تفسير الطبري
تفسير الآية رقم 32 من سورة الأعراف
القول في تأويل قوله : قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لهؤلاء الجهلة من العرب الذين يتعرّون عند طوافهم بالبيت, ويحرمون على أنفسهم ما أحللت لهم من طيبات الرزق: من حرَّم، أيها القوم، عليكم زينة الله التي خلقها لعباده أن تتزيَّنوا بها وتتجملوا بلباسها, والحلال من رزق الله الذي رزق خلقه لمطاعمهم ومشاربهم. (12)
* * *
واختلف أهل التأويل في المعنيّ: بـ" الطيبات من الرزق "، بعد إجماعهم على أن " الزينة " ما قلنا.
فقال بعضهم: " الطيبات من الرزق " في هذا الموضع، اللحم. وذلك أنهم كانوا لا يأكلونه في حال إحرامهم.
* ذكر من قال ذلك منهم:
14534- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي في قوله: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق)، وهو الودَك. (13)
14535- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق)، الذي حرموا على أنفسهم. قال: كانوا إذا حجُّوا أو اعتمروا، حرموا الشاة عليهم وما يخرج منها.
14536- وحدثني به يونس مرة أخرى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (قل من حرم زينة الله) إلى آخر الآية, قال: كان قوم يحرِّمون ما يخرج من الشاة، لبنها وسمنها ولحمها, فقال الله: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق)، قال: والزينة من الثياب.
14537- حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخبرنا ابن المبارك, عن سفيان, عن رجل, عن الحسن قال: لما بعث محمدًا فقال: " هذا نبيي، هذا خياري, استنّوا به "، خذوا في سَنَنه وسبيله، (14) لم تغلق دونه الأبواب، ولم تُقَمْ دونه الحَجَبَة, (15) ولم يُغْدَ عليه بالجفان، ولم يُرْجع عليه بها، (16) وكان يجلس بالأرض, ويأكل طعامه بالأرض, ويلعق يده, ويلبس الغليظ, ويركب الحمار, ويُرْدِف بعده, (17) وكان يقول: " مَنْ رغب عن سنتي فليس مني". قال الحسن: فما أكثر الراغبين عن سنته، التاركين لها! ثم إنّ عُلُوجًا فُسَّاقًا, أكلة الربا والغُلول, (18) قد سفَّههم ربي ومقتهم, زعموا أن لا بأس عليهم فيما أكلوا وشربوا، وزخرفوا هذه البيوت, يتأوّلون هذه الآية: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق)، وإنما جعل ذلك لأولياء الشيطان, قد جعلها ملاعبَ لبطنه وفرجه (19) = من كلام لم يحفظه سفيان. (20)
* * *
وقال آخرون: بل عنى بذلك ما كانت الجاهلية تحرم من البحائر والسوائب.
* ذكر من قال ذلك:
14538- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق)، وهو ما حرم أهل الجاهلية عليهم من أموالهم: البحيرة, والسائبة, والوصيلة, والحام.
14539- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي, عن ابن عباس قوله: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق)، قال: إن الجاهلية كانوا يحرمون أشياءَ أحلها الله من الثياب وغيرها, وهو قول الله: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالا ، [سورة يونس: 59]، وهو هذا, فأنـزل الله: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق)
* * *
القول في تأويل قوله : قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ
قال أبو جعفر: يقول الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد = لهؤلاء الذين أمرتك أن تقول لهم: مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ، إذ عَيُّوا بالجواب، (21) فلم يدروا ما يجيبونك = : زينة الله التي أخرج لعباده, وطيبات رزقه، للذين صدّقوا الله ورسوله, واتبعوا ما أنـزل إليك من ربك، في الدنيا, وقد شركهم في ذلك فيها من كفر بالله ورسوله وخالف أمر ربه, وهي للذين آمنوا بالله ورسوله خالصة يوم القيامة, لا يشركهم في ذلك يومئذ أحدٌ كفر بالله ورسوله وخالف أمر ربه. (22)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
14540- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: (قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة)، يقول: شارك المسلمون الكفار في الطيبات, فأكلوا من طيبات طعامها, ولبسوا من خِيار ثيابها, ونكحوا من صالح نسائها, وخلصوا بها يوم القيامة.
14541- وحدثني به المثنى مرة أخرى بهذا الإسناد بعينه, عن ابن عباس فقال: (قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا)، يعني: يشارك المسلمون المشركين في الطيبات في الحياة الدنيا, ثم يُخْلص الله الطيبات في الآخرة للذين آمنوا, وليس للمشركين فيها شيء.
14542- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قال: قال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ)، يقول: قل هي في الآخرة خالصة لمن آمن بي في الدنيا, لا يشركهم فيها أحدٌ في الآخرة. (23) وذلك أن الزينة في الدنيا لكل بني آدم, فجعلها الله خالصة لأوليائه في الآخرة.
14543- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سلمة بن نبيط, عن الضحاك: (قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة)، قال: اليهود والنصارى يشركونكم فيها في الدنيا, وهي للذين آمنوا خالصة يوم القيامة.
14544- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن الحسن: (قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة)، خالصةً للمؤمنين في الآخرة، لا يشاركهم فيها الكفار. فأما في الدنيا فقد شاركوهم.
14545- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: (قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة)، مَنْ عمل بالإيمان في الدنيا خلصت له كرامة الله يوم القيامة, ومَنْ ترك الإيمان في الدنيا قَدِم على ربّه لا عذرَ له.
14546- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السديّ: (قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا)، يشترك فيها معهم المشركون =(خالصة يوم القيامة)، للذين آمنوا.
14547- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة)، يقول: المشركون يشاركون المؤمنين في الدنيا في اللباس والطعام والشراب, ويوم القيامة يَخْلُص اللباس والطعام والشراب للمؤمنين, وليس للمشركين في شيء من ذلك نصيبٌ.
14548- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال: الدنيا يصيب منها المؤمن والكافر, ويخلص خيرُ الآخرة للمؤمنين, وليس للكافر فيها نصيب.
14549- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: (قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة)، قال: هذه يوم القيامة للذين آمنوا, لا يشركهم فيها أهل الكفر، ويشركونهم فيها في الدنيا. وإذا كان يوم القيامة، فليس لهم فيها قليل ولا كثير.
* * *
وقال سعيد بن جبير في ذلك بما:-
14550- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا إسماعيل بن أبان، وحبويه الرازي أبو يزيد، عن يعقوب القمي, عن سعيد بن جبير: (قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة)، قال: ينتفعون بها في الدنيا، ولا يتبعهم إثمها. (24)
* * *
واختلفت القرأة في قراءة قوله: " خالصة ".
فقرأ ذلك بعض قرأة المدينة: " خَالِصَةٌ"، برفعها, بمعنى: قل هي خالصة للذين آمنوا.
* * *
وقرأه سائر قرأة الأمصار: (خَالِصَةً)، بنصبها على الحال من " لهم ", وقد ترك ذكرها من الكلام اكتفاءً منها بدلالة الظاهر عليها, على ما قد وصفت في تأويل الكلام أن معنى الكلام: قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا مشتركة, وهي لهم في الآخرة خالصة. ومن قال ذلك بالنصب، جعل خبر " هي" في قوله: (للذين آمنوا) (25)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين عندي بالصحة، قراءة من قرأ نصبًا, لإيثار العرب النصبَ في الفعل إذا تأخر بعد الاسم والصفة، (26) وإن كان الرفع جائزًا, غير أن ذلك أكثر في كلامهم.
* * *
القول في تأويل قوله : كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: كما بينت لكم الواجب عليكم في اللباس والزينة، والحلال من المطاعم والمشارب والحرام منها, وميزت بين ذلك لكم، أيها الناس, كذلك أبيِّن جميع أدلتي وحججي، وأعلامَ حلالي وحرامي وأحكامي، (27) لقوم يعلمون ما يُبَيَّن لهم، ويفقهون ما يُمَيَّز لهم.
--------------------
الهوامش :
(12) انظر تفسير (( الزينة )) فيما سلف قريبًا ص : 389 ، وما بعدها .
= وتفسير (( الطيبات )) فيما سلف من فهارس اللغة ( طيب ) .
(13) (( الودك )) سلف تفسيره في ص : 395 ، تعليق : 1 .
(14) في المطبوعة : (( في سنته )) ، وقراءتها في المخطوطة ما أثبت . (( السنن )) ( بفتحتين ) الطريقة : يقال : (( امض على سننك )) ، و (( استقام فلان على سننه )) ، أي طريقته .
(15) (( الحجبة )) جمع (( حاجب )) ، وهو الذي يحول بين الناس والملك أن يدخلوا عليه .
(16) في المطبوعة : (( ولم يغد عليه بالجبار )) ، علق عليها أنه في نسخة (( بالجباب )) ، وفي المخطوطة : (( بالجبان )) غير منقوطة ، وهي خطأ ، وصواب قراءتها ما أثبت ، كما وردت على الصواب في حلية الأولياء لأبي نعيم 2 : 153 .
و (( الجفان )) جمع (( جفنة )) ، وهي قصعة الطعام العظيمة . ونص أبي نعيم : (( أما والله ما كان يغدي عليه بالجفان ولا يراح )) ، وهو أجود .
(17) في المطبوعة : (( ويردف عبده )) ، غير ما في المخطوطة ، وفي أبي نعيم : (( ويردف خلفه )) ، وهو بمعنى ما رواه الطبري . أي : يردف خلفه على الدابة رديفًا .
(18) في المطبوعة والمخطوطة : (( ثم علوجًا )) بإسقاط (( إن )) ، والصواب من حلية الأولياء . و (( الغلول )) : هو الخيانة في المغنم ، والسرقة من الغنيمة .
(19) يعني قد جعل الآية بما تأولها به ، لعبًا يلعب بتأويله ، ليفتح الباب لكل شهوة من شهوات بطنه وفرجه .
(20) الأثر : 14537 - الذي لم يحفظه سفيان ، حفظه غيره ، رواه أبو نعيم في حلية الأولياء 2 : 153 ، 154 من طريق محمد بن محمد ، عن الحسن بن أحمد بن محمد ، عن أبي زرعة ، عن مالك بن إسماعيل ، عن مسلمة بن جعفر ، عن الحسن ، بنحو هذا اللفظ ، وهي صفة تحفظ ، وموعظة تهدى إلى طغاتنا في زماننا ، من الناطقين بغير معرفة ولا علم في فتوى الناس بالباطل الذي زخرفته لهم شياطينهم
(21) (( عي بالجواب )) : إذا عجز عنه ، وأشكل عليه ، ولم يهتد إلى صوابه .
(22) انظر تفسير (( خالصة )) فيما سلف 2 : 365 /12 : 148 ، 149 .
(23) أسقطت المطبوعة : (( في الآخرة )) من آخر هذه الجملة .
(24) الأثر : 14550 - (( إسماعيل بن أبان الوراق الأزدي ، أبو إسحاق )) ، شيعي ، ثقة صدوق في الرواية . مترجم في التهذيب ، والكبير 1 /1 / 347 ، وابن أبي حاتم 1 /1 / 160 .
و (( حبويه الرازي )) ، أبو يزيد ، مضت ترجمته برقم : 14365 .
(25) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 376 ، 377 .
(26) (( الفعل )) ، يعني المصدر . و (( الاسم )) ، هو المشتق . و (( الصفة )) ، حرف الجر والظرف . انظر فهارس المصطلحات . وقد أسلف أبو جعفر في 2 : 365 أن (( خالصة )) مصدر مثل (( العافية ))
(27) انظر تفسير (( التفصيل )) فيما سلف ص : 237 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
= وتفسير (( آية )) فيما سلف من فهرس اللغة ( أيي ) .