الوسيط للطنطاوي
تفسير الآية رقم 198 من سورة البقرة
ثم بين- سبحانه- أن التزود بالزاد الروحي لا يتنافى مع التزود يا لزاد المادي متى توافرت التقوى، فقال- تعالى-: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ.
الجناح: أصله من جنح الشيء إذا مال: يقال جنحت السفينة إذا مالت إلى أحد جانبيها.
والمراد بالجناح هنا الإثم والذنب، لأنه لما كان الإثم يميل بالإنسان عن الحق إلى الباطل سمى جناحا.
والابتغاء: الطلب بشدة، وجملة أَنْ تَبْتَغُوا في موضع جر بتقدير في.
والفضل: الزيادة وتكون في الخير والشر إلا أنه جرى العرف أن يعبر عن الزيادة الحسنة بالفضل وعن الزيادة القبيحة بالفضول.
والمراد به هنا: المال الحلال المكتسب عن طريق التجارة المشروعة أو غيرها من وجوه الرزق الحلال.
أى: لا إثم ولا حرج عليكم في أن تطلبوا رزقا حلالا ومالا طيبا عن طريق التجارة أو غيرها من وسائل الكسب المشروعة في موسم الحج.
وقد ذكر المفسرون أن الناس كانوا يتحاشون من التجارة في الحج، حتى إنهم كانوا يتجنبون البيع والشراء في العشر الأوائل من ذي الحجة، فنزلت هذه الآية لتخبرهم أنه لا حرج عليهم في ذلك.
روى البخاري عن ابن عباس قال: كان ذو المجاز وعكاظ متجر الناس في الجاهلية فلما جاء الإسلام كأنهم كرهوا ذلك حتى نزلت لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ.
وقال ابن كثير: وروى الإمام أحمد عن أبى أمامة التيمي قال: قلت لابن عمر: إنا نكري فهل لنا من حج؟ قال: أليس تطوفون بالبيت وترمون الجمار وتحلقون رءوسكم وتقضون المناسك قال: قلت بلى. فقال ابن عمر: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فسأله عن الذي سألتنى فلم يجبه حتى نزل عليه جبريل بهذه الآية لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فدعاه النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال له «أنتم حجاج» .
فالآية الكريمة صريحة في إباحة طلب الرزق لمن هو في حاجة إلى ذلك في موسم الحج، بشرط ألا يشغله عن أداء فرائض الله.
ثم قال- تعالى-: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ.
الفاء في قوله: فإذا لتفصيل بعض ما أجمل من قبل في قوله فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ..
وأفضتم. اندفعتم بكثرة متزاحمين. وذلك تشبيه لهم بالماء إذا كثر ودفع بعضه بعضا فانتشر وسال من حافتي الوادي والإناء والإفاضة في الحديث الاندفاع فيه بإكثار وتصرف في وجوهه ومنه قوله- تعالى- إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ. فأصل هذه الكلمة الدفع للشيء بكثرة حتى يتفرق.
والتقدير: أفضتم أنفسكم فحذف المفعول للعلم به.
والمراد: خروجهم من عرفات بشيء من السرعة في تكاثر وازدحام متجهين إلى المزدلفة.
وعرفات: اسم للجبل المعروف، قيل سمى بذلك لأن الناس يتعارفون به فهم يجتمعون عليه في وقت واحد فيجري التعارف بينهم.
وقد اتفق العلماء على أن الوقوف بعرفات هو ركن الحج الأكبر ففي الحديث الشريف «الحج عرفة» ويكون ذلك في اليوم التاسع من ذي الحجة.
قال القرطبي: أجمع أهل العلم على أن من وقف بعرفة يوم عرفة قبل الزوال ثم أفاض منها قبل الزوال أنه لا يعتد بوقوفه ذلك قبل الزوال. وأجمعوا على تمام حج من وقف بعرفة بعد الزوال وأفاض نهارا قبل الليل إلا مالك بن أنس فإنه قال: لا بد أن يأخذ من الليل شيئا، وأما من وقف بعرفة بالليل فإنه لا خلاف بين الأمة في تمام حجه. والحجة للجمهور مطلق قوله: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ: فإنه لم يختص ليلا من نهار. وحديث عروة بن مضرس قال: أتيت النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو في الموقف من جمع- أى من المزدلفة- فقلت: يا رسول الله، جئتك من جبل طيئ أكللت مطيتي وأتعبت نفسي.. فهل لي من حج يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «من صلّى معنا صلاة الغداة بجمع وقد أتى عرفات قبل ذلك ليلا أو نهارا فقد تم حجه » .
ومن في قوله: مِنْ عَرَفاتٍ ابتدائية. أى، فإذا أفضتم خارجين من عرفات إلى المشعر الحرام.
والمشعر الحرام: هو المزدلفة وقيل هو موضع بها. والمشعر: اسم مشتق من الشعور أى:
العلم، أو من الشعار أى: العلامة.
ووصف المشعر بوصف الحرام لأنه من أرض الحرم، وهو منسك له حرمة وتقديس.
والمزدلفة من الازدلاف وهو القرب وسميت بذلك لأن الحجاج يزدلفون إليها من عرفات ليبيتوا بها قاصدين الاقتراب من منى.
وتسمى المزدلفة- أيضا- «جمع» لاجتماع الناس في هذا المكان أو جمعهم فيه بين صلاتي المغرب والعشاء جمع تأخير. وتسمى كذلك «قزح» .
ويرى الحنفية والشافعية أن الوقوف بالمزدلفة واجب وليس بركن، ومن فاته لا يبطل حجه ويجب عليه دم.
ويرى أكثر المالكية أن الوقوف بها سنة مؤكدة.
ويرى بعض التابعين وبعض الشافعية أن الوقوف بها ركن كالوقوف بعرفات والمعنى: فإذا سرتم- يا معشر الحجاج- من عرفات متدافعين متزاحمين متجهين إلى المزدلفة فأكثروا من ذكر الله- تعالى- بالتلبية والتهليل والدعاء بقلوب مخبتة، ونفوس صافية، لأن ذكر الله- تعالى- في تلك المواطن المقدسة والأوقات الفاضلة من شأنه أن يرفع الدرجات، ويوصل إلى أعلا المقامات.
ثم قال- تعالى-: وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ الكاف للتشبيه. ومعنى التشبيه في مثل هذا التركيب المشابهة في التساوي في الحسن والكمال. كما تقول: اخدمه كما أكرمك تعنى:
لا تتقاصر خدمتك عن إكرامه.
والمعنى: اذكروا الله- تعالى- ذكرا حسنا مماثلا لهدايته لكم، وأنتم تعلمون أن هذه الهداية شأنها عظيم فبسببها خرجتم من الظلمات إلى النور، فيجب عليكم أن تكثروا من ذكر الله ومن الثناء عليه.
قال الآلوسى: و «ما» تحتمل أن تكون مصدرية فمحل كَما هَداكُمْ النصب على المصدرية، بحذف الموصوف. أى: ذكرا مماثلا لهداكم.. وتحتمل أن تكون كافة فلا محل لها من الإعراب. والمقصود من الكاف مجرد تشبيه مضمون الجملة بالجملة، لذا لا تطلب عاملا تفضى بمعناه إلى مدخولها. وقيل: إن الكاف للتعليل، وما مصدرية. أى، اذكروه وعظموه لأجل هدايته السابقة منه- تعالى- لكم.
وأَنْ في قوله: وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ هي المخففة من الثقيلة والضمير في مِنْ قَبْلِهِ يعود إلى الهدى المأخوذ من ما المصدرية وما دخلت عليه والمراد بالضلال هنا: الجهل بالإيمان وبالتكاليف التي كلف الله بها عباده.
أى: اذكروا الله- تعالى- ذكرا مشابها لهدايته لكم، وإنكم لولا هذه الهداية لبقيتم على ضلالكم وجهلكم بالدين الحق، ولكن الله- تعالى- من عليكم بهذه الهداية فأكثروا من ذكره وشكره عليها.