تفسير سورة والمرسلات
بسم الله الرحمن الرحيم
القول
في تأويل قوله تعالى : وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا ( 1
) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا ( 2 ) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا ( 3 ) فَالْفَارِقَاتِ
فَرْقًا ( 4 ) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا ( 5 ) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا ( 6 ) .
اختلف
أهل التأويل في معنى قول الله: (
وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا ) فقال
بعضهم: معنى ذلك: والرياح المرسلات يتبع بعضها بعضا، قالوا: والمرسَلات: هي
الرياح.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
أبو كُريب، قال: ثنا المحاربي، عن المسعودي، عن سَلَمة بن كهَيل، عن أبي العُبيدين
أنه سأل ابن مسعود فقال: (
وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا ) قال:
الريح.
حدثنا
خلاد بن أسلم، قال: ثنا النضر بن شميل، قال: أخبرنا المسعودي، عن سَلَمة بن كهيل،
عن أبي العُبيدين أنه سأل عبد الله بن مسعود، فذكر نحوه.
حدثنا
ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن مسلم، عن أبي العُبيدين،
قال: سألت عبد الله بن مسعود، فذكر نحوه.
حدثني
محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس،
قوله: (
وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا ) يعني:
الريح.
حدثنا
محمد بن المثنى، قال: ثنا عبيد الله بن معاذ، قال: ثني أبي، عن شعبة، عن إسماعيل
السدي، عن أبي صالح صاحب الكلبي في قوله: ( وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا ) قال: هي الرياح.
حدثنا
ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا ) قال: الريح.
حدثنا
أبو كُريب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
قال: ثنا
وكيع، عن سفيان، عن سَلَمة بن كهيل، عن مسلم البطين، عن أبي العُبيدين، قال: سألت
عبد الله عن (
المُرْسَلاتِ عُرْفا ) قال:
الريح.
ثنا بشر،
قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ( وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا ) قال: هي الريح.
حدثنا
ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، مثله.
وقال
آخرون: بل معنى ذلك: والملائكة التي تُرسَل بالعرف.
ذكر
من قال ذلك:
حدثني
أبو السائب، قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مسلم، قال: كان مسروق يقول في
المرسلات: هي الملائكة.
حدثنا
إسرائيل بن أبي إسرائيل، قال: أخبرنا النضر بن شميل، قال: ثنا شعبة، عن سليمان،
قال: سمعت أبا الضحى، عن مسروق، عن عبد الله في قوله: ( وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا ) قال: الملائكة.
حدثنا
أبو كُريب، قال: ثنا جابر بن نوح ووكيع عن إسماعيل، عن أبي صالح في قوله: ( وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا ) قال: هي الرسل ترسل بالعُرف.
حدثنا
عبد الحميد بن بيان السكري، قال: ثنا محمد بن يزيد، عن إسماعيل، قال: سألت أبا
صالح عن قوله: (
وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا ) قال:
هي الرسل ترسل بالمعروف؛ قالوا: فتأويل الكلام: والملائكة التي أرسلت بأمر الله
ونهيه، وذلك هو العرف.
وقال
بعضهم: عُني بقوله (
عُرْفا ) :
متتابعا كعرف الفرس، كما قالت العرب: الناس إلى فلان عرف واحد، إذا توجهوا إليه
فأكثروا.
ذكر
من قال ذلك:
حدثت عن
داود بن الزبرقان، عن صالح بن بريدة، في قوله: ( عُرْفا ) قال:
يتبع بعضها بعضا.
والصواب
من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله تعالى ذكره أقسم بالمرسلات عرفا، وقد ترسل
عُرْفا الملائكة، وترسل كذلك الرياح، ولا دلالة تدلّ على أن المعنيّ بذلك أحد
الحِزْبين دون الآخر، وقد عمّ جلّ ثناؤه بإقسامه بكل ما كانت صفته ما وصف، فكلّ من
كان صفته كذلك، فداخل في قسمه ذلك مَلَكا أو ريحا أو رسولا من بني آدم مرسلا.
وقوله: ( فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا ) يقول جلّ ذكره: فالرياح
العاصفات عصفا، يعني: الشديدات الهبوب السريعات الممرّ.
وبنحو
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
هناد، قال: ثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن خالد، عن عُرْعرة أن رجلا قام إلى عليّ
رضي الله عنه، فقال: ما العاصفات عصفا؟ قال: الريح.
حدثنا
أبو كُريب، قال: ثنا المحاربي، عن المسعودي، عن سَلَمة بن كهيل، عن أبي العُبيدين
أنه سأل عبد الله بن مسعود، فقال: ما العاصفات عصفا؟ قال: الريح.
حدثنا
خلاد بن أسلم، قال: أخبرنا النضر بن شميل، قال: أخبرنا المسعودي، عن سلمة بن كهيل،
عن أبي العُبيدين، عن عبد الله، مثله.
حدثنا
ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن مسلم البطين، عن أبي
العُبيدين قال: سألت عبد الله بن مسعود، فذكر مثله.
حدثنا
أبو كُريب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن مسلم البطين، عن أبي
العُبيدين، قال: سألت عبد الله، فذكر مثله.
حدثني
محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس،
قال: (
فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا ) قال:
الريح.
حدثنا
أبو كُريب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
حدثنا
أبو كُريب، قال: ثنا جابر بن نوح، عن إسماعيل، عن أبي صالح ( فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا ) قال: هي الرياح.
حدثنا
عبد الحميد بن بَيَان، قال: أخبرنا محمد بن يزيد، عن إسماعيل قال: سألت أبا صالح
عن قوله: (
فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا ) قال:
هي الرياح.
حدثنا
محمد بن المثنى، قال: ثنا عبيد الله بن معاذ، قال: ثني أبي، عن شعبة، عن إسماعيل
السدي عن أبي صالح صاحب الكلبي، في قوله: ( فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا ) قال: هي الرياح.
حدثنا
إبراهيم بن سعيد الجوهري، قال: ثنا أبو معاوية الضرير وسعيد بن محمد، عن إسماعيل
بن أبي خالد، عن أبي صالح، في قوله: ( فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا ) قال: هي الريح.
حدثنا
أبو كُريب، قال: ثنا وكيع، عن إسماعيل، عن أبي صالح، مثله.
قال: ثنا
وكيع، عن إسرائيل، عن سماك، عن خالد بن عُرْعرة، عن عليّ رضي الله عنه ( فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا ) قال: الريح.
حدثنا
بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ( فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا ) قال: الرياح.
حدثنا
ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، مثله.
وقوله: ( وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا ) اختلف أهل التأويل في تأويل
ذلك، فقال بعضهم: عُني بالناشرات نَشْرًا: الريح.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
أبو كُريب، قال: ثنا المحاربي، عن المسعودي، عن سَلَمة بن كهيل، عن أبي العُبيدين
أنه سأل ابن مسعود عن (
النَّاشِرَاتِ نَشْرًا ) قال:
الريح.
حدثنا خلاد
بن أسلم، قال: أخبرنا النضر بن شميل، قال: أخبرنا المسعودي، عن سَلَمة بن كهيل، عن
أبي العُبيدين، عن ابن مسعود، مثله.
حدثنا
ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن مسلم، عن أبي العُبيدين،
قال: سألت عبد الله بن مسعود، فذكر مثله.
حدثنا أبو
كُريب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن سَلَمة بن كهيل، عن مسلم البطين، عن أبي
العُبيدين، قال: سألت عبد الله، فذكر مثله.
قال: ثنا
وكيع، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا ) قال: الريح.
حدثنا
ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
حدثنا
ابن المثنى، قال: ثنا عبيد الله بن معاذ، قال: ثنا أبي، عن شعبة، عن إسماعيل
السدي، عن أبي صالح صاحب الكلبي، في قوله: ( وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا ) قال: هي الرياح.
حدثنا
ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة ( وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا ) قال: الرياح.
وقال
آخرون: هي المطر.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
عبد الحميد بن بيان، قال: ثنا محمد بن يزيد، عن إسماعيل، قال: سألت أبا صالح، عن
قوله: (
وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا ) قال
المطر.
حدثنا
أبو كُريب، قال: ثنا جابر بن نوح، عن إسماعيل، عن أبي صالح ( وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا ) قال: هي المطر.
قال: ثنا
وكيع، عن إسماعيل، عن أبي صالح، مثله.
وقال
آخرون: بل هي الملائكة التي تنشرُ الكتب.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
أحمد بن هشام، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن السدي، عن أبي صالح ( وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا ) قال: الملائكة تنشرُ الكتب.
وأولى
الأقوال في ذلك عندنا بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره أقسم بالناشرات نشرا،
ولم يَخْصُص شيئا من ذلك دون شيء، فالريح تنشر السحاب، والمطر ينشر الأرض،
والملائكة تنشر الكتب، ولا دلالة من وجه يجب التسليم له على أن المراد من ذلك بعض
دون بعض، فذلك على كل ما كان ناشرا.
وقوله: ( فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا ) اختلف أهل التأويل في معناه،
فقال بعضهم: عُنِي: بذلك: الملائكة التي تفرق بين الحق والباطل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
أبو كُريب، قال: ثنا جابر بن نوح، عن إسماعيل، عن أبي صالح ( فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا ) قال: الملائكة.
قال: ثنا
وكيع، عن إسماعيل، عن أبي صالح (
فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا ) قال:
الملائكة.
قال: ثنا
وكيع، عن إسماعيل، مثله.
حدثني محمد
بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس ( فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا ) قال: الملائكة.
وقال
آخرون: بل عُنِي بذلك القرآن.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا ) يعني القرآن ما فرق الله فيه بين الحقّ والباطل.
والصواب
من القول في ذلك أن يقال: أقسم ربنا جلّ ثناؤه بالفارقات، وهي الفاصلات بين الحق
والباطل، ولم يخصص بذلك منهنّ بعضا دون بعض، فذلك قَسَم بكلّ فارقة بين الحقّ
والباطل، مَلَكا كان أو قرآنا، أو غير ذلك.
وقوله: ( فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا ) يقول: فالمبلِّغات وحي الله
رسله، وهي الملائكة.
وبنحو
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثني
محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس ( فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا ) يعني: الملائكة.
حدثنا
بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا ) قال: هي الملائكة تلقي الذكر على الرسل وتبلغه.
حدثنا
ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة ( فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا ) قال: الملائكة تلقي القرآن.
حدثنا
ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان ( فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا ) قال: الملائكة.
وقوله: ( عُذْرًا أَوْ نُذْرًا ) يقول تعالى ذكره: فالملقيات
ذكرا إلى الرسل إعذارا من الله إلى خلقه، وإنذارا منه لهم.
وبنحو
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا ابن
عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة ( عُذْرًا أَوْ نُذْرًا ) قال: عذرًا من الله، ونُذْرا
منه إلى خلقه.
حدثنا
بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ( عُذْرًا أَوْ نُذْرًا ) : عذرا لله على خلقه، ونذرًا
للمؤمنين ينتفعون به، ويأخذون به.
حدثني
محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس ( عُذْرًا أَوْ نُذْرًا ) يعني: الملائكة.
واختلفت
القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء المدينة والشام وبعض المكيين وبعض
الكوفيين: (
عُذْرًا )
بالتخفيف، أو نُذْرا بالتثقيل: وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة وبعض البصريين
بتخفيفهما، وقرأه آخرون من أهل البصرة بتثقيلهما والتخفيف فيهما أعجب إليّ وإن لم
أدفع صحة التثقيل لأنهما مصدران بمعنى الإعذار والإنذار.
القول
في تأويل قوله تعالى : إِنَّمَا تُوعَدُونَ
لَوَاقِعٌ ( 7 ) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ ( 8 ) وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (
9 ) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ ( 10 ) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ ( 11 )
لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ ( 12 ) لِيَوْمِ الْفَصْلِ ( 13 ) وَمَا أَدْرَاكَ مَا
يَوْمُ الْفَصْلِ ( 14 ) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ( 15 ) .
يقول
تعالى ذكره: والمرسلات عرفا، إن الذي توعدون أيها الناس من الأمور لواقع، وهو كائن
لا محالة، يعني بذلك يوم القيامة، وما ذكر الله أنه أعدّ لخلقه يومئذ من الثواب
والعذاب.
وقوله: ( فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ
) يقول:
فإذا النجوم ذهب ضياؤها، فلم يكن لها نور ولا ضوء ( وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ
) يقول:
وإذا السماء شقِّقت وصدّعت (
وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ ) يقول:
وإذا الجبال نسفت من أصلها، فكانت هباء منبثا ( وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ ) يقول تعالى ذكره: وإذا الرسل
أجلت للاجتماع لوقتها يوم القيامة.
وبنحو
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثني
محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس،
قوله: (
وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ ) يقول:
جمعت.
حدثني
محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن،
قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: ( أُقِّتَتْ ) قال: أُجِّلَتْ.
حدثنا
ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، قال: قال مجاهد ( وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ
) قال:
أجلت.
حدثنا أبو
كُريب، قال: ثنا وكيع ؛ وحدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، جميعا عن سفيان، عن
منصور عن إبراهيم (
وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ ) قال:
أُوعِدَت.
حدثني
يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: ( وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ
) قال: أُقتت
ليوم القيامة، وقرأ: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ قال: والأجل: الميقات،
وقرأ: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ
، وقرأ: إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ قال: إلى يوم القيامة، قال: لهم أجل إلى
ذلك اليوم حتى يبلغوه.
حدثنا
ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم، في قوله: ( وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ
) قال:
وعدت.
واختلفت
القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء المدينة غير أبي جعفر، وعامة قرّاء
الكوفة: (
أُقِّتَتْ ) بالألف
وتشديد القاف، وقرأه بعض قرّاء البصرة بالواو وتشديد القاف ( وُقِّتَتْ ) وقرأه أبو جعفر ( وُقِتَتْ ) بالواو وتخفيف القاف.
والصواب
من القول في ذلك أن يقال: إن كل ذلك قراءات معروفات ولغات مشهورات بمعنى واحد،
فبأيتها قرأ القارئ فمصيب، وإنما هو فُعِّلَتْ من الوقت، غير أن من العرب من
يستثقل ضمة الواو، كما يستثقل كسرة الياء في أوّل الحرف فيهمزها، فيقول: هذه أجوه
حسان بالهمزة، وينشد بعضهم:
يَحُـــل
أحِــيدَهُ ويُقــالُ بَعْــلٌ ومِثْـــلُ تَمَــوُّلٍ مِنْــهُ افْتِقــارُ
وقوله: ( لأيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ ) يقول تعالى ذكره مُعَجِّبًا
عباده من هول ذلك اليوم وشدّته: لأيِّ يوم أجِّلت الرسل ووقِّتت، ما أعظمه وأهوله؛
ثم بين ذلك: وأيّ يوم هو؟ فقال: أجلت ( لِيَوْمِ الْفَصْلِ ) يقول: ليوم يفصل الله فيه بين خلقه القضاء، فيأخذ للمظلوم
من الظالم، ويجزي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته.
وبنحو
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( لأيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ لِيَوْمِ الْفَصْلِ ) يوم يفصل فيه بين الناس
بأعمالهم إلى الجنة وإلى النار.
وقوله: ( وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ
الْفَصْلِ ) يقول
تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وأيّ شيء أدراك يا محمد ما يوم الفصل،
معظما بذلك أمره، وشدّة هوله.
كما
حدثني بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ
الْفَصْلِ ) تعظيما
لذلك اليوم.
وقوله: ( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ ) يقول
تعالى ذكره: الوادي الذي يسيل في جهنم من صديد أهلها للمكذّبين بيوم الفصل.
حدثنا
بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) ويل والله طويل.
القول
في تأويل قوله تعالى : أَلَمْ نُهْلِكِ الأَوَّلِينَ
( 16 ) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآخِرِينَ ( 17 ) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ
( 18 ) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ( 19 ) .
يقول
تعالى ذكره: ألم نهلك الأمم الماضين الذين كذّبوا رسلي، وجحدوا آياتي من قوم نوح
وعاد وثمود، ثم نتبعهم الآخرين بعدهم، ممن سلك سبيلهم في الكفر بي وبرسولي، كقوم
إبراهيم وقوم لوط، وأصحاب مدين، فنهلكهم كما أهلكنا الأوّلين قبلهم، ( كَذَلِكَ نَفْعَلُ
بِالْمُجْرِمِينَ ) يقول
كما أهلكنا هؤلاء بكفرهم بي، وتكذيبهم برسلي، كذلك سنتي في أمثالهم من الأمم
الكافرة، فنهلك المجرمين بإجرامهم إذا طغوا وبغوا ( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ ) بأخبار
الله التي ذكرناها في هذه الآية، الجاحدين قُدرته على ما يشاء.
القول
في تأويل قوله تعالى : أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ
مَاءٍ مَهِينٍ ( 20 ) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ( 21 ) إِلَى قَدَرٍ
مَعْلُومٍ ( 22 ) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ ( 23 ) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ ( 24 ) .
يقول
تعالى ذكره: (
أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ ) أيها
الناس ( مِنْ
مَاءٍ مَهِينٍ ) يعني:
من نطفة ضعيفة.
كما
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن
عباس، قوله: أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ يعنى بالمهين: الضعيف.
وقوله: ( فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ
مَكِينٍ ) يقول:
فجعلنا الماء المَهِين في رحمٍ استقرّ فيها فتمكن.
وبنحو
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثني
محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن،
قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: ( فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ) قال: الرحم.
وقوله: ( إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ ) يقول: إلى وقت معلوم لخروجه
من الرحم عند الله، (
فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ ) اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء المدينة ( فَقَدَّرْنا ) بالتشديد. وقرأ ذلك عامة
قرّاء الكوفة والبصرة بالتخفيف.
والصواب
من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب، وإن كنت أوثر
التخفيف لقوله: ( فَنِعْمَ
الْقَادِرُونَ ) إذ
كانت العرب قد تجمع بين اللغتين، كما قال: فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ
رُوَيْدًا فجمع بين التشديد والتخفيف، كما قال الأعشى:
وأنْكَـرَتْنِي
ومـا كـانَ الَّـذِي نَكِـرَتْ مِـنَ الْحَـوَادِثِ إلا الشَّـيْبَ والصَّلعَـا
وقد يجوز
أن يكون المعنى في التشديد والتخفيف واحدا. فإنه محكيّ عن العرب، قُدِر عليه
الموت، وقُدِّر - بالتخفيف والتشديد.
وعني
بقوله: (
فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ ) ما حدثنا به ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن ابن المبارك غن
جويبر، عن الضحاك (
فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ ) قال: فملكنا فنعم المالكون.
وقوله: ( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ ) يقول
جلّ ثناؤه: ويل يومئذ للمكذّبين بأن الله خلقهم من ماء مهين.
القول
في تأويل قوله تعالى : أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ
كِفَاتًا ( 25 ) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا ( 26 )
وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا ( 27 )
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ( 28 ) .
يقول
تعالى ذكره: منبها عباده على نعمه عليهم: ( أَلَمْ نَجْعَلِ ) أيها الناس ( الأَرْضَ ) لكم ( كِفَاتًا ) يقول: وعاء، تقول: هذا كفت
هذا وكفيته، إذا كان وعاءه.
وإنما
معنى الكلام: ألم نجعل الأرض كِفاتَ أحيائكم وأمواتكم، تكْفِت أحياءكم في المساكن
والمنازل، فتضمهم فيها وتجمعهم، وأمواتَكم في بطونها في القبور، فيُدفَنون فيها.
وجائز أن
يكون عُني بقوله: (
كِفَاتًا * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا ) تكفت أذاهم في حال حياتهم، وجيفهم بعد مماتهم.
وبنحو
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثني
عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله: ( أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ
كِفَاتًا ) يقول:
كِنًّا.
حدثنا
عبد الحميد بن بيان، قال: أخبرنا خالد، عن مسلم، عن زاذان أبي عمر، عن الربيع بن
خثيم، عن عبد الله بن مسعود، أنه وجد قملة في ثوبه، فدفنها في المسجد ثم قال: ( أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ
كِفَاتًا * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا ) .
حدثنا
أبو كُريب، قال: ثنا أبو معاوية، قال: ثنا مسلم الأعور، عن زاذان، عن ربيع بن
خثيم، عن عبد الله، مثله.
حدثني
يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن ليث، قال: قال مجاهد في الذي يرى القملة في ثوبه وهو
في المسجد، ولا أدري قال في صلاة أم لا إن شئت فألقها، وإن شئت فوارها ( أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ
كِفَاتًا * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا ) .
حدثنا
أبو كُريب، قال: ثنا وكيع، عن شريك، عن بيان، عن الشعبيّ ( أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ
كِفَاتًا* أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا ) قال: بطنها لأمواتكم، وظهرها
لأحيائكم.
حدثنا
ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن عثمان بن الأسود، عن مجاهد ( أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ
كِفَاتًا ) قال:
تكفت أذاهم (
أَحْيَاءً ) تواريه
( وَأَمْوَاتًا ) يدفنون: تكفتهم.
وقد
حدثني به ابن حميد مرّة أخرى، فقال: ثنا مهران، عن سفيان، عن عثمان بن الأسود، عن
مجاهد (
أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا ) قال: تكفت أذاهم وما يخرج منهم ( أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا ) قال: تكفتهم في الأحياء والأموات.
حدثني
محمد بن عمرو، قال: تنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن،
قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ
كِفَاتًا * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا ) قال: أحياء يكونون فيها، قال
محمد بن عمرو: يغيبون فيها ما أرادوا، وقال الحارث: ويغيبون فيها ما أرادوا.
وقوله: (
أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا ) قال: يدفنون فيها.
حدثنا
بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ( أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ
كِفَاتًا * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا ) يسكن فيها حيهم، ويدفن فيها
ميتهم.
حدثنا
ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة ( أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا ) قال: أحياء فوقها على ظهرها، وأمواتا يُقبرون فيها.
واختلف
أهل العربية في الذي نصب ( أَحْيَاءً
وَأَمْوَاتًا ) فقال بعض نحويي البصرة: نصب
على الحال. وقال بعض نحويي الكوفة: بل نصب ذلك بوقوع الكفات عليه، كأنك قلت: ألم
نجعل الأرض كفات أحياء وأموات، فإذا نوّنت نصبت كما يقرأ من يقرأ أَوْ إِطْعَامٌ
فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ وهذا القول أشبه عندي
بالصواب.
وقوله: ( وَجَعَلْنَا فِيهَا
رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ ) يقول
تعالى ذكره: وجعلنا في الأرض جبالا ثابتات فيها، باذخات شاهقات.
كما
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَجَعَلْنَا فِيهَا
رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ ) يعني
الجبال.
حدثني
عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: ( رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ ) يقول: جبالا مشرفات.
وقوله: ( وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً
فُرَاتًا ) يقول:
وأسقيناكم ماء عذبا.
وبنحو
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثني
عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس ( وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً
فُرَاتًا ) يقول:
عذبا.
حدثني
محمد بن عمرو، قال: ثني أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال:
ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: ( مَاءً فُرَاتًا ) قال: عذبا.
حدثنا
بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا ) : أي ماء عذبا.
حدثنا
محمد بن سنان القزّاز، قال: ثنا أبو عاصم، عن شبيب، عن عكرِمة، عن ابن عباس: ( وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً
فُرَاتًا ) قال:
من أربعة أنهار: سيحانَ، وجيحان، والنيلِ، والفراتِ، وكل ماء يشربه ابن آدم، فهو
من هذه الأنهار، وهي تخرج من تحت صخرة من عند بيت المقدس، وأما سيحان فهو ببلخ،
وأما جيحان فدجلة، وأما الفرات ففرات الكوفة، وأما النيل فهو بمصر.
وقوله: ( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ ) يقول:
ويل يومئذ للمكذّبين بهذه النعم التي أنعمتها عليكم من خلقي الكافرين بها.
القول
في تأويل قوله تعالى : انْطَلِقُوا إِلَى مَا
كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ( 29 ) انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (
30 ) لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ ( 31 ) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ
كَالْقَصْرِ ( 32 ) كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ ( 33 ) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ ( 34 ) .
يقول
تعالى ذكره لهؤلاء المكذّبين بهذه النَّعم والحجج التي احتجّ بها عليهم يوم
القيامة: (
انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ ) في الدنيا ( تُكَذِّبُونَ ) من عذاب الله لأهل الكفر به ( انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي
ثَلاثِ شُعَبٍ ) يعني
تعالى ذكره: إلى ظلّ دخان ذي ثلاث شعب ( لا ظَلِيلٍ ) ، وذلك أنه يرتفع من وقودها الدخان فيما ذُكر، فإذا تصاعد
تفرّق شعبا ثلاثا، فذلك قوله: ( ذِي
ثَلاثِ شُعَبٍ ) .
حدثني
محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن،
قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: ( إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ
شُعَبٍ ) قال:
دخان جهنم.
حدثنا
ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة ( ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ ) قال: هو كقوله: نَارًا
أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا قال: والسرادق: دخان النار، فأحاط بهم سرادقها، ثم
تفرّق، فكان ثلاث شعب، فقال: انطلقوا إلى ظلّ ذي ثلاث شعب: شعبة هاهنا، وشعبة
هاهنا، وشعبة هاهنا ( لا
ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ ) .
وقوله: ( لا ظَلِيلٍ ) يقول: لا هو يظلهم من حرّها ( وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ
) ولا
يُكِنُّهم من لهبها.
وقوله: ( إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ
كَالْقَصْرِ ) يقول
تعالى ذكره: إن جهنم ترمي بشرر كالقصر، فقرأ ذلك قرّاء الأمصار: ( كَالْقَصْرِ ) بجزم الصاد.
واختلف
الذين قرءوا ذلك كذلك في معناه، فقال بعضهم: هو واحد القصور.
ذكر
من قال ذلك:
حدثني
عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: ( إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ
كَالْقَصْرِ ) يقول:
كالقصر العظيم.
حدثنا
ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن خصيف، عن مجاهد ( إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ
كَالْقَصْرِ ) قال:
ذكر القصر .
حدثني
يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يزيد بن يونس، عن أبي صخر في قول الله: ( إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ
كَالْقَصْرِ ) قال:
كان القرظي يقول: إن على جهنم سورا فما خرج من وراء السور مما يرجع فيها في عظم
القصر، ولون القار.
وقال
آخرون: بل هو الغليظ من الخشب، كأصول النخل وما أشبه ذلك.
ذكر
من قال ذلك.
حدثنا
وكيع، عن سفيان، عن عبد الرحمن بن عابس، قال: سألت ابن عباس عن قوله: ( إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ
كَالْقَصْرِ ) قال:
القصر: خشب كنا ندّخره للشتاء ثلاث أذرع، وفوق ذلك، ودون ذلك كنا نسميه القصر.
حدثنا
ابن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، قال: سمعت عبد الرحمن بن عابس، قال:
سمعت ابن عباس يقول في قوله: (
إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ ) قال: القصر: خشب كان يُقْطع في الجاهلية ذراعا وأقلّ أو
أكثر، يُعْمَد به.
حدثنا
ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن عبد الرحمن بن عابس، قال: سمعت ابن عباس
يقول في قوله: (
إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ ) قال: كنا في الجاهلية نقصر ذراعين أو ثلاث أذرع، وفوق ذلك
ودون ذلك نسميه القصر.
حدثني
محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس،
قوله: (
إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ ) فالقصر: الشجر المقطع، ويقال: القصر: النخل المقطوع.
حدثني
محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن،
قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: ( كَالْقَصْرِ ) قال: حزم الشجر، يعني الحزمة.
حدثنا
ابن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا ابن أبي عديّ، عن شعبة، عن أبي بشر، عن
سعيد بن جُبير، عن ابن عباس في هذه الآية ( إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ ) قال: مثل قَصْر النخلة.
حدثنا
بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ( إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ
كَالْقَصْرِ ) أصول
الشجر، وأصول النخل.
حدثنا
ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة ( بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ ) قال: كأصل الشجر.
حُدثت عن
الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: ( بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ ) القصر: أصول الشجر العظام،
كأنها أجواز الإبل الصفر وسط كل شيء جوزُه، وهي الأجواز.
حدثنا
أحمد بن يوسف، قال: ثنا القاسم، قال: ثنا حجاج، عن هارون، قال: قرأها الحسن: ( كَالْقَصْرِ ) وقال: هو الجزل من الخشب قال:
واحدته: قصرة وقصر، مثله: جمرة وجمر، وتمرة وتمر.
وذُكر عن
ابن عباس أنه قرأ ذلك (
كَالْقَصْرِ ) بتحريك
الصاد.
حدثني
أحمد بن يوسف، قال: ثنا القاسم، قال: ثنا حجاج، عن هارون، قال: أخبرني حسين
المعلم، عن أبي بشر، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس أنه قرأها ( كَالْقَصْرِ ) بفتح القاف والصاد.
قال:
وقال هارون: أخبرني أبو عمر أن ابن عباس قرأها: ( كَالْقَصْرِ ) وقال: قصر النخل، يعني الأعناق.
وأولى
القراءتين بالصواب في ذلك عندنا ما عليه قرّاء الأمصار، وهو سكون الصاد، وأولى
التأويلات به أنه القصر من القصور، وذلك لدلالة قوله: ( كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ ) على صحته، والعرب تشبه الإبل
بالقصور المبنية، كما قال الأخطل في صفة ناقة:
كأنهــا
بُــرْجُ رُومــيٍّ يُشَــيِّدُه لُــزَّ بِجــصّ وآجُــرٍّ وأحْجــارِ
وقيل: ( بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ ) ولم يقل كالقصور، والشرر جمع،
كما قيل: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ولم يقل الأدبار، لأن الدبر
بمعنى الأدبار، وفعل ذلك توفيقا بين رءوس الآيات ومقاطع الكلام، لأن العرب تفعل
ذلك كذلك، وبلسانها نـزل القرآن. وقيل: كالقصر، ومعنى الكلام: كعظم القصر، كما
قيل: تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ولم يقل:
كعيون الذي يغشى عليه، لأن المراد في التشبيه الفعل لا العين.
حدثنا
محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن عطاء بن السائب، أنه
سأل الأسود عن هذه الآية: (
تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ ) فقال:
مثل القصر.
وقوله: ( جِمَالَةٌ صُفْرٌ ) اختلف أهل التأويل في تأويل
ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك: كأن الشرر الذي ترمي به جهنم كالقصر جِمالات سود: أي
أينق سود؛ وقالوا: الصفر في هذا الموضع، بمعنى السود قالوا: وإنما قيل لها صفر
وهِي سود، لأن ألوان الإبل سود تضرب إلى الصفرة، ولذلك قيل لها صُفْر، كما سميت
الظباء أدما، لما يعلوها في بياضها من الظلمة.
ذكر
من قال ذلك:
حدثني
أحمد بن عمرو البصري، قال: ثنا بدل بن المحبِّر، قال: ثنا عباد بن راشد، عن داود
بن أبي هند، عن الحسن (
كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ ) قال:
الأينق السود.
حدثنا
بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ ) كالنوق السود الذي رأيتم.
حدثنا
ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: ( جِمَالَةٌ صُفْرٌ ) قال: نوق سود.
حدثنا
ابن حميد، قال: ثنا مهران؛ وحدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، جميعا عن سفيان، عن
خصيف، عن مجاهد (
كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ ) قال: هي
الإبل.
قال: ثنا
مهران، عن سعيد، عن قتادة (
كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ ) قال:
كالنوق السود الذي رأيتم.
وقال
آخرون: بل عُني بذلك: قُلُوس السفن، شبَّه بها الشرر.
ذكر
من قال ذلك:
حدثني
محمد بن سعيد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس ( كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ ) فالجِمالات الصفر: قلوس السفن
التي تجمع فتوثق بها السفن.
حدثنا
أبو كُريب، قال: ثنا وكيع، عن سعيد، عن عبد الرحمن بن عابس، قال: سألت ابن عباس عن
قوله: (
كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ ) قال:
قُلُوس سفن البحر يجمل بعضها على بعض، حتى تكون كأوساط الرجال.
حدثنا
ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن عبد الرحمن بن عابس، قال: سمعت ابن عباس
سئل عن (
جِمَالَةٌ صُفْرٌ ) فقال:
حبال السفن يجمع بعضها إلى بعض حتى تكون كأوساط الرجال.
حدثنا
ابن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، قال: سمعت عبد الرحمن بن عابس، قال: ثنا
عبد الملك بن عبد الله، قال: ثنا هلال بن خباب، عن سعيد بن جُبير، في قوله: ( جِمَالَةٌ صُفْرٌ ) قال: قُلوس الجِسر.
حدثني
محمد بن حويرة بن محمد المنقري، قال: ثنا عبد الملك بن عبد الله القطان، قال: ثنا
هلال بن خَبَّاب، عن سعيد بن جُبير، مثله.
حدثنا
ابن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر وابن أبي عديّ، عن شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن
جُبير (
كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ ) قال:
الحبال.
حدثنا
أبو كُريب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن سليمان بن عبد الله، عن ابن
عباس (
كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ ) قال:
قلوس سفن البحر.
حدثني
محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن،
قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: ( كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ ) قال: حبال الجسور.
وقال
آخرون: بل معنى ذلك: كأنه قطع النُّحاس.
ذكر
من قال ذلك:
حدثني
عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: ( كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ ) يقول: قطع النحاس.
وأولى
الأقوال عندي بالصواب قول من قال: عُنِي بالجمالات الصفر: الإبل السود، لأن ذلك هو
المعروف من كلام العرب، وأن الجِمالات جمع جِمال، نظير رِجال ورِجالات، وبُيوت
وبُيوتات.
وقد
اختلف القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض الكوفيين ( جِمالاتٍ ) بكسر الجيم والتاء على أنها جمع
جِمال وقد يجوز أن يكون أريد بها جمع جِمالة، والجمالة جمع جَمَل كما الحجارة جمع
حَجَر، والذِّكارة جمع ذَكَر. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفيين ( كأنه جمالات ) بكسر الجيم على أنها جمع جمل
جُمع على جمالة، كما ذكرت مِن جمع حجَر حِجارة. ورُوي عن ابن عباس أنه كان يقرأ ( جُمالاتٌ ) بالتاء وضمّ الجيم كأنه جمع
جُمالة من الشيء المجمل.
حدثنا
أحمد بن يوسف، قال: ثنا القاسم، قال. ثنا حجاج، عن هارون، عن الحسين المعلم، عن
أبي بشر، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس.
والصواب
من القول في ذلك، أن لقارئ ذلك اختيارَ أيّ القراءتين شاء من كسر الجيم وقراءتها
بالتاء، وكسر الجيم وقراءتها بالهاء التي تصير في الوصل تاء، لأنهما القراءتان
المعروفتان في قرّاء الأمصار، فأما ضم الجيم فلا أستجيزه لإجماع الحجة من القرّاء
على خلافه.
وقوله: ( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ ) يقول
تعالى ذكره: ويل يوم القيامة للمكذّبين هذا الوعيد الذي توعد الله به المكذّيين من
عباده.
القول
في تأويل قوله تعالى : هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ
( 35 ) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ( 36 ) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ ( 37 ) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأوَّلِينَ ( 38
) فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ ( 39 ) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ ( 40 ) .
يقول
تعالى ذكره لهؤلاء المكذّبين بثواب الله وعقابه: ( هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ ) أهل التكذيب بثواب الله
وعقابه ( وَلا
يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ) مما
اجترموا في الدنيا من الذنوب.
فإن قال
قائل: وكيف قيل: ( هَذَا
يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ ) وقد
علمت بخبر الله عنهم أنهم يقولون: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا وأنهم يقولون:
رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ في نظائر ذلك مما
أخبر الله ورسوله عنهم أنهم يقولونه. قيل: إن ذلك في بعض الأحوال دون بعض.
وقوله: ( هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ
) يخبر
عنهم أنهم لا ينطقون في بعض أحوال ذلك اليوم، لا أنهم لا ينطقون ذلك اليوم كله.
فإن قال:
فهل من بُرهان يعلم به حقيقة ذلك؟ قيل: نعم، وذلك إضافة يوم إلى قوله: ( لا يَنْطِقُونَ ) والعرب لا تُضيف اليوم إلى
فعل يفعل، إلا إذا أرادت الساعة من اليوم والوقت منه، وذلك كقولهم: آتيك يومَ
يقدمُ فلان، وأتيتك يوم زارك أخوك، فمعلوم أن معنى ذلك: أتيتك ساعة زارك، أو آتيك
ساعة يقدُم، وأنه لم يكن إتيانه إياه اليوم كله، لأن ذلك لو كان أخذ اليوم كله لم
يضف اليوم إلى فعل ويفعل، ولكن فعل ذلك إذ كان اليوم بمعنى إذ وإذا اللتين يطلبان
الأفعال دون الأسماء.
وقوله: ( فَيَعْتَذِرُونَ ) رفعا عطفا على قوله: ( وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ ) وإنما اختير ذلك على النصب
وقبله جحد، لأنه رأس آية قرن بينه وبين سائر رءوس التي قبلها، ولو كان جاء نصبا
كان جائزا، كما قال: لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وكلّ ذلك جائز فيه، أعني
الرفع والنصب، كما قيل: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا
فَيُضَاعِفَهُ لَهُ رفعا ونصبا.
وقوله: ( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ ) يقول
تعالى ذكره: ويل يومئذ للمكذّبين بخبر الله عن هؤلاء القوم، وما هو فاعل بهم يوم
القيامة.
وقوله: ( هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ
جَمَعْنَاكُمْ وَالأَوَّلِينَ ) يقول
تعالى ذكره لهؤلاء المكذّبين بالبعث يوم يبعثون: هذا يوم الفصل الذي يَفْصل الله
فيه بالحقّ بين عباده (
جَمَعْنَاكُمْ وَالأَوَّلِينَ ) يقول:
جمعناكم فيه لموعدكم الذي كنا نعدكم في الدنيا، الجمع فيه بينكم وبين سائر من كان
قبلكم من الأمم الهالكة. فقد وفَّينا لكم بذلك ( فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ ) يقول: والله منجز لكم ما
وعدكم في الدنيا من العقاب على تكذيبكم إياه بأنكم مبعوثون لهذا اليوم إن كانت لكم
حيلة تحتالونها في التخلص من عقابه اليوم فاحتالوا.
وقوله: ( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ ) يقول:
ويل يومئذ للمكذّبين بهذا الخبر.
القول
في تأويل قوله تعالى : إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي
ظِلالٍ وَعُيُونٍ ( 41 ) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ ( 42 ) كُلُوا
وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( 43 ) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي
الْمُحْسِنِينَ ( 44 ) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ( 45 ) .
يقول
تعالى ذكره: إن الذين اتقوا عقاب الله بأداء فرائضه في الدنيا، واجتناب معاصيه ( فِي ظِلالٍ ) ظليلة، وكِنّ كَنِين، لا
يصيبهم أذى حرّ ولا قرّ، إذ كان الكافرون بالله في ظلّ ذي ثلاث شعب، لا ظليل ولا
يغني من اللهب (
وَعُيُونٍ ) أنهار
تجري خلال أشجار جناتهم (
وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ ) يأكلون
منها كلما اشتهوا لا يخافون ضرّها، ولا عاقبة مكروهها.
وقوله: ( كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا
بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) يقول
تعالى ذكره: يقال لهم: كلوا أيها القوم من هذه الفواكه، واشربوا من هذه العيون
كلما اشتهيتم هنيئا: يقول: لا تكدير عليكم، ولا تنغيص فيما تأكلونه وتشربون منه،
ولكنه لكم دائم، لا يزول، ومريء لا يورثكم أذى في أبدانكم.
وقوله: ( بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) يقول جلّ ثناؤه: يقال لهم:
هذا جزاء بما كنتم في الدنيا تعملون من طاعة الله، وتجتهدون فيما يقرّبكم منه.
وقوله: ( إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي
الْمُحْسِنِينَ ) يقول:
إنا كما جزينا هؤلاء المتقين بما وصفنا من الجزاء على طاعتهم إيانا في الدنيا،
كذلك نجزي ونثيب أهل الإحسان فى طاعتهم إيانا، وعبادتهم لنا في الدنيا على إحسانهم
لا نضيع في الآخرة أجرهم.
وقوله: ( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ ) يقول:
ويل للذين يكذّبون خبر الله عما أخبرهم به به من تكريمه هؤلاء المتقين بما أكرمهم
به يوم القيامة.
القول
في تأويل قوله تعالى : كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلا
إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ ( 46 ) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ( 47 ) وَإِذَا
قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ ( 48 ) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ
( 49 ) .
يقول
تعالى ذكره تهدّدا ووعيدا منه للمكذبين بالبعث: كلوا في بقية آجالكم، وتمتعوا
ببقية أعماركم (
إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ )
مَسْنُونٌ بكم سنة من قبلكم من مجرمي الأمم الخالية التي متعت بأعمارها إلى بلوغ
كتبها آجالها، ثم انتقم الله منها بكفرها، وتكذبيها رسلها.
حدثني
يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فى قوله: ( كُلُوا وَتَمَتَّعُوا
قَلِيلا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ ) قال:
عُني به أهل الكفر.
وقوله: ( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ ) يقول
تعالى ذكره: ويل يومئذ للمكذيين الذين كذّبوا خبر الله الذي أخبرهم به عما هو فاعل
بهم في هذه الآية.
وقوله: ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ
ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ ) يقول
تعالى ذكره: وإذا قيل لهؤلاء المجرمين المكذّبين بوعيد الله أهل التكذيب به:
اركعوا؛ لا يركعون.
واختلف
أهل التأويل في الحين الذي يقال لهم فيه، فقال بعضهم: يقال ذلك في الآخرة حين
يُدعون إلى السجود فلا يستطيعون.
ذكر
من قال ذلك:
حدثني محمد
بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ
ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ ) يقول:
يُدْعون يوم القيامة إلى السجود فلا يستطيعون السجود من أجل أنهم لم يكونوا يسجدون
لله في الدنيا.
وقال
آخرون: بل قيل ذلك لهم في الدنيا.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ
ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ ) عليكم
بحسن الركوع، فإن الصلاة من الله بمكان. وقال قتادة عن ابن مسعود، أنه رأى رجلا
يصلي ولا يركع، وآخر يجرّ إزاره، فضحك، قالوا: ما يُضحكك؟ قال: أضحكني رجلان، أما
أحدهما فلا يقبل الله صلاته، وأما الآخر فلا ينظر الله إليه.
وقيل:
عُني بالركوع في هذا الموضع الصلاة.
ذكر
من قال ذلك:
حدثني
محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن،
قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ
ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ ) قال:
صَلَّوا.
وأولى
الأقوال في ذلك أن يقال: إن ذلك خبر من الله تعالى ذكره عن هؤلاء القوم المجرمين
أنهم كانوا له مخالفين في أمره ونهيه، لا يأتمرون بأمره، ولا ينتهون عما نهاهم
عنه.
وقوله: ( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ ) يقول:
ويل للذين كذّبوا رسل الله، فردّوا عليهم ما بلغوا من أمر الله إياهم، ونهيه لهم.
القول
في تأويل قوله تعالى : فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ
يُؤْمِنُونَ ( 50 ) .
يقول
تعالى ذكره: فبأي حديث بعد هذا القرآن، أي أنتم أيها القوم كذبتم به مع وضوح
برهانه، وصحة دلائله، أنه حق من عند الله تؤمنون: يقول: تصدّقون.
وإنما
أعلمهم تعالى ذكره أنهم إن لم يصدّقوا بهذه الأخبار التي أخبرهم بها في هذا القرآن
مع صحة حججه على حقيقته لم يمكنهم الإقرار بحقيقة شيء من الأخبار التي لم يشاهدوا
المخبَر عنه، ولم يعاينوه، وأنهم إن صدّقوا بشيء مما غاب عنهم لدليل قام عليه
لزمهم مثل ذلك في أخبار هذا القرآن، والله أعلم.
آخر
تفسير سورة والمرسلات