الوسيط للطنطاوي
تفسير الآية رقم 102 من سورة الصافات
والفاء في قوله- تعالى-: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ فصيحة، أى: بشرناه بهذا الغلام الحليم، ثم عاش هذا الغلام حتى بلغ السن التي في إمكانه أن يسعى معه فيها، ليساعده في قضاء مصالحه.
قيل: كانت سن إسماعيل في ذلك الوقت ثلاث عشرة سنة.
قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى.
أى: فلما بلغ الغلام مع أبيه هذه السن، قال الأب لابنه: يا بنى إنى رأيت في منامي أنى أذبحك، فانظر ماذا ترى في شأن نفسك.
قال الآلوسى ما ملخصه: يحتمل أنه- عليه السلام- رأى في منامه أنه فعل ذلك..
ويحتمل أنه رأى ما تأويله ذلك، ولكنه لم يذكره وذكر التأويل، كما يقول الممتحن وقد رأى أنه راكب سفينة: رأيت في المنام أنى ناج من هذه المحنة.
ورؤيا الأنبياء وحى كالوحى في اليقظة، وفي رواية أنه رأى ذلك في ليلة التروية فأخذ يفكر في أمره، فسميت بذلك، فلما رأى ما رآه سابقا عرف أن هذه الرؤيا من الله، فسمى بيوم عرفة، ثم رأى مثل ذلك في الليلة الثالثة فهمّ بنحره فسمى بيوم النحر.
ولعل السر في كونه مناما لا يقظة، أن تكون المبادرة إلى الامتثال، أدل على كمال الانقياد والإخلاص.. .
وإنما شاوره بقوله: فَانْظُرْ ماذا تَرى مع أنه سينفذ ما أمره الله- تعالى- به في منامه سواء رضى إسماعيل أم لم يرض، لأن في هذه المشاورة إعلاما له بما رآه، لكي يتقبله بثبات وصبر، وليكون نزول هذا الأمر عليه أهون، وليختبر عزمه وجلده.
وقوله: قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ، سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ حكاية لما رد به إسماعيل على أبيه إبراهيم- عليهما السلام- وهو رد يدل على علو كعبه في الثبات، وفي احتمال البلاء، وفي الاستسلام لقضاء الله وقدره.
أى: قال الابن لأبيه: يا أبت افعل ما تؤمر به من قبل الله- تعالى- ولا تتردد في ذلك وستجدني إن شاء الله من الصابرين على قضائه.
وفي هذا الرد ما فيه من سمو الأدب، حيث قدم مشيئة الله- تعالى-، ونسب الفضل إليه، واستعان به- سبحانه- في أن يجعله من الصابرين على البلاء.
وهكذا الأنبياء- عليهم السلام- يلهمهم الله- تعالى- في جميع مراحل حياتهم ما يجعلهم في أعلى درجات السمو النفسي، واليقين القلبي، والكمال الخلقي.