تفسير سورة غافر
بسم الله الرحمن الرحيم
القول
في تأويل قوله تعالى : حم ( 1 ) تَنْزِيلُ
الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ( 2 ) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ
التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ إِلَيْهِ
الْمَصِيرُ ( 3 )
اختلف
أهل التأويل فى معنى قوله ( حم ) فقال بعضهم: هو حروف مقطعة من
اسم الله الذي هو الرحمن الرحيم, وهو الحاء والميم منه.
ذكر
من قال ذلك:
حدثني
عبد لله بن أحمد بن شبُّويه المَروزي, قال: ثنا عليّ بن الحسن, قال: ثني أبي, عن
يزيد, عن عكرمة, عن ابن عباس: الر, وحم, ون, حروف الرحمن مقطعة.
وقال آخرون:
هو قسم أقسمه الله, وهو اسم من أسماء الله.
ذكر
من قال ذلك:
حدثني
عليّ, قال: ثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قال: ( حم ) : قسم أقسمه الله, وهو اسم من
أسماء الله.
حدثنا
محمد بن الحسين, قال: ثنا أحمد بن المفضل, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, قوله ( حم ) : من حروف أسماء الله.
وقال
آخرون: يل هو اسم من أسماء القرآن.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( حم ) قال:
اسم من أسماء القرآن. وقال آخرون: هو حروف هجاء.
وقال
آخرون: بل هو اسم, واحتجوا لقولهم ذلك بقول شريح بن أوفى العبسي:
يُذَكِّــرُنِي
حَـامِيمَ وَالـرُّمْحُ شَـاجِرٌ فَهَــلا تَــلا حــم قَبْــلَ التَّقَـدُّمِ
ويقول
الكُمَيت:
وَجَدْنَــا
لَكُـمْ فِـي آلِ حـامِيمَ آيَـةً تَأوَّلَهَــا مِنَّــا تَقِــيٌّ وَمُعْــرِبُ
وحُدثت
عن معمر بن المثنى أنه قال: قال يونس, يعني الجرمي: ومن قال هذا القول فهو منكَر
عليه, لأن السورة ( حم ) ساكنة الحروف, فخرجت مخرج
التهجي, وهذه أسماء سور خرجت متحركات, وإذا سميت سورة بشيء من هذه الأحرف المجزومة
دخله الإعراب.
والقول
في ذلك عندي نظير القول في أخواتها, وقد بيَّنا ذلك, في قوله: الم , ففي ذلك كفاية
عن إعادته في هذا الموضع, إذ كان القول في حم, وجميع ما جاء في القرآن على هذا
الوجه, أعني حروف التهجي قولا واحدا.
وقوله: ( تَنـزيلُ الْكِتَابِ مِنَ
اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ) يقول
الله تعالى ذكره: من الله العزيز في انتقامه من أعدائه, العليم يما يعملون من
الأعمال وغيرها تنـزيل هذا الكتاب; فالتنـزيل مرفوع بقوله: ( مِنَ اللَّهِ ) .
وفي
قوله: (
غَافِرِ الذَّنْبِ ) وجهان
; أحدهما: أن يكون بمعنى يغفر ذنوب العباد, وإذا أريد هذا المعنى, كان خفض غافر
وقابل من وجهين, أحدهما من نية تكرير « من » , فيكون
معنى الكلام حينئذ: تنـزيل الكتاب من الله العزيز العليم, من غافر الذنب, وقابل
التوب, لأن غافر الذنب نكرة, وليس بالأفصح أن يكون نعتا للمعرفة, وهو نكرة, والآخر
أن يكون أجرى في إعرابه, وهو نكرة على إعراب الأول كالنعت له, لوقوعه بينه وبين
قوله: ( ذِي
الطَّوْلِ ) وهو
معرفة.. وقد يجوز أن يكون أتبع إعرابه وهو نكرة إعراب الأول, إذ كان مدحا, وكان
المدح يتبع إعرابه ما قبله أحيانا, ويعدل به عن إعراب الأول أحيانا بالنصب والرفع
كما قال الشاعر:
لا
يَبْعَــدَنْ قَــوْمي الَّــذِينَ هــمُ سُـــمُّ العُــدَاةِ وآفَــةُ
الجُــزُرِ
النَّــــازِلينَ
بِكُـــلّ مُعْـــتَركٍ والطَّيِّبِيـــــنَ مَعَــــاقِدَ الأزُر
وكما قال
جلّ ثناؤه وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ
لِمَا يُرِيدُ فرفع فعال وهو نكرة محضة, وأتبع إعراب الغفور الودود; والآخر: أن
يكون معناه: أن ذلك من صفته تعالى, إذ كان لم يزل لذنوب العباد غفورا من قبل نـزول
هذه الآية وفي حال نـزولها, ومن بعد ذلك, فيكون عند ذلك معرفة صحيحة ونعتا على
الصحة. وقال: (
غَافِرِ الذَّنْبِ ) ولم
يقل الذنوب, لأنه أريد به الفعل, وأما قوله: ( وَقَابِلِ التَّوْبِ ) فإن التوب قد يكون جمع توبة, كما يجمع الدَّومة دَوما
والعَومة عَوما من عومة السفينة, كما قال الشاعر:
عَوْمَ
السَّفِينَ فَلَمَّا حالَ دُونَهُمُ
وقد يكون
مصدر تاب يتوب توبا.
وقد
حدثني محمد بن عبيد المحاربي, قال: ثنا أبو بكر بن عياش, عن أبي إسحاق, قال: جاء
رجل إلى عمر, فقال: إني قتلت, فهل لي من توبة؟ قال: نعم, اعمل ولا تيأس, ثم قرأ: ( حم تَنـزيلُ الْكِتَابِ مِنَ
اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ ) .
وقوله: ( شَدِيدُ الْعِقَابِ ) يقول تعالى ذكره: شديد عقابه
لمن عاقبه من أهل العصيان له, فلا تتكلوا على سعة رحمته, ولكن كونوا منه على حذر,
باجتناب معاصيه, وأداء فرائضه, فإنه كما أن لا يؤيس أهل الإجرام والآثام من عفوه,
وقبول توبة من تاب منهم من جرمه, كذلك لا يؤمنهم من عقابه وانتقامه منهم بما
استحلوا من محارمه, وركبوا من معاصيه.
وقوله: ( ذِي الطَّوْلِ ) يقول: ذي الفضل والنعم
المبسوطة على من شاء من خلقه; يقال منه: إن فلانا لذو طول على أصحابه, إذا كان ذا
فضل عليهم.
وبنحو
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثني
عليّ, قال: ثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: ( ذِي الطَّوْلِ ) يقول: ذي السعة والغنى .
حدثني
محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن,
قال: ثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قول الله ( ذِي الطَّوْلِ ) الغنى.
حدثنا بشر,
قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( ذِي الطَّوْلِ ) : أي ذي النعم.
وقال
بعضهم: الطول: القدرة.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فى قوله ( ذِي الطَّوْلِ ) قال: الطول القدرة, ذاك
الطول.
وقوله: ( لا إِلَهَ إِلا هُوَ
إِلَيْهِ الْمَصِيرُ ) يقول:
لا معبود تصلح له العبادة إلا الله العزيز العليم, الذي صفته ما وصف جلّ ثناؤه,
فلا تعبدوا شيئا سواه (
إِلَيْهِ الْمَصِيرُ ) يقول
تعالى ذكره: إلى الله مصيركم ومرجعكم أيها الناس, فإياه فاعبدوا, فإنه لا ينفعكم
شيء عبدتموه عند ذلك سواه.
القول
في تأويل قوله تعالى : مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ
اللَّهِ إِلا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ ( 4
) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ
كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا
بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ ( 5 )
يقول
تعالى ذكره: ما يخاصم في حجج الله وأدلته على وحدانيته بالإنكار لها, إلا الذين
جحدوا توحيده.
وقوله: ( فَلا يَغْرُرْكَ
تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ ) يقول
جلّ ثناؤه: فلا يخدعك يا محمد تصرفهم في البلاد وبقاؤهم ومكثهم فيها, مع كفرهم
بربهم, فتحسب أنهم إنما أمهلوا وتقلبوا, فتصرّفوا في البلاد مع كفرهم بالله, ولم
يعاجلوا بالنقمة والعذاب على كفرهم لأنهم على شيء من الحق فإنا لم نمهلهم لذلك,
ولكن ليبلغ الكتاب أجله, ولتحقّ عليهم كلمة العذاب, عذاب ربك.
كما
حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( فَلا يَغْرُرْكَ
تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ )
أسفارهم فيها, ومجيئهم وذهابهم.
ثم قصّ
على رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قصص الأمم المكذّبة رسلها, وأخبره
أنهم كانوا من جدالهم لرسله على مثل الذي عليه قومه الذين أرسل إليهم, وإنه أحلّ
بهم من نقمته عند بلوغهم أمدهم بعد إعذار رسله إليهم, وإنذارهم بأسه ما قد ذكر في
كتابه إعلاما منه بذلك نبيه, أن سنته في قومه الذين سلكوا سبيل أولئك في تكذيبه
وجداله سنته من إحلال نقمته بهم, وسطوته بهم, فقال تعالى ذكره: كذبت قبل قومك
المكذبين لرسالتك إليهم رسولا المجادليك بالباطل قوم نوح والأحزاب من بعدهم, وهم
الأمم الذين تحزبوا وتجمعوا على رسلهم بالتكذيب لها, كعاد وثمود, وقوم لوط, وأصحاب
مَدْيَن وأشباههم.
وبنحو
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قوله: ( كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ
نُوحٍ وَالأحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ ) قال: الكفار.
وقوله: ( وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ
بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ ) يقول
تعالى ذكره: وهمت كل أمة من هذه الأمم المكذّبة رسلها, المتحزّبة على أنبيائها,
برسولهم الذي أرسل إليهم ليأخذوه فيقتلوه.
كما
حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ
بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ ) : أي
ليقتلوه, وقيل برسولهم; وقد قيل: كل أمة, فوجَّهت الهاء والميم إلى الرجل دون لفظ
الأمة, وقد ذُكر أن ذلك في قراءة عبد الله « برسولها » , يعني
برسول الأمة.
وقوله: ( وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ
لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ ) يقول:
وخاصموا رسولهم بالباطل من الخصومة ليبطلوا بجدالهم إياه وخصومتهم له الحق الذي
جاءهم به من عند الله, من الدخول في طاعته, والإقرار بتوحيده, والبراءة من عبادة
ما سواه, كما يخاصمك كفار قومك يا محمد بالباطل.
وقوله: ( فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ
كَانَ عِقَابِ ) يقول
تعالى ذكره: فأخذت الذين هموا برسولهم ليأخذوه بالعذاب من عندي, فكيف كان عقابي
إياهم, الم أهلكهم فأجعلهم للخلق عبرة, ولمن بعدهم عظة؟ وأجعل ديارهم ومساكنهم
منهم خلاء, وللوحوش ثواء.
وقد
حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ
كَانَ عِقَابِ ) قال:
شديد والله.
القول
في تأويل قوله تعالى : وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ
رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ( 6 )
يقول
تعالى ذكره: وكما حق على الأمم التي كذبت رسلها التي قصصت عليك يا محمد قصصها
عذابي, وحل بها عقابي بتكذيبهم رسلهم, وجدالهم إياهم بالباطل, ليدحضوا به الحق,
كذلك وجبت كلمة ربك على الذين كفروا بالله من قومك, الذين يجادلون في آيات الله.
وقوله: ( أَنَّهُمْ أَصْحَابُ
النَّارِ ) اختلف
أهل العربية في موضع قوله (
أنَّهُمْ ) , فقال
بعض نحويّي البصرة: معنى ذلك: حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار: أي
لأنهم, أو بأنهم, وليس أنهم في موضع مفعول ليس مثل قولك: أحققت أنهم لو كان كذلك
كان أيضا أحققت, لأنهم. وكان غيره يقول: « أنهم » بدل من
الكلمة, كأنه أحقت الكلمة حقا أنهم أصحاب النار.
والصواب
من القول في ذلك, أن قوله « أنهم » ترجمة عن الكلمة, بمعنى: وكذلك
حقّ عليهم عذاب النار, الذي وعد الله أهل الكفر به.
القول
في تأويل قوله تعالى : الَّذِينَ يَحْمِلُونَ
الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ
وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً
وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ
الْجَحِيمِ ( 7 )
يقول
تعالى ذكره: الذين يحملون عرش الله من ملائكته, ومن حول عرشه, ممن يحفّ به من
الملائكة (
يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ) يقول:
يصلون لربهم بحمده وشكره (
وَيُؤْمِنُونَ بِهِ ) يقول:
ويقرّون بالله أنه لا إله لهم سواه, ويشهدون بذلك, لا يستكبرون عن عبادته ( وَيَسْتَغْفِرُونَ
لِلَّذِينَ آمَنُوا ) يقول:
ويسألون ربهم أن يغفر للذين أقرّوا بمثل إقرارهم من توحيد الله, والبراءة من كلّ
معبود سواه ذنوبهم, فيعفوها عنهم.
كما حدثنا
بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قوله: ( وَيَسْتَغْفِرُونَ
لِلَّذِينَ آمَنُوا ) لأهل
لا اله إلا الله.
وقوله: ( رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ
شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا ) , وفي
هذا الكلام محذوف, وهو يقولون; ومعنى الكلام ويستغفرون للذين آمنوا يقولون: يا
ربنا وسعت كلّ شيء رحمة وعلما. ويعني بقوله: ( وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا ) : وسعت رحمتك وعلمك كل شيء من
خلقك, فعلمت كل شيء, فلم يخف عليك شيء, ورحمت خلقك, ووسعتهم برحمتك.
وقد اختلف
أهل العربية في وجه نصب الرحمة والعلم, فقال بعض نحويّي البصرة: انتصاب ذلك
كانتصاب لك مثله عبدا, لأنك قد جعلت وسعت كلّ شيء, وهو مفعول له, والفاعل التاء,
وجاء بالرحمة والعلم تفسيرا, وقد شغلت عنهما الفعل كما شغلت المثل بالهاء, فلذلك
نصبته تشبيها بالمفعول بعد الفاعل; وقال غيره: هو من المنقول, وهو مفسر, وسعت
رحمته وعلمه, ووسع هو كلّ شيء رحمة, كما تقول: طابت به نفسي, طبت به نفسا, . قال:
أما لك مثله عبدا, فإن المقادير لا تكون إلا معلومة مثل عندي رطل زيتا, والمثل غير
معلوم, ولكن لفظه لفظ المعرفة والعبد نكرة, فلذلك نصب العبد, وله أن يرفع, واستشهد
لقيله ذلك بقول الشاعر:
مــا
فــي مَعَــدّ والقبـائِلِ كُلِّهـا قَحْطَــانَ مِثْلُــكَ وَاحِــدٌ مَعْـدُودُ
وقال:
ردّ « الواحد
» على « مثل » لأنه نكرة, قال: ولو قلت: ما
مثلك رجل, ومثلك رجل, ومثلك رجلا جاز, لأن مثل يكون نكرة, وإن كان لفظها معرفة.
وقوله: ( فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ
تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ ) يقول:
فاصفح عن جرم من تاب من الشرك بك من عبادك, فرجع إلى توحيدك, واتبع أمرك ونهيك.
كما
حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتاده ( فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا
) من
الشرك.
وقوله: ( وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ ) يقول: وسلكوا الطريق الذي
أمرتهم أن يسلكوه, ولزموا المنهاج الذي أمرتهم بلزومه, وذلك الدخول في الإسلام.
وبنحو
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا بشر,
قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ ) : أي طاعتك وقوله: ( وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ) يقول: واصرف عن الذين تابوا
من الشرك, واتبعوا سبيلك عذاب النار يوم القيامة.
القول
في تأويل قوله تعالى : رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ
جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ
وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 8 )
يقول
تعالى ذكره مخبرا عن دعاء ملائكته لأهل الإيمان به من عباده, تقول: يا ( رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ
جَنَّاتِ عَدْنٍ ) يعني:
بساتين إقامة (
الَّتِي وَعَدْتَهُمْ ) يعني
التي وعدت أهل الإنابة إلى طاعتك أن تدخلهموها ( وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ
وَذُرِّيَّاتِهِمْ ) يقول:
وأدخل مع هؤلاء الذين تابوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ جنات عدن من صلح من آبائهم
وأزواجهم وذرياتهم, فعمل بما يرضيك عنه من الأعمال الصالحة في الدنيا, وذكر أنه
يدخل مع الرجل أبواه وولده وزوجته الجنة, وإن لم يكونوا عملوا عمله بفضل رحمة الله
إياه.
كما
حدثنا أبو هشام, قال: ثنا يحيى بن يمان العجلي, قال: ثنا شريك, عن سعيد, قال: يدخل
الرجل الجنة, فيقول: أين أبي, أين أمي, أين ولدي, أين زوجتي, فيقال: لم يعملوا مثل
عملك, فيقول: كنت أعمل لي ولهم, فيقال: أدخلوهم الجنة; ثم قرأ ( جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي
وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ) .
فمن إذن,
إذ كان ذلك معناه, في موضع نصب عطفا على الهاء والميم في قوله ( وَأَدْخِلْهُمْ ) وجائز أن يكون نصبا على العطف
على الهاء والميم في وعدتهم (
إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) يقول: أنك أنت يا ربنا العزيز في انتقامه من أعدائه, الحكيم
في تدبيره خلقه.
القول
في تأويل قوله تعالى : وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ
وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ
الْعَظِيمُ ( 9 )
يعني
تعالى ذكره بقوله مخبرا عن قيل ملائكته: وقِهِم: اصرف عنهم سوء عاقبة سيئاتهم التي
كانوا أتوها قبل توبتهم وإنابتهم, يقولون: لا تؤاخذهم بذلك, فتعذبهم به ( وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ
يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ ) يقول:
ومن تصرف عنه سوء عاقبة سيئاته بذلك يوم القيامة, فقد رحمته, فنجيته من عذابك ( وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ
الْعَظِيمُ ) لأنه
من نجا من النار وأدخل الجنة فقد فاز, وذلك لا شك هو الفوز العظيم.
وبنحو
الذي قلنا في معنى السيئات قال أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ ) : أي العذاب .
حدثنا
ابن بشار, قال: ثنا معمر بن بشير, قال: ثنا ابن المبارك, عن معمر, عن قتادة وعن
مطرف قال: وجدنا أنصح العباد للعباد ملائكة وأغش العباد للعباد الشياطين, وتلا
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ
... الآية.
حدثنا
بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قال: قال مطرف: وجدنا أغشّ عباد
الله لعباد الله الشياطين, ووجدنا أنصح عباد الله لعباد الله الملائكة.
القول
في تأويل قوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ
تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ ( 10 ) قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا
اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ
إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ ( 11 )
يقول
تعالى ذكره: إن الذين كفروا بالله ينادون في النار يوم القيامة إذا دخلوها, فمقتوا
بدخولهموها أنفسهم حين عاينوا ما أعدّ الله لهم فيها من أنواع العذاب, فيقال لهم:
لمقت الله إياكم أيها القوم في الدنيا, إذ تدعون فيها للإيمان بالله فتكفرون, أكبر
من مقتكم اليوم أنفسكم لما حل بكم من سخط الله عليكم.
وبنحو
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن,
قال: ثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: ( لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ ) قال: مقتوا أنفسهم حين رأوا
أعمالهم, ومقت الله إياهم في الدنيا, إذ يدعون إلى الإيمان, فيكفرون أكبر.
حدثنا بشر,
قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قوله: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ
أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإيمَانِ
فَتَكْفُرُونَ ) يقول:
لمقت الله أهل الضلالة حين عرض عليهم الإيمان في الدنيا, فتركوه, وأبوا أن يقبلوا,
أكبر مما مقتوا أنفسهم, حين عاينوا عذاب الله يوم القيامة.
حدثنا
محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ قوله: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ ) في النار ( إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى
الإيمَانِ ) في
الدنيا (
فَتَكْفُرُونَ ) .
حدثني
يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله ( يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ
اللَّهِ ) ...
الآية, قال: لما دخلوا النار مقتوا أنفسهم في معاصي الله التي ركبوها, فنودوا: إن
مقت الله إياكم حين دعاكم إلى الإسلام أشد من مقتكم أنفسكم اليوم حين دخلتم النار.
واختلف
أهل العربية في وجه دخول هذه اللام في قوله: ( لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ ) فقال بعض أهل العربية من أهل
البصرة: هي لام الابتداء, كان ينادون يقال لهم, لأن في النداء قول. قال: ومثله في
الإعراب يقال: لزيد أفضل من عمرو. وقال بعض نحويِّي الكوفة: المعنى فيه: ينادون إن
مقت الله إياكم, ولكن اللام تكفي من أن تقول في الكلام: ناديت أنّ زيدا قائم, قال:
ومثله قوله: ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ
حَتَّى حِينٍ اللام بمنـزلة « إن » في كل كلام ضارع القول مثل
ينادون ويخبرون, وأشباه ذلك.
وقال آخر
غيره منهم: هذه لام اليمين, تدخل مع الحكاية, وما ضارع الحكاية لتدلّ على أن ما
بعدها ائتناف. قال: ولا يجوز في جوابات الأيمان أن تقوم مقام اليمين, لأن اللام كانت
معها النون أو لم تكن, فاكتفي بها من اليمين, لأنها لا تقع إلا معها.
وأولى
الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: دخلت لتؤذن أن ما بعدها ائتناف وأنها لام
اليمين.
وقوله: ( رَبَّنَا أَمَتَّنَا
اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ) قد أتينا عليه في سورة البقرة, فأغنى ذلك عن إعادته في هذا
الموضع, ولكنا نذكر بعض ما قال بعضهم فيه.
حدثنا
بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قوله: ( أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ
وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ) قال:
كانوا أمواتا في أصلاب آبائهم, فأحياهم الله في الدنيا, ثم أماتهم الموتة التي لا
بد منها, ثم أحياهم للبعث يوم القيامة, فهما حياتان وموتتان.
وحُدثت
عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول فى قوله:
(
أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ) هو قول الله كَيْفَ
تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ
ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ .
حدثني
محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس,
قوله: (
رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ) قال: هو كقوله: كَيْفَ
تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا ... الآية.
حدثنا
ابن بشار, قال: ثنا عبد الرحمن, قال: ثنا سفيان, عن أبي إسحاق, عن أبي الأحوص, عن
عبد الله, في قوله: (
أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ) قال: هي كالتي في البقرة
وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ .
حدثني
أبو حصين عبد الله بن أحمد بن يونس, قال: ثنا عبثر, قال: ثنا حصين, عن أبي مالك في
هذه الآية (
أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ) قال: خلقتنا ولم نكن شيئا ثم
أمتنا, ثم أحييتنا.
حدثني
يعقوب, قال: ثنا هشيم, عن حصين, عن أبي مالك, في قوله: ( أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ
وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ) قالوا:
كانوا أمواتا فأحياهم الله, ثم أماتهم, ثم أحياهم.
وقال
آخرون فيه ما حدثنا محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, قوله: ( أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ
وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ) قال:
أميتوا في الدنيا, ثم أحيوا في قبورهم, فسئلوا أو خوطبوا, ثم أميتوا في قبورهم, ثم
أحيوا في الآخرة.
وقال
آخرون في ذلك ما حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله ( رَبَّنَا أَمَتَّنَا
اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ) قال: خلقهم من ظهر آدم حين أخذ عليهم الميثاق, وقرأ: وَإِذْ
أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ فقرأ حتى بلغ
الْمُبْطِلُونَ قال: فنساهم الفعل, وأخذ عليهم الميثاق, قال: وانتزع ضلعا من أضلاع
آدم القصرى, فخلق منه حواء, ذكره عن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم, قال:
وذلك قول الله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ
نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا
وَنِسَاءً قال: بث منهما بعد ذلك في الأرحام خلقا كثيرا, وقرأ: يَخْلُقُكُمْ فِي
بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ قال: خلقا بعد ذلك, قال: فلما
أخذ عليهم الميثاق, أماتهم ثم خلقهم في الأرحام, ثم أماتهم, ثم أحياهم يوم
القيامة, فذلك قول الله: (
رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا
بِذُنُوبِنَا ) , وقرأ
قول الله: وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا قال: يومئذ, وقرأ قول الله:
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ
قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا .
وقوله: ( فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا
) يقول:
فأقررنا بما عملنا من الذنوب في الدنيا ( فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ ) يقول: فهل إلى خروج من النار
لنا سبيل, لنرجع إلى الدنيا, فنعمل غير الذي كنا نعمل فيها.
كما
حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ
سَبِيلٍ ) : فهل
إلى كرّة إلى الدنيا.
القول
في تأويل قوله تعالى : ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا
دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ
لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ ( 12 )
وفي هذا
الكلام متروك استغني بدلالة الظاهر من ذكره عليه; وهو: فأجيبوا أن لا سبيل إلى ذلك
هذا الذي لكم من العذاب أيها الكافرون ( بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ ) , فأنكرتم أن تكون الألوهة له
خالصة, وقلتم أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا .
( وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ
تُؤْمِنُوا ) يقول:
وإن يجعل لله شريك تصدّقوا من جعل ذلك له ( فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ ) يقول: فالقضاء لله العلي على
كل شيء, الكبير الذي كل شيء دونه متصاغرا له اليوم.
القول
في تأويل قوله تعالى : هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ
آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلا مَنْ
يُنِيبُ ( 13 ) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ
الْكَافِرُونَ ( 14 )
يقول
تعالى ذكره: الذي يريكم أيها الناس حججه وأدلته على وحدانيته وربوبيته ( وَيُنـزلُ لَكُمْ مِنَ
السَّمَاءِ رِزْقًا ) يقول
ينـزل لكم من أرزاقكم من السماء بإدرار الغيث الذي يخرج به أقواتكم من الأرض,
وغذاء أنعامكم عليكم ( وَمَا
يَتَذَكَّرُ إِلا مَنْ يُنِيبُ ) يقول:
وما يتذكر حجج الله التي جعلها أدلة على وحدانيته, فيعتبر بها ويتعظ, ويعلم حقيقة
ما تدل عليه, إلا من ينيب, يقول: إلا من يرجع إلى توحيده, ويقبل على طاعته.
كما
حدثنا محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ ( إِلا مَنْ يُنِيبُ ) قال: من يقبل إلى طاعة الله.
وقوله: ( فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ
لَهُ الدِّينَ ) يقول
تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وللمؤمنين به, فاعبدوا الله
أيها المؤمنون له, مخلصين له الطاعة غير مشركين به شيئا مما دونه ( وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ
) يقول:
ولو كره عبادتكم إياه مخلصين له الطاعة الكافرون المشركون في عبادتهم إياه الأوثان
والأنداد.
القول
في تأويل قوله تعالى : رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو
الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ
لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ ( 15 ) يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى
اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ
الْقَهَّارِ ( 16 )
يقول
تعالى ذكره: هو رفيع الدرجات; ورفع قوله: ( رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ) على الابتداء; ولو جاء نصبا على الرد على قوله: فادعوا
الله, كان صوابا. ( ذُو
الْعَرْشِ ) يقول: ذو
السرير المحيط بما دونه.
وقوله: ( يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ
أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) يقول: ينـزل الوحي من أمره على من يشاء من عباده.
وقد
اختلف أهل التأويل في معنى الروح في هذا الموضع, فقال بعضهم: عني به الوحي.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا بشر,
قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتاده, قوله: ( يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ ) قال: الوحي من أمره.
وقال
آخرون: عني به القرآن والكتاب.
ذكر
من قال ذلك:
حدثني
هارون بن إدريس الأصمّ, قال: ثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربيّ, عن جُوَيبر, عن
الضحاك في قوله: (
يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) قال: يعني بالروح: الكتاب
ينـزله على من يشاء.
حدثني
يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: ( يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ
أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) , وقرأ: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ
أَمْرِنَا قال: هذا القرآن هو الروح, أوحاه الله إلى جبريل, وجبريل روح نـزل به
على النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم, وقرأ: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ
قال. فالكتب التي أنـزلها الله على أنبيائه هي الروح, لينذر بها ما قال الله يوم
التلاق, يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا قال: الروح: القرآن, كان
أبي يقوله, قال ابن زيد: يقومون له صفا بين السماء والأرض حين ينـزل جل جلاله.
وقال
آخرون: عني به النبوّة.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, في قول الله: ( يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ
أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) قال: النبوّة على من يشاء.
وهذه
الأقوال متقاربات المعاني, وإن اختلفت ألفاظ أصحابها بها.
وقوله: ( لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ
) يقول:
لينذر من يلقي الروح عليه من عباده من أمر الله بإنذاره من خلقه عذاب يوم تلتقي
فيه أهل السماء وأهل الأرض, وهو يوم التلاق, وذلك يوم القيامة.
وبنحو
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثني
عليّ, قال: ثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس,
قوله: (
يَوْمَ التَّلاقِ ) من
أسماء يوم القيامة, عظمه الله, وحذّره عباده.
حدثنا
بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قوله: ( يَوْمَ التَّلاقِ ) : يوم تلتقي فيه أهل السماء
وأهل الأرض, والخالق والخلق.
حدثنا
محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ ( يَوْمَ التَّلاقِ ) تلقي أهل السماء وأهل الأرض.
حدثنا
يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد ( يَوْمَ التَّلاقِ ) قال: يوم القيامة. قال: يوم تتلاقى العباد.
وقوله: ( يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا
يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ ) يعني بقوله ( يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ ) يعني المنذرين الذين أرسل الله إليهم رسله لينذروهم وهم
ظاهرون يعني للناظرين لا يحول بينهم وبينهم جبل ولا شجر, ولا يستر بعضهم عن بعض
ساتر, ولكنهم بقاع صفصف لا أمت فيه ولا عوج . و « هم » من
قوله: (
يَوْمَ هُمْ ) في
موضع رفع بما بعده, كقول القائل: فعلت ذلك يوم الحجاج أمير.
واختلف
أهل العربية في العلة التي من أجلها لم تخفض هم بيوم وقد أضيف إليه؟ فقال بعض
نحويي البصرة: أضاف يوم إلى هم في المعنى, فلذلك لا ينوّن اليوم, كما قال: يَوْمَ
هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ وقال: هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ ومعناه: هذا
يوم فتنتهم, ولكن لما ابتدأ بالاسم, وبنى عليه لم يقدر على جرّه, وكانت الإضافة في
المعنى إلى الفتنة, وهذا إنما يكون إذا كان اليوم في معنى إذ, وإلا فهو قبيح; ألا
ترى أنك تقول: ليتك زمن زيد أمير: أي إذ زيد أمير, ولو قلت: ألقاك زمن زيدٌ أمير,
لم يحسن. وقال غيره: معنى ذلك: أن الأوقات جعلت بمعنى إذ وإذا, فلذلك بقيت عل
نصبها في الرفع والخفض والنصب, فقال: وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ فنصبوا, والموضع
خفض, وذلك دليل على أنه جعل موضعَ الأداة, ويجوز أن يعرب بوجوه الإعراب, لأنه ظهر
ظهور الأسماء; ألا ترى أنه لا يعود عليه العائد كما يعود على الأسماء, فإن عاد
العائد نوّن وأعرب ولم يضف, فقيل: أعجبني يوم فيه تقول, لما أن خرج من معنى
الأداة, وعاد عليه الذكر صار اسما صحيحا. وقال: وجائز فى إذ أن تقول: أتيتك إذ
تقوم, كما تقول: أتيتك يوم يجلس القاضي, فيكون زمنا معلوما, فأما أتيتك يوم تقوم
فلا مؤنة فيه وهو جائز عند جميعهم, وقال: وهذه التي تسمى إضافة غير محضة.
والصواب
من القول عندي في ذلك, أن نصب يوم وسائر الأزمنة في مثل هذا الموضع نظير نصب
الأدوات لوقوعها مواقعها, وإذا أعربت بوجوه الإعراب, فلأنها ظهرت ظهور الأسماء,
فعوملت معاملتها.
وقوله: ( لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ
مِنْهُمْ ) أي ولا
من أعمالهم التي عملوها في الدنيا ( شَيْءٌ ) .
وكان
قتادة يقول في ذلك ما حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قوله: ( يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا
يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ ) ولكنهم برزوا له يوم القيامة, فلا يستترون بجبل ولا مدر.
وقوله: ( لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ) يعني بذلك: يقول الربّ: لمن
الملك اليوم; وترك ذكر « يقول » استغناء بدلالة الكلام عليه.
وقوله: (
لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ) وقد ذكرنا
الرواية الواردة بذلك فيما مضى قبل. ومعنى الكلام: يقول الربّ: لمن السلطان اليوم؟
وذلك يوم القيامة, فيحيب نفسه فيقول: ( لِلَّهِ الْوَاحِدِ ) الذي لا مثل له ولا شبيه ( القَهَّارِ ) لكلّ شيء سواه بقدرته, الغالب بعزّته.
القول
في تأويل قوله تعالى : الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ
نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ( 17
)
يقول
تعالى ذكره مخبرا عن قيله يوم القيامة حين يبعث خلقه من قبورهم لموقف الحساب: ( الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ
نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ) يقول: اليوم
يثاب كلّ عامل بعمله, فيوفى أجر عمله, فعامل الخير يجزى الخير, وعامل الشر يجزى
جزاءه.
وقوله: ( لا ظُلْمَ الْيَوْمَ ) يقول: لا بخس على أحد فيما
استوجبه من أجر عمله في الدنيا, فينقص منه إن كان محسنا, ولا حُمِل على مسيء إثم
ذنب لم يعمله فيعاقب عليه ( إِنَّ
اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ) يقول:
إن الله ذو سرعة في محاسبة عباده يومئذ على أعمالهم التي عملوها في الدنيا; ذُكر
أن ذلك اليوم لا يَنْتَصِف حتى يقيل أهل الجنة في الجنة , وأهل النار في النار,
وقد فرغ من حسابهم, والقضاء بينهم.
القول
في تأويل قوله تعالى : وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ
الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ
حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ ( 18 ) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي
الصُّدُورُ ( 19 ) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ
دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ( 20 )
يقول
تعالى ذكره لنبيه: وأنذر يا محمد مشركي قومك يوم الآزفة, يعنى يوم القيامة, أن
يوافوا الله فيه بأعمالهم الخبيثة, فيستحقوا من الله عقابه الأليم.
وبنحو الذي
قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثني
محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى, وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن,
قال: ثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قول الله: ( يَوْمَ الآزِفَةِ ) قال: يوم القيامة.
حدثنا
بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ ) يوم القيامة.
حدثنا
محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ ( وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ ) قال: يوم القيامة.
حدثنا
يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فى قوله ( وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ
الآزِفَةِ ) قال:
يوم القيامة, وقرأ: أَزِفَتِ الآزِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ
كَاشِفَةٌ .
وقوله: ( إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى
الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ ) يقول
تعالى ذكره: إذ قلوب العباد من مخافة عقاب الله لدى حناجرهم قد شخصت من صدورهم,
فتعلقت بحلوقهم كاظميها, يرومون ردّها إلى مواضعها من صدورهم فلا ترجع, ولا هي
تخرج من أبدانهم فيموتوا.
وبنحو
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ ) قال: قد وقعت القلوب في
الحناجر من المخافة, فلا هي تخرج ولا تعود إلى أمكنتها.
حدثنا
محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ ( إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ ) قال: شخصت أفئدتهم عن
أمكنتها, فنشبت في حلوقهم, فلم تخرج من أجوافهم فيموتوا, ولم ترجع إلى أمكنتها
فتستقرّ.
واختلف
أهل العربية في وجه النصب (
كَاظِمِينَ ) فقال
بعض نحويِّي البصرة: انتصابه على الحال, كأنه أراد: إذ القلوب لدى الحناجر في هذه
الحال. وكان بعض نحويي الكوفة يقول: الألف واللام بدل من الإضافة, كأنه قال: إذا
قلوبهم لدى حناجرهم في حال كظمهم. وقال آخر منهم: هو نصب على القطع من المعنى الذي
يرجع من ذكرهم في القلوب والحناجر, المعنى : إذ قلوبهم لدى حناجرهم كاظمين. قال:
فإن شئت جعلت قطعة من الهاء التي في قوله ( وَأَنْذِرْهُمْ ) قال: والأول أجود في العربية, وقد تقدّم بيان وجه ذلك.
وقوله: ( مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ
حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ ) يقول
جلّ ثناؤه: ما للكافرين بالله يومئذ من حميم يحم لهم, فيدفع عنهم عظيم ما نـزل بهم
من عذاب الله, ولا شفيع يشفع لهم عند ربهم فيطاع فيما شفع, ويُجاب فيما سأل.
وبنحو
الذي قلنا فى ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من
قال ذلك:
حدثنا
محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ ( مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ ) قال: من يعنيه أمرهم, ولا
شفيع لهم. وقوله: ( يطاع ) صلة للشفيع. ومعنى الكلام: ما
للظالمين من حميم ولا شفيع إذا شفع أطيع فيما شفع, فأجيب وقبلت شفاعته له.
وقوله: ( يَعْلَمُ خَائِنَةَ
الأعْيُنِ ) يقول
جلّ ذكره مخبرا عن صفة نفسه: يعلم ربكم ما خانت أعين عباده, وما أخفته صدورهم,
يعني: وما أضمرته قلوبهم; يقول: لا يخفى عليه شيء من أمورهم حتى ما يحدث به نفسه,
ويضمره قلبه إذا نظر ماذا يريد بنظره, وما ينوي ذلك بقلبه ( وَاللَّهُ يَقْضِي
بِالْحَقِّ ) يقول:
والله تعالى ذكره يقضي في الذي خانته الأعين بنظرها, وأخفته الصدور عند نظر العيون
بالحق, فيجزي الذين أغمضوا أبصارهم, وصرفوها عن محارمه حذارَ الموقف بين يديه,
ومسألته عنه بالحُسنى, والذين ردّدوا النظر, وعزمت قلوبهم على مواقعة الفواحش إذا
قدّرت, جزاءها.
وبنحو
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثني
عبد الله بن أحمد المَرْوَزِيّ, قال: ثنا عليّ بن حسين بن واقد قال: ثني أبي, قال:
ثنا الأعمش, قال: ثنا سعيد بن جبير, عن ابن عباس ( يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعْيُنِ ) إذا نظرت إليها تريد الخيانة
أم لا ( وَمَا
تُخْفِي الصُّدُورُ ) إذا
قدرت عليها أتزني بها أم لا؟ قال: ثم سكت, ثم قال: ألا أخبركم بالتي تليها؟ قلت
نعم, قال: (
وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ ) قادر
على أن يجزي بالحسنة الحسنة, وبالسيئة السيئة ( إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) قال الحسن: فقلت للأعمش:
حدثني الكلبيّ, إلا أنه قال: إن الله قادر على أن يجزي بالسيئة السيئة, وبالحسنة
عشرا. وقال الأعمش: إن الذي عند الكلبيّ عندي, ما خرج مني إلا بحقير.
حدثني
محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن,
قال: ثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد ( يَعْلَمُ خَائِنَةَ
الأعْيُنِ ) قال:
نظر الأعين إلى ما نهى الله عنه.
حدثنا
بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قوله: ( خَائِنَةَ الأعْيُنِ ) : أي يعلم همزه بعينه,
وإغماضه فيما لا يحبّ الله ولا يرضاه.
وقوله: ( وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ
دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ ) يقول:
والأوثان والآلهة التي يعبدها هؤلاء المشركون بالله من قومك من دونه لا يقضون
بشيء, لأنها لا تعلم شيئا, ولا تقدر على شيء, يقول جلّ ثناؤه لهم: فاعبدوا الذي
يقدر على كل شيء, ولا يخفى عليه شيء من أعمالكم, فيجزي محسنكم بالإحسان, والمسيء
بالإساءة, لا ما لا يقدر على شيء ولا يعلم شيئا, فيعرف المحسن من المسيء, فيثيب
المحسن, ويعاقب المسيء.
وقوله: ( إِنَّ اللَّهَ هُوَ
السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) يقول: إن
الله هو السميع لما تنطق به ألسنتكم أيها الناس, البصير بما تفعلون من الأفعال,
محيط بكل ذلك محصيه عليكم, ليجازي جميعكم جزاءه يوم الجزاء.
واختلفت
القرّاء في قراءة قوله: (
وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ) فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة: « وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ
دُونِهِ » بالتاء
على وجه الخطاب. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة بالياء على وجه الخبر.
والصواب
من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان صحيحتا المعنى, فبأيتهما قرأ القارئ
فمصيب.
القول
في تأويل قوله تعالى : أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي
الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ
كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ
اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ ( 21 )
يقول
تعالى ذكره: أو لم يسر هؤلاء المقيمون على شركهم بالله, المكذبون رسوله من قريش,
في البلاد, (
فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ ) يقول: فيروا ما الذي كان
خاتمة أمم الذين كانوا من قبلهم من الأمم الذين سلكوا سبيلهم, في الكفر بالله,
وتكذيب رسله (
كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً ) يقول: كانت تلك الأمم الذين كانوا من قبلهم أشد منهم بطشا,
وأبقى في الأرض آثارا, فلم تنفعهم شدة قواهم, وعظم أجسامهم, إذ جاءهم أمر الله,
وأخذهم بما أجرموا من معاصيه, واكتسبوا من الآثام, ولكنه أباد جمعهم, وصارت
مساكنهم خاوية منهم بما ظلموا ( وَمَا
كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ ) يقول: وما كان لهم من عذاب الله إذ جاءهم, من واق يقيهم,
فيدفعه عنهم.
كالذي
حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ
اللَّهِ مِنْ وَاقٍ ) يقيهم,
ولا ينفعهم.
القول
في تأويل قوله تعالى : ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ
تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ
قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ ( 22 )
يقول
تعالى ذكره: هذا الذي فعلت بهؤلاء الأمم الذين من قبل مشركي قريش من إهلاكنا لهم
بذنوبهم فعلنا بهم بأنهم كانت تأتيهم رسل الله إليهم بالبيّنات, يعني بالآيات
الدالات على حقيقة ما تدعوهم إليه من توحيد الله, والانتهاء إلى طاعته ( فَكَفَرُوا ) يقول: فانكروا رسالتها,
وجحدوا توحيد الله, وأبوا أن يطيعوا الله ( فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ ) يقول: فأخذهم الله بعذابه فأهلكهم ( إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ
الْعِقَابِ ) يقول:
إن الله ذو قوّة لا يقهره شيء, ولا يغلبه, ولا يعجزه شيء أراده, شديد عقابه من
عاقب من خلقه، وهذا وعيد من الله مشركي قريش, المكذّبين رسوله محمدا صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم يقول لهم جلّ ثناؤه: فاحذروا أيها القوم أن تسلكوا سبيلهم في
تكذيب محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وجحود توحيد الله, ومخالفة أمره ونهيه
فيسلك بكم في تعجيل الهلاك لكم مسلَكَهم.
القول
في تأويل قوله تعالى : وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى
بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ ( 23 ) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ
فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ( 24 )
يقول
تعالى ذكره مُسَلِّيا نبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم, عما كان يلقى من
مشركي قومه من قريش, بإعلامه ما لقي موسى ممن أرسل إليه من التكذيب, ومخيره أنه
معليه عليهم, وجاعل دائرة السَّوْء على من حادّه وشاقَّه, كسنته في موسى صلوات
الله عليه, إذ أعلاه, وأهلك عدوه فرعون ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا ) : يعني بأدلته. ( وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ ) : كما حدثنا بشر, قال: ثنا
يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, (
وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ ) : أي
عذر مبين, يقول: وحججه المبينة لمن يراها أنها حجة محققة ما يدعو إليه موسى ( إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ
وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ) يقول: فقال هؤلاء الذين أرسل إليهم موسى لموسى: هو ساحر
يسحر العصا, فيرى الناظر إليها أنها حية تسعى.
( كَذَّابٌ ) يقول: يكذب على الله, ويزعم
أنه أرسله إلى الناس رسولا.
القول
في تأويل قوله تعالى : فَلَمَّا جَاءَهُمْ
بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ
وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ ( 25 )
يقول
تعالى ذكره: فلما جاء موسى هؤلاء الذين أرسله الله إليهم بالحق من عندنا, وذلك
مجيئه إياهم بتوحيد الله, والعمل بطاعته, مع إقامة الحجة عليهم, بأن الله ابتعثه
إليهم بالدعاء إلى ذلك (
قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا ) بالله (
مَعَهُ ) من بني
إسرائيل (
وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ ) يقول:
واستبقوا نساءهم للخدمة.
فإن قال
قائل: وكيف قيل (
فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ
الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ ) , وإنما كان قتل فرعون
الولدان من بني إسرائيل حذار المولود الذي كان أخبر أنه على رأسه ذهاب ملكه, وهلاك
قومه, وذلك كان فيما يقال قبل أن يبعث الله موسى نبيًّا؟ قيل: إن هذا الأمر بقتل
أبناء الذين آمنوا مع موسى, واستحياء نسائهم, كان أمرا من فرعون وملئه من بعد
الأمر الأول الذي كان من فرعون قبل مولد موسى.
كما
حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتاده: ( فَلَمَّا جَاءَهُمْ
بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ
وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ ) قال:
هذا قتل غير القتل الأوّل الذي كان.
وقوله: ( وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ
إِلا فِي ضَلالٍ ) يقول:
وما احتيال أهل الكفر لأهل الإيمان بالله إلا في جوز عن سبيل الحقّ, وصدّ عن قصد
المحجة, وأخذ على غير هدى.
القول
في تأويل قوله تعالى : وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي
أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ
أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ ( 26 )
يقول
تعالى ذكره: (
وَقَالَ فِرْعَوْنُ ) لملئه:
(
ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ ) الذي يزعم أنه أرسله إلينا فيمنعه منا ( إِنِّي أَخَافُ أَنْ
يُبَدِّلَ دِينَكُمْ ) يقول:
إني أخاف أن يغير دينكم الذي أنتم عليه بسحره.
واختلفت
القرّاء في قراءة قوله: ( أَوْ
أَنْ يُظْهِرَ فِي الأرْضِ الْفَسَادَ ) فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والشأم والبصرة: « وَأَنْ يُظْهِرَ فِي الأرْضِ
الفَسَادَ » بغير
ألف, وكذلك ذلك في مصاحف أهل المدينة, وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة: ( أوْ أن ) بالألف, وكذلك ذلك في مصاحفهم
«
يَظْهَرَ فِي الأرْضِ » بفتح
الياء ورفع الفساد.
والصواب
من القول في ذلك عندنا أنهما قراءتان مشهورتان في قراءة الأمصار متقاربتا المعنى, وذلك
أن الفساد إذا أظهره مظهرا كان ظاهرا, وإذا ظهر فبإظهار مظهره يظهر, ففي القراءة
بإحدى القراءتين فى ذلك دليل واضح على صحة معنى الأخرى. وأما القراءة في: ( أَوْ أَنْ يُظْهِرَ ) بالألف وبحذفها, فإنهما أيضا
متقاربتا المعنى, وذلك أن الشيء إذا بدل إلى خلافه فلا شك أن خلافه المبدل إليه
الأوّل هو الظاهر دون المبدل, فسواء عطف على خبره عن خوفه من موسى أن يبدّل دينهم
بالواو أو بأو, لأن تبديل دينهم كان عنده ظهور الفساد, وظهور الفساد كان عنده هو
تبديل الدين.
فتأويل
الكلام إن: إني أخاف من موسى أن يغير دينكم الذي أنتم عليه, أو أن يظهر في أرضكم
أرض مصر, عبادة ربه الذي يدعوكم إلى عبادته, وذلك كان عنده هو الفساد.
وبنحو
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ ) : أي أمركم الذي أنتم عليه ( أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي
الأرْضِ الْفَسَادَ )
والفساد عنده أن يعمل بطاعة الله.
القول
في تأويل قوله تعالى : وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ
بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (
27 ) وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ
أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ
بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ
يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي
مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ( 28 )
يقول
تعالى ذكره: وقال موسى لفرعون وملئه: إني استجرت أيها القوم بربي وربكم, من كلّ
متكبر عليه, تكبر عن توحيده, والإقرار بألوهيته وطاعته, لا يؤمن بيوم يحاسب الله
فيه خلقه, فيجازي المحسن بإحسانه, والمسيء بما أساء; وإنما خص موسى صلوات الله
وسلامه عليه, الاستعاذة بالله ممن لا يؤمن بيوم الحساب, لأن من لم يؤمن بيوم
الحساب مصدقا, لم يكن للثواب على الإحسان راجيا, ولا للعقاب على الإساءة, وقبيح ما
يأتي من الأفعال خائفا, ولذلك كان استجارته من هذا الصنف من الناس خاصة.
وقوله: ( وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ
مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ ) اختلف أهل العلم في هذا الرجل المؤمن, فقال بعضهم: كان من
قوم فرعون, غير أنه كان قد آمن بموسى, وكان يُسِرّ إيمانه من فرعون وقومه خوفا على
نفسه.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ ( وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ ) قال: هو ابن عم فرعون.
ويقال:
هو الذي نجا مع موسى, فمن قال هذا القول, وتأوّل هذا التأويل, كان صوابا الوقف إذا
أراد القارئ الوقف على قوله: ( مِنْ
آلِ فِرْعَوْنَ ) , لأن ذلك
خبر متناه قد تمّ.
وقال
آخرون: بل كان الرجل إسرائيليا, ولكنه كان يكتم إيمانه من آل فرعون.
والصواب
على هذا القول لمن أراد الوقف أن يجعل وقفه على قوله: ( يَكْتُمُ إِيمَانَهُ ) لأن قوله: ( مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ ) صلة لقوله: ( يَكْتُمُ إِيمَانَهُ ) فتمامه قوله: يكتم إيمانه,
وقد ذكر أن اسم هذا الرجل المؤمن من آل فرعون: جبريل, كذلك حدثنا ابن حميد, قال:
ثنا سلمة, عن ابن إسحاق.
وأولى
القولين في ذلك بالصواب عندي القول الذي قاله السديّ من أن الرجل المؤمن كان من آل
فرعون, قد أصغى لكلامه, واستمع منه ما قاله, وتوقف عن قتل موسى عند نهيه عن قتله.
وقيله ما قاله. وقال له: ما أريكم إلا ما أرى, وما أهديكم إلا سبيل الرشاد, ولو
كان إسرائيليا لكان حريا أن يعاجل هذا القائل له, ولملئه ما قال بالعقوبة على
قوله, لأنه لم يكن يستنصح بني إسرائيل, لاعتداده إياهم أعداء له, فكيف بقوله عن
قتل موسى لو وجد إليه سبيلا؟ ولكنه لما كان من ملأ قومه, استمع قوله, وكفّ عما كان
همّ به في موسى.
وقوله: ( أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَنْ
يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ ) يقول:
أتقتلون أيها القوم موسى لأن يقول ربي الله؟ فإن في موضع نصب لما وصفت. ( وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ
) يقول:
وقد جاءكم بالآيات الواضحات على حقيقة ما يقول من ذلك. وتلك البيّنات من الآيات
يده وعصاه.
كما
حدثنا ابن حميد, قال. ثنا سلمة, عن ابن إسحاق ( وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ ) بعصاه وبيده.
وقوله: ( وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ
كَذِبُهُ ) يقول:
وإن يك موسى كاذبا في قيله: إن الله أرسله إليك يأمركم بعبادته, وترك دينكم الذي
أنتم عليه, فإنما إثم كذبه عليه دونكم ( وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي
يَعِدُكُمْ ) يقول:
وإن يك صادقا في قيله ذلك, أصابكم الذي وعدكم من العقوبة على مقامكم على الدين
الذي أنتم عليه مقيمون, فلا حاجة بكم إلى قتله, فتزيدوا ربكم بذلك إلى سخطه عليكم
بكفركم سخطا ( إِنَّ
اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ) يقول: إن الله لا يوفّق للحقّ من هو متعد إلى فعل ما ليس له
فعله, كذّاب عليه يكذب, ويقول عليه الباطل وغير الحقّ.
وقد
اختلف أهل التأويل في معنى الإسراف الذي ذكره المؤمن في هذا الموضع, فقال بعضهم:
عني به الشرك, وأراد: إن الله لا يهدي من هو مشرك به مفتر عليه.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
بشر, قال. ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ) : مشرك أسرف على نفسه بالشرك.
وقال
آخرون: عنى به من هو قتَّال سفَّاك للدماء بغير حق.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ ( إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ) قال: المسرف: هو صاحب الدم,
ويقال: هم المشركون.
والصواب
من القول في ذلك أن يقال: إن الله أخبر عن هذا المؤمن أنه عمّ بقوله: ( إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي
مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ) والشرك
من الإسراف, وسفك الدم بغير حقّ من الإسراف, وقد كان مجتمعا في فرعون الأمران
كلاهما, فالحقّ أن يعم ذلك كما أخبر جلّ ثناؤه عن قائله, أنه عم القول بذلك.
القول
في تأويل قوله تعالى : يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ
الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ
جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلا
سَبِيلَ الرَّشَادِ ( 29 )
يقول
تعالى ذكره مخبرا عن قيل المؤمن من آل فرعون لفرعون وملئه: ( يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ
الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأرْضِ ) يعني: أرض مصر, يقول: لكم السلطان اليوم والملك ظاهرين أنتم
على بنى إسرائيل في أرض مصر (
فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ ) يقول: فمن يدفع عنا بأس الله وسطوته إن حل بنا, وعقوبته أن
جاءتنا, قال فرعون ( مَا
أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى ) يقول:
قال فرعون مجيبا لهذا المؤمن الناهي عن قتل موسى: ما أريكم أيها الناس من الرأي
والنصيحة إلا ما أرى لنفسي ولكم صلاحا وصوابا, وما أهديكم إلا سبيل الرشاد. يقول:
وما أدعوكم إلا إلى طريق الحق والصواب في أمر موسى وقتله, فإنكم إن لم تقتلوه بدل
دينكم, وأظهر في أرضكم الفساد.
القول
في تأويل قوله تعالى : وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ
إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ ( 30 ) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ
نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ
ظُلْمًا لِلْعِبَادِ ( 31 )
يقول
تعالى ذكره: وقال المؤمن من آل فرعون لفرعون وملثه: يا قوم إني أخاف عليكم بقتلكم
موسى إن قتلتموه مثل يوم الأحزاب الذين تحزّبوا على رسل الله نوح وهود وصالح,
فأهلكهم الله بتجرّئهم عليه, فيهلككم كما أهلكهم.
وقوله: ( مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ ) يقول: يفعل ذلك بكم فيهلككم
مثل سنته في قوم نوح وعاد وثمود وفعله بهم. وقد بيَّنا معنى الدأب فيما مضى
بشواهده, المغنية عن إعادته, مع ذكر أقوال أهل التأويل فيه.
وقد
حدثني عليّ, قال: ثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس ( مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ ) يقول: مثل حال.
حدثني يونس,
قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: ( مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ ) قال: مثل ما أصابهم.
وقوله: ( وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ
) يعني
قوم إبراهيم, وقوم لوط, وهم أيضا من الأحزاب.
كما
حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ
) قال:
هم الأحزاب.
وقوله: ( وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ
ظُلْمًا لِلْعِبَادِ ) يقول
تعالى ذكره مخبرا عن قيل المؤمن من آل فرعون لفرعون وملئه: وما أهلك الله هذه
الأحزاب من هذه الأمم ظلما منه لهم بغير جرم اجترموه بينهم وبينه, لأنه لا يريد
ظلم عباده, ولا يشاؤه, ولكنه أهلكهم بإجرامهم وكفرهم به, وخلافهم أمره.
القول
في تأويل قوله تعالى : وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ
عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ ( 32 ) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ
مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ( 33 )
يقول
تعالى ذكره مخبرا عن قيل هذا المؤمن لفرعون وقومه: ( وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ
عَلَيْكُمْ ) بقتلكم
موسى إن قتلتموه عقاب الله (
يَوْمَ التَّنَادِ ) .
واختلفت
القرّاء في قراءة قوله: (
يَوْمَ التَّنَادِ ) فقرأ
ذلك عامة قرّاء الأمصار: (
يَوْمَ التَّنَادِ ) بتخفيف
الدال, وترك إثبات الياء, بمعنى التفاعل, من تنادى القوم تناديا, كما قال جلّ
ثناؤه: وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا
وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا
نَعَمْ وقال: وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا
عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ فلذلك تأوله قارئو ذلك كذلك.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
محمد بن بشار, قال: ثنا محمد بن عبد الله الأنصاريّ, قال: ثنا سعيد, عن قتادة أنه
قال في هذه الآية (
يَوْمَ التَّنَادِ ) قال:
يوم ينادي أهل النار أهل الجنة: أن أفيضوا علينا من الماء.
حدثنا
بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قوله: ( وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ
عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ ) يوم
ينادي أهل الجنة أهل النار أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا
فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا وينادي أهل النار أهل الجنة أَنْ
أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ
حدثني
يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: ( يَوْمَ التَّنَادِ ) قال: يوم القيامة ينادي أهل
الجنة أهل النار.
وقد روي
عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم في معنى ذلك على هذه القراءة تأويل
آخر على غير هذا الوجه.
وهو ما
حدثنا به أبو كريب, قال: ثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي, عن إسماعيل بن رافع
المدني, عن يزيد بن زياد, عن محمد بن كعب القرظيّ, عن رجل من الأنصار, عن أبي
هريرة, أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال: « يَأْمُرُ الله إسْرَافِيلَ
بالنَّفْخَةِ الأولَى, فَيَقُولُ: انْفُخْ نَفْخَةَ الفَزَعِ, فَفَزِعَ أهْلُ
السَّمَاوَاتِ وأهْلُ الأرْضِ إلا مَنْ شَاءَ الله, وَيَأْمُرُهُ الله أنْ
يُدِيمَهَا وَيُطَوِّلَهَا فَلا يَفْتَرُ, وَهِيَ الَّتِي يَقُولُ اللهُ: وَمَا
يَنْظُرُ هَؤُلاءِ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ فَيُسَيِّرُ
اللهُ الجِبَالَ فَتَكُونَ سَرَابًا, فَتُرَجُّ الأرْضُ بأهْلِها رَجًّا, وَهِيَ
التي يَقُولُ اللهُ: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ * تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ *
قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ فَتَكُونُ كالسَّفِينَة المُرْتَعَةِ فِي البَحْرِ
تَضرِبُها الأمْوَاجُ تَكْفَأُ بأهْلِهَا, أوْ كالقِنْدِيلِ المُعَلَّقِ بالعَرْشِ
تَرُجُّهُ الأرْوَاحُ, فَتَمِيدُ النَّاسَ عَلى ظَهْرِها, فَتَذْهَلُ المَرَاضِعُ,
وَتَضَعُ الحَوَامِلُ, وَتَشِيبُ الوِلْدَانُ, وَتَطِيرُ الشَّيَاطِينُ هَارِبَةً
حتى تأتي الأقْطارَ, فَتَلَقَّاها المَلائِكَةُ, فَتَضْرِبُ وُجُوهَها, فَتَرْجِعَ
وَيُوَلِّي النَّاسُ مُدْبِرِينَ, يُنَادِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا, وَهُوَ الَّذِي
يَقُولُ الله: (
يَوْمَ التَّنَادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ
عَاصِمٍ ) » .
فعلى هذا
التأويل معنى الكلام: ويا قوم إني أخاف عليكم يوم ينادي الناس بعضهم بعضا من فزع
نفخة الفزع.
وقرأ ذلك
آخرون: « يَوْمَ
التَّنَادِّ » بتشديد
الدال, بمعنى: التفاعل من النَّدّ, وذلك إذا هربوا فنَدُّوا في الأرض, كما تَنِدّ
الإبل: إذا شَرَدَت على أربابها.
ذكر
من قال ذلك, وذكر
المعنى الذي قَصَد بقراءته ذلك كذلك.
حدثني
موسى بن عبد الرحمن المسروقيّ, قال: ثنا أبو أسامة, عن الأجلح, قال: سمعت الضحاك
بن مزاحم, قال: إذا كان يوم القيامة, أمر الله السماء الدنيا فتشقَّقت بأهلها,
ونـزل من فيها من الملائكة, فأحاطوا بالأرض ومن عليها, ثم الثانية, ثم الثالثة, ثم
الرابعة, ثم الخامسة, ثم السادسة, ثم السابعة, فصفوا صفا دون صف, ثم ينـزل الملك
الأعلى على مجنبته اليسرى جهنم, فإذا رآها أهل الأرض نَدُّوا فلا يأتون قطرا من
أقطار الأرض إلا وجدوا السبعة صفوف من الملائكة, فيرجعون إلى المكان الذي كانوا
فيه, فذلك قول الله: (
إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ) وذلك قوله: وَجَاءَ رَبُّكَ
وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ وقوله: يَا مَعْشَرَ
الْجِنِّ وَالإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ وذلك قوله:
وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ * وَالْمَلَكُ عَلَى
أَرْجَائِهَا .
حدثنا
محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, قوله ( يَوْمَ التَّنَادِ ) قال: تَنِدون ورُوِي عن الحسن
البصري أنه قرأ ذلك: « يَوْمَ
التَّنَادِي » بإثبات
الياء وتخفيف الدال.
والصواب
من القراءة في ذلك عندنا ما عليه قرّاء الأمصار, وهو تخفيف الدال وبغير إثبات
الياء, وذلك أن ذلك هو القراءة التي عليها الحجة مجمعة من قرّاء الأمصار, وغير
جائز خلافها فيما جاءت به نقلا. فإذا كان ذلك هو الصواب, فمعنى الكلام: ويا قوم
إني أخاف عليكم يوم ينادي الناس بعضهم بعضا, إما من هول ما قد عاينوا من عظيم
سلطان الله, وفظاعة ما غشيهم من كرب ذلك اليوم, وإما لتذكير بعضُهم بعضا إنجاز
إلله إياهم الوعد الذي وعدهم في الدنيا, واستغاثة من بعضهم ببعض, مما لقي من عظيم
البلاء فيه.
وقوله: ( يَوْمَ تُوَلُّونَ
مُدْبِرِينَ )
فتأويله على التأويل الذي ذكرنا من الخبر عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم: « يَوْمَ
يُوَلُّونَ هارِبينَ فِي الأرْضِ حِذَارَ عَذَابِ اللهِ وَعِقابِهِ عِنْدَ
مُعَايَنَتِهم جَهَنَّمَ » .
وتأويله
على التأويل الذي قاله قَتادة في معنى ( يَوْمَ التَّنَادِ ) : يوم تولُّون مُنْصَرِفِينَ عن موقف الحساب إلى جهنم.
وبنحو
ذلك روي الخبر عنه, وعمن قال نحو مقالته في معنى ( يَوْمَ التَّنَادِ ) .
ذكر
من قال ذلك.
حدثنا
بشر, قال. ثنا يزيد, قال. ثنا سعيد, عن قتادة ( يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ) : أي منطَلقا بكم إلى النار.
وأولى
القولين في ذلك بالصواب, القول الذي رُوي عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم, وإن كان الذي قاله قتادة في ذلك غير بعيد من الحقّ, وبه قال جماعه من
أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثني محمد
بن عمرو, قال. ثنا أبو عاصم, قال. ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال:
ثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: ( يَوْمَ تُوَلُّونَ
مُدْبِرِينَ ) قال:
فارّين غير معجزين.
وقوله: ( مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ
مِنْ عَاصِمٍ ) يقول:
ما لكم من الله مانع يمنعكم, وناصر ينصركم.
وبنحو
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
بشر, قال: ثنا يزيد, قال. ثنا سعيد, عن قتادة ( مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ ) : أي من ناصر.
وقوله: ( وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ
فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ) يقول:
ومن يخذله الله فلم يوفّقه لرشده, فما له من موفّق يوفّقه له.
القول
في تأويل قوله تعالى : وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ
مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ
حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولا
كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ ( 34 )
يقول
تعالى ذكره: ولقد جاءكم يوسف بن يعقوب يا قوم من قبل موسى بالواضحات من حجج الله.
كما
حدثنا محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ ( وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ
مِنْ قَبْلُ ) قال:
قبل موسى.
وقوله: ( فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ
مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ ) يقول:
فلم تزالوا مرتابين فيما أتاكم به يوسف من عند ربكم غير موقني القلوب بحقيقته ( حَتَّى إِذَا هَلَكَ ) يقول: حتى إذا مات يوسف قلتم
أيها القوم: لن يبعث الله من بعد يوسف إليكم رسولا بالدعاء إلى الحقّ ( كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ
مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ ) يقول:
هكذا يصد الله عن إصابة الحقّ وقصد السبيل من هو كافر به مرتاب, شاكّ فى حقيقة
أخبار رسله.
القول
في تأويل قوله تعالى : الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي
آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ
وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ
مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ ( 35 )
يقول
تعالى ذكره مخبرا عن قيل المؤمن من آل فرعون: ( الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ
أَتَاهُمْ ) فقوله « الذين » مردود على « من » في قوله مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ .
وتأويل الكلام: كذلك يضلّ الله أهل الإسراف والغلوّ في ضلالهم بكفرهم بالله,
واجترائهم على معاصيه, المرتابين في أخبار رسله, الذين يخاصمون في حججه التي أتتهم
بها رسله ليدحضوها بالباطل من الحُجَج ( بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ ) يقول: بغير حجة أتتهم من عند
ربهم يدفعون بها حقيقة الحُجَج التي أتتهم بها الرسل; و « الذين » إذا كان معنى الكلام ما ذكرنا
في موضع نصب ردًّا على « مَن » .
وقوله: ( كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ
اللَّهِ ) يقول:
كبر ذلك الجدال الذي يجادلونه في آيات الله مقتا عند الله, ( وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا ) بالله; وإنما نصب قوله: ( مَقْتا ) لما في قوله ( كَبُرَ ) من ضمير الجدال, وهو نظير
قوله: كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ فنصب كلمة من نصبها, لأنه
جعل في قوله: (
كَبُرَتْ ) ضمير
قولهم: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا وأما من لم يضمر ذلك فإنه رفع الكلمة.
وقوله: ( كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ
عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ ) يقول: كما طبع الله على قلوب المسرفين الذين يجادلون في
آيات الله بغير سلطان أتاهم, كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر على الله أن يوحده,
ويصدّق رسله. جبار: يعني متعظم عن اتباع الحقّ.
واختلفت
القرّاء في قراءة ذلك, فقرأته عامة قرّاء الأمصار, خلا أبي عمرو بن العلاء, على: ( كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ ) بإضافة القلب إلى المتكبر,
بمعنى الخبر عن أن الله طبع على قلوب المتكبرين كلها; ومن كان ذلك قراءته, كان
قوله « جبار » . من نعت « متكبر » . وقد روي عن ابن مسعود أنه
كان يقرأ ذلك «
كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ على قَلْبِ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ » .
حدثني
بذلك ابن يوسف, قال: ثنا القاسم, قال: ثني حجاج, عن هارون أنه كذلك في حرف ابن
مسعود, وهذا الذي ذُكر عن ابن مسعود من قراءته يحقق قراءة من قرأ ذلك بإضافة قلب
إلى المتكبر, لأن تقديم « كل » قبل القلب وتأخيرها بعده لا
يغير المعنى, بل معنى ذلك في الحالتين واحد. وقد حُكي عن بعض العرب سماعا: هو
يرجِّل شعره يوم كلّ جمعة, يعني: كلّ يوم جمعة. وأما أبو عمرو فقرأ ذلك بتنوين
القلب وترك إضافته إلى متكبر, وجعل المتكبر والجبار من صفة القلب.
وأولى
القراءتين في ذلك عندي بالصواب قراءة من قرأه بإضافة القلب إلى المتكبر, لأن
التكبر فعل الفاعل بقلبه, كما أن القاتل إذا قتل قتيلا وإن كان قتله بيده, فإن
الفعل مضاف إليه, وإنما القلب جارحة من جوارح المتكبر. وإن كان بها التكبر, فإن
الفعل إلى فاعله مضاف, نظير الذي قلنا في القتل, وذلك وإن كان كما قلنا, فإن
الأخرى غير مدفوعة, لأن العرب لا تمنع أن تقول: بطشت يد فلان, ورأت عيناه كذا,
وفهم قلبه, فتضيف الأفعال إلى الجوارح, وإن كانت في الحقيقة لأصحابها.
القول
في تأويل قوله تعالى : وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا
هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ ( 36 ) أَسْبَابَ
السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ
زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ
فِرْعَوْنَ إِلا فِي تَبَابٍ ( 37 )
يقول
تعالى ذكره: وقال فرعون لما وعظه المؤمن من آله بما وعظه به وزجره عن قتل موسى
نبيّ الله وحذره من بأس الله على قيله أقتله ما حذره لوزيره وزير السوء هامان: ( يَا هَامَانُ ابْنِ لِي
صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأسْبَابَ ) يعني بناء. وقد بيَّنا معنى الصرح فيما مضى بشواهده بما
أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
( لَعَلِّي أَبْلُغُ
الأسْبَابَ ) اختلف
أهل التأويل في معنى الأسباب في هذا الموضع, فقال بعضهم: أسباب السماوات: طرقها.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
أحمد بن هشام, قال: ثنا عبد الله بن موسى, عن إسرائيل, عن السديّ, عن أبي صالح ( أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ ) قال: طرق السموات.
حدثنا
محمد بن الحسين, قال: ثنا أحمد بن المفضل, قال: ثنا أسباط, عن السديّ ( أَبْلُغُ الأسْبَابَ
أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ ) قال:
طُرُق السموات.
وقال
آخرون: عني بأسباب السموات: أبواب السموات.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا ) وكان أول من بنى بهذا الآجر
وطبخه (
لَعَلِّي أَبْلُغُ الأسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ ) : أي أبواب السموات.
وقال
آخرون: بل عُنِي به مَنـزل السماء.
ذكر
من قال ذلك:
حدثني
محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي عن أبيه, عن ابن عباس,
قوله: (
لَعَلِّي أَبْلُغُ الأسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ ) قال: مَنـزل السماء.
وقد
بيَّنا فيما مضى قبل, أن السبب: هو كل ما تسبب به إلى الوصول إلى ما يطلب من حبل
وسلم وطريق وغير ذلك.
فأولى
الأقوال بالصواب في ذلك أن يقال: معناه لعلي أبلغ من أسباب السموات أسبابا أتسبب
بها إلى رؤية إله موسى, طرقا كانت تلك الأسباب منها, أو أبوابا, أو منازل, أو غير
ذلك.
وقوله: ( فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ
مُوسَى ) اختلف
القرّاء في قراءة قوله: (
فَأَطَّلِعَ ) فقرأت
ذلك عامة قرّاء الأمصار: «
فَأَطَّلِعُ » بضم
العين: ردًا على قوله: (
أَبْلُغُ الأسْبَابَ ) وعطفا
به عليه. وذكر عن حميد الأعرج أنه قرأ ( فَأَطَّلِعَ ) نصبا جوابا للعلي, وقد ذكر الفرّاء أن بعض العرب أنشده:
عَــلَّ
صُـرُوفَ الدَّهْـرِ أوْ دُولاتِهـا يُدِلْنَنـــا اللَّمَّــةَ مِــنْ
لَمَّاتِهــا
فَتَسْتَرِيحَ
النَّفْسُ مِنْ زَفَرَاتِهَا
فنصب
فتستريح على أنها جواب للعلّ.
والقراءة
التي لا أستجيز غيرها الرفع في ذلك, لإجماع الحجة من القرّاء عليه.
وقوله: ( وَإِنِّي لأظُنُّهُ كَاذِبًا
) يقول:
وإني لأظنّ موسى كاذبا فيما يقول ويدّعي من أن له في السماء ربا أرسله إلينا.
وقوله: ( وَكَذَلِكَ زُيِّنَ
لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ ) يقول
الله تعالى ذكره: وهكذا زين الله لفرعون حين عتا عليه وتمرّد, قبيحَ عمله, حتى
سوّلت له نفسه بلوغ أسباب السموات, ليطلع إلى إله موسى.
وقوله: ( وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ ) اختلفت القرّاء في قراءة ذلك,
فقرأته عامة قرّاء المدينة والكوفة: ( وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ ) بضم الصاد, على وجه ما لم يُسَمّ فاعله.
كما
حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ ) قال: فُعِل ذلك به, زين له
سوء عمله, وصُدَّ عن السبيل.
وقرأ ذلك
حميد وأبو عمرو وعامة قرّاء البصرة « وَصَدَّ » بفتح
الصاد, بمعنى: وأعرض فرعون عن سبيل الله التي ابتُعث بها موسى استكبارا.
والصواب
من القول فى ذلك أن يقال: إنهما قراءتان معروفتان في قراءة الأمصار, فبأيتهما قرأ
القارئ فمصيب.
وقوله: ( وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ
إِلا فِي تَبَابٍ ) يقول
تعالى ذكره: وما احتيال فرعون الذي يحتال للاطلاع إلى إله موسى, إلا في خسار وذهاب
مال وغبن, لأنه ذهبت نفقته التي أنفقها على الصرح باطلا ولم ينل بما أنفق شيئا مما
أراده, فذلك هو الخسار والتباب.
وبنحو
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثني
عليّ, قال: ثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: ( وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ
إِلا فِي تَبَابٍ ) يقول:
في خُسران.
حدثني
محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن,
قال: ثنا ورقاء جميعا,, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: ( فِي تَبَابٍ ) قال: خسار.
حدثنا
بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلا فِي تَبَابٍ ) : أي في ضلال وخسار.
حدثني
يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: ( وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ
إِلا فِي تَبَابٍ ) قال:
التَّباب والضَّلال واحد.
القول
في تأويل قوله تعالى : وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا
قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ ( 38 ) يَا قَوْمِ إِنَّمَا
هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (
39 )
يقول
تعالى ذكره مخبرا عن المؤمن بالله من آل فرعون ( وَقَالَ الَّذِي آمَنَ ) من قوم فرعون لقومه: ( يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ ) يقول: إن اتبعتموني فقبلتم
مني ما أقول لكم, بينت لكم طريق الصواب الذي ترشدون إذا أخذتم فيه وسلكتموه وذلك
هو دين الله الذي ابتعث به موسى. يقول: ( إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ ) يقول لقومه: ما هذه الحياة
الدنيا العاجلة التي عجلت لكم في هذه الدار إلا متاع تستمتعون بها إلى أجل أنتم
بالغوه, ثم تموتون وتزول عنكم (
وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ ) يقول: وإن الدار الآخرة, وهي دار القرار التي تستقرّون فيها
فلا تموتون ولا تزول عنكم, يقول: فلها فاعملوا, وإياها فاطلبوا.
وبنحو
الذي قلنا في معنى قوله: (
وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ ) قال أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ ) استقرت الجنة بأهلها,
واستقرّت النار بأهلها.
القول
في تأويل قوله تعالى : مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا
يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ
مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ
( 40 )
يقول: من
عمل بمعصية الله في هذه الحياة الدنيا, فلا يجزيه الله في الآخرة إلا سيئة مثلها,
وذلك أن يعاقبه بها; (
وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى ) يقول: ومن عمل بطاعة الله فى الدنيا, وائتمر لأمره, وانتهى
فيها عما نهاه عنه من رجل أو امرأة, وهو مؤمن بالله ( فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ
الْجَنَّةَ ) يقول:
فالذين يعملون ذلك من عباد الله يدخلون في الآخرة الجنة.
وبنحو
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا ) أي شركا, « السيئة عند قتادة شرك » ( وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا ) , أي خيرا ( مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى
وَهُوَ مُؤْمِنٌ ) .
وقوله: ( يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ
حِسَابٍ ) يقول:
يرزقهم الله في الجنة من ثمارها, وما فيها من نعيمها ولذاتها بغير حساب.
كما
حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ
حِسَابٍ ) قال:
لا والله ما هناكم مكيال ولا ميزان.
القول
في تأويل قوله تعالى : وَيَا قَوْمِ مَا لِي
أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ ( 41 ) تَدْعُونَنِي
لأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا
أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ ( 42 )
يقول
تعالى ذكره مخبرا عن قيل هذا المؤمن لقومه من الكفرة: ( مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى
النَّجَاةِ ) من
عذاب الله وعقوبته بالإيمان به, واتباع رسوله موسى, وتصديقه فيما جاءكم به من عند
ربه (
وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ ) يقول:
وتدعونني إلى عمل أهل النار.
وبنحو
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثني
محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن,
قال: ثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: ( مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى
النَّجَاةِ ) قال:
الإيمان بالله.
حدثني
يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: ( مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى
النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ ) قال هذا مومن آل فرعون, قال: يدعونه إلى دينهم والإقامة
معهم.
وقوله: ( تَدْعُونَنِي لأكْفُرَ
بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ) يقول: وأشرك بالله في عبادته
أوثانا, لست أعلم أنه يصلح لي عبادتها وإشراكها فى عبادة الله, لأن الله لم يأذن
لي في ذلك بخبر ولا عقل.
وقوله: ( وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى
الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ ) يقول:
وأنا أدعوكم إلى عبادة العزيز في انتقامه ممن كفر به, الذي لا يمنعه إذا انتقم من
عدوّ له شيء, الغفار لمن تاب إليه بعد معصيته إياه, لعفوه عنه, فلا يضرّه شيء مع
عفوه عنه, يقول: فهذا الذي هذه الصفة صفته فاعبدوا, لا ما لا ضرّ عنده ولا نفع.
القول
في تأويل قوله تعالى : لا جَرَمَ أَنَّمَا
تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ
وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ
( 43 )
يقول:
حقا أن الذي تدعونني إليه من الأوثان, ليس له دعاء في الدنيا ولا في الآخرة, لأنه
جماد لا ينطق, ولا يفهم شيئا.
و بنحو
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثني
محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى, وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن,
قال: ثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: ( لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي
الدُّنْيَا ) قال:
الوثن ليس بشيء.
حدثنا
بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قوله: ( لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي
الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ ) : أي
لا ينفع ولا يضرّ.
حدثنا
محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, في قوله: ( لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا
وَلا فِي الآخِرَةِ ) .
وقوله: ( وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى
اللَّهِ ) يقول:
وأن مرجعنا ومنقلبنا بعد مماتنا إلى الله ( وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ) يقول: وإن المشركين بالله
المتعدّين حدوده, القتلة النفوس التي حرم الله قتلها, هم أصحاب نار جهنم عند
مرجعنا إلى الله.
وبنحو
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل على اختلاف منهم في معنى المسرفين في هذا
الموضع, فقال بعضهم: هم سفاكو الدماء بغير حقها.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا ابن
حميد, قال: ثنا حكام, عن عنبسة, عن محمد بن عبد الرحمن, عن القاسم بن أبي بزة, عن
مجاهد, في قوله: (
وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ) قال: هم السفَّاكون الدماء بغير حقها.
حدثنا
عليّ بن سهل, قال: ثنا حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد في قول الله ( وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ
أَصْحَابُ النَّارِ ) قال:
هم السفاكون الدماء بغير حقها.
حدثني
محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن,
قال: ثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله: ( وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ ) قال: السفاكون الدماء بغير
حقها, هم أصحاب النار.
حدثني
يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: ( وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ
أَصْحَابُ النَّارِ ) قال:
سماهم الله مسرفين, فرعون ومن معه.
وقال
آخرون: هم المشركون.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, ( وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ) : أي المشركون. وقد بيَّنا
معنى الإسراف فيما مضى قبل بما فيه الكفاية من إعادته في هذا الموضع.
وإنما
اخترنا في تأويل ذلك في هذا الموضع ما اخترنا, لأن قائل هذا القول لفرعون وقومه,
إنما قصد فرعون به لكفره, وما كان همّ به من قتل موسى, وكان فرعون عاليا عاتيا في
كفر. سفاكا للدماء التي كان محرّما عليه سفكها, وكلّ ذلك من الإسراف, فلذلك اخترنا
ما اخترنا من التأويل في ذلك.
القول
في تأويل قوله تعالى : فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ
لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (
44 ) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ
الْعَذَابِ ( 45 )
يقول
تعالى ذكره مخبرا عن قيل المؤمن من آل فرعون لفرعون وقومه: فستذكرون أيها القوم
إذا عاينتم عقاب الله قد حل بكم, ولقيتم ما لقيتموه صدق ما أقول, وحقيقة ما أخبركم
به من أن المسرفين هم أصحاب النار.
كما
حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: ( فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ
لَكُمْ ) , فقلت
له: أو ذلك في الأخرة؟ قال: نعم.
وقوله: ( وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى
اللَّهِ ) يقول:
وأسلم أمري إلى الله, وأجعله إليه وأتوكل عليه, فإنه الكافي من توكل عليه.
وبنحو
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ ( وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ) قال: أجعل أمري إلى الله.
وقوله: ( إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ
بِالْعِبَادِ ) يقول:
إن الله عالم بأمور عباده, ومن المطيع منهم, والعاصي له, والمستحق جميل الثواب,
والمستوجب سيئ العقاب.
وقوله: ( فَوَقَاهُ اللَّهُ
سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا ) يقول
تعالى ذكره: فدفع الله عن هذا المؤمن من آل فرعون بإيمانه وتصديق رسوله موسى,
مكروه ما كان فرعون ينال به أهل الخلاف عليه من العذاب والبلاء, فنجاه منه.
وبنحو
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قوله: ( سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا ) قال: وكان قبطيا من قوم
فرعون, فنجا مع موسى, قال: وذكر لنا أنه بين يدي موسى يومئذ يسير ويقول: أين أمرت
يا نبيّ الله؟ فيقول: أمامك, فيقول له المؤمن: وهل أمامي إلا البحر؟ فيقول موسى:
لا والله ما كَذبتُ ولا كُذبتُ, ثم يسير ساعة ويقول: أين أمرت يا نبيّ الله؟
فيقول: أمامك, فيقول: وهل أمامي إلا البحر, فيقول: لا والله ما كذبت, ولا كذبت,
حتى أتى على البحر فضربه بعصاه, فانفلق اثني عشر طريقا, لكل سبط طريق.
وقوله: ( وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ
سُوءُ الْعَذَابِ ) يقول:
وحل بآل فرعون ووجب عليهم; وعني بآل فرعون في هذا الموضع تباعه وأهل طاعته من
قومه.
كما
حدثنا محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ في قول الله: ( وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ
سُوءُ الْعَذَابِ ) قال:
قوم فرعون.
وعني
بقوله: ( سُوءَ
الْعَذَابِ ) : مأ
ساءهم من عذاب الله, وذلك نار جهنم .
القول
في تأويل قوله تعالى : النَّارُ يُعْرَضُونَ
عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ
فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ( 46 )
يقول تعالى
ذكره مبيِّنا عن سوء العذاب الذي حلّ بهؤلاء الأشقياء من قوم فرعون ذلك الذي حاق
بهم من سوء عذاب الله (
النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا ) إنهم
لما هلكوا وغرقهم الله, جعلت أرواحهم في أجواف طير سود, فهي تعرض على النار كلّ
يوم مرتين (
غُدُوًّا وَعَشِيًّا ) إلى أن
تقوم الساعة.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
محمد بن بشار, قال: ثنا عبد الرحمن, قال: ثنا سفيان, عن أبي قيس, عن الهذيل بن
شرحبيل, قال: أرواح آل فرعون في أجواف طير سود تغدو وتروح على النار, وذلك عرضها.
حدثنا
محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, قال: بلغني أن أرواح قوم فرعون
في أجواف طير سود تعرض على النار غدوّا وعشيًّا, حتى تقوم الساعة.
حدثنا
عبد الكريم بن أبي عمير, قال: ثنا حماد بن محمد الفزاري البلخي, قال: سمعت
الأوزاعيّ وسأله رجل فقال: رحمك الله, رأينا طيورا تخرج من البحر تأخذ ناحية الغرب
بيضا, فوجا فوجا, لا يعلم عددها إلا الله, فإذا كان العشيّ رجع مثلُها سُودا, قال:
وفطنتم إلى ذلك؟ قالوا: نعم, قال: إن تلك الطيور في حواصلها أرواح آل فرعون
يُعرضون على النار غدوّا وعشيًّا, فترجع إلى وكورها وقد احترقت رياشها, وصارت
سوداء, فتنبت عليها من الليل رياش بيض, وتتناثر السود, ثم تغدو, ويُعرضون على
النار غدوّا وعشيا, ثم ترجع إلى وكورها, فذلك دَأبُها في الدنيا; فإذا كان يوم
القيامة, قال الله (
أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ) قالوا: وكانوا يقولون: إنهم ستّ مئة ألف مقاتل.
حدثني
يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: ثني حرملة, عن سليمان بن حميد, قال: سمعت محمد بن
كعب القرظي يقول: ليس في الآخرة ليل ولا نصف نهار, وإنما هو بُكرة وعشيّ, وذلك في
القرآن في آل فرعون (
يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا ) وكذلك قال لأهل الجنة وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً
وَعَشِيًّا .
وقيل:
عنى بذلك: أنهم يعرضون على منازلهم في النار تعذيبا لهم غدوّا وعشيّا.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا ) قال: يعرضون عليها صباحا
ومساء, يقال لهم: يا آل فرعون هذه منازلكم, توبيخا ونقمة وصغارا لهم.
حدثنا
محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن,
قال: ثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: ( غُدُوًّا وَعَشِيًّا ) قال: ما كانت الدنيا.
وأولى
الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله أخبر أن آل فرعون يعرضون على النار غدوّا
وعشيّا. وجائز أن يكون ذلك العرض على النار على نحو ما ذكرناه عن الهذيل ومن قال
مثل قوله, وأن يكون كما قال قتادة, ولا خبر يوجب الحجة بأن ذلك المعني به, فلا في
ذلك إلا ما دل عليه ظاهر القرآن, وهم أنهم يعرضون على النار غدوا وعشيا, وأصل
الغدو والعشي مصادر جعلت أوقاتا.
وكان بعض
نحويي البصرة يقول في ذلك: إنما هو مصدر, كما تقول: أتيته ظلاما; جعله ظرفا وهو
مصدر. قال: ولو قلت: موعدك غدوة, أو موعدك ظلام, فرفعته, كما تقول: موعدك يوم
الجمعة, لم يحسن, لأن هذه المصادر وما أشبهها من نحو سحر لا تجعل إلا ظرفا; قال:
والظرف كله ليس بمتمكن; وقال نحويو الكوفة: لم يسمع في هذه الأوقات, وإن كانت
مصادر, إلا التعريب: موعدك يوم موعدك صباح ورواح, كما قال جلّ ثناؤه: غُدُوُّهَا
شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ فرفع, وذكروا أنهم سمعوا: إنما الطيلسان شهران قالوا:
ولم يسمع في الأوقات النكرات إلا الرفع إلا قولهم: إنما سخاؤك أحيانا, وقالوا:
إنما جاز ذلك لأنه بمعنى: إنما سخاؤك الحين بعد الحين, فلما كان تأويله الإضافة
نصب.
وقوله: ( وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ
أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ) اختلفت القرّاء في قراءة ذلك فقرأته عامة قرّاء أهل الحجاز
والعراق سوى عاصم وأبي عمرو (
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ ) بفتح الألف من أدخلوا في
الوصل والقطع بمعنى: الأمر بإدخالهم النار. وإذا قُرئ ذلك كذلك, كان الآل نصبا
بوقوع أدخلوا عليه, وقرأ ذلك عاصم وأبو عمرو: « وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ ادْخُلُوا » بوصل الألف وسقوطها في الوصل
من اللفظ, وبضمها إذا ابتدئ بعد الوقف على الساعة, ومن قرأ ذلك كذلك, كان الآل على
قراءته نصبا بالنداء, لأن معنى الكلام على قراءته: ادخلوا يا آل فرعون أشدّ
العذاب.
والصواب
من القول في ذلك عندي أن يقال إنهما قراءتان معروفتان متقاربتا المعنى قد قرأ بكل
واحدة منهما جماعة من القرّاء, فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب. فمعنى الكلام إذن: ويوم
تقوم الساعة يقال لآل فرعون: ادخلوا يا آل فرعون أشدّ العذاب, فهذا على قراءة من
وصل الألف من ادخلوا ولم يقطع, ومعناه على القراءة الأخرى, ويوم تقوم الساعة يقول
الله لملائكته (
أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ) .
القول
في تأويل قوله تعالى : وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي
النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ
تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ ( 47 ) قَالَ
الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ
الْعِبَادِ ( 48 )
يقول
تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ
الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ , ( وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي
النَّارِ ) يقول:
وإذ يتخاصمون في النار. وعنى بذلك: إذ يتخاصم الذين أمر رسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم بإنذارهم من مشركي قومه في النار, فيقول الضعفاء منهم وهم
المتبعون على الشرك بالله (
إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا ) تقول
لرؤسائهم الذين اتبعوهم على الضلالة: إنا كنا لكم في الدنيا تبعا على الكفر بالله
(
فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ ) اليوم
(
عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ ) يعنون
حظا فتخففوه عنا, فقد كنا نسارع في محبتكم في الدنيا, ومن قبلكم أتينا, لولا أنتم
لكنا في الدنيا مؤمنين, فلم يصبنا اليوم هذا البلاء; والتبع يكون واحدا وجماعة في
قول بعض نحويي البصرة, وفي قول بعض نحويي الكوفة جمع لا واحد له, لأنه كالمصدر.
قال: وإن شئت كان واحده تابع, فيكون مثل خائل وخول, وغائب وغيب.
والصواب
من القول في ذلك عندي أنه جمع واحده. تابع, وقد يجوز أن يكون واحدا فيكون جمعه
أتباع. فأجابهم المتبوعون بما أخبر الله عنهم; قال الذين استكبروا, وهم الرؤساء
المتبوعون على الضلالة في الدنيا: إنا أيها القوم وأنتم كلنا في هذه النار مخلدون,
لا خلاص لنا منها ( إِنَّ
اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ ) بفصل قضائه, فأسكن أهل الجنة الجنة, وأهل النار النار, فلا
نحن مما نحن فيه من البلاء خارجون, ولا هم مما فيه من النعيم منتقلون، ورفع قوله ( كُلّ ) بقوله ( فِيهَا ) ولم ينصب على النعت.
وقد
اختلف في جواز النصب في ذلك في الكلام. وكان بعض نحويي البصرة يقول: إذا لم يضف « كلّ » لم يجز الاتباع. وكان بعض
نحويي الكوفة يقول: ذلك جائز في الحذف وغير الحذف, لأن أسماءها إذا حُذفت اكتفي بها
منها. وقد بيَّنا الصواب من القول في ذلك فيما مضى بما أغنى عن إعادته.
القول
في تأويل قوله تعالى : وَقَالَ الَّذِينَ فِي
النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ
الْعَذَابِ ( 49 )
يقول
تعالى ذكره: وقال أهل جهنم لخزنتها وقوّامها, استغاثة بهم من عظيم ما هم فيه من
البلاء, ورجاء أن يجدوا من عندهم فرجا ( ادْعُوا رَبَّكُمْ ) لنا (
يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا ) واحدا,
يعني قدر يوم واحد من أيام الدنيا ( مِنَ الْعَذَابِ ) الذي نحن فيه. وإنما قلنا: معنى ذلك: قدر يوم من أيام الدنيا,
لأن الآخرة يوم لا ليل فيه, فيقال: خفف عنهم يوما واحدا.
القول
في تأويل قوله تعالى : قَالُوا أَوَ لَمْ تَكُ
تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا
دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ ( 50 )
وقوله: ( قَالُوا أَوَ لَمْ تَكُ
تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ ) يقول تعالى ذكره: قالت خزنة جهنم لهم: أو لم تك تأتيكم في
الدنيا رسلكم بالبيّنات من الحجج على توحيد الله, فتوحدوه وتؤمنوا به, وتتبرّءوا
مما دونه من الآلهة؟ قالوا: بلى, قد أتتنا رسلنا بذلك.
وقوله: ( قَالُوا فَادْعُوا ) يقول جلّ ثناؤه: قالت الخزنة
لهم: فادعوا إذن ربكم الذي أتتكم الرسل بالدعاء إلى الإيمان به.
وقوله: ( وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ
إِلا فِي ضَلالٍ ) يقول:
قد دعوا وما دعاؤهم إلا في ضلال, لأنه دعاء لا ينفعهم, ولا يستجاب لهم, بل يقال
لهم: اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ .
القول
في تأويل قوله تعالى : إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا
وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ ( 51
) يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ
سُوءُ الدَّارِ ( 52 )
يقول
القائل: وما معنى: (
إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) وقد علمنا أن منهم من قتله
أعداؤه, ومثَّلوا به, كشعياء ويحيى بن زكريا وأشباههما. ومنهم من همّ بقتله قومه,
فكان أحسن أحواله أن يخلص منهم حتى فارقهم ناجيا بنفسه, كإبراهيم الذي هاجر إلى
الشام من أرضه مفارقا لقومه, وعيسى الذي رفع إلى السماء إذ أراد قومه قتله, فأين
النصرة التي أخبرنا أنه ينصرها رسله, و المؤمنين به في الحياة الدنيا, وهؤلاء
أنبياؤه قد نالهم من قومهم ما قد علمت, وما نصروا على من نالهم بما نالهم به؟ قيل:
إن لقوله: (
إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) وجهين كلاهما صحيح معناه.
أحدهما أن يكون معناه: إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا إما
بإعلائناهم على من كذّبنا وإظفارنا بهم, حتى يقهروهم غلبة, ويذلوهم بالظفر ذلة,
كالذي فعل من ذلك بداود وسليمان, فأعطاهما من المُلْك والسلطان ما قهرا به كل
كافر, وكالذي فعل بمحمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بإظهاره على من كذّبه من
قومه, وإما بانتقامنا ممن حادّهم وشاقهم بإهلاكهم وإنجاء الرسل ممن كذّبهم
وعاداهم, كالذي فعل تعالى ذكره بنوح وقومه, من تغريق قومه وإنجائه منهم, وكالذي
فعل بموسى وفرعون وقومه, إذ أهلكهم غرقا, ونجى موسى ومن آمن به من بني إسرائيل
وغيرهم ونحو ذلك, أو بانتقامنا في الحياة الدنيا من مكذّبيهم بعد وفاة رسولنا من
بعد مهلكهم, كالذي فعلنا من نصرتنا شعياء بعد مهلكه, بتسليطنا على قتله من سلطنا
حتى انتصرنا بهم من قتلته, وكفعلنا بقتلة يحيى, من تسليطنا بختنصر عليهم حتى
انتصرنا به من قتله له وكانتصارنا لعيسى من مريدي قتله بالروم حتى أهلكناهم بهم,
فهذا أحد وجهيه. وقد كان بعض أهل التأويل يوجه معنى ذلك إلى هذا الوجه.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
محمد بن الحسين, قال: ثنا أحمد بن الفضل, قال: ثنا أسباط, عن السديّ قول الله: ( إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا
وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) قد كانت الأنبياء والمؤمنون يقتلون في الدنيا وهم منصورون,
وذلك أن تلك الأمة التي تفعل ذلك بالأنبياء والمؤمنين لا تذهب حتى يبعث الله قوما
فينتصر بهم لأولئك الذين قتلوا منهم. والوجه الآخر: أن يكون هذا الكلام على وجه
الخبر عن الجميع من الرسل والمؤمنين, والمراد واحد, فيكون تأويل الكلام حينئذ: إنا
لننصر رسولنا محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم والذين آمنوا به في الحياة
الدنيا, ويوم يقوم الأشهاد, كما بيَّنا فيما مضى أن العرب تخرج الخبر بلفظ الجميع,
والمراد واحد إذا لم تنصب للخبر شخصا بعينه.
واختلفت
القرّاء في قراءة قوله: ( وَيَوْمَ
يَقُومُ الأشْهَادُ يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ ) فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة
والكوفة (
وَيَوْمَ يَقُومُ )
بالياء. وينفع أيضا بالياء, وقرأ ذلك بعض أهل مكة وبعض قرّاء البصرة: « تَقُومُ » بالتاء, و « تَنْفَعُ » بالتاء.
والصواب
من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان بمعنى واحد, فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
وقد
بيَّنا فيما مضى أن العرب تذكر فعل الرجل وتؤنث إذا تقدّم بما أغنى عن إعادته.
وعني
بقوله: (
وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ ) يوم
يقوم الأشهاد من الملائكة والأنبياء والمؤمنين على الأمم المكذبة رسلها بالشهادة
بأن الرسل قد بلغتهم رسالات ربهم, وأن الأمم كذّبتهم. والأشهاد: جمع شهيد, كما
الأشراف: جمع شريف.
وبنحو
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتاد. ( وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ ) من ملائكة الله وأنبيائه,
والمؤمنين به.
حدثنا
محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ ( وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ ) يوم القيامة.
حدثنا
ابن بشار, قال: ثنا مؤمل, قال: ثنا سفيان, عن الأعمش, عن مجاهد, في قول الله: ( وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ
) قال
الملائكة.
وقوله: ( يَوْمَ لا يَنْفَعُ
الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ ) يقول
تعالى ذكره: ذلك يوم لا ينفع أهل الشرك اعتذارهم لأنهم لا يعتذرون إن اعتذروا إلا
بباطل, وذلك أن الله قد أعذر إليهم في الدنيا, وتابع عليهم الحجج فيها فلا حجة لهم
في الآخرة إلا الاعتصام بالكذب بأن يقولوا: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا
مُشْرِكِينَ .
وقوله: ( وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ ) يقول: وللظالمين اللعنة, وهي
البعد من رحمة الله (
وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ) يقول:
ولهم مع اللعنة من الله شرّ ما في الدار الآخرة, وهو العذاب الأليم.
القول
في تأويل قوله تعالى : وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى
الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ ( 53 ) هُدًى وَذِكْرَى
لأُولِي الأَلْبَابِ ( 54 ) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ
لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ ( 55 )
يقول
تعالى ذكره (
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى ) البيان
للحقّ الذي بعثناه به كما آتينا ذلك محمدا فكذّب به فرعون وقومه, كما كذّبت قريش
محمدا (
وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ ) يقول: وأورثنا بني إسرائيل التوراة, فعلَّمناهموها, وأنـزلنا
إليهم ( هُدًى
) يعني
بيانا لأمر دينهم, وما ألزمناهم من فرائضها, ( وَذِكْرَى لأولِي الألْبَابِ ) يقول: وتذكيرا منا لأهل الحجا
والعقول منهم بها.
وقوله: ( فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ
اللَّهِ حَقٌّ ) يقول
تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: فاصبر يا محمد لأمر ربك,
وانفذ لما أرسلك به من الرسالة, وبلِّغ قومك ومن أمرت بإبلاغه ما أنـزل إليك,
وأيقن بحقيقة وعد الله الذي وعدك من نصرتك, ونصرة من صدّقك وآمن بك, على من كذّبك,
وأنكر ما جئته به من عند ربك, وإن وعد الله حقّ لا خلف له وهو منجز له ( وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ) يقول: وسله غفران ذنوبك وعفوه
لك عنه (
وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ) يقول:
وصلّ بالشكر منك لربك (
بِالْعَشِيِّ ) وذلك
من زوال الشمس إلى الليل (
وَالإبْكَارِ ) وذلك
من طلوع الفجر الثاني إلى طلوع الشمس. وقد وجه قوم الإبكار إلى أنه من طلوع الشمس
إلى ارتفاع الضحى, وخروج وقت الضحى, والمعروف عند العرب القول الأوّل.
واختلف
أهل العربية في وجه عطف الإبكار والباء غير حسن دخولها فيه على العشيّ, والباء
تحسن فيه, فقال بعض نحويي البصرة: معنى ذلك: وسبح بحمد ربك بالعشي وفي الإبكار.
وقال: قد يقال: بالدار زيد, يراد: فى الدار زيد, وقال غيره: إنما قيل ذلك كذلك,
لأن معنى الكلام: صل بالحمد بهذين الوقتين وفي هذين الوقتين, فإدخال الباء في واحد
فيهما.
القول
في تأويل قوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ
فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلا
كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ
الْبَصِيرُ ( 56 )
يقول
تعالى ذكره: إن الذين يخاصمونك يا محمد فيما أتيتهم به من عند ربك من الآيات ( بِغَيْرِ سُلْطَانٍ
أَتَاهُمْ ) يقول:
بغير حجة جاءتهم من عند الله بمخاصمتك فيها ( إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلا كِبْرٌ ) يقول: ما في صدورهم إلا كبر
يتكبرون من أجله عن اتباعك, وقبول الحق الذي أتيتهم به حسدا منهم على الفضل الذي
آتاك الله, والكرامة التي أكرمك بها من النبوّة ( مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ ) يقول: الذي حسدوك عليه أمر ليسوا بُمدركيه ولا نائليه, لأن
ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء, وليس بالأمر الذي يدرك بالأمانيّ; وقد قيل: إن معناه:
إن في صدورهم إلا عظمة ما هم ببالغي تلك العظمة لأن الله مذلُّهم.
ذكر
من قال ذلك:
حدثني
محمد بن عمرو, قال. ثني أبو عاصم, قال. ثنا عيسى, وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن,
قال: ثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: ( إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلا
كِبْرٌ ) قال:
عظمة.
وبنحو
الذي قلنا في تأويل قوله: ( إِنَّ
الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ ) قال أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتاد., قوله. ( إِنَّ الَّذِينَ
يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ ) لم يأتهم بذاك سلطان.
وقوله: ( فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ
إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) يقول تعالى ذكره: فاستجر بالله يا محمد من شرّ هؤلاء الذين
يجادلون في آيات الله بغير سلطان, ومن الكبر أن يعرض فى قلبك منه شيء ( إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ
الْبَصِيرُ ) يقول:
إن الله هو السميع لما يقول هؤلاء المجادلون في آيات الله وغيرهم من قول البصير بما
تمله جوارحهم, لا يخفى عليه شيء من ذلك.
القول
في تأويل قوله تعالى : لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ
وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا
يَعْلَمُونَ ( 57 )
يقول
تعالى ذكره: لابتداع السموات والأرض وإنشاؤها من غير شيء أعظم أيها الناس عندكم إن
كنتم مستعظمي خلق الناس, وإنشائهم من غير شيء من خلق الناس, ولكن أكثر الناس لا
يعلمون أن خلق جميع ذلك هين على الله.
القول
في تأويل قوله تعالى : وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى
وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ
قَلِيلا مَا تَتَذَكَّرُونَ ( 58 )
وما
يستوي الأعمى الذي لا يبصر شيئا, وهو مثل الكافر الذي لا يتأمل حجج الله بعينيه,
فيتدبرها ويعتبر بها, فيعلم وحدانيته وقُدرته على خلق ما شاء من شيء, ويؤمن به
ويصدّق. والبصير الذي يرى بعينيه ما شخص لهما ويبصره, وذلك مثل للمؤمن الذي يرى
بعينيه حجج الله, فيتفكَّر فيها ويتعظ, ويعلم ما دلت عليه من توحيد صانعه, وعظيم
سلطانه وقُدرته على خلق ما يشاء; يقول جلّ ثناؤه: كذلك لا يستوي الكافر والمؤمن. ( وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) يقول
جلّ ثناؤه: ولا يستوي أيضا كذلك المؤمنون بالله ورسوله, المطيعون لربهم, ولا
المسيء, وهو الكافر بربه, العاصي له, المخالف أمره ( قَلِيلا مَا تَتَذَكَّرُونَ ) يقول جل ثناؤه: قليلا ما
تتذكرون أيها الناس حجج الله, فتعتبرون وتتعظون; يقول: لو تذكرتم آياته واعتبرتم,
لعرفتم خطأ ما أنتم عليه مقيمون من إنكاركم قدرة الله على إحيائه من فني من خلقه
من بعد الفناء, وإعادتهم لحياتهم من بعد وفاتهم, وعلمتم قبح شرككم من تشركون في
عبادة ربكم.
واختلفت
القرّاء في قراءة قوله: (
تَتَذَكَّرُونَ ) فقرأت
ذلك عامة قرّاء أهل المدينة والبصرة: « يَتَذَكَّرُونَ » بالياء على وجه الخبر, وقرأته عامة قرّاء الكوفة: ( تَتَذَكَّرُونَ ) بالتاء على وجه الخطاب,
والقول في ذلك أن القراءة بهما صواب.
القول
في تأويل قوله تعالى : إِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ لا
رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ ( 59 ) وَقَالَ رَبُّكُمُ
ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي
سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ( 60 )
يقول
تعالى ذكره: إن الساعة التي يحيي الله فيها الموتى للثواب والعقاب لجائية أيها
الناس لا شكّ في مجيئها; يقول: فأيقنوا بمجيئها, وأنكم مبعوثون من بعد مماتكم,
ومجازون بأعمالكم, فتوبوا إلى ربكم ( وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ ) يقول: ولكن أكثر قريش لا
يصدّقون بمجيئها.
وقوله: ( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي
أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) يقول
تعالى ذكره: ويقول ربكم أيها الناس لكم ادعوني: يقول: اعبدوني وأخلصوا لي العبادة
دون من تعبدون من دوني من الأوثان والأصنام وغير ذلك ( أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) يقول: أُجِبْ دعاءكم فأعفو
عنكم وأرحمكم.
وبنحو
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثني
عليّ, قال: ثنا عبد الله, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: ( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ
) يقول:
وحَّدوني أغفر لكم.
حدثنا
عمرو بن عليّ, قال: ثنا عبد الله بن داود, عن الأعمش, عن زرّ, عن يسيع الحضرمي, عن
النعمان بن بشير, قال: قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: « الدُّعاءُ هُوَ العِبادَةُ » وقرأ رسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم: (
وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ
عَنْ عِبَادَتِي ) .
حدثنا
محمد بن بشار, قال: ثنا عبد الرحمن, قال: ثنا سفيان, عن منصور, والأعمش عن زرّ, عن
يسيع الحضرمي, عن النعمان بن بشير, قال: سمعت النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم يقول: «
الدُّعاءُ هُوَ العبادَةُ, (
وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) ... الآية. »
حدثنا
محمد بن المثنى, قال: ثنا محمد بن جعفر, قال: ثنا شعبة, عن منصور, عن زرّ, عن يسيع
قال أبو موسى: هكذا قال غندر, عن سعيد, عن منصور, عن زرّ, عن يسيع, عن النعمان بن
بشير قال: قال النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: « إنَّ الدُّعاءَ هُوَ
العِبَادَةُ » ( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي
أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) .
حدثنا
ابن المثنى, قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي, قال: ثنا شعبة, عن منصور, عن زر, عن
يسيع عن النعمان بن بشير, عن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بمثله.
حدثنا
الحسن بن عرفة, قال: ثنا يوسف بن العرف الباهلي, عن الحسن بن أبي جعفر, عن محمد بن
جحادة, عن يسيع الحضرمي, عن النعمان بن بشير, قال: قال رسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم: « إنَّ
عِبَادَتي دُعائي » ثُم تلا
هذه الآية: (
وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ
عَنْ عِبَادَتِي ) قال: « عَنْ دُعائي » .
حدثنا
عليّ بن سهل, قال: ثنا مؤمل, قال: ثنا عمارة, عن ثابت, قال: قلت لأنس: يا أبا حمزة
أبلغك أن الدعاء نصف العبادة؟ قال: لا بل هو العبادة كلها.
حدثنا
محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, قال: أخبرنا منصور, عن زر, عن
يسيع الحضرمي, عن النعمان بن بشير, قال: قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم: «
الدُّعاءُ هُوَ العِبادَةُ, ثم قرأ هذه الآية ( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ
الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي ) » .
حدثني
يعقوب بن إبراهيم, قال: ثنا هاشم بن القاسم, عن الأشجعي, قال: قيل لسفيان: ادع
الله, قال: إن ترك الذنوب هو الدعاء.
وقوله: ( إِنَّ الَّذِينَ
يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي ) يقول:
إن الذين يتعظمون عن إفرادي بالعبادة, وإفراد الألوهة لي ( سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ
دَاخِرِينَ ) بمعنى:
صاغرين. وقد دللنا فيما مضى قبل على معنى الدخر بما أغني عن إعادته في هذا الموضع.
وقد قيل:
إن معنى قوله ( إِنَّ
الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي ) : إن الذين يستكبرون عن دعائي.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
محمد بن الحسين, قال: ثنا أحمد بن المفضل, قال: ثنا أسباط, عن السديّ ( إِنَّ الَّذِينَ
يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي ) قال:
عن دعائي.
حدثنا
محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ ( دَاخِرِينَ ) قال: صاغرين.
القول
في تأويل قوله تعالى : اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ
اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ
عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ ( 61 )
يقول
تعالى ذكره: الله الذي لا تصلح الألوهة إلا له, ولا تنبغي العبادة لغيره, الذي
صفته أنه جعل لكم أيها الناس الليل سكنا لتسكنوا فيه, فتهدءوا من التصرّف
والاضطراب للمعاش, والأسباب التي كنتم تتصرفون فيها في نهاركم ( وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا ) يقول: وجعل النهار مبصرا من
اضطرب فيه لمعاشه, وطلب حاجاته, نعمة منه بذلك عليكم ( إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ
عَلَى النَّاسِ ) يقول:
إن إلله لمتفضل عليكم أيها الناس بما لا كفء له من الفضل ( وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ
لا يَشْكُرُونَ ) يقول:
ولكن أكثرهم لا يشكرونه بالطاعة له, وإخلاص الألوهة والعبادة له, ولا يد تقدمت له
عنده استوجب بها منه الشكر عليها.
القول
في تأويل قوله تعالى : ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ
خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ( 62 ) كَذَلِكَ
يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ( 63 )
يقول
تعالى ذكره: الذي فعل هذه الأفعال, وأنعم عليكم هذه النعم أيها الناس, الله مالككم
ومصلح أموركم, وهو خالقكم وخالق كلّ شيء ( لا إِلَهَ إِلا هُوَ ) يقول: لا معبود تصلح له العبادة غيره, ( فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ) يقول: فأي وجه تأخذون, وإلى
أين تذهبون عنه, فتعبدون سواه؟.
وقوله: ( كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ
كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ) يقول: كذهابكم عنه أيها القوم, وانصرافكم عن الحقّ إلى
الباطل, والرشد إلى الضلال, ذهب عنه الذين كانوا من قبلكم من الأمم بآيات الله,
يعني: بحجج الله وأدلته يكذّبون فلا يؤمنون; يقول: فسلكتم أنتم معشر قريش مسلكهم,
وركبتم محجتهم في الضلال.
القول
في تأويل قوله تعالى : اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ
لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ
صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ
فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ( 64 ) هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ
فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( 65
)
يقول
تعالى ذكره: ( اللهُ
) الذي
له الألوهة خالصة أيها الناس (
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ ) التي
أنتم على ظهرها سكان (
قَرَارًا )
تستقرون عليها, وتسكنون فوقها, (
وَالسَّمَاءَ بِنَاءً ) :
بناها فرفعها فوقكم بغير عمد ترونها لمصالحكم, وقوام دنياكم إلى بلوغ آجالكم ( وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ
صُوَرَكُمْ ) يقول:
وخلقكم فأحسن خلقكم (
وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ) يقول:
ورزقكم من حلال الرزق, ولذيذات المطاعم والمشارب. وقوله: ( ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ ) يقول تعالى ذكره: فالذي فعل
هذه الأفعال, وأنعم عليكم أيها الناس هذه النعم, هو الله الذي لا تنبغي الألوهة
إلا له, وربكم الذي لا تصلح الربوبية لغيره, لا الذي لا ينفع ولا يضر, ولا يخلق
ولا يرزق (
فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) يقول: فتبارك الله مالك جميع الخلق جنهم وإنسهم, وسائر
أجناس الخلق غيرهم ( هُوَ
الْحَيُّ ) يقول:
هو الحي الذي لا يموت, الدائم الحياة, وكل شيء سواه فمنقطع الحياة غير دائمها ( لا إِلَهَ إِلا هُوَ ) يقول: لا معبود بحق تجوز
عبادته, وتصلح الألوهة له إلا الله الذي هذه الصفات صفاته, فادعوه أيها الناس
مخلصين له الدين, مخلصين له الطاعة, مفردين له الألوهة, لا تشركوا في عبادته شيئا
سواه, من وثن وصنم, ولا تجعلوا له ندا ولا عدلا ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) يقول: الشكر لله الذي هو مالك
جميع أجناس الخلق, من ملك وجن وإنس وغيرهم, لا للآلهة والأوثان التي لا تملك شيئا,
ولا تقدر على ضرّ ولا نفع, بل هو مملوك, إن ناله نائل بسوء لم يقدر له عن نفسه
دفعًا.
وكان
جماعة من أهل العلم يأمرون من قال: لا إله إلا الله, أن يتبع ذلك: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ ) تأولا
منهم هذه الآية, بأنها أمر من الله بقيل ذلك.
ذكر
من قال ذلك:
حدثني
محمد بن عليّ بن الحسن بن شقيق, قال: سمعت أبي, قال: أخبرنا الحسين بن واقد, قال:
ثنا الأعمش, عن مجاهد, عن ابن عباس, قال: من قال لا إله إلا الله, فليقل على
إثرها: الحمد لله ربّ العالمين, فذلك قوله: ( فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ
رَبِّ الْعَالَمِينَ ) .
حدثنا
عبد الحميد بن بيان السكري قال: ثنا محمد بن يزيد, عن إسماعيل, عن سعيد بن جبير,
قال: « إذا
قال أحدكم: لا إله إلا الله وحده لا شريك له, فليقل: الحمد لله ربّ العالمين, ثم
قال: (
فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) . »
حدثني
محمد بن عبد الرحمن, قال: ثنا محمد بن بشر, قال: ثنا إسماعيل بن أبي خالد, عن سعيد
بن جبير أنه كان يستحب إذا قال: لا إله إلا الله, يتبعها الحمد لله, ثم قرأ هذه
الآية: ( هُوَ
الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ
لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) .
حدثني
محمد بن عمارة, قال: ثنا عبيد الله بن موسى, قال: أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد, عن عامر,
عن سعيد بن جبير, قال: إذا قال أحدكم لا إله إلا الله وحده, فليقل بأثرها: الحمد
لله رب العالمين, ثم قرأ (
فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) .
القول
في تأويل قوله تعالى : قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ
أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ
مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ( 66 )
يقول
تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: قل يا محمد لمشركي قومك من
قريش (
إِنِّي نُهِيتُ ) أيها
القوم ( أَنْ
أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ) من الآلهة والأوثان ( لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي ) يقول: لما جاءني الآيات
الواضحات من عند ربي, وذلك آيات كتاب الله الذي أنـزله ( وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ
لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) يقول:
وأمرني ربي أن أذلّ لربّ كلّ شيء, ومالك كلّ خلق بالخضوع, وأخضع له بالطاعة دون
غيره من الأشياء.
القول
في تأويل قوله تعالى : هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ
تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلا ثُمَّ
لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى
مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ( 67 )
يقول
تعالى ذكره آمرًا نبيه محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بتنبيه مشركي قومه على
حججه عليهم في وحدانيته: قل يا محمد لقومك: أمرت أن أسلم لرب العالمين الذي صفته
هذه الصفات. وهي أنه خلق أباكم آدم ( مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ ) خلقكم ( مِنْ
نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ) بعد أن
كنتم نطفا ( ثُمَّ
يُخْرِجُكُمْ طِفْلا ) من
بطون أمهاتكم صغارا, ( ثُمَّ
لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ) ,
فتتكامل قواكم, ويتناهى شبابكم, وتمام خلقكم شيوخا ( وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى
مِنْ قَبْلُ ) أن
يبلغ الشيخوخة (
وَلِتَبْلُغُوا أَجَلا مُسَمًّى ) يقول:
ولتبلغوا ميقاتا مؤقتا لحياتكم, وأجلا محدودا لا تجاوزونه, ولا تتقدمون قبله ( وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) يقول: وكي تعقلوا حجج الله
عليكما بذلك, وتتدبروا آياته فتعرفوا بها أنه لا إله غيره فعل ذلك.
القول
في تأويل قوله تعالى : هُوَ الَّذِي يُحْيِي
وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ( 68 )
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ
( 69 )
يقول
تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: قل لهم يا محمد: ( هُوَ الَّذِي يُحْيِي
وَيُمِيتُ ) يقول
قل لهم: ومن صفته جلّ ثناؤه أنه هو الذي يحيي من يشاء بعد مماته, ويميت من يشاء من
الأحياء بعد حياته و ( إِذَا
قَضَى أَمْرًا ) يقول:
وإذا قضى كون أمر من الأمور التي يريد تكوينها ( فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ ) يعني للذي يريد تكوينه كن,
فيكون ما أراد تكوينه موجودا بغير معاناة, ولا كلفة مؤنة.
وقوله: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ
يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ ) يقول لنبيه محمد صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم ألم تر يا محمد هؤلاء المشركين من قومك, الذين يخاصمونك في حجج
الله وآياته (
أَنَّى يُصْرَفُونَ ) يقول:
أيّ وجه يصرفون عن الحق, ويعدلون عن الرشد.
كما
حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( أَنَّى يُصْرَفُونَ ) : أنى يكذبون ويعدلون.
حدثني
يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: ( أَنَّى يُصْرَفُونَ ) قال: يُصْرَفون عن الحقّ.
واختلف
أهل التأويل في الذين عنوا بهذه الآية, فقال بعضهم: عنى بها أهل القدر.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
محمد بن بشار ومحمد بن المثنى, قالا ثنا مؤمل, قال: ثنا سفيان, عن داود بن أبي
هند. عن محمد بن سيرين, قال: إن لم تكن هذه الآية نـزلت في القدرية, فإني لا أدري
فيمن نـزلت: (
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ ) إلى قوله: لَمْ نَكُنْ
نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ .
حدثني
عليّ بن سهل, قال: ثنا زيد بن أبي الزرقاء, عن سفيان, عن داود بن أبي هند, عن ابن
سيرين, قال: إن لم يكن أهل القدر الذين يخوضون في آيات الله فلا علم لنا به.
حدثني
يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرني مالك بن أبي الخير الزيادي, عن أبي قبيل,
قال: أخبرني عقبة بن عامر الجهني, أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم
قال: «
سَيَهْلِكُ مِنْ أُمَّتِي أهْلُ الكِتَابِ, وأهْلُ اللِّينِ » فقال عقبة: يا رسول الله, وما
أهل الكتاب؟ قال: « قَوْمٌ
يَتَعَلَّمُونَ كِتابَ الله يُجادلُونَ الَّذينَ آمَنُوا » , فقال عقبة: يا رسول الله,
وما أهل اللين؟ قال: « قَوْمٌ
يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ, ويُضَيِّعُونَ الصَّلَوَاتِ » . قال أبو قبيل: لا أحسب المكذّبين
بالقدر إلا الذين يجادلون الذين آمنوا, وأما أهل اللين, فلا أحسبهم إلا أهل العمود
ليس عليهم إمام جماعة, ولا يعرفون شهر رمضان.
وقال
آخرون: بل عنى به أهل الشرك.
ذكر
من قال ذلك:
حدثني
يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ
يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ ) قال: هؤلاء المشركون.
والصواب
من القول في ذلك ما قاله ابن زيد; وقد بين الله حقيقة ذلك بقوله: الَّذِينَ
كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا .
القول
في تأويل قوله تعالى : الَّذِينَ كَذَّبُوا
بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ( 70 )
إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ ( 71 ) فِي
الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ ( 72 ) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ
تُشْرِكُونَ ( 73 ) مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ
نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ ( 74 )
يقول
تعالى ذكره: ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنى يصرفون الذين كذّبوا بكتاب
الله, وهو هذا القرآن; و « الذين
» الثانية
في موضع خفض ردّا لها على « الذين
» الأولى
على وجه النعت (
وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا ) يقول: وكذّبوا أيضا مع تكذيبهم بكتاب الله بما أرسلنا به
رسلنا من إخلاص العبادة لله, والبراءة مما يعبد دونه من الآلهة والأنداد, والإقرار
بالبعث بعد الممات للثواب والعقاب. وقوله: ( فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الأغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ
وَالسَّلاسِلُ ) , وهذا
تهديد من الله المشركين به; يقول جلّ ثناؤه: فسوف يعلم هؤلاء الذين يجادلون في
آيات الله, المكذبون بالكتاب حقيقة ما تخبرهم به يا محمد, وصحة ما هم به اليوم
مكذّبون من هذا الكتاب, حين تجعل الأغلال والسلاسل في أعناقهم في جهنم. وقرأت
قراءة الأمصار: والسلاسل, برفعها عطفا بها على الأغلال على المعنى الذي بينَّت.
وذُكر عن ابن عباس أنه كان يقرؤه «
والسَّلاسِلَ يُسْحَبونَ » بنصب
السلاسل في الحميم. وقد حكي أيضا عنه أنه كان يقول: إنما هو وهم في السلاسل
يسحبون, ولا يجيز أهل ألعلم بالعربية خفض الاسم والخافض مضمر. وكان بعضهم يقول في
ذلك: لو أن متوهما قال: إنما المعنى: إذ أعناقهم في الأغلال والسلاسل يسحبون. حاز
الخفض في السلاسل على هذا المذهب, وقال: مثله, مما رد إلى المعنى. قول الشاعر:
قَــدْ
سَــالَم الحَيَّـاتُ مِنْـهُ القَدمَـا الأفْعُـــوَانَ والشُّــجاعَ الأرْقَمــا
فنصب
الشُّجاع والحيات قبل ذلك مرفوعة, لأن المعنى: قد سالمت رجله الحيات وسالمتها,
فلما احتاج إلى نصب القافية, جعل الفعل من القدم واقعا على الحيات.
والصواب
من القراءة عندنا فى ذلك ما عليه قراء الأمصار, لإجماع الحجة عليه, وهو رفع
السلاسل عطفا بها على ما في قوله: ( فِي أَعْنَاقِهِمْ ) من ذكر الأغلال.
وقوله: ( يُسْحَبُونَ ) يقول: يسحب هؤلاء الذين
كذّبوا في الدنيا بالكتاب زبانية العذاب يوم القيامة في الحميم, وهو ما قد انتهى
حَرُّه, وبلغ غايته.
وقوله ( ثُمَّ فِي النَّارِ
يُسْجَرُونَ ) يقول:
ثم في نار جهنم يحرقون, يقول: تسجر بها جهنم: أي توقد بهم.
وبنحو
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثني
محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن,
قال: ثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله: ( يُسْجَرُونَ ) قال: يوقد بهم النار.
حدثنا
محمد. قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ ( ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ ) قال: يحرقون في النار.
حدثني
يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال. قال ابن زيد, في قوله: ( ثُمَّ فِي النَّارِ
يُسْجَرُونَ ) قال:
يسجرون في النار: يوقد عليهم فيها.
وقوله: ( ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ
مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ) يقول: ثم قيل: أين الذين كنتم تشركون بعبادتكم إياها من دون
الله من آلهتكم وأوثانكم حتى يغيثوكم فينقذوكم مما أنتم فيه من البلاء والعذاب,
فإن المعبود يغيث من عبد وخدمه; وإنما يقال هذا لهم توبيخا وتقريعا على ما كان
منهم في الدنيا من الكفر بالله وطاعة الشيطان, فأجاب المساكين عند ذلك فقالوا:
ضلوا عنا: يقول: عدلوا عنا, فأخذوا غير طريقنا, وتركونا في هذا البلاء, بل ما ضلوا
عنا, ولكنا لم نكن ندعو من قبل في الدنيا شيئا: أي لم نكن نعبد شيئا; يقول الله
تعالى ذكره: (
كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ ) يقول: كما أضل هؤلاء الذين ضل عنهم في جهنم ما كانوا يعبدون
في الدنيا من دون الله من الآلهة والأوثان آلهتهم وأوثانهم, كذلك يضل الله أهل
الكفر به عنه, وعن رحمته وعبادته, فلا يرحمهم فينجيهم من النار, ولا يغيثهم فيخفف
عنهم ما هم فيه من البلاء.
القول
في تأويل قوله تعالى : ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ
تَفْرَحُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ ( 75 )
ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى
الْمُتَكَبِّرِينَ ( 76 )
يعني
تعالى ذكره بقوله: (
ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ) هذا الذي فعلنا اليوم بكم
أيها القوم من تعذيبناكم العذاب الذي أنتم فيه, بفرحكم الذي كنتم تفرحونه في
الدنيا, بغير ما أذن لكم به من الباطل والمعاصي, وبمرحكم فيها, والمرح: هو الأشر
والبطر .
وبنحو
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثني محمد
بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: ( بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ
فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ) إلى ( فَبِئْسَ مَثْوَى
الْمُتَكَبِّرِينَ ) قال:
الفرح والمرح: الفخر والخُيَلاء, والعمل في الأرض بالخطيئة, وكان ذلك في الشرك,
وهو مثل قوله لقارون: إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا
يُحِبُّ الْفَرِحِينَ وذلك في الشرك.
حدثني
محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن,
قال: ثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: ( بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ
فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ ) قال: تبطرون وتأشَرُون.
حدثنا
محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, قوله: ( تَمْرَحُونَ ) قال: تبطرون.
وقوله: ( ادْخُلُوا أَبْوَابَ
جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا ) يقول
تعالى ذكره لهم: ادخلوا أبواب جهنم السبعة من كل باب منها جزء مقسوم منكم ( فَبِئْسَ مَثْوَى
الْمُتَكَبِّرِينَ ) يقول:
فبئس منـزل المتكبرين في الدنيا على الله أن يوحدوه, ويؤمنوا برسله اليوم جهنم.
القول
في تأويل قوله تعالى : فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ
اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ
نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ( 77 )
يقول
تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: فاصبر يا محمد على ما
يجادلك به هؤلاء المشركون في آيات الله التي أنـزلناها عليك, وعلى تكذيبهم إياك,
فإن الله منجِز لك فيهم ما وعدك من الظفر عليهم, والعلو عليهم, وإحلال العقاب بهم,
كسنتنا في موسى بن عمران ومن كذّبه ( فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ ) يقول جلّ ثناؤه: فإما نرينك
يا محمد في حياتك بعض الذي نعد هؤلاء المشركين من العذاب والنقمة أن يحل بهم ( أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ ) قبل أن يَحِلَّ ذلك بهم ( فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ) يقول: فإلينا مصيرك ومصيرهم,
فنحكم عند ذلك بينك وبينهم بالحقّ بتخليدناهم في النار, وإكرامناك بجوارنا في جنات
النعيم.
القول
في تأويل قوله تعالى : وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلا
مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ
عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ
فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ
( 78 )
يقول
تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا ) يا محمد ( رُسُلا مِنْ قَبْلِكَ ) إلى أممها ( مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا
عَلَيْكَ ) يقول:
من أولئك الذين أرسلنا إلى أممهم من قصصنا عليك نبأهم ( وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ
نَقْصُصْ عَلَيْكَ ) نبأهم.
وذُكر عن
أنس أنهم ثمانية آلاف.
* ذكر الرواية بذلك:
حدثنا
عليّ بن شعيب السمسار, قال: ثنا معن بن عيسى, قال: ثنا إبراهيم بن المهاجر بن
مسمار, عن محمد بن المنكدر, عن يزيد بن أبان, عن أنس بن مالك, قال: بعث النبي
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بعد ثمانية آلاف من الأنبياء, منهم أربعة آلاف من
بني إسرائيل.
حدثنا
أبو كُرَيب قال: ثنا يونس, عن عتبة بن عتيبة البصريّ العبدي, عن أبي سهل عن وهب بن
عبد الله بن كعب بن سور الأزديّ, عن سلمان, عن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم قال: « بعث الله
أربعة آلاف نبيّ » .
حدثني
أحمد بن الحسين الترمذي, قال: ثنا آدم بن أبي إياس, قال: ثنا إسرائيل, عن جابر, عن
ابن عبد الله بن يحيى, عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه, في قوله: ( مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا
عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ ) قال: بعث الله عبدا حبشيا نبيا, فهو الذي لم نقصص عليك.
وقوله: ( وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ
يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّه ) يقول تعالى ذكره: وما جعلنا لرسول ممن أرسلناه من قبلك
الذين قصصناهم عليك, والذين لم نقصصهم عليك إلى أممها أن يأتي قومه بآية فاصلة بينه
وبينهم, إلا بإذن الله له بذلك, فيأتيهم بها; يقول جلّ ثناؤه لنبيه: فلذلك لم يجعل
لك أن تأتي قومك بما يسألونك من الآيات دون إذننا لك بذلك, كما لم نجعل لمن قبلك
من رسلنا إلا أن نأذن له به (
فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ ) يعني بالعدل, وهو أن ينجي رسله والذين آمنوا معهم ( وَخَسِرَ هُنَالِكَ
الْمُبْطِلُونَ ) يقول:
وهلك هنالك الذين أبطلوا في قيلهم الكذب, وافترائهم على الله وادعائهم له شريكا.
القول
في تأويل قوله تعالى : اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ
لَكُمُ الأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ( 79 ) وَلَكُمْ
فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا
وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ( 80 ) وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ
اللَّهِ تُنْكِرُونَ ( 81 )
يقول
تعالى ذكره: ( اللهُ
) الذي
لا تصلح الألوهة إلا له أيها المشركون به من قريش ( الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ
الأنْعَامَ ) من
الإبل والبقر والغنم والخيل, وغير ذلك من البهائم التي يقتنيها أهل الإسلام لمركب
أو لمطعم (
لِتَرْكَبُوا مِنْهَا ) يعني:
الخيل والحمير (
وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ) يعني
الإبل والبقر والغنم. وقال: (
لِتَرْكَبُوا مِنْهَا )
ومعناه: لتركبوا منها بعضا ومنها بعضا تأكلون, فحذف استغناء بدلالة الكلام على ما
حذف.
وقوله: ( وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ ) وذلك أن جعل لكم من جلودها
بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم, ويوم إقامتكم, ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا
ومتاعا إلى حين.
وقوله: ( وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا
حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ ) يقول:
ولتبلغوا بالحمولة على بعضها, وذلك الإبل حاجة في صدروكم لم تكونوا بالغيها لولا
هي, إلا بشق أنفسكم, كما قال جلّ ثناؤه: وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ
لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلا بِشِقِّ الأَنْفُسِ وبنحو الذي قلنا في ذلك قال
أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قوله: ( وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا
حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ ) يعني
الإبل تحمل أثقالكم إلى بلد.
حدثني
الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد ( وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا
حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ )
لحاجتكم ما كانت. وقوله: (
وَعَلَيْهَا ) يعني:
وعلى هذه الإبل, وما جانسها من الأنعام المركوبة ( وَعَلَى الْفُلْكِ ) يعني: وعلى السفن ( تُحْمَلُونَ ) يقول نحملكم على هذه في البر, وعلى هذه في البحر ( وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ ) يقول: ويريكم حججه, ( فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ
تُنْكِرُونَ ) يقول:
فأي حجج الله التي يريكم أيها الناس في السماء والأرض تنكرون صحتها, فتكذبون من
أجل فسادها بتوحيد الله, وتدعون من دونه إلها.
القول
في تأويل قوله تعالى : أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي
الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا
أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ فَمَا أَغْنَى
عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ( 82 )
يقول
تعالى ذكره: أفلم يسر يا محمد هؤلاء المجادلون في آيات الله من مشركي قومك في
البلاد, فإنهم أهل سفر إلى الشأم واليمن, رحلتهم في الشتاء والصيف, فينظروا فيما
وطئوا من البلاد إلى وقائعنا بمن أوقعنا به من الأمم قبلهم, ويروا ما أحللنا بهم
من بأسنا بتكذيبهم رسلنا, وجحودهم آياتنا, كيف كان عقبى تكذيبهم ( كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ ) يقول: كان أولئك الذين من قبل
هؤلاء المكذبيك من قريش أكثر عددا من هؤلاء وأشد بطشا, وأقوى قوة, وأبقى في الأرض
آثارا, لأنهم كانوا ينحتون من الجبال بيوتا ويتخذون مصانع.
وكان
مجاهد يقول في ذلك ما حدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء, عن ابن أبي
نجيح, عن مجاهد (
وَآثَارًا فِي الأرْضِ ) المشي
بأرجلهم. ( فَمَا
أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) يقول: فلما جاءهم بأسنا وسطوتنا, . لم يغن عنهم ما كانوا
يعملون من البيوت في الجبال, ولم يدفع عنهم ذلك شيئا. ولكنهم بادوا جميعا فهلكوا.
وقد قيل: إن معنى قوله: ( فَمَا
أَغْنَى عَنْهُمْ ) فأيّ
شيء أغني عنهم; وعلى هذا التأويل يجب أن يكون « ما » الأولى
في موضع نصب, والثانية في موضع رفع. يقول: فلهؤلاء المجادليك من قومك يا محمد في
أولئك معتبر إن اعتبروا, ومتعظ إن اتعظوا, وإن بأسنا إذا حلّ بالقوم المجرمين لم
يدفعه دافع, ولم يمنعه مانع, وهو بهم إن لم ينيبوا إلى تصديقك واقع.
القول
في تأويل قوله تعالى : فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ
رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ
مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ( 83 )
يقول
تعالى ذكره: فلما جاءت هؤلاء الأمم الذين من قبل قريش المكذّبة رسلها رُسُلُهُمْ
الذين أرسلهم الله إليهم بالبيّنات, يعني: بالواضحات من حجج عزّ وجلّ ( فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ
مِنَ الْعِلْمِ ) يقول:
فرحوا جهلا منهم بما عندهم من العلم وقالوا: لن نُبْعَثَ, ولن يُعذّبنا الله.
وبنحو
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثني
محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن,
قال: ثنا ورقاء جميعا, عن أبن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله ( فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ
مِنَ الْعِلْمِ ) قال:
قولهم: نحن أعلم منهم, لن نُعَذَّبَ, ولن نُبْعَثَ.
حدثنا
محمد بن الحسين, قال: ثنا أحمد بن المفضل, قال: ثنا أسباط, عن السديّ ( فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ
مِنَ الْعِلْمِ )
بجهالتهم .
وقوله: ( وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا
بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ) يقول:
وحاق بهم من عذاب الله ما كانوا يستعجلون رسلهم به استهزاء وسخرية.
وبنحو
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثني
محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن,
قال: ثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: ( وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا
بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ) ما
جاءتهم به رسلهم من الحقّ.
القول
في تأويل قوله تعالى : فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا
قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (
84 )
يقول
تعالى ذكره: فلما رأت هذه الأمم المكذّبة رسلها بأسنا, يعني عقاب الله الذي وعدتهم
به رسلُهم قد حلّ بهم.
كما
حدثنا محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ ( فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا ) قال: النقمات التي نـزلت بهم
.
وقوله ( قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ
وَحْدَهُ ) يقول:
قالوا: أقررنا بتوحيد الله, وصدقنا أنه لا آله غيره ( وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا
بِهِ مُشْرِكِينَ ) يقول:
وجحدنا الآلهة التي كنا قبل وقتنا هذا نشركها في عبادتنا الله ونعبدها معه,
ونتخذها آلهة, فبرئنا منها.
القول
في تأويل قوله تعالى : فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ
إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي
عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ ( 85 )
يقول
تعالى ذكره: فلم يك ينفعهم تصديقهم في الدنيا بتوحيد الله عند معاينة عقابه قد
نـزل, وعذابه قد حل, لأنهم صدقوا حين لا ينفع التصديق مصدقا, إذ كان قد مضى حكم
الله في السابق من علمه, أن من تاب بعد نـزول العذاب من الله على تكذيبه لم تنفعه
توبته.
وبنحو
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ
إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا ) : لما رأوا عذاب الله في الدنيا لم ينفعهم الإيمان عند ذلك.
وقوله: ( سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي
قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ ) يقول:
ترك الله تبارك وتعالى إقالتهم, وقبول التوبة منهم, ومراجعتهم الإيمان بالله,
وتصديق رسلهم بعد معاينتهم بأسه, قد نـزل بهم سنته التي قد مضت في خلقه, فلذلك لم
يقلهم ولم يقبل توبتهم في تلك الحال.
كما
حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي
قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ ) يقول:
كذلك كانت سنة الله في الذين خلوا من قبل إذا عاينوا عذاب الله لم ينفعهم إيمانهم
عند ذلك.
وقوله: ( وَخَسِرَ هُنَالِكَ
الْكَافِرُونَ ) يقول:
وهلك عند مجيء بأس الله, فغبنت صفقته ووضُع في بيعه الآخرة بالدنيا, والمغفرة
بالعذاب, والإيمان بالكفر, الكافرون بربهم الجاحدون توحيد خالقهم, المتخذون من
دونه آلهة يعبدونهم من دون بارئهم
آخر
تفسير سورة حم المؤمن