تفسير الطبري
تفسير الآية رقم 12 من سورة الأنفال
وأما قوله: (إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم)، أنصركم (48) =(فثبتوا الذين آمنوا)، يقول: قوُّوا عزمهم, وصححوا نياتهم في قتال عدوهم من المشركين. (49)
* * *
وقد قيل: إن تثبيت الملائكة المؤمنين، كان حضورهم حربهم معهم.
* * *
وقيل: كان ذلك معونتهم إياهم بقتال أعدائهم.
* * *
وقيل: كان ذلك بأن الملك يأتي الرجلَ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقول: سمعت هؤلاء القوم= يعني المشركين= يقولون: والله لئن حملوا علينا لننكشفن! (50) فيحدِّث المسلمون بعضهم بعضًا بذلك, فتقوى أنفسهم. قالوا: وذلك كان وحي الله إلى ملائكته.
* * *
وأما ابن إسحاق, فإنه قال بما:-
15783- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: (فثبتوا الذين آمنوا)، أي: فآزروا الذين آمنوا. (51)
* * *
القول في تأويل قوله : سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12)
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: سَأرْعِبُ قلوب الذين كفروا بي، أيها المؤمنون، منكم, وأملأها فرقًا حتى ينهزموا عنكم (52) = " فاضربوا فوق الأعناق ".
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (فوق الأعناق).
فقال بعضهم: معناه: فاضربوا الأعناق.
* ذكر من قال ذلك:
15784- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن إدريس, عن أبيه, عن عطية: (فاضربوا فوق الأعناق)، قال: اضربوا الأعناق.
15785- . . . . قال، حدثنا أبي, عن المسعودي, عن القاسم, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لم أبعث لأعذِّب بعذاب الله, إنما بعثت لضرب الأعناق وشدِّ الوَثَاق.
15786- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (فاضربوا فوق الأعناق)، يقول: اضربوا الرقاب.
* * *
واحتج قائلو هذه المقالة بأن العرب تقول: " رأيت نفس فلان ", بمعنى: رأيته. قالوا: فكذلك قوله: (فاضربوا فوق الأعناق)، إنما معناه: فاضربوا الأعناق.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك، فاضربوا الرؤوس.
* ذكر من قال ذلك:
15787- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين, عن يزيد, عن عكرمة: (فاضربوا فوق الأعناق)، قال: الرؤوس.
* * *
واعتلّ قائلو هذه المقالة بأن الذي " فوق الأعناق "، الرؤوس. قالوا: وغير جائز أن تقول: " فوق الأعناق ", فيكون معناه: " الأعناق ". قالوا: ولو جاز ذلك، جاز أن يقال (53) " تحت الأعناق ", فيكون معناه: " الأعناق ". قالوا: وذلك خلاف المعقول من الخطاب, وقلبٌ لمعاني الكلام. (54)
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: فاضربوا على الأعناق، وقالوا: " على " و " فوق " معناهما متقاربان, فجاز أن يوضع أحدهما مكان الآخر. (55)
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: أن الله أمر المؤمنين، مُعَلِّمَهم كيفية قتل المشركين وضربهم بالسيف: أن يضربوا فوق الأعناق منهم والأيدي والأرجل. وقوله: (فوق الأعناق)، محتمل أن يكون مرادًا به الرؤوس, ومحتمل أن يكون مرادًا له: من فوق جلدة الأعناق, (56) فيكون معناه: على الأعناق. وإذا احتمل ذلك، صح قول من قال، معناه: الأعناق. وإذا كان الأمر محتملا ما ذكرنا من التأويل, لم يكن لنا أن نوجِّهه إلى بعض معانيه دون بعض، إلا بحجة يجب التسليم لها, ولا حجة تدلّ على خصوصه, فالواجب أن يقال: إن الله أمر بضرب رؤوس المشركين وأعناقهم وأيديهم وأرجلهم، أصحابَ نبيه صلى الله عليه وسلم الذين شهدوا معه بدرًا.
* * *
وأما قوله: (واضربوا منهم كل بنان)، فإن معناه: واضربوا، أيها المؤمنون، من عدوكم كل طَرَف ومَفْصِل من أطراف أيديهم وأرجلهم.
* * *
و " البنان ": جمع " بنانة ", وهي أطراف أصابع اليدين والرجلين, ومن ذلك قول الشاعر: (57)
أَلا لَيْتَنِــي قَطَّعْــتُ مِنِّــي بَنَانَـةً
وَلاقَيْتُـهُ فِـي الْبَيْـتِ يَقْظَـانَ حاذِرَا (58)
يعني ب " البنانة " واحدة " البنان ".
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
15788- حدثنا أبو السائب قال، حدثنا ابن إدريس, عن أبيه, عن عطية: (واضربوا منهم كل بنان)، قال: كل مفصِل.
15789 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن إدريس, عن أبيه, عن عطية: (واضربوا منهم كل بنان)، قال: المفاصل.
15790- . . . . قال: حدثنا المحاربي, عن جويبر, عن الضحاك: (واضربوا منهم كل بنان)، قال: كل مفصل.
15791- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين, عن يزيد, عن عكرمة: (واضربوا منهم كل بنان)، قال: الأطراف. ويقال: كل مفصل.
15792- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس: (واضربوا منهم كل بنان)، يعني: بالبنان، الأطراف.
15793- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قوله: (واضربوا منهم كل بنان)، قال: الأطراف.
15794- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (واضربوا منهم كل بنان)، يعني: الأطراف.
-------------------------
الهوامش :
(48) انظر تفسير " مع " فيما سلف 3 : 214 5 : 353 .
(49) انظر تفسير " التثبيت " فيما سلف 5 : 354 7 272 ، 273 ، ومادة ( ثبت ) في فهارس اللغة .
(50) " الانكشاف " ، الانهزام .
(51) الأثر : 15783 - سيرة ابن هشام 2 : 323 ، وهو تابع الأثر السالف رقم : 15780 .
(52) انظر تفسير " إلقاء الرعب " فيما سلف 7 : 279 .
(53) في المطبوعة والمخطوطة : " ولو جاز ذلك كان أن يقال " ، وهو فاسد ، صوابه ما أثبت .
(54) في المطبوعة والمخطوطة : " وقلب معاني الكلام " ، صواب السياق ما أثبت .
(55) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 242 .
(56) في المطبوعة حذف " من " ، وهي في المخطوطة سيئة الكتابة .
(57) هو العباس بن مرداس السلمي .
(58) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 242 ، اللسان ( بنن ) ، ولم أجده في مكان آخر .
وقال أبو عبيدة بعد البيت : " يعني أبا ضب ، رجلاً من هذيل ، قتل هريم بن مرداس وهو نائم ، وكان جاورهم بالربيع " .
وقد روى أبو الفرج الأصبهاني في الأغاني 13 : 66 ( ساسى ) ، عن أبي عبيدة أن هريم بن مرداس كان مجاورًا في خزاعة ، في جوار رجل منهم يقال له عامر ، فقتله رجل من خزاعة يقال له خويلد . فالذي قاله أبو عبيدة هنا مضطرب ، وهو زيادة بين قوسين في النسخة المطبوعة ، فأخشى أن لا تكون من قول أبي عبيدة .
و أما " أبو ضب " الرجل من هذيل ، فهو شاعر معروف من بني لحيان ، من هذيل ، له شعر في بقية أشعار الهذليين وأخبار ، انظر رقم : 13 ، 14 من الشعر . وجاء أيضًا في البقية من شعر هذيل 43 ، ما نصه : " وقال عباس بن مرداس ، وأخواله بنو لحيان " :
لا تَــأْمَنَنْ بالعَـادِ والخِـلْفِ بَعْدَهَـا
جِــوَارَ أُنـاسٍ يَبِتَنُـونَ الحَصَـائِرَاِ
ذكر " جوارًا " كان في بني لحيان ، فأجابه رجل من بني لحيان ، يذكر عقوقه أخواله ، ويتهدده بالقتل .
جَـزَى اللـه عَبَّاسًـا عَـلَى نَأْي دَارِهِ
عُقُوقًــا كَحَـرِّ النَّـارِ يـأتِي المَعَاشِرَا
فَوَاللـهِ لَـوْلا أَنْ يُقـال : ابْـنُ أخْتِهِ !
لَفَقَّرْتُــهُ , إنِّــي أُصِيـبُ المَفـاقِرَا
فِــدًي لأَبِـي ضَـبٍّ تِـلادِي , فإنَّنَـا
تَكَلْنَــا عَلَيْــهِ دَاخِــلا ومُجَـاهِرَا
وَمَطْعَنَــهُ بالسَّـيْفِ أحْشَـاءَ مـالِكٍ
بِمــا كـانَ مَنَّـي أوْرَدُوهُ الجَـرَائِرَا
فقد ذكر في هذا الشعر " أبا ضب " ، ومقتله " مالكا " . لم أقف بعد على " مالك " هذا ، ولكني أظن أن شعر عباس هذا ، يدخل في خبر مقتل " مالك " الذي قتله " أبو ضب " ، لا في خبر مقتل أخيه " هريم بن مرداس " ، فذاك خبر معروف رجاله .
وقوله " حاذرا " ، أي : مستعدًا حذرًا متيقظًا .
وقال شمر : " الحاذر " ، المؤدي الشاك السلاح ، وفي شعر العباس بن مرداس ما يشعر بذلك :
وَإنِّــي حــاذِرٌ أَنْمِــى سِـلاحِي
إلـــى أَوْصــالِ ذَيَّــالٍ مَنِيــع
وكان في المطبوعة : " قطعت منه بنانة " ، فأفسد الشعر إفسادًا ، إذ غير الصواب المحض الذي في المخطوطة ، متابًعًا خطأ الرواية المحرفة في لسان العرب .