِي يَقُولُ الله ( مَا
يَنْظُرُ هَؤُلاءِ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ ) . واختلف أهل التأويل في معنى
قوله ( مَا
لَهَا مِنْ فَوَاقٍ ) » فقال بعضهم: يعني بذلك: ما
لتلك الصيحة من ارتداد ولا رجوع.
ذكر
من قال ذلك:
حدثني
عليّ, قال: ثنا عبد الله, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس ( مَا لَهَا مِنْ
فَوَاقٍ ) يقول: من ترداد.
حدثني
محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس (
مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ ) يقول: ما لها من رجعة.
حدثني
محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن,
قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله ( مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ
) قال: من رجوع.
حدثنا
بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ ) يعني
الساعة ما لها من رجوع ولا ارتداد.
وقال
آخرون: بل معنى ذلك: ما لهؤلاء المشركين بعد ذلك إفاقة ولا رجوع إلى الدنيا.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
محمد بن الحسين, قال: ثنا أحمد بن المفضل, قال: ثنا أسباط, عن السديّ ( مَا لَهَا
مِنْ فَوَاقٍ ) يقول: ليس لهم بعدها إفاقة ولا رجوع إلى الدنيا.
وقال
آخرون: الصيحة في هذا الموضع: العذاب. ومعنى الكلام: ما ينتظر هؤلاء المشركون إلا
عذابا يهلكهم, لا إفاقة لهم منه.
ذكر
من قال ذلك:
حدثني
يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله ( مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ )
قال: ما ينتظرون إلا صيحة واحدة ما لها من فواق, يا لها من صيحة لا يفيقون فيها
كما يفيق الذي يغشي عليها وكما يفيق المريض تهلكهم, ليس لهم فيها إفاقة.
واختلفت
القرّاء في قراءة ذلك, فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة ( مِنْ
فَوَاقٍ ) بفتح الفاء. وقرأته عامة أهل الكوفة: « مِنْ فُوَاقٍ » بضم الفاء.
واختلفت
أهل العربية في معناها إذا قُرئت بفتح الفاء وضمها, فقال بعض البصريين منهم:
معناها, إذا فتحت الفاء: ما لها من راحة, وإذا ضمت جعلها فُواق ناقة ما بين الحلبتين.
وكان بعض الكوفيين منهم يقول: معنى الفتح والضم فيها واحد, وإنما هما لغتان مثل
السَّوَاف والسُّواف, وجَمام المكوك وجُمامه, وقَصاص الشعر وقُصاصه.
والصواب
من القول في ذلك أنهما لغتان, وذلك أنا لم نجد أحدا من المتقدمين على اختلافهم في
قراءته يفرّقون بين معنى الضمّ فيه والفتح, ولو كان مختلف المعنى باختلاف الفتح
فيه والضم, لقد كانوا فرقوا بين ذلك في المعنى. فإذ كان ذلك كذلك, فبأي القراءتين
قرأ القارئ فمصيب; وأصل ذلك من قولهم: أفاقت الناقة, فهي تفيق إفاقة, وذلك إذا ردت
ما بين الرضعتين ولدها إلى الرضعة الأخرى, وذلك أن ترضع البهيمة أمها, ثم تتركها
حتى ينـزل شيء من اللبن, فتلك الإفاقة; يقال إذا اجتمع ذلك في الضرع فيقة, كما قال
الأعشى:
حَـتَّى
إذَا فِيْقَـةٌ فِـي ضَرْعِها اجْتَمَعَتْ جـاءَتْ لِـتُرْضِعَ شِقَّ النَّفْسِ
لوْ رَضَعا
وقوله
( وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ ) يقول
تعالى ذكره: وقال هؤلاء المشركون بالله من قريش: يا ربنا عجل لنا كتبنا قبل يوم
القيامة. والقطّ في كلام العرب: الصحيفة المكتوبة; ومنه قول الأعشى:
وَلا
المَلِــكُ النُّعْمَــانُ يَـوْمَ لَقِيتُـهُ بِنِعْمَتِــهِ يُعْطِــي
القُطُـوطَ وَيـأْفِقُ
يعني
بالقُطوط: جمع القط, وهي الكتب بالجوائز.
واختلف
أهل التأويل في المعنى الذي أراد هؤلاء المشركون بمسألتهم تعجيل القطّ لهم, فقال
بعضهم: إنما سألوا ربهم تعجيل حظهم من العذاب الذي أعد لهم في الآخرة في الدنيا,
كما قال بعضهم: إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ
عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ .
ذكر
من قال ذلك:
حدثني
عليّ, قال: ثنا عبد الله, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله ( رَبَّنَا
عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا ) يقول: العذاب.
حدثني
محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس,
قوله ( وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ )
قال: سألوا الله أن يعجل لهم العذاب قبل يوم القيامة.
حدثنا
ابن حميد, قال: ثنا حكام, عن عنبسة, عن محمد بن عبد الرحمن, عن القاسم بن أبي
بزّة, عن مجاهد, في قوله ( لَنَا قِطَّنَا ) قال: عذابنا.
حدثني
محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال:
ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله ( عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا )
قال: عذابنا.
حدثني
بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قوله ( وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ
لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ ) أي نصيبنا حظنا من العذاب قبل يوم القيامة,
قال: قد قال ذلك أبو جهل: اللهمّ إن كان ما يقول محمد حقا فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا
حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ ... الآية.
وقال
آخرون: بل إنما سألوا ربهم تعجيل أنصبائهم ومنازلهم من الجنة حتى يروها فيعلموا
حقيقة ما يعدهم محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فيؤمنوا حينئذ به ويصدّقوه.
ذكر
من قال ذلك:
حدثني
محمد بن الحسين, قال: ثنا أحمد بن المفضل, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, قوله (
عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا ) قالوا: أرنا منازلنا في الجنة حتى نتابعك.
وقال
آخرون: مسألتهم نصيبهم من الجنة, ولكنهم سألوا تعجيله لهم في الدنيا.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
ابن بشار, قال: ثنا عبد الرحمن, قال: ثنا سفيان, عن ثابت الحدّاد, قال: سمعت سعيد
بن جُبَير يقول في قوله ( عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ ) قال:
نصيبنا من الجنة.
وقال
آخرون: بل سألوا ربهم تعجيل الرزق.
ذكر
من قال ذلك:
حدثني
محمد بن عمر بن عليّ, قال: ثنا أشعث السجستاني, قال: ثنا شعبة, عن إسماعيل بن أبي
خالد في قوله ( عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا ) قال: رزقنا.
وقال
آخرون: سألوا أن يعجل لهم كتبهم التي قال قال الله فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ
كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ في الدنيا,
لينظروا بأيمانهم يعطونها أم بشمائلهم؟ ولينظروا من أهل الجنة هم, أم من أهل النار
قبل يوم القيامة استهزاء منهم بالقرآن وبوعد الله.
وأولى
الأقوال في ذلك عندي بالصواب أن يقال: إن القوم سألوا ربهم تعجيل صِكاكهم بحظوظهم
من الخير أو الشر الذي وعد الله عباده أن يؤتيهموها في الآخرة قبل يوم القيامة في
الدنيا استهزاء بوعيد الله.
وإنما
قلنا إن ذلك كذلك, لأن القطّ هو ما وصفت من الكتب بالجوائز والحظوظ, وقد أخبر الله
عن هؤلاء المشركين أنهم سألوه تعجيل ذلك لهم, ثم أتبع ذلك قوله لنبيه: اصْبِرْ
عَلَى مَا يَقُولُونَ فكان معلوما بذلك أن مسألتهم ما سألوا النبي صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم لو لم تكن على وجه الاستهزاء منهم لم يكن بالذي يتبع الأمر
بالصبر عليه, ولكن لما كان ذلك استهزاء, وكان فيه لرسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم أذى, أمره الله بالصبر عليه حتى يأتيه قضاؤه فيهم, ولما لم يكن في قوله (
عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا ) بيان أيّ القطوط إرادتهم, لم يكن لما توجيه ذلك إلى أنه
معني به القطوط ببعض معاني الخير أو الشرّ, فلذلك قلنا إن مسألتهم كانت بما ذكرت
من حظوظهم من الخير والشر.
القول
في تأويل قوله تعالى : اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ
وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ ( 17 ) إِنَّا
سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ ( 18 )
وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ ( 19 ) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ
وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ ( 20 )
يقول
تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: اصبر يا محمد على ما يقول
مشركو قومك لك مما تكره قيلهم لك, فإنا ممتحنوك بالمكاره امتحاننا سائر رسلنا
قبلك, ثم جاعلو العلوّ والرفعة والظفر لك على من كذبك وشاقك سنتنا في الرسل الذين
أرسلناهم إلى عبادنا قبلك فمنهم عبدنا أيوب وداود بن إيشا ، فاذكره ذا الأيد:
ويعني بقوله ( ذَا
الأيْدِ ) ذا
القوّة والبطش الشديد في ذات الله والصبر على طاعته.
وبنحو
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثني
محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس ( دَاوُدَ ذَا الأيْدِ ) قال: ذا القوّة.
حدثني
محمد بن عمرو, قال: ثني أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال:
ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله ( ذَا الأيْدِ ) قالَ ذا القوّة في طاعة الله.
حدثنا
بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأيْدِ ) قال: أعطي قوّة في العبادة,
وفقها في الإسلام.
وقد ذُكر
لنا أن داود صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم كان يقوم الليل ويصوم نصف الدهر.
حدثنا
محمد بن الحسين, قال: ثنا أحمد بن المفضل, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, قوله ( دَاوُدَ ذَا الأيْدِ ) ذا القوّة في طاعة الله.
حدثني
يونس قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله ( دَاوُدَ ذَا الأيْدِ ) قال: ذا القوّة في عبادة
الله, الأيد: القوّة, وقرأ: وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ قال: بقوة.
وقوله ( إِنَّهُ أَوَّابٌ ) يقول: إن داود رَجَّاع لما
يكرهه الله إلى ما يرضيه أواب, وهو من قولهم: آب الرجل إلى أهله: إذا رجع.
وبنحو
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن,
قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد ( إِنَّهُ أَوَّابٌ ) قال: رجاع عن الذنوب.
حدثني الحارث,
قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد ( إِنَّهُ أَوَّابٌ ) قال: الراجع عن الذنوب.
حدثنا
بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قوله ( إِنَّهُ أَوَّابٌ ) : أي كان مطيعا لله كثير
الصلاة.
حدثنا
محمد بن الحسين, قال: ثنا أحمد بن المفضل, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, قوله ( إِنَّهُ أَوَّابٌ ) قال: المسبح.
حدثني
يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله ( إِنَّهُ أَوَّابٌ ) قال: الأوّاب التوّاب الذي
يئوب إلى طاعة الله ويرجع إليها, ذلك الأوّاب, قال: والأوّاب: المطيع.
وقوله ( إِنَّا سَخَّرْنَا
الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإشْرَاقِ ) يقول تعالى ذكره: إنا سخرنا
الجبال يسبحن مع داود بالعشيّ, وذلك من وقت العصر إلى الليل, والإشراق, وذلك
بالغداة وقت الضحى.
ذُكر أن
داود كان إذا سبح سبحت معه الجبال.
كما حدثنا
بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ
بِالْعَشِيِّ وَالإشْرَاقِ ) يسبحن
مع داود إذا سبح بالعشيّ والإشراق.
حدثني
يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله ( بِالْعَشِيِّ وَالإشْرَاقِ ) قال: حين تُشرق الشمس وتضحى.
حدثنا
أبو كريب, قال: ثنا محمد بن بشر, عن مسعر بن عبد الكريم, عن موسى بن أبي كثير, عن
ابن عباس أنه بلغه أن أم هانئ ذكرت أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم
يوم فتح مكة, صلى الضحى ثمان ركعات, فقال ابن عباس: قد ظننت أن لهذه الساعة صلاة,
يقول الله: (
يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإشْرَاقِ ) .
حدثنا
ابن عبد الرحيم البرقي, قال: ثنا عمرو بن أبي سلمة, قال: ثنا صدقة, قال: ثني سعيد
بن أبي عَروبة, عن أبي المتوكل, عن أيوب بن صفوان, عن عبد الله بن الحارث بن نوفل
أن ابن عباس كان لا يصلي الضحى, قال: فأدخلته على أم هانئ, فقلت: اخبري هذا بما
أخبرتني به, فقالت أم هانئ: دخل عليّ رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يوم
الفتح في بيتي, فأمر بماء فصب في قصعة, ثم أمر بثوب فأخذ بيني وبينه, فاغتسل, ثم
رشّ ناحية البيت فصلى ثمان ركعات, وذلك من الضحى قيامهنّ وركوعهنّ وسجودهنّ
وجلوسهنّ سواء, قريب بعضهن من بعض, فخرج ابن عباس, وهو يقول: لقد قرأت ما بين
اللوحين, ما عرفت صلاة الضحى إلا الآن ( يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإشْرَاقِ ) وكنت أقول: أين صلاة الإشراق,
ثم قال: بعد هنّ صلاة الإشراق.
حدثنا
عمرو بن عليّ, قال: ثنا عبد الأعلى, قال: ثنا سعيد بن أبي عروبة, عن متوكل, عن
أيوب بن صفوان, مولى عبد الله بن الحارث, عن عبد الله بن الحارث، « أن أم هانئ ابنة أبي طالب,
حَدثت أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يوم الفتح دخل عليها ثم ذكر
نحوه » .
وعن ابن
عباس في قوله (
يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ ) مثل
ذلك.
وقوله ( وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ) يقول تعالى ذكره: وسخرنا
الطير يسبحن معه محشورة بمعنى: مجموعة له; ذكر أنه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم
كان إذا سبح أجابته الجبال, واجتمعت إليه الطير, فسبحت معه واجتماعها إليه كان
حشرها. وقد ذكرنا أقوال أهل التأويل في معنى الحشر فيما مضى, فكرهنا إعادته.
وكان
قتادة يقول في ذلك في هذا الموضع ما حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن
قتادة (
وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ) :
مسخَّرة.
وقوله ( كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ ) يقول: كل ذلك له مطيع رجَّاع
إلى طاعته وأمره. ويعني بالكلّ: كلّ الطير.
وبنحو
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ ) : أي مطيع.
حدثني
يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله ( وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً
كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ ) قال:
كل له مطيع.
وقال
آخرون: معنى ذلك: كل ذلك لله مسبِّح.
ذكر
من قال ذلك:
حدثني
محمد بن الحسين, قال: ثنا أحمد بن المفضل, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, قوله ( وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً
كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ ) يقول:
مسبِّح لله.
وقوله ( وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ ) اختلف أهل التأويل في المعنى
الذي به شدّد ملكه, فقال بعضهم: شدّد ذلك بالجنود والرجال, فكان يحرسه كل يوم
وليلة أربعة آلاف, أربعة آلاف.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
محمد بن الحسين, قال: ثنا أحمد بن المفضل, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, قوله ( وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ ) قال: كان يحرسه كلّ يوم وليلة
أربعة آلاف, أربعة آلاف.
وقال
آخرون: كان الذي شدد به ملكه, أن أعطي هيبة من الناس له لقضية كان قضاها.
ذكر
من قال ذلك:
حدثني ابن
حرب, قال: ثنا موسى, قال: ثنا داود, عن علباء بن أحمر, عن عكرمة, عن ابن عباس, أن
رجلا من بني إسرائيل استعدى على رجل من عظمائهم, فاجتمعا عند داود النبيّ صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فقال المستعدي: إن هذا اغتصبني بقرًا لي, فسأل داود الرجل
عن ذلك فجحده, فسأل الآخر البيِّنة, فلم يكن له بيِّنة, فقال لهما داود: قوما حتى
أنظر في أمركما; فقاما من عنده, فأوحى الله إلى داود في منامه أن يقتل الرجل الذي
استعدي عليه, فقال: هذه رؤيا ولست أعجل حتى أتثبت, فأوحى الله إلى داود في منامه
مرة أخرى أن يقتل الرجل, وأوحى الله إليه الثالثة أن يقتله أو تأتيه العقوبة من
الله, فأرسل داود إلى الرجل: إن الله قد أوحى إلي أن أقتلك, فقال الرجل: تقتلني
بغير بينة ولا تثبت؟! فقال له داود: نعم, والله لأنفذنّ أمر الله فيك; فلما عرف
الرجل أنه قاتله, قال: لا تعجل عليّ حتى أخبرك, إني والله ما أُخِذت بهذا الذنب,
ولكني كنت اغتلت والد هذا فقتلته, فبذلك قُتلت, فأمر به داود فقُتل, فاشتدت هيبة
بني إسرائيل عند ذلك لداود, وشدد به مُلْكه, فهو قول الله: ( وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ ) .
وأولى
الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تبارك تعالى أخبر أنه شَدَّد ملك داود,
ولم يحضر ذلك من تشديده على التشديد بالرجال والجنود دون الهيبة من الناس له ولا
على هيبة الناس له دون الجنود. وجائز أن يكون تشديده ذلك كان ببعض ما ذكرنا, وجائز
أن يكون كان بجميعها, ولا قول أولى في ذلك بالصحة من قول الله, إذ لم يحر ذلك على
بعض معاني التشديد خبر يجب التسليم له.
وقوله ( وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ ) اختلف أهل التأويل في معنى
الحكمة في هذا الموضع, فقال بعضهم: عني بها النبوة.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
محمد بن الحسين, قال: ثنا أحمد بن المفضل, قال: ثنا أسباط عن السديّ, قوله ( وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ ) قال: النبوّة.
وقال
آخرون: عنى بها أنه علم السنن.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ ) : أي السنة.
وقد بينا
معنى الحكمة في غير هذا الموضع بشواهده, فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع.
وقوله ( وَفَصْلَ الْخِطَابِ ) اختلف أهل التأويل في معنى
ذلك, فقال بعضهم: عني به أنه علم القضاء والفهم به.
ذكر
من قال ذلك:
حدثني
محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس ( وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب ) قال: أعطي الفهم.
حدثنا
أبو كُرَيب, قال: ثنا ابن إدريس, عن ليث, عن مجاهد ( وَفَصْلَ الْخِطَابِ ) قال: إصابة القضاء وفهمه.
حدثنا
محمد بن الحسين, قال: ثنا أحمد بن المفضل, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, في قوله ( وَفَصْلَ الْخِطَابِ ) قال: علم القضاء.
حدثني
يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله ( وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ
وَفَصْلَ الْخِطَابِ ) قال:
الخصومات التي يخاصم الناس إليه فصل ذلك الخطاب, الكلام الفهم, وإصابة القضاء
والبيِّنات.
حدثنا
ابن بشار, قال: ثنا عبد الرحمن, قال: ثنا سفيان, عن أبي حصين, قال: سمعت أبا عبد
الرحمن يقول: فصل الخطاب: القضاء.
وقال
آخرون: بل معنى ذلك: وفصل الخطاب, بتكليف المدّعي البينة, واليمين على المدعى
عليه.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
أبو كُرَيب, قال: ثنا هشيم, قال: أخبرنا داود بن أبي هند, قال: ثني الشعبيّ أو
غيره, عن شريح أنه قال في قوله ( وَفَصْلَ
الْخِطَابِ ) قال:
بيِّنة المدَّعي, أو يمين المُدَّعى عليه.
حدثني
يعقوب بن إبراهيم, قال: ثنا ابن عُلَية, عن داود بن أبي هند, في قوله ( وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ
وَفَصْلَ الْخِطَابِ ) قال:
نُبِّئْت عن شريح أنه قال: شاهدان أو يمين.
حدثنا
ابن عبد الأعلى, قال: ثنا معتمر, قال: سمعت داود قال: بلغني أن شريحا قال ( وَفَصْلَ الْخِطَابِ ) الشاهدان على المدعي, واليمين
على من أنكر.
حدثنا
ابن بشار, قال: ثنا عبد الرحمن, قال: ثنا سفيان, عن منصور, عن طاوس, أن شريحا قال
لرجل: إن هذا يعيب عليّ ما أُعْطِيَ داود, الشهود والأيمان.
حدثنا
ابن المثنى, قال: ثنا محمد بن جعفر, قال: ثنا شعبة, عن الحكم, عن شريح أنه قال في
هذه الآية (
وَفَصْلَ الْخِطَابِ ) قال:
الشهود والأيمان.
حدثنا
عمران بن موسى, قال: ثنا عبد الوارث, قال: ثنا داود, عن الشعبي, في قوله ( وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ
وَفَصْلَ الْخِطَابِ ) قال:
يمين أوْ شَاهِدٌ.
حدثنا
بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( وَفَصْلَ الْخِطَابِ ) البينة على الطالب, واليمين على المطلوب, هذا فصل الخطاب.
وقال
آخرون: بل هو قولُ: أما بعد.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
أبو كُرَيب, قال: ثنا جابر بن نوح, قال: ثنا إسماعيل, عن الشعبي في قوله ( وَفَصْلَ الْخِطَابِ ) قال: قول الرجل: أما بعد.
وأولى
الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله أخبر أنه آتى داود صلوات الله عليه فصل الخطاب,
والفصل: هو القطع, والخطاب هو المخاطبة, ومن قطع مخاطبة الرجل الرجل في حال احتكام
أحدهما إلى صاحبه قطع المحتكم إليه الحكم بين المحتكم إليه وخصمه بصواب من الحكم,
ومن قطع مخاطبته أيضا صاحبه إلزام المخاطب في الحكم ما يجب عليه إن كان مدعيا,
فإقامة البينة على دعواه وإن كان مدعى عليه فتكليفه اليمين إن طلب ذلك خصمه. ومن
قطع الخطاب أيضا الذي هو خطبة عند انقضاء قصة وابتداء في أخرى الفصل بينهما بأما
بعد. فإذ كان ذلك كله محتملا ظاهر الخبر ولم تكن في هذه الآية دلالة على أي ذلك
المراد, ولا ورد به خبر عن الرسول صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ثابت, فالصواب أن
يعم الخبر, كما عمه الله, فيقال: أوتي داود فصل الخطاب في القضاء والمحاورة
والخطب.
القول
في تأويل قوله تعالى : وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ
الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ ( 21 ) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ
مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ
بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ ( 22 )
يقول
تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: وهل أتاك يا محمد نبأ الخصم
وقيل: إنه عني بالخصم في هذا الموضع ملكان, وخرج في لفظ الواحد, لأنه مصدر مثل
الزور والسفر, لا يثنى ولا يجمع; ومنه قول لبيد:
وَخَــصْمٍ
يَعــدوّنَ الذُّحُـولَ كَـأَنَّهُمْ قُـرُوم غَيَـارَى كـلُّ أزْهَـرَ مُصْعَب
وقوله ( إِذْ تَسَوَّرُوا
الْمِحْرَابَ ) يقول:
دخلوا عليه من غير باب المحراب; والمحراب مقدّم كل مجلس وبيت وأشرفه.
وقوله ( إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ
) فكرّر
إذ مرّتين وكان بعض أهل العربية يقول في ذلك: قد يكون معناهما كالواحد, كقولك:
ضربتك إذ دخلت عليّ إذ اجترأت, فيكون الدخول هو الاجتراء, ويكون أن تجعل إحداهما
على مذهب لما, فكأنه قال: إذ تسوّروا المحراب لما دخلوا, قال: وإن شئت جعلت لما في
الأول, فإذا كان لما أولا أو آخرا, فهي بعد صاحبتها, كما تقول: أعطيته لما سألني,
فالسؤال قبل الإعطاء في تقدّمه وتأخره.
وقوله ( فَفَزِعَ مِنْهُمْ ) يقول القائل: وما كان وجه فزعه
منهما وهما خصمان, فإن فزعه منهما كان لدخولهما عليه من غير الباب الذي كان المدخل
عليه, فراعه دخولهما كذلك عليه. وقيل: إن فزعه كان منهما, لأنهما دخلا عليه ليلا
في غير وقت نظره بين الناس; قالوا: ( لا تَخَفْ ) يقول تعالى ذكره: قال له الخصم: لا تخف يا داود, وذلك لمَّا
رأياه قد ارتاع من دخولهما عليه من غير الباب. وفي الكلام محذوف استغني بدلالة ما
ظهر من الكلام منه, وهو مرافع خصمان, وذلك نحن. وإنما جاز ترك إظهار ذلك مع حاجة
الخصمين إلى المرافع, لأن قوله (
خَصْمَانِ ) فعل
للمتكلم, والعرب تضمر للمتكلم والمكلم والمخاطب ما يرفع أفعالهما, ولا يكادون أن
يفعلوا ذلك بغيرهما, فيقولون للرجل يخاطبونه: أمنطلق يا فلان ويقول المتكلم
لصاحبه: أحسن إليك وتجمل, وإنما يفعلون ذلك كذلك في المتكلم والمكَّلم, لأنهما
حاضران يعرف السامع مراد المتكلم إذا حُذف الاسم, وأكثر ما يجيءُ ذلك في الاستفهام,
وإن كان جائزا في غير الاستفهام, فيقال: أجالس راكب؟ فمن ذلك قوله خَصْمان; ومنه
قول الشاعر:
وَقُــولا
إذا جاوَزْتُمَـا أرْضَ عـامِرٍ وَجَاوَزْتُمَـا الحَـيْين نَهْـدًا وَخَشْـعَما
نزيعـانِ
مِـنْ جَـرْمِ بْـنِ رَبَّـانَ إنهمْ أبَـوْا أنْ يُمـيرُوا فـي الهَزَاهِزِ
مِحْجَما
وقول
الآخر:
تَقُــولُ
ابْنَـةُ الكَـعْبِيّ يـوْمَ لَقِيتُهـا أمُنْطَلِــقٌ فِــي الجَـيشِ أمْ
مُتَثَـاقِلُ
ومنه
قولهم: «
مُحْسِنة فهيلى » . وقول
النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: « آئِبُونَ تَائِبُونَ » . وقوله: « جَاءَ
يَوْمَ القِيَامَةِ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ آيِسٌ مِنْ رَحْمَةِ الله » كلّ ذلك بضمير رَفَعه. وقوله
عزّ وجلّ ( بَغَى
بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ ) يقول:
تعدّى أحدنا على صاحبه بغير حقّ (
فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ ) يقول:
فاقض بيننا بالعدل ( وَلا
تُشْطِطْ ) :
يقول: ولا تجُر, ولا تسرف في حكمك, بالميل منك مع أحدنا على صاحبه. وفيه لغتان:
أشَطَّ, وشَطَّ. ومن الإشطاط قول الأحوص:
ألا يـا
لقَـوْمٍ قـدْ أشَـطَّتْ عَـوَاذِلِي وَيَــزْعُمْنَ أنْ أودَى بحَـقِّي بـاطِلي
ومسموع
من بعضهم: شَطَطْتَ عليّ في السَّوم. فأما في البعد فإن أكثر كلامهم: شَطَّتْ
الدار, فهي تَشِطّ, كما قال الشاعر:
تَشِـــطُّ
غَـــدًا دَارُ جِيرَانِنَـــا وللـــدَّارُ بَعْـــدَ غَــدٍ أبْعَــدُ
وقوله ( وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ
الصِّرَاطِ ) يقول:
وأرشدنا إلى قصد الطريق المستقيم.
وبنحو
الذي قلنا في تأويل قوله ( وَلا
تُشْطِطْ ) قال
أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( وَلا تُشْطِطْ ) : أي لا تمل.
حدثنا
محمد بن الحسين, قال: ثنا أحمد بن المفضل, قال: ثنا أسباط, عن السديّ ( وَلا تُشْطِطْ ) يقول: لا تُحِف.
حدثني
يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله ( وَلا تُشْطِطْ ) تخالف عن الحقّ، وكالذي قلنا
أيضا في قوله (
وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ ) قالوا.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ ) إلى عدله وخيره.
حدثنا
محمد بن الحسين, قال: ثنا أحمد بن المفضل, قال: ثنا أسباط, عن السديّ ( وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ
الصِّرَاطِ ) إلى
عدل القضاء.
حدثني
يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله ( وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ
الصِّرَاطِ ) قال:
إلى الحق الذي هو الحق: الطريق المستقيم ( وَلا تُشْطِطْ ) تذهب إلى غيرها.
حدثنا
ابن حميد, قال: ثنا سلمة, عن ابن إسحاق, عن بعض أهل العلم, عن وهب بن منبه: ( وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ
الصِّرَاطِ ) : أي
احملنا على الحق, ولا تخالف بنا إلى غيره.
القول
في تأويل قوله تعالى : إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ
تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا
وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ( 23 )
وهذا مثل
ضربه الخصم المتسوّرون على داود محرابه له, وذلك أن داود كانت له فيما قيل: تسع
وتسعون امرأة, وكانت للرجل الذي أغزاه حتى قُتل امرأة واحدة; فلما قتل نكح فيما
ذكر داود امرأته, فقال له أحدهما: ( إِنَّ هَذَا أَخِي ) يقول: أخي على ديني.
كما
حدثنا ابن حميد, قال: ثنا سلمة, عن ابن إسحاق, عن بعض أهل العلم, عن وهب بن منبه:
( إِنَّ
هَذَا أَخِي ) : أي على
ديني ( لَهُ
تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ ) .
وذُكر أن
ذلك في قراءة عبد الله: « إِنَّ
هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً أُنْثَى » وذلك على سبيل توكيد العرب
الكلمة, كقولهم: هذا رجل ذكر, ولا يكادون أن يفعلوا ذلك إلا في المؤنث والمذكر
الذي تذكيره وتأنيثه في نفسه كالمرأة والرجل والناقة, ولا يكادون أن يقولوا هذه
دار أنثى, وملحفة أنثى, لأن تأنيثها في اسمها لا في معناها. وقيل: عنى بقوله:
أنثى: أنها حسنة.
ذكر
من قال ذلك:
حُدثت عن
المحاربي, عن جُوَيبر, عن الضحاك « إِنَّ
هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً أُنْثَى » يعني بتأنيثها. حسنها.
وقوله ( فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا ) يقول: فقال لي: انـزل عنها لي
وضمها إليّ.
كما
حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله ( أَكْفِلْنِيهَا ) قال: أعطنيها, طلِّقها لي, أنكحها,
وخلّ سبيلها.
حدثنا
ابن حميد, قال: ثنا سلمة, عن ابن إسحاق, عن بعض أهل العلم, عن وهب بن منبه, فقال:
(
أَكْفِلْنِيهَا ) أي
احملني عليها.
وقوله ( وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ) يقول: وصار أعز مني في
مخاطبته إياي, لأنه إن تكلم فهو أبين مني, وإن بطش كان أشدّ مني فقهرني.
وبنحو
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
ابن حميد, قال: ثنا جرير, عن الأعمش, عن أبي الضحى, عن مسروق, قال: قال عبد الله
في قوله (
وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ) قال:
ما زاد داود على أن قال: انـزل لي عنها.
حدثنا
ابن وكيع, قال: ثني أبي, عن المسعودي, عن المنهال, عن سعيد بن جُبَير, عن ابن عباس
قال: ما زاد على أن قال: انـزل لي عنها.
وحدثني
يحيى بن إبراهيم المسعودي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن جده, عن الأعمش, عن مسلم, عن
مسروق, قال: قال عبد الله: ما زاد داود على أن قال: ( أكفلنيها ) .
حدثني
محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, ( وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ) قال: إن دعوت ودعا كان أكثر,
وإن بطشت وبطش كان أشدّ مني, فذلك قوله ( وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ) .
حدثنا
بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ) ; أي ظلمني وقهرني.
حدثني
يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله ( وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ) قال: قهرني, وذلك العزّ; قال:
والخطاب: الكلام.
حدثنا
ابن حميد, قال: ثنا سلمة, عن ابن إسحاق, عن بعض أهل العلم عن وهب بن منبه ( وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ) : أي قهرني في الخطاب, وكان
أقوى مني, فحاز نعجتي إلى نعاجه, وتركني لا شيء لي.
حُدثت عن
الحسين, قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله ( وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ) قال: إن تكلم كان أبين مني,
وإن بطش كان أشدّ مني, وإن دعا كان أكثر مني.
القول
في تأويل قوله تعالى : قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ
بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ
لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ
وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ ( 24 )
يقول
تعالى ذكره: قال داود للخصم المتظلم من صاحبه: لقد ظلمك صاحبك بسؤاله نعجتك إلى
نعاجه; وهذا مما حذفت منه الهاء فأضيف بسقوط الهاء منه إلى المفعول به, ومثله قوله
عزّ وجلّ: لا يَسْأَمُ الإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ والمعنى: من دعائه
بالخير, فلما ألقيت الهاء من الدعاء أضيف إلى الخير, وألقي من الخير الباء; وإنما
كنى بالنعجة ها هنا عن المرأة, والعرب تفعل ذلك; ومنه قول الأعشى:
قَــدْ
كُـنْتُ رَائِدَهَـا وَشـاةِ مُحَـاذِرٍ حَــذرًا يُقِــلُّ بعَيْنِــهِ
إغْفَالَهَــا
يعني
بالشاة: امرأة رجل يحذر الناس عليها; وإنما يعني: لقد ظلمت بسؤال امرأتك الواحدة
إلى التسع والتسعين من نسائه.
وقوله ( وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ
الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ) يقول: وإن كثيرا من الشركاء ليتعدَّى بعضهم على بعض ( إِلا الَّذِينَ آمَنُوا ) بالله ( وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) يقول: وعملوا بطاعة الله,
وانتهوا إلى أمره ونهيه, ولم يتجاوزوه ( وَقَلِيلٌ مَا هُمْ ) وفي « ما » التي في قوله ( وَقَلِيلٌ مَا هُمْ ) وجهان: أحدهما أن تكون صلة
بمعنى: وقليل هم, فيكون إثباتها وإخراجها من الكلام لا يفسد معنى الكلام: والآخر
أن تكون اسما, و « هم » صلة لها, بمعنى: وقليل ما
تجدهم, كما يقال: قد كنت أحسبك أعقل مما أنت, فتكون أنت صلة لما, والمعنى: كنت
أحسب عقلك أكثر مما هو, فتكون « ما » والاسم مصدرا, ولو لم ترد
المصدر لكان الكلام بمن, لأن من التي تكون للناس وأشباههم, ومحكي عن العرب: قد كنت
أراك أعقل منك مثل ذلك, وقد كنت أرى أنه غير ما هو, بمعنى: كنت أراه على غير ما
رأيت.
ورُوي عن
ابن عباس في ذلك ما حدثني به عليّ, قال: ثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن على,
عن ابن عباس, في قوله (
وَقَلِيلٌ مَا هُمْ ) يقول:
وقليل الذين هم.
حدثني
يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله ( إِلا الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ ) قال: قليل من لا يبغي.
فعلى هذا
التأويل الذي تأوله ابن عباس معنى الكلام: إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات, وقليل
الذين هم كذلك, بمعنى: الذين لا يبغي بعضهم على بعض, و « ما » على هذا القول بمعنى: مَنْ.
وقوله ( وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا
فَتَنَّاهُ ) يقول: وعلم
داود أنما ابتُليناه, كما:
حدثنا
بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( وَظَنَّ دَاوُدُ ) : علم داود.
حدثني
يعقوب بن إبراهيم, قال: ثنا ابن عُلَية, عن أبي رجاء, عن الحسن ( وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا
فَتَنَّاهُ ) قال:
ظن أنما ابتُلي بذاك.
حدثني عليّ,
قال: ثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس ( وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا
فَتَنَّاهُ ) قال:
ظن أنما ابتُلي بذاك.
حدثني
عليّ, قال: ثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس ( وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا
فَتَنَّاهُ )
اختبرناه.
والعرب توجه
الظن إذا أدخلته على الإخبار كثيرا إلى العلم الذي هو من غير وجه العيان.
وقوله ( فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ ) يقول: فسأل داود ربه غفران
ذنبه (
وَخَرَّ رَاكِعًا ) يقول:
وخر ساجدا لله (
وَأَنَابَ ) يقول:
ورجع إلى رضا ربه, وتاب من خطيئته.
واختلف
في سبب البلاء الذي ابتُلي به نبي الله داود صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم, فقال
بعضهم: كان سبب ذلك أنه تذكر ما أعطى الله إبراهيم وإسحاق ويعقوب من حسن الثناء
الباقي لهم في الناس, فتمنّى مثله, فقيل له: إنهم امتُحنوا فصبروا, فسأل أن يُبتلى
كالذي ابتلوا, ويُعطى كالذي أعطوا إن هو صبر.
ذكر
من قال ذلك:
حدثني
محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس,
قوله وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ قال: إن داود
قال: يا رب قد أعطيت إبراهيم وإسحاق ويعقوب من الذكر ما لوددت أنك أعطيتني مثله,
قال الله: إني ابتُليتهم بما لم أبتلك به, فإن شئت ابتُليتك بمثل ما ابتُليتهم به,
وأعطيتك كما أعطيتهم, قال: نعم, قال له: فاعمل حتى أرى بلاءك; فكان ما شاء الله أن
يكون, وطال ذلك عليه, فكاد أن ينساه; فبينا هو في محرابه, إذ وقعت عليه حمامة من
ذهب فأراد أن يأخذها, فطار إلى كوّة المحراب, فذهب ليأخذها, فطارت, فاطلع من
الكوّة, فرأى امرأة تغتسل, فنـزل نبي الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم من
المحراب, فأرسل إليها فجاءته, فسألها عن زوجها وعن شأنها, فأخبرته أن زوجها غائب,
فكتب إلى أمير تلك السَّرية أن يُؤَمِّره على السرايا ليهلك زوجها, ففعل, فكان
يُصاب أصحابه وينجو, وربما نُصروا, وإن الله عزّ وجلّ لما رأى الذي وقع فيه داود,
أراد أن يستنقذه; فبينما داود ذات يوم في محرابه, إذ تسوّر عليه الخصمان من قبل
وجهه; فلما رآهما وهو يقرأ فزع وسكت, وقال: لقد استضعفت في ملكي حتى إن الناس
يستوّرون عليّ محرابي, قالا له: لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ
ولم يكن لنا بد من أن نأتيك, فاسمع منا; قال أحدهما: إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ
تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً أنثى وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ
أَكْفِلْنِيهَا يريد أن يتمم بها مئة, ويتركني ليس لي شيء وَعَزَّنِي فِي
الْخِطَابِ قال: إن دعوت ودعا كان أكثر, وإن بطشت وبطش كان أشد مني, فذلك قوله
وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ قال له داود: أنت كنت أحوج إلى نعجتك منه ( لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ
نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ ) .. إلى
قوله (
وَقَلِيلٌ مَا هُمْ ) ونسي
نفسه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم, فنظر الملكان أحدهما إلى الآخر حين قال ذلك,
فتبسم أحدهما إلى الآخر, فرآه داود وظن أنما فتن ( فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ ) أربعين ليلة, حتى نبتت
الخُضرة من دموع عينيه, ثم شدّد الله له ملكه.
حدثنا
محمد بن الحسين, قال: ثنا أحمد بن المفضل, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, في قوله
وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ قال: كان داود قد
قسم الدهر ثلاثة أيام: يوم يقضي فيه بين الناس, ويوم يخلو فيه لعبادة ربه, ويوم
يخلو فيه لنسائه; وكان له تسع وتسعون امرأة, وكان فيما يقرأ من الكتب أنه كان يجد
فيه فضل إبراهيم وإسحاق ويعقوب; فلما وجد ذلك فيما يقرأ من الكتب قال: يا رب إن
الخير كله قد ذهب به آبائي الذين كانوا قبلي, فأعطني مثل ما أعطيتهم, وافعل بي مثل
ما فعلت بهم, قال: فأوحى الله إليه: إن آباءك ابتُلوا ببلايا لم تبتل بها; ابتُلي
إبراهيم بذبح ابنه, وابتُلي إسحاق بذهاب بصره, وابتُلي يعقوب بحزنه على يوسف, وإنك
لم تبتل من ذلك بشيء, قال: يا رب ابتلني بمثل ما ابتُليتهم به, وأعطني مثل ما
أعطيتهم; قال. فأوحي إليه: إنك مبتلى فاحترس; قال: فمكث بعد ذلك ما شاء الله أن
يمكث, إذ جاءه الشيطان قد تمثّل في صورة حمامة من ذهب, حتى وقع عند رجليه وهو قائم
يصلي, فمد يده ليأخذه, فتنحى فتبعه, فتباعد حتى وقع في كوّة, فذهب ليأخذه, فطار من
الكوّة, فنظر أين يقع, فيبعث في أثره. قال: فأبصر امرأة تغتسل على سطح لها, فرأى
امرأة من أجمل الناس خَلْقا, فحانت منها التفاتة فأبصرته, فألقت شعرها فاستترت به,
قال: فزاده ذلك فيها رغبة, قال: فسأل عنها, فأخبر أن لها زوجا, وأن زوجها غائب
بمسلحة كذا وكذا; قال: فبعث إلى صاحب المسلحة أن يبعث أهريا إلى عدوّ كذا وكذا,
قال: فبعثه, ففتح له. قال: وكتب إليه بذلك, قال: فكتب إليه أيضا: أن ابعثه إلى
عدوّ كذا وكذا, أشد منهم بأسا, قال: فبعثا ففتح له أيضا. قال: فكتب إلى داود بذلك,
قال: فكتب إليه أن ابعثه إلى عدوّ كذا وكذا, فبعثه فقتل المرة الثالثة, قال: وتزوج
امرأته.
قال: فلما
دخلت عليه, قال: لم تلبث عنده إلا يسيرا حتى بعث الله مَلَكين في صور إنسيين,
فطلبا أن يدخلا عليه, فوجداه في يوم عبادته, فمنعهما الحرس أن يدخلا فتسوّروا عليه
المحراب, قالا فما شعر وهو يصلي إذ هو بهما بين يديه جالسين, قال: ففزع منهما,
فقالا لا تَخَفْ إنما نحن خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ
بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ يقول: لا تحف وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ
الصِّرَاطِ : إلى عدل القضاء. قال: فقال: قصّا عليّ قصّتكما, قال: فقال أحدهما:
إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ
فهو يريد أن يأخذ نعجتي, فيكمل بها نعاجه مئة. قال: فقال للآخر: ما تقول؟ فقال: إن
لي تسعا وتسعين نعجة, ولأخي هذا نعجة واحدة, فأنا أريد أن آخذها منه, فأكمل بها
نعاجي مئة, قال: وهو كاره؟ قال: وهو كاره, قال: وهو كاره؟ قال: إذن لا ندعك وذاك,
قال: ما أنت على ذلك بقادر, قال: فإن ذهبت تروم ذلك أو تريد, ضربنا منك هذا هذا
وهذا, وفسر أسباط طرف الأنف, وأصل الأنف والجبهة; قال: يا داود أنت أحق أن يُضرب
منك هذا وهذا وهذا, حيث لك تسع وتسعون نعجة امرأة, ولم يكن لأهريا إلا امرأة
واحدة, فلم تزل به تعرضه للقتل حتى قتلته, وتزوجت امرأته. قال: فنظر فلم ير شيئا,
فعرف ما قد وقع فيه, وما قد ابتُلي به. قال: فخر ساجدا, قال: فبكى. قال: فمكث يبكي
ساجدا أربعين يوما لا يرفع رأسه إلا لحاجة منها, ثم يقع ساجدا يبكي, ثم يدعو حتى
نبت العشب من دموع عينيه. قال: فأوحى الله إليه بعد أربعين يوما: يا داود ارفع
رأسك, فقد غفرت لك, فقال: يا رب كيف أعلم أنك قد غفرت لي وأنت حكم عدل لا تحيف في
القضاء, إذا جاءك أهريا يوم القيامة آخذا رأسه بيمينه أو بشماله تشخب أوداجه دما
فى قبل عرشك يقول: يا رب سل هذا فيم قتلني؟ قال: فأوحى إليه: إذا كان ذلك دعوت
أهريا فأستوهبك منه, فيهبك لي, فأثيبه بذلك الجنة, قال: رب الآن علمت أنك قد غفرت
لي, قال: فما استطاع أن يملأ عينيه من السماء حياء من ربه حتى قبض صلى الله عليه
وسلم.
حدثني
عليّ بن سهل, قال: ثنا الوليد بن مسلم عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر, قال: ثني
عطاء الخراساني, قال: نقش داود خطيئته في كفه لكيلا ينساها, قال: فكان إذا رآها
خفقت يده واضطربت.
وقال
آخرون: بل كان ذلك لعارض كان عرض في نفسه من ظن أنه يطيق أن يتم يوما لا يصيب فيه
حوبة, فابتُلي بالفتنة التي ابتُلي بها في اليوم الذي طمع في نفسه بإتمامه بغير
إصابة ذنب.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن مطر, عن الحسن: إن داود جَزَّأ الدهر أربعة
أجزاء: يوما لنسائه, ويوما لعبادته, ويوما لقضاء بني إسرائيل, ويوما لبني إسرائيل
يذاكرهم ويذاكرونه, ويبكيهم ويبكونه; فلما كان يوم بني إسرائيل قال: ذكروا فقالوا:
هل يأتي على الإنسان يوم لا يصيب فيه ذنبا؟ فأضمر داود في نفسه أنه سيطيق ذلك;
فلما كان يوم عبادته, أغلق أبوابه, وأمر أن لا يدخل عليه أحد, وأكب على التوراة;
فبينما هو يقرؤها, فإذا حمامة من ذهب فيها من كل لون حسن, قد وقعت بين يديه, فأهوى
إليها ليأخذها, قال: فطارت, فوقعت غير بعيد, من غير أن تُؤيسه من نفسها, قال: فما
زال يتبعها حتى أشرف على امرأة تغتسل, فأعجبه خَلْقها وحُسنها; قال: فلما رأت ظله
في الأرض, جللت نفسها بشعرها, فزاده ذلك أيضا إعجابا بها, وكان قد بعث زوجها على
بعض جيوشه, فكتب إليه أن يسير إلى مكان كذا وكذا, مكان إذا سار إليه لم يرجع, قال:
ففعل, فأصيب فخطبها فتزوجها. قال: وقال قتادة: بلغنا إنها أم سليمان, قال: فبينما
هو في المحراب, إذ تسور الملكان عليه, وكان الخصمان إذا أتوه يأتونه من بان
المحراب, ففزع منهم حين تسوروا المحراب, فقالوا: لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى
بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ .. حتى بلغ وَلا تُشْطِطْ : أي لا تمل وَاهْدِنَا إِلَى
سَوَاءِ الصِّرَاطِ : أي أعدله وخيره إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ
نَعْجَةً وكان لداود تسع وتسعون امرأة وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ قال: وإنما كان
للرجل امرأة واحدة فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ أي: ظلمني
وقهرني, فقال: (
لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ ) .. إلى قوله ( وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ
دَاوُدُ ) فعلم
داود أنما صمد له: أي عنى به ذلك ( وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ ) قال: وكان في حديث مطر, أنه
سجد أربعين ليلة, حتى أوحى الله إليه: إني قد غمرت لك, قال: رب وكيف تغفر لي وأنت
حكم عدل, لا تظلم أحدا؟ قال: إني أقضيك له, ثم أستوهبه دمك أو ذنبك, ثم أثيبه حتى
يرضى, قال: الآن طابت نفسي, وعلمت أنك قد غفرت لي.
حدثنا ابن
حميد, قال: ثنا سلمة, قال: ثني محمد بن إسحاق, عن بعض أهل العلم, عن وهب بن منبه
اليماني, قال: لما اجتمعت بنو إسرائيل, على داود, أنـزل الله عليه الزبور, وعلمه
صنعة الحديد, فألانه له, وأمر الجبال والطير أن يسبِّحن معه إذا سبح, ولم يعط الله
فيما يذكرون أحدا من خلقه مثل صوته, كان إذا قرأ الزبور فيما يذكرون, تدنو له
الوحوش حتى يأخذ بأعناقها, وإنها لمصيخة تسمع لصوته, وما صنعت الشياطين المزامير
والبرابط والصنوج, إلا على أصناف صوته, وكان شديد الاجتهاد دائب العبادة, فأقام في
بني إسرائيل يحكم فيهم بأمر الله نبيا مستخلفا, وكان شديد الاجتهاد من الأنبياء,
كثير البكاء, ثم عرض من فتنة تلك المرأة ما عرض له, وكان له محراب يتوحَّد فيه
لتلاوة الزبور, ولصلاته إذا صلى, وكان أسفل منه جنينة لرجل من بني إسرائيل, كان
عند ذلك الرجل المرأة التي أصاب داود فيها ما أصابه .
حدثنا
ابن حميد, قال: ثنا سلمة, عن محمد بن إسحاق, عن بعض أهل العلم, عن وهب بن منبه, أن
داود حين دخل محرابه ذلك اليوم, قال: لا يدخلن عليّ محرابي اليوم أحد حتى الليل,
ولا يشغلني شيء عما خلوت له حتى أمسي; ودخل محرابه, ونشر زبوره يقرؤه وفي المحراب
كوّة تطلعه على تلك الجنينة, فبينا هو جالس يقرأ زبور, إذ أقبلت حمامة من ذهب حتى
وقعت في الكوّة, فرفع رأسه فرآها, فأعجبته, ثم ذكر ما كان قال: لا يشغله شيء عما
دخل له, فنكَّس رأسه وأقبل على زَبوره, فتصوبت الحمامة للبلاء والاختبار من
الكوّة, فوقعت بين يديه, فتناولها بيده, فاستأخرت غير بعيد, فاتبعها, فنهضت إلى
الكوّة, فتناولها في الكوّة, فتصوبت إلى الجنينة, فأتبعها بصره أين تقع, فإذا
المرأة جالسة تغتسل بهيئة الله أعلم بها في الجمال والحُسن والخَلْق; فيزعمون أنها
لما رأته نقضت رأسها فوارت به جسدها منه, واختطفت قلبه, ورجع إلى زَبوره ومجلسه,
وهي من شأنه لا يفارق قلبه ذكرها. وتمادى به البلاء حتى أغزى زوجها, ثم أمر صاحب
جيشه فيما يزعم أهل الكتاب أن يقدم زوجها للمهالك حتى أصابه بعض ما أراد به من
الهلاك, ولداود تسع وتسعون امرأة; فلما أصيب زوجها خطبها داود, فنكحها, فبعث الله
إليه وهو في محرابه ملَكين يختصمان إليه, مثلا يضربه له ولصاحبه, فلم يرع داود إلا
بهما واقفين على رأسه في محرابه, ففال: ما أدخلكما عليّ؟ قالا لا تخف لم ندخل لبأس
ولا لريبة خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فجئناك لتقضي بيننا فَاحْكُمْ
بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ : أي
احملنا على الحقّ, ولا تخالف بنا إلى غيره; قال الملك الذي يتكلم عن أوريا بن
حنانيا زوج المرأة: إِنَّ هَذَا أَخِي أي على ديني لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ
نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا أي احملني عليها, ثم
عزّني في الخطاب: أي قهرني في الخطاب, وكان أقوى مني هو وأعزّ, فحاز نعجتي إلى
نعاجه وتركني لا شيء لي; فغضب داود, فنظر إلى خصمه الذي لم يتكلم, فقال: لئن كان
صدقني ما يقول, لأضربن بين عينيك بالفأس! ثم ارعوى داود, فعرف أنه هو الذي يراد
بما صنع في امرأة أوريا, فوقع ساجدا تائبا منيبا باكيا, فسجد أربعين صباحا صائما
لا يأكل فيها ولا يشرب, حتى أنبت دمعه الخضر تحت وجهه, وحتى أندب السجود في لحم
وجهه, فتاب الله عليه وقبل منه.
ويزعمون
أنه قال: أي رب هذا غفرت ما جنيت في شأن المرأة, فكيف بدم القتيل المظلوم؟ قيل له:
يا داود, فيما زعم أهل الكتاب, أما إن ربك لم يظلمه بدمه, ولكنه سيسأله إياك
فيعطيه, فيضعه عنك; فلما فرج عن داود ما كان فيه, رسم خطيئته في كفه اليمنى بطن
راحته, فما رفع إلى فيه طعاما ولا شرابا قط إلا بكى إذا رآها, وما قام خطيبا في
الناس قط إلا نشر راحته, فاستقبل بها الناس ليروا رسم خطيئته في يده.
حدثني
يعقوب بن إبراهيم, قال: ثنا ابن إدريس, قال: سمعت ليثا يذكر عن مجاهد قال: لما
أصاب داود الخطيئة خر لله ساجدا أربعين يوما حتى نبت من دموع عينيه من البقل ما
غطَّى رأسه; ثم نادى: رب قرح الجبين, وَجمَدت العين, وداود لم يرجع إليه في خطيئته
شيء, فنودي: أجائع فتطعم, أم مريض فتشفى, أم مظلوم فينتصر لك؟ قال: فنحب نحبة هاج
كلّ شيء كان نبت, فعند ذلك غفر له. وكانت خطيئته مكتوبة بكفه يقرؤها, وكان يؤتى
بالإناء ليشرب فلا يشرب إلا ثلثه أو نصفه, وكان يذكر خطيئته, فينحِب النَّحْبة
تكاد مفاصله تزول بعضها من بعض, ثم ما يتم شرابه حتى يملأه من دموعه; وكان يقال:
إن دمعة داود, تعدل دمعة الخلائق, ودمعة آدم تعدل دمعة داود ودمعة الخلائق, قال:
فهو يجيء يوم القيامة خطيئته مكتوبة بكفه, فيقول: رب ذنبي ذنبي قدّمني, قال:
فيقدّم فلا يأمن فيقول: ربّ أخِّرني فيؤخَّر فلا يأمن.
حدثني
يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرني ابن لَهِيعة, عن أبي صخر, عن يزيد
الرقاشي, عن أنس بن مالك سمعه يقول: سمعت رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم
يقول: « إنَّ
دَاوُدَ النَّبِيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم حِينَ نَظَرَ إلَى المَرْأَةِ
فَأَهَمَّ, قَطَعَ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ, فَأَوْصَى صَاحِبَ البَعْثِ, فَقَالَ:
إذَا حَضَرَ العَدُوُّ, فَقَرَّبَ فُلانًا بَيْنَ يَدَيِ التَّابُوتِ, وَكَانَ
التَّابُوتُ فِي ذَلِكَ الزَّمانِ يُسْتَنْصَرُ بِهِ, وَمَنْ قُدّمَ بَيْنَ يَدَيِ
التَّابُوتِ لَمْ يَرْجِعْ حَتَّى يُقْتَلَ أوْ يُهْزَمَ عَنْهُ الجَيْشُ,
فَقُتِلَ زُوْجُ المَرْأَةِ وَنـزلَ المَلَكَانِ عَلى دَاوُدَ يَقُصَّانِ عَلَيْهِ
قِصَّتَهُ, فَفَطِنَ دَاوُدُ فَسَجَدَ, فَمَكَثَ أرْبَعِينَ لَيْلَةً سَاجِدًا
حَتَّى نَبَتَ الزَّرْعُ مِنْ دُمُوعِهِ عَلَى رَأْسِهِ, وَأَكَلَتِ الأرْضُ
جَبِينَهُ وَهُوَ يَقُولُ فِي سُجُودِهِ » فَلَمْ أُحْصِ مِنَ الرّقاشيِّ إلا هؤلاء الكلمات: « رَبِّ زَلَّ دَاوُدُ أبْعَدُ
مَا بَيْنَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ, إنْ لَمْ تَرْحَمْ ضَعْفَ دَاوُدَ وَتَغْفِرْ
ذَنْبَهُ, جَعَلْتُ ذَنْبَهُ حَدِيثًا فِي الخُلُوفِ مِنْ بَعْدِهِ, فَجَاءَهُ
جِبْرَائِيلُ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم مِنْ بَعْدِ الأرْبَعِينَ لَيْلَةً,
قَالَ: يَا دَاوُدُ إنَّ الله قَدْ غَفَرَ لَكَ الهَمَّ الَّذِي هَمَمْتَ بِهِ,
فَقَالَ دَاوُدُ: عَلِمْت أن الرب قادر على أن يغفر لي الهم الذي هممت به, وقد
عرفت أن الله عدل لا يميل فكيف بفلان إذا جاء يوم القيامة فقال: يا رب دمي الذي
عنْدَ دَاوُدَ، فَقالَ جِبْرائيل صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: ما سألْتُ
رَبَّكَ عَنْ ذلكَ, وَلَئنْ شِئْتَ لأفْعَلَنَّ, فقال: نَعَمْ, فَعَرجَ جِبْريلُ
وَسَجَدَ دَاوُدُ, فَمَكَثَ ما شاء الله, ثُمَّ نـزلَ فَقَالَ: قَدْ سَأَلت
رَبَّكَ عَزَّ وجَلّ َيا دَاوُدُ عَنِ الَّذي أرْسَلْتَنِي فِيهِ, فَقَالَ: قُلْ
لِدَاوُدَ: إنَّ الله يَجْمَعُكُما يَوْمَ القِيَامَةِ فَيَقُولُ: هَبْ لي دَمَكَ
الَّذِي عِنْدَ دَاوُدَ, فَيَقُولُ: هُوَ لَك يا رَبّ, فَيَقُولُ: فإنَّ لَكَ فِي
الجَنَّةِ ما شِئْتَ وَما اشْتَهَيْتَ عِوَضًا »
حدثنني
عليّ بن سهل, قال: ثنا الوليد بن مسلم, قال: ثنا ابن جابر, عن عطاء الخراسانيّ: أن
كتاب صاحب البعث جاء ينعي من قُتل, فلما قرأ داود نعي رجل منهم رجع, فلما انتهى
إلى اسم الرجل قال: كتب الله على كل نفس الموت, قال: فلما انقضت عِدّتها خطبها.
القول
في تأويل قوله تعالى : فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ
وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ ( 25 ) يَا دَاوُدُ إِنَّا
جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا
تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ
عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ( 26
)
يعني
تعالى ذكره بقوله (
فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ ) فعفونا
عنه, وصفحنا له عن أن نؤاخذه بخطيئته وذنبه ذلك ( وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى ) يقول: وإن له عندنا للقُرْبة
منا يوم القيامة.
وبنحو
الذي قلنا في قوله (
فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ ) قال
أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا بشر,
قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ ) الذنب.
وقوله ( وَحُسْنُ مَآبٍ ) يقول: مَرْجع ومنقَلب ينقلب
إليه يوم القيامة.
وبنحو
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا بشر,
قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( وَحُسْنُ مَآبٍ ) : أي حسن مصير.
حدثنا
محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, قوله: . ( وَحُسْنُ مَآبٍ ) قال: حسن المنقلب.
وقوله ( يَا دَاوُدُ إِنَّا
جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرْضِ ) يقول تعالى ذكره: وقلنا لداود: يا داود إنا استخلفناك في
الأرض من بعد من كان قبلك من رسلنا حكما ببن أهلها.
كما
حدثنا محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ ( إِنَّا جَعَلْنَاكَ
خَلِيفَةً ) ملَّكه
في الأرض (
فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ ) يعني: بالعدل والإنصاف ( وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى ) يقول: ولا تؤثر هواك في قضائك بينهم على الحق والعدل فيه,
فتجور عن الحقّ (
فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ) يقول: فيميل بك اتباعك هواك في قضائك على العدل والعمل
بالحقّ عن طريق الله الذي جعله لأهل الإيمان فيه, فتكون من الهالكين بضلالك عن
سبيل الله.
وقوله ( إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ
عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ) يقول تعالى ذكره: إن الذين
يميلون عن سبيل الله, وذلك الحقّ الذي شرعه لعباده, وأمرهم بالعمل به, فيجورون عنه
في الدنيا, لهم في الآخرة يوم الحساب عذاب شديد على ضلالهم عن سبيل الله بما نسوا
أمر الله, يقول: بما تركوا القضاء بالعدل, والعمل بطاعة الله ( يَوْمِ الْحِسَابِ ) من صلة العذاب الشديد.
وبنحو
الذي قلنا في تأويل ذلك, قال أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثني
يعقوب بن إبراهيم, قال: ثنا هشيم, قال: أخبرنا العوّام, عن عكرمة, في قوله ( عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا
نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ) قال:
هذا من التقديم والتأخير, يقول: لهم يوم الحساب عذاب شديد بما نسوا.
حدثنا
محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, قوله ( بِمَا نَسُوا يَوْمَ
الْحِسَابِ ) قال:
نُسوا: تركوا.
القول
في تأويل قوله تعالى : وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ
وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ
لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ( 27 ) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ
الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ( 28 ) كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ
لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ ( 29 )
يقول
تعالى ذكره: ( وَمَا
خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا ) عبثا ولهوا, ما خلقناهما إلا
ليعمل فيهما بطاعتنا, وينتهى إلى أمرنا ونهينا.
(
ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ) يقول:
أي ظنّ أنَّا خلقنا ذلك باطلا ولعبا, ظنّ الذين كفروا بالله فلم يُوَحِّدُوه, ولم
يعرفوا عظمته, وأنه لا ينبغي أن يَعْبَث, فيتيقنوا بذلك أنه لا يخلق شيئا باطلا. ( فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ
كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ) يعني:
من نار جهنم. وقوله ( أَمْ
نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي
الأرْضِ ) يقول:
أنجعل الذين صدقوا الله ورسوله وعملوا بما أمر الله به, وانتهوا عما نهاهم عنه ( كَالْمُفْسِدِينَ فِي
الأرْضِ ) يقول:
كالذين يشركون بالله ويعصونه ويخالفون أمره ونهيه.
( أَمْ
نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ ) يقول:
الذين اتقوا الله بطاعته وراقبوه, فحذروا معاصيه ( كَالْفُجَّارِ ) يعني: كالكفار المنتهكين حرمات الله.
وقوله ( كِتَابٌ أَنـزلْنَاهُ
إِلَيْكَ ) يقول
تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : وهذا القرآن ( كِتَابٌ أَنـزلْنَاهُ
إِلَيْكَ ) يا
محمد (
مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ ) يقول: ليتدبَّروا حُجَج الله التي فيه, وما شرع فيه من
شرائعه, فيتعظوا ويعملوا به.
واختلفت
القرّاء في قراءة ذلك, فقرأته عامة القراء: ( لِيَدَّبَّرُوا ) بالياء, يعني: ليتدبر هذا القرآن من أرسلناك إليه من قومك
يا محمد. وقراءة أبو جعفر وعاصم «
لتَدَّبَّرُوا آياته » بالتاء,
بمعنى: لتتدبره أنت يا محمد وأتباعك.
وأولى
القراءتين عندنا بالصواب في ذلك أن يقال: إنهما قراءتان مشهورتان صحيحتا المعنى,
فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب (
وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الألْبَابِ ) يقول: وليعتبر أولو العقول والحِجَا ما في هذا الكتاب من
الآيات, فيرتدعوا عما هم عليه مقيمين من الضلالة, وينتهوا إلى ما دلهم عليه من
الرشاد وسبيل الصواب.
وبنحو
الذي قلنا في معنى قوله (
أُولُو الألْبَابِ ) قال
أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ ( أُولُو الألْبَابِ ) قال: أولو العقول من الناس، وقد بيَّنا ذلك فيما مضى قبل بشواهده,
بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
القول
في تأويل قوله تعالى : وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ
سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ( 30 ) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ
بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ ( 31 ) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ
الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ ( 32 ) رُدُّوهَا
عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ ( 33 )
يقول
تعالى ذكره (
وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ ) ابنه ولدا ( نِعْمَ الْعَبْدُ ) يقول: نعم العبد سليمان ( إِنَّهُ أَوَّابٌ ) يقول: إنه رجاع إلى طاعة الله توّاب إليه مما يكرهه منه.
وقيل: إنه عُنِي به أنه كثير الذكر لله والطاعة.
ذكر
من قال ذلك:
حدثني
محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: شي عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس ( نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ
أَوَّابٌ ) قال: الأواب:
المسبّح.
حدثنا
بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ) قال: كان مطيعًا لله كثير
الصلاة.
حدثنا
محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, قوله ( نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ
أَوَّابٌ ) قال:
المسبِّح.
والمسبِّح
قد يكون في الصلاة والذكر. وقد بيَّنَّا معنى الأوّاب, وذكرنا اختلاف أهل التأويل
فيه فيما مضى بما أغنى عن إعادته هاهنا.
وقوله ( إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ
بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ ) يقول تعالى ذكره: إنه تواب إلى الله من خطيئته التي أخطأها,
إذ عرض عليه بالعشي الصافنات; فإذ من صلة أواب, والصافنات: جمع الصافن من الخيل,
والأنثى: صافنة, والصافن منها عند بعض العرب: الذي يجمع بين يديه, ويثني طرف سنبك
إحدى رجليه, وعند آخرين: الذي يجمع يديه. وزعم الفرّاء أن الصافن: هو القائم, يقال
منه: صَفَنَتِ الخيلُ تَصْفِن صُفُونًا.
وبنحو
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثني
محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في
قول الله: (
الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ ) قال:
صُفُون الفرس: رَفْع إحدى يديه حتى يكون على طرف الحافر.
حدثني
الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: صَفَنَ
الفرسُ: رفع إحدى يديه حتى يكون على طرف الحافر.
حدثنا
بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ
الْجِيَادُ ) يعني:
الخيل, وصُفونها: قيامها وبَسْطها قوائمها.
حدثنا
محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ: الصافنات, قال: الخيل.
حدثني
يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله ( الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ ) قال: الخيل أخرجها الشيطان
لسليمان, من مرج من مروج البحر. قال: الخيل والبغال والحمير تَصْفِن, والصَّفْن
أن تقوم
على ثلاث, وترفع رجلا واحدة حتى يكون طرف الحافر على الأرض.
حدثني
يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: الصافنات: الخيل, وكانت لها أجنحة.
وأما
الجياد, فإنها السِّراع, واحدها: جواد.
كما حدثني
محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قاله. ثنا الحسن,
قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: الجياد: قال: السِّراع.
وذُكر
أنها كانت عشرين فرسا ذوات أجنحة.
* ذكر
الخبر بذلك:
حدثنا
محمد بن بشار, قال: ثنا مؤمل, قال: ثنا سفيان, عن أبيه, عن إبراهيم التيمي, في
قوله ( إِذْ
عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ ) قال: كانت عشرين فرسا ذات
أجنحة.
وقوله ( فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ
حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ ) وفي هذا الكلام محذوف استغني
بدلالة الظاهر عليه من ذكره: فَلَهِيَ عن الصلاة حتى فاتته, فقال: إني أحببت حب
الخير. ويعني بقوله (
فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ ) : أي المال والخيل، أو الخير من المال.
حدثنا
أبو كُرَيب, قال: ثنا ابن يمان, عن سفيان, عن السُّدِّيّ ( فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ
حُبَّ الْخَيْرِ ) قال:
الخيل.
حدثنا
محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, قوله ( إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ
الْخَيْرِ ) قال:
المال.
وقوله ( عَنْ ذِكْرِ رَبِّي ) يقول: إني أحببت حب الخير حتى
سهوت عن ذكر ربي وأداء فريضته. وقيل: إن ذلك كان صلاة العصر.
وبنحو
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( عَنْ ذِكْرِ رَبِّي ) عن صلاة العصر.
حدثنا
محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ ( عَنْ ذِكْرِ رَبِّي ) قال. صلاة العصر. حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم,
قال: ثنا أبو زرعة, قال: ثنا حيوة بن شريح, قال: ثنا أبو صخر, أنه سمع أبا معاوية
البجلي من أهل الكوفة يقول: سمعت أبا الصَّهباء البكري يقول: سألت عليّ بن أبي
طالب, عن الصلاة الوسطى, فقال: هي العصر, وهي التي فُتِن بها سليمان بن داود.
وقوله ( حَتَّى تَوَارَتْ
بِالْحِجَابِ ) يقول:
حتى توارت الشمس بالحجاب, يعني: تغيبت في مغيبها. كما حدثنا ابن حميد, قال: ثنا
سلمة, قال: ثنا ميكائيل, عن داود بن أبي هند, قال: قال ابن مسعود, في قوله ( إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ
الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ ) قال: توارت الشمس من وراء
ياقوتة خضراء, فخضرة السماء منها.
حدثنا
بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ ) حتى دَلَكَتْ براح. قال قتادة:
فوالله ما نازعته بنو إسرائيل ولا كابروه, ولكن ولوه من ذلك ما ولاه الله.
حدثنا
محمد بن الحسين, قال: ثنا أحمد بن المفضل, قال: ثنا أسباط, عن السديّ ( حَتَّى تَوَارَتْ
بِالْحِجَابِ ) حتى
غابت.
وقوله ( رُدُّوهَا عَلَيَّ ) يقول: ردّوا عليّ الخيل التي
عرضت عليّ, فشغلتني عن الصلاة, فكروها عليّ.
كما
حدثني محمد بن الحسين, قال: ثنا أحمد بن المفضل, قال: ثنا أسباط, عن السديّ ( رُدُّوهَا عَلَيَّ ) قال: الخيل.
وقوله ( فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ
وَالأعْنَاقِ ) يقول:
فجعل يمسح منها السوق, وهي جمع الساق, والأعناق.
واختلف
أهل التأويل في معنى مسح سليمان بسوق هذه الخيل الجياد وأعناقها, فقال بعضهم: معنى
ذلك أنه عقرها وضرب أعناقها, من قولهم: مَسَحَ علاوته: إذا ضرب عنقه.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأعْنَاقِ ) قال: قال الحسن: قال لا والله
لا تشغليني عن عبادة ربي آخر ما عليك, قال قولهما فيه, يعني قتادة والحسن قال:
فكَسَف عراقيبها, وضرب أعناقها.
حدثنا
محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ ( فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأعْنَاقِ ) فضرب سوقها وأعناقها.
حدثنا
محمد بن عبد الله بن بزيع, قال: ثنا بشر بن المفضل, عن عوف, عن الحسن, قال: أمر
بها فعقرت.
وقال
آخرون: بل جعل يمسح أعرافها وعراقيبها بيده حُبًّا لها.
ذكر
من قال ذلك:
حدثني
عليّ, قال: ثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله ( فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ
وَالأعْنَاقِ ) يقول:
جعل يمسح أعراف الخيل وعراقيبها: حبا لها.
وهذا
القول الذي ذكرناه عن ابن عباس أشبه بتأويل الآية, لأن نبيّ الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم لم يكن إن شاء الله ليعذب حيوانًا بالعرقبة, ويهلك مالا من ماله
بغير سبب, سوى أنه اشتغل عن صلاته بالنظر إليها, ولا ذنب لها باشتغاله بالنظر
إليها.
القول
في تأويل قوله تعالى : وَلَقَدْ فَتَنَّا
سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ ( 34 ) قَالَ رَبِّ
اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ
الْوَهَّابُ ( 35 )
يقول
تعالى ذكره: ولقد ابتُلينا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا شيطانا متمثلا بإنسان,
ذكروا أن اسمه صخر. وقيل: إن اسمه آصَف. وقيل: إن اسمه آصر. وقيل: إن اسمه حبقيق.
وبنحو
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثني
عليّ, قال: ثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله ( وَأَلْقَيْنَا عَلَى
كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ) قال:
هو صخر الجنيّ تمثَّل على كرسيه جسدا.
حدثني
محمد بن سعد, قال: ثنى أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس,
قوله (
وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ
أَنَابَ ) قال:
الجسد: الشيطان الذي كان دفع إليه سليمان خاتمه, فقذفه في البحر, وكان مُلك سليمان
في خاتمه, وكان اسم الجنيّ صخرا.
حدثنا
ابن بشار, قال: ثنا أبو داود, قال: ثنا مبارك, عن الحسن ( وَأَلْقَيْنَا عَلَى
كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ) قال:
شيطانا.
حدثنا
ابن بشار, قال: ثنا أبو داود, قال: ثنا ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد ( وَأَلْقَيْنَا عَلَى
كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ) قال:
شيطانا يقال له آصر.
حدثني
محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن,
قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله ( عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ) قال: شيطانا يقال له آصف,
فقال له سليمان: كيف تفتنون الناس؟ قال: أرني خاتمك أخبرك. فلما أعطاه إياه نبذه
آصف في البحر, فساح سليمان وذهب مُلكه, وقعد آصف على كرسيه, ومنعه الله نساء
سليمان, فلم يقربهنّ, وأنكرنه; قال: فكان سليمان يستطعم فيقول: أتعرفوني أطعموني
أنا سليمان, فيكذّبونه, حتى أعطته امرأة يوما حوتا يطيب بطنه, فوجد خاتمه في بطنه,
فرجع إليه مُلكه, وفر آصف فدخل البحر فارّا.
حدثني
الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد بنحوه, غير أنه
قال في حديثه: فيقول: لو تعرفوني أطعمتموني.
حدثنا
بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قوله ( وَلَقَدْ فَتَنَّا
سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ ) قال: حدثنا قتادة أن سليمان
أمر ببناء بيت المقدس, فقيل له: ابنه ولا يسمع فيه صوت حديد, قال: فطلب ذلك فلم
يقدر عليه, فقيل له: إن شيطانا في البحر يقال له صخر شبه المارد, قال: فطلبه,
وكانت عين في البحر يردها في كلّ سبعة أيام مرّة, فنـزح ماؤها وجعل فيها خمر, فجاء
يوم وروده فإذا هو بالخمر, فقال: إنك لشراب طيب, إلا أنك تصبين الحليم, وتزيدين
الجاهل جهلا قال: ثم رجع حتى عطش عطشا شديدا, ثم أتاها فقال: إنك لشراب طيب, إلا
أنك تصبين الحليم, وتزيدين الجاهل جهلا قال: ثم شربها حتى غلبت على عقله, قال:
فأري الخاتم أو ختم به بين كتفيه, فذلّ, قال: فكان مُلكه في خاتمه, فأتى به
سليمان, فقال: إنا قد أمرنا ببناء هذا البيت. وقيل لنا: لا يسمعنّ فيه صوت حديد,
قال: فأتى ببيض الهدهد, فجعل عليه زجاجة, فجاء الهدهد, فدار حولها, فجعل يرى بيضه
ولا يقدر عليه, فذهب فجاء بالماس, فوضعه عليه, فقطعها به حتى أفضى إلى بيضه, فأخذ
الماس, فجعلوا يقطعون به الحجارة, فكان سليمان إذا أراد أن يدخل الخلاء أو الحمام
لم يدخلها بخاتمه; فانطلق يوما إلى الحمام, وذلك الشيطان صخر معه, وذلك عند مقارفة
ذنب قارف فيه بعض نسائه, قال: فدخل الحمام, وأعطى الشيطان خاتمه, فألقاه في البحر,
فالتقمته سمكة, ونـزع مُلك سليمان منه, وألقي على الشيطان شبه سليمان; قال: فجاء
فقعد على كرسيه وسريره, وسلِّط على ملك سليمان كله غير نسائه; قال: فجعل يقضي
بينهم, وجعلوا ينكرون منه أشياء حتى قالوا: لقد فُتِن نبيّ الله; وكان فيهم رجل
يشبهونه بعمر بن الخطَّاب في القوّة, فقال: والله لأجربنه; قال: فقال له: يا نبيّ
الله, وهو يرى إلا أنه نبيّ الله, أحدنا تصيبه الجَنابة في الليلة الباردة, فيدع
الغسل عمدا حتى تطلع الشمس, أترى عليه بأسا؟ قال: لا قال: فبينا هو كذلك أربعين
ليلة حتى وجد نبي الله خاتمه في بطن سمكة, فأقبل فجعل لا يستقبله جنيّ ولا طير إلا
سجد له, حتى انتهى إليهم (
وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ) قال: هو الشيطان صخر.
حدثنا
محمد بن الحسين, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, في قوله ( وَلَقَدْ فَتَنَّا
سُلَيْمَانَ ) قال:
لقد ابتلينا (
وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ) قال: الشيطان حين جلس على كرسيه أربعين يوما; قال: كان
لسليمان مئة امرأة, وكانت امرأة منهنّ يقال لها جرادة, وهي آثر نسائه عنده, وآمنهن
عنده, وكان إذا أجنب أو أتى حاجة نـزع خاتمه, ولم يأتمن عليه أحد من الناس غيرها;
فجاءته يوما من الأيام, فقالت: إن أخي بينه وبين فلان خصومة, وأنا أحب أن تقضي له
إذا جاءك, فقال لها: نعم, ولم يفعل, فابتُلي وأعطاها خاتمه, ودخل المخرج, فخرج
الشيطان في صورته, فقال لها: هاتي الخاتم, فأعطته, فجاء حتى جلس على مجلس سليمان,
وخرج سليمان بعد, فسألها أن تعطيه خاتمه, فقالت: ألم تأخذه قبل؟ قال: لا وخرج
مكانه تائها; قال: ومكث الشيطان يحكم بين الناس أربعين يوما. قال: فأنكر الناس
أحكامه, فاجتمع قرّاء بني إسرائيل وعلماؤهم, فجاءو ا حتى دخلوا على نسائه, فقالوا:
إنا قد أنكرنا هذا, فإن كان سليمان فقد ذهب عقله, وأنكرنا أحكامه. قال: فبكى
النساء عند ذلك, قال: فأقبلوا يمشون حتى أتوه, فأحدقوا به, ثم نشروا التوراة,
فقرءوا; قال: فطار من بين أيديهم حتى وقع على شرفة والخاتم معه, ثم طار حتى ذهب
إلى البحر, فوقع الخاتم منه في البحر, فابتلعه حوت من حيتان البحر. قال: وأقبل
سليمان في حاله التي كان فيها حتى انتهى إلى صياد من صيادي البحر وهو جائع, وقد
اشتدّ جوعه, فاستطعمهم من صيدهم, قال: إني أنا سليمان, فقام إليه بعضهم فضربه بعصا
فشجَّه, فجعل يغسل دمه وهو على شاطئ البحر, فلام الصيادون صاحبهم الذي ضربه,
فقالوا: بئس ما صنعت حيث ضربته, قال: إنه زعم أنه سليمان, قال: فأعطوه سمكتين مما
قد مَذِر عندهم, ولم يشغله ما كان به من الضرر, حتى قام إلى شطّ البحر, فشقّ
بطونهما, فجعل يغسل... , فوجد خاتمه في بطن إحداهما, فأخذه فلبسه, فرد الله عليه
بهاءه وملكه, وجاءت الطير حتى حامت عليه, فعرف القوم أنه سليمان, فقام القوم
يعتذرون مما صنعوا, فقال: ما أحمدكم على عذركم, ولا ألومكم على ما كان منكم, كان
هذا الأمر لا بُدّ منه, قال: فجاء حتى أتى ملكه, فأرسل إلى الشيطان فجيء به, وسخر
له الريح والشياطين يومئذ, ولم تكن سخرت له قبل ذلك, وهو قوله ( وَهَبْ لِي مُلْكًا لا
يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ) قال: وبعث إلى الشيطان, فأتي
به, فأمر به فجعل في صندوق من حديد, ثم أطبق عليه فأقفل عليه بقفل, وختم عليه
بخاتمه, ثم أمر به, فألقي في البحر, فهو فيه حتى تقوم الساعة, وكان اسمه حبقيق.
وقوله ( ثُمَّ أَنَابَ ) سليمان, فرجع إلى ملكه من بعد
ما زال عنه ملكه فذهب.
وبنحو
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حُدثت عن
المحاربي, عن عبد الرحمن, عن جُوَيبر, عن الضحاك, في قوله ( ثُمَّ أَنَابَ ) قال: دخل سليمان على امرأة
تبيع السمك, فاشترى منها سمكة, فشقّ بطنها, فوجد خاتمه, فجعل لا يمر على شجر ولا
حجر ولا شيء إلا سجد له, حتى أتى مُلكه وأهله, فذلك قوله; ( ثُمَّ أَنَابَ ) يقول: ثم رجع.
حدثنا
بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( ثُمَّ أَنَابَ ) وأقبل, يعني سليمان.
قوله ( قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي
وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ بَعْدِي ) يقول تعالى ذكره: قال سليمان
راغبا إلى ربه: ربّ استر عليّ ذنبي الذي أذنبت بيني وبينك, فلا تعاقبني به ( وَهَبْ لِي مُلْكًا لا
يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ بَعْدِي ) لا
يسلبنيه أحدكما كما سلبنيه قبل هذه الشيطان.
وبنحو
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي
لأحَدٍ مِنْ بَعْدِي ) يقول:
ملكا لا أسلَبه كما سُلبتُه. وكان بعض أهل العربية يوجه معنى قوله ( لا يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ
بَعْدِي ) إلى:
أن لا يكون لأحد من بعدي, كما قال ابن أحمر:
مـا
أُمُّ غُفْـرٍ عـلى دعْجَـاءَ ذي عَلَقٍ يَنْفـي القَراميـدَ عنهـا الأعْصَمُ
الوَقِلُ
فـي
رأْسِ حَلْقـاءَ مِـن عَنقاءَ مُشْرِفةً لا يَنْبَغــي دُونهـا سَـهْل وَلا جَـبَل
بمعنى:
لا يكون فوقها سهل ولا جبل أحصن منها.
وقوله ( إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ) يقول: إنك وهاب ما تشاء لمن
تشاء بيدك خزائن كلّ شيء تفتح من ذلك ما أردت لمن أردت.
القول
في تأويل قوله تعالى : فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ
تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ ( 36 ) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ
وَغَوَّاصٍ ( 37 ) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ ( 38 ) هَذَا عَطَاؤُنَا
فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ( 39 ) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا
لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ ( 40 )
يقول
تعالى ذكره: فاستجبنا له دعاءه, فأعطيناه ملكا لا ينبغي لأحد من بعده ( فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ ) مكان الخيل التي شغلته عن
الصلاة (
تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً ) يعني:
رِخوة لينة, وهي من الرخاوة.
كما
حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع, قال: ثنا بشر بن المفضل, قال: ثنا عوف, عن الحسن,
أن نبي الله سليمان صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم لما عرضت عليه الخيل, فشغله
النظر إليها عن صلاة العصر حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ فغضب لله, فأمر بها
فعُقرت, فأبدله الله مكانها أسرع منها, سخر الريح تجري بأمره رُخاء حيث شاء, فكان
يغدو من إيلياء, ويقيل بقزوين, ثم يروح من قَزْوين ويبيت بكابُل.
حُدثت عن
الحسن, قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله
وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي فإنه دعا يوم دعا ولم يكن
في مُلكه الريح, وكل بناء وغواص من الشياطين, فدعا ربه عند توبته واستغفاره, فوهب
الله له ما سأل, فتمّ مُلكه.
واختلف
أهل التأويل في معنى الرخاء, فقال فيه بعضهم نحو الذي قلنا فيه.
ذكر
من قال ذلك:
حدثني
محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في
قوله (
تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً ) قال:
طَيِّبة.
حدثني
الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد بنحوه.
حدثنا
بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً
حَيْثُ أَصَابَ ) قال:
سريعة طيبة, قال: ليست بعاصفة ولا بطيئة.
حدثني
يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله ( رُخَاءً ) قال: الرخاء اللينة.
حدثنا
ابن بشار, قال: ثنا أبو عامر, قال: ثنا قرة, عن الحسن, في قوله ( رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ ) قال: ليست بعاصفة, ولا
الهَيِّنة بين ذلك رُخاء.
وقال
آخرون: معنى ذلك: مطيعة لسليمان.
ذكر
من قال ذلك:
حدثني
عليّ, قال: ثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن على, عن ابن عباس, قوله ( رُخَاءً ) يقول: مُطيعة له.
حدثني
محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس ( تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً ) قال: يعني بالرُّخاء:
المطيعة.
حدثنا ابن
المثنى, قال: ثنا أبو النعمان الحكم بن عبد الله, قال: ثنا شعبة, عن أبي رجاء, عن
الحسن, في قوله (
تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً ) قال:
مطيعة.
حُدثت عن
الحسين, قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله ( رُخَاءً ) يقول: مطيعة.
حدثنا
محمد بن الحسين, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, قوله ( رُخَاءً ) قال: طوعا. وقوله ( حَيْثُ أَصَابَ ) يقول: حيث أراد, من قولهم:
أصاب الله بك خيرا: أي أراد الله بك خيرا.
وبنحو
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثني عليّ,
قال: ثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ عن ابن عباس, قوله ( حَيْثُ أَصَابَ ) يقول: حيث أراد.
حدثني
محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس,
قوله (
حَيْثُ أَصَابَ ) يقول:
حيث أراد, انتهى عليها.
حدثني
محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن,
قال. ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله ( حَيْثُ أَصَابَ ) قال: حيث شاء.
حدثنا
ابن المثنى, قال: ثنا أبو النعمان الحكم بن عبد الله, قال: ثنا شعبة, عن أبي رجاء,
عن الحسن, في قوله (
حَيْثُ أَصَابَ ) قال:
حيث أراد.
حدثنا
بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( حَيْثُ أَصَابَ ) قال: إلى حيث أراد.
حُدثت عن
الحسين, قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله ( حَيْثُ أَصَابَ ) قال: حيث أراد.
حدثنا ابن
حميد, قال: ثنا سلمة, عن ابن إسحاق, عن بعض أهل العلم, عن وهب بن منبه ( حَيْثُ أَصَابَ ) : أي حيث أراد.
حدثنا
محمد بن الحسين, قال: ثنا أحمد بن المفضل, قال: ثنا أسباط, عن السديّ ( حَيْثُ أَصَابَ ) قال: حيث أراد.
حدثني
يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله ( حَيْثُ أَصَابَ ) قال: حيث أراد.
وقوله ( وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ
بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ ) يقول
تعالى ذكره: وسخرنا له الشياطين سلطناه عليها مكان ما ابتُليناه بالذي ألقينا على
كرسيّه منها يستعملها فيما يشاء من أعماله من بنَّاء وغوَّاص; فالبُناة منها
يصنعون محاريب وتماثيل, والغاصة يستخرجون له الحُلِيّ من البحار, وآخرون ينحتون له
جِفانا وقدورا, والمَردَة في الأغلال مُقَرَّنون.
كما
حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ
بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ ) قال:
يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل, وغوّاص يستخرجون الحليّ من البحر ( وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي
الأصْفَادِ ) قال:
مردة الشياطين في الأغلال.
حُدثت عن
المحاربيّ, عن جُوَيبر, عن الضحاك ( وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ ) قال: لم يكن هذا في ملك داود,
أعطاه الله ملك داود وزاده الريح ( وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ وَآخَرِينَ
مُقَرَّنِينَ فِي الأصْفَادِ ) يقول:
في السلاسل.
حدثنا
محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, قوله ( الأصْفَادِ ) قال: تجمع اليدين إلى عنقه,
والأصفاد: جمع صَفَد وهي الأغلال.
وقوله ( هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ
أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) اختلف
أهل التأويل في المشار إليه بقوله ( هَذَا ) من
العطاء, وأيّ عطاء أريد بقوله: عَطاؤنا, فقال بعضهم: عني به الملك الذي أعطاه
الله.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, في قوله ( هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ
أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) قال:
قال الحسن: الملك الذي أعطيناك فأعط ما شئت وامنع ما شئت.
حدثنا عن
المحاربي, عن جُوَيبر, عن الضحاك ( هَذَا عَطَاؤُنَا ) : هذا ملكنا.
وقال
آخرون: بل عَنَى بذلك تسخيره له الشياطين, وقالوا: ومعنى الكلام: هذا الذي أعطيناك
من كلّ بنّاء وغوّاص من الشياطين, وغيرهم عطاؤنا.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ
حِسَابٍ ) قال:
هؤلاء الشياطين احبس من شئت منهم فى وثاقك وفي عذابك أو سرِّح من شئت منهم تتخذ
عنده يدًا, اصنع ما شئت.
وقال
آخرون: بل ذلك ما كان أوتي من القوّة على الجماع.
ذكر
من قال ذلك:
حُدثت عن
أبي يوسف, عن سعيد بن طريف, عن عكرمة, عن ابن عباس, قال: كان سليمان في ظهره ماءُ
مِئَة رجل, وكان له ثلاث مِئَة امرأة وتسع مِئَة سُرِّيَّة ( هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ
أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) .
وأولى
الأقوال في ذلك عندي بالصواب القولُ الذي ذكرناه عن الحسن والضحاك من أنه عني بالعطاء
ما أعطاه من الملك تعالى ذكره, وذلك أنه جلّ ثناؤه ذكر ذلك عَقِيب خبره عن مسألة
نبيه سليمان صلوات الله وسلامه عليه إياه مُلكا لا ينبغي لأحد من بعده, فأخبر أنه
سخر له ما لم يُسَخَّر لأحد من بني آدم, وذلك تسخيره له الريح والشياطين على ما
وصفت, ثم قال له عزّ ذكره: هذا الذي أعطيناك من المُلك, وتسخيرنا ما سخرنا لك
عطاؤنا, ووهبنا لك ما سألتنا أن نهبه لك من الملك الذي لا ينبغي لأحد من بعدك ( فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ
بِغَيْرِ حِسَابٍ )
واختلف
أهل التأويل في تأويل قوله (
فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) فقال بعضهم: عنى بذلك. فأعط من شئت ما شئت من الملك الذي
آتيناك, وامنع ما شئت منه ما شئت, لا حساب عليك في ذلك.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قال: قال الحسن ( فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ
بِغَيْرِ حِسَابٍ ) المُلك
الذي أعطيناك, فأعط ما شئت وامنع ما شئت, فليس عليك تبعة ولا حساب.
حُدثت عن
المحاربي, عن جُوَيبر, عن الضحاك ( فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) سأل مُلكا هنيئا لا يُحاسب به
يوم القيامة, فقال: ما أعطيت, وما أمسكت, فلا حرج عليك.
حدثنا
ابن وكيع, قال: ثنا أبي, عن سفيان, عن أبيه, عن عكرمة ( فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ
بِغَيْرِ حِسَابٍ ) قال:
أعط أو أمسك, فلا حساب عليك.
حدثني
محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن,
قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد ( فَامْنُنْ ) قال: أعط أو أمسك بغير حساب.
وقال
آخرون: بل معنى ذلك: أعْتِق من هؤلاء الشياطين الذين سخرناهم لك من الخدمة, أو من
الوَثاق ممن كان منهم مُقَرَّنا في الأصفاد مَنْ شئت واحبس من شئت فلا حرج عليك في
ذلك.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) يقول: هؤلاء الشياطين احبس من
شئت منهم في وَثاقك وفي عذابك, وسرح من شئت منهم تتخذ عنده يدًا, اصنع ما شئت لا
حساب عليك في ذلك.
حدثني
محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس ( فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ
بِغَيْرِ حِسَابٍ ) يقول:
أعتق من الجنّ من شئت, وأمسك من شئت.
حدثنا
محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, قوله ( فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ
بِغَيْرِ حِسَابٍ ) قال:
تَمُنّ على من تشاء منهم فتُعْتِقُهُ, وتُمسِك من شئت فتستخدمه ليس عليك في ذلك
حساب.
وقال
آخرون: بل معنى ذلك: هذا الذي أعطيناك من القوّة على الجماع عطاؤنا, فجامع من شئت
من نسائك وجواريك ما شئت بغير حساب, واترك جماع من شئت منهن.
وقال
آخرون: بل ذلك من المقدم والمؤخر. ومعنى الكلام: هذا عطاؤنا بغير حساب, فامْنُن أو
أمسك. وذُكر أن ذلك في قراءة عبد الله: « هذا فامنن أو أمسك عطاؤنا بغير حساب » .
وكان بعض
أهل العلم بكلام العرب من البصريين يقول في قوله ( بِغَيْرِ حِسَابٍ ) وجهان; أحدهما: بغير جزاء ولا ثواب, والآخر: مِنَّةٍ ولا
قِلَّةٍ.
والصواب من
القول في ذلك ما ذكرته عن أهل التأويل من أن معناه: لا يحاسب على ما أعطى من ذلك
المُلك والسلطان. وإنما قلنا ذلك هو الصواب لإجماع الحجة من أهل التأويل عليه.
وقوله ( وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا
لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ ) يقول:
وإن لسليمان عندنا لقُرْبةً بإنابته إلينا وتوبته وطاعته لنا, وحُسْنَ مآب: يقول:
وحسن مرجع ومصير في الآخرة.
كما
حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا
لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ ) : أي
مصير.
إن قال
لنا قائل: وما وجه رغبة سليمان إلى ربه في الملك, وهو نبيّ من الأنبياء, وإنما
يرغب في الملك أهل الدنيا المؤثِرون لها على الآخرة؟ أم ما وجه مسألته إياه, إذ
سأله ذلك مُلكا لا ينبغي لأحد من بعده, وما كان يضرّه أن يكون كلّ من بعده يُؤْتَى
مثل الذي أوتي من ذلك؟ أكان به بخل بذلك, فلم يكن من مُلكه, يُعطي ذلك من يعطاه, أم
حسد للناس, كما ذُكر عن الحجاج بن يوسف; فإنه ذكر أنه قرأ قوله وَهَبْ لِي مُلْكًا
لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي فقال: إن كان لحسودًا, فإن ذلك ليس من أخلاق
الأنبياء! قيل: أما رغبته إلى ربه فيما يرغب إليه من المُلك, فلم تكن إن شاء الله
به رغبةً في الدنيا, ولكن إرادة منه أن يعلم منـزلته من الله فى إجابته فيما رغب
إليه فيه, وقبوله توبته, وإجابته دعاءه.
وأما
مسألته ربه مُلكا لا ينبغي لأحد من بعده, فإنا قد ذكرنا فيما مضى قبلُ قولَ من
قال: إن معنى ذلك: هب لي مُلكا لا أسلبه كما سلبته قبل. وإنما معناه عند هؤلاء: هب
لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي أن يَسلُبنيه. وقد يتجه ذلك أن يكون بمعنى: لا
ينبغي لأحد سواي من أهل زماني, فيكون حجة وعَلَما لي على نبوتي وأني رسولك إليهم
مبعوث, إذ كانت الرسل لا بد لها من أعلام تفارق بها سائر الناس سواهم. ويتجه أيضا
لأن يكون معناه: وهب لي ملكا تخُصُّني به, لا تعطيه أحدا غيري تشريفا منك لي بذلك,
وتكرمة, لتبين منـزلتي منك به من منازل من سواي, وليس في وجه من هذه الوجوه مما
ظنه الحجاج في معنى ذلك شيء.
القول
في تأويل قوله تعالى : وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ
إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ( 41 )
ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ ( 42 )
يقول
تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: ( وَاذْكُرْ ) أيضا يا محمد عَبْدَنَا
أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ ) مستغيثا به فيما نـزل به من البلاء: يا ربّ ( أَنِّي مَسَّنِيَ
الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ )
فاختلفت القرّاء في قراءة قوله (
بِنُصْبٍ ) فقرأته
عامة قرّاء الأمصار خلا أبي جعفر القارئ: ( بِنُصْبٍ ) بضم
النون وسكون الصاد, وقرأ ذلك أبو جعفر: بضم النون والصاد كليهما, وقد حُكي عنه
بفتح النون والصاد; والنُّصْب والنَّصَب بمنـزلة الحُزْن والحَزَن, والعُدم
والعَدَم, والرُّشْد والرَّشَد, والصُّلْب والصَّلَب. وكان الفرّاء يقول: إذا ضُمّ
أوّله لم يثقل, لأنهم جعلوهما على سِمَتين: إذا فتحوا أوّله ثقّلوا, وإذا ضمّوا
أوّله خففوا. قال: وأنشدني بعض العرب:
لَئِــنْ
بَعَثَــتْ أُمُّ الحُـمَيْدَيْنِ مـائِرًا لَقَـدْ غَنِيَـتْ فـي غَيرِ بُؤْسٍ
ولا جُحدِ
من
قولهم: جَحِد عيشه: إذا ضاق واشتدّ; قال: فلما قال جُحْد خَفَّف.
وقال بعض
أهل العلم بكلام العرب من البصريين: النَّصُب من العذاب. وقال: العرب تقول:
أنصبني: عذّبني وبرّح بي. قال: وبعضهم يقول: نَصَبَني, واستشهد لقيله ذلك بقول بشر
بن أبي خازم:
تَعَنَّـاكَ
نَصْـب مِـن أُمَيْمَـةَ مُنْصِبُ كَـذِي الشَّـجْوِ لَمَّـا يَسْـلُه وسـيَذْهَبُ
وقال:
يعني بالنَّصْب: البلاء والشرّ; ومنه قول نابغة بني ذُبيان:
كِــلِيني
لِهَــمّ يـا أمَيْمَـةَ نـاصِبِ وَلَيْــلٍ أُقاسِــيهِ بَطـيءِ الكَـوَاكِب
حدثني
بشر بن آدم, قال: ثنا أبو قُتيبة, قال: ثنا أبو هلال, قال: سمعت الحسن, في قول
الله: (
ارْكُضْ بِرِجْلِكَ ) فركض
برجله, فنبعت عين فاغتسل منها, ثم مشى نحوا من أربعين ذراعا, ثم ركض برجله, فنبعت
عين, فشرب منها, فذلك قوله (
ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ )
وعنى
بقوله (
مُغْتَسَلٌ ) : ما
يُغْتَسل به من الماء, يقال منه: هذا مُغْتَسل, وغسول للذي يَغْتسل به من الماء.
وقوله (
وَشَرَابٌ ) يعني:
ويشرب منه, والموضع الذي يغتسل فيه يسمى مغتسلا.
القول
في تأويل قوله تعالى : وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ
وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لأُولِي الأَلْبَابِ ( 43 )
وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ
صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ( 44 )
اختلف
أهل التأويل في معنى قوله (
وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ ) وقد ذكرنا اختلافهم في ذلك والصواب من القول عندنا فيه في
سورة الأنبياء بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. فتأويل الكلام: فاغتسل وشرب,
ففرجنا عنه ما كان فيه من البلاء, ووهبنا له أهله, من زوجة وولد ( وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ
رَحْمَةً مِنَّا ) له
ورأفة (
وَذِكْرَى ) يقول:
وتذكيرا لأولي العقول, ليعتبروا بها فيتعظوا.
وقد
حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرني نافع بن يزيد, عن عقيل, عن ابن
شهاب, عن أنس بن مالك, أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال: « إنَّ نَبِيَّ الله أيُّوبَ
لَبِثَ بِهِ بَلاؤهُ ثَمانِيَ عَشْرَة سَنَة, فَرَفَضَه القَرِيبُ وَالبَعِيدُ,
إلا رَجُلانِ مِنْ إخْوَانِهِ كانا مِنْ أخَصّ إخْوَانِهِ بِهِ, كَانَا يَغْدُوانِ
إلَيْهِ ويَرُوحانِ, فَقالَ أحَدُهُما لِصَاحِبه: تَعْلَم والله لَقَدْ أذْنَبَ
أيُّوبُ ذَنْبًا ما أذْنَبَهُ أحَدٌ مِنَ العَالَمِينَ, قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ:
ومَا ذَاكَ؟ قَالَ: مِنْ ثَمانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً لَمْ يَرْحَمْهُ الله
فَيَكْشِفَ ما بِهِ; فَلَمَّا رَاحا إلَيْهِ لَمْ يَصْبِر الرَّجُلُ حتَّى ذَكَرَ
ذَلِكَ لَهُ, فقَالَ أيَّوُّبُ: لا أدْرِي ما تَقُولُ, غَيرَ أنَّ الله يَعْلَمُ
أنِّي كُنْتُ أمُرُّ على الرُّجُلَيْنِ يَتَنازَعانِ فَيَذْكُرَانِ الله,
فَأَرْجِعَ إلى بَيْتِي فَأكفِّرُ عَنْهُما كَرَاهِيَةَ أنْ يُذْكَرَ الله إلا في حَقّ
» ; قال: « وكان يَخْرُجُ إلى حاجَتِهِ,
فإذَا قَضَاها أمْسَكَت امْرأُتُه بِيَدِهِ حتى يَبْلُغ فَلَما كانَ ذاتَ يَوْمٍ
أبْطَأُ عَلَيْها, وأوحِيَ إلى أيُّوب في مَكانِهِ: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا
مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ فاسْتَبطأتَهُ, فَتَلقتهُ تَنْظُرُ, فأقْبَلَ
عَلَيْهَا قَدْ أذْهَبَ الله ما بِهِ مِنَ البَلاءِ, وَهُوَ عَلى أحْسَنِ ما كانَ
. فَلَمَّا رَأتْهُ قَالَتْ: أيْ بارَكَ الله فِيكَ, هَلْ رَأَيْتَ نَبِيَّ الله
هَذَا المُبْتَلى, فوالله على ذلك ما رَأَيْتُ أحَدًا أشْبَهَ بِهِ منْكَ إذْ كانَ
صحيحا؟ قال: فإنّي أنا هُوَ ، قال: وكانَ لَهُ أنْدرَانِ: أنْدَرٌ للْقَمْحِ,
وأنْدَرٌ للشَّعِيرِ, فَبَعَثَ الله سَحَابَتَيْنِ, فَلَمَّا كانَتْ إحْداهُما على
أنْدَرِ القَمْحِ, أفْرَغَتْ فِيهِ الذَّهَبَ حتى فاضَ, وأفرغَتِ الأخْرَى في
أنْدَرِ الشَّعِيرِ الوَرِق حتى فاضَ . »
« حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ
وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ ) قال:
قال الحسن وقتادة: فأحياهم الله بأعيانهم, وزادهم مثلهم . »
حدثني
محمد بن عوف, قال: ثنا أبو المغيرة, قال: ثنا صفوان, قال: ثنا عبد الرحمن بن جُبَير,
قال: لما ابتُلي نبيّ الله أيوب صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بماله وولده وجسده,
وطُرح في مَزْبَلة, جعلت امرأته تخرج تكسب عليه ما تطعمه, فحسده الشيطان على ذلك,
وكان يأتي أصحاب الخبز والشويّ الذين كانوا يتصدّقون عليها, فيقول: اطردوا هذه
المرأة التي تغشاكم, فإنها تعالج صاحبها وتلمسه بيدها, فالناس يتقذّرون طعامكم من
أجل أنها تأتيكم وتغشاكم على ذلك; وكان يلقاها إذا خرجت كالمحزون لمَا لقي أيوب,
فيقول: لَجَّ صاحبك, فأبى إلا ما أتى, فوالله لو تكلم بكلمة واحدة لكشف عنه كلّ
ضرّ, ولرجع إليه ماله وولده, فتجيء, فتخبر أيوب, فيقول لها: لقيك عدوّ الله فلقنك
هذا الكلام; ويلك, إنما مثلك كمثل المرأة الزانية إذا جاء صديقها بشيء قبلته
وأدخلته, وإن لم يأتها بشيء طردته, وأغلقت بابها عنه! لما أعطانا الله المال
والولد آمنا به, وإذا قبض الذي له منا نكفر به, ونبدّل غيره ! إن أقامني الله من
مرضي هذا لأجلدنَّك مئةً, قال: فلذلك قال الله: ( وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ )
وقوله ( وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا ) يقول: وقلنا لأيوب: خذ بيدك
ضغثا, وهو ما يجمع من شيء مثل حزمة الرُّطْبة, وكملء الكفّ من الشجر أو الحشيش والشماريخ
ونحو ذلك مما قام على ساق; ومنه قول عوف بن الخَرِع:
وأسْــفَل
مِنِّـي نَهْـدَةٌ قَـدْ رَبَطْتُهـا وألْقَيْـتُ ضِغْثـا مِـن خَـلا متَطَيِّـبِ
وبنحو
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثني
عليّ, قال: ثني عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية عن عليّ عن ابن عباس, قوله ( وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا ) يقول: حُزْمة.
حدثني
محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس,
قوله (
وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ ) قال: أمر أن يأخذ ضغثا من
رطبة بقدر ما حلف عليه فيضرب به.
حدثنا
أبو كُرَيب, قال: ثنا ابن يمان, عن ابن جُرَيج, عن عطاء, في قوله ( وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا ) قال: عيدانا رطبة.
حدثنا
أبو هشام الرفاعيّ, قال: ثنا يحيى, عن إسماعيل بن إبراهيم بن المهاجر, عن أبيه, عن
مجاهد, عن ابن عباس ( وَخُذْ
بِيَدِكَ ضِغْثًا ) قال:
هو الأثْل.
حدثنا
بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا ) .. الآية, قال: كانت امرأته قد عَرَضت له بأمر, وأرادها
إبليس على شيء, فقال: لو تكلمت بكذا وكذا, وإنما حملها عليها الجزع, فحلف نبي
الله: لِئن الله شفاه ليجلِدنَّها مئة جلدة; قال: فأمر بغصن فيه تسعة وتسعون
قضيبا, والأصل تكملة المِئَة, فضربها ضربة واحدة, فأبرّ نبيُّ الله, وخَفَّفَ الله
عن أمَتِهِ, والله رحيم.
حُدثت عن
الحسين, قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله ( وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا ) يعني: ضِغْثا من الشجر
الرَّطْب, كان حلف على يمين, فأخذ من الشجر عدد ما حلف عليه, فضرب به ضَرْبة
واحدة, فبرّت يمينه, وهو اليوم في الناس يمين أيوب, من أخذ بها فهو حسن.
حدثني
يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله ( وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا
فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ ) قال:
ضِغْثا واحدا من الكلأ فيه أكثر من مِئَة عود, فضرب به ضربة واحدة, فذلك مِئَة
ضربة.
حدثني
محمد بن عوف, قال: ثنا أبو المغيرة, قال: ثنا صفوان, قال: ثنا عبد الرحمن بن
جُبَير (
وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ ) يقول: فاضرب زوجتك بالضِّغْث, لتَبرّ في يمينك التي حلفت
بها عليها أن تضربها ( وَلا
تَحْنَثْ ) يقول:
ولا تحنَثْ في يمينك.
وقوله ( إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا
نِعْمَ الْعَبْدُ ) يقول:
إنا وجدنا أيوب صابرا على البلاء, لا يحمله البلاء على الخروج عن طاعة الله,
والدخول في معصيته (
نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ) يقول: إنه على طاعة الله مقبل, وإلى رضاه رجَّاع.
القول
في تأويل قوله تعالى : وَاذْكُرْ عِبَادَنَا
إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ ( 45 )
إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ( 46 ) وَإِنَّهُمْ
عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ ( 47 )
اختلفت
القرّاء في قراءة قوله (
عِبَادِنَا ) فقرأته
عامة قرّاء الأمصار: (
وَاذْكُرْ عِبَادَنَا ) على
الجماع غير ابن كثير, فإنه ذكر عنه أنه قرأه: « واذكر عبدنا » على التوحيد, كأنه يوجه الكلام إلى أن إسحاق ويعقوب من ذرّية
إبراهيم, وأنهما ذُكِرا من بعده.
حدثنا
أبو كُرَيب, قال: ثنا ابن عيينة, عن عمرو, عن عطاء, سمع ابن عباس يقرأ: « واذكر عبدنا إن إبراهيم » قال: إنما ذكر إبراهيم, ثم
ذُكِر ولده بعده.
والصواب
عنده من القراءة في ذلك, قراءة من قرأه على الجماع, على أن إبراهيم وإسحاق ويعقوب
بيان عن العباد, وترجمة عنه, لإجماع الحجة من القرّاء عليه.
وقوله ( أُولِي الأيْدِي
وَالأبْصَارِ ) ويعني
بالأيدي: القوّة, يقول: أهل القوّة على عبادة الله وطاعته. ويعني بالأبصار: أنهم
أهل أبصار القلوب, يعني به: أولى العقول للحقّ.
وقد
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك, فقال بعضهم في ذلك نحوًا مما قلنا فيه.
ذكر
من قال ذلك:
حدثني
عليّ, قال: ثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله ( أُولِي الأيْدِي ) يقول: أولي القوّة والعبادة,
والأبْصَارِ يقول: الفقه في الدين.
حدثني
محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس,
قوله (
أُولِي الأيْدِي وَالأبْصَارِ ) قال:
فضِّلوا بالقوّة والعبادة.
حدثني
محمد بن المثنى, قال: ثنا محمد بن جعفر, قال: ثنا شعبة, عن منصور أنه قال في هذه
الآية (
أُولِي الأيْدِي ) قال:
القوّة.
حدثنا
ابن حميد, قال: ثنا حكام, عن عنبسة, عن محمد بن عبد الرحمن, عن القاسم بن أبي
بَزّة, عن مجاهد, في قوله (
أُولِي الأيْدِي ) قال:
القوّة في أمر الله.
حدثنا
ابن حميد, قال: ثنا حكام, عن عمرو, عن منصور, عن مجاهد ( أُولِي الأيْدِي ) قال: الأيدي: القوّة في أمر
الله, (
وَالأبْصَارَ ) :
العقول.
حدثني
محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن,
قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد ( أُولِي الأيْدِي
وَالأبْصَارِ ) قال:
القوّة في طاعة الله, (
وَالأبْصَارَ ) : قال:
البصر في الحقّ.
حدثنا
بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قوله ( أُولِي الأيْدِي
وَالأبْصَارِ ) يقول:
أعطوا قوة في العبادة, وبصرًا في الدين.
حدثنا
محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, قوله ( أُولِي الأيْدِي
وَالأبْصَارِ ) قال:
الأيدي: القوّة في طاعة الله, والأبصار: البصر بعقولهم في دينهم.
حدثنا
ابن حميد, قال: ثنا جرير, عن منصور, عن مجاهد, في قوله ( أُولِي الأيْدِي
وَالأبْصَارِ ) قال:
الأيدي: القوّة, والأبصار: العقول.
فإن قال
لنا قائل: وما الأيدي من القوّة, والأيدي إنما هي جمع يد, واليد جارحة, وما العقول
من الأبصار, وإنما الأبصار جمع بصر؟ قيل: إن ذلك مثل, وذلك أن باليد البطش,
وبالبطش تُعرف قوّة القويّ, فلذلك قيل للقويّ: ذو يَدٍ; وأما البصر, فإنه عنى به
بصر القلب, وبه تنال معرفة الأشياء, فلذلك قيل للرجل العالم بالشيء: يصير به. وقد
يُمكن أن يكون عَنى بقوله (
أُولِي الأَيْدِي ) : أولي
الأيدي عند الله بالأعمال الصالحة, فجعل الله أعمالهم الصالحة التي عملوها في
الدنيا أيديا لهم عند الله تمثيلا لها باليد, تكون عند الرجل الآخر.
وقد ذُكر
عن عبد الله أنه كان يقرؤه: « أولى
الأيدِ » بغير
ياء, وقد يُحتمل أن يكون ذلك من التأييد, وأن يكون بمعنى الأيدي, ولكنه أسقط منه
الياء, كما قيل: يَوْمَ يُنَادِي الْمُنَادِ ، وقوله عَزّ وجلّ: ( إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ
بِخَالِصَةٍ ) يقول
تعالى ذكره: إنا خصصناهم بخاصة: ذكر الدار.
واختلف
القرّاء في قراءة قوله (
بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ) فقرأته
عامة قرّاء المدينة: « بخالصة
ذكرى الدار » بإضافة
خالصة إلى ذكرى الدار, بمعنى: أنهم أخلصوا بخالصة الذكرى, والذكرى إذا قُرئ كذلك
غير الخالصة, كما المتكبر إذا قُرئ: عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ بإضافة القلب
إلى المتكبر, هو الذي له القلب وليس بالقلب. وقرأ ذلك عامة قرّاء العراق: ( بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى
الدَّارِ ) بتنوين
قوله (
خَالِصَةً ) وردّ
ذكرى عليها, على أن الدار هي الخالصة, فردّوا الذكر وهي معرفة على خالصة, وهي
نكرة, كما قيل: لشرّ مآب: جهنم, فرد جهنم وهي معرفة على المآب وهي نكرة.
والصواب
من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان مستفيضتان في قَرَأَة الأمصار, فبأيتهما قرأ
القارئ فمصيب.
وقد
اختلف أهل التأويل, في تأويل ذلك, فقال بعضهم: معناه: إنا أخلصناهم بخالصة هي ذكرى
الدار: أي أنهم كانوا يذَكِّرون الناس الدار الآخرة, ويدعونهم إلى طاعة الله,
والعمل للدار الآخرة.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ) قال: بهذه أخلصهم الله, كانوا
يدعون إلى الآخرة وإلى الله.
وقال
آخرون: معنى ذلك أنه أخلصهم بعملهم للآخرة وذكرهم لها.
ذكر
من قال ذلك:
حدثني
عليّ بن الحسن الأزدي, قال: ثنا يحيى بن يمان, عن ابن جُرَيج, عن مجاهد, في قوله ( إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ
بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ) قال:
بذكر الآخرة فليس لهم همّ غيرها.
حدثنا
محمد بن الحسين, قال: ثنا أحمد بن المفضل, قال: ثنا أسباط, عن السديّ ( إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ
بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ) قال:
بذكرهم الدار الآخرة, وعملهم للآخرة.
وقال
آخرون: معنى ذلك: إنا أخلصناهم بأفضلِ ما في الآخرة; وهذا التأويل على قراءة من
قرأه بالإضافة. وأما القولان الأوّلان فعلى تأويل قراءة من قرأه بالتنوين.
ذكر
من قال ذلك:
حدثني
يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: « إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى
الدار » قال:
بأفضل ما في الآخرة أخلصناهم به, وأعطيناهم إياه; قال: والدار: الجنة, وقرأ:
تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي
الأَرْضِ قال: الجنة, وقرأ: وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ قال: هذا كله الجنة,
وقال: أخلصناهم بخير الآخرة.
وقال
آخرون: بل معنى ذلك: خالصة عُقْبَى الدار.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
ابن وكيع, قال: ثنا أبي, عن شريك, عن سالم الأفطس, عن سعيد بن جُبَير ( بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى
الدَّارِ ) قال:
عُقبى الدار.
وقال
آخرون: بل معنى ذلك: بخالصة أهل الدار.
ذكر
من قال ذلك:
حُدثت عن
ابن أبي زائدة, عن ابن جُرَيج, قال: ثني ابن أبي نجيح, أنه سمع مجاهدا يقول: ( بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى
الدَّارِ ) هم أهل
الدار; وذو الدار, كقولك: ذو الكلاع, وذو يَزَن.
وكان بعض
أهل العلم بكلام العرب من البصريين يتأوّل ذلك على القراءة بالتنوين ( بِخَالِصَةٍ ) عمل في ذكر الآخرة.
وأولى
الأقوال بالصواب في ذلك على قراءة من قرأه بالتنوين أن يقال: معناه: إنا
أخلصناهُمْ بخالصة هي ذكرى الدار الآخرة, فعملوا لها في الدنيا, فأطاعوا الله
وراقبوه; وقد يدخل في وصفهم بذلك أن يكون من صفتهم أيضا الدعاء إلى الله وإلى
الدار الآخرة, لأن ذلك من طاعة الله, والعمل للدار الآخرة, غير أن معنى الكلمة ما
ذكرت. وأما على قراءة من قرأه بالإضافة, فأن يقال: معناه: إنا أخلصناهم بخالصة ما
ذكر في الدار الآخرة; فلمَّا لم تُذْكر « في » أضيفت
الذكرى إلى الدار كما قد بيَّنا قبل في معنى قوله لا يَسْأَمُ الإِنْسَانُ مِنْ
دُعَاءِ الْخَيْرِ وقوله بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ
وقوله ( وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا
لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ ) يقول: وإن هؤلاء الذين ذكرنا عندنا لمن الذين اصطفيناهم
لذكرى الآخرة الأخيار, الذين اخترناهم لطاعتنا ورسالتنا إلى خلقنا.
القول
في تأويل قوله تعالى : وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ
وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الأَخْيَارِ ( 48 ) هَذَا ذِكْرٌ
وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ ( 49 )
يقول
تعالى ذكره لنبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: واذكر يا محمد إسماعيل واليسع
وذا الكفل, وما أبلوا في طاعة الله, فتأسَّ بهم, واسلك منهاجَهم في الصبر على ما
نالك في الله, والنفاذ لبلاغ رسالته. وقد بينا قبل من أخبار إسماعيل واليسع وذا
الكفل فيما مضى من كتابنا هذا ما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. والكِفْل في كلام
العرب: الحظّ والجَدّ.
وقوله ( هَذَا ذِكْرُ ) يقول تعالى ذكره: هذا القرآن
الذي أنـزلناه إليك يا محمد ذكر لك ولقومك, ذكرناك وإياهم به.
وبنحو
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثني
محمد بن الحسين, قال: ثنا أحمد بن المفضل, قال: ثنا أسباط, عن السديّ ( هَذَا ذِكْرُ ) قال: القرآن.
وقوله: ( وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ
لَحُسْنَ مَآبٍ ) يقول:
وإن للمتقين الذين اتقوا الله فخافوه بأداء فرائضه, واجتناب معاصيه, لحسنَ مَرْجع
يرجعون إليه في الآخرة, ومَصِير يصيرون إليه. ثم أخبر تعالى ذكره عن ذلك الذي وعده
من حُسن المآب ما هو, فقال: جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الأَبْوَابُ .
حدثنا
محمد بن الحسين, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, قوله ( وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ
لَحُسْنَ مَآبٍ ) قال:
لحسن منقلب.
القول
في تأويل قوله تعالى : جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً
لَهُمُ الأَبْوَابُ ( 50 ) مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ
كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ ( 51 )
قوله
تعالى ذكره: (
جَنَّاتِ عَدْنٍ ) : بيان
عن حسن المآب, وترجمة عنه, ومعناه: بساتينُ إقامة. وقد بيَّنا معنى ذلك بشواهده,
وذكرنا ما فيه من الاختلاف فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
وقد
حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, فال: ثنا سعيد, عن قتادة, قوله ( جَنَّاتِ عَدْنٍ ) قال: سأل عمر كعبا ما عَدَن؟
قال: يا أمير المؤمنين, قصور في الجنة من ذهب يسكنها النبيون والصدّيقون والشهداء
وأئمةُ العدل.
وقوله ( مُفَتَّحَةً لَهُمُ
الأبْوَابُ ) يعني:
مفتحة لهم أبوابها; وأدخلت الألف واللام في الأبواب بدلا من الإضافة, كما قيل:
فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى بمعنى: هي مَأْواه, وكما قال الشاعر:
مــا
وَلَــدتْكُمْ حَيَّــةُ ابْنَـة مـالِكٍ سِـفاحا وَمـا كَـانَتْ أحـاديثَ كاذِبِ
وَلَكِــنْ
نَـرَى أقْدَامَنَـا فِـي نِعَـالِكُمْ وآنفُنَــا بيــنَ اللِّحَـى والحَوَاجِـبِ
بمعنى:
بين لحاكم وحواجبكم; ولو كانت الأبواب جاءت بالنصب لم يكن لحنا, وكان نصبه على
توجيه المفتحة في اللفظ إلى جنات, وإن كان في المعنى للأبواب, وكان كقول الشاعر:
وَمــا
قَــوْمي بثَعْلَبَـةَ بْـنِ سَـعْدٍ وَلا بِفَـــزَارَةَ الشِّـــعْرَ الرَقابــا
ثم
نوِّنت مفتحة, ونصبت الأبواب.
فإن قال
لنا قائل: وما في قوله (
مُفَتَّحَةً لَهُمُ الأبْوَابُ ) من
فائدة خبر حتى ذكر ذلك؟ قيل: فإن الفائدة في ذلك إخبار الله تعالى عنها أن أبوابها
تفتح لهم بغير فتح سكانها إياها, بمعاناة بيد ولا جارحة, ولكن بالأمر فيما ذُكر.
كما
حدثنا أحمد بن الوليد الرملي, قال: ثنا ابن نفيل, قال: ثنا ابن دعيج, عن الحسن, في
قوله (
مُفَتَّحَةً لَهُمُ الأبْوَابُ ) قال:
أبواب تكلم, فتكلم: انفتحي, انغلقي.
وقوله ( مُتَّكِئِينَ فِيهَا
يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ ) يقول: متكئين في جنات عدن,
على سُرر يدعون فيها بفاكهة, يعني بثمار من ثمار الجنة كثيرة, وشراب من شرابها.
القول
في تأويل قوله تعالى : وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ
أَتْرَابٌ ( 52 ) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ ( 53 ) إِنَّ هَذَا
لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ ( 54 )
( وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ
الطَّرْفِ أَتْرَابٌ )
يقول
تعالى ذكره: عند هؤلاء المتقين الذين أكرمهم الله بما وصف في هذه الآية من إسكانهم
جنات عدن (
قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ ) يعني:
نساء قصرت أطرافهنّ على أزواجهنّ, فلا يردن غيرهم, ولا يمددن أعينهن إلى سواهم.
كما
حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ
الطَّرْفِ ) قال:
قصرن طرفهن على أزواجهن , فلا يردن غيرهم.
حدثنا
محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ ( قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ ) قال: قصرن أبصارهنّ وقلوبهنّ وأسماعهنّ على أزواجهنّ, فلا
يردن غيرهم.
وقوله ( أَتْرَابٌ ) يعني: أسنان واحدة.
وبنحو الذي
قلنا في ذلك قال أهل التأويل على اختلاف بين أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثني
محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن
قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد ( قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ
أَتْرَابٌ ) قال:
أمثال.
حدثنا
بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( أَتْرَابٌ ) سن واحدة.
حدثنا
محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ ( أَتْرَابٌ ) قال: مستويات. قال: وقال بعضهم: متواخيات لا يتباغضن, ولا
يتعادين, ولا يتغايرن, ولا يتحاسدن.
وقوله ( هَذَا مَا تُوعَدُونَ
لِيَوْمِ الْحِسَابِ ) يقول
تعالى ذكره: هذا الذي يعدكم الله في الدنيا أيها المؤمنون به من الكرامة لمن أدخله
الله الجنة منكم في الآخرة.
كما
حدثنا محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ ( هَذَا مَا تُوعَدُونَ
لِيَوْمِ الْحِسَابِ ) قال:
هو في الدنيا ليوم القيامة.
وقوله ( إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا
لَهُ مِنْ نَفَادٍ ) يقول
تعالى ذكره: إن هذا الذي أعطينا هؤلاء المتقين في جنَّات عدن من الفاكهة الكثيرة
والشراب, والقاصرات الطرف, ومكنَّاهم فيها من الوصول إلى اللّذات وما اشْتهته فيها
أنفسهم لرزقنا, رزقناهم فيها كرامة منا لهم ( مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ ) يقول: ليس له عنهم انقطاع ولا له فناء, وذلك أنهم كلما
أخذوا ثمرة من ثمار شجرة من أشجارها, فأكلوها, عادت مكانها أخرى مثلها, فذلك لهم
دائم أبدا, لا ينقطع انقطاع ما كان أهل الدنيا أوتوه فى الدنيا, فانقطع بالفناء,
ونَفِد بالإنفاد.
وبنحو
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
محمد بن الحسين, قال: ثنا أحمد بن المفضل, قال: ثنا أسباط, عن السديّ ( إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا
لَهُ مِنْ نَفَادٍ ) قال:
رزق الجنة, كلما أخذ منه شيء عاد مثله مكانه, ورزق الدنيا له نفاد.
حدثنا
بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ ) : أي ما له انقطاع.
القول
في تأويل قوله تعالى : هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ
لَشَرَّ مَآبٍ ( 55 ) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ ( 56 ) هَذَا
فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ ( 57 ) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ ( 58 )
هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ
( 59 ) قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا
فَبِئْسَ الْقَرَارُ ( 60 )
يعني
تعالى ذكره بقوله ( هَذَا
) : الذي
وصفت لهؤلاء المتقين: ثم استأنف جلّ وعزّ الخبر عن الكافرين به الذين طَغَوا عليه
وبَغَوا, فقال: (
وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ ) وهم
الذين تمرّدوا على ربهم, فعصوا أمره مع إحسانه إليهم ( لَشَرَّ مَآبٍ ) يقول: لشرّ مرجع ومصير يصيرون
إليه في الآخرة بعد خروجهم من الدنيا.
كما
حدثنا محمد بن الحسين, قال: ثنا أحمد بن المفضل, قال: ثنا أسباط, عن السديّ ( وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ
لَشَرَّ مَآبٍ ) قال:
لشرَّ مُنْقَلَب. ثم بين تعالى ذكره: ما ذلك الذي إليه ينقلبون ويصيرون في الآخرة,
فقال: (
جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا ) فترجم
عن جهنم بقوله (
لَشَرَّ مَآبٍ ) ومعنى
الكلام: إن للكافرين لشرَّ مَصِير يصيرون إليه يوم القيامة, لأن مصيرهم إلى جهنم,
وإليها منقلبهم بعد وفاتهم (
فَبِئْسَ الْمِهَادُ ) يقول
تعالى ذكره: فبئس الفراش الذي افترشوه لأنفسهم جهنم.
وقوله ( هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ
حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ ) يقول
تعالى ذكره: هذا حميم, وهو الذي قد أغلي حتى انتهى حرّه, وغساق فَلْيذوقوه;
فالحميم مرفوع بهذا, وقوله (
فَلْيَذُوقُوهُ ) معناه
التأخير, لأن معنى الكلام ما ذكرت, وهو: هذا حميم وغساق فليذوقوه. وقد يتجه إلى أن
يكون هذا مكتفيا بقوله فليذوقوه ثم يُبْتَدأ فيقال: حميم وغَسَّاق, بمعنى: منه
حميم ومنه غَسَّاق.
كما قال
الشاعر:
حـتى إذا
أضَـاءَ الصُّبْـحُ فـي غَلَسٍ وَغُــودِرَ البَقْـلُ مَلْـوِيٌّ وَمَحْـصُودٌ
وإذا
وُجِّه إلى هذا المعنى جاز في هذا النصب والرفع. النصب: على أن يُضْمر قبلها لها
ناصب, كما قال الشاعر:
زِيادَتَنـــا
نُعْمــانُ لا تَحْرِمَنَّنــا تَـقِ اللـه فِينـا والكِتـابَ الَّـذي تَتْلُو
والرفع
بالهاء في قوله (
فَلْيَذُوقُوهُ ) كما
يقال: الليلَ فبادروه, والليلُ فبادروه.
حدثنا محمد
بن الحسين, قال: ثنا أحمد بن المفضل , قال: ثنا أسباط, عن السديّ ( هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ
حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ ) قال:
الحميم: الذي قد انتهى حَرُّه.
حدثني
يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: الحميم دموع أعينهم, تجمع في حياض
النار فيسقونه.
وقوله ( وَغَسَّاقٌ ) اختلفت القرّاء في قراءته,
فقرأته عامة قرّاء الحجاز والبصرة وبعض الكوفيين والشام بالتخفيف: « وَغَسَاق » وقالوا: هو اسم موضوع. وقرأ
ذلك عامة قرّاء الكوفة: (
وَغَسَّاقٌ ) مشددة,
ووجهوه إلى أنه صفة من قولهم: غَسَقَ يَغْسِقُ غُسُوقا: إذا سال, وقالوا: إنما
معناه: أنهم يُسْقَون الحميم, وما يسيل من صديدهم.
والصواب
من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القرّاء,
فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب, وإن كان التشديد في السِّين أتم عندنا في ذلك, لأن
المعروف ذلك في الكلام, وإن كان الآخر غير مدفوعة صحته.
واختلف
أهل التأويل في معنى ذلك, فقال بعضهم: هو ما يسيل من جلودهم من الصديد والدم.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ ) قال: كنا نحدث أن الغسَّاق:
ما يَسِيل من بين جلده ولحمه.
حدثنا
محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, قال: الغساق: الذي يسيل من
أعينهم من دموعهم, يسقونه مع الحميم.
حدثنا
ابن حميد, قال: ثنا جرير, عن منصور, عن إبراهيم, قال: الغسَّاق: ما يسيل من
سُرْمهم, وما يسقط من جلودهم.
حدثني
يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد ( الغساق ) :
الصديد الذي يجمع من جلودهم مما تصهرهم النار في حياض يجتمع فيها فيسقونه.
حدثني
يحيى بن عثمان بن صالح السهميّ, قال: ثني أبي, قال: ثنا ابن لَهِيعة, قال: ثني أبو
قبيل أنه سمع أبا هبيرة الزيادي يقول: سمعت عبد الله بن عمرو يقول: أيّ شيء
الغسَّاق؟ قالوا: الله أعلم, فقال عبد الله بن عمرو: هو القَيْح الغليظ, لو أن
قطرة منه تُهَرَاق في المغرب لأنتنت أهل المشرق, ولو تُهَرَاق في المشرق لأنتنت
أهل المغرب.
قال يحيى
بن عثمان, قال أبي: ثنا ابن لهيعة مرة أخرى, فقال: ثنا أبو قبيل, عن عبد الله بن
هبيرة, ولم يذكر لنا أبا هبيرة.
حدثنا
ابن عوف, قال: ثنا أبو المغيرة, قال: ثنا صفوان, قال: ثنا أبو يحيى عطية الكلاعيّ,
أن كعبا كان يقول: هل تدرون ما غسَّاق؟ قالوا: لا والله, قال: عين في جهنم يسيل
إليها حُمَّةٌ كل ذات حُمَة من حية أو عقرب أو غيرها, فيستنقع فيؤتى بالآدمي,
فيُغْمَس فيها غمسة واحدة, فيخرج وقد سقط جلده ولحمه عن العظام. حتى يتعلق جلده في
كعبيه وعقبيه, وينجر لحمه كجر الرجل ثوبه.
وقال
آخرون: هو البارد الذي لا يستطاع من برده.
ذكر
من قال ذلك:
حُدثت عن
يحيى بن أبي زائدة, عن ابن جُرَيج, عن مجاهد ( وَغَسَّاقٌ ) قال: بارد لا يُسْتطاع, أو قال: برد لا يُسْتطاع.
حدثني
عليّ بن عبد الأعلى, قال: ثنا المحاربيّ, عن جُوَيبر, عن الضحاك ( هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ
حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ ) قال:
يقال: الغسَّاق: أبرد البرد, ويقول آخرون: لا بل هو أنْتَن النَّتْن.
وقال
آخرون: بل هو المُنْتِن.
ذكر
من قال ذلك:
حُدثت عن
المسيب, عن إبراهيم النكري, عن صالح بن حيان, عن أبيه, عن عبد الله بن بُرَيدة,
قال: الغسَّاق: المنتن, وهو بالطُّخارية .
حدثني يونس,
قال: أخبرنا ابن وهب, قال: ثني عمرو بن الحارث, عن درّاج, عن أبي الهيثم, عن أبي
سعيد الخدريّ, أن النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال: « لَوْ أنَّ دَلْوًا مِنْ
غَسَّاقٍ يُهَراقُ فِي الدُّنْيا لأنْتَنَ أهْلَ الدُّنْيا » .
وأولى
الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال: هو ما يسيل من صديدهم, لأن ذلك هو الأغلب
من معنى الغُسُوق, وإن كان للآخر وجه صحيح.
وقوله ( وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ
أَزْوَاجٌ ) اختلفت
القرّاء في قراءة ذلك, فقرأته عامة قرّاء المدينة والكوفة ( وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ
أَزْوَاجٌ ) على
التوحيد, بمعنى: هذا حميم وغساق فليذوقوه, وعذاب آخر من نحو الحميم ألوان وأنواع,
كما يقال: لك عذاب من فلان: ضروب وأنواع; وقد يحتمل أن يكون مرادًا بالأزواج الخبر
عن الحميم والغساق, وآخر من شكله, وذلك ثلاثة, فقيل أزواج, يراد أن ينعت بالأزواج
تلك الأشياء الثلاثة. وقرأ ذلك بعض المكيين وبعض البصريين: « وأخَرُ » على الجماع, وكأن من قرأ ذلك
كذلك كان عنده لا يصلح أن يكون الأزواج وهي جمع نَعْتا لواحد, فلذلك جمع أخر,
لتكون الأزواج نعتا لها; والعرب لا تمنع أن ينعَت الاسم إذا كان فعلا بالكثير
والقليل والاثنين كما بيَّنا, فتقول: عذاب فلان أنواع, ونوعان مختلفان.
وأعجب
القراءتين إليَّ أن أقرأ بها: (
وآخَرُ ) على
التوحيد, وإن كانت الأخرى صحيحة لاستفاضة القراءة بها في قرّاء الأمصار; وإنما
اخترنا التوحيد لأنه أصحّ مخرجا في العربية, وأنه في التفسير بمعنى التوحيد. وقيل
إنه الزَّمهرير.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
محمد بن بشار, قال: ثنا عبد الرحمن, قال: ثنا سفيان, عن السديّ, عن مُرّة, عن عبد
الله (
وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ ) قال
الزمهرير.
حدثنا
ابن بشار, قال: ثنا يحيى, قال: ثنا سفيان, عن السديّ, عن مرة, عن عبد الله, بمثله.
حدثنا أبو
كُرَيب, قال: ثنا معاوية, عن سفيان, عن السديّ, عمن أخبره عن عبد الله بمثله, إلا
أنه قال: عذاب الزمهرير.
حدثنا
محمد قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, عن مرّة الهمداني, عن عبد الله بن
مسعود, قال: هو الزمهرير.
حُدثت عن
يحيى بن أبي زائدة, عن مبارك بن فضالة, عن الحسن, قال: ذكر الله العذاب, فذكر
السلاسل والأغلال, وما يكون في الدنيا, ثم قال: ( وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ ) قال: وآخر لم ير في الدنيا.
وأما
قوله ( مِنْ
شَكْلِهِ ) فإن
معناه: من ضربه, ونحوه يقول الرجل للرجل: ما أنت من شكلي, بمعنى: ما أنت من ضربي
بفتح الشين. وأما الشِّكْل فإنه من المرأة ما عَلَّقَتْ مما تتحسن به, وهو
الدَّلُّ أيضا منها.
وبنحو
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثني
عليّ, قال: ثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله ( وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ
أَزْوَاجٌ ) يقول:
من نحوه.
حدثنا
بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ ) من نحوه.
حدثني
يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله ( وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ
أَزْوَاجٌ ) قال:
من كُلّ شَكْلٍ ذلك العذاب الذي سمى الله, أزواج لم يسمها الله, قال: والشَّكل:
الشبيه.
وقوله ( أَزْوَاجٌ ) يعني: ألوان وأنواع.
وبنحو
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثني
يعقوب, قال: ثنا ابن عُلَية, عن أبي رجاء, عن الحسن, في قوله ( وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ
أَزْوَاجٌ ) قال:
ألوان من العذاب.
حدثنا
بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( أَزْوَاجٌ ) زوج زوج من العذاب.
حدثني
يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله ( أَزْوَاجٌ ) قال: أزواج من العذاب في
النار.
وقوله ( هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ
مَعَكُمْ ) يعني
تعالى ذكره بقوله ( هَذَا
فَوْجٌ ) هذا
فرقة وجماعة مقتحمة معكم أيها الطاغون النار, وذلك دخول أمة من الأمم الكافرة بعد
أمة; ( لا
مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ ) وهذا خبر من الله عن قيلِ الطاغين الذين كانوا قد دخلوا
النار قبل هذا الفوج المقتحِم للفوج المقتَحم فيها عليهم, لا مرحبا بهم, ولكن
الكلام اتصل فصار كأنه قول واحد, كما قيل: يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ
أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ فاتصل قول فرعون بقول ملئه, وهذا كما قال تعالى
ذكره مخبرا عن أهل النار: كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا
ويعني
بقولهم: ( لا
مَرْحَبًا بِهِمْ ) لا
اتسعت بهم مداخلهم, كما قال أبو الأسود:
لا
مرْحَب وَاديكَ غيرُ مُضَيَّقِ
وبنحو
الذي قلنا فى ذلك قال أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قوله ( هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ
مَعَكُمْ ) في
النار ( لا
مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ . قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا
مَرْحَبًا بِكُمْ ) .. حتى
بلغ: (
فَبِئْسَ الْقَرَارُ ) قال:
هؤلاء التباع يقولون للرءوس.
حدثني
يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله ( هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ
مَعَكُمْ لا مَرْحَبًا بِهِمْ ) قال:
الفوج: القوم الذين يدخلون فوجا بعد فوج, وقرأ: كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ
لَعَنَتْ أُخْتَهَا التي كانت قبلها. وقوله ( إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ ) يقول: إنهم واردو النار
وداخلوها. (
قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ ) يقول: قال الفوج الواردون جهنم على الطاغين الذين وصف جل
ثناؤه صفتهم لهم: بل أنتم أيها القوم لا مرحبا بكم: أي لا اتسعت بكم أماكنكم, ( أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ
لَنَا ) يعنون:
أنتم قدمتم لنا سُكنى هذا المكان, وصِليّ النار بإضلالكم إيانا, ودعائكم لنا إلى
الكفر بالله, وتكذيب رسله, حتى ضللنا باتباعكم, فاستوجبنا سكنى جهنم اليوم, فذلك
تقديمهم لهم ما قدموا في الدنيا من عذاب الله لهم في الآخرة
( فَبِئْسَ الْقَرَارُ ) يقول: فبئس المكان
يُسْتَقَرُّ فيه جهنم.
القول
في تأويل قوله تعالى : قَالُوا رَبَّنَا مَنْ
قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ ( 61 )
وهذا
أيضا قول الفوج المقتحم على الطاغين, وهم كانوا أتباع الطاغين في الدنيا, يقول جل
ثناؤه: وقال الأتباع: (
رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا ) يعنون: من قدم لهم في الدنيا بدعائهم إلى العمل الذي يوجب
لهم النار التي ورودها, وسكنى المنـزل الذي سكنوه منها. ويعنون بقولهم ( هَذَا ) : العذاب الذي وردناه ( فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا
فِي النَّارِ )
يقولون: فأضعف له العذاب في النار على العذاب الذي هو فيه فيها, وهذا أيضا من دعاء
الأتباع للمتبوعين.
القول
في تأويل قوله تعالى : وَقَالُوا مَا لَنَا لا نَرَى
رِجَالا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأَشْرَارِ ( 62 ) أََتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا
أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأَبْصَارُ ( 63 ) إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ
النَّارِ ( 64 )
يقول
تعالى ذكره: قال الطاغون الذين وصف جلّ ثناؤه صفتهم في هذه الآيات, وهم فيما ذُكر
أبو جهل والوليد بن المُغيرة وذووهما: ( مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالا ) يقول: ما بالنا لا نرى معنا
في النار رجالا (
كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأشْرَارِ ) يقول: كنا نعدهم في الدنيا من أشرارنا, وعنوا بذلك فيما
ذُكر صُهَيْبا وخَبَّابا وبِلالا وسَلْمان.
وبنحو
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثني
محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن ليث, عن مجاهد, في قوله ( مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالا
كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأشْرَارِ ) قال: ذاك أبو جهل بن هشام والوليد بن المغيرة, وذكر أناسا
صُهيبا وَعَمَّارًا وخبابا, كنَّا نعدّهم من الأشرار في الدنيا.
حدثنا
أبو السائب, قال: ثنا ابن إدريس, قال: سمعت ليثا يذكر عن مجاهد في قوله ( وَقَالُوا مَا لَنَا لا نَرَى
رِجَالا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأشْرَارِ ) قال: قالوا: أين سَلْمان؟ أين خَبَّاب؟ أين بِلال؟.
وقوله ( أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا
) اختلفت
القرّاء في قراءته, فقرأته عامة قرّاء المدينة والشام وبعض قرّاء الكوفة: ( أَتَّخَذْنَاهُمْ ) بفتح الألف من أتخذناهم,
وقطعها على وجه الاستفهام, وقرأته عامة قرّاء الكوفة والبصرة, وبعض قرّاء مكة بوصل
الألف من الأشرار: «
اتخذناهم » . وقد
بيَّنا فيما مضى قبلُ, أن كل استفهام كان بمعنى التعجب والتوبيخ, فإن العرب تستفهم
فيه أحيانا, وتُخرجه على وجه الخبر أحيانا.
وأولى
القراءتين في ذلك بالصواب قراءة من قرأه بالوصل على غير وجه الاستفهام, لتقدّم
الاستفهام قبل ذلك في قوله ( مَا
لَنَا لا نَرَى رِجَالا كُنَّا ) فيصير
قوله: «
اتخذناهم » بالخبر
أولى وإن كان للاستفهام وجه مفهوم لما وصفتُ قبل من أنه بمعنى التعجب.
وإذ كان
الصواب من القراءة في ذلك ما اخترنا لما وصفنا, فمعنى الكلام: وقال الطاغون: ما
لنا لا نرى سَلْمان وبِلالا وخَبَّابا الذين كنَّا نعدّهم في الدنيا أشرارا,
أتخذناهم فيها سُخريا نهزأ بهم فيها معنا اليوم في النار؟.
وكان بعض
أهل العلم بالعربية من أهل البصرة يقول: من كسر السين من السُّخْريّ, فإنه يريد به
الهُزْء, يريد يسخر به, ومن ضمها فإنه يجعله من السُّخْرَة, يستسخِرونهم:
يستذِلُّونهم, أزاغت عنهم أبصارنا وهم معنا.
وبنحو
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
ابن حميد, قال: ثنا جرير, عن ليث, عن مجاهد ( أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ
الأبْصَارُ ) يقول:
أهم في النار لا نعرف مكانهم؟.
حُدثت عن
المحاربيّ, عن جويبر, عن الضحاك (
وَقَالُوا مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأشْرَارِ ) قال: هم قوم كانوا يسخَرون من
محمد وأصحابه, فانطلق به وبأصحابه إلى الجنة وذهب بهم إلى النار ف ( َقَالُوا مَا لَنَا لا نَرَى
رِجَالا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأشْرَار أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ
زَاغَتْ عَنْهُمُ الأبْصَارُ )
يقولون: أزاغت أبصارنا عنهم فلا ندري أين هم؟.
حدثني
محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن,
قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله ( أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا
) قال:
أخطأناهم ( أَمْ
زَاغَتْ عَنْهُمُ الأبْصَارُ ) ولا
نراهم؟.
حدثنا
بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قوله ( وَقَالُوا مَا لَنَا لا
نَرَى رِجَالا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأشْرَارِ ) قال: فقدوا أهل الجنة ( أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا
) في
الدنيا ( أَمْ
زَاغَتْ عَنْهُمُ الأبْصَارُ ) وهم
معنا في النار.
وقوله ( إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ ) يقول تعالى ذكره: إن هذا الذي
أخبرتكم أيها الناس من الخبر عن تراجع أهل النار, ولعْن بعضهم بعضا, ودعاء بعضهم
على بعض في النار لحق يقين, فلا تشكُّوا في ذلك, ولكن استيقنوه تخاصم أهل النار.
وقوله ( تَخَاصُمُ ) رد على قوله ( لَحَقٌّ ) ومعنى الكلام: إن تخاصم أهل
النار الذي أخبرتكم به لحقّ.
وكان بعض
أهل العربية من أهل البصرة يوجه معنى قوله ( أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأبْصَارُ ) إلى: بل زاغت عنهم.
حدثني
يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله ( إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ
تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ ) فقرأ: تَاللَّهِ
إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ
وقرأ: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا .. حتى بلغ: إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ
لَغَافِلِينَ قال: إن كنتم تعبدوننا كما تقولون إن كنا عن عبادتكم لغافلين, ما كنا
نسمع ولا نبصر, قال: وهذه الأصنام, قال: هذه خصومة أهل النار, وقرأ: وَضَلَّ
عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ قال: وضل عنهم يوم القيامة ما كانوا يفترون في
الدنيا.
القول
في تأويل قوله تعالى : قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ
وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ( 65 ) رَبُّ
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ( 66 )
يقول
تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: ( قُلْ ) يا محمد لمشركي قومك. ( إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ ) لكم يا معشر قريش بين يدي
عذاب شديد, أنذركم عذاب الله وسخطه أن يحلّ بكم على كفركم به, فاحذروه وبادروا
حلوله بكم بالتوبة ( وَمَا
مِنْ إِلَهٍ إِلا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) يقول: وما من معبود تصلح له العبادة, وتنبغي له الربوبية,
إلا الله الذي يدين له كل شيء, ويعبدُه كلّ خلق, الواحد الذي لا ينبغي أن يكون له
في ملكه شريك, ولا ينبغي أن تكون له صاحبة, القهار لكلّ ما دونه بقدرته, ربّ
السموات والأرض, يقول: مالك السموات والأرض وما بينهما من الخلق; يقول: فهذا الذي
هذه صفته, هو الإله الذي لا إله سواه, لا الذي لا يملك شيئا, ولا يضرّ, ولا ينفع.
وقوله (
الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ) يقول:
العزيز في نقمته من أهل الكفر به, المدّعين معه إلها غيره, الغفَّار لذنوب من تاب
منهم ومن غيرهم من كفره ومعاصيه, فأناب إلى الإيمان به, والطاعة له بالانتهاء إلى
أمره ونهيه.
القول
في تأويل قوله تعالى : قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (
67 ) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ ( 68 ) مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلإِ
الأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ ( 69 ) إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلا أَنَّمَا أَنَا
نَذِيرٌ مُبِينٌ ( 70 )
يقول
تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: ( قُلْ ) يا محمد لقومك المكذبيك فيما
جئتهم به من عند الله من هذا القرآن, القائلين لك فيه: إن هذا إلا اختلاق ( هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ ) يقول: هذا القرآن خبر عظيم.
وبنحو
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثني
عبد الأعلى بن واصل الأسدي, قال: ثنا أبو أسامة, عن شبل بن عباد, عن ابن أبي نجيح,
عن مجاهد, في قوله ( قُلْ
هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ ) قال: القرآن.
حدثني
يعقوب بن إبراهيم, قال: ثنا هشيم, قال: أخبرنا هشام, عن ابن سيرين, عن شريح, أن رجلا
قال له: أتقضي عليّ بالنبأ؟ قال: فقال له شريح: أو ليس القرآن نبأ؟ قال: وتلا هذه
الآية: ( قُلْ
هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ ) قال:
وقضَى عليه.
حدثنا
محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, قوله ( قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ
أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ ) قال:
القرآن.
وقوله ( أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ
) يقول:
أنتم عنه منصرفون لا تعملون به, ولا تصدّقون بما فيه من حجج الله وآياته.
وقوله ( مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ
بِالْمَلإ الأعْلَى ) يقول
لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: قل يا محمد لمشركي قومك: ( مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ
بِالْمَلإ الأعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ ) في شأن آدم من قبل أن يوحي إلي ربّي فيعلمني ذلك, يقول: ففي
إخباري لكم عن ذلك دليل واضح على أن هذا القرآن وحي من الله وتنـزيل من عنده,
لأنكم تعلمون أن علم ذلك لم يكن عندي قبل نـزول هذا القرآن, ولا هو مما شاهدته
فعاينته, ولكني علمت ذلك بإخبار الله إياي به.
وبنحو
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثني
محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس,
قوله ( مَا
كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلإ الأعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ ) قال: الملأ الأعلى: الملائكة
حين شوروا في خلق آدم, فاختصموا فيه, وقالوا: لا تجعل في الأرض خليفة.
حدثنا
محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ ( بِالْمَلإ الأعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ ) هو: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ
لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً .
حدثنا
بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قوله ( مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ
بِالْمَلإ الأعْلَى ) قال:
هم الملائكة, كانت خصومتهم في شأن آدم حين قال ربك للملائكة: إِنِّي خَالِقٌ
بَشَرًا مِنْ طِينٍ ... حتى بلغ سَاجِدِينَ وحين قال: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ
خَلِيفَةً ... حتى بلغ وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ففي هذا اختصم الملأ الأعلى.
وقوله ( إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلا
أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ) يقول
تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: قل يا محمد لمشركي قريش: ما
يوحي الله إليّ علم ما لا علم لي به, من نحو العلم بالملأ الأعلى واختصامهم في أمر
آدم إذا أراد خلقه, إلا لأني إنما أنا نذير مبين; « فإنما » على هذا
التأويل في موضع خفض على قول من كان يرى أن مثل هذا الحرف الذي ذكرنا لا بد له من
حرف خافض, فسواء إسقاط خافضه منه وإثباته. وإما على قول من رأى أن مثل هذا ينصب
إذا أسقط منه الخافض, فإنه على مذهبه نصب, وقد بيَّنا ذلك فيما مضى بما أغنى عن
إعادته في هذا الموضع.
وقد يتجه
لهذا الكلام وجه آخر, وهو أن يكون معناه: ما يوحي الله إلى إنذاركم. وإذا وجه
الكلام إلى هذا المعنى, كانت « أنما » في موضع رفع, لأن الكلام يصير
حينئذ بمعنى: ما يوحى إلي إلا الإنذار.
قوله ( إِلا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ
مُبِينٌ ) يقول:
إلا أني نذير لكم مبين لكم إلا إنذاركم. وقيل: إلا أنما أنا, ولم يقل: إلا أنما
أنك, والخبر من محمد عن الله, لأن الوحْي قول, فصار في معنى الحكاية, كما يقال في
الكلام: أخبروني أني مسيء, وأخبروني أنك مسيء بمعنى واحد, كما قال الشاعر:
رَجُــلانِ
مِــنْ ضَبَّــةَ أخْبَرَانـا أنَّـــا رأيْنــا رَجُــلا عُرْيانــا
بمعنى:
أخبرانا أنهما رأيا, وجاز ذلك لأن الخبر أصله حكاية.
القول
في تأويل قوله تعالى : إِذْ قَالَ رَبُّكَ
لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ ( 71 ) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ
وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ( 72 ) فَسَجَدَ
الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ( 73 ) إِلا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ
مِنَ الْكَافِرِينَ ( 74 )
وقوله ( إِذْ قَالَ رَبُّكَ ) من صلة قوله إِذْ
يَخْتَصِمُونَ وتأويل الكلام: ما كان لي من علم بالملأ الأعلى إذ يختصمون حين قال
ربك يا محمد (
لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ ) يعني بذلك خلق آدم.
وقوله ( فَإِذَا سَوَّيْتُهُ
وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ) يقول
تعالى ذكره: فإذا سويت خلقه, وعدلت صورته, ونفخت فيه من روحي, قيل: عني بذلك:
ونفخت فيه من قُدرتي.
ذكر
من قال ذلك:
حُدثت عن
المسيب بن شريك, عن أبي روق, عن الضحاك ( وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ) قال: من قدرتي.
( فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ) يقول: فاسجدوا له وخِرّوا له
سُجَّدا.
وقوله ( فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ
كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ) يقول
تعالى ذكره: فلما سوّى الله خلق ذلك البشر, وهو آدم, ونفخ فيه من روحه, سجد له
الملائكة كلهم أجمعون, يعني بذلك: الملائكة الذين هم في السموات والأرض.
( إِلا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ ) يقول: غير إبليس, فإنه لم
يسجد, استكبر عن السجود له تعظُّمًا وتكبرا
( وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ) يقول: وكان بتعظُّمه ذلك, وتكبره
على ربه ومعصيته أمره, ممن كفر في علم الله السابق, فجحد ربوبيته, وأنكر ما عليه
الإقرار له به من الإذعان بالطاعة.
كما
حدثنا أبو كُرَيب, قال: قال أبو بكر في: ( إِلا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ) قال: قال ابن عباس: كان في
علم الله من الكافرين.
القول
في تأويل قوله تعالى : قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا
مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ
الْعَالِينَ ( 75 ) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ
وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ( 76 )
يقول
تعالى ذكره: ( قَالَ
) الله
لإبليس, إذ لم يسجد لآدم, وخالف أمره: ( يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ ) يقول: أي شيء منعك من السجود
( لِمَا
خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ) يقول:
لخلق يديّ ; يخبر تعالى ذكره بذلك أنه خلق آدم بيديه.
كما حدثنا
ابن المثني, قال: ثنا محمد بن جعفر, قال: ثنا شعبة, قال: أخبرني عبيد المكتب, قال:
سمعت مجاهدا يحدّث عن ابن عمر, قال: خلق الله أربعة بيده: العرش, وعَدْن, والقلم,
وآدم, ثم قال لكلّ شيء كن فكان.
وقوله ( أَسْتَكْبَرْت ) يقول لإبليس: تعظَّمت عن
السجود لآدم, فتركت السجود له استكبارا عليه, ولم تكن من المتكبرين العالين قبل
ذلك ( أَمْ
كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ ) يقول:
أم كنت كذلك من قبل ذا علوّ وتكبُّر على ربك ( قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ ) يقول جل ثناؤه: قال إبليس
لربه: فعلت ذلك فلم أسجد للذي أمرتني بالسجود له لأني خير منه وكنت خيرا لأنك
خلقتني من نار وخلقته من طين, والنار تأكل الطين وتحرقه, فالنار خير منه, يقول: لم
أفعل ذلك استكبارا عليك, ولا لأني كنت من العالين, ولكني فعلته من أجل أني أشرف
منه; وهذا تقريع من الله للمشركين الذين كفروا بمحمد صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم, وأبوا الانقياد له, واتباع ما جاءهم به من عند الله استكبارا عن أن
يكونوا تبعا لرجل منهم حين قالُوا: أَؤُنْـزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا
و هَلْ هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ فقصّ عليهم تعالى قصة إبليس وإهلاكه باستكباره
عن السجود لآدم بدعواه أنه خير منه, من أجل أنه خلق من نار, وخلق آدم من طين, حتى
صار شيطانا رجيما, وحقت عليه من الله لعنته, محذّرهم بذلك أن يستحقوا باستكبارهم
على محمد, وتكذيبهم إياه فيما جاءهم به من عند الله حسدا, وتعظما من اللعن والسخط
ما استحقه إبليس بتكبره عن السجود لآدم.
القول
في تأويل قوله تعالى : قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا
فَإِنَّكَ رَجِيمٌ ( 77 ) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ ( 78
) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ( 79 )
يقول
تعالى ذكره لإبليس: (
فَاخْرُجْ مِنْهَا ) يعني
من الجنة (
فَإِنَّكَ رَجِيمٌ ) يقول:
فإنك مرجوم بالقوم, مشتوم ملعون.
كما
حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قوله ( قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا
فَإِنَّكَ رَجِيمٌ ) قال:
والرجيم: اللعين.
حُدثت عن
المحاربيّ, عن جُوَيبر, عن الضحاك بمثله.
وقوله ( وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي ) يقول: وإن لك طردي من الجنة ( إِلَى يَوْمِ الدِّينِ ) يعني: إلى يوم مجازاة العباد
ومحاسبتهم ( قَالَ
رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) يقول تعالى ذكره: قال إبليس لربه: ربّ فإذ لعنتني, وأخرجتني
من جنتك ( فَأَنْظِرْنِي
) يقول:
فأخرني في الأجل, ولا تهلكني ( إِلَى
يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) يقول:
إلى يوم تبعث خلقك من قبورهم.
القول
في تأويل قوله تعالى : قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ
الْمُنْظَرِينَ ( 80 ) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ( 81 ) قَالَ
فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ( 82 ) إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ
الْمُخْلَصِينَ ( 83 )
يقول
تعالى ذكره: قال الله لإبليس: فإنك ممن أنظرته إلى يوم الوقت المعلوم, وذلك الوقت
الذي جعله الله أجلا لهلاكه. وقد بيَّنت وقت ذلك فيما مضى على اختلاف أهل العلم
فيه، وقال: (
فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ) يقول تعالى ذكره: قال إبليس: فبعزّتك: أي بقدرتك وسلطانك
وقهرك ما دونك من خلقك (
لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ) يقول:
لأضلَّنّ بني آدم أجمعين ( إِلا
عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) يقول: إلا من أخلصته منهم لعبادتك, وعصمتَه من إضلالي, فلم
تجعل لي عليه سبيلا فإني لا أقدر على إضلاله وإغوائه.
حدثنا
بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ) قال: علم عدوّ الله أنه ليست
له عزّة.
القول
في تأويل قوله تعالى : قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ
أَقُولُ ( 84 ) لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ
أَجْمَعِينَ ( 85 ) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ
الْمُتَكَلِّفِينَ ( 86 )
اختلفت
القرّاء في قراءة قوله ( قَالَ
فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ ) فقرأه
بعض أهل الحجاز وعامة الكوفيين برفع الحقّ الأوّل, ونصب الثاني. وفي رفع الحقّ
الأول إذا قرئ كذلك وجهان: أحدهما رفعه بضمير لله الحق, أو أنا الحق وأقول الحق.
والثاني: أن يكون مرفوعا بتأويل قوله ( لأمْلأنَّ ) فيكون معنى الكلام حينئذ: فالحق أن أملأ جهنم منك, كما
يقول: عزمة صادقة لآتينك, فرفع عزمة بتأويل لآتينك, لأن تأويله أن آتيك, كما قال:
ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ فلا بدّ
لقوله بَدَا لَهُمْ من مرفوع, وهو مضمر في المعنى. وقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة
والبصرة وبعض المكيين والكوفيين بنصب الحقّ الأوّل والثاني كليهما, بمعنى: حقا
لأملأن جهنم والحقّ أقول, ثم أدخلت الألف واللام عليه, وهو منصوب, لأن دخولهما إذا
كان كذلك معنى الكلام وخروجهما منه سواء, كما سواء قولهم: حمدا لله, والحمد لله
عندهم إذا نصب. وقد يحتمل أن يكون نصبه على وجه الإغراء بمعنى: الزموا الحقّ,
واتبعوا الحقّ, والأوّل أشبه لأنه خطاب من الله لإبليس بما هو فاعل به وبتُبَّاعه.
وأولى
الأقوال في ذلك عندي بالصواب أن يقال: إنهما قراءتان مستفيضتان في قرأة الأمصار,
فبأيتهما قرأ القاريّ فمصيب, لصحة معنييهما.
وأما
الحقّ الثاني, فلا اختلاف في نصبه بين قرّاء الأمصار كلهم, بمعنى: وأقول الحق.
وبنحو
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
ابن حميد, قال: ثنا جرير, عن الأعمش, عن مجاهد, في قوله ( فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ
أَقُولُ ) يقول الله:
أنا الحقُّ, والحقَّ أقول.
وحُدثت
عن ابن أبي زائدة, عن ابن جُرَيج, عن مجاهد ( فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ ) يقول الله: الحقُّ مني, وأقول
الحقَّ.
حدثنا
أحمد بن يوسف, قال: ثنا القاسم, قال: ثنا حجاج, عن هارون, قال: ثنا أبان بن تغلب,
عن طلحة اليامي, عن مجاهد, أنه قرأها ( فَالحَقُّ ) بالرفع (
وَالْحَقَّ أَقُولُ ) نصبا
وقال: يقول الله: أنا الحق, والحق أقول.
حدثنا
محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, في قوله ( قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ
أَقُولُ ) قال:
قسم أقسم الله به.
وقوله ( لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ ) يقول لإبليس: لأملأن جهنم منك
وممن تبعك من بني آدم أجمعين. وقوله ( قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: قل يا محمد لمشركي قومك, القائلين لك أَؤُنْـزِلَ
عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا : ما أسألكم على هذا الذكر وهو القرآن الذي
أتيتكم به من عند الله أجرًا, يعني ثوابًا وجزاء ( وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ) يقول: وما أنا ممن يتكلف
تخرصه وافتراءه, فتقولون: إِنْ هَذَا إِلا إِفْكٌ افْتَرَاهُ و إِنْ هَذَا إِلا
اخْتِلاقٌ .
كما حدثني
يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله ( قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ
عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ) قال: لا أسألكم على القرآن
أجرا تعطوني شيئا, وما أنا من المتكلفين أتخرّص وأتكلف ما لم يأمرني الله به.
القول
في تأويل قوله تعالى : إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ
لِلْعَالَمِينَ ( 87 ) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ ( 88 )
يقول
تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: قل لهؤلاء المشركين من
قومك: ( إِنْ
هُوَ ) يعني:
ما هذا القرآن ( إِلا
ذِكْرٌ ) يقول:
إلا تذكير من الله (
لِلْعَالَمِينَ ) من
الجنّ والإنس, ذكرهم ربهم إرادة استنقاذ من آمن به منهم من الهَلَكة. وقوله ( وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ
بَعْدَ حِينٍ ) يقول:
ولتعلمن أيها المشركون بالله من قريش نبأه, يعني: نبأ هذا القرآن, وهو خبره, يعني
حقيقة ما فيه من الوعد والوعيد بعد حين.
وبمثل
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثني
يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله ( وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ ) قال: صدق هذا الحديث نبأ ما
كذّبوا به., قيل: (
نَبَأَهُ ) حقيقة أمر
محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أنه نبيّ.
ثم
اختلفوا في مدة الحين الذي ذكره الله في هذا الموضع: ما هي, وما نهايتها؟ فقال
بعضهم: نهايتها الموت.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قوله ( وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ
بَعْدَ حِينٍ ) : أي
بعد الموت; وقال الحسن: يابن آدم عند الموت يأتيك الخبر اليقين.
وقال
بعضهم: كانت نهايتها إلى يوم بدر.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, في قوله ( وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ
بَعْدَ حِينٍ ) قال:
يوم بدر.
وقال
بعضهم: يوم القيامة. وقال بعضهم: نهايتها القيامة.
ذكر
من قال ذلك:
حدثني
يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله ( وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ
بَعْدَ حِينٍ ) قال:
يوم القيامة يعلمون نبأ ما كذبوا به بعد حين من الدنيا وهو يوم القيامة. وقرأ:
لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ قال: وهذا أيضا الآخرة يستقرّ
فيها الحقّ, ويبطل الباطل.
وأولى
الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله أعلم المشركين المكذبين بهذا القرآن أنهم
يعلمون نبأه بعد حين من غير حد منه لذلك الحين بحد, وقد علم نبأه من أحيائهم الذين
عاشوا إلى ظهور حقيقته, ووضوح صحته في الدنيا, ومنهم من علم حقيقة ذلك بهلاكه
ببدر, وقبل ذلك, ولا حد عند العرب للحين, لا يُجاوز ولا يقصر عنه. فإذ كان ذلك
كذلك فلا قول فيه أصح من أن يطلق كما أطلقه الله من غير حصر ذلك على وقت دون وقت.
وبنحو
الذين قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثني
يعقوب ابن إبراهيم, قال: ثنا ابن عُلَية, قال: ثنا أيوب, قال: قال عكرمة: سُئِلْت
عن رجل حلف أن لا يصنع كذا وكذا إلى حين, فقلت: إن من الحين حينا لا يُدرك, ومن
الحين حين يدرك, فالحين الذي لا يُدرك قوله ( وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ ) والحين الذي يدرك قوله
تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وذلك من حين تُصْرَم النخلة إلى
حين تُطْلِع, وذلك ستة أشهر.
آخر
تفسير سورة ص