سورة يوسف
( سورة يوسف عليه السلام مكية )
بسم الله
الرحمن الرحيم
الر
تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ( 1 )
إِنَّا أَنْـزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ( 2 ) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ
أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ
مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ ( 3 ) .
( الر تِلْكَ آيَاتُ
الْكِتَابِ الْمُبِينِ ) أي:
البيِّن حلاله وحرامه، وحدوده وأحكامه. قال قتادة: مبين - والله- بركتُه وهداه
ورشدُه، فهذا مِنْ بان أي: ظهر.
وقال الزجاج:
مبيّن الحق من الباطل والحلال من الحرام، فهذا من أبان بمعنى أظهر.
( إِنَّا أَنْـزَلْنَاهُ ) يعني: الكتاب، ( قُرْآنًا عَرَبِيًّا
لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) أي:
أنـزلناه بلغتكم، لكي تعلموا معانيه، وتفهموا ما فيه.
( نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ ) أي: نقرأ عليك ( أَحْسَنَ الْقَصَصِ ) والقاصُّ هو الذي يتبع الآثار ويأتي بالخبر على وجهه.
معناه:
نبّين لك أخبار الأمم السالفة والقرون الماضية أحسن البيان.
وقيل:
المراد منه: قصة يوسف عليه السلام خاصة، سماها أحسن القصص لِمَا فيها من العِبَر
والحِكَم والنُّكَتِ والفوائد التي تصلح للدين والدنيا، من سِيَرِ الملوك
والمماليك، والعلماء، ومكر النساء، والصبر على أذى الأعداء، وحسن التجاوز عنهم بعد
الالتقاء، وغير ذلك من الفوائد.
قال خالد
بن معدان: سورة يوسف وسورة مريم يتفكه بهما أهل الجنة في الجنة.
وقال ابن
عطاء: لا يسمع سورة يوسف محزون الا استراح إليها.
قوله عز
وجل: ( بِمَا
أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ) « ما » المصدر، أي: بإيحائنا إليك، ( هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ
كُنْتَ ) وقد
كنت، ( مِنْ
قَبْلِهِ ) أي: [ قبل وحينا ] ( لَمِنَ الْغَافِلِينَ ) لمن الساهين عن هذه القصة لا
تعلمها.
قال سعد
بن أبي وقاص رضي الله عنه: أنـزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلاه
عليهم زمانا فقالوا: يا رسول الله لو حدثتنا، فأنـزل الله عز وجل: اللَّهُ
نَـزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ ( الزمر
- 23 )
فقالوا: يا رسول الله لو قصصتَ علينا، فأنـزل الله عز وجل: ( نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ
أَحْسَنَ الْقَصَصِ )
فقالوا: يا رسول الله لو ذكرتنا، فأنـزل الله عز وجل أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ
آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ ( الحديد - 16 ) .
إِذْ
قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا
وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ( 4 ) .
قوله عز
وجل: ( إِذْ
قَالَ يُوسُفُ لأبِيهِ ) أي:
واذكر إذ قال يوسف لأبيه، ويوسف اسم عبري [ عُرِّبَ ] ، ولذلك لا يجري [ عليه الإعراب ] وقيل هو عربي .
سئل أبو
الحسن الأقطع عن يوسف؟ فقال: الأسف في اللغة: الحزن، والأسيف: العبد، واجتمعا في
يوسف عليه السلام فسُمّي به.
أخبرنا
عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنبأنا محمد بن
يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل قال: قال عبد الله بن محمد، حدثنا عبد الصمد، عن عبد
الرحمن بن عبد الله بن دينار، عن أبيه عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: « إنّ
الكريمَ ابن الكريمِ ابنِ الكريم ابنِ الكريم يوسفُ بنُ يعقوبَ بن إسحاق بن
إبراهيم . »
( يَا أَبَتِ ) قرأ أبو جعفر وابن عامر ( يَا أَبَتَ ) بفتح التاء في جميع القرآن
على تقدير: يا أبتاه.
وقرأ
الآخرون: ( يَا
أَبَتِ ) بكسر
التاء لأن أصله: يا أبتْ، والجزم يحرك إلى الكسر.
( إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ
عَشَرَ كَوْكَبًا ) أي
نجما من نجوم السماء، ونصب الكواكب على التفسير.
( وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ
رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ) ولم
يقل رأيتها إليَّ ساجدة، والهاء والميم والياء والنون من كنايات مَنْ يعقل، لأنه
لما أخبر عنها بفعل مَنْ يعقل عبر عنها بكناية من يعقل كقوله تعالى: يَا أَيُّهَا
النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ ( النمل - 18 ) .
وكان
النجوم في التأويل أخواته ، وكانوا أحد عشر رجلا يستضاء بهم كما يستضاء بالنجوم،
والشمس أبوه، والقمر أمه. قاله قتادة.
وقال
السدي: القمر خالته، لأن أمه راحيل كانت قد ماتت .
وقال ابن
جريج: القمر أبوه والشمس أمه؛ لأن الشمس مؤنثة والقمر مذكر.
وكان
يوسف عليه السلام ابن اثنتي عشرة سنة حين رأى هذه الرؤيا.
وقيل:
رآها ليلة الجمعة ليلة القدر فلما قصها على أبيه.
قَالَ يَا بُنَيَّ لا
تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ
لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ ( 5 ) .
( قَالَ
يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ ) وذلك
أن رؤيا الأنبياء عليهم السلام وحي فعلم يعقوب أن الإخوة إذا سمعوها حسدوه فأمره
بالكتمان، ( فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا )
فيحتالوا في إهلاكك لأنهم يعلمون تأويلها فيحسدونك. واللام في قوله « لك » صلة،
كقوله تعالى: لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (
الأعراف - 154 ) . وقيل: هو مثل قولهم نصحتك
ونصحت لك، وشكرتك وشكرت لك. ( إِنَّ الشَّيْطَانَ
للإنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ ) أي: يزين لهم الشيطان،
ويحملهم على الكيد، لعداوته القديمة.
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد
المليحي، أنبأنا عبد الرحمن بن أبي شريح، أنبأنا أبو القاسم البغوي، حدثنا علي بن
الجعد، أنبأنا شعبة عن عبد ربه بن سعيد قال: سمعت أبا سلمة قال: كنت أرى الرؤيا
تهمني حتى سمعتُ أبا قتادة يقول: كنت أرى الرؤيا فتمرضني، حتى سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم، يقول: « الرؤيا الصالحة من الله تعالى،
[ والحُلْمُ من الشيطان ] ، فإذا
رأى أحدكم ما يحب فلا يحدِّثْ به إلا مَنْ يحب، وإذا رأى ما يكره فليتعوذ بالله من
شرِّها، ومن شرِّ الشيطان وَلْيَتْفُلْ ثلاثا، ولا يحدِّثْ به أحدا فإنها لن تضر » .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد
المليحي، أنبأنا عبد الرحمن بن أبي شريح، أنبأنا أبو القاسم البغوي، حدثنا علي بن
الجعد، أنبأنا شعبة عن يعلى بن عطاء، عن وكيع بن عدس، عن أبي رزين العقيلي قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « الرؤيا
جزءٌ من أربعينَ أو ستةٍ وأربعينَ جزءاً من النبوة وهو على رِجْل طائرٍ فإذا حدَّث
بها وقعت » ، وَأَحْسبُهُ قال: « لا
تُحدِّثْ بها إلا حبيبا أو لبيبا » .
وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ
رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ
وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ
وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( 6 ) .
قوله عز وجل: (
وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ ) يصطفيك ربك يقوله يعقوب
ليوسف، أي: كما رفع منـزلتك بهذه الرؤيا، فكذلك يصطفيك ربك، (
وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ ) يريد
تعبير الرؤيا، سمي تأويلا لأنه يؤول أمره إلى ما رأى في منامه، والتأويل ما يؤول
إلى عاقبة الأمر، ( وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ
عَلَيْكَ ) يعني: بالنبوة، (
وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ ) أي: على أولاده فإنّ أولاده
كلهم كانوا أنبياء، ( كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ
مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ )
فجعلهما نبيين، ( إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ
حَكِيمٌ ) .
وقيل: المراد من إتمام النعمة
على إبراهيم الخلَّة.
وقيل: إنجاؤه من النار، وعلى
إسحاق إنجاؤه من الذبح .
وقيل: بإخراج يعقوب والأسباط من
صلبه.
قال ابن عباس رضي الله عنهما:
كان بين رؤيا يوسف هذه وبين تحقيقها بمصير أبويه وإخوته إليه أربعون سنة، وهو قول
أكثر أهل التفسير.
وقال الحسن البصري: كان بينهما
ثمانون سنة. فلما بلغت هذه الرؤيا إخوة يوسف حسدوه وقالوا: ما رضي أن يسجد له
إخوته حتى يسجد له أبواه فَبَغَوْهُ.
لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ
وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ ( 7 ) .
يقول الله تعالى: (
لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ ) أي: في
خبره وخبر إخوته. وأسماؤهم: روبيل، وهو أكبرهم، وشمعون، ولاوي، ويهوذا، وزبالون،
وقيل: زبلون، وآشر، وأمهم ليا بنت ليان وهي ابنة خال يعقوب عليه السلام، ووُلِدَ
له من سريتين له، اسم إحداهما زلفة والأخرى يلهمة أربعة أولاد: دان، ونفتالي،
وقيل: نفتولي، وجاد، وأشير. ثم توفيت ليا فتزوج يعقوب عليه السلام أختها راحيل
فولدت له يوسف وبنيامين. [ وقيل: وابن يامين ] ، فكان
بنو يعقوب عليه السلام اثني عشر رجلا.
(
آيَاتٌ ) قرأ ابن كثير « آية » على
التوحيد، أي: عظة وعبرة، وقيل: عجب.
وقرأ الآخرون: (
آيَاتٌ ) على الجمع.
(
لِلسَّائِلِينَ ) وذلك أن اليهود سألوا رسول
الله صلى الله عليه وسلم عن قصة يوسف عليه السلام.
وقيل: سألوه عن سبب انتقال ولد
يعقوب من كنعان إلى مصر. فذكر لهم قصة يوسف، فوجدوها موافقة لما في التوراة [
فتعجبوا منها ] . فهذا معنى قوله: (
آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ ) [ أي:
دلالة على نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: آيات للسائلين ولمن لم يسأل،
كقوله: سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ( فصلت - 10 ) .
وقيل: معناه عبرة
للمعتبرين، فإنها تشتمل على حسد إخوة يوسف، وما آل إليه أمرهم في الحسد، وتشتمل
على رؤياه، وما حقق الله منها، وتشتمل على صبر يوسف عليه السلام عن قضاء الشهوة،
وعلى الرق وفي السجن، وما آل إليه أمره من الملك، وتشتمل على حزن يعقوب وصبره وما
آل إليه أمره من الوصول إلى المراد وغير ذلك من الآيات.
إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ
وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي
ضَلالٍ مُبِينٍ ( 8 ) .
( إِذْ
قَالُوا لَيُوسُفُ ) اللام فيه جواب القسم
تقديره: والله ليوسف، ( وَأَخُوهُ )
بنيامين، ( أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا )
كان يوسف وأخوه بنيامين من أم واحدة، وكان يعقوب عليه السلام شديد الحب ليوسف عليه
السلام، وكان إخوته يرون من الميل إليه ما لا يرونه مع أنفسهم فقالوا هذه المقالة
، ( وَنَحْنُ عُصْبَةٌ )
جماعة وكانوا عشرة.
قال الفراء: العصبة هي
العشرة فما زاد.
وقيل: العصبة ما بين الواحد
إلى العشرة.
وقيل: ما بين الثلاثة إلى
العشرة.
وقال مجاهد: ما بين العشرة
إلى خمسة عشر.
وقيل: ما بين العشرة إلى
الأربعين.
وقيل: جماعة يتعصب بعضها
لبعض لا واحد لها من لفظها كالنَّفَر والرَّهْط.
( إِنَّ
أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) أي خطأ بيِّن في إيثاره
يوسف وأخاه علينا، وليس المراد من الضلال عن الدين، ولو أرادوه لكفروا به، بل
المراد منه: الخطأ في تدبير أمر الدنيا، يقولون: نحن أنفع له في أمر الدنيا وإصلاح
أمر معاشه ورعي مواشيه، فنحن أولى بالمحبة منه، فهو مخطئ في صرف محبته إليه.
اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ
اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ
قَوْمًا صَالِحِينَ ( 9 )
قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ
يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ( 10 ) .
(
اقْتُلُوا يُوسُفَ ) اختلفوا في قائل هذا
القول؛ فقال وهب: قاله شمعون. وقال كعب: قاله دان.
( أَوِ
اطْرَحُوهُ أَرْضًا ) أي: إلى أرض يُبْعَدُ عن
أبيه. وقيل: في أرض تأكله السباع.
(
يَخْلُ لَكُمْ ) يخلصْ لكم وَيصْفُ لكم. (
وَجْهُ أَبِيكُمْ ) عن شغله بيوسف، (
وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ ) من بعد قتل يوسف، (
قَوْمًا صَالِحِينَ ) تائبين، أي: توبوا بعدما
فعلتم هذا يعفُ الله عنكم. وقال مقاتل: يُصْلِحْ أمركم فيما بينكم وبين أبيكم.
( قَالَ
قَائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ )
وهو يهوذا، وقال [ قتادة ] : روبيل، وكان ابن خالة يوسف، وكان أكبرهم سنا وأحسنهم
رأيا فيه. والأول أصح أنه يهوذا، نهاهم عن قتله، وقال: القتل كبيرة عظيمة. (
وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ )
قرأ أبو جعفر، ونافع: « غيابات الجب » على
الجمع في الحرفين، وقرأ الباقون « غيابة الجب » على
الواحد، أي: في أسفل الجب وظلمته. والغيابةُ: كلُّ موضعٍ ستر عنك الشيء وغيَّبه.
والجُبُّ: البئر غير المطوية لأنه جُبَّ، أي: قطع ولم يطوَ.
(
يَلْتَقِطْهُ ) يأخذه، والالتقاط: أخذ الشيء من حيث لا يحتسبه ، ( بَعْضُ
السَّيَّارَةِ ) أي: بعض المسافرين، فيذهب
به إلى ناحية أخرى، فتستريحوا منه، ( إِنْ
كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ) أي: إن عزمتم على فعلكم،
وهم كانوا يومئذ بالغين، ولم يكونوا أنبياء بعد.
وقيل: لم يكونوا بالغين،
وليس بصحيح؛ بدليل أنهم قالوا: « وتكونوا من بعده قوما صالحين
» .
و قَالُوا يَا أَبَانَا
اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا والصغير لا ذنب له. وقال محمد بن إسحاق: اشتمل فعلهم
على جرائم من قطع الرحم، وعقوق الوالدين، وقلة الرأفة بالصغير، الذي لا ذنب له،
والغدر بالأمانة، وترك العهد والكذب مع أبيهم. وعفا الله عنهم ذلك كله حتى لا ييئس
أحد من رحمة الله.
وقال بعض [ أهل العلم ]
إنهم عزموا على قتله وعصمهم الله رحمة بهم، ولو فعلوا لهلكوا أجمعين، وكل ذلك كان
قبل أن أنبأهم الله تعالى .
وسئل أبو عمرو بن العلاء:
كيف قالوا « نرتع ونلعب » وهم
أنبياء؟ قال: كان ذلك قبل أن نَبَّأهم الله تعالى، فلما أجمعوا على التفريق بينه
وبين والده بضرب من الحيل.
قَالُوا يَا أَبَانَا مَا
لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ ( 11 ) .
(
قَالُوا ) ليعقوب، ( يَا
أَبَانَا مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ )
قرأ أبو جعفر: ( تَأْمَنَّا )
بلا إشمام ، وهو رواية عن نافع وقرأ الباقون: (
تَأْمَنَّا ) بإشمام الضمة في النون الأولى المدغمة، وهو إشارة إلى
الضمة، من غير إمحاض، ليعلم أن أصله: لا تأمنُنا بنونين على تفعلنا، فأدغمتِ النون
الاولى في الثانية ] ، بدؤوا بالإنكار عليه في ترك
إرساله معهم كأنهم قالوا: إنك لا ترسله معنا أتخافنا عليه؟.
(
وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ ) قال مقاتل: في الكلام تقديم
وتأخير، وذلك أنهم قالوا لأبيهم: أَرْسِلْهُ مَعَنَا فقال أبوهم: إِنِّي
لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ فحينئذ قالوا: ( مَا
لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ ) النصح
ها هنا هو: القيام بالمصلحة، وقيل: البر والعطف، معناه: إنا عاطفون عليه، قائمون
بمصلحته، نحفظه حتى نردَّه إليك.
أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا
يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ( 12 )
قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ
الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ ( 13 )
قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ ( 14 ) .
( أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا ) إلى
الصحراء، ( يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ ) قرأ
أبو عمرو، وابن عامر، بالنون فيهما وجزم العين من « نرتع » وقرأ
أهل الكوفة بالياء فيهما وجزم العين من « يرتع » يعني
يوسف، وقرأ يعقوب: « نرتع » بالنون « ويلعب
» بالياء.
والرتع هو : الاتساع في الملاذ. يقال: رتع فلان في ماله إذا
أنفقه في شهواته، يريد ونتنعم ونأكل ونشرب ونلهو وننشط.
وقرأ أهل الحجاز: ( يرتع ) بكسر
العين، وهو [ يفتعل ] من الرعي.
ثم ابن كثير قرأ بالنون فيهما أي: نتحارس ويحفظ بعضُنا بعضاً.
وقرأ أبو جعفر ونافع بالياء إخبارا عن يوسف، أي: يرعى الماشية
كما نرعى نحن.
( وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ )
( قَالَ ) لهم
يعقوب، ( إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ ) أي:
يحزنني ذهابكم به، والحزن ها هنا: ألم القلب بفراق المحبوب، (
وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ ) وذلك
أن يعقوب كان رأى في المنام أن ذئبا شدَّ على يوسف، فكان يخاف من ذلك، فمن ثم قال
هذه المقالة .
( قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ
الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ ) عشرة، (
إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ ) عجزة ضعفاء.
فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ
وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ
لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ( 15 ) .
(
فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا ) أي:
عزموا، ( أَنْ يَجْعَلُوهُ ) يلقوه،
( فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ ) هذه
الواو زائدة ، تقديره: أوحينا إليه، كقوله تعالى: فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ
لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ ( الصافات 103- 104 ) أي:
ناديناه، ( لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا
يَشْعُرُونَ ) يعني: أوحينا إلى يوسف عليه السلام لتصدقنّ رؤياك ولتخبرنّ
إخوتك بصنيعهم هذا وهم لا يشعرون بوحي الله وإعلامه إيَّاه ذلك، قاله مجاهد.
وقيل: معناه: وهم لا يشعرون يوم
تخبرهم أنك يوسف، وذلك حين دخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون.
وذكر وَهْبٌ وغيره: أنهم أخذوا
يوسف عليه السلام بغاية الإكرام وجعلوا يحملونه، فلما برزوا إلى البرية ألقوه وجعلوا
يضربونه فإذا ضربه واحد منهم استغاث بالآخر فضربه الآخر، فجعل لا يرى منهم رحيما
فضربوه حتى كادوا يقتلونه وهو يصيح: يا أبتاه لو تعلم ما يصنع بابنك بنو الإماء،
فلما كادوا أن يقتلوه قال لهم يهوذا: أليس قد أعطيتموني موثقا أن لا تقتلوه،
فانطلقوا به إلى الجُبِّ ليطرحوه فيه، وكان ابن اثنتي عشرة سنة - وقيل: ثماني عشرة
سنة- فجاؤوا به إلى بئر على غير الطريق واسعة الأسفل ضيقة الرأس. قال مقاتل: على
ثلاثة فراسخ من منـزل يعقوب عليه السلام. وقال كعب: بين مدين ومصر. وقال وهب: بأرض
الأردن. وقال قتادة: هي بئر بيت المقدس فجعلوا يدلونه في البئر فيتعلق بشفير البئر
فربطوا يديه ونـزعوا قميصه فقال: يا إخوتاه رُدّوا عليّ القميص أتوارى به في الجب،
فقالوا: ادعُ الشمسَ والقمرَ والكواكِبَ تواريك ، قال: إني لم أرَ شيئا، فألقوه
فيها.
وقيل: جعلوه في دلو وأرسلوه
فيها حتى إذا بلغ نصفها ألقوه إرادة أن يموت فكان في البئر ماء فسقط فيه، ثم أوى
إلى صخرة فيها فقام عليها.
إنهم لمّا ألقوه فيها جعل يبكي
فنادوه فظن أن رحمةً أدركتهم فأجابهم فأرادوا أن يرضخوه بصخرة فيقتلوه، فمنعهم
يهوذا وكان يهوذا يأتيه بالطعام، وبقي فيها ثلاث ليال .
( وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ
لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا )
الأكثرون على أن الله تعالى أوحى إليه بهذا وبعث إليه جبريل عليه السلام يؤنسه
ويبشره بالخروج، ويخبره أنه ينبئهم بما فعلوه ويجازيهم عليه وهم لا يشعرون .
قال ابن عباس رضي الله عنهما:
ثم إنهم ذبحوا سخلة وجعلوا دمها على قميص يوسف عليه السلام.
وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً
يَبْكُونَ ( 16 )
قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ
مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا
صَادِقِينَ ( 17 ) وَجَاءُوا
عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا
فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ( 18 ) .
(
وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ ) قال
أهل المعاني: جاؤوا في ظلمة العِشاء ليكونوا أجرأ على الاعتذار بالكذب. وروي أن
يعقوب عليه السلام سمع صياحهم وعويلهم فخرج وقال: ما لكم يا بَنِيَّ هل أصابكم في
غنمكم شيء؟ قالوا: لا. قال: فما أصابكم وأين يوسف؟؟.
(
قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ ) أي:
نترامى وننتضل، وقال السدي: نشتد على أقدامنا. (
وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا ) أي:
عند ثيابنا وأقمشتنا. ( فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا
أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا ) بمصدق لنا، (
وَلَوْ كُنَّا ) وإن كنَّا (
صَادِقِينَ ) .
فإن قيل: كيف قالوا ليعقوب أنت
لا تصدق الصادق؟.
قيل: معناه إنك تتهمنا في هذا
الأمر لأنك خفتنا في الابتداء واتهمتنا في حقه.
وقيل: معناه لا تصدقنا لأنه لا
دليل لنا على صدقنا وإن كنَّا صادقين عند الله.
(
وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِب ) أي:
بدم هو كذب، لأنه لم يكن دم يوسف. وقيل: بدم مكذوب فيه، فوضع المصدر موضع الاسم.
وفي القصة: أنهم لطخوا القميص
بالدم ولم يشقُّوه، فقال يعقوب عليه السلام: كيف أكله الذئب ولم يشق قميصه؟
فاتهمهم.
( قَالَ
بَلْ سَوَّلَتْ ) زيَّنت، (
لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ) معناه:
فأمري صبر جميل أو فعلي صبر جميل.
وقيل: فصبر جميل أختاره.
والصبر الجميل الذي لا شكوى فيه
ولا جزع.
(
وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ) أي:
أستعين بالله على الصبر، على ما تكذبون.
وفي القصة: أنهم جاؤوا بذئب ،
وقالوا: هذا الذي أكله. فقال له يعقوب: يا ذئب أنت أكلت ولدي وثمرة فؤادي؟ فأنطقه
الله عز وجل، فقال: تالله ما رأيت وجه ابنك قط.
قال: كيف وقعت بأرض كنعان؟.
قال: جئت لصلة قرابة [
فصادني هؤلاء ] فمكث يوسف في البئر ثلاثة أيام .
وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ
فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ
بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ( 19 ) .
(
وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ ) وهم القوم المسافرون، سُمّوا
سيارة لأنهم يسيرون في الأرض، كانت رفقة من مدين تريد مصر، فأخطؤوا الطريق فنـزلوا
قريبا من الجب، وكان الجب في [ قفرٍ بعيدٍ ] من
العمران للرعاة والمارة، وكان ماؤه مالحا فعذب حين ألقي يوسف عليه السلام فيه،
فلما نـزلوا أرسلوا رجلا من أهل مدين يقال له مالك بن ذعر ، [
لطلب الماء ] فذلك قوله عز وجل: (
فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ ) والوارد الذي يتقدم الرفقة
إلى الماء فيهيئ الأرشية والدلاء.
(
فَأَدْلَى دَلْوَهُ ) أي: أرسلها في البئر، يقال:
أدليتُ الدلو إذا أرسلتها في البئر، ودلوتها إذا أخرجتها، فتعلق يوسف بالحبل فلما
خرج إذا هو بغلام أحسن ما يكون.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: « أعطي
يوسف شطر الحُسْن » .
ويقال: إنه ورث ذلك الجمال من
جدته سارة، وكانت قد أعطيت سُدسَ الحُسنِ.
قال ابن إسحاق ذهب يوسف وأمه
بثلثي الحسن .
فلما رآه مالك بن ذعر، ( قَالَ
يَا بُشْرَى ) قرأ الأكثرون هكذا بالألف وفتح الياء، بَشَّر المستقي
أصحابه يقول : أبشروا. وقرأ أهل الكوفة: يا بشرى، بغير إضافة، يريد نادى المستقي
رجلا من أصحابه اسمه بشرى. ( هَذَا غُلامٌ ) وروى
ابن مجاهد عن أبيه: أن جدران البئر كانت تبكي على يوسف حين أخرج منها. (
وَأَسَرُّوه ) أَخْفَوْهُ، (
بِضَاعَة ) قال مجاهد: أسره مالك بن ذعر وأصحابه من التجار الذين معهم
وقالوا: هو بضاعة استبضعها بعض أهل الماء إلى مصر خيفة أن يطلبوا منهم فيه
المشاركة.
وقيل: أراد أن إخوة يوسف أسروا
شأن يوسف وقالوا هذا عبد لنا [ أبِقَ ] .
قال الله تعالى: (
وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ) فأتى
يهوذا يوسف بالطعام فلم يجده في البئر، فأخبر بذلك إخوته، فطلبوه فإذا هم بمالك
وأصحابه نـزولا فأتوهم فإذا هم بيوسف، فقالوا هذا عبد آبق منّا. ويقال: إنهم
هدّدوا يوسف حتى لم يعرف حاله. وقال مثل قولهم، ثم باعوه، فذلك قوله عز وجل:
وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ
دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ ( 20 ) .
(
وَشَرَوْه ) أي: باعوه، ( بِثَمَنٍ
بَخْسٍ ) قال الضحاك، ومقاتل، والسدي: حرام لأن ثمن الحرِّ حرام،
وسُمي الحرام بخسا لأنه مبخوس البركة.
وعن ابن عباس وابن مسعود: بخس
أي زيوف.
وقال عكرمة والشعبي: بثمن قليل.
(
دَرَاهِمَ ) بدل من الثمن، (
مَعْدُودَة ) ذكَّر العدد عبارة عن قلتها.
وقيل: إنما قال معدودة لأنهم
كانوا في ذلك الزمان لا يَزِنُون ما كان أقل من أربعين درهما، إنما كانوا يعدونها
عدّاً، فإذا بلغت أوقية وزنوها.
واختلفوا في عدد تلك الدراهم:
قال ابن عباس وابن مسعود وقتادة: عشرون درهما، فاقتسموها درهمين درهمين.
وقال مجاهد: اثنان وعشرون
درهما.
وقال عكرمة: أربعون درهما .
(
وَكَانُوا ) يعني: إخوة يوسف، ( فِيه ) أي: في
يوسف ( مِنَ الزَّاهِدِينَ ) لأنهم
لم يعلموا منـزلته عند الله.
وقيل: كانوا في الثمن من
الزاهدين، لأنهم لم يكن قصدهم تحصيل الثمن، إنما كان قصدهم تبعيد يوسف عن أبيه.
ثم انطلق مالك بن ذعر وأصحابه
بيوسف، فتبعهم إخوته يقولون: استوثقوا منه لا يأبق، قال: فذهبوا به حتى قدموا مصر،
وعرضه مالك على البيع فاشتراه قطفير قاله ابن عباس.
وقيل: إظفير صاحب أمر الملك،
وكان على خزائن مصر يسمى العزيز، وكان الملك يومئذ بمصر ونواحيها الريان بن الوليد
بن شروان من العمالقة.
وقيل: إن هذا الملك لم يمت حتى
آمن واتَّبَع يوسف على دينه، ثم مات ويوسف حي.
قال ابن عباس رضي الله عنهما:
لمّا دخلوا مصر تلقى قطفير مالك بن ذعر فابتاع منه يوسف بعشرين دينارا وزوج نعل
وثوبين أبيضين.
وقال وهب بن منبه: قدمت السيارة
بيوسف مصر فدخلوا به السوق يعرضونه للبيع، فترافع الناس في ثمنه حتى بلغ ثمنه وزنه
ذهبا ووزنه فضة ووزنه مسكا وحريرا، وكان وزنه أربعمائة رطل، وهو ابن ثلاث عشرة سنة
فابتاعه قطفير من مالك بن ذعر بهذا الثمن، فذلك قوله تعالى:
وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ
مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ
نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ
مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ( 21 ) .
(
وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ )
واسمها: راعيل، وقيل: زليخا، ( أَكْرِمِي مَثْوَاهُ ) أي:
منـزله ومقامه، والمثوى: موضع الإقامة.
وقيل: أكرميه في المطعم والملبس
والمقام.
وقال قتادة وابن جريج: منـزلته.
( عَسَى
أَنْ يَنْفَعَنَا ) أي: نبيعه بالربح إن أردنا
البيع، أو يكفينا إذا بلغ بعض أمورنا.
( أَوْ
نَتَّخِذَهُ وَلَدًا ) أي: نتبنَّاه.
قال ابن مسعود رضي الله عنه:
أفرس الناس ثلاثة: العزيز في يوسف، حيث قال لامرأته: أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا،
وابنة شعيب عليه السلام حيث قالت لأبيها في موسى عليه السلام: يا أبتِ استأجره،
وأبو بكر في عمر رضي الله عنهما حيث استخلفه .
(
وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرْضِ ) [ أي:
في أرض مصر ] أي: كما أنقذنا يوسف من القتل وأخرجناه من الجب، كذلك [
مكنا له ] في الأرض فجعلناه على خزائنها.
(
وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ ) أي: [
مكَّنّا له ] في الأرض لكي نعلمه من تأويل الأحاديث، وهي عبارة عن
الرؤيا.
(
وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ ) قيل:
الهاء في أمره كناية عن الله تعالى، يقول: إن الله غالب على أمره يفعل ما يشاء، لا
يغلبه شيء ولا يردُّ حكمه رادّ.
وقيل: هي راجعة إلى يوسف عليه
السلام معناه: إن الله مستول على أمر يوسف بالتدبير [
والحياطة ] لا يَكِلُه إلى أحد حتى يبلغ منتهى علمه فيه.
(
وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُون ) ما
الله به صانع.
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ
حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ( 22 ) .
( وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ ) منتهى
شبابه وشدته وقوته. قال مجاهد: ثلاثا وثلاثين سنة.
وقال السدي: ثلاثين سنة.
وقال الضحاك: عشرين سنة.
وقال الكلبي: الأشدُّ ما بين ثماني عشرة سنة إلى ثلاثين سنة.
وسئل مالك رحمه الله عن الأشد قال: هو الحلم .
( آتَيْنَاهُ حُكْمًا
وَعِلْمًا ) فالحكم: النبوة، والعلم: الفقه في الدين.
وقيل: حكما يعني: إصابة في القول: وعلما: بتأويل الرؤيا.
وقيل: الفرق بين الحكيم والعالم، أن العالم: هو الذي يعلم
الأشياء، والحكيم: الذي يعمل بما يوجبه العلم.
( وَكَذَلِكَ نَجْزِي
الْمُحْسِنِينَ ) قال ابن عباس رضي الله عنهما:
المؤمنين. وعنه أيضا: المهتدين. وقال الضحاك: الصابرين على النوائب كما صبر يوسف
عليه السلام.
وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ
فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ
مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ
الظَّالِمُونَ ( 23 ) .
(
وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ ) يعني:
امرأة العزيز. والمراودة: طلب الفعل، والمراد ها هنا أنها دعته إلى نفسها
ليواقعها، ( وَغَلَّقَتِ الأبْوَابَ ) أي:
أطبقتها، وكانت سبعة، ( وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ ) أي:
هلمَّ وأَقْبِلْ.
قرأه أهل الكوفة والبصرة: (
هَيْتَ لك ) بفتح الهاء والتاء.
وقرأ أهل المدينة والشام: (
هِيْتَ ) بكسر الهاء وفتح التاء.
وقرأ ابن كثير: (
هَيْتُ ) بفتح الهاء وضم التاء.
وقرأ السلمي وقتادة: (
هِئْتُ لك ) بكسر الهاء وضم التاء مهموزا، يعني: تهيأت لك، وأنكره أبو
عمرو والكسائي، وقالا لم يُحْكَ هذا عن العرب.
والأول هو المعروف عند العرب.
قال ابن مسعود رضي الله عنه:
أقرأني النبي صلى الله عليه وسلم (
هَيْتَ لَكَ ) .
قال أبو عبيدة كان الكسائي
يقول: هي لغة لأهل حوران رفعت إلى الحجاز معناها [
إليَّ ] تعالَ.
وقال عكرمة: هي أيضا بالحورانية
هلم.
وقال مجاهد وغيره: هي لغة عربية
وهي كلمة حثّ وإقبال على الشيء.
قال أبو عبيدة: إن العرب لا
تثني ( هَيْتَ ) ولا تجمع ولا تؤنث، وإنها
بصورة واحدة في كل حال.
( قَالَ
) يوسف لها عند ذلك: (
مَعَاذَ اللَّهِ ) أي: أعوذ بالله وأعتصم بالله
مما دعوتني إليه، ( إِنَّهُ رَبِّي ) يريد
أن زوجك قطفير سيدي ( أَحْسَنَ مَثْوَايَ ) أي:
أكرم منـزلي. هذا قول أكثر المفسرين.
وقيل: الهاء راجعة إلى الله
تعالى، يريد: أن الله تعالى ربي أحسن مثوايَ، أي: آواني، ومن بلاء الجبِّ عافاني.
(
إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ) يعني:
إن فعلت هذا فخنته في أهله بعد ما أكرم مثواي فأنا ظالم، ولا يفلح الظالمون.
وقيل: لا يفلح الظالمون: أي لا
يسعد الزناة.
وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ
وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ
السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ( 24 ) .
(
وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا )
والهمُّ هو: المقاربة من الفعل من غير دخول فيه. فهمُّها: عزمُها على المعصية
والزنى.
وأما همُّه: فروي عن ابن عباس
رضي الله عنهما أنه قال: حلّ الهِميَان وجلس منها مجلس الخائن .
وعن مجاهد قال: حلَّ سراويله
وجعل يعالج ثيابه. وهذا قول أكثر المتقدمين مثل سعيد بن جبير والحسن .
وقال الضحاك: جرى الشيطان فيما
بينهما فضرب بإحدى يديه إلى جيد يوسف وباليد الأخرى إلى جيد المرأة حتى جمع
بينهما.
قال أبو عبيد القاسم بن سلام:
وقد أنكر قوم هذا القول، والقول ما قال متقدمو هذه الأمة، وهم كانوا أعلم بالله أن
يقولوا في الأنبياء عليهم السلام من غير علم.
وقال السدي وابن إسحاق: لما
أرادت امرأة العزيز مراودة يوسف عليه السلام عن نفسه جعلت تذكر له محاسن نفسه ،
وتُشَوِّقه إلى نفسها، فقالت: يا يوسف ما أحسن شعرك!.
قال: هو أول ما ينتثر من جسدي.
قالت: ما أحسن عينيك!
قال: هي أول ما تسيل على وجهي
في قبري.
قالت: ما أحسن وجهك!
قال: هو للتراب يأكله .
وقيل: إنها قالت: إن فراش
الحرير مبسوط، فقم فاقض حاجتي.
قال: إذًا يذهب نصيبي من الجنة.
فلم تزل تطمعه وتدعوه إلى
اللذة، وهو شاب يجد من شبق الشباب ما يجده الرجل، وهي امرأة حسناء جميلة، حتى لان
لها ممَّا يرى من كلفها، وهمّ بها، ثم إن الله تعالى تدارك عبده ونبيه بالبرهان
الذي ذكره .
وزعم بعض المتأخرين: أن هذا لا
يليق بحال الأنبياء عليهم السلام ، وقال: تمَّ الكلام عند قوله: (
وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ) ثم ابتدأ الخبر عن يوسف عليه
السلام فقال: ( وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ
رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ ) على التقديم والتأخير، أي:
لولا أن رأى برهان ربه لهمَّ بها، ولكنه رأى البرهان فلم يهم.
وأنكره النحاة وقالوا: إن العرب
لا تُؤخّر ( لولا ) عن الفعل، فلا تقول: لقد قمت
لولا زيد، [ وهو يريد لولا زيدٌ لَقُمْتُ ] .
وقيل: همت بيوسف أن يفترشها،
وهمَّ بها يوسف أي: تمنى أن تكون له زوجة. وهذا التأويل وأمثاله غير مرضية
لمخالفتها أقاويل القدماء من العلماء الذين يؤخذ عنهم الدين والعلم .
وقال بعضهم: إن القدر الذي فعله
يوسف عليه السلام كان من الصغائر، والصغائر تجوز على الأنبياء عليهم السلام .
روي أن يوسف عليه السلام لما
دخل على الملك حين خرج من السجن وأقرَّتِ المرأة، قال يوسف: ذَلِكَ لِيَعْلَمَ
أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ قال له جبريل: ولا حين هممتَ بها يا يوسف؟ فقال
يوسف عند ذلك: وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي الآية .
وقال الحسن البصري: إن الله
تعالى لم يذكر ذنوب الأنبياء عليهم السلام في القرآن ليعيِّرهم، ولكن ذكرها ليبّين
موضع النعمة عليهم، ولئلا ييئس أحد من رحمته .
وقيل: إنه ابتلاهم بالذنوب
ليتفرد بالطهارة والعزة، ويلقاه جميع الخلق يوم القيامة على انكسار المعصية.
وقيل: ليجعلهم أئمة لأهل الذنوب
في رجاء الرحمة وترك الإياس من المغفرة والعفو.
وقال بعض أهل الحقائق: الهمُّ
همَّان: همُّ ثابتٌ، وهو إذا كان معه عزم وعقد ورضا، مثل همِّ امرأة العزيز،
والعبد مأخوذ به، وهمٌّ عارض وهو الخطرة، وحديث النفس من غير اختيار ولا عزم، مثل
همِّ يوسف عليه السلام، فالعبد غير مأخوذ به ما لم يتكلم أو يعمل.
أخبرنا أبو علي حسان بن سعيد
المنيعي، أنبأنا أبو طاهر محمد بن محمد محمش الزيادي، حدثنا أبو بكر محمد بن
الحسين القطان، حدثنا أحمد بن يوسف السلمي، حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر عن همام
بن منبه قال: حدثنا أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
« قال الله عز وجل: إذا تحدَّث عبدي بأن يعمل حسنة فأنا
أكتبها له حسنة ما لم يعملها، فإذا عملها فأنا أكتبها له بعشر أمثالها، وإذا تحدث
بأن يعمل سيئة فأنا أغفرها له، ما لم يعملها، فإذا عملها فأنا أكتبها له بمثلها » .
قوله عز وجل: (
لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ )
اختلفوا في ذلك البرهان: قال قتادة وأكثر المفسرين: إنه رأى صورة يعقوب، وهو يقول له:
يا يوسف تعمل عمل السفهاء وأنت مكتوب في الأنبياء!.
وقال الحسن وسعيد بن جبير
ومجاهد وعكرمة والضحاك: انفرج له سقف البيت فرأى يعقوب عليه السلام عاضَّاً على
أصبعه .
وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس
رضي الله عنهما: مُثِّل له يعقوب عليه السلام فضرب بيده في صدره فخرجت شهوته من
أنامله .
وقال السدي: نُودي يا يوسف
تواقعها! إنما مثلك ما لم تواقعها مثل الطير في جوف السماء لا يطاق، ومثلك إن
تواقعها مثله إذا مات ووقع على الأرض لا يستطيع أن يدفع عن نفسه، ومثلك ما لم
تواقعها مثل الثور الصعب الذي لا يطاق، ومثلك إن واقعتها مثل الثور يموت فيدخل
النمل في أصل قرنيه لا يستطيع أن يدفعه عن نفسه.
وعن مجاهد عن ابن عباس رضي الله
عنهما في قوله: ( وَهَمَّ بِهَا ) قال:
حلَّ سراويله وقعد منها مقعد الرجل من امرأته، فإذا بكفٍّ قد بدت بينهما بلا معصم
ولا عضد مكتوب عليها وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ *
يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ( الانفطار - 10 ) ، فقام
هاربا وقامت، فلما ذهب عنهما الرعب عادت وعاد فظهرت تلك الكف مكتوبا عليها: وَلا
تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلا (
الإسراء - 32 ) فقام هاربا وقامت، فلما ذهب عنهما الرعب عادت وعاد، فظهر،
ورأى تلك الكف مكتوبا عليها: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ
( البقرة - 281 ) فقام
هاربا وقامت، فلما ذهب عنهما الرعب عادت وعاد، فقال الله عز وجل لجبريل عليه
السلام: أَدْرِكْ عبدي قبل أن يصيب الخطيئة، فانحطّ جبريل عليه السلام عاضَّاً على
أصبعه، يقول: يا يوسف تعمل عمل السفهاء وأنت مكتوب عند الله في الأنبياء .
وروي أنه مسحه بجناحه فخرجت
شهوته من أنامله.
وقال محمد بن كعب القرظي: رفع
يوسف رأسه إلى سقف البيت حين همَّ بها فرأى كتابا في حائط البيت: « لا
تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا » .
وروى عطية عن ابن عباس: في
البرهان أنه رأى مثال الملك .
وقال جعفر بن محمد الصادق رضي
الله عنهما: البرهان النبوة التي أودعها الله في صدره حالت بينه وبين ما يسخط الله
عز وجل .
وعن علي بن الحسين قال: كان في
البيت صنم فقامت المرأة وسترته بثوب، فقال لها يوسف :لِمَ فعلتِ هذا؟.
فقالت: استحييتُ منه أن يراني
على المعصية.
فقال يوسف: أتستحين مما لا يسمع
ولا يبصر ولا يفقه؟ فأنا أحق أن أستحي من ربي، وهرب .
قوله عز وجل: (
لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ ) جواب
لولا محذوف، تقديره: لولا أن رأى برهان ربه لواقع المعصية.
(
كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ )
فالسوء: الإثم. وقيل: السوء القبيح. والفحشاء: الزنى.
(
إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ) قرأ
أهل المدينة والكوفة: ( الْمُخْلَصِينَ ) بفتح
اللام حيث كان إذا لم يكن بعده ذكر الدِّين، زاد الكوفيون مُخْلَصًا في سورة مريم
ففتحوا.
ومعنى (
الْمُخْلَصِينَ ) المختارين للنبوة، دليله:
إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ( ص -
46 ) .
وقرأ الآخرون بكسر اللام، أي:
المخلصين لله الطاعة والعبادة.
وَاسْتَبَقَا الْبَابَ
وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ
مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ
أَلِيمٌ ( 25 )
قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ
قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ( 26 ) .
(
وَاسْتَبَقَا الْبَابَ ) وذلك أن يوسف لما رأى البرهان
قام مبادرا إلى باب البيت هاربا، وتبعته المرأة لتمسك الباب حتى لا يخرج يوسف،
فسبق يوسف، وأدركته المرأة، فتعلَّقت بقميصه من خلفه، فجذبته إليها حتى لا يخرج.
(
وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ ) أي: فشقَّته ( مِنْ
دُبُرٍ ) أي: من خلف، فلما خرجا لقيا العزيز، وهو قوله:
(
وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ ) أي:
وجدا زوج المرأة قطفير عند الباب جالسا مع ابن عم لراعيل، فلما رأته هابته و ( قَالَت
) سابقةً بالقول لزوجها ( مَا
جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا ) يعني:
الزنى، ثم خافت عليه أن يقتله فقالت: ( إِلا
أَنْ يُسْجَنَ ) أي: يحبس، ( أَوْ
عَذَابٌ أَلِيمٌ ) أي: ضرب بالسياط، فلما سمع
يوسف مقالتها.
( قَالَ
هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي ) يعني: طلبت مني الفاحشة فأبيت
وفررت.
وقيل: ما كان يريد يوسف أن
يذكره، فلما قالت المرأة: ما جزاء من أراد بأهلك سوءا؟ ذكره، فقال: هي راودتني عن
نفسي.
(
وَشَهِدَ شَاهِدٌ ) وحكم حاكم، ( مِنْ
أَهْلِهَا ) اختلفوا في ذلك الشاهد:
فقال سعيد بن جبير، والضحاك:
كان صبيا في المهد، أنطقه الله عز وجل ، وهو رواية العوفي عن ابن عباس رضي الله
عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « تكلم
أربعة وهم صغار: ابن ماشطة ابنة فرعون، وشاهد يوسف، وصاحب جريج، وعيسى بن مريم
عليه السلام » .
وقيل: كان ذلك الصبي ابن خال
المرأة.
وقال الحسن وعكرمة وقتادة
ومجاهد: لم يكن صبيا ولكنه كان رجلا حكيما ذا رأي .
قال السدي: هو ابن عم راعيل ،
فحكم فقال: ( إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ ) أي: من
قدَّام، ( فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ) .
وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ
مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ ( 27 )
فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ
كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ( 28 )
يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ
الْخَاطِئِينَ ( 29 ) .
(
وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ )
(
فَلَمَّا رَأَى ) قطفير، (
قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ ) عرف خيانة امرأته وبراءة يوسف
عليه السلام، ( قَالَ ) لها (
إِنَّهُ ) أي: إن هذا الصنيع، ( مِنْ
كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ) وقيل:
إن هذا من قول الشاهد ثم أقبل قطفير على يوسف فقال:
(
يُوسُفُ ) أي: يا يوسف، (
أَعْرِضْ عَنْ هَذَا ) أي: عن هذا الحديث، فلا تذكره
لأحد حتى لا يشيع.
وقيل: معناه لا تكترث له، فقد
بان عذرك وبراءتك.
ثم قال لامرأته: ( وَاسْتَغْفِرِي
لِذَنْبِكِ ) أي: توبي إلى الله، (
إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ )
وقيل: إن هذا من قول الشاهد
ليوسف ولراعيل.
وأراد بقوله: (
واستغفري لذنبك ) ، أي سلي زوجك أن لا يعاقبك
ويصفح عنك ( إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ ) من
المذنبين، حتى راودتِ شابّاً عن نفسه وخُنْتِ زوجك، فلما استعصم كذبتِ عليه، وإنما
قال: « من الخاطئين » ولم
يقل: من الخاطئات، لأنه لم يقصد به الخبر عن النساء بل قصد به الخبر عمن يفعل ذلك،
تقديره: من القوم الخاطئين، كقوله تعالى: وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (
التحريم - 12 ) بيانه قوله تعالى: إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ
( النمل - 43 ) .
وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي
الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ
شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ( 30 ) .
قوله تعالى: (
وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ ) الآية.
يقول: شاع أمر يوسف والمرأة في المدينة مدينة مصر. وقيل:
مدينة عين الشمس، وتحدث النساء بذلك وقلن - وهنّ خمس نسوة: امرأة حاجب الملك،
وامرأة صاحب الدواب، وامرأة الخباز، وامرأة الساقي، وامرأة صاحب السجن، قاله
مقاتل.
وقيل: هنَّ نسوة من أشراف مصر- :
( امْرَأَةُ الْعَزِيزِ
تُرَاوِدُ فَتَاهَا ) أي: عبدها الكنعاني، ( عَنْ
نَفْسِهِ ) أي: تطلب من عبدها الفاحشة، ( قَدْ
شَغَفَهَا حُبًّا ) أي: عَلِقَها حبا.
قال الكلبي: حجب حبُّه قلبَها حتى لا تعقل سواه.
وقيل: أحبَّتهُ حتى دخل حبه شغاف قلبها، أي: داخل قلبها.
قال السدي: الشغاف جلدة رقيقة على القلب، يقول: دخل الحبُّ
الجلدَ حتى أصاب القلب.
وقرأ الشعبي والأعرج (
شَعَفَهَا ) بالعين غير المعجمة، معناه: ذهب الحُبُّ بها كل مذهب. ومنه
شعف الجبال وهو رؤوسها. ( إِنَّا لَنَرَاهَا فِي
ضَلالٍ مُبِينٍ ) أي: خطأ ظاهر. وقيل: معناه
إنها تركت ما يكون عليه أمثالها من العفاف والستر.
فَلَمَّا سَمِعَتْ
بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ
وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ
أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا
إِنْ هَذَا إِلا مَلَكٌ كَرِيمٌ ( 31 ) .
(
فَلَمَّا سَمِعَتْ ) راعيل، (
بِمَكْرِهِنّ ) بقولهن وحديثهن، قاله قتادة والسدي.
قال ابن اسحاق إنما قلن ذلك
مكراً بها لِتُرِيَهُنَّ يوسف، وكان يوصف لهنّ حسنُه وجماله.
وقيل: إنها أفشت إليهن سرَّها
واستكتمتهن فأفشَيْن ذلك، فلذلك سمَّاه مكرا.
(
أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ ) قال وهب: اتخذت مأدبة، ودعت
أربعين امرأة، منهن هؤلاء اللاتي عَيَّرْنَها. (
وَأَعْتَدَت ) أي: أعدت، (
لَهُنَّ مُتَّكَأً ) أي: ما يتكأ عليه.
وقال ابن عباس وسعيد بن جبير
والحسن وقتادة ومجاهد: متكأ أي: طعاما، سماه متكأ لأن أهل الطعام إذا جلسوا يتكئون
على الوسائد، فسمى الطعام متكأ على الاستعارة. يقال: اتكأنا عند فلان أي: طعمنا .
ويقال: المتكأ ما اتكأت عليه للشرب أو الحديث أو الطعام ، ويقرأ في الشواذ
مَتْكَأً بسكون التاء.
واختلفوا في معناه: فقال ابن
عباس: [ هو الأترج. ويروى عن مجاهد مثله. وقيل ] هو
الأترج بالحبشة.
وقال الضحاك: هو الرباورد .
وقال عكرمة: هو كل شيء يقطع
بالسكين.
وقال أبو زيد الأنصاري: كل ما
يجز بالسكين فهو عند العرب متك، والمتك والبتك بالميم والباء: القطع، فزينت [
المأدبة بألوان ] الفواكه والأطعمة، ووضعت
الوسائد ودعت النسوة.
(
وَآتَت ) وأعطت، ( كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ
سِكِّينًا ) فكُنَّ يأكلن اللحمَ حزَّاً بالسكين.
(
وَقَالَتِ ) ليوسف، ( اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ ) وذلك
أنها كانت أجلسته في مجلس آخر، فخرج عليهن يوسف.
قال عكرمة: كان فضل يوسف على
الناس في الحسن كفضل القمر ليلة البدر على سائر النجوم.
وروي عن أبي سعيد الخدري قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: « رأيت ليلة أسري بي إلى السماء
يوسف كالقمر ليلة البدر » .
قال إسحاق بن أبي فروة: كان
يوسف إذا سار في أزقة مصر يُرى تلألؤ وجهه على الجدران.
(
فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ ) أعظمنه،
قال أبو العالية: هَالهُنَّ أمرُه وبُهتنَ. وقيل: أكبرنَه أي: حضن لأجله من جماله
. ولا يصح.
(
وَقَطَّعْنَ ) أي: حززن بالسكاكين التي معهن، (
أَيْدِيَهُنّ ) وهنَّ يحسبن أنهن يقطعن الأترج، ولم يجدن الألم لشغل قلوبهن
بيوسف.
قال مجاهد: فما أحسسن إلا بالدم.
وقال قتادة : أَبَنَّ أيديهنّ
حتى ألقينها.
والأصح كان قطعا بلا إبانة.
وقال وهب: ماتت جماعة منهن .
(
وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا ) أي:
معاذ الله أن يكون هذا بشرا. قرأ أبو عمرو: حاشى لله، بإثبات الياء في الوصل، على
الأصل. وقرأ الآخرون بحذف الياء لكثرة ورودها على الألسن، واتباعا للكتاب.
وقوله: ( مَا
هَذَا بَشَرًا ) نصب بنـزع حرف الصفة، أي: ليس
هذا ببشر، ( إِنْ هَذَا ) أي: ما
هذا، ( إِلا مَلَكٌ ) من
الملائكة، ( كَرِيمٌ ) على الله تعالى.
قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي
لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ
لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ ( 32 ) .
(
قَالَتْ ) يعني: راعيل، (
فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ ) أي: في
حبه، ثم صرحت بما فعلت، فقالت: ( وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ
نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ ) أي: فامتنع، وإنما صرحت به
لأنها علمت أنه لا ملامة عليها منهنّ وقد أصابهنَّ ما أصابها من رؤيته، فقلنَ له:
أطِعْ مولاتك. فقالتْ راعيل: ( وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا
آمُرُهُ ) ولئن لم يطاوعني فيما دعوته إليه، (
لَيُسْجَنَنَّ ) أي: ليعاقبن بالحبس، (
وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ ) من
الأذلاء. ونون التوكيد تثقل وتخفف، والوقف على قوله: (
لَيُسْجَنَنَّ ) بالنون لأنها مشددة، وعلى
قوله ( وليكونا ) بالألف لأنها مخففة، وهي
شبيهة بنون الإعراب في الأسماء، كقوله: رأيت رجلا وإذا وقفت، قلت: رأيت رجلا
بالألف، ومثله لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ * نَاصِيَةٍ ( العلق
- 15، 16 ) . فاختار يوسف عليه السلام السجن على المعصية حين توعدته
المرأة.
قَالَ رَبِّ السِّجْنُ
أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ
أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ ( 33 )
فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ
الْعَلِيمُ ( 34 )
ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى
حِينٍ ( 35 ) .
( قَالَ
رَبِّ ) أي: يا رب، (
السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ) قيل:
كان الدعاء منها خاصة، ولكنه أضاف إليهن خروجا من التصريح إلى التعريض.
وقيل: إنهن جميعا دعونه إلى
أنفسهن.
وقرأ يعقوب وحده: السَّجْنُ
بفتح السين. وقرأ العامة بكسرها.
وقيل: لو لم يقل: السجن أحب
إليّ لم يُبْتَلَ بالسجن، والأوْلى بالمرء أن يسأل الله العافية.
قوله تعالى: (
وَإِلا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ ) أَمِلْ
إليهن وأتابعهن، يقال: صبا فلان إلى كذا يصبو صبوا وصبُوَّاً وصُبُوَّةً إذا مال
واشتاق إليه.
(
وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ ) فيه دليل على أن المؤمن إذا
ارتكب ذنبا يرتكبه عن جهالة.
(
فَاسْتَجَابَ لَهُ ) أجاب له. (
رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) [
لدعائه ] العليم بمكرهن.
( ثُمَّ
بَدَا لَهُمْ ) أي: للعزيز وأصحابه في الرأي، وذلك أنهم أرادوا أن يقتصروا
من أمر يوسف على الأمر بالإعراض. ثم بدا لهم أن يحبسوه. ( مِنْ
بَعْدِ مَا رَأَوُا الآيَاتِ ) الدالة على براءة يوسف مِنْ
قَدِّ القميص، وكلام الطفل وقطع النساء أيديهن وذهاب عقولهن، (
لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ ) إلى مدَّة يرون فيه رأيهم.
وقال عطاء: إلى أن تنقطع مقالة
الناس.
قال عكرمة: سبع سنين.
وقال الكلبي: خمس سنين.
قال السدي: وذلك أن المرأة قالت
لزوجها: إن هذا العبد العبراني قد فضحني في الناس، يخبرهم أني راودتُه عن نفسه،
فإما أن تأذن لي فأخرج فأعتذر إلى الناس، وإما أن تحبسه، فحبسه، وذكر أن الله
تعالى جعل ذلك الحبس تطهيرا ليوسف عليه السلام من همّه بالمرأة .
قال ابن عباس: عثر يوسف ثلاث
عثرات: حين همَّ بها فسجن، وحين قال اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فلبث في السجن بضع
سنين، وحين قال للإخوة إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ ، فقالوا: إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ
سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ .
وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ
فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ
إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا
بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ( 36 ) .
قوله تعالى: (
وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ ) وهما
غلامان كانا [ للريان بن الوليد بن شروان العمليق ] ملك
مصر الأكبر، أحدهما: خبَّازه وصاحب طعامه، والآخر: ساقيه وصاحب شرابه. غضب الملك
عليهما فحبسهما.
وكان السبب فيه: أن جماعة من
أهل مصر أرادوا المكر بالملك واغتياله، فضمنوا لهذين مالا ليسمَّا الملك في طعامه
وشرابه فأجاباهم، ثم إن الساقي نكل عنه، وقبل الخباز الرشوة فسمَّ الطعام، فلما أحضر
الطعام والشراب قال الساقي: لا تأكل أيها الملك فإن الطعام مسموم، وقال الخباز: لا
تشرب فإن الشراب مسموم.
فقال الملك للساقي: اشرب فشربه
فلم يضره، وقال للخباز: كل من طعامك، [
فأبى فجرب ] ذلك الطعام على دابة فأكلته فهلكت، فأمر الملك بحبسهما.
وكان يوسف حين دخل السجن جعل
ينشر علمه ويقول: إني أعبر الأحلام، فقال أحد الفتيين لصاحبه: هلمَّ فلنجرب هذا
العبد العبراني، فَتَراءَيا له فسألاه من غير أن يكونا رأيا شيئا، قال ابن مسعود:
ما رأيا شيئا وإنما تحالَما ليجرِّبَا يوسف.
وقال قوم: بل كانا رأيا حقيقة،
فرآهما يوسف وهما مهمومان، فسألهما عن شأنهما، فذكرا أنهما صاحبا الملك، حبسهما،
وقد رأيا رؤيا غمتهما. فقال يوسف: قُصّا عليّ ما رأيتُما، فقصَّا عليه.
( قَالَ
أَحَدُهُمَا ) وهو صاحب الشراب، (
إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا ) أي:
عنبا، سمي العنب خمرا باسم ما يؤول إليه، كما يقال: فلان يطبخ الآجر أي: يطبخ
اللبن للآجر. وقيل: الخمر العنب بلغة عمان، وذلك أنه قال: إني رأيتُ كأني في
بستان، فإذا بأصل حبلة عليها ثلاث عناقيد من عنب فجنيتها ، وكان كأس الملك بيدي
فعصرتها فيه وسقيت الملك فشربه.
(
وَقَالَ الآخَرُ ) وهو الخباز: ( إِنِّي
أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ ) وذلك
أنه قال: إني رأيت كأن فوق رأسي ثلاث سلال فيها الخبز وألوان الأطعمة وسباع الطير
تنهش منه. ( نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ ) أخبرنا
بتفسيره وتعبيره وما يؤول إليه أمر هذه الرؤيا.
( إِنَّا
نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ) أي: العالمين بعبارة الرؤيا،
والإحسان بمعنى العلم.
ورُوي أن الضحاك بن مزاحم سئل
عن قوله: ( إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ) ما كان
إحسانه؟ قال: كان إذا مرض إنسان في السجن عاده وقام عليه، وإذا ضاق [
عليه المجلس ] وسع له، وإذا احتاج جمع له شيئا، وكان مع هذا يجتهد في
العبادة، ويقوم الليل كله للصلاة .
وقيل : إنه لما دخل السجن وجد
فيه قوما اشتد بلاؤهم وانقطع رجاؤهم وطال حزنهم، فجعل يُسلِّيهم ويقول: أبشروا
واصبروا تؤجروا، فيقولون: بارك الله فيك يا فتى ما أحسن وجهك وخلقك وحديثك، لقد
بورك لنا في جوارك فمن أنت يا فتى؟ قال: أنا يوسف بن صفي الله يعقوب بن ذبيح الله
إسحاق بن خليل الله إبراهيم، فقال له عامل السجن: يا فتى والله لو استطعت
لخلَّيْتُ سبيلك، ولكن سأحسن جوارك فتمكن في أيّ بيوت السجن شئت.
ويُروى أن الفتيين لمّا رأيا
يوسف قالا له: لقد أحببناك حين رأيناك، فقال لهما يوسف: أنشدكما بالله أن لا
تحباني، فوالله ما أحبني أحد قط إلا دخل عليّ من حبه بلاء، لقد أحبتني عمتي فدخل
عليّ بلاء، ثم أحبني أبي فألقيت في الجب، وأحبتني امرأة العزيز فحبست. فلما قصّا
عليه الرؤيا كره يوسف أن يعبِّر لهما ما سألاه لِمَا علم في ذلك من المكروه على
أحدهما، فأعرض عن سؤالهما وأخذ في غيره في إظهار المعجزة والدعاء إلى التوحيد .
قَالَ لا يَأْتِيكُمَا
طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ
يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ
لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ( 37 ) .
( قَالَ لا يَأْتِيكُمَا
طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ ) قيل: أراد به في النوم يقول:
لا يأتيكما طعام ترزقانه في نومكما، ( إِلا
نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ ) في اليقظة.
وقيل: أراد به في اليقظة، يقول: لا يأتيكما طعام من منازلكما
ترزقانه، تُطعمانه وتأكلانه إلا نبأتكما بتأويله بقدره ولونه والوقت الذي يصل فيه
إليكما.
( قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ) قبل أن
يصل إليكما، وأي طعام أكلتم وكم أكلتم ومتى أكلتم، فهذا مثل معجزة عيسى عليه
السلام حيث قال: وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي
بُيُوتِكُمْ ( آل عمران - 49 ) فقالا
هذا فعل العرَّافين والكهنة ، فمن أين لك هذا العلم؟ فقال: ما أنا بكاهن وإنما (
ذَلِكُمَا ) العلم، ( مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي
إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ
كَافِرُونَ ) وتكرار ( هُمْ ) على
التأكيد.
وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي
إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ
شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ ( 38 ) يَا
صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ
الْقَهَّارُ ( 39 ) .
(
وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ) أظهر
أنه من ولد الأنبياء ( مَا كَانَ لَنَا ) ما
ينبغي لنا، ( أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ) معناه:
أن الله قد عصمنا من الشرك، ( ذَلِكَ )
التوحيد والعلم، ( مِنْ فَضْلِ اللَّهِ
عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ ) ما بين لهم من الهدى، (
وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ ) ثم
دعاهما إلى الإسلام فقال:
( يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ ) جعلهما
صاحبي السجن لكونهما فيه، كما يقال لسكان الجنة: أصحاب الجنة، ولسكان النار: أصحاب
النار، ( أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ ) أي:
آلهة شتَّى، هذا من ذهب، وهذا من فضة، وهذا من حديد، وهذا أعلى، وهذا أوسط، وهذا
أدنى، متباينون لا تضر ولا تنفع، (
خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) الذي
لا ثاني له. القهار: الغالب على الكل. ثم بيَّن عجز الأصنام فقال:
مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ
إِلا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ
بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ أَمَرَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا
إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ
( 40 ) يَا
صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا
الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي
فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ ( 41 )
وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ
فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ ( 42 ) .
( مَا
تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ ) أي: من دون الله، وإنما ذُكر
بلفظ الجمع وقد ابتدأ الخطاب للاثنين لأنه أراد جميعَ أهل السجن، وكل من هو على
مثل حالهما من [ أهل ] الشرك،
( إِلا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا ) آلهة
وأربابا خالية عن المعنى لا حقيقة لتلك الأسماء، (
أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنـزلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ ) حجة
وبرهان، ( إِنِ الْحُكْمُ ) ما
القضاء والأمر والنهي، ( إِلا لِلَّهِ أَمَرَ أَلا تَعْبُدُوا
إِلا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ )
المستقيم، ( وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) ثم
فسَّر رؤياهما فقال: ( يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ
أَمَّا أَحَدُكُمَا ) .
( يَا
صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا ) وهو
صاحب الشراب، ( فَيَسْقِي رَبَّهُ ) [
يعني الملك ] ( خَمْرًا )
والعناقيد الثلاثة ثلاثة أيام يبقى في السجن ثم يدعوه الملك بعد الثلاثة أيام،
ويردّه إلى منـزلته التي كان عليها، (
وَأَمَّا الآخَرُ ) يعني: صاحب الطعام فيدعوه
الملك بعد ثلاثة أيام، والسلال الثلاث الثلاثة أيام يبقى في السجن، ثم يخرجه، (
فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ ) .
قال ابن مسعود: لمَّا سَمِعَا
قول يوسف قالا ما رأينا شيئا إنمّا كنّا نلعب، قال يوسف: (
قُضِيَ الأمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ ) ، أي:
فُرغ من الأمر الذي عنه تسألان، ووجب حكم الله عليكما الذي أخبرتُكما به، رأيتُما
أو لم ترَيا.
(
وَقَال ) يعني: يوسف عند ذلك، (
لِلَّذِي ظَنَّ ) علم (
أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا ) وهو الساقي، (
اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ ) يعني: سيدك الملك، وقل له: إن
في السجن غلاما محبوسا ظلما طال حبسه.
(
فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ ) قيل:
أنسى الشيطان الساقي ذكر يوسف للملك، تقديره: فأنساه الشيطان ذكره لربه.
قال ابن عباس وعليه الأكثرون:
أنسى الشيطانُ يوسفَ ذكرَ ربّه حين ابتغى الفرج، من غيره واستعان بمخلوق، وتلك
غفلة عرضت ليوسف من الشيطان .
(
فَلَبِث ) فمكث، ( فِي السِّجْنِ بِضْعَ
سِنِينَ ) واختلفوا في معنى البضع، فقال مجاهد: ما بين الثلاث إلى
السبع.
وقال قتادة: ما بين الثلاث إلى
التسع.
وقال ابن عباس: ما دون العشرة.
وأكثر المفسرين على أن البضع في
هذه الآية سبع سنين، وكان قد لبث قبله خمس سنين فجملتُه اثنتا عشرة سنة.
وقال وهب: أصاب أيوب البلاء سبع
سنين، وتُرك يوسف في السجن سبع سنين، وعذب بختنصر فحول في السباع سبع سنين .
قال مالك بن دينار: لما قال
يوسف للساقي اذكرني عند ربك، قيل له: يا يوسف اتخذتَ من دوني وكيلا لأطيلنَّ
حبسَك، فبكى يوسف، وقال: يا رب أنسى قلبي كثرةُ البلوى فقلتُ كلمةً ولن أعود .
وقال الحسن: دخل جبريل على يوسف
في السجن، فلما رآه يوسف عرفه فقال له: يا أخا المنذرين مالي أراك بين الخاطئين؟
فقال له جبريل: يا طاهر الطاهرين يقرأ عليك السلام رب العالمين، ويقول لك: أما
استحييت مني أن استشفعتَ بالآدميين، فوعزتي لألبثنَّك في السجن بضع سنين، قال
يوسف: وهو في ذلك عني راض؟ قال: نعم، قال: إذاً لا أبالي.
وقال كعب: قال جبريل ليوسف إن
الله تعالى يقول من خلقك؟ قال: الله، قال: فمن حبَّبكَ إلى أبيك؟ قال: الله، قال:
فمن نجَّاك من كرب البئر؟ قال: الله، قال: فمن علَّمك تأويلَ الرؤيا؟ قال: الله،
قال: فمن صرف عنك السوء والفحشاء؟ قال: الله، قال: فكيف استشفعت بآدمي مثلك؟ .
فلما انقضت سبع سنين - قال
الكلبي: وهذا السبع سوى الخمسة التي كانت قبل ذلك- ودَنَا فَرَجُ يوسف، رأى ملك
مصر الأكبر رؤيا عجيبة هالته، وذلك أنه رأى سبع بقرات سمان، خرجت من البحر، ثم خرج
عقبهن سبع بقرات عجاف في غاية الهزال، فابتلعت العجافُ السِّمانَ فدخلن في بطونهن،
ولم يُرَ منهن شيء ولم يتبين على العجاف منها شيء، ثم رأى سبع سنبلات خضر قد انعقد
حَبُّها، [ وسبعا أخرى ] يابسات
قد استحصدت، فالتوت اليابسات على الخضر حتى غلبن عليها ، ولم يبق من خضرتها شيء،
فجمع السحرة والكهنة والحازة والمعبرين وقصَّ عليهم رؤياه، فذلك قوله تعالى:
وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي
أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ
خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ
كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ ( 43 ) .
( وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي
أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ
خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ ) فقال لهم، ( يَا
أَيُّهَا الْمَلأ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ
) .
قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ
وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلامِ بِعَالِمِينَ ( 44 ) وَقَالَ
الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ
بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ ( 45 )
يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ
يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ
لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ ( 46 ) .
(
قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ ) أخلاط أحلام مشتبهة، أهاويلَ،
واحدها ضغث، وأصله الحزمة من أنواع الحشيش، والأحلام جمع الحُلْم، وهو الرؤيا،
والفعل منه حلمت أحلم، بفتح اللام في الماضي وضمها في الغابر، حُلُما وحُلْما،
مثقّلا ومخففا. ( وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ
الأحْلامِ بِعَالِمِينَ ) .
( وَقَالَ الَّذِي نَجَا ) من
القتل، ( مِنْهُمَا ) من
الفتيين وهو الساقي، ( وَادَّكَرَ ) أي:
تذكر قول يوسف اذكرني عندَ ربّك، (
بَعْدَ أُمَّةٍ ) بعد حين وهو سبع سنين. ( أَنَا
أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ ) وذلك أن الغلام جثا بين يدي
الملك، وقال: إن في السجن رجلا يعبر الرؤيا، (
فَأَرْسِلُونِ ) وفيه اختصار تقديره: فأرسلني
أيها الملك إليه، فأرسله فأتى السجن قال ابن عباس: ولم يكن السجن في المدينة.
فقال: (
يُوسُف ) يعني: يا يوسف، (
أَيُّهَا الصِّدِّيقُ ) والصديق الكثير الصدق، (
أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ
سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ ) فإن
الملك رأى هذه الرؤيا، ( لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى
النَّاسِ ) أهل مصر، (
لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ ) تأويل الرؤيا. وقيل: لعلهم
يعلمون منـزلتك في العلم.
فقال لهم يوسف معبرا ومعلما:
أمّا البقرات السمان والسنبلات الخضر: فسبع سنين مخاصيب، والبقرات العجاف
والسنبلات [ اليابسات ]
فالسنون المجدبة، فذلك قوله تعالى إخبارا عن يوسف:
قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ
سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلا قَلِيلا مِمَّا
تَأْكُلُونَ ( 47 )
ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ
لَهُنَّ إِلا قَلِيلا مِمَّا تُحْصِنُونَ ( 48 ) ثُمَّ
يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ ( 49 )
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ
إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ
إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ ( 50 ) .
( قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ
سِنِينَ دَأَبًا ) هذا خبر بمعنى الأمر، يعني:
ازرعُوا سبعَ سنين على عادتكم في الزراعة.
والدأب: العادة. وقيل: بجدٍّ
واجتهاد.
وقرأ عاصم برواية حفص: (
دَأَبًا ) بفتح الهمزة، وهما لغتان، يقال: دأبت في الأمر أدأب دَأَبا
ودَأْبا إذا اجتهدت فيه. ( فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ
فِي سُنْبُلِهِ ) أمرهم بترك الحنطة في السنبلة
لتكون أبقى على الزمان ولا تفسد، ( إِلا
قَلِيلا مِمَّا تَأْكُلُونَ ) أي: مما تدرسون قليلا للأكل،
أمرهم بحفظ الأكثر والأكل بقدر الحاجة.
( ثُمَّ
يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ ) سمى
السنين المجدبة شدادا لشدّتها على الناس، (
يَأْكُلْنَ ) أي: يفنين ويُهلكن، ( مَا
قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ ) أي: يؤكل فيهن ما أعددتم لهن
من الطعام، أضاف الأكل إلى السنين على طريق التوسع ( إِلا
قَلِيلا مِمَّا تُحْصِنُونَ ) تُحْرِزُونَ وتدَّخرون للبذر.
( ثُمَّ
يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ ) أي:
يمطرون، من الغيث: وهو المطر. وقيل: ينقذون من قول العرب استغثت فلانا فأغاثني، (
وَفِيهِ يَعْصِرُونَ ) قرأ حمزة والكسائي: « تعصرون
» بالتاء، لأن الكلام كله على الخطاب، وقرأ الآخرون بالياء ردا
إلى الناس، ومعناه: يعصرون العنب خمرا، والزيتون زيتا، والسمسم دهنا. وأراد به
كثرة النعيم والخير. وقال أبو عبيدة: يعصرون أي ينجون من الكروب والجدب، والعَصَر
والعَصْرة: المنجاة والملجأ .
(
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ ) وذلك
أن الساقي لما رجع إلى الملك وأخبره بما أفتاه يوسف من تأويل رؤياه، وعرف الملك أن
الذي قاله كائن، قال: ائتوني به.
(
فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ ) وقال له: أجب الملك، أبى أن
يخرج مع الرسول حتى تظهر براءته ثم ( قَالَ
) للرسول: ( ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ ) يعني:
سيدك الملك، ( فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاتِي قَطَّعْنَ
أَيْدِيَهُنَّ ) ولم يصرح بذكر امرأة العزيز
أدبا واحتراما.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: « لو
لبثتُ في السجن طول ما لبثَ يوسف لأجبتُ الداعي » .
( إِنَّ
رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ ) أي: إن الله بصنيعهن عالم،
وإنما أراد يوسف بذكرهن بعد طول المدة حتى لا ينظر إليه الملك بعين التهمة، ويصير
إليه بعد زوال الشك عن أمره، فرجع الرسول إلى الملك من عند يوسف برسالته، فدعا
الملكُ النسوةَ وامرأة العزيز.
قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ
رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ
مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا
رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ( 51 )
ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي
كَيْدَ الْخَائِنِينَ ( 52 ) .
( قَالَ ) لهن ( مَا
خَطْبُكُنَّ ) ما شأنكن وأمركن، ( إِذْ
رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ ) خاطبهن
والمراد امرأة العزيز، وقيل: إن امرأة العزيز راودته عن نفسه وسائر النسوة أَمَرْنَهُ
بطاعتها فلذلك خاطبهن.
( قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ ) معاذ
لله، ( مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ ) خيانة.
( قَالَتِ امْرَأَةُ
الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ ) ظهر
وتبين. وقيل: إن النسوة أقبلن على امرأة العزيز فقررنها [
فأقرت ] ، وقيل: خافت أن يشهدن عليها فأقرت. ( أَنَا
رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ) في
قوله: هي راودتني عن نفسي، فلما سمع ذلك يوسف قال :
( ذَلِك ) أي:
ذلك الذي فعلت من ردّي رسول الملك إليه، (
لِيَعْلَم ) العزيز، ( أَنِّي لَمْ أَخُنْه ) في
زوجته، ( بِالْغَيْبِ ) أي: في
حال غيبته، ( وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ ) قوله
ذلك ليعلم من كلام يوسف اتصل بقول امرأة العزيز: أنا راودته عن نفسه، من غير تميز،
لمعرفة السامعين .
وقيل: فيه تقديم وتأخير: معناه: ارجع إلى ربك فاسأله ما بال
النسوة اللاتي قطَّعن أيدِيَهنَّ إنَّ ربي بكيدهن عليم، ذلك ليعلم أني لم أخنه
بالغيب .
قيل: لما قال يوسف هذه المقالة، قال له جبريل: ولا حين هممت
بها؟ فقال يوسف عند ذلك: وما أبرئ نفسي .
قال السدي: إنما قالت له امرأة العزيز: ولا حين حللت سراويلك
يا يوسف؟ فقال يوسف:
وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي
إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي
غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 53 )
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ
قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ ( 54 ) .
( وَمَا
أُبَرِّئُ نَفْسِي ) من الخطأ والزلل فأزكيها، ( إِنَّ
النَّفْسَ لأمَّارَةٌ بِالسُّوءِ )
بالمعصية ( إِلا مَا رَحِمَ رَبِّي ) أي:
إلا من رحم ربي فعصمه، « ما » بمعنى
من - كقوله تعالى: فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ (
النساء - 3 ) أي: مَنْ طاب لكم- وهم الملائكة، عصمهم الله عز وجل فلم
يركّبْ فيهم الشهوة.
وقيل: « إلا ما
رحم ربي » إشارة إلى حالة العصمة عند رؤية البرهان.
( إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ
رَحِيمٌ ) فلما تبين للملك عذر يوسف عليه السلام وعرف أمانته وعلمه:
( وَقَالَ
الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي ) أي:
أجعله خالصا لنفسي، ( فَلَمَّا كَلَّمَهُ ) فيه
اختصار تقديره: فجاء الرسول يوسف فقال له: أجب الملك الآن.
رُوي أنه قام ودعا لأهل السجن
فقال: اللهم عطِّف عليهم قلوب الأخيار، ولا تُعَمِّ عليهم الأخبار، فهم أعلم الناس
بالأخبار في كل بلد، فلما خرج من السجن كتب على باب السجن: هذا قبر الأحياء، وبيت
الأحزان، وتجربة الأصدقاء، وشماتة الأعداء. ثم اغتسل وتنظف من درن السجن ولبس
ثيابا حسانا وقصد الملك .
قال وهب: فلما وقف بباب الملك
قال: حسبي ربي من دنياي، وحسبي ربي من خلقه، عزّ جارُه، وجلّ ثناؤُه، ولا إله
غيره. ثم دخل الدار فلما دخل على الملك قال: اللهم إني أسألك بخيرك من خيره، وأعوذ
بك من شره وشر غيره. فلما نظر إليه الملك سلَّم عليه يوسف بالعربية فقال: الملك ما
هذا اللسان؟ قال: لسان عمي إسماعيل، ثم دعا له بالعبرانية فقال الملك: ما هذا
اللسان؟ قال هذا لسان آبائي، ولم يعرف الملك هذين اللسانين.
قال وهب: وكان الملك يتكلم
بسبعين لسانا فكلما تكلم بلسان أجابه يوسف بذلك اللسان وزاد عليه بلسان العربية
والعبرانية، فأعجب الملك [ ما رأى منه ] مع
حداثة سنه، وكان يوسف يومئذ ابن ثلاثين سنة، فأجلسه و، ( قَالَ
إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ ) [
المكانة في الجاه ] ، (
أَمِينٌ ) أي: صادق.
وروي أن الملك قال له: إني أحب
أن أسمع رؤياي منك شفاها.
فقال يوسف: نعم أيها الملك،
رأيتَ سبع بقرات سمان شهب غرٍّ حِسَان، كشفَ لك عنهنَّ النيل، فطلعنَ عليك من
شاطئه تشخب أخلافهن لبنا، فبينما أنت تنظر إليهن ويعجبك حُسنهنّ إذ نضب النيلُ
فغار ماؤه وبدا يبسه، فخرج من حمأته سبع بقرات عجاف شُعثٍ غُبرٍ مُتقلّصات [
البطون، ليس لهن ضروع ولا أخلاف ] ، ولهن أنياب وأضراس وأكف
كأكف الكلاب، وخراطيم كخراطيم السباع، فافترسن السمان افتراس السبع، فأكلن لحومهن،
ومَزّقنَ جلودهنّ، وحطمنَ عظامهنّ، وتمششن مخهن، فبينما أنت تنظر وتتعجب إذ سبع
سنابل خضر وسبع أخر سود في منبت واحد [
عروقهن في الثرى والماء، فبينما أنت تقول في نفسك أنى هذا؟ خضر مثمرات وهؤلاء سود
يابسات، والمنبت واحد وأصولهنّ في الماء ] إذ هبت
ريح فذرت الأوراق من اليابسات السود على الخضر المثمرات فاشتعلت فيهن النار،
فاحترقن فصرن سودا فهذا ما رأيت، ثم انتبهتَ من نومك مذعورا.
فقال الملك: والله ما شأن هذه
الرؤيا - وإن كانت عجيبة- بأعجب مما سمعتُ منك، فما ترى في رؤياي أيها الصديق؟
فقال يوسف عليه السلام:أرى أن
تجمع الطعام وتزرع زرعا كثيرا في هذه السنين المخصبة،وتجعل الطعام في الخزائن
بقصبه وسنبله ليكون القصب والسنبل عَلَفا للدواب،وتأمر الناس فيرفعون من طعامهم
الخُمسَ، فيكفيك من الطعام الذي جمعته لأهل مصر ومن حولها، ويأتيك الخلق من
النواحي للميرة فيجتمع عندك من الكنوز ما لم يجتمع لأحد قبلك.
فقال الملك: ومن لي بهذا ومن
يجمعه ويبيعه ويكفيني الشغل فيه؟.
قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى
خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ( 55 ) .
فـ ( قَالَ
) يوسف، ( اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ
الأرْضِ ) الخزائن: جمع خزانة، وأراد خزائن الطعام والأموال، والأرض:
أرض مصر، أي: خزائن أرضك.
وقال الربيع بن أنس: على خراج
مصر ودخله.
(
إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ) أي: [
حفيظ للخزائن عليم بوجوه مصالحها. وقيل: حفيظ عليم ] كاتب
حاسب.
وقيل: حفيظ لما استودعتني، عليم
بما ولّيتني.
وقيل: حفيظ للحساب عليم بالألسن
أعلم لغة كل من يأتيني.
وقال الكلبي: حفيظ بتقديره في
السنين الخصبة [ في الأرض الجدبة ] عليم
بوقت الجوع حين يقع، فقال له الملك. ومن أحق به منك؟! فولاه ذلك وقال له: إنك اليوم
لدينا مكين، ذو مكانة ومنـزلة، أمين على الخزائن.
أخبرنا أبو سعيد الشريحي،
أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي، أخبرني أبو عبد الله الحسين بن محمد الفنجوي، حدثنا
مخلد بن جعفر البقرجي، حدثنا الحسن بن علوية، حدثنا إسماعيل بن عيسى، حدثنا إسحاق
بن بشر، عن جويبر، عن الضحاك، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: « رحم الله أخي يوسف لو لم يقل
اجعلني على خزائن الأرض لاستعمله من ساعته، ولكنه أخره لذلك سنة فأقام في بيته سنة
مع الملك » .
وبإسناده عن ابن عباس رضي الله
عنهما قال: لما انصرمت السنة من اليوم الذي سأل الإمارة دعاه الملك فتوجه [
وقلده بسيفه ] ووضع له سريرا من ذهب مكلّل بالدر والياقوت، وضرب عليه حلة
من إستبرق، وطول السرير ثلاثون ذراعا، وعرضه عشرة أذرع، عليه ثلاثون فراشا وستون
مقرمة، ثم أمره أن يخرج، فخرج متوَّجا، ولونه كالثلج، ووجهه كالقمر، يرى الناظر
وجهه في صفاء لون وجهه، فانطلق حتى جلس على السرير، ودانت له الملوك، ودخل الملك
بيته وفوّض إليه أمر مصر، وعزل قطفير عمّا كان عليه وجعل يوسف مكانه قاله ابن
إسحاق .
وقال ابن زيد: وكان لملك مصر
خزائن كثيرة فسلم سلطانه كله إليه وجعل أمره وقضاءه نافذا، قالوا: ثم إن قطفير هلك
في تلك الليالي فزوج الملكُ يوسفَ راعيلَ امرأة قطفير، فلما دخل عليها قال: أليس
هذا خيرا مما كنت تريدين؟ فقالت: أيها الصديق لا تلمني، فإني كنت امرأة حسناء
ناعمة كما ترى في ملك ودنيا، وكان صاحبي لا يأتي النساء، وكنت كما جعلك الله في
حسنك وهيئتك فغلبتني نفسي فوجدها يوسف عذراء فأصابها فولدت له ولدين: أفراثيم بن
يوسف، وميشا بن يوسف .
واستوثق ليوسف ملك مصر، أي:
اجتمع، فأقام فيهم العدل، وأحبه الرجال والنساء، فذلك قوله تعالى:
وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا
لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا
مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ( 56 )
وَلأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ( 57 ) .
(
وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرْضِ ) يعني:
أرض مصر ملكناه ، ( يَتَبَوَّأُ مِنْهَا ) أي:
ينـزل ( حَيْثُ يَشَاءُ ) ويصنع
فيها ما يشاء.
قرأ ابن كثير: « نشاء » بالنون
ردا على قوله: ( مَكَّنَّا ) وقرأ
الآخرون بالياء ردا على قوله ( يَتَبَوَّأُ ) .
(
نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ ) أي:
بنعمتنا، ( وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ) قال
ابن عباس ووهب: يعني الصابرين.
قال مجاهد وغيره: فلم يزل يوسف
عليه السلام يدعو الملك إلى الإسلام ويتلطف له حتى أسلم الملك وكثير من الناس.
فهذا في الدنيا.
(
وَلأجْرُ الآخِرَةِ ) ثواب الآخرة، (
خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ) .
فلما اطمأن يوسف في ملكه دبَّر
في جمع الطعام بأحسن التدبير، وبنى الحصون والبيوت الكثيرة، وجمع فيها الطعام
للسنين المجدبة، وأنفق بالمعروف حتى خلت السنون المخصبة ودخلت السنون المجدبة بهول
لم يعهد الناس بمثله.
ورُوي أنه كان قد دبر في طعام
الملك وحاشيته كل يوم مرة واحدة نصف النهار ، فلما دخلت سنة القحط كان أول من أخذه
الجوع هو الملك في نصف الليل فنادى يا يوسف الجوعَ الجوعَ!.
فقال يوسف: هذا أوان القحط.
ففي السنة الأولى من سني الجدب
هلك كل شيء أعدُّوه في السنين المخصبة، فجعل أهل مصر يبتاعون من يوسف الطعام،
فباعهم أول سنة بالنقود حتى لم يبق بمصر دينار ولا درهم إلا قبضه، وباعهم السنة
الثانية بالحلي والجواهر حتى لم يبق في أيدي الناس منها شيء، وباعهم السنة الثالثة
بالمواشي والدواب حتى احتوى عليها أجمع، وباعهم في السنة الرابعة بالعبيد والإماء
حتى لم يبق في يد أحد عبد ولا أمة، وباعهم السنة الخامسة بالضياع والعقار والدور
حتى احتوى عليها، وباعهم السنة السادسة بأولادهم حتى استرقهم، وباعهم السنة
السابعة برقابهم [ حتى استرقهم ] ، ولم
يبق بمصر حر ولا حرة إلا صار عبدا له.
فقال الناس: ما رأينا يوما
كاليوم ملكا أجل ولا أعظم من هذا.
ثم قال يوسف للملك: كيف رأيت
صنع ربي فيما خوَّلني فما ترى في ذلك؟
فقال له الملك: الرأي رأيك ونحن
لك تبع.
قال: فإني أشهد الله وأشهدك أني
أعتقت أهل مصر عن آخرهم، ورددْتُ عليهم أملاكهم .
وروي أن يوسف كان لا يشبع من
طعام في تلك الأيام، فقيل له: أتجوع وبيدك خزائن الأرض؟.
فقال: أخاف إن شبعت أن أنسى
الجائع، وأمر يوسف عليه السلام طباخي الملك أن يجعلوا غداءه نصف النهار، وأراد
بذلك أن يذوق الملك طعم الجوع فلا ينسى الجائعين، فمن ثم جعل الملوك غذاءهم نصف
النهار.
قال: وقصد الناسُ مصرَ من كل
أوبٍ يمتارون الطعام فجعل يوسف لا يمكن أحدا منهم - وإن كان عظيما- من أكثر من حمل
بعير تقسيطا بين الناس، وتزاحم الناس عليه وأصاب أرض كنعان وبلاد الشام ما أصاب
الناس في سائر البلاد من القحط والشدة، ونـزل بيعقوب ما نـزل بالناس، فأرسل بنيه
إلى مصر للميرة، وأمسك بنيامين أخا يوسف لأمه، فذلك قوله تعالى:
وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ
فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ( 58 ) .
(
وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ ) وكانوا عشرة، وكان منـزلهم
بالعرنات من أرض فلسطين، بغور الشام، وكانوا أهل بادية وإبل وشاة، فدعاهم يعقوب
عليه السلام وقال: يا بني بلغني أن بمصر ملكا صالحا يبيع الطعام، فتجهزوا لتشتروا
منه الطعام، فأرسلهم فقدموا مصر، (
فَدَخَلُوا عَلَيْهِ ) على يوسف، (
فَعَرَفَهُمْ ) يوسف عليه السلام.
قال ابن عباس ومجاهد: عرفهم
بأول ما نظر إليهم.
وقال الحسن: لم يعرفهم حتى تعرفوا
إليه.
(
وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ) أي: لم يعرفوه. قال ابن عباس:
وكان بين أن قذفوه في البئر وبين أن دخلوا عليه أربعون سنة، فلذلك أنكروه.
وقال عطاء: إنما لم يعرفوه لأنه
كان على سرير الملك وعلى رأسه تاج الملك.
وقيل: لأنه كان بِزِيِّ ملوك مصر،
عليه ثياب من حرير وفي عنقه طوق من ذهب، فلما نظر إليهم يوسف وكلموه بالعبرانية،
قال لهم: أخبروني مَنْ أنتم وما أمركم فإني أنكرت شأنكم؟ قالوا نحن قوم من أرض
الشام رعاة، أصابنا الجهد فجئنا نمتار.
فقال: لعلكم جئتم تنظرون عورة
بلادي.
قالوا: لا والله ما نحن
بجواسيس، إنما نحن إخوة بنو أب واحد، وهو شيخ صديق يقال له يعقوب نبي من أنبياء
الله.
قال: وكم أنتم؟ قالوا: كنا اثني
عشر، فذهب أخ لنا معنا إلى البرية، فهلك فيها، وكان أحبنا إلى أبينا.
قال: فكم أنتم ها هنا؟.
قالوا: عشرة.
قال: وأين الآخر؟
قالوا: عند أبينا، لأنه أخو
الذي هلك لأمه ، فأبونا يتسلَّى به.
قال: فمن يعلم أن الذي تقولون
حق؟
قالوا: أيها الملك إنا ببلاد لا
يعرفنا أحد [ من أهلها ] .
فقال يوسف: فأتوني بأخيكم الذي
من أبيكم إن كنتم صادقين، وأنا أرضى بذلك.
قالوا: فإن أبانا يحزن على
فراقه وسنراود عنه أباه.
قال: فَدَعُوا بعضكم عندي رهينة
حتى تأتوني بأخيكم، فاقترعوا بينهم، فأصابت القرعة شمعون، وكان أحسنهم رأيا في
يوسف، فخلّفوه عنده. فذلك قوله عز وجل:
وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ
بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي
أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْـزِلِينَ ( 59 )
فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ ( 60 )
قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ ( 61 )
وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ
يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ( 62 ) .
(
وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ ) أي:
حمَّل لكل واحد بعيرا بعدتهم، ( قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ
لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ ) يعني ينيامين، ( أَلا تَرَوْنَ
أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ ) أي: أُتمّه ولا أبخس الناس
شيئا، فأزيدكم حمل بعير لأجل أخيكم، وأكرم منـزلتكم وأحسن إليكم، (
وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْـزِلِينَ ) قال مجاهد: أي خير المضيفين.
وكان قد أحسن ضيافتهم.
(
فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي ) أي:
ليس لكم عندي طعام أكيله لكم ( وَلا تَقْرَبُونِ ) أي: لا
تقربوا داري [ وبلادي ] بعد
ذلك وهو جزم على النهي.
(
قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ ) أي:
نطلبه ونسأله أن يرسله معنا، ( وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ ) ما
أمرتنا به.
(
وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ ) قرأ حمزة والكسائي وحفص: (
لِفِتْيَانِهِ ) بالألف والنون، وقرأ الباقون:
« لفتيته » بالتاء من غير ألف يريد
لغلمانه، وهما لغتان مثل الصِّبْيان والصِّبْيَة، (
اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ ) ثمن طعامهم وكانت دراهم.
وقال الضحاك عن ابن عباس: كانت
النعال والأدم.
وقيل: كانت ثمانية جرب من سويق
المقل. والأول أصح.
( فِي
رِحَالِهِمْ ) أوعيتهم، وهي جمع رحل، (
لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا )
انصرفوا، ( إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) .
واختلفوا في السبب الذي فعله
يوسف من أجله، قيل: أراد أن يريهم كرمه في ردِّ البضاعة وتقديم الضمان في البر
والإحسان، ليكون أدعى لهم إلى العود، لعلّهم يعرفونها، أي: كرامتهم علينا.
وقيل: رأى لؤما أخذ ثمن الطعام
من أبيه وإخوته مع حاجتهم إليه، فردَّه عليهم من حيث لا يعلمون تكرُّمًا.
وقال الكلبي: تخوّف أن لا يكون
عند أبيه من الورق ما يرجعون به مرة أخرى.
وقيل:فعل ذلك لأنه علم أن
ديانتهم تحملهم على ردّ البضاعة نفيا للغلط ولا يستحلون إمساكها.
فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى
أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا
أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ( 63 ) .
( فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى
أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا ) إنا قدمنا على خير رجل،
أنـزلنا وأكرمنا كرامة لو كان رجلا من أولاد يعقوب ما أكرمنا كرامته، فقال لهم
يعقوب: إذا أتيتم ملك مصر فأقرئوه مني السلام، وقولوا له: إنّ أبانا يصلي عليك
ويدعو لك بما أوليتنا، ثم قال: أين شمعون؟ قالوا: ارتهنه ملك مصر، وأخبروه بالقصة،
فقال لهم: ولِمَ أخبرتموه؟ قالوا: إنه أخذنا وقال أنتم جواسيس - حيث كلمناه بلسان
العبرانية- وقصُّوا عليه القصة، وقالوا يا أبانا:
( مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ ) [ قال
الحسن: معناه يمنع منا الكيل ] إن لم تحمل أخانا معنا.
وقيل: معناه أعطى باسم كل واحد حملا ومنع منا الكيل لبنيامين،
والمراد بالكيل: الطعام، لأنه يكال.
( فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا
) بنيامين، (
نَكْتَل ) قرأ حمزة والكسائي: ( يكتل )
بالياء، يعني: يكْتَلْ لنفسه كما نحن نكتال، [
وقرأ الآخرون: ( نكتل )
بالنون، يعني: نكتل نحن ] وهو الطعام. وقيل: نكتل له، (
وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) .
قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ
عَلَيْهِ إِلا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ
حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ( 64 ) .
( قَالَ
هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ ) يوسف ( مِنْ
قَبْلُ ) أي: كيف آمنكم عليه وقد فعلتم بيوسف ما فعلتم؟ (
فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا ) قرأ حمزة والكسائي وحفص: (
حَافِظًا ) بالألف على التفسير، كما يقال: هو خيرٌ رجلا وقرأ الآخرون:
( حفظا ) بغير ألف على المصدر، يعني:
خيركم حفظا، يقول: حفظه خير من حفظكم. (
وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ )
وَلَمَّا فَتَحُوا
مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا
نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ
أَخَانَا وَنَـزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ ( 65 )
قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ
لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ
قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ( 66 ) .
( وَلَمَّا فَتَحُوا
مَتَاعَهُمْ ) الذي حملوه من مصر، (
وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ ) ثمن الطعام، (
رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي ) أي:
ماذا نبغي وأي شيء نطلب؟ وذلك أنهم ذكروا ليعقوب عليه السلام إحسان الملك إليهم،
وحثّوه على إرسال بنيامين معهم، فلما فتحوا المتاع ووجدوا البضاعة، (
هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا ) أيُّ
شيء نطلب بالكلام، فهذا هو العيان من الإحسان والإكرام، أَوْفَى لنا الكيل ورَدَّ علينا
الثمن. أرادوا تطييب نفس أبيهم، (
وَنَمِيرُ أَهْلَنَا ) أي: نشتري لهم الطعام فنحمله
إليهم. يقال: مارَ أهله يَمِيْر مَيْرا: إذا حمل إليهم الطعام من بلد [ إلى
بلد آخر ] . ومثله: امتار يمتار امتيارا. (
وَنَحْفَظُ أَخَانَا ) بنيامين، أي: مما تخاف عليه.
( وَنَـزْدَادُ ) على
أحمالنا، ( كَيْلَ بَعِيرٍ ) أي:
حمل بعير يكال لنا من أجله، لأنه كان يعطي باسم كل رجل حمل بعير، (
ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ ) [ أي:
ما حملناه قليل لا يكفينا وأهلنا. وقيل: معناه نـزداد كيل بعير ذلك كيل يسير ] لا
مؤنة فيه ولا مشقة.
وقال مجاهد: البعير ها هنا هو
الحمار. كيل بعير، أي: حمل حمار، وهي لغة، يقال للحمار: بعير. وهم كانوا أصحاب
حُمُرٍ، والأول أصح أنه البعير المعروف.
( قال ) لهم
يعقوب، ( لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ ) تعطوني
( مَوْثِقًا ) ميثاقا
وعهدا، ( مِنَ اللَّهِ ) والعهد
الموثَّق: المؤكّد بالقسم. وقيل: هو المؤكد [
بإشهاد الله ] على نفسه (
لَتَأْتُنَّنِي بِهِ ) وأدخل اللام فيه لأن معنى
الكلام اليمين، ( إِلا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ ) قال
مجاهد إلا أن تهلكوا جميعا.
وقال قتادة: إلا أن تغلبوا حتى
لا تطيقوا ذلك.
وفي القصة: أن الإخوة ضاق الأمر
عليهم وجهدوا أشد الجهد، فلم يجد يعقوب بدا من إرسال بنيامين معهم.
(
فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ ) أعطوه عهودهم ، ( قَال ) يعني:
يعقوب ( اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ) شاهد.
وقيل: حافظ. قال كعب: لما قال يعقوب فالله خير حافظا، قال الله عز وجل: وعزتي
لأرُدَّنَّ عليك كليهما بعدما توكَّلْت عليَّ.
وَقَالَ يَا بَنِيَّ لا
تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا
أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ عَلَيْهِ
تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ( 67 )
وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ
مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ
لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ( 68 ) .
(
وَقَال ) لهم يعقوب لما أرادوا الخروج من عنده، ( يَا
بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ
مُتَفَرِّقَةٍ ) وذلك أنه خاف عليهم العين؛
لأنهم كانوا أعطوا جمالا وقوة وامتداد قامةٍ، وكانوا ولد رجل واحد، فأمرهم أن
يتفرقوا في دخولهم لئلا يصابوا بالعين، فإن العين حق ، وجاء في الأثر: « إنّ
العَين تُدخلُ الرجلَ القبرَ، والجملَ القدرَ » .
وعن إبراهيم النخعي: أنه قال
ذلك لأنه كان يرجو أن يروا يوسف في التفرق. والأول أصح.
ثم قال: ( وَمَا
أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ) معناه:
إن كان الله قضى فيكم قضاء فيصيبكم مجتمعين كنتم أو متفرقين، فإن المقدور كائن
والحذر لا ينفع من القدر، ( إِنِ الْحُكْمُ ) ما
الحكم، ( إِلا لِلَّهِ ) هذا
تفويض يعقوب أموره إلى الله، ( عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ) اعتمدت،
( وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ) .
(
وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ) أي: من
الأبواب المتفرقة. وقيل: كانت المدينة مدينة الفرماء ولها أربعة أبواب، فدخلوها من
أبوابها، ( مَا كَانَ يُغْنِي ) يدفع (
عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ) صَدَق
اللهُ تعالى يعقوبَ فيما قال، ( إِلا حَاجَةً )
مراداً، ( فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا ) أشفق
عليهم إشفاق الآباء على أبنائهم وجرى الأمر عليه، (
وَإِنَّهُ ) يعني: يعقوب عليه السلام، ( لَذُو
عِلْمٍ ) يعني: كان يعمل ما يعمل عن علم لا عن جهل، ( لِمَا
عَلَّمْنَاهُ ) أي: لتعليمنا إياه. وقيل: إنه لعامل بما علم.
قال سفيان: من لا يعمل بما يعلم
لا يكون عالما. وقيل: وإنه لذو حفظ لما علَّمناه.
(
وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) ما
يعلم يعقوب لأنهم لم يسلكوا طريق إصابة العلم. وقال ابن عباس: لا يعلم المشركون ما
ألهم الله أولياءه.
وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى
يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا
كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 69 ) .
قوله عز وجل: (
وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ ) قالوا:
هذا أخونا الذي أمرتنا أن نأتيك به قد جئناك به، فقال: أحسنتم وأصبتم، وستجدون
جزاء ذلك عندي، ثم أنـزلهم وأكرمهم ، ثم أضافهم وأجلس كل اثنين منهم على مائدة،
فبقي بنيامين وحيدا، فبكى وقال: لو كان أخي يوسف حيا لأجلسني معه، فقال يوسف: لقد
بقي أخوكم هذا وحيدا، فأجلسه معه على مائدته، فجعل يُواكله فلما كان الليل أمر لهم
[ بمثل ذلك ] وقال:
لينم كل أخوين منكم على مثال، فبقى بنيامين وحده، فقال يوسف: هذا ينام معي على
فراشي، فنام معه، فجعل يوسف يضمه إليه ويشم ريحه حتى أصبح، وجعل روبين يقول: ما
رأينا مثل هذا، فلما أصبح، قال لهم: إني أرى هذا الرجل ليس معه ثان فسأضمه إليَّ
فيكون منـزله معي، ثم أنـزلهم منـزلا وأجرى عليهم الطعام، وأنـزل أخاه لأمه معه،
فذلك قوله تعالى:
( آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ ) أي:
ضمَّ إليه أخاه فلما خلا به قال: ما اسمك؟ قال: بنيامين، قال: وما بنيامين؟ قال:
ابن المثكل، وذلك أنه لما ولد هلكت أمه. قال: وما اسم أمك؟ قال: راحيل بنت لاوى،
فقال: فهل لك من ولد؟ قال: نعم عشرة بنين، [
قال: فهل لك من أخ لأمك، قال: كان لي أخ فهلك، قال يوسف ] أتحب
أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك، فقال بنيامين: ومَنْ يجد أخاً مثلك أيها الملك ولكن
لم يلدك يعقوب ولا راحيل، فبكى يوسف عند ذلك وقام إليه وعانقه ، وقال له: ( قَالَ
إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ ) أي: لا
تحزن، ( بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) بشيء
فعلوه بنا فيما مضى، فإن الله تعالى قد أحسن إلينا، ولا تعَلّمْهم شيئا مما
أعلمتك، ثم أوفى يوسف لإخوته الكيل، وحمل لهم بعيرا بعيرا، ولبنيامين بعيرا باسمه،
ثم أمر بسقاية الملك فجعلت في رحل بنيامين.
قال السدي: جعلت السقاية في رحل أخيه، والأخ لا يشعر.
وقال كعب: لما قال له يوسف إني أنا أخوك، قال بنيامين: أنا لا
أفارقك، فقال له يوسف: قد علمت اغتمام والدي بي وإذا حبستك ازداد غمه ولا يمكنني
هذا إلا بعد أن أشهرك بأمر فظيع وأنسبك إلى ما لا يحمد ، قال: لا أبالي، فافعل، ما
بدا لك، فإني لا أفارقكَ، قال: فإني أدسُّ صاعي في رحلك ثم أنادي عليكم بالسرقة،
ليهيأ لي ردّك بعد تسريحك. قال: فافعل فذلك قوله تعالى:
فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ
بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ
أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ ( 70 )
قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ ( 71 )
قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا
بِهِ زَعِيمٌ ( 72 ) .
(
فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ) وهي
المشربة التي كان الملك يشرب منها.
قال ابن عباس: كانت من زبرجد.
وقال ابن إسحاق: كانت من فضة.
وقيل: من ذهب، وقال عكرمة: كانت مشربة من فضة مرصعة بالجواهر، جعلها يوسف مكيالا
لئلا يكال بغيرها، وكان يشرب منها.
والسقاية والصواع واحد، وجعلت
في وعاء طعام بنيامين، ثم ارتحلوا وأمهلهم يوسف حتى انطلقوا وذهبوا منـزلا.
وقيل: حتى خرجوا من العمارة، ثم
بعث خلفهم مَنْ استوقفهم وحبسهم.
( ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ ) نادى
منادٍ، ( أَيَّتُهَا الْعِيرُ ) وهي
القافلة التي فيها الأحمال. قال مجاهد: كانت العير حميرا. وقال الفراء: كانوا
أصحاب إبل. ( إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ ) قفوا.
قيل: قالوه من غير أمر يوسف. وقيل: قالوه بأمره، وكان هفوة منه. وقيل: قالوه على
تأويل أنهم سرقوا يوسف من أبيه، فلما انتهى إليهم الرسول، قال لهم: ألم نكرم
ضيافتكم ونحسن منـزلتكم، ونوفِّكم كيلكم، ونفعل بكم ما لم نفعل بغيركم؟ قالوا:
بلى، وما ذاك؟ قالوا: سقاية الملك فقدناها، ولا نَتَّهِمُ عليها غيركم. فذلك قوله
عز وجل:
(
قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ) عطفوا
على المؤذن وأصحابه، ( مَاذَا تَفْقِدُونَ ) ما
الذي ضلّ عنكم. والفقدان: ضدّ الوجد.
(
قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِير ) من
الطعام، ( وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ ) كفيل،
يقوله المؤذن.
قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ
عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ ( 73 )
قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ ( 74 )
قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي
الظَّالِمِينَ ( 75 )
فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ
وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي
دِينِ الْمَلِكِ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ
وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ( 76 ) .
(
قَالُوا ) يعني: إخوة يوسف، (
تَاللَّه ) أي: والله، وخصت هذه الكلمة بأن أبدلت الواو فيها بالتاء في
اليمين دون سائر أسماء الله تعالى. (
لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأرْضِ ) لنسرق
في أرض مصر.
فإن قيل: كيف قالوا لقد علمتم؟
ومن أين علموا ذلك؟.
قيل: قالوا لقد علمتم ما جئنا
لنفسد في الأرض، فإنا منذ قطعنا هذا الطريق لم نَرْزَأ أحدا شيئا فاسألوا عنا مَنْ
مررنا به: هل ضررنا أحدا؟
وقيل: لأنهم ردوا البضاعة التي
جعلت في رحالهم ،قالوا: فلو كنا سارقين ما رددناها.
وقيل: قالوا ذلك لأنهم كانوا
معروفين بأنهم لا يتناولون ما ليس لهم، وكانوا إذا دخلوا مصر كمموا أفواه دوابهم
كيلا تتناول شيئا من حروث الناس.
( وَمَا
كُنَّا سَارِقِينَ ) .
(
قَالُوا ) يعني المنادي وأصحابه ( فَمَا
جَزَاؤُهُ ) أي: جزاء السارق، ( إِنْ
كُنْتُمْ كَاذِبِينَ ) في قولكم « وما
كنا سارقين » .
(
قَالُوا ) [ يعني: إخوة يوسف ] ، (
جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ ) أي:
فالسارق جزاؤه أن يسلَّم السارق بسرقته إلى المسروق منه فيسترقه سنة، وكان ذلك
سُنَّة آل يعقوب في حكم السارق، وكان حكم ملك مصر أن يضرب السارق ويغرم ضعفي قيمة
المسروق، فأراد يوسف أن يحبس أخاه عنده، فرد الحكم إليهم ليتمكن من حبسه عنده على
حكمهم.
(
كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ) الفاعلين ما ليس لهم فعله من
سرقة مال الغير.
فقال الرسول عند ذلك: لا بدّ من
تفتيش أمتعتكم.
فأخذ في تفتيشها. ورُوي أنه ردّهم
إلى يوسف فأمر بتفتيش أوعيتهم بين يديه.
(
فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ ) لإزالة التهمة، (
قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ) فكان يفتش أوعيتهم واحدا
واحدا. قال قتادة: ذكر لنا أنه كان لا يفتح متاعا ولا ينظر في وعاء إلا استغفر
الله تأثما مما قذفهم به حتى إذا لم يبق إلا رحل بنيامين، قال: ما أظن هذا أخذه،
فقال إخوته: والله لا نترك حتى تنظر في رحله فإنه أطيب لنفسك ولأنفسنا، فلما فتحوا
متاعه استخرجوه منه. فذلك قوله تعالى:
( ثُمَّ
اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ ) وإنما
أَنَّث الكناية في قوله « ثم استخرجها »
والصُّوَاع مذكر، بدليل قوله: « وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ
بَعِيرٍ » ؛ لأنه ردّ الكناية ها هنا إلى السقاية.
وقيل: الصواع يذكر ويؤنث. فلما
أخرج الصواع من رحل بنيامين نكس إخوته رؤوسهم من الحياء، وأقبلوا على بنيامين
وقالوا: ما الذي صنعت فضحتنا وسودت وجوهنا يا بني راحيل؟ ما يزال لنا منكم البلاء،
متى أخذت هذا الصواع؟ فقال بنيامين: بل بنو راحيل لا يزال لهم منكم بلاء ذهبتم
بأخي فأهلكتموه في البرية، ووضع هذا الصواع في رحلي الذي وضع البضاعة في رحالكم،
فأخذوا بنيامين رقيقا .
وقيل: إن ذلك الرجل أخذ برقبته
ورده إلى يوسف كما يرد السراق. ( كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ ) والكيد
ها هنا جزاء الكيد، يعني: كما فعلوا في الابتداء بيوسف من الكيد فعلنا بهم. وقد
قال يعقوب عليه السلام ليوسف: « فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا » ، فكدنا
ليوسف في أمرهم.
والكيد من الخلق: الحيلة، ومن
الله تعالى التدبير بالحق. وقيل: كدنا: ألهمنا. وقيل: دبَّرنا. وقيل: أردنا.
ومعناه: صنعنا ليوسف حتى ضم أخاه إلى نفسه، وحال بينه وبين إخوته.
( مَا
كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ ) فيضمه إلى نفسه، ( فِي
دِينِ الْمَلِكِ ) أي: في حكمه. قاله قتادة.
وقال ابن عباس: في سلطانه. ( إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ) يعني:
إن يوسف لم يكن يتمكن من حبس أخيه في حكم الملك لولا ما كِدْنَا له بلطفنا حتى وجد
السبيل إلى ذلك، وهو ما أجرى على ألسنة الإخوة أن جزاء السارق الاسترقاق، فحصل
مراد يوسف بمشيئة الله تعالى.
(
نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ ) بالعلم
كما رفعنا درجة يوسف على إخوته. وقرأ يعقوب: « يرفع » و « يشاء » بالياء
فيهما [ وإضافة درجات إلى ( مَنْ ) في
هذه السورة. والوجه أن الفعل فيهما مسند إلى الله تعالى وقد تقدم ذكره في قوله: ( إِلا
أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ) أي: يرفع الله درجات من
يشاء. وقرأ الباقون بالنون فيهما إلا أن الكوفيين قرؤوا: « درجات
» بالتنوين، ومَنْ سواهم بالإضافة، أي: نرفع به نحن،
والرافع أيضا هو الله تعالى ] .
(
وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ) قال
ابن عباس: فوق كل عالمٍ عالمٌ إلى أن ينتهي العلم إلى الله تعالى. فالله تعالى فوق
كل عالم.
قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ
سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا
لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ ( 77 ) .
(
قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ ) يريدون
أخاً له من أمه، يعني: يوسف. واختلفوا في السرقة التي وصفوا بها يوسف عليه السلام،
فقال سعيد بن جبير وقتادة: كان لجده، أبي أمه، صنم يعبده، فأخذه سرّاً، أو كسره
وألقاه في الطريق لئلا يعبد .
وقال مجاهد: إن يوسف جاءه سائل
يوما، فأخذ بيضة من البيت فناولها للسائل. وقال سفيان بن عيينة: أخذ دجاجة من
الطير التي كانت في بيت يعقوب فأعطاها سائلا. وقال وهب: كان يخبئ الطعام من
المائدة للفقراء .
وذكر محمد بن إسحاق: أن يوسف
كان عند عمته ابنة إسحاق، بعد موت أمه راحيل، فحضنته عمته وأحبته حبا شديدا، فلما
ترعرع وقعت محبة يعقوب عليه، فأتاها وقال: يا أختاه سلِّمي إليَّ يوسف، فوالله ما
أقدر على أن يغيب عني ساعة. قالت: لا والله، فقال: والله ما أنا بتاركه، فقالت:
دعه عندي أياما أنظر إليه لعلّ ذلك يسليني عنه، ففعل ذلك، فعمدت إلى منطقة لإسحاق
كانوا يتوارثونها بالكبر، فكانت عندها لأنها كانت أكبر ولد إسحاق، فحزمت المنطقة
على يوسف تحت ثيابه وهو صغير، ثم قالت: لقد فقدت منطقة إسحاق اكشفوا أهل البيت
فكشفوا فوجدوها مع يوسف، فقالت: والله إنه لَسَلَمٌ لي، فقال يعقوب: إن كان فعل
ذلك فهو سَلَمٌ لك ، فأمسكته حتى ماتت، فذلك الذي قال إخوة يوسف: ( إِنْ
يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ ) .
(
فَأَسَرَّهَا ) أضمرها ( يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ
يُبْدِهَا لَهُمْ ) وإنما أتت الكناية لأنه عني
بها الكلمة، وهي قوله: ( قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ
مَكَانًا ) [ ذكرها سرا في نفسه ولم
يصرح بها، يريد أنتم شر مكانا ] أي: منـزلة عند الله ممن
رميتموه بالسرقة في صنيعكم بيوسف، لأنه لم يكن من يوسف سرقة حقيقية، وخيانتكم
حقيقة، ( وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ )
تقولون.
قَالُوا يَا أَيُّهَا
الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا
نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ( 78 ) .
( قَالُوا يَا أَيُّهَا
الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا ) وفي
القصة أنهم غضبوا غضبا شديدا لهذه الحالة، وكان بنو يعقوب إذا غضبوا لم يطاقوا، وكان
روبيل إذا غضب لم يقم لغضبه شيء، وإذا صاح ألقت كل امرأة حامل سمعت صوته ولدها،
وكان مع هذا إذا مسَّه أحد من ولد يعقوب سكن غضبه.
وقيل: كان هذا صفة شمعون من ولد يعقوب.
وروي أنه قال لإخوته: كم عدد الأسواق بمصر؟ فقالوا عشرة،
فقال: اكفوني أنتم الأسواق وأنا أكفيكم الملك، أو اكفوني أنتم الملك وأنا أكفيكم
الأسواق، فدخلوا على يوسف فقال روبيل: لتردن علينا أخانا أو لأصيحن صيحة لا تبقي
بمصر امرأة حامل إلا ألقت ولدها وقامت كل شعرة في جسد روبيل فخرجت من ثيابه، فقال
يوسف لابن له صغير: قم إلى جنب روبيل فمسه. وروي: خذ بيده فأتني به، فذهب الغلام
فمسّه فسكن غضبه. فقال روبيل: إن ها هنا لَبَزْرًا من بَزْر يعقوب، فقال يوسف:
مَنْ يعقوب؟.
ورُوي أنه غضب ثانيا فقام إليه يوسف فركضه برجله وأخذ
بتلابيبه، فوقع على الأرض وقال: أنتم معشر العبرانيين تظنون أنْ لا أحدَ أشدّ
منكم؟
فلما صار أمرهم إلى هذا ورأوا أن لا سبيل لهم إلى تخليصه
خضعوا وذلوا، وقالوا: يا أيها العزيز إنّ له أباً شيخاً كبيراً يحبه، (
فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ ) بدلا منه، (
إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ) في
أفعالك . وقيل: من المحسنين إلينا في توفية الكيل وحسن الضيافة ورد البضاعة. وقيل:
يعنون إن فعلت ذلك كنت من المحسنين.
قَالَ
مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا
إِذًا لَظَالِمُونَ ( 79 ) .
( قال ) يوسف، ( مَعَاذَ اللَّهِ ) أعوذ بالله، ( أَنْ نَأْخُذَ إِلا مَنْ
وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ ) ولم
يقل إلا من سرق تحرزا من الكذب، (
إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ ) إن
أخذنا بريئا بمجرم.
فَلَمَّا
اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا
أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا
فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ
يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ( 80 ) .
( فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ ) أي: أيسوا من يوسف أن يجيبهم
إلى ما سألوه. وقال أبو عبيدة: اسْتَيْئَسُوا استيقنوا أن الأخ لا يرد إليهم. ( خَلَصُوا نَجِيًّا ) أي: خلا بعضهم ببعض يتناجون
ويتشاورون لا يخالطهم غيرهم.
والنجيُّ
يصلح للجماعة كما قال ها هنا، ويصلح للواحد كقوله: وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا ( مريم - 52 ) وإنما جاز للواحد والجمع لأنه
مصدر جعل نعتا كالعدل والزور، ومثله النجوى يكون اسما ومصدرا، قال الله تعالى:
وَإِذْ هُمْ نَجْوَى (
الإسراء - 47 ) ، أي:
متناجون. وقال: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ ( المجادلة - 7 ) ، وقال في المصدر إِنَّمَا
النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ ( المجادلة
- 10 ) .
( قَالَ كَبِيرُهُمْ ) يعني: في العقل والعلم لا في السن. قال ابن عباس والكلبي:
هو يهوذا وهو أعقلهم. وقال مجاهد: هو شمعون، وكانت له الرئاسة على إخوته. وقال
قتادة والسدي والضحاك: هو روبيل، وكان أكبرهم في السن، وهو الذي نهى الإخوة عن قتل
يوسف .
( أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ
مَوْثِقًا ) عهدا.
( مِنَ
اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ ) قصّرتم ( فِي
يُوسُفَ )
واختلفوا في محل « ما » ؛ قيل: هو نصب بإيقاع العلم
عليه، يعني: ألم تعلموا من قبل تفريطكم في يوسف.
[ وقيل: وهو في محل الرفع
على الابتداء وتم الكلام عند قوله: ( مِنَ اللَّهِ ) ثم قال ( وَمِنْ قَبْلُ ) هذا تفريطكم في يوسف ] وقيل: ( مَا ) صلة. أي: ومن قبل هذا فرطتم
في يوسف.
( فَلَنْ أَبْرَحَ الأرْضَ ) التي أنا بها وهي أرض مصر ( حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي ) بالخروج منها ويدعوني، ( أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي ) بردِّ أخي إليّ، أو بخروجي
وترك أخي. وقيل: أو يحكم الله لي بالسيف فأقاتلهم وأسترد أخي.
( وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ
) أعدل
مَنْ فَصَل بين الناس.
ارْجِعُوا
إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا
إِلا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ ( 81 ) .
( ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ ) يقول الأخ المحتبس [ بمصر ] لإخوته ارجعوا إلى أبيكم، ( فَقُولُوا يَا أَبَانَا
إِنَّ ابْنَكَ )
بنيامين، (
سَرَقَ ) قرأ
ابن عباس والضحاك « سُرِّق
» بضم
السين وكسر الراء وتشديدها، يعني: نُسب إلى السرقة، كما يقال: خوَّنته أي نسبته
إلى الخيانة.
( وَمَا شَهِدْنَا إِلا بِمَا
عَلِمْنَا ) [ يعني: ما قلنا هذا إلا بما
علمنا ] فإنّا رأينا
إخراج الصاع من متاعه. وقيل: معناه: وما شهدنا، أي: ما كانت منا شهادة في عمرنا
على شيء إلا بما علمنا، وليست هذه شهادة منا إنما هو خبر عن صنيع ابنك بزعمهم.
وقيل:
قال لهم يعقوب عليه السلام: ما يدري هذا الرجل أن السارق يُؤخذ بسرقته إلا بقولكم،
فقالوا: ما شهدنا عند يوسف بأن السارق يسترقُّ إلا بما علمنا، وكان الحكم ذلك عند
الأنبياء؛ يعقوب وبنيه.
( وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ
حَافِظِينَ ) قال
مجاهد وقتادة: ما كنا نعلم أن ابنك سيسرق ويصير أمرنا إلى هذا ولو علمنا ذلك ما
ذهبنا إليه، وإنما قلنا ونحفظ أخانا مما لنا إلى حفظه منه سبيل. وعن ابن عباس: ما
كنا لليله ونهاره ومجيئه وذهابه حافظين. وقال عكرمة: وما كنا للغيب حافظين فلعلها
دُسَّتْ بالليل في رحله.
وَاسْأَلِ
الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا
وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ( 82 ) قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ
لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي
بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ( 83 ) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ
وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ
كَظِيمٌ ( 84 ) .
( وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ
الَّتِي كُنَّا فِيهَا ) أي:
أهل القرية وهي مصر. قال ابن عباس: هي قرية من قرى مصر كانوا ارتحلوا منها إلى
مصر. (
وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا ) أي: القافلة التي كنا فيها. وكان صَحِبَهم قومٌ من كنعان من
جيران يعقوب. قال ابن إسحاق: عرف الأخ المحتبس بمصر أن إخوته أهل تهمة عند أبيهم
لِما كانوا صنعوا في أمر يوسف، فأمرهم أن يقولوا هذا لأبيهم.
( وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ) فإن قيل: كيف استجاز يوسف أن
يعمل مثل هذا بأبيه ولم يخبره بمكانه، وحبس أخاه مع علمه بشدة وجد أبيه عليه، وفيه
معنى العقوق وقطيعة الرحم وقلة الشفقة؟. قيل: قد أكثر الناس فيه، والصحيح أنه عمل
ذلك بأمر الله سبحانه وتعالى، أمره بذلك، ليزيد في بلاء يعقوب، فيضاعف له الأجر،
ويلحقه في الدرجة بآبائه الماضين. وقيل: إنه لم يظهر نفسه لإخوته؛ لأنه لم يأمن أن
يدبروا في أمره تدبيرا فيكتموه عن أبيه. والأول أصح.
( قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ
)
زيَّنت، (
أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا ) وفيه
اختصار معناه: فرجعوا إلى أبيهم وذكروا لأبيهم ما قال كبيرهم، فقال يعقوب: ( بل سولت لكم أنفسكم أمرا ) ، أي: حمل أخيكم إلى مصر لطلب
نفع عاجل. (
فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا ) يعني: يوسف، وبنيامين، وأخاهم
المقيم بمصر. (
إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ ) بحزني
ووجدي على فقدهم، (
الْحَكِيمُ ) في
تدبير خلقه.
قوله
تعالى: (
وَتَوَلَّى عَنْهُمْ ) وذلك
أن يعقوب عليه السلام لما بلغه خبر بنيامين تتامَّ حزنه وبلغ جهده، وتهيج حزنه على
يوسف فأعرض عنهم، (
وَقَالَ يَا أَسَفَى ) يا
حزناه، ( عَلَى
يُوسُفَ )
والأسفُ أشدُّ الحزن، (
وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ ) عمي بصره. قال مقاتل: لم يبصر بهما ست سنين، ( فَهُوَ كَظِيمٌ ) أي: مكظوم مملوء من الحزن
ممسك عليه لا يبثه. وقال قتادة: يردد حزنه في جوفه ولم يقل إلا خيرا. قال الحسن:
كان بين خروج يوسف من حجر أبيه إلى يوم التقى معه ثمانون عاما، لا تجفُّ عينا
يعقوب وما على وجه الأرض يومئذ أكرم على الله من يعقوب.
قَالُوا
تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ
الْهَالِكِينَ ( 85 ) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو
بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ( 86 ) .
( قَالُوا ) يعني: أولاد يعقوب، ( تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ
يُوسُف ) أي: لا
تزال تذكر يوسف، لا تفتر من حبه، و « لا » محذوفة
من قوله (
تَفْتَأ ) يقال:
ما فتئ يفعل كذا أي: ما زال، كقول امرئ القيس:
فقلــتُ
يميــنُ اللـه أَبْـرَحُ قائمًـا ولَــوْ قَطَّعُوا رأسِي لَدَيْكِ وأَوْصَالِي
أي: لا
أبرح. (
حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا ) قال
ابن عباس: دفنا وقال مجاهد: الحرض ما دون الموت، يعني: قريبا من الموت. وقال ابن
إسحاق: فاسدا لا عقل لك.
والحرض:
الذي فسد جسمه وعقله. وقيل: ذائبا من الهم. ومعنى الآية: حتى تكون دَنِفَ الجسم
مخبول العقل.
وأصل
الحرض: الفساد في الجسم والعقل من الحزن والهرم، أو العشق ، يقال: رجل حَرَض
وامرأة حَرَض، ورجلان وامرأتان حَرَض، ورجال ونساء كذلك، يستوي فيه الواحد
والاثنان والجمع والمذكر والمؤنث، لأنه مصدر وضع موضع الاسم . ( أَوْ تَكُونَ مِنَ
الْهَالِكِينَ ) أي: من
الميتين.
( قَالَ ) يعقوب عليه السلام عند ذلك
لما رأى غِلظتهم (
إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ ) والبثُّ: أشَدُّ الحزن، سمي بذلك لأن صاحبه لا يصبر عليه
حتى يثبته أي يظهره، قال الحسن: بَثِّي أي: حاجتي.
ويُروى
أنه دخل على يعقوب جارٌ له وقال: يا يعقوب مالي أراك قد تهشمت وفنيت ولم تبلغ من
السن ما بلغ أبوك؟ قال: هشمني وأفناني ما ابتلاني الله به من همّ يوسف، فأوحى الله
إليه: يا يعقوب أتشكوني إلى خلقي؟ فقال: يا رب خطيئة أخطأتها فاغفرْها لي، فقال:
قد غفرتها لك، فكان بعد ذلك إذا سئل قال: إنما أشكو بثي وحزني إلى الله .
وروي أنه
قيل له: يا يعقوب ما الذي أذهب بصرك وقوَّس ظهرك؟ قال: أذهب بصري بكائي على يوسف،
وقوَّس ظهري حزني على أخيه. فأوحى الله إليه: أتشكوني؟ فوعزتي وجلالي لا أكشف ما
بك حتى تدعوني.
فعند ذلك
قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله،فأوحى الله إليه: وعزتي وجلالي لو كانا ميتين
لأخرجتهما لك، وإنما وجدت عليكم لأنكم ذبحتم شاة فقام ببابكم مسكين فلم تطعموه
منها شيئا، وإن أحب خلقي إليّ الأنبياء، ثم المساكين، فاصنع طعاما وادع إليه
المساكين.
فصنع
طعاما ثم قال: من كان صائما فليفطر الليلة عند آل يعقوب .
وروي أنه
كان بعد ذلك إذا تغدى أمر من ينادي: مَنْ أراد الغداء فليأت يعقوب، وإذا أفطر أمر
مَنْ ينادي: مَنْ أراد أن يفطر فليأت يعقوب، فكان يتغدى ويتعشى مع المساكين . وعن
وهب بن منبه قال: أوحى الله تعالى إلى يعقوب: أتدري لِمَ عاقبتك وحبست عنك يوسف
ثمانين سنة؟ قال: لا يا إلهي، قال: لأنك قد شويت عناقا وقترت على جارك، وأكلت ولم
تطعمه.
وروي: أن
سبب ابتلاء يعقوب أنه ذبح عجلا بين يدي أمه وهي تخور . وقال وهب والسدي وغيرهما:
أتى جبريل يوسف عليه السلام في السجن فقال: هل تعرفني أيها الصديق؟
قال: أرى
صورة طاهرة وريحا طيبة.
قال: إني
رسول رب العالمين وأنا الروح الأمين.
قال: فما
أدخلك مدخل المذنبين وأنت أطيب الطيبين ورأس المقربين [ وأمين رب العالمين ] ?
قال: ألم
تعلم يا يوسف أن الله تعالى يطهر البيوت بطهر النبيين، وأن الأرض التي يدخلونها هي
أطهر الأرضين، وأن الله تعالى قد طهر بك السجن وما حوله ، يا طُهر الطاهرين وابن
الصالحين المخلصين.
قال:
وكيف لي باسم الصديقين وتعدّني من المخلصين الطاهرين، وقد أدخلت مدخل المذنبين
وسميت باسم الفاسقين؟
قال
جبريل: لأنه لم يفتن قلبك ولم تطع سيدتك في معصية ربك لذلك سماك الله في الصديقين،
وعدّك من المخلصين، وألحقك بآبائك الصالحين.
قال يوسف:
هل لك علم بيعقوب أيها الروح الأمين؟
قال:
نعم، وهبه الله الصبر الجميل وابتلاه بالحزن عليك فهو كظيم.
قال: فكم
قدّر حزنه؟
قال: حزن
سبعين ثكلى.
قال: فما
زاد له من الأجر يا جبريل؟
قال: أجر
مائة شهيد.
قال:
أفتراني لاقيه؟
قال:
نعم، فطابت نفس يوسف، وقال: ما أبالي بما لقيت إن رأيته .
قوله
تعالى: (
وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) يعني: أعلم من حياة يوسف ما لا تعلمون.
روي أن
ملك الموت زار يعقوب فقال له: أيها الملك الطيب ريحه، الحسن صورته، هل قبضت روح
ولدي في الأرواح؟ قال: لا فسكن يعقوب وطمع في رؤيته، وقال: وأعلم أن رؤيا يوسف
صادقة وإني وأنتم سنسجد له.
وقال
السدي: لما أخبره ولده بسيرة الملك أحسَّت نفس يعقوب وطمع وقال لعله يوسف، فقال:
يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه .
وروي عن
عبد الله بن يزيد بن أبي فروة: أن يعقوب عليه السلام كتب كتابا إلى يوسف عليه
السلام حين حبس بنيامين: من يعقوب إسرائيل الله بن إسحاق ذبيح الله بن إبراهيم
خليل الله [ إلى
ملك مصر ] أما
بعد: فإنا أهل بيت وُكِّلَ بِنَا البلاء؛ أمَّا جدي إبراهيم فشدَّتْ يداه ورجلاه
وألقي في النار، فجعلها الله عليه بردا وسلاما، وأما أبي فشدَّت يداه ورجلاه ووضع
السكين على قفاه، ففداه الله، وأما أنا فكان لي ابن وكان أحب أولادي إلي فذهب به
إخوته إلى البرية ثم أتوني بقميصه ملطخا بالدم، فقالوا: قد أكله الذئب، فذهبت
عيناي [ من
البكاء عليه ] ، ثم كان
لي ابن وكان أخاه لأمه، وكنت أتسلَّى به، وإنك حبسته وزعمت أنه سرق، وإنا أهل بيت
لا نسرق ولا نلد سارقا، فإن رددته عليَّ وإلا دعوتُ عليك دعوةً تدرك السابع من
ولدك، فلما قرأ يوسف الكتاب لم يتمالك البكاء وعيل صبره، فأظهر نفسه على ما نذكره
إن شاء الله تعالى .
يَا
بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ
رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ
الْكَافِرُونَ ( 87 ) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ
قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا
بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ
اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ ( 88 ) .
قوله عز
وجل: ( يَا
بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا ) تخبروا
واطلبوا الخبر، ( مِنْ
يُوسُفَ وَأَخِيهِ )
والتحسّس بالحاء والجيم لا يبعد أحدهما من الآخر، إلا أن التحسس بالحاء في الخير
وبالجيم في الشر، والتحسس هو طلب الشيء بالحاسَّة. قال ابن عباس: معناه التمسوا ( وَلا تَيْأَسُوا ) ولا تقنطوا ( مِنْ رَوْحِ اللَّهِ ) أي: من رحمة الله، وقيل: من
فرج الله. (
إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ) .
( فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ ) وفيه إضمار تقديره: فخرجوا
راجعين إلى مصر حتى وصلوا إليها فدخلوا على يوسف عليه السلام. ( قَالُوا يَا أَيُّهَا
الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ ) أي: الشدة والجوع، ( وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ ) أي: قليلة رديئة كاسدة، لا
تنفق في ثمن الطعام إلا بتجوز من البائع فيها، وأصل الإزجاء: السوق والدفع. وقيل:
للبضاعة مزجاة لأنها غير نافقة، وإنما تجوز على دَفْعٍ من آخذها.
واختلفوا
فيها، فقال ابن عباس: كانت دراهم رديئة زيوفا .
وقيل:
كانت خَلَق الغرائر والحبال .
وقيل:
كانت من متاع الأعراب من الصوف والأقط.
وقال
الكلبي ومقاتل: كانت الحبة الخضراء.
وقيل:
كانت من سويق المُقل .
وقيل:
كانت الأدم والنعال .
( فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ ) أي: أعطنا ما كنت تعطينا
قَبْلُ بالثمن الجيد الوافي.
( وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا ) أي: تفضل علينا بما بين
الثمنين الجيد والرديء ولا تنقصنا. هذا قول أكثر المفسرين.
وقال ابن
جريج والضحاك: وتصدق علينا برد أخينا إلينا .
( إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي ) يثيب، ( الْمُتَصَدِّقِينَ ) .
وقال
الضحاك: لم يقولوا إن الله يجزيك؛ لأنهم لم يعلموا أنه مؤمن.
وسئل
سفيان بن عيينة: هل حرمت الصدقة على أحد من الأنبياء سوى نبينا عليه الصلاة
والسلام؟ فقال سفيان: ألم تسمع قوله تعالى: ( وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي
الْمُتَصَدِّقِينَ ) ، يريد
أن الصدقة كانت حلالا لهم.
وروي أن
الحسن سمع رجلا يقول: اللهم تصدق علي، فقال: إن الله لا يتصدق وإنما يتصدق من يبغي
الثواب، قل: اللهم أعطني أو تفضل عليّ .
قَالَ
هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ ( 89 ) قَالُوا أَئِنَّكَ لأَنْتَ
يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ
مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ( 90 ) .
( قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا
فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ ) اختلفوا في السبب الذي حمل
يوسف على هذا القول، قال ابن إسحاق: ذكر لي أنهم لما كلموه بهذا الكلام أدركته
الرقة فارفضَّ دمعه ، فباح بالذي كان يكتم منهم .
وقال
الكلبي: إنما قال ذلك حين حكى لإخوته أن مالك بن ذعر قال: إني وجدت غلاما في بئر،
من حاله كيت وكيت، فابتعته بكذا درهما فقالوا: أيها الملك، نحن بعنا ذلك الغلام،
فغاظ يوسف ذلك وأمر بقتلهم فذهبوا بهم ليقتلوهم، فولى يهوذا وهو يقول: كان يعقوب
يحزن ويبكي لفقد واحد منا حتى كفّ بصره، فكيف إذا أتاه قتل بنيه كلهم؟ ثم قالوا
له: إن فعلت ذلك فابعث بأمتعتنا إلى أبينا فإنه بمكان كذا وكذا، فذلك حين رحمهم
وبكى، وقال ذلك القول .
وقيل:
قاله حين قرأ كتاب أبيه إليه فلم يتمالك البكاء فقال: هل علمتم ما فعلتم بيوسف
وأخيه إذ فرقتُم بينهما، وصنعتُم ما صنعتُم إذ أنتم جاهلون بما يؤول إليه أمر
يوسف؟ وقيل: مذنبون وعاصون. وقال الحسن: إذ أنتم شباب ومعكم جهل الشباب.
فإن قيل:
كيف قال ما فعلتم بيوسف وأخيه، وما كان منهم إلى أخيه، وهم لم يسعوا في حبسه؟ قيل:
قد قالوا له في الصاع ما يزال لنا بلاء، وقيل: ما رأينا منكم يا بني راحيل خيرا.
وقيل: لما كانا من أم واحدة كانوا يؤذونه من بعد فَقْدِ يوسف.
( قَالُوا أَئِنَّكَ لأنْتَ
يُوسُفُ ) قرأ
ابن كثير وأبو جعفر: « إنَّك
» على
الخبر، وقرأ الآخرون على الاستفهام.
قال ابن
إسحاق: كان يوسف يتكلم من وراء ستر فلما قال يوسف: هل علمتم ما فعلتم، كشف عنهم
الغطاء ورفع الحجاب، فعرفوه.
وقال
الضحاك عن ابن عباس: لما قال هذا القول تبسم يوسف فرأوا ثناياه كاللؤلؤ المنظوم
فشبهوه بيوسف، فقالوا استفهاما أئنك لأنت يوسف؟.
وقال
عطاء عن ابن عباس: إن إخوة يوسف لم يعرفوه حتى وضع التاج عن رأسه، وكان له في قرنه
علامة وكان ليعقوب مثلها ولإسحاق مثلها ولسارة مثلها شبه الشامة، فعرفوه فقالوا:
أئنك لأنت يوسف.
وقيل:
قالوه على التوهم حتى، ( قَالَ
أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي ) ،
بنيامين، ( قَدْ
مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا ) أنعم
علينا بأن جمع بيننا.
( إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ ) بأداء الفرائض واجتناب
المعاصي، (
وَيَصْبِرْ ) عما
حرم الله عز وجل عليه. قال ابن عباس: يتقي الزنى ويصبر عن العزوبة. وقال مجاهد:
يتقي المعصية ويصبر على السجن، (
فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ) .
قَالُوا
تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ ( 91 ) قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ
الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ( 92 ) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا
فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ
أَجْمَعِينَ ( 93 ) .
( قَالُوا ) معتذرين، ( تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ
اللَّهُ عَلَيْنَا ) أي:
اختارك الله وفضَّلك علينا، (
وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ ) أي:
وما كنا في صنيعنا بك إلا مخطئين مذنبين. يقال: خَطِئَ خِطْئاً إذا تعمد، وأخطأ
إذا كان غير متعمد .
( قَالَ ) يوسف وكان حليما، ( لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ
الْيَوْمَ ) لا
تعيير عليكم اليوم، ولا أذكر لكم ذنبكم بعد اليوم، ( يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ
وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) .
فلما
عّرفهم يوسف نفسه سألهم عن أبيه، فقال: ما فعل أبي بعدي؟ قالوا: ذهبت عيناه
فأعطاهم قميصه، وقال:
( اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا
فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا ) أي: يعد مبصرا. وقيل: يأتيني بصيرا لأنه كان قد دعاه.
قال
الحسن: لم يعلم أنه يعود بصيرا إلا بعد أن أعلمه الله عز وجل.
وقال
الضحاك: كان ذلك القميص من نسج الجنة.
وعن
مجاهد قال: أمره جبريل أن يرسل إليه قميصه، وكان ذلك القميص قميص إبراهيم عليه السلام،
وذلك أنه جرد من ثيابه وألقي في النار عريانا، فأتاه جبريل بقميص من حرير الجنة،
فألبسه إيّاه فكان ذلك القميص عند إبراهيم عليه السلام، فلما مات ورثه إسحاق، فلما
مات ورثه يعقوب، فلما شبَّ يوسف جعل يعقوب ذلك القميص في قصبة، وسدَّ رأسها،
وعلَّقها في عنقه، لما كان يخاف عليه من العين، فكان لا يفارقه. فلما ألقي في
البئر عريانا جاءه جبريل عليه السلام وعلى يوسف ذلك التعويذ، فأخرج القميص منه
وألبسه إيّاه، ففي هذا الوقت جاء جبريل عليه السلام إلى يوسف عليه السلام وقال:
أرسل ذلك القميص، فإن فيه ريح الجنة لا يقع على سقيم ولا مبتلى إلا عوفي، فدفع
يوسف ذلك القميص إلى إخوته وقال: ألقوه على وجه أبي يأت بصيرا، ( وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ
أَجْمَعِينَ ) .
وَلَمَّا
فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ
تُفَنِّدُونِ ( 94 ) .
( وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ ) أي خرجت من عريش مصر متوجهة
إلى كنعان ( قَالَ
أَبُوهُمْ ) أي:
قال يعقوب لولد ولده، (
إِنِّي لأجِدُ رِيحَ يُوسُفَ ) .
روي أن
ريح الصبا استأذنت ربها في أن تأتي يعقوب بريح يوسف قبل أن يأتيه البشير.
قال مجاهد:
أصاب يعقوب ريح يوسف من مسيرة ثلاثة أيام. وحكي عن ابن عباس: من مسيرة ثمان ليال.
وقال
الحسن: كان بينهما ثمانون فرسخا .
وقيل:
هبت ريح فصفقت القميص، فاحتملت ريح القميص إلى يعقوب، فوجد ريح الجنة فعلم أن ليس
في الأرض من ريح الجنة، إلا ما كان من ذلك القميص، فلذلك قال: إني لأجد ريح يوسف.
( لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ ) تُسَفِّهوني، وعن ابن عباس:
تُجَهِّلوني. وقال الضحاك: تهرِّمون فتقولون: شيخ كبير قد خرف وذهب عقله. وقيل:
تضعِّفوني. وقال أبو عبيدة: تضلّلوني. وأصل الفَنَدِ: الفساد.
قَالُوا
تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ ( 95 ) .
( قَالُوا ) يعني: أولاد أولاده، ( تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي
ضَلالِكَ الْقَدِيمِ ) أي:
خطئك القديم من ذكر يوسف لا تنساه، والضلال هو الذهاب عن طريق الصواب، فإن عندهم
أن يوسف قد مات ويرون يعقوب قد لهج بذكره.
فَلَمَّا أَنْ جَاءَ
الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ
لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ( 96 )
قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ ( 97 )
قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ( 98 ) .
(
فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ ) وهو المبشر عن يوسف، قال ابن
مسعود: جاء البشير بين يدي العير. قال ابن عباس: هو يهوذا.
قال [
السدي: قال يهوذا ] أنا ذهبت بالقميص ملطخا بالدم
إلى يعقوب فأخبرته أن يوسف أكله الذئب، فأنا أذهب إليه اليوم بالقميص فأخبره أن
ولده حي فأفرحه كما أحزنته .
قال ابن عباس: حمله يهوذا وخرج
حافيا حاسرا يعدو ومعه سبعة أرغفة لم يستوف أكلها حتى أتى أباه، وكانت المسافة
ثمانين فرسخا.
وقيل: البشير مالك بن ذعر.
( أَلْقَاهُ
عَلَى وَجْهِهِ ) يعني: ألقى البشيرُ قميصَ
يوسف على وجه يعقوب، ( فَارْتَدَّ بَصِيرًا ) فعاد
بصيرا بعدما كان عمِي وعادت إليه قوته بعد الضعف، وشبابه بعد الهرم وسروره بعد
الحزن.
( قَال أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ
إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) من
حياة يوسف وأن الله يجمع بيننا.
ورُوي أنه قال للبشير: كيف تركت
يوسف؟ قال: إنه ملك مصر، فقال يعقوب: ما أصنع بالملك على أي دين تركتَه؟ قال: على
دين الإسلام، قال: الآن تمت النعمة .
(
قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ )
مذنبين.
( قَالَ
سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي ) قال
أكثر المفسرين: أخَّر الدعاء إلى السَّحَر، وهو الوقت الذي يقول الله تعالى: « هل من
داع فأستجيب له » فلما انتهى يعقوب إلى الموعد
قام إلى الصلاة بالسحر، فلما فرغ منها رفع يديه إلى الله عز وجل وقال: اللهم اغفر
لي جزعي على يوسف وقلة صبري عنه، واغفر لأولادي ما أتوا إلى أخيهم يوسف، فأوحى
الله تعالى إليه أني قد غفرتُ لك ولهم أجمعين.
وعن عكرمة عن ابن عباس رضي الله
عنهما: سوف أستغفر لكم [ ربي يعني ليلة الجمعة .
قال وهب: كان يستغفر لهم كل ] ليلة جمعة في نيف وعشرين سنة.
وقال طاوس: أخَّر الدعاء إلى
السَّحَر من ليلة الجمعة فوافق ليلة عاشوراء . وعن الشعبي قال: سوف أستغفر لكم
ربي، قال: أسأل يوسف إن عفا عنكم أستغفر لكم ربي (
إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) .
روي أن يوسف كان قد بعث مع
البشير إلى يعقوب مائتي راحلة وجهازا كثيرا ليأتوا بيعقوب وأهله وأولاده، فتهيأ
يعقوب للخروج إلى مصر، فخرجوا وهم اثنان وسبعون من بين رجل وامرأة. وقال مسروق:
كانوا ثلاثة وتسعين ، فلما دنا من مصر كلم يوسف الملك الذي فوقه، فخرج يوسف والملك
في أربعة آلاف من الجنود وركب أهل مصر معهما يتلقون يعقوب، وكان يعقوب يمشي وهو
يتوكأ على يهوذا فنظر إلى الخيل والناس فقال: يا يهوذا هذا فرعون مصر، قال: لا هذا
ابنك، فلما دنا كل واحد من صاحبه ذهب يوسف يبدأ بالسلام، فقال جبريل: لا حتى يبدأ
يعقوب بالسلام، فقال يعقوب: السلام عليك يا مذهب الأحزان .
وروي أنهما نـزلا وتعانقا. وقال
الثوري: لما التقى يعقوب ويوسف عليهما السلام عانق كل واحد منهما صاحبه وبكيا،
فقال يوسف: يا أبت بكيتَ حتى ذهب بصرك ألم تعلم أن القيامة تجمعنا؟ قال: بلى يا
بني، ولكن خشيتُ أن تسلب دينك فيحال بيني وبينك .
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى
يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ
آمِنِينَ ( 99 )
وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ
هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ
أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ
بَعْدِ أَنْ نَـزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي
لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ( 100
) .
فذلك قوله تعالى: (
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ ) أي: ضم
إليه، ( أَبَوَيْهِ ) قال
أكثر المفسرين: هو أبوه وخالته ليّا، وكانت أمه راحيل قد ماتت في نفاس بنيامين .
وقال الحسن: هو أبوه وأمه،
وكانت حيَّة .
وفي بعض التفاسير أن الله عز
وجل أحيا أمه حتى جاءت مع يعقوب إلى مصر .
(
وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ ) فإن
قيل: فقد قال فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه فكيف قال ادخلوا مصر [ إن
شاء الله آمنين ] بعدما أخبر أنهم دخلوها؟ وما
وجه هذا الاستثناء وقد حصل الدخول؟
قيل: إن يوسف إنما قال لهم هذا
القول حين تلقاهم قبل دخولهم مصر. وفي الآية تقديم وتأخير، والاستثناء يرجع إلى
الاستغفار وهو من قول يعقوب لبنيه سوف أستغفر لكم ربي إن شاء الله .
وقيل: الاستثناء يرجع إلى الأمن
من الجواز لأنهم كانوا لا يدخلون مصر قبله إلا بجواز من ملوكهم، يقول: آمنين [ من
الجواز إن شاء الله تعالى ، كما قال: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ
شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ ( الفتح - 27 ) ] .
وقيل: « إن » هاهنا
بمعنى إذْ، يريد: إذْ شاء الله، كقوله تعالى: وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ
كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ( آل عمران - 139 ) . أي:
إذ كنتم مؤمنين .
( وَرَفَعَ
أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ ) أي: على السرير: أجلسهما.
والرفع: هو النقل إلى العلو. ( وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا ) يعني:
يعقوب وخالته وإخوته.
وكانت تحية الناس يومئذ السجود،
ولم يُرِدْ بالسجود وضعَ الجباه على الأرض، وإنما هو الانحناء والتواضع .
وقيل: وضعوا الجباه على الأرض
وكان ذلك على طريق التحية والتعظيم، لا على طريق العبادة. وكان ذلك جائزا في الأمم
السالفة فنسخ في هذه الشريعة .
ورُوي عن ابن عباس أنه قال:
معناه: خرُّوا لله عز وجل سٌجَدًا بين يدي يوسف . والأول أصح .
( وقال ) يوسف
عند ذلك: ( يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ
جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ) وهو قوله: إِنِّي رَأَيْتُ
أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ .
(
وَقَدْ أَحْسَنَ بِي ) [
ربي، أي ] : أنعم عليّ، ( إِذْ
أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ ) ولم يقل من الجُبِّ مع كونه
أشد بلاء من السجن، استعمالا للكرم، لكيلا يخجل إخوته بعدما قال لهم: لا تَثْرِيبَ
عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ، ولأن نعمة الله عليه في إخراجه من السجن أعظم، لأنه بعد
الخروج من الجب صار إلى العبودية والرق، وبعد الخروج من السجن صار إلى الملك، ولأن
وقوعه في البئر كان لحسد إخوته، وفي السجن مكافأة من الله تعالى لزلة كانت منه.
(
وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ ) والبدو بسيط من الأرض يسكنه
أهل المواشي بماشيتهم، وكانوا أهل بادية ومواشٍ، يقال: بدَا يبدُو إذا صار إلى
البادية. ( مِنْ بَعْدِ أَنْ نَـزَغَ ) أفسد،
( الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي )
بالحسد.
( إِنَّ
رَبِّي لَطِيفٌ ) أي: ذُو لُطف، ( لِمَا
يَشَاءُ ) وقيل: معناه بِمَنْ يشاء.
وحقيقة اللطيف: الذي يوصل
الإحسان إلى غيره بالرفق ( إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ
الْحَكِيمُ ) .
قال أهل التاريخ: أقام يعقوب
بمصر عند يوسف أربعا وعشرين سنة في أغبط حال وأهنأ عيش، ثم مات بمصر، فلما حضرته
الوفاة أوصى إلى ابنه يوسف أن يحمل جسده حتى يدفنه عند أبيه إسحاق، ففعل يوسف ذلك،
ومضى به حتى دفنه بالشام، ثم انصرف إلى مصر.
قال سعيد بن جبير: نُقل يعقوب
عليه السلام في تابوت من ساج إلى بيت المقدس، فوافق ذلك اليوم الذي مات فيه العيص
فَدُفِنَا في قبر واحد، وكانا وُلِدَا في بطن واحد، وكان عمرهما مائة وسبعا
وأربعين سنة .
فلما جمع الله تعالى ليوسف شمله
على أن نعيم الدنيا لا يدوم سأل الله تعالى حُسنَ العاقبة، فقال:
رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ
الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ
وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا
وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ( 101 ) .
( رَبِّ
قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ ) يعني: ملك مصر، والمُلْك:
اتساع المقدور لمن له السياسة والتدبير. (
وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ ) يعني:
تعبير الرؤيا. ( فَاطِر ) أي: يا
فاطر، ( السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) أي:
خالقهما ( أَنْتَ وَلِيِّي ) أي:
معيني ومتولي أمري، ( فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ
تَوَفَّنِي مُسْلِمًا ) يقول اقبضني إليك مسلما، (
وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ) يريد بآبائي النبيين.
قال قتادة: لم يسأل نبي من
الأنبياء الموت إلا يوسف .
وفي القصة: لما جمع الله شمله
وأوصل إليه أبويه وأهله اشتاق إلى ربِّه عز وجل فقال هذه المقالة.
قال الحسن: عاش بعد هذا سنين
كثيرة. وقال غيره: لما قال هذا القول لم يمض عليه أسبوع حتى توفي.
واختلفوا في مدة غيبة يوسف عن
أبيه، فقال الكلبي: اثنتان وعشرون سنة.
وقيل: أربعون سنة.
وقال الحسن: ألقي يوسف في الجب
وهو ابن سبع عشرة سنة، وغاب عن أبيه ثمانين سنة، وعاش بعد لقاء يعقوب ثلاثا وعشرين
سنة، ومات وهو ابن مائة وعشرين سنة.
وفي التوراة مات وهو ابن مائة
وعشر سنين، وولد ليوسف من امرأة العزير ثلاثة أولاد: أفرائيم وميشا ورحمة امرأة
أيوب المبتلي عليه السلام.
وقيل: عاش يوسف بعد أبيه ستين
سنة. وقيل: أكثر. واختلفت الأقاويل فيه.
وتوفي وهو ابن مائة وعشرين سنة،
فدفنوه في النيل في صندوق من رخام، وذلك أنه لما مات تشاحَّ الناس فيه فطلب أهل كل
محلة أن يدفن في محلتهم رجاء بركته، حتى همُّوا بالقتال، فرأوا أن يدفنوه في النيل
حيث يتفرق الماء بمصر ليجري الماء عليه وتصل بركته إلى جميعهم.
وقال عكرمة: دفن في الجانب
الأيمن من النيل، فأخصب ذلك الجانب وأجدب الجانب الآخر، [
فنقل إلى الجانب الأيسر فأخصب ذلك الجانب وأجدب الجانب الآخر ] ،
فدفنوه في وسطه وقَدَّرُوا ذلك بسلسلة فأخصب الجانبان جميعا إلى أن أخرجه موسى
فدفنه بقرب آبائه بالشام .
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ
الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ
وَهُمْ يَمْكُرُونَ ( 102 )
وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ( 103
) .
( ذَلِك ) الذي
ذكرتُ، ( مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ
لَدَيْهِمْ ) أي: ما كنت يا محمد عند أولاد يعقوب، ( إِذْ
أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ ) أي: عَزَمُوا على إلقاء يوسف
في الجب، ( وَهُمْ يَمْكُرُونَ ) بيوسف.
( وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ ) يا
محمد، ( وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ) على إيمانهم.
ورُوي أن اليهود وقريشًا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن قصة يوسف، فلما أخبرهم على موافقة التوراة لم يسلموا، فحزن النبي صلى الله عليه
وسلم، فقيل له: إنهم لا يؤمنون وإن حرصت على إيمانهم .
فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ
أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي
أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ( 96 )
قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ ( 97 )
قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ( 98 ) .
(
فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ ) وهو المبشر عن يوسف، قال ابن
مسعود: جاء البشير بين يدي العير. قال ابن عباس: هو يهوذا.
قال [
السدي: قال يهوذا ] أنا ذهبت بالقميص ملطخا بالدم
إلى يعقوب فأخبرته أن يوسف أكله الذئب، فأنا أذهب إليه اليوم بالقميص فأخبره أن
ولده حي فأفرحه كما أحزنته .
قال ابن عباس: حمله يهوذا وخرج
حافيا حاسرا يعدو ومعه سبعة أرغفة لم يستوف أكلها حتى أتى أباه، وكانت المسافة
ثمانين فرسخا.
وقيل: البشير مالك بن ذعر.
(
أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ ) يعني: ألقى البشيرُ قميصَ
يوسف على وجه يعقوب، ( فَارْتَدَّ بَصِيرًا ) فعاد
بصيرا بعدما كان عمِي وعادت إليه قوته بعد الضعف، وشبابه بعد الهرم وسروره بعد
الحزن.
( قَال أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ
إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) من
حياة يوسف وأن الله يجمع بيننا.
ورُوي أنه قال للبشير: كيف تركت
يوسف؟ قال: إنه ملك مصر، فقال يعقوب: ما أصنع بالملك على أي دين تركتَه؟ قال: على
دين الإسلام، قال: الآن تمت النعمة .
(
قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ )
مذنبين.
( قَالَ
سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي ) قال
أكثر المفسرين: أخَّر الدعاء إلى السَّحَر، وهو الوقت الذي يقول الله تعالى: « هل من
داع فأستجيب له » فلما انتهى يعقوب إلى الموعد
قام إلى الصلاة بالسحر، فلما فرغ منها رفع يديه إلى الله عز وجل وقال: اللهم اغفر لي
جزعي على يوسف وقلة صبري عنه، واغفر لأولادي ما أتوا إلى أخيهم يوسف، فأوحى الله
تعالى إليه أني قد غفرتُ لك ولهم أجمعين.
وعن عكرمة عن ابن عباس رضي الله
عنهما: سوف أستغفر لكم [ ربي يعني ليلة الجمعة .
قال وهب: كان يستغفر لهم كل ] ليلة جمعة في نيف وعشرين سنة.
وقال طاوس: أخَّر الدعاء إلى
السَّحَر من ليلة الجمعة فوافق ليلة عاشوراء . وعن الشعبي قال: سوف أستغفر لكم
ربي، قال: أسأل يوسف إن عفا عنكم أستغفر لكم ربي (
إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) .
روي أن يوسف كان قد بعث مع
البشير إلى يعقوب مائتي راحلة وجهازا كثيرا ليأتوا بيعقوب وأهله وأولاده، فتهيأ
يعقوب للخروج إلى مصر، فخرجوا وهم اثنان وسبعون من بين رجل وامرأة. وقال مسروق:
كانوا ثلاثة وتسعين ، فلما دنا من مصر كلم يوسف الملك الذي فوقه، فخرج يوسف والملك
في أربعة آلاف من الجنود وركب أهل مصر معهما يتلقون يعقوب، وكان يعقوب يمشي وهو
يتوكأ على يهوذا فنظر إلى الخيل والناس فقال: يا يهوذا هذا فرعون مصر، قال: لا هذا
ابنك، فلما دنا كل واحد من صاحبه ذهب يوسف يبدأ بالسلام، فقال جبريل: لا حتى يبدأ
يعقوب بالسلام، فقال يعقوب: السلام عليك يا مذهب الأحزان .
وروي أنهما نـزلا وتعانقا. وقال
الثوري: لما التقى يعقوب ويوسف عليهما السلام عانق كل واحد منهما صاحبه وبكيا،
فقال يوسف: يا أبت بكيتَ حتى ذهب بصرك ألم تعلم أن القيامة تجمعنا؟ قال: بلى يا
بني، ولكن خشيتُ أن تسلب دينك فيحال بيني وبينك .
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى
يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ
آمِنِينَ ( 99 )
وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ
هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ
أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ
بَعْدِ أَنْ نَـزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي
لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ( 100
) .
فذلك قوله تعالى: (
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ ) أي: ضم
إليه، ( أَبَوَيْهِ ) قال
أكثر المفسرين: هو أبوه وخالته ليّا، وكانت أمه راحيل قد ماتت في نفاس بنيامين .
وقال الحسن: هو أبوه وأمه،
وكانت حيَّة .
وفي بعض التفاسير أن الله عز
وجل أحيا أمه حتى جاءت مع يعقوب إلى مصر .
(
وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ ) فإن
قيل: فقد قال فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه فكيف قال ادخلوا مصر [ إن
شاء الله آمنين ] بعدما أخبر أنهم دخلوها؟ وما
وجه هذا الاستثناء وقد حصل الدخول؟
قيل: إن يوسف إنما قال لهم هذا
القول حين تلقاهم قبل دخولهم مصر. وفي الآية تقديم وتأخير، والاستثناء يرجع إلى
الاستغفار وهو من قول يعقوب لبنيه سوف أستغفر لكم ربي إن شاء الله .
وقيل: الاستثناء يرجع إلى الأمن
من الجواز لأنهم كانوا لا يدخلون مصر قبله إلا بجواز من ملوكهم، يقول: آمنين [ من
الجواز إن شاء الله تعالى ، كما قال: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ
شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ ( الفتح - 27 ) ] .
وقيل: « إن » هاهنا
بمعنى إذْ، يريد: إذْ شاء الله، كقوله تعالى: وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ
كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ( آل عمران - 139 ) . أي:
إذ كنتم مؤمنين .
(
وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ ) أي:
على السرير: أجلسهما. والرفع: هو النقل إلى العلو. (
وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا ) يعني: يعقوب وخالته وإخوته.
وكانت تحية الناس يومئذ السجود،
ولم يُرِدْ بالسجود وضعَ الجباه على الأرض، وإنما هو الانحناء والتواضع .
وقيل: وضعوا الجباه على الأرض
وكان ذلك على طريق التحية والتعظيم، لا على طريق العبادة. وكان ذلك جائزا في الأمم
السالفة فنسخ في هذه الشريعة .
ورُوي عن ابن عباس أنه قال:
معناه: خرُّوا لله عز وجل سٌجَدًا بين يدي يوسف . والأول أصح .
( وقال ) يوسف
عند ذلك: ( يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ
جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ) وهو قوله: إِنِّي رَأَيْتُ
أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ .
(
وَقَدْ أَحْسَنَ بِي ) [
ربي، أي ] : أنعم عليّ، ( إِذْ
أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ ) ولم يقل من الجُبِّ مع كونه
أشد بلاء من السجن، استعمالا للكرم، لكيلا يخجل إخوته بعدما قال لهم: لا تَثْرِيبَ
عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ، ولأن نعمة الله عليه في إخراجه من السجن أعظم، لأنه بعد
الخروج من الجب صار إلى العبودية والرق، وبعد الخروج من السجن صار إلى الملك، ولأن
وقوعه في البئر كان لحسد إخوته، وفي السجن مكافأة من الله تعالى لزلة كانت منه.
(
وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ ) والبدو بسيط من الأرض يسكنه
أهل المواشي بماشيتهم، وكانوا أهل بادية ومواشٍ، يقال: بدَا يبدُو إذا صار إلى
البادية. ( مِنْ بَعْدِ أَنْ نَـزَغَ ) أفسد،
( الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي )
بالحسد.
( إِنَّ
رَبِّي لَطِيفٌ ) أي: ذُو لُطف، ( لِمَا
يَشَاءُ ) وقيل: معناه بِمَنْ يشاء.
وحقيقة اللطيف: الذي يوصل
الإحسان إلى غيره بالرفق ( إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ
الْحَكِيمُ ) .
قال أهل التاريخ: أقام يعقوب
بمصر عند يوسف أربعا وعشرين سنة في أغبط حال وأهنأ عيش، ثم مات بمصر، فلما حضرته
الوفاة أوصى إلى ابنه يوسف أن يحمل جسده حتى يدفنه عند أبيه إسحاق، ففعل يوسف ذلك،
ومضى به حتى دفنه بالشام، ثم انصرف إلى مصر.
قال سعيد بن جبير: نُقل يعقوب
عليه السلام في تابوت من ساج إلى بيت المقدس، فوافق ذلك اليوم الذي مات فيه العيص
فَدُفِنَا في قبر واحد، وكانا وُلِدَا في بطن واحد، وكان عمرهما مائة وسبعا
وأربعين سنة .
فلما جمع الله تعالى ليوسف شمله
على أن نعيم الدنيا لا يدوم سأل الله تعالى حُسنَ العاقبة، فقال:
رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ
الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ
وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا
وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ( 101 ) .
( رَبِّ
قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ ) يعني: ملك مصر، والمُلْك:
اتساع المقدور لمن له السياسة والتدبير. (
وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ ) يعني:
تعبير الرؤيا. ( فَاطِر ) أي: يا
فاطر، ( السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) أي:
خالقهما ( أَنْتَ وَلِيِّي ) أي:
معيني ومتولي أمري، ( فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ
تَوَفَّنِي مُسْلِمًا ) يقول اقبضني إليك مسلما، (
وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ) يريد بآبائي النبيين.
قال قتادة: لم يسأل نبي من
الأنبياء الموت إلا يوسف .
وفي القصة: لما جمع الله شمله
وأوصل إليه أبويه وأهله اشتاق إلى ربِّه عز وجل فقال هذه المقالة.
قال الحسن: عاش بعد هذا سنين
كثيرة. وقال غيره: لما قال هذا القول لم يمض عليه أسبوع حتى توفي.
واختلفوا في مدة غيبة يوسف عن
أبيه، فقال الكلبي: اثنتان وعشرون سنة.
وقيل: أربعون سنة.
وقال الحسن: ألقي يوسف في الجب
وهو ابن سبع عشرة سنة، وغاب عن أبيه ثمانين سنة، وعاش بعد لقاء يعقوب ثلاثا وعشرين
سنة، ومات وهو ابن مائة وعشرين سنة.
وفي التوراة مات وهو ابن مائة
وعشر سنين، وولد ليوسف من امرأة العزير ثلاثة أولاد: أفرائيم وميشا ورحمة امرأة
أيوب المبتلي عليه السلام.
وقيل: عاش يوسف بعد أبيه ستين
سنة. وقيل: أكثر. واختلفت الأقاويل فيه.
وتوفي وهو ابن مائة وعشرين سنة،
فدفنوه في النيل في صندوق من رخام، وذلك أنه لما مات تشاحَّ الناس فيه فطلب أهل كل
محلة أن يدفن في محلتهم رجاء بركته، حتى همُّوا بالقتال، فرأوا أن يدفنوه في النيل
حيث يتفرق الماء بمصر ليجري الماء عليه وتصل بركته إلى جميعهم.
وقال عكرمة: دفن في الجانب
الأيمن من النيل، فأخصب ذلك الجانب وأجدب الجانب الآخر، [
فنقل إلى الجانب الأيسر فأخصب ذلك الجانب وأجدب الجانب الآخر ] ،
فدفنوه في وسطه وقَدَّرُوا ذلك بسلسلة فأخصب الجانبان جميعا إلى أن أخرجه موسى
فدفنه بقرب آبائه بالشام .
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ
الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ
وَهُمْ يَمْكُرُونَ ( 102 )
وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ( 103
) .
( ذَلِك ) الذي
ذكرتُ، ( مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ
لَدَيْهِمْ ) أي: ما كنت يا محمد عند أولاد يعقوب، ( إِذْ
أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ ) أي: عَزَمُوا على إلقاء يوسف
في الجب، ( وَهُمْ يَمْكُرُونَ ) بيوسف.
( وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ ) يا
محمد، ( وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ) على
إيمانهم.
ورُوي أن اليهود وقريشًا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن قصة يوسف، فلما أخبرهم على موافقة التوراة لم يسلموا، فحزن النبي صلى الله عليه
وسلم، فقيل له: إنهم لا يؤمنون وإن حرصت على إيمانهم .