الوسيط للطنطاوي
تفسير الآية رقم 73 من سورة البقرة
وقوله تعالى : ( فَقُلْنَا اضربوه بِبَعْضِهَا ) إرشاد لهم إلى الوسيلة التي عن طريقها سيهتدون إلى القاتل الحقيقي ، والضمير في قوله ( اضربوه ) يعود على النفس ، وتذكيره مراعى فيه معناها هو الشخص أو القتيل .
وضرب القتيل ببعضها - أيا كان ذلك البعض - دليل على كمال قدرة الله تعالى . وفيه تيسير عليهم . واسم الإِشارة في قوله تعالى : ( كَذَلِكَ يُحْيِي الله الموتى ) مشار به إلى محذوف دل عليه سياق الكلام .
والتقدير : فقلنا لقوم موسى الذين تنازعوا في شأن القتيل اضربوه ببعض البقرة ليحيا ، فضربوه فأحياه الله ، وأخبر القتيل عن قاتله ، وكمثل إحيائه يحيي الله الموتى في الآخرة للثواب والعقاب .
وبذلك تكون الآية ظاهرة في أن الذي ضرب ببعض البقرة قد صار حياً بعد موته .
قال الإِمام ابن جرير - رحمه الله - : فإن قيل : وما كان معنى الأمر بضرب القتيل ببعضها؟ قيل : ليحيا فينبئ نبي الله والذين ادارءوا فيه عن قاتله .
فإن قال : وأين الخبر عن أن الله - تعالى - أمرهم بذلك؟ قيل : ترك ذلك اكتفاء بدلالة ما ذكر من الكلام الدال عليه ، والمعنى : فقلنا اضربوه ببعضها ليحيا فضربوه فحيى ، يدل على ذلك قوله تعالى : ( كَذَلِكَ يُحْيِي الله الموتى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) .
والمقصود بالآيات في قوله تعالى : ( وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) الدلائل الدالة على أن الله على كل شيء قدير والتي منها ما شاهدوه بأعينهم من ترتب الحياة على ضرب القتيل بعضو ميت ، وأخباره عن قاتله ، واهتدائهم بسبب ذلك إلى القاتل الحقيقي . وذلك لكي تستعملوا عقولكم في الخير . وتوقنوا بأن من قدر على إحياء نفس ، واحدة فهو قادر على إحياء الأنفس جميعاً لأنه - سبحانه - لا يصعب عليه شيء .
هذا ولصاحب النار - رحمه الله - رأى في تفسير الآية الكريمة ، فهو يرى أن المراد بالإِحياء في قوله تعالى : ( كَذَلِكَ يُحْيِي الله الموتى ) حفظ الدماء وأستبقاؤها وليس المراد به عنده الإِحياء الحقيقي بعد الموت .
فقد قال في تفسيره : وأما قوله تعالى : ( فَقُلْنَا اضربوه بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي الله الموتى ) فهو بيان لإخراج ما يكتمون ، ويروون في هذا الضرب روايات كثيرة . قيل : إن المراد اضربوا المقتول بلسانها وقيل بفخذها وقيل بذنبها ، وقالوا : أنهم ضربوه فعادت إليه الحياة ، وقال قتلني أخي أو ابن فلان ، إلخ ما قالوه ، والآية ليست أيضاً نصاً في مجملة فكيف بتفصيله؟ والظاهر مما قدمنا أن ذلك العمل كان وسيلة عندهم للفصل في الدماء عند التنازع في القاتل إذا وجد القتيل قرب بلد ولم يعرف قاتله ليعرف الجاني من غيره فمن غسل يده وفعل ما رسم لذلك في الشريعة بريء من الدم ومن لم يفعل ثبتت عليه الجناية .
ومعنى إحياء الموتى على هذا حفظ الدماء التي كانت عرضة لأن تسفك بسبب الخلاف في قتل تلك النفس ، أي يحييها بمثل هذه الأحكام ، وهذا الإِحياء على حد قوله تعالى ( وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً ) وقوله تعالى ( وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ ) فالإِحياء هنا معناه الاستبقاء كما هو المعنى في الآيتين . . .
والذي نراه أن المراد بالإِحياء في قوله تعالى : ( كَذَلِكَ يُحْيِي الله الموتى ) الإِحياء الحقيقي للميت بعد موته ، وأن تفسيره بحفظ الدماء واستبقائها ضعيف لما يأتي :
أولا : مخالفته لما ورد عن السلف في تفسير الآية الكريمة فقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : " لما ضرب المقتول ببعضها - يعني ببعض البقرة - جلس حياً ، فقيل له من قتلك؟ قال : بنو أخي قتلوني ثم قبض .
ثانياً : ما ذهب إليه صاحب المنار لا يدل عليه القرآن الكريم لا إجمالاً ولا تفصيلا ، ولا تصريحاً ولا تلميحاً ، لأن قوله تعالى ( كَذَلِكَ يُحْيِي الله الموتى ) ظاهر كل الظهور ، في أن المراد بالأحياء رد الحياة إليهم بعد ذهابها عنهم ، إذ الموتى هم الذين ماتوا بالفعل ، وإحياؤهم رد أرواحهم بعد موتهم وليس هناك نص صحيح يعتمد عليه في مخالفة هذا الظاهر ، ولا توجد أيضاً قرينة مانعة من إرادة هذا المعنى المتبادر من الآية بأدنى تأمل وما دام الأمر كذلك فلا يجوز تأويله بما يخالف ما يدل عليه اللفظ دلالة واضحة ، ومن التعسف الظاهر أن يراد من الموتى الأحياء من الناس ، وبإحياء الموتى تشريع العقوبات صوناً لدماء الأحياء منهم والله تعالى حينما أراد أن يدل على هذا المعنى قال ( وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ يا أولي الألباب لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) فهذه الآية الكريمة تدل على أن القصاص من الجنة يحفظ على الناس حياتهم بدون التواء أو تعمية .
ثالثاً : تفسير الإِحياء برد الحياة إلى الموتى ، كما قال المفسرون ، يودي إلى غرس الإِيمان بصحة البعث في القلوب ، لأن المعنى عليه ، كهذا الإِحياء العجيب - وهو إحياء القتيل بضربة ببعض البقرة ليخبر عن قاتله - يحيي الله الموتى بأن يبعثهم من قبورهم يوم القيامة ، ليحاسبهم على أعمالهم ، فيكون إثباتاً للبعث عن طريق المشاهدة حتى لا ينكره منكر .
رابعاً : قوله تعالى بعد ذلك : ( وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) قرينة قوية على أن المراد بالإِحياء ، رد الحياة إلى الموتى بعد موتهم لأن المراد ب ( آيَاتِهِ ) في هذا الموضع ، - كما قال المفسرون - الدلائل الدالة على عظم قدرته - تعالى - وذلك إنما يكون في خلق الأمور العجيبة الخارقة للعادة والتي ليست في طاقة البشر ، كإحياء الموتى وبعثهم من قبورهم للحساب والجزاء .