الوسيط للطنطاوي
تفسير الآية رقم 3 من سورة الصافات
و «التاليات» : من التلاوة، بمعنى القراءة في تدبر وتأمل.
وأكثر المفسرين على أن المراد بالصافات والزاجرات والتاليات: جماعة من الملائكة.
موصوفة بهذه الصفات.
فيكون المعنى: وحق الملائكة الذين يصفون أنفسهم صفا لعبادة الله- تعالى- وطاعته، أو الذين يصفون أجنحتهم في السماء انتظارا لأمر الله، والذين يزجرون غيرهم عن ارتكاب المعاصي، أو يزجرون السحاب إلى الجهات التي كلفهم الله- تعالى- بدفعه إليها، والذين يتلون آيات الله المنزلة على أنبيائه تقربا إليه- تعالى- وطاعة له.
وقد جاء وصف الملائكة بأنهم صافون في قوله- تعالى- في السورة نفسها: وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ. وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ.
كما جاء وصفهم بذلك فيما رواه مسلم في صحيحه عن حذيفة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض مسجدا. وجعلت لنا تربتها طهورا إذا لم نجد الماء» .
وفي حديث آخر رواه مسلم وغيره عن جابر بن سمره قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
«ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربهم» ؟ قلنا: وكيف تصف الملائكة عند ربهم؟ قال:
«يتمون الصفوف المتقدمة، ويتراصون في الصف» .
وجاء وصفهم بما يدل على أنهم يلقون الذكر على غيرهم من الأنبياء، لأجل الإعذار والإنذار به. كما في قوله- تعالى- في أوائل المرسلات: فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً. عُذْراً أَوْ نُذْراً.
قال الإمام ابن كثير: قوله: فَالتَّالِياتِ ذِكْراً هم الملائكة يجيئون بالكتاب والقرآن من عند الله إلى الناس، وهذه الآية كقوله- تعالى-: فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً. عُذْراً أَوْ نُذْراً
ومنهم من يرى أن المراد بالصافات والزاجرات والتاليات هنا: العلماء الذين يصفون أقدامهم عند الصلاة وغيرها من الطاعات، ويزجرون غيرهم عن المعاصي، ويتلون كلام الله- تعالى-.
ومنهم من يرى أن المراد بالصافات: الطيور التي تصف أجنحتها في الهواء وبالزاجرات وبالتاليات: جماعات الغزاة في سبيل الله، الذين يزجرون أعداء الله- تعالى-: ويكثرون من ذكره.
ويبدو لنا أن القول الأول هو الأظهر والأرجح، لأن الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي سقناها قبل ذلك تؤيده، ويؤيده- أيضا- ما يجيء بعد ذلك من أوصاف للملائكة كما في قوله- تعالى-: لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ والمراد بالملإ الأعلى هنا. الملائكة.
ولأن هذا القول هو المأثور عن جماعة من الصحابة والتابعين، كابن مسعود وابن عباس، ومسروق، وسعيد بن جبير، وعكرمة ومجاهد.
وإنما أقسم الله- تعالى- هنا بالملائكة، لشرفهم، وسمو منزلتهم وامتثالهم لأوامره-سبحانه- امتثالا تاما وله- تعالى- أن يقسم بما شاء من خلقه، تنويها بشأن المقسم، ولفتا لأنظار الناس إلى ما فيه من منافع.
ولفظ «الصافات» مفعوله محذوف. والتقدير، وحق الملائكة الصافات نفوسها أو أجنحتها طاعة وامتثالا لأمر الله- تعالى-.
والترتيب بالفاء في هذه الصفات، على سبيل الترقي، إذ الأولى كمال، والثانية أكمل، لتعدى منفعتها إلى الغير، والثالثة أكمل وأكمل، لتضمنها الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والتخلي عن الرذائل، والتحلي بالفضائل.
وقوله «صفا، وزجرا، وذكرا» مصادر مؤكدة لما قبلها.