الوسيط للطنطاوي
تفسير الآية رقم 154 من سورة آل عمران
ثم ذكرهم- سبحانه- ببعض مظاهر لطفه بهم ورحمته لهم حيث أنزل على طائفة منهم النعاس الذي أدخل الطمأنينة على قلوبهم وأزال الخوف والفزع من نفوسهم فقال- تعالى- ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ والجملة الكريمة معطوفة على قوله فَأَثابَكُمْ.
والأمنة- بفتحتين- مصدر كالأمن. يقال: أمن أمنا وأمانا وأمنة.
والنعاس: الفتور في أوائل النوم ومن شأنه أن يزيل عن الإنسان بعض متاعبه ولا يغيب صاحبه فلذلك كان أمنة لهم: لأنه لو كان نوما ثقيلا لهاجمهم المشركون.
أى: ثم أنزل عليكم- أيها المؤمنون- بعد أن أصابكم من الهم والغم ما أصابكم، أمنا كان مظهره نعاسا اطمأنت معه نفوسكم واستراحت معه أبدانكم من غير فزع ولا قلق، وكان هذا الأمان والاطمئنان لطائفة معينة منكم أخلصت جهادها الله، وخافت مقام ربها ونهت نفسها عن الهوى.
قال ابن كثير: يقول- تعالى- ممتنا على المؤمنين فيما أنزل عليهم من السكينة والأمنة وهو النعاس الذي غشيهم وهم مشتملون السلاح في حال همهم وغمهم والنعاس في مثل تلك الحال.
دليل على الأمان، كما قال في سورة الأنفال: إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ فعن ابن مسعود قال: النعاس في القتال من الله وفي الصلاة من الشيطان» .
وروى البخاري عن أبى طلحة قال: كنت فيمن تغشاه النعاس يوم أحد حتى سقط سيفي من يدي مرارا يسقط وآخذه ويسقط وآخذه» .
وقوله نُعاساً بدل من أَمَنَةً أو عطف بيان.
قال الفخر الرازي: واعلم أن ذلك النعاس فيه فوائد:
أحدها: أنه وقع على كافة المؤمنين لا على الحد المعتاد، فكان ذلك معجزة للنبي صلّى الله عليه وسلّم ولا شك أن المؤمنين متى شاهدوا تلك المعجزة الجديدة ازدادوا إيمانا مع إيمانهم، ومتى صاروا كذلك ازداد جدهم في محاربة العدو. ووثوقهم بأن الله منجز وعده.
وثانيهما: أن الأرق والسهر يوجبان الضعف والكلال والنوم يفيد عود القوة والنشاط واشتداد القوة والقدرة.
وثالثها: أن الكفار لما اشتغلوا بقتل المسلمين ألقى الله النوم على عين من بقي منهم لئلا يشاهدوا قتل أعزتهم فيشتد خوفهم.
ورابعها: أن الأعداء كانوا في غاية الحرص على قتلهم فبقاؤهم في النوم مع السلامة في مثل تلك المعركة من أول الدلائل على أن حفظ الله وعصمته معهم وذلك مما يزيل الخوف عن قلوبهم ويورثهم مزيد الوثوق بوعد الله» .
هذا جانب مما امتن الله به على المؤمنين من فضل ورعابة، حيث أنزل عليهم النعاس في أعقاب ما أصابهم من هموم ليكون راحة لأبدانهم، وأمانا لنفوسهم.
أما غير المؤمنين الصادقين فلم ينزل عليهم هذا النعاس بل بقوا في قلقهم وحسرتهم وقد عبر الله- تعالى- عنهم بقوله: وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ.
وقوله أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ حملتهم على الهم، والهم ما يهتم له الإنسان أو ما يحزنه يقال:
أهمنى الأمر أى أقلقنى وأزعجنى، كما يقال: أهمنى الشيء، أى جعلني مهتما به اهتماما شديدا.
والمعنى: أن الله- تعالى- أنزل النعاس أمانا واطمئنانا للمؤمنين الصادقين بعد أن أصابتهم الغموم، وهناك طائفة أخرى من الذين اشتركوا في غزوة أحد لم تكن صادقة في إيمانها لأنها كانت لا يهمها شأن الإسلام انتصر أو انهزم ولا شأن النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه. وإنما الذي كان يهمها هو شيء واحد وهو أمر نفسها وما يتعلق بذلك من الحصول على الغنائم ومتع الدنيا.
أو المعنى: أن هذه الطائفة قد أوقعت نفسها في الهم والحزن بسبب عدم اطمئنانها وعدم صبرها، وجزعها المستمر.
وإلى هذين المعنيين أشار صاحب الكشاف بقوله: قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ أى: ما يهم إلا هم أنفسهم، لا هم الدين ولا هم الرسول صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين. وقد أوقعتهم أنفسهم وما حل بهم في الهموم والأشجان فهم في التشاكى والتباكي» .
والجملة الكريمة مستأنفة مسوقة لبيان حال ضعاف الإيمان بعد أن بين- سبحانه- ما امتن به على أقوياء الإيمان.
وقوله: يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ وصف آخر لسوء أخلاق هذه الطائفة التي ضعف إيمانها، وصارت لا يهمها إلا ما يتعلق بمنافعها الخاصة.
أى أن هذه الطائفة لم تكتف بما استولى عليها من طمع وجشع وحب لنفسها بل تجاوزت ذلك إلى سوء الظن بالله بأن توهمت بأن الله- تعالى- لن ينصر رسوله صلّى الله عليه وسلّم وأن الإسلام ليس دينا حقا وأن المسلمين لن ينتصروا على المشركين بعد معركة أحد.. إلى غير ذلك من الظنون الباطلة التي تتولد عند المرء الذي ضعف إيمانه وصار لا يهمه إلا أمر نفسه.
وقوله يَظُنُّونَ بِاللَّهِ حال من الضمير المنصوب في أَهَمَّتْهُمْ أو استئناف على وجه البيان لما قبله.
وقوله غَيْرَ الْحَقِّ مفعول مطلق وصف لمصدر محذوف أى يظنون بالله ظنا غير الحق الذي يجب أن يتحلى به المؤمنون إذ من شأن المؤمنين الصادقين أن يستسلموا لقدر الله بعد أن يباشروا الأسباب التي شرعها لهم: وأن يصبروا على ما أصابهم وأن يوقنوا بأن ما أصابهم هو بتقدير الله وبحكمته وبإرادته وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ.
وقوله ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ بدل أو عطف بيان مما قبله.
أى يظنون بالله شيئا هو من شأن أهل الجاهلية الذين يتوهمون أن الله لا ينصر رسله ولا يؤيد أولياءه ولا يهزم أعداءه.
ثم بين- سبحانه- ما صدر عنهم من كلام باطل بسبب ظنونهم السيئة فقال- تعالى-
يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ. والاستفهام للإنكار بمعنى النفي، وهم يريدون بهذا القول تبرئة نفوسهم من أن يكونوا سببا فيما أصاب المسلمين من آلام يوم أحد، وأن الذين تسببوا في ذلك هم غيرهم.
أى: يقول بعضهم لبعض ليس لنا من الأمر شيء أى شيء فلسنا مسئولين عن الهزيمة التي حدثت للمسلمين في أحد لأننا لم يكن لنا رأى يطاع ولأن الله- تعالى- لو أراد نصر محمد صلّى الله عليه وسلّم لنصره.
وهذا القول قاله عبد الله بن أبى بن سلول حين أخبروه بمن استشهد من قبيلة الخزرج في غزوة أحد.
وذلك أن عبد الله بن أبى لما استشاره النبي صلّى الله عليه وسلّم في شأن الخروج لقتال المشركين في أحد أشار عليه بأن لا يخرج من المدينة، إلا أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم خرج لقتال المشركين بناء على إلحاح بعض الصحابة.
فلما أخبر ابن أبى بمن قتل من الخزرج قال: هل لنا من الأمر شيء؟ يعنى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يقبل قوله حين أشار عليه بعدم الخروج من المدينة.
وقد أمر الله- تعالى- نبيه صلّى الله عليه وسلّم أن يرد على هؤلاء الظانين بالله ظن السوء بقوله: قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ.
أى قل لهم إن تقدير الأمور كلها الله- تعالى- وحده وإن العاقبة ستكون للمتقين، إلا أنه- سبحانه- قد جعل لكل شيء سببا، فمن أخلص الله في جهاده وباشر الأسباب التي شرعها للنصر نصره الله- تعالى- ومن تطلع إلى الدنيا وزينتها وخالف أمر نبيه صلّى الله عليه وسلّم أدبه الله- تعالى- بحجب نصره عنه حتى يفيء إلى رشده ويتوب توبة صادقة إلى ربه، ويتخذ الوسائل التي شرعها الله- تعالى- للوصول إلى الفوز والظفر.
فالجملة الكريمة معترضة للرد عليهم فيما تقولوه من أباطيل.
ثم كشف- سبحانه- عما تخفيه نفوسهم من أمور سيئة فقال: يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ. يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا.
أى: أن هؤلاء الذين أهمتهم أنفسهم: والذين يظنون بالله غير الحق. يخفون في أنفسهم من الأقوال القبيحة والظنون السيئة أو يقولون فيما بينهم بطريق الخفية مالا يستطيعون إظهاره أمامك.
وهذه الجملة حال من الضمير في قوله يَقُولُونَ هَلْ لَنا السابقة.
وقوله يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا بيان لبعض ما يخفون أو لما يقولونه فيما بينهم.
أى يقولون لو كان لنا من الأمر المطاع أو المسموع شيء ما خرجنا من المدينة إلى هذا المكان الذي قتل فيه أقاربنا وعشائرنا.
فأنت ترى أن القرآن يحكى عنهم أنهم يريدون تبرئة أنفسهم مما نزل بالمسلمين بأحد، وأنهم لو كان لهم رأى مطاع لبقوا في المدينة ولم يخرجوا منها لقتال المشركين، وأن التبعة في كل ما جرى في غزوة أحد يتحملها النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه الذين ألحوا عليه في الخروج لقتال المشركين خارج المدينة، وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه لو كانوا على الحق لانتصروا.
قال ابن جرير: وذكر أن ممن قال هذا القول- لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا معتب بن قشير من بنى عمرو بن عوف. فعن عبد الله بن الزبير عن الزبير قال، والله إنى لأسمع قول معتب بن قشير والنعاس يغشاني ما أسمعه إلا كالحلم حين قال: لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا .
وقد أمر الله- تعالى- رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يرد عليهم بما يدفع أقوالهم الباطلة فقال: قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ.
وقوله لَبَرَزَ من البروز وهو الخروج من المكان الذي يستتر فيه الإنسان والمضاجع جمع مضجع وهو مكان النوم. والمراد به هنا المكان الذي استشهد فيه من استشهد من المسلمين.
والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء الذين يقولون: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتل أقاربنا في هذا المكان من جبل أحد. قل لهم لو كنتم في بيوتكم ومنازلكم بالمدينة ولم تخرجوا للقتال بجملتكم، لخرج لسبب من الأسباب الداعية إلى الخروج الذين كتب عليهم القتل في اللوح المحفوظ إلى مضاجعهم أى أماكن قتلهم التي قدر الله لهم أن يقتلوا فيها لأنه ما من نفس تموت إلا بإذن الله وبإرادته، ولن يستطيع أحد أن ينجو من قدر الله المحتوم وقضائه النافذ، فإن الحذر لا يدفع القدر، والتدبير لا يقاوم التقدير وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ .
وفي هذا الرد مبالغة في إبطال ما قاله هؤلاء الذين يظنون بالله الظنون السيئة حيث لم يقتصر- سبحانه- على تحقيق القتل نفسه متى قدره بل عين مكانه- أيضا-.
ثم بين- سبحانه- بعض الحكم من وراء ما حدث للمسلمين في أحد فقال: وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ، وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ.
والابتلاء: الاختبار، وهو هنا كناية عن أثره، وهو إظهاره للناس ليتميز قوى الإيمان من ضعيفه.
والتمحيص تخليص الشيء مما يخالطه مما فيه عيب له.
والجملة معطوفة على كلام سابق يفهم من السياق. والتقدير: نزل بكم ما نزل من الشدائد في أحد لتتعودوا تحمل الشدائد والمحن، وليعاملكم- سبحانه- معاملة المختبر لنفوسكم، فيظهر ما تنطوى عليه من خير أو شر، حتى يتبين الخبيث من الطيب وليخلص ما في قلوبكم ويزيل ما عساه يعلق بها من أدران، ويطهرها مما يخالطها من ظنون سيئة- فإن القلوب يخالطها بحكم العادة وتزيين الشيطان واستيلاء الغفلة وحب الشهوات. ما يضاد ما أودع الله فيها من إيمان وإسلام وبر وتقوى.
فلو تركت في عافية دائمة مستمرة لم تتخلص من هذه المخالطة، ولم تتمحص من الآثام فاقتضت حكمة الله- تعالى- أن ينزل بها من المحن والبلاء ما يكون بالنسبة لها كالدواء الكريمة لمن عرض له داء.
وقوله وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أى عليم بأسرارها وضمائرها الخفية التي لا تفارقها فهو القائل إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وهو القائل وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى .