تفسير الطبري
تفسير الآية رقم 15 من سورة هود
القول في تأويل قوله تعالى : مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ (15)
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: من كان يريد بعمله الحياة الدنيا، وإيّاها وَزينتها يطلب به ، (6) نوفّ إليهم أجور أعمالهم فيها وثوابها (7) ، (وهم فيها) يقول: وهم في الدنيا ، (لا يبخسون) ، يقول: لا ينقصون أجرها، ولكنهم يوفونه فيها. (8)
* * *
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
18012- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها) الآية، وهي ما يعطيهم الله من الدنيا بحسناتهم ، وذلك أنهم لا يظلمون نقيرًا. يقول: من عمل صالحًا التماس الدنيا ، صومًا أو صلاةً أو تهجدًا بالليل، لا يعمله إلا لالتماس الدنيا ، يقول الله: أوفيه الذي التمس في الدنيا من المثابة، وحبط عمله الذي كان يعملُ التماس الدنيا، وهو في الآخرة من الخاسرين.
18013- حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير، عن منصور، عن سعيد بن جبير: (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها) ، قال: ثوابَ ما عملوا في الدنيا من خير أعطوه في الدنيا، وليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صَنَعوا فيها.
* * *
18014- حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير، عن منصور، عن سعيد بن جبير قوله: (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوفّ إليهم أعمالهم فيها) ، قال: وَزْنَ ما عملوا من خير أعطوا في الدنيا، (9) وليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها. قال: هي مثل الآية التي في الروم: وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ ، [سورة الروم: 39]
18015- حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن سعيد بن جبير: (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها) ، قال: من عمل للدنيا وُفِّيهُ في الدنيا.
18016- حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها) ، قال: من عمل عملا مما أمر الله به ، من صلاة أو صدقة ، لا يريد بها وجهَ الله ، أعطاه الله في الدنيا ثوابَ ذلك مثلَ ما أنفق ، فذلك قوله: (نوفّ إليهم أعمالهم فيها) ، في الدنيا، (وهم فيها لا يبخسون) ، أجر ما عملوا فيها، أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا ، الآية.
18017- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن عيسى ، يعني ابن ميمون ، عن مجاهد في قوله: (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها) ، قال: ممن لا يقبل منه ، جُوزِي به ، يُعطَى ثوابَه.
18018- حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن عيسى الجرشي، عن مجاهد: (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها)، قال: ممن لا يقبل منه ، يعجّل له في الدنيا. (10)
18019- حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون) ، أي: لا يظلمون. يقول: من كانت الدنيا همَّه وسَدَمه (11) وطَلِبته ونيّته، جازاه الله بحسناته في الدنيا، ثم يفضي إلى الآخرة، وليس له حسنة يعطى بها جزاءً. وأما المؤمن ، فيجازى بحسناته في الدنيا ، ويثاب عليها في الآخرة ، (وهم فيها لا يبخسون) أي : في الآخرة لا يظلمون.
18020- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، وحدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق ، جميعًا، عن معمر، عن قتادة: (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها)، الآية، قال: من كان إنما هِمّته الدنيا ، إياها يطلب ، أعطاه الله مالا وأعطاه فيها ما يعيش، وكان ذلك قصاصًا له بعمله.(وهم فيها لا يبخسون) ، قال: لا يظلمون.
18021-. . .. قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن ليث بن أبي سلم، عن محمد بن كعب القرظي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أحسن من محسن ، فقد وقع أجره على الله في عاجل الدنيا وآجل الآخرة . (12)
18022- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها) ، الآية، يقول: من عمل عملا صالحًا في غير تقوى ، يعني من أهل الشرك ، أعطي على ذلك أجرًا في الدنيا: يصل رحمًا، يعطي سائلا يرحم مضطرًّا ، في نحو هذا من أعمال البرّ ، يعجل الله له ثواب عمله في الدنيا، ويُوسِّع عليه في المعيشة والرزق، ويقرُّ عينه فيما خَوَّله، ويدفع عنه من مكاره الدنيا ، في نحو هذا، وليس له في الآخرة من نصيب.
18023- حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا حفص بن عمر أبو عمر الضرير قال ، حدثنا همام، عن قتادة، عن أنس في قوله: (نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون) ، قال: هي في اليهود والنصارى.
18024-. . . . قال، حدثنا حفص بن عمر قال ، حدثنا يزيد بن زريع، عن أبي رجاء الأزدي، عن الحسن: (نوف إليهم أعمالهم فيها) ، قال: طيباتهم.
18025- حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية، عن أبي رجاء، عن الحسن، مثله.
18026- حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن علية، عن أبي رجاء، عن الحسن، مثله.
18027- حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن وهيب: أنه بلغه أن مجاهدًا كان يقول في هذه الآية: هم أهل الرياء، هم أهل الرياء.
18028-. . . . قال، أخبرنا ابن المبارك، عن حيوة بن شريح قال ، حدثني الوليد بن أبي الوليد أبو عثمان، أن عقبة بن مسلم حدثه، أنّ شُفيّ بن ماتع الأصبحي حدثه: أنه دخل المدينة، فإذا هو برجل قد اجتمع عليه الناس، فقال من هذا؟ فقالوا أبو هريرة! فدنوت منه حتى قعدت بين يديه ، وهو يحدِّث الناس، فلما سكت وَخَلا (13) قلت: أنشدك بحقِّ ، وبحقِّ، (14) لما حدثتني حديثًا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم عَقَلته وعلمتَه . قال: فقال أبو هريرة: أفعل، لأحدثنك حديثًا حدّثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ! ثم نَشَغ نشغةً، (15) ثم أفاق فقال: لأحدثنك حديثًا حدّثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا البيت ، ما فيه أحدٌ غيري وغيره ! ثم نشَغ أبو هريرة نشغةً شديدة، ثم مال خارًّا على وجهه، واشتدّ به طويلا ثم أفاق فقال: حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله تبارك وتعالى إذا كان يوم القيامة ، نـزل إلى القيامة ليقضي بينهم ، (16) وكل أمة جاثيةٌ، فأوّل من يدعى به رجلٌ جمع القرآن، ورجل قُتِل في سبيل الله، ورجل كثير المال، فيقول الله للقارئ: ألم أعلمك ما أنـزلتُ على رسولي؟ قال: بلى يا رب ! قال: فماذا عملت فيما عُلِّمت؟ قال: كنت أقوم آناء الليل وآناء النهار! فيقول الله له: كذبت ! وتقول له الملائكة: كذبت ! ويقول الله له: بل أردت أن يقال: " فلان قارئ" فقد قيل ذلك ! ويؤتى بصاحب المال فيقول الله له: ألم أوسِّع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد؟ قال: بلى يا رب ! قال: فماذا عملت فيما آتيتك؟ قال: كنت أصل الرحم ، وأتصدَّق. فيقول الله له: كذبت ! وتقول الملائكة: كذبت ! ويقول الله له: بل أردت أن يقال: " فلان جواد "، فقد قيل ذلك! ويؤتى بالذي قتل في سبيل الله، فيقال له: فيماذا قُتلت؟ فيقول: أمرت بالجهاد في سبيلك، فقاتلت حتى قتلت. فيقول الله له: كذبت ! وتقول له الملائكة: كذبت ! ويقول الله له: بل أردت أن يقال: " فلان جريء "، وقد قيل ذلك ! ثم ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ركبتي فقال: يا أبا هريرة ، أولئك الثلاثة أول خلق الله تُسَعَّر بهم النار يوم القيامة. (17)
، قال الوليد أبو عثمان: فأخبرني عقبة أن شفيًّا هو الذي دخل على معاوية، فأخبره بهذا.
قال أبو عثمان: وحدثني العلاء بن أبي حكيم : أنه كان سيَّافًا لمعاوية، قال: فدخل عليه رجل فحدّثه بهذا عن أبي هريرة، فقال أبو هريرة : وقد فعل بهؤلاء هذا، فكيف بمن بقي من الناس! ثم بكى معاوية بكاءً شديدًا حتى ظننا أنه هلك، وقلنا: [قد جاءنا ] هذا الرجل بشرٍّ ! (18) ثم أفاق معاوية ومسح عن وجهه فقال: صدق الله ورسوله : (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها) ، وقرأ إلى: وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ . (19)
18029- حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا سفيان، عن عيسى بن ميمون، عن مجاهد: (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها) الآية، قال: ممن لا يتقبل منه، يصوم ويصلي يريد به الدنيا، ويدفع عنه هَمّ الآخرة (20) ، (وهم فيها لا يبخسون)، لا ينقصون.
---------------------
الهوامش :
(6) في المطبوعة : " وأثاثها وزينتها يطلب به " ، فأفسد الكلام وضامه ، وهو في المخطوطة على الصواب كما أثبته .
(7) انظر تفسير " الزينة " فيما سلف ص : 177 ، تعليق : 2 ، 5 ، والمراجع هناك .
، وتفسير " التوفية " فيما سلف من فهارس اللغة ( وفى ) .
(8) انظر تفسير " البخس " فيما سلف 6 : 56 / 12 : 555 .
(9) في المطبوعة : " وربما عملوا من خير أعطوه في الدنيا " ، وهو كلام متلو لا معنى له .
وفي المخطوطة ما أثبته ، إلا أن فيه " ورب ما عملوا " غير منقوطة ، وصواب قراءتها ما أثبت .
(10) الأثر : 18018 - " عيسى الجرشي " ، هو " عيسى بن ميمون الجرشي المكي " ، المذكور في الخبر السالف ، مضى قبل مرات ، آخرها رقم : 14677 .
(11) " السدم " ( بفتحتين ) : الولوع بالشيء واللهج به . والغم بطلبه ، والندم على فوته ، وفي الحديث :
"مَنْ كانت الدنيا همَّه وسَدَمَه ، جَعَل الله فَقْرَه بين عينيه " .
(12) الأثر : 18021 - هذا خبر مرسل .
(13) في المطبوعة : " وخلى " ، والصواب ما أثبت ، كما في المخطوطة .
(14) " بحق ، وبحق " هذا قسم عليه ، يريد : " بحق كذا " ، وهو اختصار .
(15) " نشغ الرجل " ، شهق حتى يكاد يبلغ به الغشى . قال أبو عبيدة : " وإنما يفعل ذلك الإنسان شوقا إلى صاحبه ، أو إلى شيء فائت ، وأسفا عليه وحبا للقائه " .
(16) هكذا في المخطوطة والمطبوعة : " نزل إلى القيامة " ، وأنا في شك منها شديد ، وأظن الصواب ما في رواية الترمذي :
" ينزل إلى العباد ليقضى بينهم " .
(17) في المطبوعة والمخطوطة : " تسعر لهم " ، والصواب ما أثبت من سنن الترمذي .
(18) في المطبوعة : " قلنا هذا الرجل شر " ، وهو فاسد جدا ، وفي المخطوطة مثله إلا أن فيها : " بشر " ، والصواب ما أثبته من سنن الترمذي ، ووضعت الزيادة بين القوسين .
(19) الأثر : 18028 - " ابن المبارك " ، هو " عبد الله بن المبارك " ، الإمام المشهور، و " حيوة بن شريح التجيبي المصري " ، روى له الجماعة ، مضى مرارًا ، آخرها رقم : 16382 ." والوليد بن أبي الوليد القرشي ، أبو عثمان " ، ثقة ، مضى برقم : 5455 ." وعقبة بن مسلم التجيبي المصري " ، تابعي ثقة ، مضى مرارًا آخرها رقم : 13240 ، 13241 ." وشفي بن ماتع الأصبحي المصري " ، تابعي ثقة ، من ثقات المصريين ، كان عالمًا حكيمًا . وعده ابن جرير الطبري في الصحابة ، ولا يكاد يثبت . مترجم في التهذيب ، وابن سعد 7 / 2 / 201 ، والكبير 2 / 2 / 267 ، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 389 ، والإصابة في ترجمته في القسم الرابع من حرف الشين . وقال الحافظ ابن حجر : " وأورد حديثه بقي بن مخلد في مسنده أيضًا . ولم أر له رواية عن صحابي إلا عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، وحديثه عنه في السنن . وجزم بأنه تابعي ، وأن حديثه مرسل : البخاري وابن حبان ، وأبو حاتم الرازي ، وغيرهم " . وهذا الخبر رواه الترمذي في " كتاب الزهد " ، في باب " الرياء والسمعة " ، وقال : " هذا حديث حسن غريب " ، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية : " فالترمذي إذا قال : حسن غريب ، قد يعني به أنه غريب من ذلك الطريق ، لكن المتن له شواهد صار بها من جملة الحسن " ، قلت : وغرابة هذا الحديث ، رواية " شفي بن ماتع " ، عن " أبي هريرة " ، وشفي لا تعرف له رواية مشهورة ثانية إلا عند عبد الله بن عمرو بن العاص ، وإن كانت روايته عن أبي هريرة حسنة ، على غرابتها ، لأنه خليق أن يروى عنه ، وخليق أن يلقاه مرة بالمدينة ، كما جاء في هذا الخبر . وقد رواه مختصرًا ، النسائي في سننه 6 : 23 ، من طريق أخرى ، عن محمد بن عبد الأعلى ، عن خالد ، عن جريج ، عن يوسف بن يوسف ، عن سليمان بن يسار ، قال : تفرق الناس عن أبي هريرة ، فقال له قائل من أهل الشأم ، أيها الشيخ ، حدثني حديثًا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الحديث ، فكأن هذا القائل من أهل الشأم هو " شفي بن ماتع " ، وأنه كان بالشأم قبل أن يسكن مصر ، و" شفي " ، في الطبقة الثانية من تابعي أهل مصر ، كما عده ابن سعد . و" سليمان بن يسار الهلالي " ، أحد الفقهاء السبعة بالمدينة ، وسمع من أبي هريرة ، فكأن هذا القائل ، أو شفي بن ماتع ، كان يومئذ صغيرًا وهو يسأل أبا هريرة بالمدينة ، وكأن خبر النسائي ، هو الشاهد من الحديث الصحيح الذي جعل الترمذي يصف الخبر الأول بأنه " حسن غريب " .
(20) في المخطوطة والمطبوعة : " ويدفع عنه وهم الآخرة " . ولا معنى له ، وأرجح أن الصواب ما أثبت .