الوسيط للطنطاوي
تفسير الآية رقم 84 من سورة آل عمران
قوله «وَالْأَسْباطِ» جمع سبط وهو الحفيد، والمراد بهم أولاد يعقوب- عليه السلام- وكانوا اثنى عشر ولدا قال- تعالى-: «وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً» .
وسموا بذلك لكونهم حفدة إبراهيم وإسحاق- عليهم السلام-.
والمعنى: «قُلْ» يا محمد لأهل الكتاب الذين جادلوك بالباطل وجحدوا الحق مع علمهم به، قل لهم ولغيرهم «آمَنَّا بِاللَّهِ» أى آمنت أنا وأتباعى بوجود الله ووحدانيته، واستجبنا له في كل ما أمرنا به، أو نهانا عنه.
وآمنا كذلك بما «أُنْزِلَ عَلَيْنا» من قرآن يهدى إلى الرشد، ويخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم.
وآمنا أيضا بما أنزله الله- تعالى- من وحى وصحف على «إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ» .
وآمنا- أيضا- بما آتاه الله لموسى وعيسى من التوراة والإنجيل وغيرهما من المعجزات، وبما آتاه لسائر أنبيائه من وحى وآيات تدل على صدقهم.
«لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ» أى لا نفرق بين جماعة الرسل فنؤمن ببعض ونكفر ببعض كما فعل أهل الكتاب، إذ فرقوا بين أنبياء الله وميزوا بينهم وقالوا- كما حكى القرآن عنهم- «نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ» وهم في الحقيقة كافرون بهم جميعا، لأن الكفر بواحد من الأنبياء يؤدى إلى الكفر بهم جميعا، ولذا فنحن معاشر المسلمين نؤمن بجميع الأنبياء بلا تفرقة أو استثناء.
«وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» أى خاضعون له وحده بالطاعة والعبودية. مستجيبون له في كل ما أمرنا به وما نهانا عنه.
فالآية الكريمة تأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يخبر عن نفسه وعمن معه بأنهم آمنوا بالله وبكتبه وبرسله جميعا بدون تفرقة بينهم، لأنها شرائع الله- تعالى- التي أنزلها على أنبيائه، كلها مرتبط بعضها ببعض، وكلها تتفق على كلمة واحدة هي إفراد الله- تعالى- بالعبودية والطاعة.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: لم عدى أنزلها على أنبيائه، كلها مرتبط بعضها ببعض، وكلها تتفق على كلمة واحدة هي إفراد الله- تعالى- بالعبودية والطاعة.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: لم عدى أنزل في هذه الآية بحرف الاستعلاء «أُنْزِلَ عَلَيْنا» ، وفيما تقدم من مثلها- في سورة البقرة- بحرف الانتهاء؟ «أُنْزِلَ إِلَيْنا» قلت: لوجود المعنيين جميعا، لأن الوحى ينزل من فوق وينتهى إلى الرسل، فجاء تارة بأحد المعنيين وأخرى بالآخر.
ومن قال إنما قيل هنا «عَلَيْنا» لقوله «قُلْ» وقيل هناك «إِلَيْنا» لقوله «قُولُوا» تفرقة بين الرسل والمؤمنين، لأن الرسول يأتيه الوحى على طريق الاستعلاء، ويأتيهم على وجه الانتهاء، من قال ذلك تعسف. ألا ترى إلى قوله «بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ» وإلى قوله «آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا» .
وخص هؤلاء الأنبياء الذين ذكرتهم الآية بالذكر، لأن أهل الكتاب يزعمون أنهم يؤمنون بهم ويتبعونهم، فأراد القرآن أن يبين لهم أن زعمهم باطل، لأنهم لن يكونوا مؤمنين بهم إلا إذا آمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم.
وقوله- تعالى- «لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ» بيان لثمرة الإيمان الحق الذي رسخ في قلوب المؤمنين وعلى رأسهم هاديهم ومرشدهم محمد صلّى الله عليه وسلّم، لأن هذا الإيمان الحق جعلهم يصدقون بأن رسل الله جميعا قد أرسلهم- سبحانه- بالدعوة إلى توحيده وإخلاص العبادة له، وإذا وجد تفاضل أو اختلاف فهذا التفاضل والاختلاف يكون في أمور أخرى سوى الإيمان بالله وإفراده بالعبودية، سوى ما اتفقت عليه الشرائع جميعها من الدعوة إلى الحق وإلى مكارم الأخلاق. وقد جاءت رسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم خاتمة للرسالات، وجامعة لكل ما فيها من محاسن فوجب الإيمان بها، وإلا كان الكفر به كفرا بجميع الرسالات السابقة عليها.
وقوله «وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» يفيد الحصر، نحن له وحده أسلمنا وجوهنا، وأخلصنا عبادتنا. لا لغيره كائنا من كان هذا الغير.
وهذا يدل على أنهم بلغوا أعلى مراتب الإخلاص والطاعة لله رب العالمين.