تفسير البغوي
تفسير الآية رقم 41 من سورة الأنفال
قوله تعالى : ( واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه ) الآية . الغنيمة والفيء : اسمان لمال يصيبه المسلمون من أموال الكفار . فذهب جماعة إلى أنهما واحد ، وذهب قوم إلى أنهما مختلفان : فالغنيمة : ما أصابه المسلمون منهم عنوة بقتال ، والفيء : ما كان عن صلح بغير قتال . فذكر الله - عز وجل - في هذه الآية حكم الغنيمة فقال : " فأن لله خمسه وللرسول " .
ذهب أكثر المفسرين والفقهاء إلى أن قوله : " لله " افتتاح كلام على سبيل التبرك وإضافة هذا المال إلى نفسه لشرفه ، وليس المراد منه أن سهما من الغنيمة لله منفردا ، فإن الدنيا والآخرة كلها لله - عز وجل - . وهو قول الحسن وقتادة وعطاء وإبراهيم والشعبي ، قالوا : سهم الله وسهم الرسول واحد . والغنيمة تقسم خمسة أخماس ، أربعة أخماسها لمن قاتل عليها ، والخمس لخمسة أصناف كما ذكر الله - عز وجل - ، " وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل " .
قال بعضهم : يقسم الخمس على ستة أسهم ، وهو قول أبي العالية ، سهم لله : فيصرف إلى الكعبة . والأول أصح ، أن خمس الغنيمة يقسم على خمسة أسهم ، سهم كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حياته ، واليوم هو لمصالح المسلمين وما فيه قوة الإسلام ، وهو قول الشافعي رحمه الله .
وروى الأعمش عن إبراهيم قال : كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما يجعلان سهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في الكراع والسلاح .
وقال قتادة : هو للخليفة بعده . وقال بعضهم : سهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مردود في الخمس والخمس لأربعة أصناف .
قوله : ( ولذي القربى ) أراد أن سهما من الخمس لذوي القربى وهم أقارب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، واختلفوا فيهم ، فقال قوم : جميع قريش . وقال قوم : هم الذين لا تحل لهم الصدقة .
وقال مجاهد وعلي بن الحسين : هم بنو هاشم .
وقال الشافعي : هم بنو هاشم وبنو المطلب وليس لبني عبد شمس ولا لبني نوفل منه شيء ، وإن كانوا إخوة ، والدليل عليه ما :
أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، ثنا أبو العباس الأصم ، أنبأنا الربيع ، أنبأنا الشافعي ، أنبأنا الثقة ، عن ابن شهاب ، عن ابن المسيب ، عن جبير بن مطعم عن أبيه قال : قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سهم ذي القربى بين بني هاشم وبني المطلب ، ولم يعط منه أحدا من بني عبد شمس ولا بني نوفل شيئا .
وأخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، ثنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع أنا الشافعي ، أنا مطرف بن مازن عن معمر بن راشد ، عن ابن شهاب ، أخبرني محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال : لما قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سهم ذوي القربى بين بني هاشم وبني المطلب أتيته أنا وعثمان بن عفان فقلنا : يا رسول الله هؤلاء إخواننا من بني هاشم لا ننكر فضلهم لمكانك الذي وضعك الله منهم ، أرأيت إخواننا من بني المطلب أعطيتهم وتركتنا أو منعتنا ، وإنما قرابتنا وقرابتهم واحدة ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد هكذا وشبك بين أصابعه " .
واختلف أهل العلم في سهم ذوي القربى هل هو ثابت اليوم؟ .
فذهب أكثرهم إلى أنه ثابت ، وهو قول مالك والشافعي .
وذهب أصحاب الرأي إلى أنه غير ثابت ، وقالوا : سهم رسول الله وسهم ذوي القربى مردودان في الخمس ، وخمس الغنيمة لثلاثة أصناف اليتامى والمساكين وابن السبيل .
وقال بعضهم : يعطى للفقراء منهم دون الأغنياء .
والكتاب والسنة يدلان على ثبوته ، والخلفاء بعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - كانوا يعطونه ، ولا يفضل فقير على غني لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء بعده كانوا يعطون العباس بن عبد المطلب مع كثرة ماله ، فألحقه الشافعي بالميراث الذي يستحق باسم القرابة ، غير أنه يعطى القريب والبعيد . وقال : يفضل الذكر على الأنثى فيعطى الرجل سهمين والأنثى سهما واحدا .
قوله : ( واليتامى ) وهو جمع اليتيم ، واليتيم الذي له سهم في الخمس هو الصغير المسلم ، الذي لا أب له ، إذا كان فقيرا ، ( والمساكين ) هم أهل الفاقة والحاجة من المسلمين ، ( وابن السبيل ) هو المسافر البعيد عن ماله ، فهذا مصرف خمس الغنيمة ويقسم أربعة أخماس الغنيمة بين الغانمين الذين شهدوا الوقعة ، للفارس منهم ثلاثة أسهم ، وللراجل سهم واحد ، لما :
أخبرنا أبو صالح أحمد بن عبد الملك المؤذن ، أنا عبد الله بن يوسف أنا أبو سعيد بن الأعرابي ثنا سعدان بن نصر ثنا أبو معاوية عن عبيد الله عن عمر عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسهم لرجل ولفرسه ثلاثة أسهم : سهما له وسهمين لفرسه " وهذا قول أكثر أهل العلماء وإليه ذهب الثوري ، والأوزاعي ، ومالك ، وابن المبارك ، والشافعي وأحمد وإسحاق .
وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : للفارس سهمان ، وللراجل سهم واحد .
ويرضخ للعبيد والنسوان والصبيان إذا حضروا القتال ، ويقسم العقار الذي استولى عليه المسلمون كالمنقول . وعند أبي حنيفة : يتخير الإمام في العقار : بين أن يقسمه بينهم ، وبين أن يجعله وقفا على المصالح .
وظاهر الآية لا يفرق بين العقار والمنقول .
ومن قتل مشركا في القتال يستحق سلبه من رأس الغنيمة ، لما روي عن أبي قتادة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يوم حنين : " من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه " . والسلب : كل ما يكون على المقتول من ملبوس وسلاح ، وفرسه الذي هو راكبه .
ويجوز للإمام أن ينفل بعض الجيش من الغنيمة ، لزيادة عناء وبلاء يكون منهم في الحرب ، يخصهم به من بين سائر الجيش ويجعله أسوة الجماعة في سهمان الغنيمة :
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، ثنا محمد بن إسماعيل ، ثنا يحيى بن بكير ، ثنا الليث ، عن عقيل ، عن ابن شهاب ، عن سالم عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان ينفل بعض من يبعث من السرايا لأنفسهم خاصة ، سوى قسم عامة الجيش .
وروي عن حبيب بن مسلمة الفهري ، قال : شهدت النبي - صلى الله عليه وسلم - نفل الربع في البدأة والثلث في الرجعة .
واختلفوا في أن النفل من أين يعطى؟ فقال قوم : من خمس الخمس ، سهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهو قول سعيد بن المسيب ، وبه قال الشافعي ، وهذا معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " مالي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس والخمس مردود فيكم " .
وقال قوم : هو من الأربعة الأخماس بعد إفراز الخمس كسهام الغزاة ، وهو قول أحمد وإسحاق .
وذهب بعضهم إلى أن النفل من رأس الغنيمة قبل الخمس كالسلب للقاتل . وأما الفيء : وهو ما أصابه المسلمون من أموال الكفار بغير إيجاف خيل ولا ركاب ، بأن صالحهم على مال يؤدونه ، ومال الجزية ، وما يؤخذ من أموالهم إذا دخلوا دار الإسلام للتجارة ، أو يموت واحد منهم في دار الإسلام ولا وارث له ، فهذا كله فيء .
ومال الفيء كان خالصا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حياته ، قال عمر رضي الله عنه : إن الله قد خص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الفيء بشيء لم يعطه أحدا غيره ثم قرأ : " وما أفاء الله على رسوله منهم "
إلى قوله : " قدير " " الحشر - 6 " ، وكانت هذه خالصة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان ينفق على أهله وعياله نفقة سنتهم من هذا المال ، ثم يأخذ ما بقي فيجعله مجعل مال الله - عز وجل - .
واختلف أهل العلم في مصرف الفيء بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال قوم : هو للأئمة بعده . وللشافعي فيه قولان : أحدهما ، للمقاتلة الذين أثبتت أساميهم في ديوان الجهاد ، لأنهم القائمون مقام النبي - صلى الله عليه وسلم - في إرهاب العدو . والقول الثاني : أنه لمصالح المسلمين ، ويبدأ بالمقاتلة فيعطون منه كفايتهم ، ثم بالأهم فالأهم من المصالح .
واختلف أهل العلم في تخميس الفيء : فذهب الشافعي إلى أنه يخمس خمسه لأهل الغنيمة ، على خمسة أسهم . وأربعة أخماسه للمقاتلة وللمصالح .
وذهب الأكثرون : إلى أن الفيء لا يخمس ، بل مصرف جميعه واحد ، ولجميع المسلمين فيه حق :
أخبرنا أبو سعيد عبد الله بن أحمد الطاهري ، أنا جدي عبد الصمد بن عبد الرحمن البزاز ، أنا محمد بن زكريا العذافري ، أنا إسحاق الدبري ، ثنا عبد الرزاق ، ثنا معمر ، عن الزهري ، عن مالك بن أوس بن الحدثان : أنه سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : " ما على وجه الأرض مسلم إلا له في هذا الفيء حق ، إلا ما ملكت أيمانكم " .
وأخبرنا أبو سعيد الطاهري أنبأنا جدي عبد الصمد بن عبد الرحمن البزاز أنبأنا محمد بن زكريا العذافري أنبأنا أبو إسحاق الدبري ثنا عبد الرزاق أنا معمر عن أيوب عن عكرمة بن خالد عن مالك بن أوس بن الحدثان قال : قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه " إنما الصدقات للفقراء والمساكين حتى بلغ " عليم حكيم " " التوبة - 60 " فقال : هذه لهؤلاء ثم قرأ : " واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه " حتى بلغ وابن السبيل ، ثم قال : هذه لهؤلاء ، ثم قرأ " ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى " حتى بلغ " للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا " " الحشر - 7 - 9 " ثم قال : هذه استوعبت المسلمين عامة ، فلئن عشت ، فليأتين الراعي وهو بسرو حمير نصيبه منها ، لم يعرق فيها جبينه " .
قوله تعالى : ( إن كنتم آمنتم بالله ) قيل : أراد " اعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول " يأمر فيه بما يريد ، فاقبلوه إن كنتم آمنتم بالله ( وما أنزلنا على عبدنا ) أي : إن كنتم آمنتم بالله وبما أنزلنا على عبدنا ، يعني : قوله : " يسألونك عن الأنفال " ( يوم الفرقان ) يعني يوم بدر ، فرق الله بين الحق والباطل وهو ( يوم التقى الجمعان ) حزب الله وحزب الشيطان ، وكان يوم الجمعة لسبع عشرة مضت من رمضان ، ( والله على كل شيء قدير ) على نصركم مع قلتكم وكثرتهم .