الوسيط للطنطاوي
تفسير الآية رقم 138 من سورة البقرة
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك- أن دين الله وهو الإسلام أولى بالاتباع فقال تعالى:
صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ.
الصبغة فعلة من صبغ كالجلسة من جلس وهي في أصل اللغة. الحالة التي يقع عليها الصبغ وهو تلوين الأشياء- كالثياب وغيرها- بألوان معينة واستعملت الصيغة في الآية بمعنى الإيمان بما فصلته الآية الكريمة وهي قوله تعالى قبل ذلك قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى. إلخ الآية. وإنما أطلقت الصبغة على الإيمان بما ذكرته الآية مفصلا، لأن الإيمان يمتزج بالقلوب امتزاج الصبغ بالمصبوغ، وتبدو آثاره على المؤمنين كما تبدو آثار الصبغ على المصبوغ. ويقال: تصبغ فلان في الدين إذا أحسن دينه وتقيد بتعاليمه تقيدا تاما.
وقوله: صِبْغَةَ اللَّهِ هكذا بالنصب على أنه وارد مورد المصدر المؤكد لقولهم (آمنا) فإنه في معنى صبغنا الله بالإيمان، وكأنهم قالوا صبغنا الله بالإيمان صبغته. وإيراد المصدر تأكيدا لفعل يوافقه في المعنى ويخالفه في اللفظ معهود في الكلام البليغ.
قال القاضي: قوله تعالى: صِبْغَةَ اللَّهِ متعلق بقوله: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ إلى قوله:وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فوصف هذا الإيمان منهم بأنه صيغة الله، ليبين أن المباينة بين هذا الدين الذي اختاره الله وبين الدين الذي اختاره المبطلون ظاهرة جلية، كما تظهر المباينة بين الألوان والأصباغ لذي الحس السليم»
والاستفهام في قوله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً للإنكار والنفي والمعنى: لا أحد أحسن من الله صبغة لأنه هو الذي يصبغ عباده بالإيمان ويطهرهم من أدران الكفر والضلال، فهي صبغة ثابتة لا تزول لأن الإيمان متى خالطت بشاشته القلوب لا يرتد عنه أحد سخطة له.
بخلاف ما يتلقنه أهل الكتاب عن أحبارهم ورهبانهم من الأديان الباطلة فهو من الصيغة البشرية، التي تجعل من الدين الواحد أديانا مختلفة ومذاهب متنافرة.
وهذا التركيب «ومن أحسن من الله صبغة» يدل بحسب أصل الوضع اللغوي على نفى أن يكون دينا أفضل من دين الله، ويبقى احتمال أن يوجد دين يساويه في الحسن، وهذا الاحتمال لم ينفه التركيب بحسب أصل الوضع ولكن مثل هذا التركيب صار أسلوبا يفهم منه بمعونة مقام المدح نفى مساواة دين لدين الله في الحسن، كما يفهم منه نفى أن يكون هناك دين أحسن منه.
وأفضلية دين الله من جهة هدايته إلى الاعتقاد الحق، والأخلاق الكريمة، والآداب السمحة والعادات الصحيحة، والسياسة الرشيدة والمعاملات القائمة على رعاية المصالح.
وقوله تعالى: وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ عطف على آمنا بالله في قوله تعالى: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ والمعنى: قل لهم يا محمد إننا نحن معاشر المسلمين نعبد الله وحده وصبغته هي صبغتنا ولا نعبد غيره فلا نتخذ الأحبار والرهبان أربابا يزيدون في ديننا وينقصون ويحلون ويحرمون ويمحون من النفوس صبغة التوحيد، ليحلوا محلها بأهوائهم صبغة الشرك والكفر.