الوسيط للطنطاوي
تفسير الآية رقم 7 من سورة الفاتحة
وجملة { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } بدل من الصراط المستقيم.
ولم يقل: اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم مستغنياً عن ذكر الصراط المستقيم، ليدل أن صراط هؤلاء المنعم عليهم هو الصراط المستقيم.
وقال: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } ولم يقل صراط الأنبياء أو الصالحين، ليدل على أن الدين في ذاته نعمة عظيمة، ويكفي للدلالة على عظمتها إسنادها إليه - تعالى - في قوله: { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } لأن المراد بالإِنعام هنا - على الراجح - الإِنعام الديني. فالمنعم عليهم هم من عرفوا الحق فتمسكوا به، وعرفوا الخير فعملوا به.
قال بعض العلماء: (وإنما اختار في البيان أن يضيف الصراط إلى المنعم عليهم لمعنيين:
أولهما: هو إبراز نفسية المحب المخلص، وأنه يكون شديد الاحتياط دقيق التحري عن الطريق الموصل إلى ساحة الرضا في ثقة تملأ نفسه، وتفعم قلبه، ولا يجد في مثل هذا المقام ما يملأ نفسه ثقة إلا أن يبين الطريق، بأنه الطريق الذي وصل بالسير عليه من قبله الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون.
وثانيهما: أن من خواطر المؤمل في نعيم ربه أن يكون تمام أنسه في رفقة من الناس صالحين، وصحب منهم محسنين).
وقوله - تعالى - { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم } بدل من { ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } وأتى في وصف الإِنعام بالفعل المسند إلى الله - تعالى - فقال: { أنعمت عليهم } في وصف الغضب باسم المفعول فقال: { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم } وفي ذلك تعليم لأدب جميل، وهو أن الإِنسان يجمل به أن يسند أفعال الإِحسان إلى الله، ويتحامى أن يسند إليه أفعال العقاب والابتلاء، وإن كان كل من الإِحسان والعقاب صادراً منه، ومن شواهد هذا قوله - تعالى - حكاية عن مؤمني الجن
{ وَأَنَّا لاَ نَدْرِيۤ أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي ٱلأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً }
وحرف (لا) في قوله { وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } جئ به لتأكيد معنى النفي المستفاد من كلمة غير. والمراد بالمغضوب عليهم اليهود. وبالضالين النصارى. وقد ورد هذا التفسير عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث رواه الإِمام أحمد فى مسنده وابن حبان في صحيحه.
ومن المفسرين من قال بأن المراد بالمغضوب عليهم من فسدت إرادتهم حيث علموا الحق ولكنهم تركوه عناداً وجحودا، وأن المراد بالضالين من فقدوا العلم فهم تائهون في الضلالات دون أن يهتدوا إلى طريق قويم.
وقدم المغضوب عليهم على الضالين، لأن معنى المغضوب عليهم كالضد لمعنى المنعم عليهم، ولأن المقابلة بينهما أوضح منها بين المنعم عليهم والضالين، فكان جديراً بأن يوضع في مقابلته قبل الضالين.
قال العلماء: ويستحب لمن يقرأ الفاتحة أن يقول بعدها (آمين) ومعناه اللهم استجب وليس هذا اللفظ من القرآن بدليل أنه لم يثبت في المصاحف والدليل على استحباب التأمين ما رواه الإِمام أحمد وأبو داود والترمذي عن وائل بن حجر قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قرأ { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } فقال: (آمين) مد بها صوته.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا أمن الإِمام فأمنوا، فإن من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر الله له ما تقدم من ذنبه ".
هذا، وقد أفاض العلماء في الحديث عما اشتملت عليه سورة الفاتحة من آداب وعقائد وعبادات وأحكام، ومن ذلك قول ابن كثير.
(اشتملت هذه السورة الكريمة، وهى سبع آيات - على حمد الله وتمجيده والثناء عليه بذكر أسمائه الحسنى المستلزمة لصفاته العليا، وعلى ذكر المعاد وهو يوم الدين، وعلى إرشاد عبيده إلى سؤاله والتضرع إليه والتبرى من حولهم وقوتهم، إلى إخلاص العبادة له وتوحيده بالألوهية، وتنزيهه عن أن يكون له شريك أو نظير، وإلى سؤالهم إياه الهداية إلى الصراط المستقيم، وهو الدين القويم وتثبيتهم عليه، واشتملت على الترغيب في الأعمال الصالحة ليكونوا مع أهلها يوم القيامة، والتحذير من مسالك الباطل لئلا يحشروا مع سالكيها يوم القيامة، وهم المغضوب عليهم والضالون).
وقال بعض العلماء: سورة الفاتحة مشتملة على أربعة أنواع من العلوم هي مناط الدين.
أحدها: علم الأصول وإليه الإِشارة بقوله { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ ٱلرَّحْمـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } ، ومعرفة النبوات وإليه الاشارة بقوله: { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } ومعرفة المعاد وإليه الاشارة بقوله { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ }.
وثانيها: علم الفروع وأعظمه العبادات وإليه الإِشارة بقوله { إِيَّاكَ نَعْبُدُ }.
وثالثها: علم الأخلاق، وإليه الإِشارة بقوله { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ }.
ورابعها: علم القصص والأخبار عن الأمم السابقة السعداء منهم والأشقياء، وهو المراد بقوله { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.