تفسير سورة والضحى
بسم الله الرحمن الرحيم
القول
في تأويل قوله جل جلاله وتقدست أسماؤه وَالضُّحَى ( 1 ) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى
( 2 ) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ
وَمَا قَلَى ( 3 ) وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ
مِنَ الأُولَى ( 4 ) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ
رَبُّكَ فَتَرْضَى ( 5 ) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا
فَآوَى ( 6 ) وَوَجَدَكَ ضَالا فَهَدَى
( 7 ) وَوَجَدَكَ عَائِلا
فَأَغْنَى ( 8 ) .
أقسم
ربنا جلّ ثناؤه بالضحى، وهو النهار كله، وأحسب أنه من قولهم: ضَحِيَ فلان للشمس:
إذا ظهر منه؛ ومنه قوله: وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى : أي لا يصيبك
فيها الشمس.
وقد ذكرت
اختلاف أهل العلم في معناه في قوله: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا مع ذكري اختيارنا فيه.
وقيل: عُنِي به وقت الضحى.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَالضُّحَى ) ساعة من ساعات النهار.
وقوله: ( وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى ) اختلف أهل التأويل في تأويله،
فقال بعضهم: معناه: والليل إذا أقبل بظلامه.
ذكر
من قال ذلك:
حدثني محمد
بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس ( وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى ) يقول: والليل إذا أقبل.
حدثنا
ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الحسن، في قول الله: ( وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى ) قال: إذا لَبِسَ الناس، إذَا
جاء.
وقال
آخرون: بل معنى ذلك: إذا ذهب.
ذكر
من قال ذلك:
حدثني
علي، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس ( وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى ) يقول: إذا ذهب.
وقال
آخرون: معناه: إذا استوى وسكن.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
ابن حُميد، قال: ثنا مِهْران؛ وحدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، جميعا عن سفيان،
عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (
وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى ) قال:
إذا استوى.
حدثني
محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن،
قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى ) قال: إذا استوى
حدثنا
بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى ) سكن بالخلق.
حُدثت عن
الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول، في قوله: ( وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى ) يعني: استقراره وسكونه.
حدثني
يونس، قال: أخبرني ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: ( وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى ) قال: إذا سكن، قال: ذلك سجوه،
كما يكون سكون البحر سجوه.
وأولى
هذه الأقوال بالصواب عندي في ذلك قول من قال معناه: والليل إذا سكن بأهله، وثبت
بظلامه، كما يقال: بحر ساج: إذا كان ساكنا؛ ومنه قول أعشى بني ثعلبة:
فَمَـا
ذَنْبُنـا إنْ جـاشَ بَحْرُ ابنِ عَمِّكم وَبحْـرُكَ سـاجٍ مـا يُوَارِي
الدَّعامِصَا
وقول
الراجز:
يا
حَبَّذَا القَمْرَاءُ وَاللَّيْلُ السَّاجْ
وطُرُقٌ
مِثْلُ مُلاءِ النَّسَّاجْ
وقوله: ( مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا
قَلَى ) وهذا
جواب القسم، ومعناه: ما تركك يا محمد ربك وما أبغضك. وقيل: ( وَمَا قَلَى ) ومعناه. وما قلاك، اكتفاء
بفهم السامع لمعناه، إذ كان قد تقدّم ذلك قوله: ( مَا وَدَّعَكَ ) فعرف بذلك أن المخاطب به نبيّ الله صلى الله عليه وسلم.
وبنحو
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثني
عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله: ( مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا
قَلَى ) يقول:
ما تركك ربك، وما أبغضك.
حدثني
يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: ( مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا
قَلَى ) قال:
ما قلاك ربك وما أبغضك؛ قال: والقالي: المبغِض.
وذُكر أن
هذه السورة نـزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم تكذيبا من الله قريشا في قيلهم
لرسول الله، لما أبطأ عليه الوحي: قد ودّع محمدًا ربه وقلاه.
* ذكر
الرواية بذلك:
حدثني
عليّ بن عبد الله الدهان، قال: ثنا مفضل بن صالح، عن الأسود بن قيس العبديّ، عن
ابن عبد الله، قال: لما أبطأ جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت امرأة
من أهله، أو من قومه: ودّع الشيطان محمدا، فأنـزل الله عليه: ( وَالضُّحَى ) ... إلى قوله: ( مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا
قَلَى ) .
قال أبو
جعفر: ابن عبد الله: هو جندب بن عبد الله البجلي.
حدثني
محمد بن عيسى الدامغاني، ومحمد بن هارون القطان، قالا ثنا سفيان، عن الأسود بن قيس
سمع جندبا البجليّ يقول: أبطأ جبريل على النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى قال
المشركون: ودّع محمدا ربه، فأنـزل الله: ( وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ
رَبُّكَ وَمَا قَلَى ) .
حدثنا
ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن الأسود بن قيس، أنه سمع
جندبا البجلي قال: قالت امرأة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أرى صاحبك إلا قد
أبطأ عنك، فنـزلت هذه الآية: ( مَا
وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ) .
حدثنا
ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن الأسود بن قيس، قال سمعت جندب بن عبد الله
يقول: إن امرأة أتت النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالت: ما أرى شيطانك إلا قد تركك،
فنـزلت: (
وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ) .
حدثنا
ابن أبي الشوارب، قال: ثنا عبد الواحد بن زياد، قال: ثنا سليمان الشيباني، عن عبد
الله بن شدّاد أن خديجة قالت للنبيّ صلى الله عليه وسلم ما أرى ربك إلا قد قلاك،
فأنـزل الله: (
وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ) .
حدثنا
بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ) قال: إن جبريل عليه السلام
أبطأ عليه بالوحي، فقال ناس من الناس، وهم يومئذ بمكة، ما نرى صاحبك إلا قد قلاك
فودّعك، فأنـزل الله ما تسمع: ( مَا
وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ) .
حدثنا
ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: ( مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا
قَلَى ) قال: أبطأ
عليه جبريل، فقال المشركون: قد قلاه ربه وودّعه، فأنـزل الله: ( مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا
قَلَى ) .
حُدثت عن
الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: ( مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا
قَلَى ) مكث
جبريل عن محمد صلى الله عليه وسلم، فقال المشركون: قد ودّعه ربه وقلاه، فأنـزل
الله هذه الآية .
حدثني
محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس ( مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا
قَلَى ) قال:
لما نـزل عليه القرآن، أبطأ عنه جبريل أياما، فعُيّر بذلك، فقال المشركون: ودّعه
ربه وقلاه، فأنـزل الله: ( مَا
وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ) .
حدثنا
أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال أبطأ جبريل على النبيّ
صلى الله عليه وسلم، فجزع جزعا شديدا، وقالت خديجة: أرى ربك قد قلاك، مما نرى من
جزعك، قال: فنـزلت (
وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ) ... إلى آخرها .
وقوله: ( وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ
مِنَ الأولَى ) يقول
تعالى ذكره: وللدار الآخرة، وما أعد الله لك فيها، خير لك من الدار الدنيا وما
فيها. يقول: فلا تحزن على ما فاتك منها، فإن الذي لك عند الله خير لك منها.
وقوله: ( وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ
رَبُّكَ فَتَرْضَى ) يقول
تعالى ذكره: ولسوف يعطيك يا محمد ربك في الآخرة من فواضل نعمه، حتى ترضى.
وقد
اختلف أهل العلم في الذي وعده من العطاء، فقال بعضهم: هو ما
حدثني به
موسى بن سهل الرملي، قال: ثنا عمرو بن هاشم، قال: سمعت الأوزاعيّ يحدّث، عن
إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر المخزومي، عن عليّ بن عبد الله بن عباس، عن
أبيه، قال: عرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هو مفتوح على أمته من بعده
كَفْرا كَفْرا، فسرّ بذلك، فأنـزل الله ( وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ) فأعطاه في الجنة ألف قصر، في
كلّ قصر، ما ينبغي من الأزواج والخدم .
حدثني
محمد بن خلف العسقلاني، قال: ثني روّاد بن الجراح، عن الأوزاعيّ، عن إسماعيل بن
عبيد الله، عن عليّ بن عبد الله بن عباس، في قوله: ( وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ
رَبُّكَ فَتَرْضَى ) قال:
ألف قصر من لؤلؤ، ترابهنّ المسك، وفيهنّ ما يصلحهنّ.
حدثنا
بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ) ، وذلك يوم القيامة.
وقال
آخرون في ذلك ما حدثني به عباد بن يعقوب، قال: ثنا الحكم بن ظهير، عن السديّ، عن
ابن عباس، في قوله: (
وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ) قال: من رضا محمد صلى الله عليه وسلم ألا يدخل أحد من أهل
بيته النار.
وقوله: ( أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا
فَآوَى ) يقول
تعالى ذكره معدّدا على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم نعمه عنده، ومذكِّره آلاءه
قِبَله: ألم يجدك يا محمد ربك يتيمًا فآوى، يقول: فجعل لك مأوى تأوي إليه، ومنـزلا
تنـزله (
وَوَجَدَكَ ضَالا فَهَدَى ) ووجدك
على غير الذي أنت عليه اليوم.
وقال
السديّ في ذلك ما حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن السديّ ( وَوَجَدَكَ ضَالا ) قال: كان على أمر قومه أربعين
عاما. وقيل: عُنِيَ بذلك: ووجدك في قوم ضلال فهداك.
وقوله: ( وَوَجَدَكَ عَائِلا
فَأَغْنَى ) يقول:
ووجدك فقيرا فأغناك، يقال منه: عال فلان يَعيل عَيْلَة، وذلك إذا افتقر؛ ومنه قول
الشاعر:
فَمَــا يَــدْرِي
الفَقِـيرُ مَتـى غنـاهُ وَمــا يَــدْرِي الغَنِـيُّ مَتـى يَعِيـلُ
يعني:
متى يفتقر.
وبنحو
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان ( وَوَجَدَكَ عَائِلا ) فقيرا.
وذُكر
أنها في مصحف عبد الله ( وَوَجَدَكَ
عَدِيما فآوَى ) .
حدثنا
بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالا
فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلا فَأَغْنَى ) قال: كانت هذه منازل رسول الله صلى الله عليه وسلم، قبل أن
يبعثه الله سبحانه وتعالى.
القول
في تأويل قوله تعالى : فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا
تَقْهَرْ ( 9 ) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ ( 10 ) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ
رَبِّكَ فَحَدِّثْ ( 11 ) .
يقول
تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ( فَأَمَّا الْيَتِيمَ ) يا محمد ( فَلا
تَقْهَرْ ) يقول:
فلا تظلمه، فتذهب بحقه، استضعافًا منك له.
كما
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا
تَقْهَرْ ) : أي
لا تظلم.
حدثنا
ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد ( فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا
تَقْهَرْ ) قال:
تُغْمِصْه وَتحْقِره . وذُكر أن ذلك في مصحف عبد الله ( فَلا تَكْهَرْ ) .
وقوله: ( وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا
تَنْهَرْ ) يقول:
وأما من سألك من ذي حاجة فلا تنهره، ولكن أطعمه واقض له حاجته ( وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ
فَحَدِّثْ ) :
يقول: فاذكره.
وبنحو
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثني
يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، عن أبي بشر، عن مجاهد، في قوله: ( وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ
فَحَدِّثْ ) قال:
بالنبوّة.
حدثني
يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَية، قال: ثنا سعيد بن إياس الجريريّ، عن أبى نضرة، قال:
كان المسلمون يرون أن من شُكْرِ النعم أن يحدّثَ بها.
آخر
تفسير سورة الضحى، ولله الحمد والشكر