الوسيط للطنطاوي
تفسير الآية رقم 181 من سورة آل عمران
قال ابن كثير: عن ابن عباس قال: لما نزل قوله- تعالى- مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً، فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً قالت اليهود: يا محمد!! افتقر ربك فسأل عباده القرض، فأنزل الله هذه الآية.
وروى محمد بن إسحاق عن عكرمة عن ابن عباس قال: دخل أبو بكر الصديق بيت المدارس . فوجد من يهود ناسا كثيرة قد اجتمعوا على رجل منهم يقال له «فنحاص» وكان من علمائهم وأحبارهم، ومعه حبر يقال له «أشيع» . فقال له أبو بكر: ويحك يا فنحاص اتق الله وأسلم فو الله إنك لتعلم أن محمدا رسول من عند الله، قد جاءكم بالحق من عنده، تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة والإنجيل. فقال فنحاص: والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من حاجة من فقر، وإنه إلينا لفقير، ما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا، وإنا عنه لأغنياء. ولو كان عنا غنيا ما استقرض منا كما يزعم صاحبكم. ينهاكم عن الربا ويعطينا، ولو كان غنيا ما أعطانا الربا.
فغضب أبو بكر وضرب وجه فنحاص ضربا شديدا، وقال: والذي نفسي بيده لولا الذي بيننا وبينك من العهد لضربت عنقك يا عدو الله ...
فذهب فنحاص إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال يا محمد: أبصر ما صنع بي صاحبك.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما حملك على ما صنعت يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر: يا رسول الله. إن عدو الله قال قولا عظيما. يزعم أن الله فقير وأنهم عنه أغنياء. فلما قال ذلك غضبت لله مما قال فضربت وجهه.
فجحد فنحاص ذلك وقال: ما قلت ذلك. فأنزل الله فيما قال فنحاص: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا ... .
والمعنى: لقد سمع الله- تعالى- قول أولئك اليهود الذين نطقوا بالزور والفحش فزعموا أن الله- تعالى- فقير وهم أغنياء.
والمقصود من هذا السمع لازمه وهو العلم والإحاطة بما يقولون من قبائح، ثم محاسنهم على ما تفوهوا به من أقوال، وما ارتكبوه من أعمال، ومعاقبتهم على جرائمهم بالعقاب المهين الذين يستحقونه.
وقوله سَنَكْتُبُ ما قالُوا، وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ أى سنسجل عليهم في صحائف أعمالهم قولهم هذا، كما سنسجل عليهم قتلهم أنبياء الله بغير حق، فالإسناد مجازى والكتابة حقيقية.
أو المعنى: سنحفظه في علمنا ولا نهمله، وسنعاقبهم بما يستحقون من عقوبات، فيكون الإسناد حقيقة والكتابة مجاز.
والسين للتأكيد، أى لن يفوتنا أبدا تدوينه وإثباته، بل سنسجله عليهم ونعاقبهم عليه عقابا أليما بسبب أقوالهم القبيحة، وأعمالهم المنكرة.
وقد قرن- سبحانه- قولهم المنكر هذا، يفعل شنيع من أفعال أسلافهم، وهو قتلهم الأنبياء بغير حق وذلك لإثبات أصالتهم في الشر، واستهانتهم بالحقوق الدينية، وللتنبيه على أن قولهم هذا ليس أول جريمة ارتكبوها، ومعصية استباحوها، فقد سبق لأسلافهم أن قتلوا الأنبياء بغير حق، وللإشعار بأن هاتين الجريمتين من نوع واحد، وهو التجرؤ على الله- تعالى-، فقتل الأنبياء هو تعد على أمناء الله في الأرض الذين اختارهم لتبليغ رسالاته، وقولهم إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وهو تطاول على ذات الله، وكذب عليه، ووصف له بما لا يليق به- سبحانه- وبهذا كله يكونون قد عتوا عتوا كبيرا، وضلوا ضلالا بعيدا.
وأضاف- سبحانه- القتل إلى المعاصرين للعهد النبوي من اليهود، مع أنه حدث من أسلافهم لأن هؤلاء المعاصرين كانوا راضين بفعل أسلافهم ولم ينكروه وإن لم يكونوا قد باشروه، ومن رضى بجريمة قد فعلها غيره فكأنما قد فعلها هو.
وفي الحديث الشريف: إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فأنكرها كمن غاب عنها. ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها.
ووصف- سبحانه- قتلهم للأنبياء بأنه بِغَيْرِ حَقٍّ مع أن هذا الإجرام لا يكون بحق أبدا، للإشارة إلى شناعة أفعالهم، وضخامة شرورهم، وأنهم لخبث نفوسهم، وقسوة قلوبهم لا يبالون أكان فعلهم في موضعهم أم في غير موضعه.
ثم صرح- سبحانه بالعقوبة بعد أن كنى عنها فقال: وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ أى:
سنجازيهم بما فعلوا، ونلقى بهم في جهنم، مخاطبين إياهم بقولنا: ذوقوا عذاب تلك النار المحرقة التي كنتم بها تكذبون.
ففي الآية الكريمة إيجاز بالحذف دل عليه سياق الكلام.
والذوق حقيقته إدراك المطعومات، والأصل فيه أن يكون في أمر مرغوب في ذوقه وطلبه، والتعبير به هنا عن ذوق العذاب هو لون من التهكم عليهم، والاستهزاء بهم كما في قوله- تعالى- فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ.