تفسير القرطبي

تفسير الآية رقم 11 من سورة النور

قوله تعالى : إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم عصبة خبر إن . ويجوز نصبها على الحال ، ويكون الخبر لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم . وسبب نزولها ما رواه الأئمة من حديث الإفك الطويل في قصة عائشة - رضوان الله عليها - ، وهو خبر صحيح مشهور ، أغنى اشتهاره عن ذكره ، وسيأتي مختصرا . وأخرجه البخاري تعليقا ، وحديثه أتم . قال : وقال أسامة ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، وأخرجه أيضا ، عن محمد بن كثير ، عن أخيه سليمان من حديث مسروق ، عن أم رومان أم عائشة أنها قالت : لما رميت عائشة خرت مغشيا عليها . وعن موسى بن إسماعيل من حديث أبي وائل قال : حدثني مسروق بن الأجدع ، قال : حدثتني أم رومان وهي أم عائشة ، قالت : بينا أنا قاعدة أنا ، وعائشة إذ ولجت امرأة من الأنصار ، فقالت : فعل الله بفلان وفعل ، فقالت أم رومان : وما ذاك ؟ قالت : ابني فيمن حدث الحديث ، قالت : وما ذاك ؟ قالت : كذا وكذا . قالت عائشة : سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قالت : نعم . قالت : وأبو بكر ؟ قالت : نعم ، فخرت مغشيا عليها ؛ فما أفاقت إلا وعليها حمى بنافض ، فطرحت عليها ثيابها ، فغطيتها ، فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : ما شأن هذه ؟ فقلت : يا رسول الله ، أخذتها الحمى بنافض . قال : فلعل في حديث تحدث به ، قالت : نعم . فقعدت عائشة فقالت : والله ، لئن حلفت لا تصدقوني ! ولئن قلت لا تعذروني ! مثلي ومثلكم كيعقوب وبنيه والله المستعان على ما تصفون . قالت : وانصرف ولم يقل شيئا ؛ فأنزل الله عذرها . قالت : بحمد الله لا بحمد أحد ولا بحمدك . قال أبو عبد الله الحميدي : كان بعض من لقينا من الحفاظ البغداديين يقول الإرسال في هذا الحديث أبين ، واستدل على ذلك بأن أم رومان توفيت في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ومسروق لم يشاهد النبي - صلى الله عليه وسلم - بلا خلاف . وللبخاري من حديث عبيد الله بن عبد الله بن أبي مليكة أن عائشة كانت تقرأ إذ تلقونه بألسنتكم وتقول : الولق الكذب . قال ابن أبي مليكة : وكانت أعلم بذلك من غيرها لأنه نزل فيها . قال البخاري : وقال معمر بن راشد ، عن الزهري : كان حديث الإفك في غزوة المريسيع . قال ابن إسحاق : وذلك سنة ست . وقال موسى بن عقبة : سنة أربع . وأخرج البخاري من حديث معمر ، عن الزهري قال : قال لي الوليد بن عبد الملك : أبلغك أن عليا كان فيمن قذف ؟ قال : قلت لا ، ولكن قد أخبرني رجلان من قومك أبو سلمة بن عبد الرحمن ، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن عائشة قالت لهما : كان علي مسلما في شأنها . وأخرجه أبو بكر الإسماعيلي في كتابه المخرج على الصحيح من وجه آخر من حديث معمر ، عن الزهري ، وفيه : قال كنت عند الوليد بن عبد الملك فقال : الذي تولى كبره منهم علي بن أبي طالب ؟ فقلت : لا ، حدثني سعيد بن المسيب ، وعروة ، وعلقمة ، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة كلهم يقول سمعت عائشة تقول : والذي تولى كبره عبد الله بن أبي . وأخرج البخاري أيضا من حديث الزهري ، عن عروة ، عن عائشة : والذي تولى كبره منهم عبد الله بن أبي .
الثانية : قوله تعالى : ( بالإفك ) الإفك الكذب . والعصبة ثلاثة رجال ؛ قاله ابن عباس . وعنه أيضا من الثلاثة إلى العشرة . ابن عيينة : أربعون رجلا . مجاهد : من عشرة إلى خمسة عشر . وأصلها في اللغة وكلام العرب الجماعة الذين يتعصب بعضهم لبعض . والخير حقيقته ما زاد نفعه على ضره . والشر ما زاد ضره على نفعه . وإن خيرا لا شر فيه هو الجنة . وشرا لا خير فيه هو جهنم . فأما البلاء النازل على الأولياء فهو خير ؛ لأن ضرره من الألم قليل في الدنيا ، وخيره هو الثواب الكثير في الأخرى . فنبه الله تعالى عائشة وأهلها وصفوان ، إذ الخطاب لهم في قوله لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم ؛ لرجحان النفع والخير على جانب الشر .
الثالثة : لما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعائشة معه في غزوة بني المصطلق وهي غزوة المريسيع ، وقفل ودنا من المدينة آذن ليلة بالرحيل قامت حين آذنوا بالرحيل فمشت حتى جاوزت الجيش ، فلما فرغت من شأنها أقبلت إلى الرحل فلمست صدرها فإذا عقد من جزع ظفار قد انقطع ، فرجعت فالتمسته فحبسها ابتغاؤه ، فوجدته وانصرفت ، فلما لم تجد أحدا ، وكانت شابة قليلة اللحم ، فرفع الرجال هودجها ، ولم يشعروا بنزولها منه ؛ فلما لم تجد أحدا اضطجعت في مكانها رجاء أن تفتقد فيرجع إليها ، فنامت في الموضع ولم يوقظها إلا قول صفوان بن المعطل : إنا لله وإنا إليه راجعون ؛ وذلك أنه كان تخلف وراء الجيش لحفظ الساقة . وقيل : إنها استيقظت لاسترجاعه ، ونزل عن ناقته وتنحى عنها حتى ركبت عائشة ، وأخذ يقودها حتى بلغ بها الجيش في نحر الظهيرة ؛ فوقع أهل الإفك في مقالتهم ، وكان الذي يجتمع إليه فيه ، ويستوشيه ، ويشعله عبد الله بن أبي بن سلول المنافق ، وهو الذي رأى صفوان آخذا بزمام ناقة عائشة ، فقال : والله ما نجت منه ، ولا نجا منها ، وقال : امرأة نبيكم باتت مع رجل . وكان من قالته حسان بن ثابت ، ومسطح بن أثاثة ، وحمنة بنت جحش . هذا اختصار الحديث ، وهو بكماله وإتقانه في البخاري ، ومسلم ، وهو في مسلم أكمل . ولما بلغ صفوان قول حسان في الإفك جاء فضربه بالسيف ضربة على رأسه وقال :
تلق ذباب السيف عني فإنني غلام إذا هوجيت ليس بشاعر
فأخذ جماعة حسان ولببوه وجاءوا به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأهدر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جرح حسان واستوهبه إياه . وهذا يدل على أن حسان ممن تولى الكبر ؛ على ما يأتي والله أعلم .
وكان صفوان هذا صاحب ساقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزواته لشجاعته ، وكان من خيار الصحابة . وقيل : كان حصورا لا يأتي النساء ؛ ذكره ابن إسحاق من طريق عائشة . وقيل : كان له ابنان ؛ يدل على ذلك حديثه المروي مع امرأته ، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في ابنيه : لهما أشبه به من الغراب بالغراب . وقوله في الحديث : والله ما كشفت كنف أنثى قط ؛ يريد بزنا . وقتل شهيدا - رضي الله عنه - في غزوة أرمينية سنة تسع عشرة في زمان عمر ، وقيل : ببلاد الروم سنة ثمان وخمسين في زمان معاوية .
الرابعة : قوله تعالى : لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم يعني ممن تكلم بالإفك . ولم يسم من أهل الإفك إلا حسان ، ومسطح ، وحمنة ، وعبد الله ؛ وجهل الغير ؛ قاله عروة بن الزبير ، وقد سأله عن ذلك عبد الملك بن مروان ، وقال : إلا أنهم كانوا عصبة ؛ كما قال الله تعالى . وفي مصحف حفصة ( عصبة أربعة ) .
الخامسة : قوله تعالى : والذي تولى كبره منهم وقرأ حميد الأعرج ويعقوب ( كبره ) بضم الكاف . قال الفراء : وهو وجه جيد ؛ لأن العرب تقول : فلان تولى عظم كذا وكذا ؛ أي أكبره . روي عن عائشة أنه حسان ، وأنها قالت حين عمي : لعل العذاب العظيم الذي أوعده الله به ذهاب بصره ؛ رواه عنها مسروق . وروي عنها أنه عبد الله بن أبي ؛ وهو الصحيح ، وقاله ابن عباس . وحكى أبو عمر بن عبد البر أن عائشة برأت حسان من الفرية ، وقالت : إنه لم يقل شيئا . وقد أنكر حسان أن يكون قال شيئا من ذلك في قوله :
حصان رزان ما تزن بريبة وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
حليلة خير الناس دينا ومنصبا نبي الهدى والمكرمات الفواضل
عقيلة حي من لؤي بن غالب كرام المساعي مجدها غير زائل
مهذبة قد طيب الله خيمها وطهرها من كل شين وباطل
فإن كان ما بلغت أني قلته فلا رفعت سوطي إلي أناملي
فكيف وودي ما حييت ونصرتي لآل رسول الله زين المحافل
له رتب عال من الناس فضلها تقاصر عنها سورة المتطاول
وقد روي أنه لما أنشدها : حصان رزان ؛ قالت له : لست كذلك ؛ تريد أنك وقعت في الغوافل . وهذا تعارض ، ويمكن الجمع بأن يقال : إن حسان لم يقل ذلك نصا وتصريحا ، ويكون عرض بذلك وأومأ إليه فنسب ذلك إليه ؛ والله أعلم .
وقد اختلف الناس فيه هل خاض في الإفك أم لا ؟ وهل جلد الحد أم لا ؟ فالله أعلم أي ذلك كان ، وهي مسألة :
السادسة : فروى محمد بن إسحاق وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جلد في الإفك رجلين وامرأة : مسطحا ، وحسان ، وحمنة ، وذكره الترمذي . وذكر القشيري عن ابن عباس قال : جلد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابن أبي ثمانين جلدة ، وله في الآخرة عذاب النار . قال القشيري : والذي ثبت في الأخبار أنه ضرب ابن أبي ، وضرب حسان ، وحمنة ، وأما مسطح فلم يثبت عنه قذف صريح ، ولكنه كان يسمع ويشيع من غير تصريح . قال الماوردي وغيره : اختلفوا هل حد النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحاب الإفك ؟ على قولين : أحدهما أنه لم يحد أحدا من أصحاب الإفك لأن الحدود إنما تقام بإقرار ، أو ببينة ، ولم يتعبده الله أن يقيمها بإخباره عنها ؛ كما لم يتعبده بقتل المنافقين ، وقد أخبره بكفرهم .
قلت : وهذا فاسد مخالف لنص القرآن ؛ فإن الله - عز وجل - يقول : والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء أي على صدق قولهم : فاجلدوهم ثمانين جلدة .
والقول الثاني : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حد أهل الإفك عبد الله بن أبي ، ومسطح بن أثاثة ، وحسان بن ثابت ، وحمنة بنت جحش ؛ وفي ذلك قال شاعر من المسلمين :
لقد ذاق حسان الذي كان أهله وحمنة إذ قالوا هجيرا ومسطح
وابن سلول ذاق في الحد خزية كما خاض في إفك من القول يفصح
تعاطوا برجم الغيب زوج نبيهم وسخطة ذي العرش الكريم فأبرحوا
وآذوا رسول الله فيها فجللوا مخازي تبقى عمموها وفضحوا
فصب عليهم محصدات كأنها شآبيب قطر من ذرى المزن تسفح
قلت : المشهور من الأخبار والمعروف عند العلماء أن الذي حد حسان ، ومسطح ، وحمنة ، ولم يسمع بحد لعبد الله بن أبي . روى أبو داود ، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : لما نزل عذري قام النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك ، وتلا القرآن ؛ فلما نزل من المنبر أمر بالرجلين والمرأة فضربوا حدهم ، وسماهم : حسان بن ثابت ، ومسطح بن أثاثة ، وحمنة بنت جحش . وفي كتاب الطحاوي ( ثمانين ثمانين ) . قال علماؤنا . وإنما لم يحد عبد الله بن أبي لأن الله تعالى قد أعد له في الآخرة عذابا عظيما ؛ فلو حد في الدنيا لكان ذلك نقصا من عذابه في الآخرة وتخفيفا عنه مع أن الله تعالى قد شهد ببراءة عائشة - رضي الله عنها - وبكذب كل من رماها ؛ فقد حصلت فائدة الحد ، إذ مقصوده إظهار كذب القاذف وبراءة المقذوف ؛ كما قال الله تعالى : فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون . وإنما حد هؤلاء المسلمون ليكفر عنهم إثم ما صدر عنهم من القذف حتى لا يبقى عليهم تبعة من ذلك في الآخرة ، وقد قال : صلى الله عليه وسلم - في الحدود إنها كفارة لمن أقيمت عليه ؛ كما في حديث عبادة بن الصامت . ويحتمل أن يقال : إنما ترك حد ابن أبي استئلافا لقومه ، واحتراما لابنه ، وإطفاء لثائرة الفتنة المتوقعة من ذلك ، وقد كان ظهر مبادئها من سعد بن عبادة ومن قومه ؛ كما في صحيح مسلم . والله أعلم .