سورة الإسراء
مكية وهي مائة وإحدى عشرة آية .
بسم الله الرحمن الرحيم
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى
بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى
الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ
الْبَصِيرُ ( 1 )
( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى
بِعَبْدِهِ لَيْلا ) سبحان الله: تنـزيه الله
تعالى من كل سوء, ووصفه بالبراءة من كل نقص على طريق المبالغة, ويكون « سبحان
» بمعنى التعجب, « أسرى
بعبده » أي: سيره, وكذلك سرى به, والعبد هو: محمد صلى الله عليه
وسلم.
( مِنَ
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ) قيل: كان الإسراء من مسجد
مكة, روى قتادة عن أنس عن مالك بن صعصعة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « بينا
أنا في المسجد الحرام في الحجر بين النائم واليقظان إذ أتاني جبريل بالبراق » فذكر
حديث المعراج.
وقال قوم: عرج به من دار أم
هانئ بنت أبي طالب ومعنى قوله: ( مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
) أي: من الحرم .
قال مقاتل: كانت ليلة الإسراء
قبل الهجرة بسنة, ويقال: كان في رجب. وقيل: كان في شهر رمضان .
( إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَى ) يعني:
بيت المقدس, وسمي أقصى لأنه أبعد المساجد التي تزار. وقيل: لبعده من المسجد الحرام.
(
الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ ) بالأنهار والأشجار والثمار,
وقال مجاهد: سماه مباركا لأنه مقر الأنبياء ومهبط الملائكة والوحي, ومنه يحشر
الناس يوم القيامة.
(
لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ) من عجائب قدرتنا, وقد رأى
هناك الأنبياء والآيات الكبرى.
(
إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) ذكر « السميع
» لينبه على أنه المجيب لدعائه, وذكر « البصير
» لينبه على أنه الحافظ له في ظلمة الليل.
وروي عن عائشة رضي الله عنها
أنها كانت تقول: ما فقد جسد النبي صلى الله عليه وسلم, ولكن الله أسرى بروحه .
والأكثرون على أنه أسري بجسده
في اليقظة, وتواترت الأخبار الصحيحة على ذلك .
أخبرنا أبو عمر عبد الواحد بن
أحمد المليحي, أخبرنا أبو حامد أحمد بن عبد الله النعيمي, أخبرنا أبو عبد الله
محمد بن يوسف, حدثنا أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري, حدثنا هدبة بن خالد,
حدثنا همام بن يحيى, حدثنا قتادة ( ح ) قال
البخاري: وقال لي خليفة العصفري, حدثنا يزيد بن زريع, حدثنا سعيد وهشام. قالا
حدثنا قتادة ( ح ) عن مالك بن صعصعة رضي الله
عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم, حدثهم عن ليلة أسري به, ( ح ) قال
البخاري: حدثنا يحيى بن بكير, حدثنا الليث, عن يونس عن ابن شهاب عن أنس قال: كان
أبو ذر يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( ح ) ,
وأخبرنا أبو سعيد إسماعيل بن عبد القاهر, أخبرنا أبو الحسن عبد الغافر بن محمد [
الفارسي أنبأنا أبو أحمد محمد بن عيسى الجلودي, حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد ] بن
سفيان, حدثنا أبو الحسين مسلم بن الحجاج, حدثنا شيبان بن فروخ, حدثنا حماد بن
سلمة, حدثنا ثابت البناني عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال - [ دخل
حديث بعضهم في بعض - قال أبو ذر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ] فرج
عني سقف بيتي, وأنا بمكة, فنـزل جبريل ففرج صدري, ثم غسله بماء زمزم, ثم جاء بطست
من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانا, فأفرغه في صدري, ثم أطبقه « . »
وقال مالك بن صعصعة: إن نبي
الله صلى الله عليه وسلم حدثهم عن ليلة أسري به قال: « بينما
أنا في الحطيم, وربما قال في الحجر بين النائم واليقظان » , وذكر
بين رجلين « فأتيت بطست من ذهب مملوء حكمة وإيمانا فشق من النحر إلى
مراق البطن واستخرج قلبي فغسل ثم حشي ثم أعيد » .
وقال سعيد وهشام: ثم غسل البطن
بماء زمزم ثم ملئ إيمانا وحكمة, ثم أوتيت بالبراق, وهو دابة أبيض طويل فوق الحمار
ودون البغل, يضع حافره عند منتهى طرفه, فركبته فانطلقت مع جبريل حتى أتيت بيت
المقدس, قال: فربطته بالحلقة التي تربط بها الأنبياء, قال: ثم دخلت المسجد فصليت
فيه ركعتين ثم خرجت, فجاءني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن, فاخترت اللبن, فقال
جبريل: اخترت الفطرة, فانطلق بي جبريل حتى أتى السماء الدنيا فاستفتح, قيل من هذا؟
قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحبا
به, فنعم المجيء جاء, ففتح, فلما خلصت, فإذا فيها آدم, فقال لي: هذا أبوك آدم,
فسلم عليه, فسلمت عليه, فرد السلام, ثم قال: مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح.
وفي حديث أبي ذر: علونا السماء
الدنيا, فإذا رجل قاعد عن يمينه أسودة وعن يساره أسودة, إذا نظر قبل يمينه ضحك,
وإذا نظر قبل شماله بكى, فقال: مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح. قلت لجبريل: من
هذا؟ قال: هذا آدم, وهذه الأسودة التي عن يمينه وشماله نسم بنيه, فأهل اليمين منهم
أهل الجنة, والأسودة التي عن شماله أهل النار, فإذا نظر عن يمينه ضحك, وإذا نظر
قبل شماله بكى.
ثم صعد حتى أتى السماء الثانية
فاستفتح, قيل: من هذا؟ قال: جبريل, قيل: ومن معك؟ قال: محمد, قيل: وقد أرسل إليه؟
قال: نعم, قيل: مرحبا به فنعم المجيء جاء, ففتح, فلما خلصت إذا بيحيى وعيسى عليهما
السلام, وهما ابنا خالة, قال: هذا يحيى وعيسى, فسلم عليهما, فسلمت فردا, ثم قالا
مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح.
ثم صعد بي إلى السماء الثالثة
فاستفتح, قيل: من هذا؟ قال: جبريل, قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد أرسل إليه؟
قال: نعم. قيل: مرحبا به فنعم المجيء جاء, ففتح, فلما خلصت فإذا يوسف, وإذا هو قد
أعطي شطر الحسن, قال: هذا يوسف فسلم عليه, فسلمت عليه فرد علي, ثم قال: مرحبا
بالأخ الصالح, والنبي الصالح.
ثم صعد بي حتى أتى السماء
الرابعة, فاستفتح, قيل: من هذا؟ قال: جبريل, قيل: ومن معك؟ قال: محمد, قيل: وقد
أرسل إليه؟ قال: نعم, قيل: مرحبا به فنعم المجيء جاء, ففتح فلما خلصت فإذا إدريس,
قال هذا إدريس فسلم عليه, فسلمت عليه, فرد ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي
الصالح.
ثم صعد بي حتى أتى السماء
الخامسة فاستفتح, قيل: من هذا؟ قال: جبريل, قيل: ومن معك؟ قال: محمد, قيل: وقد
أرسل إليه؟ قال: نعم, قيل: مرحبا به فنعم المجيء جاء, فلما خلصت فإذا هارون, قال:
هذا هارون فسلم عليه, فسلمت عليه فرد ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح.
ثم صعد بي حتى أتى السماء
السادسة فاستفتح, قيل: من هذا؟ قال: جبريل, قيل: ومن معك؟ قال: محمد, قيل: وقد
أرسل إليه؟ قال: نعم, قيل: مرحبا به فنعم المجيء جاء, فلما خلصت فإذا موسى, قال:
هذا موسى فسلم عليه, فسلمت عليه فرد ثم قال: مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح,
فلما جاوزت بكى قيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكي لأن غلاما بعث بعدي يدخل الجنة من
أمته أكثر ممن يدخلها من أمتي .
ثم صعد بي إلى السماء السابعة,
فاستفتح جبريل, قيل: من هذا؟ قال جبريل, قيل: ومن معك؟ قال: محمد, قيل: وقد أرسل
إليه؟ قال: نعم, قيل: مرحبا به فنعم المجيء جاء, فلما خلصت فإذا إبراهيم, قال: هذا
أبوك إبراهيم, فسلم عليه, فسلمت عليه فرد السلام, ثم قال: مرحبا بالنبي الصالح
والابن الصالح, فرفع لي البيت المعمور, فسألت جبريل فقال: هذا البيت المعمور يصلي
فيه كل يوم سبعون ألف ملك, إذا خرجوا لم يعودوا إليه آخر ما عليهم.
وقال ثابت عن أنس: فإذا أنا بإبراهيم
مسند ظهره إلى البيت المعمور, وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه,
ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى فإذا نبقها مثل قلال هجر, وإذا ورقها مثل آذان الفيلة,
قال: فلما غشيها من أمر الله ما غشي تغيرت, فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها
من حسنها, في أصلها أربعة أنهار: نهران باطنان, ونهران ظاهران, فقلت: ما هذان يا
جبريل؟ فقال: أما الباطنان فنهران في الجنة وأما الظاهران فالنيل والفرات.
وأوحى إلي ما أوحى, ففرض علي
خمسين صلاة في كل يوم وليلة, فنـزلت إلى موسى, فقال: ما فرض ربك على أمتك؟ قلت:
خمسين صلاة, قال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف, فإن أمتك لا تطيق ذلك فإني قد بلوت
بني إسرائيل وخبرتهم, قال: فرجعت إلى ربي فقلت: يا رب خفف على أمتي فحط عني خمسا
فرجعت إلى موسى فقلت: حط عني خمسا, قال: إن أمتك لا تطيق ذلك فارجع إلى ربك فاسأله
التخفيف.
قال: فلم أزل أرجع بين ربي وبين
موسى حتى قال: يا محمد إنهن خمس صلوات كل يوم وليلة لكل صلاة عشر هي خمس وهي خمسون
لا يبدل القول لدي, ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة, فإن عملها كتبت له
عشرا, ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب شيئا, فإن عملها كتبت سيئة واحدة.
قال: فنـزلت حتى انتهيت إلى
موسى فأخبرته, فقال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك. فقلت: سألت ربي حتى
استحييت ولكني أرضى وأسلم, قال: فلما جاوزت نادى مناد: أمضيت فريضتي وخففت عن
عبادي, ثم أدخلت الجنة فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ وإذا ترابها المسك.
قال ابن شهاب: فأخبرني ابن حزم أن
ابن عباس وأبا حبة الأنصاري, كانا يقولان: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ثم عرج
بي حتى ظهرت لمستوى فيه صريف الأقلام .
قال ابن حزم وأنس: قال النبي
صلى الله عليه وسلم: ففرض الله على أمتي خمسين صلاة .
وروى معمر عن قتادة عن أنس أن
النبي صلى الله عليه وسلم: أتي بالبراق ليلة أسري به ملجما مسرجا, فاستصعب عليه,
فقال جبريل: أبمحمد تفعل هذا؟ فما ركبك أحد أكرم على الله منه, فارفض عرقا .
وقال ابن بريدة عن أبيه قال:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: لما انتهينا إلى بيت المقدس قال جبريل بأصبعه فخرق
بها الحجر وشد بها البراق .
أنبأنا عبد الواحد المليحي,
أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي, حدثنا محمد بن يوسف, حدثنا محمد بن إسماعيل,
حدثني محمود, أنبأنا عبد الرزاق أنبأنا معمر عن الزهري أخبرني سعيد بن المسيب عن
أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ليلة
أسري بي لقيت موسى, قال: فنعته فإذا هو رجل - حسبته قال مضطرب- رجل الرأس كأنه من
رجال شنوءة » . قال: ولقيت عيسى فنعته النبي صلى الله عليه وسلم فقال: « ربعة
أحمر كأنما خرج من ديماس يعني: الحمام ورأيت إبراهيم وأنا أشبه ولده به, قال:
وأتيت بإناءين: أحدهما لبن والآخر فيه خمر, فقيل لي: خذ أيهما شئت فأخذت اللبن
فشربته, فقيل لي: هديت الفطرة [ أو أصبت الفطرة ] أما
إنك لو أخذت الخمر غوت أمتك » .
أنبأنا عبد الواحد المليحي
حدثنا أحمد بن عبد الله النعيمي حدثنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا
الحميدي حدثنا سفيان حدثنا عمرو عن عكرمة عن ابن عباس في قوله: وَمَا جَعَلْنَا
الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ , قال: هي رؤيا عين أريها
النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به إلى بيت المقدس. قال: والشجرة الملعونة في
القرآن قال: هي شجرة الزقوم .
أخبرنا عبد الواحد المليحي
أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي حدثنا محمد بن يوسف, حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا
عبد العزيز بن عبد الله حدثني سليمان عن شريك بن عبد الله قال: سمعت أنس بن مالك
يقول: ليلة أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم من مسجد الكعبة أنه جاءه ثلاثة نفر
قبل أن يوحى إليه وهو نائم في المسجد الحرام, فقال أولهم: أيهم هو؟ فقال أوسطهم:
هو خيرهم, فقال آخرهم: خذوا خيرهم, فكانت تلك الليلة فلم يرهم حتى أتوه ليلة أخرى
فيما يرى قلبه, وتنام عينه ولا ينام قلبه وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام
قلوبهم, فلم يكلموه حتى احتملوه ووضعوه عند بئر زمزم, فشق جبريل ما بين نحره إلى
لبته حتى فرغ من صدره وجوفه, فغسله من ماء زمزم بيده. وساق حديث المعراج بقصته.
فقال: فإذا هو في السماء الدنيا بنهرين يطردان, قال: هذا النيل والفرات عنصرهما
واحد, ثم مضى به في السماء الثانية فإذا هو بنهر آخر عليه قصر من لؤلؤ وزبرجد فضرب
يده فإذا هو مسك أذفر, قال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذي خبأ لك ربك.
وساق الحديث, وقال: ثم عرج بي إلى السماء السابعة, وقال: قال موسى: رب لم أظن أن
ترفع علي أحدا, ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله حتى جاء سدرة المنتهى
ودنا الجبار رب العزة فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى فأوحى إليه فيما أوحى
إليه خمسين صلاة كل يوم وليلة وقال فلم يزل يردده موسى إلى ربه حتى صارت إلى خمس
صلوات ثم احتبسه موسى عند الخمس فقال: يا محمد والله لقد راودت بني إسرائيل قومي
على أدنى من هذا فضعفوا عنه وتركوه فأمتك أضعف قلوبا وأجسادا وأبدانا وأبصارا
وأسماعا, فارجع فليخفف عنك ربك, كل ذلك يلتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى جبريل
ليشير عليه, ولا يكره ذلك جبريل, فرفعه عند الخامسة فقال: يا رب إن أمتي ضعفاء
أجسادهم وقلوبهم وأسماعهم وأبدانهم فخفف عنا فقال الجبار: يا محمد, قال: لبيك
وسعديك, قال: إنه لا يبدل القول لدي كما فرضت عليك في أم الكتاب فكل حسنة بعشر
أمثالها فهي خمسون في أم الكتاب وهي خمس عليك فقال موسى: ارجع إلى ربك فليخفف عنك
أيضا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « قد
والله استحييت من ربي مما اختلفت إليه » , قال:
فاهبط بسم الله, فاستيقظ وهو في المسجد الحرام.
وروى مسلم هذا الحديث مختصرا عن
هارون بن سعيد الإيلي عن ابن وهب عن سليمان بن بلال .
قال شيخنا الإمام رضي الله عنه:
قد قال بعض أهل الحديث ما وجدنا لمحمد بن إسماعيل ولمسلم في كتابيهما شيئا لا
يحتمل مخرجا إلا هذا, وأحال الأمر فيه إلى شريك بن عبد الله, وذلك أنه ذكر فيه أن
ذلك قبل أن يوحى إليه, واتفق أهل العلم على أن المعراج كان بعد الوحي بنحو من
اثنتي عشرة سنة قبل الهجرة بسنة.
وفيه أيضا: « أن
الجبار دنا فتدلى » . وذكرت عائشة أن الذي دنا
فتدلى جبريل عليه السلام .
قال شيخنا الإمام رضي الله عنه:
وهذا الاعتراض عندي لا يصح, لأن هذا كان رؤيا في النوم, أراه الله عز وجل قبل
الوحي بدليل آخر الحديث: قال فاستيقظ وهو في المسجد الحرام, ثم عرج به في اليقظة
بعد الوحي قبل الهجرة بسنة تحقيقا لرؤياه من قبل كما أنه رأى فتح مكة في المنام
عام الحديبية سنة ست من الهجرة, ثم كان تحقيقه سنة ثمان ونـزل قوله عز وجل لَقَدْ
صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ (
الفتح- 27 ) .
وروي أنه لما رجع رسول الله صلى
الله عليه وسلم ليلة أسري به وكان بذي طوى قال: يا جبريل إن قومي لا يصدقوني, قال:
يصدقك أبو بكر وهو الصديق .
قال ابن عباس وعائشة رضي الله
عنهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما كانت ليلة أسري بي فأصبحت بمكة فضقت
بأمري وعرفت أن الناس مكذبي فروي أنه عليه الصلاة والسلام قعد معتزلا حزينا فمر به
أبو جهل فجلس إليه فقال له كالمستهزئ: هل استفدت من شيء؟ قال: نعم إني أسري بي
الليلة قال: إلى أين؟ قال: إلى بيت المقدس, قال: ثم أصبحت بين ظهرانينا قال: نعم,
فلم ير أبو جهل أنه ينكر مخافة أن يجحده الحديث قال: أتحدث قومك ما حدثتني؟ قال:
نعم, قال أبو جهل: يا معشر بني كعب بن لؤي هلموا, قال: فانفضت إليه المجالس فجاؤوا
حتى جلسوا إليهما, قال: فحدث قومك ما حدثتني قال: نعم إني أسري بي الليلة, قالوا:
إلى أين؟ قال: إلى بيت المقدس, قالوا: ثم أصبحت بين ظهرانينا؟ قال: نعم قال: فمن
بين مصفق ومن بين واضع يده على رأسه متعجبا, وارتد ناس ممن كان آمن به وصدقه وسعى
رجل من المشركين إلى أبي بكر فقال: هل لك في صاحبك يزعم أنه أسري به الليلة إلى
بيت المقدس قال: أوقد قال ذلك؟ قال: نعم, قال: لئن كان قال ذلك لقد صدق قالوا:
وتصدقه أنه ذهب إلى بيت المقدس في ليلة وجاء قبل أن يصبح؟ قال: نعم إني لأصدقه بما
هو أبعد من ذلك أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة فلذلك سمي أبو بكر الصديق.
قال: وفي القوم من قد أتى
المسجد الأقصى, فقالوا: هل تستطيع أن تنعت لنا المسجد؟ قال: نعم قال: فذهبت أنعت
وأنعت فما زلت أنعت حتى التبس علي [ بعض
النعت ] قال: فجيء بالمسجد وأنا أنظر إليه حتى وضع دون دار عقيل
فنعت المسجد وأنا أنظر إليه فقال القوم: أما النعت فوالله لقد أصاب ثم قالوا: يا
محمد أخبرنا عن عيرنا هي أهم إلينا فهل لقيت منها شيئا؟ قال: نعم مررت على عير بني
فلان وهي بالروحاء وقد أضلوا بعيرا لهم وهم في طلبه وفي رحالهم قدح من ماء فعطشت
فأخذته فشربته ثم وضعته كما كان فسلوهم هل وجدوا الماء في القدح حين رجعوا إليه؟
قالوا: هذه آية قال: ومررت بعير بني فلان، وفلان وفلان راكبان قعودا لهما بذي طوى
فنفر بعيرهما مني فرمى بفلان فانكسرت يده فسلوهما عن ذلك قالوا: وهذه آية قالوا:
فأخبرنا عن عيرنا نحن؟ قال: مررت بها بالتنعيم قالوا: فما عدتها وأحمالها وهيئتها
ومن فيها؟ قال: نعم هيئتها كذا وكذا وفيها فلان وفلان يقدمها جمل أورق عليه
غرارتان مخيطتان تطلع عليكم عند طلوع الشمس قالوا: وهذه آية ثم خرجوا يشتدون نحو
الثنية وهم يقولون والله لقد قص محمد شيئا وبينه حتى أتوا كدى فجلسوا عليه فجعلوا
ينتظرون متى تطلع الشمس فيكذبونه إذ قال قائل منهم: والله هذه الشمس قد طلعت وقال
آخر: وهذه والله الإبل قد طلعت يقدمها بعير أورق فيها فلان وفلان كما قال لهم فلم
يؤمنوا وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ .
أنبأنا إسماعيل بن عبد القاهر
أنبأنا عبد الغافر بن محمد أنبأنا محمد بن عيسى الجلودي أنبأنا إبراهيم بن محمد بن
سفيان حدثنا مسلم بن الحجاج حدثني زهير بن حرب حدثنا حجر بن المثنى أنبأنا عبد
العزيز - وهو ابن أبي سلمة- عن عبد الله بن الفضل عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن
أبي هريرة رضي الله عنهم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لقد
رأيتني في الحجر وقريش تسألني عن مسراي فسألتني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها
فكربت كربا ما كربت مثله قط قال: فرفعه الله لي أنظر إليه ما يسألوني عن شيء إلا
أنبأتهم به ولقد رأيتني في جماعة من الأنبياء فإذا موسى قائم يصلي فإذا رجل ضرب
جعد كأنه من رجال شنوءة وإذا عيسى قائم يصلي أقرب الناس به شبها عروة بن مسعود
الثقفي وإذا إبراهيم قائم يصلي أشبه الناس به صاحبكم - يعني نفسه- فجاءت الصلاة
فأممتهم فلما فرغت من الصلاة قال لي قائل: يا محمد هذا مالك صاحب النار فسلم عليه
فالتفت إليه فبدأني بالسلام » .
وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ
وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلا ( 2 )
ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا ( 3 )
وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ
مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا ( 4 )
قوله عز وجل (
وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلا ) بأن لا
( تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلا ) ربا وكفيلا.
قرأ أبو عمرو « لا
يتخذوا » بالياء لأنه خبر عنهم والآخرون: بالتاء يعني: قلنا لهم لا
تتخذوا. ( ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا ) قال
مجاهد: هذا نداء يعني: يا ذرية من حملنا, ( مَعَ
نُوحٍ ) في السفينة فأنجيناهم من الطوفان, (
إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا ) كان نوح عليه السلام إذا أكل
طعاما أو شرب شرابا أو لبس ثوبا قال: الحمد لله فسمي عبدا شكورا أي كثير الشكر.
قوله عز وجل: ( وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي
إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ ) الآيات.
روى سفيان بن سعيد الثوري عن
منصور بن المعتمر عن ربعي بن حراش عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
« إن بني إسرائيل لما اعتدوا وقتلوا الأنبياء بعث الله عليهم
ملك فارس » بختنصر « , وكان الله ملكه سبعمائة سنة
فسار إليهم حتى دخل بيت المقدس فحاصرها وفتحها وقتل على دم يحيى بن زكريا عليه
السلام سبعين ألفا ثم سبى أهلها [
والأبناء ] وسلب حلي بيت المقدس واستخرج منها سبعين ألفا ومائة ألف
عجلة من حلي, قلت: يا رسول الله كان بيت المقدس عظيما؟ قال: أجل بناه سليمان بن
داود من ذهب وفضة وياقوت وزبرجد, وكان عمده ذهبا, أعطاه الله ذلك, وسخر له
الشياطين يأتونه بهذه الأشياء في طرفة عين فسار بها بختنصر حتى نـزل بابل فأقام
بنو إسرائيل في يده مائة سنة يستعبدهم المجوس وأبناء المجوس فيهم الأنبياء ثم إن
الله رحمهم فأوحى إلى ملك من ملوك فارس يقال له » كورش « وكان
مؤمنا أن يسير إليهم ليستنقذ بقايا بني إسرائيل فسار كورش لبني إسرائيل وأخذ حلي
بيت المقدس حتى ردها إليه فأقام بنو إسرائيل بها مطيعين لله تعالى مائة سنة ثم
إنهم عادوا في المعاصي فسلط الله عليهم ملكا يقال له »
أنطانيوس « فغزا بني إسرائيل حتى أتاهم بيت المقدس فسبى أهلها وأحرق
بيت المقدس وقال لهم يا بني إسرائيل إن عدتم في المعاصي عدنا عليكم ثانيا [
بالسبي ] فعادوا فسلط الله عليهم ملك رومية يقال له » فاقس بن
أستيانوس « , فغزاهم في البر والبحر فسباهم وسبى حلي بيت المقدس وأحرق
بيت المقدس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا من صفة حلي بيت المقدس ويرده
المهدي إلى بيت المقدس وهو ألف وسبعمائة سفينة يرمي بها على يافا حتى تنقل إلى بيت
المقدس وبها يجمع الله الأولين والآخرين » .
قال محمد بن إسحاق: كانت بنو
إسرائيل فيهم الأحداث والذنوب وكان الله في ذلك متجاوزا عنهم محسنا إليهم وكان أول
ما نـزل بهم بسبب ذنوبهم كما أخبر على لسان موسى عليه السلام أن ملكا منهم كان
يدعى « صديقة » وكان الله تعالى إذا ملك الملك
عليهم بعث معه نبيا يسدده ويرشده لا ينـزل عليهم الكتب إنما يؤمرون باتباع التوراة
والأحكام التي فيها.
فلما ملك ذلك الملك بعث الله
معه « شعياء بن أصفيا » وذلك
قبل مبعث زكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام و « شعياء
» هو الذي بشر بعيسى ومحمد عليهما السلام, فقال: أبشري
أورشليم, الآن يأتيك راكب الحمار ومن بعده صاحب البعير فملك ذلك الملك بني إسرائيل
وبيت المقدس زمانا فلما انقضى ملكه عظمت فيهم الأحداث وشعياء معه بعث الله عليهم «
سنجاريب » ملك بابل معه ستمائة ألف راية فأقبل سائرا حتى نـزل حول بيت
المقدس والملك مريض في ساقه قرحة فجاء النبي شعياء وقال له: يا ملك بني إسرائيل إن
سنجاريب ملك بابل قد نـزل بك هو وجنوده بستمائة ألف راية وقد هابهم الناس وفرقوا
فكبر ذلك على الملك فقال يا نبي الله هل أتاك وحي من الله فيما حدث فتخبرنا به كيف
يفعل الله بنا وبسنجاريب وجنوده؟
فقال: لم يأتني وحي فبينما هم
على ذلك أوحى الله إلى شعياء النبي أن ائت ملك بني إسرائيل فمره أن يوصي وصيته
ويستخلف - على ملكه من يشاء من أهل بيته- فأتى شعياء ملك بني إسرائيل « صديقة
» فقال له: إن ربك قد أوحى إلي أن آمرك أن توصي وصيتك وتستخلف
من شئت على ملكك من أهل بيتك فإنك ميت فلما قال ذلك شعياء لصديقة أقبل على القبلة
فصلى ودعا وبكى فقال وهو يبكي وتضرع إلى الله بقلب مخلص: اللهم رب الأرباب وإله
الآلهة يا قدوس المتقدس يا رحمن يا رحيم يا رءوف الذي لا تأخذه سنة ولا نوم اذكرني
بعملي وفعلي وحسن قضائي على بني إسرائيل وذلك كله كان منك وأنت أعلم به مني سري
وعلانيتي لك وأنت الرحمن فاستجاب له وكان عبدا صالحا فأوحى الله تعالى إلى شعياء
أن يخبر صديقه أن ربه قد استجاب له ورحمه وأخر له أجله خمس عشرة سنة وأنجاه من
عدوه سنجاريب فأتاه شعياء فأخبره بذلك فلما قال له ذلك ذهب عنه الوجع وانقطع عنه
الحزن وخر ساجدا وقال: يا إلهي وإله آبائي لك سجدت وسبحت وكبرت وعظمت أنت الذي
تعطي الملك لمن تشاء وتنـزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء عالم الغيب
والشهادة أنت الأول والآخر والظاهر والباطن وأنت ترحم وتستجيب دعوة المضطرين وأنت
الذي أجبت دعوتي ورحمت تضرعي.
فلما رفع رأسه أوحى الله إلى
شعياء أن قل للملك صديقه فيأمر عبدا من عبيده فيأتيه بماء التين فيجعله على قرحته
فيشفى يصبح وقد برأ ففعل وشفي.
وقال الملك لشعياء: سل ربك أن
يجعل لنا علما بما هو صانع بعدونا هذا.
قال الله لشعياء: قل له: إني قد
كفيتك عدوك وأنجيتك منهم وإنهم سيصبحون موتى كلهم إلا سنجاريب وخمسة نفر من كتابه.
فلما أصبحوا جاء صارخ فصرخ على
باب المدينة يا ملك بني إسرائيل إن الله قد كفاك عدوك فاخرج فإن سنجاريب ومن معه
قد هلكوا فلما خرج الملك التمس سنجاريب فلم يوجد في الموتى فبعث الملك في طلبه
فأدركه الطلب في مغارة وخمسة نفر من كتابه أحدهم بختنصر فجعلوهم في الجوامع ثم
أتوا بهم إلى ملك بني إسرائيل فلما رآهم خر ساجدا من حين طلعت الشمس إلى العصر ثم
قال لسنجاريب: كيف ترى فعل ربنا بكم؟ ألم يقتلكم بحوله وقوته ونحن وأنتم غافلون؟
فقال سنجاريب له: قد أتاني خبر ربكم ونصره إياكم ورحمته التي يرحمكم بها قبل أن
أخرج من بلادي فلم أطع مرشدا ولم يلقني في الشقوة إلا [ ذلة
في الدنيا وعذاب في الآخرة ] فلو سمعت أو عقلت ما غزوتكم.
فقال صديقه: الحمد لله رب
العالمين الذي كفاناكم بما شاء وإن ربنا لم يبقك ومن معك لكرامتك على ربك ولكنه
إنما أبقاك ومن معك لتزدادوا شقوة في الدنيا وعذابا في الآخرة ولتخبروا من وراءكم
بما رأيتم من فعل ربنا بكم فتنذروا من بعدكم ولولا ذلك لقتلكم ولدمك ولدم من معك
أهون على الله من دم قراد لو قتلت.
ثم إن ملك بني إسرائيل أمر أمير
حرسه فقذف في رقابهم الجوامع فطاف بهم سبعين يوما حول بيت المقدس وإيليا وكان
يرزقهم كل يوم خبزتين من شعير لكل رجل منهم فقال سنجاريب لملك بني إسرائيل: القتل
خير مما تفعل بنا فأمر بهم الملك إلى سجن القتل فأوحى الله إلى شعياء عليه السلام:
أن قل لملك بني إسرائيل يرسل سنجاريب ومن معه لينذروا من وراءهم وليكرمهم وليحملهم
حتى يبلغوا بلادهم فبلغ شعياء الملك ذلك ففعل [
الملك صديقه ] ما أمر به فخرج سنجاريب ومن معه حتى قدموا بابل فلما قدموا
جمع الناس فأخبرهم كيف فعل الله بجنوده فقال له كهانه وسحرته يا ملك بابل قد كنا
نقص عليك خبر ربهم وخبر نبيهم ووحي الله إلى نبيهم فلم تطعنا وهي أمة لا يستطيعها
أحد مع ربهم وكان أمر سنجاريب تخويفا لهم ثم كفاهم الله تذكرة وعبرة.
ثم لبث سنجاريب بعد ذلك سبع
سنين ثم مات واستخلف بختنصر ابن ابنه على ما كان عليه جده يعمل عمله فلبث سبع عشرة
سنة ثم قبض الله ملك بني إسرائيل صديقه فمرج أمر بني إسرائيل وتنافسوا الملك حتى
قتل بعضهم بعضا ونبيهم شعياء معهم ولا يقبلون منه، فلما فعلوا ذلك قال الله لشعياء
قم في قومك أوحي على لسانك فلما قام النبي شعياء أنطق الله لسانه بالوحي فقال: يا
سماء اسمعي ويا أرض أنصتي فإن الله يريد أن يقص شأن بني إسرائيل الذين رباهم
بنعمته واصطنعهم لنفسه وخصهم بكرامته وفضلهم على عباده وهم كالغنم الضائعة التي لا
راعي لها فآوى شاردتها وجمع ضالتها وجبر كسرها وداوى مريضها وأسمن مهزولها وحفظ
سمينها فلما فعل ذلك بطرت فتناطحت كباشها فقتل بعضها بعضا حتى لم يبق منها عظم
صحيح يجبر إليه آخر كسير فويل لهذه الأمة الخاطئة الذين لا يدرون أنى جاءهم الخير
أن البعير مما يذكر وطنه فينتابه وأن الحمار مما يذكر الأري الذي شبع عليه فيراجعه
وأن الثور مما يذكر المرج الذي سمن فيه فينتابه وأن هؤلاء القوم لا يذكرون من حيث
جاءهم الخير وهم أولو الألباب والعقول ليسوا ببقر ولا حمير وأني ضارب لهم مثلا
فليسمعوه قل لهم كيف ترون في أرض كانت خواء زمانا خرابا مواتا لا عمران فيها وكان لها
رب حكيم قوي فأقبل عليها بالعمارة وكره أن تخرب أرضه وهو قوي أو أن يقال ضيع وهو
حكيم فأحاط عليها جدارا وشيد فيها قصورا وأنبط نهرا وصنف فيها غراسا من الزيتون
والرمان والنخيل والأعناب وألوان الثمار كلها وولى ذلك واستحفظه ذا رأي وهمة حفيظا
قويا أمينا فلما أطلعت جاء طلعها خروبا؟
قالوا بئست الأرض هذه فنرى أن
يهدم جدارها وقصرها ويدفن نهرها ويقبض قيمها ويحرق غرسها حتى تصير كما كانت أول
مرة خرابا مواتا لا عمران فيها قال الله: قال لهم: فإن الجدار ديني وإن القصر
شريعتي وإن النهر كتابي وأن القيم نبيي وإن الغراس هم وإن الخروب الذي أطلع الغراس
أعمالهم الخبيثة وأني قد قضيت عليهم قضاءهم على أنفسهم وإنه مثل ضربته لهم يتقربون
إلي بذبح البقر والغنم وليس ينالني اللحم ولا آكله ويدعون أن يتقربوا إلي بالتقوى
والكف عن ذبح الأنفس التي حرمتها فأيديهم مخضوبة منها وثيابهم متزملة بدمائها
يشيدون لي البيوت مساجد ويطهرون أجوافها وينجسون قلوبهم وأجسادهم ويدنسونها
ويزوقون إلى المساجد ويزينونها ويخربون عقولهم وأحلامهم ويفسدونها فأي حاجة لي إلى
تشييد البيوت ولست أسكنها؟ وأي حاجة لي إلى تزويق المساجد ولست أدخلها؟ إنما أمرت
برفعها لأذكر وأسبح فيها.
يقولون: صمنا فلم يرفع صيامنا [
وصلينا فلم تنور صلاتنا ] وتصدقنا فلم يزك صدقتنا
ودعونا بمثل حنين الحمام وبكينا بمثل عواء الذئاب في كل ذلك لا يستجاب لنا.
قال الله: فاسألهم ما الذي
يمنعني أن أستجيب لهم؟ ألست أسمع السامعين وأبصر الناظرين وأقرب المجيبين وأرحم
الراحمين؟ فكيف أرفع صيامهم وهم يلبسونه بقول الزور ويتقوون عليه بطعمة الحرام؟ أم
كيف أنور صلاتهم وقلوبهم صاغية إلى من يحاربني ويحادني وينتهك محارمي؟ أم كيف تزكى
عندي صدقاتهم وهم يتصدقون بأموال غيرهم؟ إنما آجر عليها أهلها المغصوبين؟ أم كيف
أستجيب دعاءهم وإنما هو قول بألسنتهم والفعل من ذلك بعيد إنما أستجيب للداعي اللين
وإنما أسمع قول المستعفف المسكين وإن من علامة رضاي رضا المساكين.
يقولون لما سمعوا كلامي وبلغتهم
رسالتي: إنها أقاويل منقولة وأحاديث متوارثة وتأليف مما يؤلف السحرة والكهنة
وزعموا أنهم لو شاءوا أن يأتوا بحديث مثله فعلوا ولوا شاءوا أن يطلعوا على علم
الغيب بما يوحي إليهم الشياطين اطلعوا وإني قد قضيت يوم خلقت السماء والأرض قضاء
أثبته وحتمته على نفسي وجعلت دونه أجلا مؤجلا لا بد أنه واقع فإن صدقوا فيما
ينتحلون من علم الغيب فليخبروك متى أنفذه؟ أو في أي زمان يكون؟ وإن كانوا يقدرون
على أن يأتوا بما يشاؤون فليأتوا بمثل هذه القدرة التي بها أمضيت فإني مظهره على
الدين كله ولو كره المشركون وإن كانوا يقدرون على أن يقولوا ما يشاؤون فليقولوا
مثل الحكمة التي بها أدبر أمر ذلك القضاء إن كانوا صادقين وإني قد قضيت يوم خلقت
السماء والأرض أن أجعل النبوة في الأجراء وأن أجعل الملك في الرعاء والعز في
الأذلاء والقوة في الضعفاء والغنى في الفقراء والعلم في الجهالة والحكمة في
الأميين فسلهم متى هذا ومن القائم به ومن أعوان هذا الأمر وأنصاره إن كانوا يعلمون
فإني باعث لذلك نبيا أميا أمينا ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ولا متزين
بالفحش ولا قوال للخنا أسدده لكل جميل وأهب له كل خلق كريم أجعل السكينة لباسه
والبر شعاره والتقوى ضميره والحكمة معقوله والصدق والوفاء طبيعته والعفو والمعروف
خلقه والعدل سيرته [ والحق شريعته ] والهدى
[ والقرآن ] إمامه,
والإسلام ملته وأحمد اسمه أهدي به بعد الضلالة وأعلم به بعد الجهالة وأرفع به بعد
الخمالة وأشهر به بعد النكرة وأكثر به بعد القلة وأغني به بعد العيلة وأجمع به بعد
الفرقة وأؤلف به بين قلوب مختلفة وأهواء متشتة وأمم متفرقة وأجعل أمته خير أمة أخرجت
للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر توحيدا لي وإيمانا وإخلاصا لي يصلون قياما
وقعودا وركعا وسجودا ويقاتلون في سبيلي صفوفا وزحوفا ويخرجون من ديارهم وأموالهم
ابتغاء رضواني ألهمهم التكبير والتوحيد والتسبيح والتحميد والمدحة والتمجيد في
مسيرهم ومجالسهم ومضاجعهم ومناقبهم ومثواهم يكبرون ويهللون ويقدسون على رءوس
الأشراف ويطهرون لي الوجوه والأطراف يعقدون لي الثياب على الأنصاف قربانهم دماؤهم
وأناجيلهم في صدورهم رهبان بالليل ليوث بالنهار ذلك فضلي أوتيه من أشاء وأنا ذو
الفضل العظيم.
فلما فرغ شعياء من مقالته عدوا عليه
ليقتلوه فهرب منهم فلقيته شجرة فانفلقت له فدخل فيها فأدركه الشيطان فأخذ بهدبة من
ثوبه فأراهم إياها فوضعوا المنشار في وسطها فنشروها حتى قطعوها وقطعوه في وسطها
واستخلف الله على بني إسرائيل بعد ذلك رجلا منهم يقال له ناشية بن أموص وبعث لهم
أرمياء بن حلقيا نبيا وكان من سبط هارون بن عمران.
وذكر ابن إسحاق أنه الخضر واسمه
أرمياء سمي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء فقام عنها وهي تهتز خضراء.
فبعث الله أرمياء إلى ذلك الملك
ليسدده ويرشده ثم عظمت الأحداث في بني إسرائيل وركبوا المعاصي واستحلوا المحارم
فأوحى الله إلى أرمياء أن ائت قومك من بني إسرائيل فاقصص عليهم ما آمرك به وذكرهم
نعمتي وعرفهم بأحداثهم فقال أرمياء: يا رب إني ضعيف إن لم تقوني عاجز إن لم تبلغني
مخذول إن لم تنصرني قال الله تعالى: أولم تعلم أن الأمور كلها تصدر عن مشيئتي وأن
القلوب والألسنة بيدي أقلبها كيف شئت إني معك ولن يصل إليك شيء معي فقام أرمياء
فيهم ولم يدر ما يقول فألهمه الله عز وجل في الوقت خطبة بليغة بين فيها ثواب
الطاعة وعقاب المعصية وقال في آخرها عن الله تعالى: وإني حلفت بعزتي لأقيضن لهم
فتنة يتحير فيها الحليم ولأسلطن عليهم جبارا قاسيا ألبسه الهيبة وأنـزع من صدره
الرحمة يتبعه عدد مثل سواد الليل المظلم ثم أوحى الله إلى أرمياء: إني مهلك بني
إسرائيل بيافث ويافث من أهل بابل - على ما ذكرنا في سورة البقرة- فسلط الله عليهم
بختنصر فخرج في ستمائة ألف راية ودخل بيت المقدس بجنوده ووطئ الشام وقتل بني
إسرائيل حتى أفناهم وخرب بيت المقدس وأمر جنوده أن يملأ كل رجل منهم ترسه ترابا ثم
يقذفه في بيت المقدس ففعلوا ذلك حتى ملأوه ثم أمرهم أن يجمعوا من في بلدان بيت
المقدس كلهم فاجتمع عنده كل صغير وكبير من بني إسرائيل فاختار منهم سبعين ألف صبي
فلما خرجت غنائم جنده وأراد أن يقسمها فيهم قالت له الملوك الذين كانوا معه: أيها
الملك لك غنائمنا كلها واقسم بيننا هؤلاء الصبيان الذين اخترتهم من بني إسرائيل
فقسمهم بين الملوك الذين كانوا معه فأصاب كل رجل منهم أربعة غلمان وفرق من بقي من
بني إسرائيل ثلاث فرق فثلثا أقر بالشام وثلثا سبي وثلثا قتل وذهب بناشئة بيت
المقدس وبالصبيان السبعين الألف حتى أقدمهم بابل فكانت هذه الوقعة الأولى التي
أنـزل الله ببني إسرائيل بظلمهم فذلك قوله تعالى: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا
بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ يعني: بختنصر وأصحابه.
ثم إن بختنصر أقام في سلطانه ما
شاء الله ثم رأى رؤيا أعجبته إذ رأى شيئا أصابه فأنساه الله الذي رأى فدعا دانيال
وحنانيا وعزازيا وميشائيل وكانوا من ذراري الأنبياء وسألهم عنها قالوا أخبرنا بها
نخبرك بتأويلها قال: ما أذكرها ولئن لم تخبروني بها وبتأويلها لأنـزعن أكتافكم
فخرجوا من عنده فدعوا الله وتضرعوا إليه فأعلمهم بالذي سألهم عنه, فجاؤوه وقالوا:
رأيت تمثالا قدماه وساقاه من فخار وركبتاه وفخذاه من نحاس وبطنه من فضة وصدره من
ذهب ورأسه وعنقه من حديد قال: صدقتم قالوا: فبينما أنت تنظر إليه وقد أعجبك أرسل
الله تعالى صخرة من السماء فدقته فهي التي أنستكها قال: صدقتم قال: فما تأويلها؟
قالوا: تأويلها أنك رأيت ملك الملوك فبعضهم كان ألين ملكا وبعضهم كان أحسن ملكا
وبعضهم كان أشد ملكا الفخار أضعفه ثم فوقه النحاس أشد منه ثم فوق النحاس الفضة
أحسن من ذلك وأفضل والذهب أحسن من الفضة وأفضل ثم الحديد ملكك فهو أشد وأعز مما
كان قبله والصخرة التي رأيت أرسل الله من السماء فدقته نبي يبعثه الله من السماء
فيدق ذلك أجمع ويصير الأمر إليه.
ثم إن أهل بابل قالوا لبختنصر:
أرأيت هؤلاء الغلمان من بني إسرائيل الذين كنا سألناك أن تعطيناهم ففعلت فإنا قد
أنكرنا نساءنا منذ كانوا معنا لقد رأينا نساءنا انصرفت عنا وجوههن إليهم فأخرجهم
من بين أظهرنا أو اقتلهم قال شأنكم بهم فمن أحب منكم أن يقتل من كان في يده
فليفعل.
فلما قربوهم للقتل بكوا إلى
الله تعالى وقالوا: يا رب أصابنا البلاء بذنوب غيرنا فوعد الله أن يجيبهم, فقتلوا
إلا من استبقى بختنصر منهم دانيال وحنانيا وعزازيا وميشائيل.
ثم لما أراد الله هلاك بختنصر
انبعث فقال لمن في يده من بني إسرائيل: أرأيتم هذا البيت الذي خربته والناس الذين
قتلت منهم؟ وما هذا البيت؟ قالوا: هذا بيت الله وهؤلاء أهله كانوا من ذراري
الأنبياء فظلموا وتعدوا فسلطت عليهم بذنوبهم وكان ربهم رب السموات والأرض ورب
الخلق كلهم يكرمهم ويعزهم فلما فعلوا ما فعلوا أهلكهم الله وسلط عليهم غيرهم
فاستكبر وظن أنه بجبروته فعل ذلك ببني إسرائيل. قال: فأخبروني كيف لي أن أطلع إلى
السماء العليا فأقتل من فيها وأتخذها ملكا لي فإني قد فرغت من الأرض, قالوا: ما
يقدر عليها أحد من الخلائق قال: لتفعلن أو لأقتلنكم عن آخركم, فبكوا وتضرعوا إلى
الله تعالى فبعث الله عليه بقدرته بعوضة فدخلت منخرة حتى عضت بأم دماغه فما كان
يقر ولا يسكن حتى يوجأ له رأسه على أم دماغه فلما مات شقوا رأسه فوجدوا البعوضة
عاضة على أم دماغه ليري الله العباد قدرته ونجى الله من بقي من بني إسرائيل في
يديه فردوهم إلى الشام فبنوا فيه وكثروا حتى كانوا على أحسن ما كانوا عليه.
ويزعمون: أن الله تعالى أحيا
أولئك الذين قتلوا فلحقوا بهم, ثم إنهم لما دخلوا الشام دخلوها وليس معهم عهد من
الله تعالى وكانت التوراة قد احترقت وكان عزير من السبايا الذين كانوا ببابل فرجع
إلى الشام يبكي عليها ليله ونهاره وقد خرج من الناس فهو كذلك إذ أقبل إليه رجل
فقال يا عزير ما يبكيك؟ قال أبكي على كتاب الله وعهده الذي كان بين أظهرنا الذي لا
يصلح دنيانا وآخرتنا غيره قال: أفتحب أن يرد إليك؟ ارجع فصم وتطهر وطهر ثيابك ثم
موعدك هذا المكان غدا فرجع عزير فصام وتطهر وطهر ثيابه ثم عمد إلى المكان الذي
وعده فجلس فيه فأتاه ذلك الرجل بإناء فيه ماء وكان ملكا بعثه الله إليه فسقاه من
ذلك الإناء فمثلت التوراة في صدره فرجع إلى بني إسرائيل فوضع لهم التوراة فأحبوه
حتى لم يحبوا حبه شيئا قط ثم قبضه الله وجعلت بنو إسرائيل بعد ذلك يحدثون الأحداث
ويعود الله عليهم ويبعث فيهم الرسل ففريقا يكذبون وفريقا يقتلون حتى كان آخر من
بعث الله فيهم من أنبيائهم زكريا ويحيى وعيسى وكانوا من بيت آل داود فمات زكريا
وقيل قتل زكريا فلما رفع الله عيسى من بين أظهرهم وقتلوا يحيى بعث الله عليهم ملكا
من ملوك بابل يقال له خردوش فسار إليهم بأهل بابل حتى دخل عليهم الشام فلما ظهر
عليهم أمر رأسا من رءوس جنوده يدعى بيورزاذان صاحب القتل فقال: إني قد كنت حلفت
بإلهي لئن أنا ظفرت على أهل بيت المقدس لأقتلنهم حتى تسيل دماءهم في وسط عسكري إلا
أني لا أجد أحدا أقتله فأمره أن يقتلهم حتى بلغ ذلك منهم بيورزاذان ودخل بيت
المقدس فقام في البقعة التي كانوا يقربون فيها قربانهم فوجد فيها دما يغلي فسألهم
فقال: يا بني إسرائيل ما شأن هذا الدم يغلي؟ أخبروني خبره قالوا: هذا دم قربان لنا
قربناه فلم يقبل منا فلذلك يغلي ولقد قربنا منذ ثمانمائة سنة القربان فيقبل منا
إلا هذا فقال: ما صدقتموني فقالوا: لو كان كأول زماننا لتقبل منا ولكن قد انقطع
منا الملك والنبوة والوحي فلذلك لم يقبل منا فذبح منهم بيورزاذان على ذلك الدم
سبعمائة وسبعين زوجا من رءوسهم فلم يهدأ فأمر فأتى بسبعمائة غلام من غلمانهم
فذبحهم على الدم فلم يهدأ فأمر بسبعة آلاف من شيبهم وأزواجهم فذبحهم على الدم فلم
يبرد فلما رأى بيورزاذان الدم لا يهدأ قال لهم: يا بني إسرائيل ويلكم اصدقوني
واصبروا على أمر ربكم فقد طال ما ملكتم في الأرض تفعلون فيها ما شئتم قبل أن لا
أترك منكم نافخ نار أنثى ولا ذكر إلا قتلته فلما رأوا الجهد وشدة القتل صدقوا
الخبر فقالوا: إن هذا الدم دم نبي كان ينهانا عن أمور كثيرة من سخط الله فلو أنا
أطعناه فيها لكان أرشد لنا وكان يخبرنا بأمركم فلم نصدقه فقتلناه فهذا دمه فقال
لهم بيورزاذان: ما كان اسمه؟ قالوا: يحيى بن زكريا قال الآن صدقتموني لمثل هذا
انتقم ربكم منكم فلما رأى بيورزاذان أنهم صدقوه خر ساجدا وقال لمن حوله: أغلقوا
أبواب المدينة وأخرجوا من كان هاهنا من جيش خردوش وخلا في بني إسرائيل ثم قال: يا
يحيى بن زكريا قد علم ربي وربك ما قد أصاب قومك من أجلك وما قتل منهم فاهدأ بإذن
ربك قبل أن لا أبقي من قومك أحدا فهدأ الدم بإذن الله ورفع بيورزاذان عنهم القتل
وقال آمنت بما آمنت به بنو إسرائيل وأيقنت أنه لا رب غيره وقال لبني إسرائيل: إن
خردوش أمرني أن أقتل منكم حتى تسيل دماؤكم وسط عسكره وإني لست أستطيع [ أن
أعصيه ] قالوا له: افعل ما أمرت به فأمرهم فحفروا خندقا وأمر
بأموالهم من الخيل والبغال والحمير والإبل والبقر والغنم فذبحها حتى سال الدم في
العسكر وأمر بالقتلى الذين قتلوا قبل ذلك فطرحوا على ما قتل من مواشيهم فلم يظن
خردوش إلا أن ما في الخندق من بني إسرائيل فلما بلغ الدم عسكره أرسل إلى بيورزاذان
أن ارفع عنهم القتل.
ثم انصرف إلى بابل وقد أفنى بني
إسرائيل أو كاد [ أن يفنيهم ] وهي
الوقعة الأخيرة التي أنـزل الله ببني إسرائيل وذلك قوله: (
لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرْضِ مَرَّتَيْنِ ) فكانت
الوقعة الأولى بختنصر وجنوده [ والأخرى خردوش وجنوده ] وكانت
أعظم الوقعتين فلم تقم لهم بعد ذلك راية وانتقل الملك بالشام ونواحيها إلى الروم
اليونانية إلا أن بقايا من بني إسرائيل كثروا وكانت لهم الرياسة ببيت المقدس
ونواحيها على غير وجه الملك وكانوا في نعمة إلى أن بدلوا وأحدثوا الأحداث فسلط
الله عليهم ططيوس بن اسبيانوس الرومي فأخرب بلادهم وطردهم عنها ونـزع الله عنهم
الملك والرياسة وضربت عليهم الذلة فليسوا في أمة إلا وعليهم الصغار والجزية وبقي
بيت المقدس خرابا إلى أيام عمر بن الخطاب فعمره المسلمون بأمره.
وقال قتادة: بعث الله عليهم
جالوت في الأولى فسبى وقتل وخرب ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ
يعني في زمان داود, فإذا جاء وعد الآخرة بعث الله عليهم بختنصر فسبى وخرب, ثم قال:
عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ فعاد الله عليهم بالرحمة ثم عاد القوم بشر ما
بحضرتهم فبعث الله عليهم ما شاء من نقمته وعقوبته, ثم بعث الله عليهم العرب كما
قال: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ فهم في العذاب إلى يوم القيامة.
وذكر السدي بإسناده: أن رجلا من
بني إسرائيل رأى في النوم أن خراب بيت المقدس على يدي غلام يتيم ابن أرملة من أهل
بابل يدعى بختنصر وكانوا يصدقون فتصدق رؤياهم فأقبل ليسأل عنه حتى نـزل على أمه
وهو يحتطب فجاء وعلى رأسه حزمة حطب فألقاها ثم قعد فكلمه ثم أعطاه ثلاثة دراهم
فقال: اشتر بهذا طعاما وشرابا فاشترى بدرهم لحما وبدرهم خبزا وبدرهم خمرا فأكلوا
وشربوا وفعل في اليوم الثاني كذلك وفي اليوم الثالث كذلك, ثم قال: إني أحب أن تكتب
لي أمانا إن أنت ملكت يوما من الدهر [
فقال: تسخر مني؟ فقال: إني لا أسخر منك, ولكن ما عليك أن تتخذ بها عندي يدا فكتب
له أمانا وقال: أرأيت ] إن جئت والناس حولك قد حالوا
بيني وبينك, قال: ترفع صحيفتك على قصبة فأعرفك فكتب له وأعطاه ثم إن ملك بني
إسرائيل كان يكرم يحيى بن زكريا ويدني مجلسه وأنه هوي ابنة امرأته وقال ابن عباس:
ابنة أخته فسأل يحيى بن زكريا عن تزويجها فنهاه عن نكاحها فبلغ ذلك أمها فحقدت على
يحيى بن زكريا وعمدت حين جلس الملك على شرابه فألبستها ثيابا رقاقا حمرا وطيبتها
وألبستها الحلي وأرسلتها إلى الملك وأمرتها أن تسقيه, فإن أرادها عن نفسها أبت
عليه حتى يعطيها ما سألته فإذا أعطاها سألت رأس يحيى بن زكريا أن يؤتى به في طست
ففعلت, فلما أرادها قالت لا أفعل حتى تعطيني ما أسألك قال: ما تسأليني؟ قالت: رأس
يحيى بن زكريا في هذا الطست, فقال: ويحك سليني غير هذا, فقالت: ما أريد إلا هذا
فلما أبت عليه بعث فأتي برأسه حتى وضع بين يديه والرأس يتكلم ويقول: لا تحل لك
فلما أصبح إذا دمه يغلي فأمر بتراب فألقي عليه فرقى الدم يعني صعد الدم يغلي ويلقي
عليه من التراب حتى بلغ سور المدينة وهو في ذلك يغلي, فبعث صخابين ملك بابل جيشا
إليهم وأمر عليهم بختنصر فسار بختنصر وأصحابه حتى بلغوا ذلك المكان تحصنوا منه في
مدائنهم فلما اشتد عليهم المقام أراد الرجوع فخرجت إليه عجوز من عجائز بني إسرائيل
فقالت: تريد أن ترجع قبل المدينة؟ قال: نعم قد طال مقامي وجاع أصحابي قالت: أرأيت
إن فتحت لك المدينة تعطيني ما أسألك فتقتل من أمرتك بقتله وتكف إذا أمرتك أن تكف؟
قال: نعم, قالت: إذا أصبحت تقسم جندك أربعة أرباع ثم أقم على كل زاوية ربعا ثم
ارفعوا أيديكم إلى السماء فنادوا: إنا نستفتحك يا الله بدم يحيى بن زكريا فإنها
سوف تتساقط ففعلوا فتساقطت المدينة ودخلوا من جوانبها, فقالت: كف يدك وانطلقت به
إلى دم يحيى بن زكريا وقالت: اقتل على هذا الدم حتى يسكن فقتل عليه سبعين ألفا حتى
سكن, فلما سكن قالت: كف يدك فإن الله لم يرض إذا قتل نبي حتى يقتل من قتله ومن رضي
بقتله وأتاه صاحب الصحيفة بصحيفته فكف عنه وعن أهل بيته فخرب بيت المقدس وطرح فيه
الجيف وأعانه على خرابه الروم من أجل أن بني إسرائيل قتلوا يحيى بن زكريا وذهب معه
بوجوه بني إسرائيل وذهب بدانيال وقوم من أولاد الأنبياء وذهب معه برأس جالوت فلما
قدم بابل وجد صخابين قد مات فملك مكانه وكان أكرم الناس عنده دانيال وأصحابه
فحسدهم المجوس ووشوا بهم إليه وقالوا: إن دانيال وأصحابه لا يعبدون إلهك ولا
يأكلون ذبيحتك فسألهم فقالوا: أجل إن لنا ربا نعبده ولسنا نأكل من ذبيحتكم, فأمر
الملك بخد فخد لهم فألقوا فيه وهم ستة وألقى معهم بسبع ضار ليأكلهم فذهبوا ثم
راحوا فوجدوهم جلوسا والسبع مفترش ذراعيه معهم لم يخدش منهم أحدا ووجدوا معهم رجلا
سابعا فقال: ما هذا السابع إنما كانوا ستة فخرج السابع وكان ملكا فلطمه لطمة فصار
في الوحوش ومسخه الله سبع سنين.
وذكر وهب: أن الله مسخ بختنصر
نسرا في الطير ثم مسخه ثورا في الدواب ثم مسخه أسدا في الوحوش فكان مسخه سبع سنين
وقلبه في ذلك قلب إنسان ثم رد الله إليه ملكه فآمن فسئل وهب أكان مؤمنا؟ فقال وجدت
أهل الكتاب اختلفوا فيه فمنهم من قال مؤمنا ومنهم من قال أحرق بيت المقدس وكتبه
وقتل الأنبياء فغضب الله عليه فلم يقبل توبته.
وقال السدي: ثم إن بختنصر لما
رجع إلى صورته بعد المسخ ورد الله إليه ملكه كان دانيال وأصحابه أكرم الناس عليه فحسدهم
المجوس وقالوا لبختنصر: إن دانيال إذا شرب الخمر لم يملك نفسه أن يبول وكان ذلك
فيهم عارا فجعل لهم طعاما وشرابا فأكلوا وشربوا وقال للبواب: انظر أول من يخرج
ليبول فاضربه بالطبرزين فإن قال أنا بختنصر فقل كذبت بختنصر أمرني فكان أول من قام
للبول بختنصر فلما رآه البواب شد عليه فقال: ويحك أنا بختنصر فقال: كذبت بختنصر
أمرني فضربه فقتله هذا ما ذكره في المبتدأ إلا أن رواية من روى أن بختنصر غزا بني
إسرائيل عند قتلهم يحيى بن زكريا غلط عند أهل السير بل هم مجمعون على أن بختنصر
إنما غزا بني إسرائيل عند قتلهم شعياء في عهد أرمياء ومن وقت أرمياء وتخريب بختنصر
بيت المقدس إلى مولد يحيى بن زكريا أربعمائة وإحدى وستون سنة, وذلك أنهم كانوا
يعدون من لدن تخريب بختنصر بيت المقدس إلى حين عمارته في عهد كيرش بن أخشورش بن
أصيهيد ببابل من قبل بهمن بن اسفنديار [
سبعين سنة ثم من بعد عمارته إلى ظهور الإسكندر على بيت المقدس ثمان وثمانون سنة ثم
من بعد مملكته ] إلى مولد يحيى بن زكريا
ثلثمائة وستون سنة.
والصحيح من ذلك ما ذكر محمد بن
إسحاق.
قوله عز وجل: (
وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ ) أي:
أعلمناهم وأخبرناهم فيما آتيناهم من الكتب أنهم سيفسدون.
والقضاء على وجوه: يكون أمرا,
كقوله: وَقَضَى رَبُّكَ ( الإسراء- 23 ) .
ويكون حكما, كقوله: إِنَّ
رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ ( يونس- 93, والنمل - 78 ) .
ويكون خلقا كقوله: فَقَضَاهُنَّ
سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ( فصلت- 12 ) .
وقال ابن عباس وقتادة: يعني
وقضينا عليهم, و « إلى » بمعنى « على » ,
والمراد بالكتاب: اللوح المحفوظ.
(
لَتُفْسِدُنَّ ) لام القسم مجازه: والله
لتفسدن, ( فِي الأرْضِ مَرَّتَيْنِ )
بالمعاصي والمراد بالأرض: أرض الشام وبيت المقدس, (
وَلَتَعْلُنَّ ) ولتستكبرن ولتظلمن الناس (
عُلُوًّا كَبِيرًا )
فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ
أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا
خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولا ( 5 )
ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ
وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا ( 6 ) إِنْ
أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ
وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا
دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا ( 7 )
( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ
أُولاهُمَا ) يعني: أولى المرتين.
قال قتادة: إفسادهم في المرة الأولى ما خالفوا من أحكام
التوراة, وركبوا المحارم.
وقال ابن إسحاق: إفسادهم في المرة الأولى قتل شعياء بين الشجرة
وارتكابهم المعاصي.
( بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ
عِبَادًا لَنَا ) قال قتادة: يعني جالوت الخزري
وجنوده وهو الذي قتله داود.
وقال سعيد بن جبير: يعني سنجاريب من أهل نينوى.
وقال ابن إسحاق: بختنصر البابلي وأصحابه. وهو الأظهر.
( أُولِي بَأْسٍ ) ذوي
بطش, ( شَدِيدٍ ) في الحرب, (
فَجَاسُوا ) أي فطافوا وداروا (
خِلالَ الدِّيَارِ ) وسطها يطلبونكم ويقتلونكم
والجوس طلب الشيء بالاستقصاء. قال الفراء: جاسوا قتلوكم بين بيوتكم.
( وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولا ) قضاء
كائنا لا خلف فيه. ( ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ
الْكَرَّةَ ) يعني: الرجعة والدولة, (
عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ
نَفِيرًا ) عددا, أي: من ينفر معهم وعاد البلد أحسن مما كان. ( إِنْ
أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأنْفُسِكُمْ ) أي:
لها ثوابها, ( وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ) أي:
فعليها كقوله تعالى: فَسَلامٌ لَكَ (
الواقعة- 91 ) أي: عليك وقيل: فلها الجزاء والعقاب.
( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ
الآخِرَةِ ) أي: المرة الأخيرة من إفسادكم, وذلك قصدهم قتل عيسى عليه
السلام حين رفع, وقتلهم يحيى بن زكريا عليهما السلام, فسلط الله عليهم الفرس
والروم خردوش وطيطوس حتى قتلوهم وسبوهم ونفوهم عن ديارهم, فذلك قوله تعالى (
لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ ) أي: تحزن وجوهكم وسوء الوجه
بإدخال الغم والحزن.
قرأ الكسائي [
ويعقوب ] . « لنسوء » بالنون
وفتح الهمزة على التعظيم كقوله: وَقَضَيْنَا و « بعثنا
» وقرأ ابن عامر وحمزة وأبو بكر بالياء [
وفتح ] الهمزة [ على التوحيد ] أي:
ليسوء الله وجوهكم وقيل: ليسوء الوعد وجوهكم.
وقرأ الباقون بالياء وضم الهمزة على الجمع أي ليسوء العباد
أولوا البأس الشديد وجوهكم. ( وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ ) يعني:
بيت المقدس ونواحيه ( كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ
مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ) وليهلكوا ( مَا
عَلَوْا ) أي: ما غلبوا عليه من بلادكم (
تَتْبِيرًا )
عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ
يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ
حَصِيرًا ( 8 ) إِنَّ
هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ
الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ( 9 )
وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا
أَلِيمًا ( 10 )
( عَسَى
رَبُّكُمْ ) يا بني إسرائيل ( أَنْ
يَرْحَمَكُمْ ) بعد انتقامه منكم فيرد الدولة إليكم (
وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا ) أي: إن عدتم إلى المعصية عدنا
إلى العقوبة. قال قتادة: فعادوا فبعث الله عليهم محمدا صلى الله عليه وسلم فهم
يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون.
( وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ
لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا ) سجنا ومحبسا من الحصر وهو
الحبس.
قال الحسن: حصيرا أي: فراشا.
وذهب إلى الحصير الذي يبسط ويفرش. ( إِنَّ
هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ) أي:
إلى الطريقة التي هي أصوب. وقيل: الكلمة التي هي أعدل وهي شهادة أن لا إله إلا
الله, ( وَيُبَشِّرُ ) يعني:
القرآن ( الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ
لَهُمْ ) بأن لهم ( أَجْرًا كَبِيرًا ) وهو
الجنة. ( وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا
لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ) وهو النار.
وَيَدْعُ الإِنْسَانُ
بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولا ( 11 )
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ
وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ
وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ
تَفْصِيلا ( 12 )
وقوله تعالى: (
وَيَدْعُ الإنْسَانُ ) حذف الواو لفظا لاستقبال
اللام الساكنة كقوله: سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (
العلق- 18 ) , وحذف في الخط أيضا وهي غير محذوفة في المعنى. ومعناه:
ويدعو الإنسان على ماله وولده ونفسه, (
بِالشَّرِّ ) فيقول عند الغضب: اللهم العنه وأهلكه ونحوهما, (
دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ ) أي: كدعائه ربه [
بالخير ] أن يهب له النعمة والعافية ولو استجاب الله دعاءه على نفسه
لهلك ولكن الله لا يستجيب بفضله (
وَكَانَ الإنْسَانُ عَجُولا ) بالدعاء على ما يكره أن
يستجاب له فيه. قال جماعة من أهل التفسير وقال ابن عباس: ضجرا لا صبر له على
السراء والضراء. قوله عز وجل ( وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ
وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ ) أي: علامتين دالتين على
وجودنا ووحدانيتنا وقدرتنا ( فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ
) قال ابن عباس: جعل الله نور الشمس سبعين جزءا ونور القمر
كذلك فمحا من نور القمر تسعة وستين جزءا فجعلها مع نور الشمس .
وحكى أن الله تعالى أمر جبريل
فأمر جناحه على وجه القمر ثلاث مرات فطمس عنه الضوء وبقي فيه النور.
وسأل ابن الكواء عليا عن السواد
الذي في القمر؟ قال: هو أثر المحو .
(
وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً ) منيرة
مضيئة يعني يبصر بها. قال الكسائي: تقول العرب أبصر النهار إذا أضاء بحيث يبصر بها
( لِتَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ
السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ) أي: لو ترك الله الشمس والقمر
كما خلقهما لم يعرف الليل من النهار ولم يدر الصائم متى يفطر ولم يدر وقت الحج ولا
وقت حلول الآجال ولا وقت السكون والراحة. (
وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلا )
وَكُلَّ إِنْسَانٍ
أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا ( 13 )
اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ( 14 ) مَنِ
اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ
عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى
نَبْعَثَ رَسُولا ( 15 )
قوله عز وجل (
وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ) قال
ابن عباس: عمله وما قدر عليه فهو ملازمه أينما كان.
وقال الكلبي ومقاتل: خيره وشره
معه لا يفارقه حتى يحاسبه به.
وقال الحسن: يمنه وشؤمه.
وعن مجاهد: ما من مولود إلا في
عنقه ورقة مكتوب فيها شقي أو سعيد.
وقال أهل المعاني: أراد بالطائر
ما قضى الله عليه أنه عامله وما هو صائر إليه من سعادة أو شقاوة سمي « طائرا
» على عادة العرب فيما كانت تتفاءل وتتشاءم به من سوانح الطير
وبوارحها. وقال أبو عبيدة والقتيـبي: أراد بالطائر حظه من الخير والشر من قولهم:
طار سهم فلان بكذا وخص العنق من بين سائر الأعضاء لأنه موضع القلائد والأطواق
وغيرهما مما يزين أو يشين فجرى كلام العرب بتشبيه الأشياء اللازمة إلى الأعناق.
(
وَنُخْرِجُ لَهُ ) يقول الله تعالى: ونحن نخرج ( يَوْمَ
الْقِيَامَةِ كِتَابًا ) وقرأ الحسن ومجاهد ويعقوب: « ويخرج
له » بفتح الياء وضم الراء معناه: ويخرج له الطائر يوم القيامة
كتابا. وقرأ أبو جعفر « يخرج » بالياء
وضمها وفتح الراء.
(
يَلْقَاهُ ) قرأ ابن عامر وأبو جعفر « يلقاه
» بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف يعني: يلقى الإنسان ذلك
الكتاب أي: يؤتاه وقرأ الباقون بفتح الياء خفيفة أي يراه (
مَنْشُورًا ) وفي الآثار: إن الله تعالى يأمر الملك بطي الصحيفة إذا تم
عمر العبد فلا تنشر إلى يوم القيامة. (
اقْرَأْ كِتَابَكَ ) أي: يقال له: اقرأ كتابك قوله
تعالى: ( كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا )
محاسبا. قال الحسن: لقد عدل عليك من جعلك حسيب نفسك. قال قتادة: سيقرأ يومئذ من لم
يكن قارئا في الدنيا. ( مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا
يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ) لها ثوابه (
وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ) لأن
عليها عقابه.
( وَلا
تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) أي: لا
تحمل حاملة حمل أخرى من الآثام أي: لا يؤخذ أحد بذنب أحد. ( وَمَا
كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا ) إقامة
للحجة وقطعا للعذر, وفيه دليل على أن ما وجب وجب بالسمع لا بالعقل.
وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ
نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا
الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ( 16 )
(
وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا ) قرأ
مجاهد: « أمرنا » بالتشديد أي: سلطنا شرارها
فعصوا وقرأ الحسن وقتادة ويعقوب « آمرنا » بالمد
أي: أكثرنا.
وقرأ الباقون مقصورا مخففا أي:
أمرناهم بالطاعة فعصوا ويحتمل أن يكون معناه جعلناهم أمراء ويحتمل أن تكون بمعنى
أكثرنا يقال: أمرهم الله أي كثرهم الله. وفي الحديث: « خير
المال مهرة مأمورة » أي كثيرة النسل . ويقال: منه
أمر القوم يأمرون أمرا إذا كثروا وليس من الأمر بمعنى الفعل فإن الله لا يأمر
بالفحشاء.
واختار أبو عبيدة قراءة العامة
وقال: لأن المعاني الثلاثة تجتمع فيها يعني الأمر والإمارة والكثرة.
(
مُتْرَفِيهَا ) منعميها وأغنياءها (
فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ ) وجب
عليها العذاب ( فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ) أي:
خربناها وأهلكنا من فيها.
أخبرنا عبد الواحد المليحي,
أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي حدثنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا
يحيى بن بكر حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير أن زينب بنت أبي
سلمة حدثته عن أم حبيبة بنت أبي سفيان عن زينب بنت جحش أن النبي صلى الله عليه
وسلم دخل عليها فزعا وهو يقول: « لا إله إلا الله ويل للعرب من
شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وحلق بأصبعه الإبهام والتي
تليها » قالت زينب فقلت: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: « نعم
إذا كثر الخبث » .
وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ
الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا
بَصِيرًا ( 17 )
قوله: ( وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ
الْقُرُونِ ) أي: المكذبة ( مِنْ
بَعْدِ نُوحٍ ) يخوف كفار مكة (
وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ) قال
عبد الله بن أبي أوفى: القرن مائة وعشرون سنة فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم
في أول قرن وكان في آخره يزيد بن معاوية.
وقيل: مائة سنة. وروي عن محمد بن القاسم عن عبد الله بن بسر
المازني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع يده على رأسه وقال: « سيعيش
هذا الغلام قرنا » قال محمد بن القاسم فما زلنا
نعد له حتى تم له مائة سنة ثم مات.
قال الكلبي: ثمانون سنة. وقيل: أربعون سنة.
مَنْ
كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ
ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا ( 18 ) وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ
وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا
( 19 ) كُلا نُمِدُّ هَؤُلاءِ
وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا ( 20 )
( مَنْ كَانَ يُرِيدُ
الْعَاجِلَةَ ) يعني
الدنيا أي: الدار العاجلة, (
عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ ) من البسط والتقتير ( لِمَنْ نُرِيدُ ) أن نفعل به ذلك أو إهلاكه ( ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ ) في الآخرة ( جَهَنَّمَ يَصْلاهَا ) يدخل نارها ( مَذْمُومًا مَدْحُورًا ) مطرودا مبعدا. ( وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا ) عمل عملها, ( وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ
كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا )
مقبولا. ( كُلا
نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ ) أي:
نمد كلا الفريقين من يريد الدنيا ومن يريد الآخرة, ( مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ ) أي: يرزقهما جميعا ثم يختلف
بهما الحال في المآل ( وَمَا
كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ ) رزق
ربك (
مَحْظُورًا ) ممنوعا
عن عباده فالمراد من العطاء: العطاء في الدنيا وإلا فلا حظ للكفار في الآخرة.
انْظُرْ
كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ
وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا ( 21 ) لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ
إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولا ( 22 )
وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا
إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ
لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا ( 23 )
( انْظُرْ ) يا
محمد (
كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ) في الرزق والعمل [ الصالح ] يعني:
طالب العاجلة وطالب الآخرة, (
وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا ) ( لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ
إِلَهًا آخَرَ ) الخطاب
مع النبي صلى الله عليه وسلم والمراد غيره.
وقيل:
معناه لا تجعل أيها الإنسان [ مع
الله إلها آخر ] ( فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا
مَخْذُولا ) مذموما
من غير حمد مخذولا من غير نصر. قوله عز وجل ( وَقَضَى رَبُّكَ ) وأمر ربك قاله ابن عباس وقتادة والحسن.
قال
الربيع بن أنس: وأوجب ربك.
قال
مجاهد: وأوصى ربك.
وحكي عن
الضحاك بن مزاحم أنه قرأ ووصى ربك. وقال: إنهم ألصقوا الواو بالصاد فصارت قافا .
( أَلا تَعْبُدُوا إِلا
إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ) أي: وأمر بالوالدين إحسانا برا بهما وعطفا عليهما.
( إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ
الْكِبَرَ ) قرأ حمزة
والكسائي بالألف على التثنية فعلى هذا قوله: ( أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا ) كلام مستأنف كقوله تعالى:
ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ ( المائدة- 71 ) وقوله: وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ( الأنبياء- 3 ) وقوله: الَّذِينَ ظَلَمُوا
ابتداء وقرأ الباقون « يبلغن
» على
التوحيد.
( فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ ) فيه ثلاث لغات قرأ ابن كثير
وابن عامر ويعقوب: بفتح الفاء وقرأ أبو جعفر ونافع وحفص بالكسر والتنوين والباقون
بكسر الفاء غير منون ومعناها واحد وهي كلمة كراهية.
قال أبو
عبيدة: أصل التف والأف الوسخ على الأصابع إذا فتلتها.
وقيل: « الأف » : ما يكون في المغابن من الوسخ
و « التف » : ما يكون في الأصابع.
وقيل: « الأف » : وسخ الأذن و « التف » وسخ الأظافر.
وقيل: « الأف » : وسخ الظفر و « التف » : ما رفعته بيدك من الأرض من
شيء حقير.
( وَلا تَنْهَرْهُمَا ) ولا تزجرهما.
( وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا
كَرِيمًا ) حسنا
جميلا لينا قال ابن المسيب: كقول العبد المذنب للسيد الفظ.
وقال
مجاهد: لا تسميهما ولا تكنهما وقل: يا أبتاه [ يا أماه ] .
وقال
مجاهد في هذه الآية أيضا: إذا بلغا عندك من الكبر ما يبولان فلا تتقذرهما ولا تقل
لهما أف حين تميط عنهما الخلاء والبول كما كانا يميطانه عنك صغيرا.
وَاخْفِضْ
لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا
رَبَّيَانِي صَغِيرًا ( 24 )
( وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ
الذُّلِّ ) أي:
ألن جانبك لهما واخضع. قال عروة بن الزبير: لن لهما حتى لا تمتنع عن شيء أحباه ( مِنَ الرَّحْمَةِ ) من الشفقة ( وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا
كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ) أراد:
إذا كانا مسلمين.
قال ابن
عباس: هذا منسوخ بقوله: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ
يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ (
التوبة- 113 ) .
أخبرنا
عبد الواحد المليحي أنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان أخبرنا أبو جعفر محمد بن
أحمد بن عبد الجبار الرياني حدثنا حميد بن زنجويه حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد
بن يزيد عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن - يعني السلمي- عن أبي الدرداء قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « الوالد أوسط أبواب الجنة فحافظ إن شئت أو ضيع » .
أخبرنا
أبو طاهر محمد بن علي الزراد أخبرنا أبو بكر محمد بن إدريس الجرجاني أخبرنا أبو
الحسن علي بن الحسين الماليني أخبرنا حسن بن سفيان حدثنا يحيى بن حبيب بن عدي
حدثنا خالد بن الحارث عن شعبة عن يعلى بن عطاء عن أبيه عن عبد الله بن عمرو عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: « رضا
الله في رضا الوالد وسخط الله في سخط الوالد » .
أخبرنا
أحمد بن عبد الله الصالحي أخبرنا أبو سعيد محمد بن موسى الصيرفي أخبرنا أبو عبد
الله محمد بن عبد الله الصفار حدثنا أبو جعفر محمد بن غالب بن تمتام الضبي حدثنا
عبد الله بن مسلمة حدثنا عبد العزيز بن مسلم عن يزيد بن أبي زياد عن مجاهد عن أبي
سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا يدخل الجنة منان ولا عاق
ولا مدمن خمر » .
أخبرنا
الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي أخبرنا أبو محمد عبد الله بن يوسف بن محمد
بن باموية الأصفهاني أخبرنا أبو سعيد أحمد بن زياد البصري أخبرنا الحسن بن محمد بن
الصباح حدثنا ربعي بن علية عن عبد الرحمن بن إسحاق عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن
أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم
يصل علي ورغم أنف رجل أتى عليه شهر رمضان فلم يغفر له ورغم أنف رجل أدرك أبويه
الكبر فلم يدخلاه الجنة » .
رَبُّكُمْ
أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ
لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا ( 25 )
( رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا
فِي نُفُوسِكُمْ ) من بر
الوالدين وعقوقهما ( إِنْ
تَكُونُوا صَالِحِينَ ) أبرارا
مطيعين بعد تقصير كان منكم في القيام بما لزمكم من حق الوالدين وغير ذلك ( فَإِنَّهُ كَانَ لِلأوَّابِينَ
) بعد
المعصية (
غَفُورًا )
قال سعيد
بن جبير في هذه الآية: هو الرجل يكون منه البادرة إلى أبويه لا يريد بذلك إلا
الخير فإنه لا يؤاخذ به.
قال سعيد
بن المسيب: « الأواب
» : الذي
يذنب ثم يتوب ثم يذنب ثم يتوب.
قال سعيد
بن جبير: الرجاع إلى الخير.
وعن ابن
عباس قال: هو الرجاع إلى الله فيما يحزبه وينوبه.
وعن سعيد
بن جبير عن ابن عباس قال: هم المسبحون, دليله قوله: يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ ( سبأ- 10 ) .
قال
قتادة: هم المصلون.
قال عوف
العقيلي: هم الذين يصلون صلاة الضحى.
أخبرنا
أبو الحسن طاهر بن الحسين الروقي الطوسي أخبرنا أبو الحسن محمد بن يعقوب أخبرنا
أبو النضر محمد بن محمد بن يوسف حدثنا الحسن بن سفيان حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة
حدثنا وكيع عن هشام صاحب الدستوائي عن قتادة عن القاسم بن عوف عن زيد بن أرقم قال:
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل قباء وهم يصلون صلاة الضحى فقال: « صلاة الأوابين إذا رمضت
الفصال من الضحى » .
وقال
محمد بن المنكدر: « الأواب
» : الذي
يصلي بين المغرب والعشاء.
وروي عن
ابن عباس أنه قال: إن الملائكة لتحف بالذين يصلون بين المغرب والعشاء وهي صلاة
الأولين .
وَآتِ
ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ
تَبْذِيرًا ( 26 ) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ
كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا ( 27 )
قوله
تعالى: ( وَآتِ
ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ ) يعني
صلة الرحم وأراد به: قرابة الإنسان وعليه الأكثرون.
عن علي
بن الحسين: أراد به قرابة الرسول صلى الله عليه وسلم .
( وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ
السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا ) أي: لا تنفق مالك في المعصية.
وقال
مجاهد: لو أنفق الإنسان ماله كله في الحق ما كان تبذيرا ولو أنفق مدا في باطل كان
تبذيرا.
وسئل ابن
مسعود عن التبذير فقال: إنفاق المال في غير حقه.
قال
شعبة: كنت أمشي مع أبي إسحاق في طريق الكوفة فأتى على باب دار بني بجص وآجر فقال:
هذا التبذير.
وفي قول
عبد الله: إنفاق المال في غير حقه . ( إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ) أي: أولياؤهم والعرب تقول لكل
ملازم سنة قوم هو أخوهم (
وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا ) جحودا لنعمه.
وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ
عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلا
مَيْسُورًا ( 28 )
( وَإِمَّا
تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ) نـزلت في مهجع وبلال وصهيب
وسالم وخباب كانوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم في الأحايين ما يحتاجون إليه
ولا يجد فيعرض عنهم حياء منهم ويمسك عن القول فنـزل (
وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ) وإن تعرض عن هؤلاء الذين
أمرتك أن تؤتيهم ( ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ
رَبِّكَ تَرْجُوهَا ) انتظار رزق من الله ترجوه أن
يأتيك ( فَقُلْ لَهُمْ قَوْلا مَيْسُورًا ) لينا
وهي العدة أي: عدهم وعدا جميلا وقيل: القول الميسور أن تقول: يرزقنا الله وإياك.
وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ
مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا
مَحْسُورًا ( 29 )
إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ
بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ( 30 ) وَلا
تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ
إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا ( 31 )
( وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ
مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ ) قال جابر: إني صبي فقال: يا
رسول الله إن أمي تستكسيك درعا ولم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قميصه
فقال للصبي: من ساعة إلى ساعة يظهر فعد وقتا آخر فعاد إلى أمه فقالت: قل له إن أمي
تستكسيك الدرع الذي عليك فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم داره فنـزع قميصه
فأعطاه إياه وقعد عريانا فأذن بلال بالصلاة فانتظروه فلم يخرج فشغل قلوب أصحابه
فدخل عليه بعضهم فرآه عريانا فأنـزل الله تعالى: « ولا
تجعل يدك مغلولة إلى عنقك » يعني: ولا تمسك يدك عن النفقة
في الحق كالمغلولة يده لا يقدر على مدها. ( وَلا
تَبْسُطْهَا ) بالعطاء ( كُلَّ الْبَسْطِ ) فتعطي
جميع ما عندك ( فَتَقْعُدَ مَلُومًا ) يلومك
[ سائلوك ]
بالإمساك إذا لم تعطهم و « الملوم » : الذي
أتى بما يلوم نفسه أو يلومه غيره (
مَحْسُورًا ) منقطعا بك لا شيء عندك تنفقه يقال: حسرته بالمسألة إذا
ألحفت عليه ودابة حسيرة إذا كانت كالة رازحة.
قال قتادة: « محسورا
» نادما على ما فرط منك. ( إِنَّ
رَبَّكَ يَبْسُطُ ) يوسع (
الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ ) أي:
يقتر ويضيق ( إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ) قوله
تعالى: ( وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ ) فقر (
نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ ) وذلك
أن أهل الجاهلية كانوا يئدون بناتهم خشية الفاقة فنهوا عنه وأخبروا أن رزقهم ورزق
أولادهم على الله تعالى ( إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ
خِطْئًا كَبِيرًا ) قرأ ابن عامر وأبو جعفر « خَطأ » بفتح
الخاء والطاء مقصورا. وقرأ ابن كثير بكسر الخاء ممدودا وقرأ الآخرون بكسر الخاء
وجزم الطاء ومعنى الكل واحد أي: إثما كبيرا.
وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا
إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلا ( 32 ) وَلا
تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ
مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ
إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا ( 33 )
( وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا
إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلا ) ( وَلا
تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ ) وحقها
ما روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « لا يحل
دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: رجل كفر بعد إيمانه أو زنى بعد إحصانه أو قتل نفسا
بغير نفس فيقتل بها » .
( وَمَنْ
قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا ) أي:
قوة وولاية على القاتل بالقتل قاله مجاهد وقال الضحاك: سلطانه هو أنه يتخير فإن
شاء استقاد منه وإن شاء أخذ الدية وإن شاء عفا.
( فَلا
يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ ) قرأ حمزة والكسائي: « فلا
تسرف » بالتاء يخاطب ولي القتيل وقرأ الآخرون: بالياء على الغائب
أي: لا يسرف الولي في القتل.
واختلفوا في هذا الإسراف الذي
منع منه فقال ابن عباس, وأكثر المفسرين: معناه لا يقتل غير القاتل وذلك أنهم كانوا
في الجاهلية إذا قتل منهم قتيل لا يرضون بقتل قاتله حتى يقتلوا أشرف منه.
وقال سعيد بن جبير: إذا كان
القاتل واحدا فلا يقتل جماعة بدل واحد وكان أهل الجاهلية إذا كان المقتول شريفا لا
يرضون بقتل القاتل [ وحده ] حتى
يقتلوا معه جماعة من أقربائه.
وقال قتادة: معناه لا يمثل
بالقاتل .
(
إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا ) فالهاء راجعة إلى المقتول في
قوله: ( وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا ) يعني:
إن المقتول منصور في الدنيا بإيجاب القود على قاتله وفي الآخرة بتكفير خطاياه
وإيجاب النار لقاتله هذا قول مجاهد.
وقال قتادة: الهاء راجعة إلى
ولي المقتول معناه: أنه منصور على القاتل باستيفاء القصاص منه أو الدية.
وقيل في قوله: ( فَلا
يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ ) إنه أراد به القاتل المعتدي
يقول: لا يتعدى بالقتل بغير الحق فإنه إن فعل ذلك فولي المقتول منصور من قبلي عليه
باستيفاء القصاص منه.
وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ
إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ
إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولا ( 34 )
وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ
ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا ( 35 ) وَلا
تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ
كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا ( 36 )
( وَلا
تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ
أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ )
بالإتيان بما أمر الله به والانتهاء عما نهى الله عنه. وقيل: أراد بالعهد ما
يلتزمه الإنسان على نفسه.
( إِنَّ
الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولا ) قال السدي: كان مطلوبا وقيل:
العهد يسأل عن صاحب العهد فيقال: فيما نقضت كالمؤودة تسأل فيم قتلت؟ (
وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ ) قرأ
حمزة والكسائي وحفص « بالقسطاس » بكسر
القاف والباقون بضمه وهما لغتان وهو الميزان صغر أو كبر أي: بميزان العدل وقال
الحسن: هو القبان قال مجاهد: هو رومي وقال غيره: هو عربي مأخوذ من القسط وهو العدل
أي: زنوا بالعدل ( الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ
خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا ) أي: عاقبة. ( وَلا
تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) قال
قتادة: لا تقل: رأيت ولم تره وسمعت ولم تسمعه وعلمت ولم تعلمه.
وقال مجاهد: لا ترم أحدا بما
ليس لك به علم.
قال القتيـبي: لا تتبعه بالحدس
والظن. وهو في اللغة اتباع الأثر يقال: قفوت فلانا أقفوه وقفيته وأقفيته إذا اتبعت
أثره وبه سميت القافية لتتبعهم الآثار.
قال القتيـبي: هو مأخوذ من
القفا كأنه يقفو الأمور أي: يكون في إقفائها يتبعها ويتعرفها .
وحقيقة المعنى: لا تتكلم [
أيها الإنسان ] بالحدس والظن.
( إِنَّ
السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا ) قيل:
معناه يسأل المرء عن سمعه وبصره وفؤاده.
وقيل: يسأل السمع والبصر
والفؤاد عما فعله المرء.
وقوله: ( كُلُّ
أُولَئِكَ ) أي: كل هذه الجوارح والأعضاء وعلى القول الأول يرجع « أولئك
» [ إلى ]
أربابها.
أخبرنا عبد الواحد المليحي
أخبرنا أبو طاهر أحمد بن محمد بن الحسين أخبرنا أبو علي حامد بن محمد الرفاء حدثنا
أبو الحسن علي بن عبد العزيز أخبرنا الفضل بن دكين حدثنا سعد بن أوس العبسي حدثني
بلال بن يحيى العبسي أن شتير بن شكل أخبره عن أبيه شكل بن حميد قال: أتيت النبي
صلى الله عليه وسلم فقلت: يا نبي الله علمني تعويذا أتعوذ به فأخذ بيدي ثم قال: « قل:
اللهم إني أعوذ بك من شر سمعي وشر بصري وشر لساني وشر قلبي وشر مَنِيَّ » قال:
فحفظتها قال سعد المني ماؤه .
وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ
مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولا ( 37 )
( وَلا
تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحًا ) أي بطرا وكبرا وخيلاء وهو
تفسير المشي فلذلك أخرجه على المصدر, (
إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأرْضَ ) أي لن تقطعها بكبرك حتى تبلغ
آخرها ( وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولا ) أي لا
تقدر أن تطاول الجبال وتساويها بكبرك. معناه: أن الإنسان لا ينال بكبره وبطره شيئا
كمن يريد خرق الأرض ومطاولة الجبال لا يحصل على شيء.
وقيل: ذكر ذلك لأن من مشى
مختالا يمشي مرة على عقبيه ومرة على صدور قدميه فقيل له: إنك لن تنقب الأرض إن
مشيت على عقبيك ولن تبلغ الجبال طولا إن مشيت على صدور قدميك.
أخبرنا أبو محمد عبد الله بن
عبد الصمد الجوزجاني أخبرنا أبو القاسم علي بن أحمد الخزاعي أخبرنا الهيثم بن كليب
حدثنا أبو عيسى الترمذي حدثنا سفيان بن وكيع حدثنا أبي عن المسعودي عن عثمان بن
مسلم بن هرمز عن نافع بن جبير بن مطعم عن علي قال: كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم « إذا مشى يتكفأ تكفؤا كأنما ينحط من صبب » .
أخبرنا أبو محمد الجرجاني
أخبرنا أبو القاسم الخزاعي أخبرنا الهيثم بن كليم حدثنا أبو عيسى الترمذي حدثنا
قتيبة بن سعيد حدثنا ابن لهيعة عن أبي يونس عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: « ما
رأيت شيئا أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم كأن الشمس تجري في وجهه وما رأيت
أحدا أسرع في مشيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما الأرض تطوى له إنا لنجهد
أنفسنا وإنه لغير مكترث » .
كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ
عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا ( 38 )
( كُلُّ ذَلِكَ كَانَ
سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا ) قرأ
ابن عامر وأهل الكوفة: برفع الهمزة وضم الهاء على الإضافة ومعناه: كل الذي ذكرنا
من قوله: وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ ( كَانَ
سَيِّئُهُ ) أي: سيئ ما عددنا عليك عند ربك مكروها؛ لأنه قد عد أمورا
حسنة كقوله: وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ
وغير ذلك.
وقرأ الآخرون: « سيئة » منصوبة
منونة يعني: كل الذي ذكرنا من قوله: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ إلى هذا الموضع
سيئة لا حسنة فيه إذ الكل يرجع إلى المنهي عنه دون غيره ولم يقل مكروهة لأن فيه
تقديما وتأخيرا وتقديره: كل ذلك كان مكروها سيئة. [
وقوله ( مَكْرُوهًا )
على التكرير لا على الصفة مجازه: كل ذلك كان سيئة وكان مكروها ] أو رجع
إلى المعنى دون اللفظ لأن السيئة الذنب وهو مذكر.
ذَلِكَ
مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ
إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا ( 39 )
( ذَلِكَ ) الذي ذكرنا ( مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ
رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ ) وكل ما
أمر الله به أو نهى عنه فهو حكمه.
( وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ ) خاطب النبي صلى الله عليه
وسلم في هذه الآيات والمراد منه الأمة ( فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا ) مطرودا مبعدا من كل خير.
أَفَأَصْفَاكُمْ
رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ
لَتَقُولُونَ قَوْلا عَظِيمًا ( 40 ) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي
هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلا نُفُورًا ( 41 ) قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ
آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلا ( 42 ) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا ( 43 )
تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ
شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ
كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ( 44 )
قوله عز
وجل: (
أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ ) أي:
اختاركم فجعل لكم الصفوة ولنفسه ما ليس بصفوة يعني: اختاركم ( بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ
مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثًا ) لأنهم
كانوا يقولون الملائكة بنات الله ( إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلا عَظِيمًا ) يخاطب مشركي مكة. قوله عز
وجل: (
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ ) يعني: [ ما
ذكر من ] العبر
والحكم والأمثال والأحكام والحجج والإعلام والتشديد للتكثير والتكرير ( لِيَذَّكَّرُوا ) أي: ليتذكروا ويتعظوا وقرأ
حمزة والكسائي بإسكان الذال وضم الكاف وكذلك في الفرقان. ( وَمَا يَزِيدُهُمْ ) تصريفنا وتذكيرنا ( إِلا نُفُورًا ) ذهابا وتباعدا عن الحق. ( قُلْ ) يا محمد لهؤلاء المشركين ( لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ
كَمَا يَقُولُونَ ) قرأ
حفص وابن كثير « يقولون
» بالياء
وقرأ الآخرون بالتاء ( إِذًا
لابْتَغَوْا ) لطلبوا
يعني الآلهة ( إِلَى
ذِي الْعَرْشِ سَبِيلا )
بالمبالغة والقهر ليزيلوا ملكه كفعل ملوك الدنيا بعضهم ببعض.
وقيل:
معناه لطلبوا إلى ذي العرش سبيلا بالتقرب إليه.
قال
قتادة: لعرفوا الله وفضله وابتغوا ما يقربهم إليه.
والأول
أصح. ثم نـزه نفسه فقال عز من قائل: ( سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ ) قرأ حمزة والكسائي « تقولون » بالتاء والآخرون بالياء ( عُلُوًّا كَبِيرًا ) ( تُسَبِّحُ لَهُ
السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ ) قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي
وحفص ويعقوب: « تسبح » بالتاء وقرأ الآخرون بالياء
للحائل بين الفعل والتأنيث.
( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا
يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ) روي عن
ابن عباس أنه قال: وإن من شيء حي إلا يسبح بحمده.
وقال
قتادة: يعني الحيوانات والناميات.
وقال
عكرمة: الشجرة تسبح والأسطوانة لا تسبح.
وعن
المقدام بن معد يكرب قال: إن التراب يسبح ما لم يبتل فإذا ابتل ترك التسبيح وإن
الخرزة تسبح ما لم ترفع من موضعها فإذا رفعت تركت التسبيح وإن الورقة لتسبح ما
دامت على الشجرة فإذا سقطت تركت التسبيح وإن الثوب ليسبح ما دام جديدا فإذا وسخ
ترك التسبيح وإن الماء يسبح ما دام جاريا فإذا ركد ترك التسبيح وإن الوحش والطير
تسبح إذا صاحت فإذا سكنت تركت التسبيح.
وقال
إبراهيم النخعي: وإن من شيء جماد إلا يسبح بحمده حتى صرير الباب ونقيض السقف.
وقال
مجاهد: كل الأشياء تسبح لله حيا كان أو ميتا أو جمادا, وتسبيحها سبحان الله وبحمده.
أخبرنا
عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف حدثنا
محمد بن إسماعيل حدثنا محمد بن المثنى أخبرنا أبو أحمد الزبير أخبرنا إسرائيل عن
منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال: كنا نعد الآيات بركة وأنتم تعدونها
تخويفا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فقل الماء فقال: « اطلبوا فضلة من ماء فجاؤوا
بإناء فيه ماء قليل فأدخل يده في الإناء ثم قال: حي على الطهور المبارك والبركة من
الله فلقد رأيت الماء ينبع من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولقد كنا
نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل » .
وقال بعض
أهل المعاني: تسبح السموات والأرض والجمادات وسائر الحيوانات سوى العقلاء ما دلت
بلطيف تركيبها وعجيب هيئتها على خالقها فيصير ذلك بمنـزلة التسبيح منها.
والأول
هو المنقول عن السلف .
واعلم أن
لله تعالى علما في الجمادات لا يقف عليه غيره فينبغي أن يوكل علمه إليه.
( وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ
تَسْبِيحَهُمْ ) أي لا
تعلمون تسبيح ما عدا من يسبح بلغاتكم وألسنتكم ( إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا )
وَإِذَا
قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ
بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا ( 45 )
وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ
وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى
أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا ( 46 ) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا
يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ
الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلا مَسْحُورًا ( 47 )
قوله عز
وجل: (
وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا
يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا ) يحجب قلوبهم عن فهمه والانتفاع به.
قال
قتادة: هو الأكنة والمستور بمعنى الساتر كقوله: إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا
( مريم-
61 ) مفعول
بمعنى فاعل.
وقيل
مستور عن أعين الناس فلا يرونه.
وفسره
بعضهم بالحجاب عن الأعين الظاهرة, كما روي عن سعيد بن جبير أنه لما نـزلت: تَبَّتْ
يَدَا أَبِي لَهَبٍ جاءت امرأة أبي لهب ومعها حجر والنبي صلى الله عليه وسلم مع
أبي بكر فلم تره فقالت لأبي بكر: أين صاحبك لقد بلغني أنه هجاني؟ فقال: والله ما
ينطق بالشعر ولا يقوله فرجعت وهي تقول قد كنت جئت بهذا الحجر لأرضخ رأسه فقال أبو
بكر: ما رأتك يا رسول الله قال: لا لم يزل ملك بيني وبينها يسترني . ( وَجَعَلْنَا عَلَى
قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً ) أغطية
( أَنْ
يَفْقَهُوهُ ) كراهية
أن يفقهوه. وقيل: لئلا يفقهوه, ( وَفِي
آذَانِهِمْ وَقْرًا ) ثقلا
لئلا يسمعوه (
وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ ) يعني إذا قلت: لا إله إلا
الله في القرآن وأنت تتلوه (
وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا ) جمع « نافر » مثل: قاعد وقعود وجالس وجلوس
أي نافرين. (
نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ ) قيل: « به » صلة أي: يطلبون سماعه, ( إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ
) وأنت تقرأ
القرآن (
وَإِذْ هُمْ نَجْوَى )
يتناجون في أمرك وقيل: ذو نجوى فبعضهم يقول: هذا مجنون وبعضهم يقول كاهن وبعضهم
يقول: ساحر وبعضهم يقول: شاعر ( إِذْ
يَقُولُ الظَّالِمُونَ ) يعني:
الوليد بن المغيرة وأصحابه, ( إِنْ
تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلا مَسْحُورًا ) مطبوبا [
وقال مجاهد ]
مخدوعا. وقيل: مصروفا عن الحق. يقال: ما سحرك عن كذا أي ما صرفك؟
وقال أبو
عبيدة: أي رجلا له سحر, والسحر: الرئة أي: إنه بشر مثلكم معلل بالطعام والشراب
يأكل ويشرب قال الشاعر:
أرانــا
مــوضعين لحــتم غيـب ونســـحر بالطعــام وبالشــراب
أي نغذى
ونعلل.
انْظُرْ
كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا ( 48 ) وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا
عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا ( 49 )
( انْظُرْ ) يا محمد ( كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ
الأمْثَالَ )
الأشباه, قالوا: شاعر وساحر وكاهن ومجنون ( فَضَلُّوا ) فحاروا وحادوا ( فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا ) أي: وصولا إلى طريق الحق. ( وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا
عِظَامًا ) بعد
الموت, (
وَرُفَاتًا ) قال
مجاهد: ترابا وقيل: حطاما. و « الرفات
» : كل ما
تكسر وبلى من كل شيء كالفتات والحطام. ( أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا )
قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ
حَدِيدًا ( 50 ) أَوْ
خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ
الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ
مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا ( 51 )
( قُلْ ) لهم يا
محمد: ( كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا ) في
الشدة والقوة وليس هذا بأمر إلزام بل هو أمر تعجيز أي: استشعروا في قلوبكم أنكم
حجارة أو حديد في القوة. ( أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ
فِي صُدُورِكُمْ ) قيل: السماء والأرض [
والجبال ] .
وقال مجاهد وعكرمة وأكثر
المفسرين: إنه الموت فإنه ليس في نفس ابن آدم شيء أكبر من الموت أي: لو كنتم الموت
بعينه لأميتنكم ولأبعثنكم.
( فَسَيَقُولُونَ مَنْ
يُعِيدُنَا ) من يبعثنا بعد الموت؟ ( قُلِ الَّذِي
فَطَرَكُمْ ) خلقكم ( أَوَّلَ مَرَّةٍ ) ومن
قدر على الإنشاء قدر على الإعادة (
فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ ) أي:
يحركونها إذا قلت لهم ذلك مستهزئين بها (
وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ ) أي: البعث والقيامة ( قُلْ
عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا ) أي: هو قريب لأن عسى من الله
واجب نظيره قوله تعالى: وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (
الأحزاب- 63 ) .
يَوْمَ يَدْعُوكُمْ
فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا ( 52 )
وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ
بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا ( 53 )
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ
يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلا ( 54 )
(
يَوْمَ يَدْعُوكُمْ ) من قبوركم إلى موقف القيامة (
فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ ) قال ابن عباس: بأمره وقال
قتادة: بطاعته وقيل: مقرين بأنه خالقهم وباعثهم ويحمدونه حين لا ينفعهم الحمد
وقيل: هذا خطاب مع المؤمنين فإنهم يبعثون حامدين. (
وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ ) في الدنيا وفي القبور ( إِلا
قَلِيلا ) لأن الإنسان لو مكث ألوفا من السنين في الدنيا وفي القبر عد
ذلك قليلا في مدة القيامة والخلود قال قتادة: يستحقرون مدة الدنيا في جنب القيامة.
قوله تعالى: ( وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) قال الكلبي:
كان المشركون يؤذون المسلمين فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأنـزل الله
تعالى: ( وَقُلْ لِعِبَادِي )
المؤمنين ( يَقُولُوا )
للكافرين ( الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) ولا
يكافؤوهم بسفههم. قال الحسن: يقول له: يهديك الله وكان هذا قبل الإذن في الجهاد والقتال
.
وقيل: نـزلت في عمر بن الخطاب
شتمه بعض الكفار فأمره الله بالعفو .
وقيل: أمر الله المؤمنين بأن
يقولوا ويفعلوا التي هي أحسن أي: الخلة التي هي أحسن.
وقيل: « الأحسن
» كلمة الإخلاص لا إله إلا الله.
( إِنَّ
الشَّيْطَانَ يَنْـزِغُ بَيْنَهُمْ ) أي: يفسد
ويلقي العداوة بينهم ( إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ
لِلإنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا ) ظاهر العداوة. (
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ ) يوفقكم
فتؤمنوا ( أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ ) يميتكم
على الشرك فتعذبوا قاله ابن جريج.
وقال الكلبي: إن يشأ يرحمكم
فينجيكم من أهل مكة, وإن يشأ يعذبكم فيسلطهم عليكم. ( وَمَا
أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلا ) حفيظا
وكفيلا قيل: نسختها آية القتال.
وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ
فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى
بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا ( 55 ) قُلِ
ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ
عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلا ( 56 )
أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ
أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ
رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا ( 57 )
(
وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) أي:
ربك العالم بمن في السموات والأرض فجعلهم مختلفين في صورهم وأخلاقهم وأحوالهم
ومللهم.
(
وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ ) قيل
جعل أهل السموات والأرض مختلفين كما فضل بعض النبيين على بعض.
قال قتادة في هذه الآية: اتخذ
الله إبراهيم خليلا وكلم موسى تكليما وقال لعيسى: كن فيكون وآتى سليمان ملكا لا
ينبغي لأحد من بعده وآتى داود زبورا كما قال: (
وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا ) والزبور: كتاب علمه الله داود
يشتمل على مائة وخمسين سورة كلها دعاء وتمجيد وثناء على الله عز وجل وليس فيها
حرام ولا حلال ولا فرائض ولا حدود.
معناه: إنكم لم تنكروا تفضيل
النبيين فكيف تنكرون فضل النبي صلى الله عليه وسلم وإعطاءه القرآن؟ وهذا خطاب مع من
يقر بتفضيل الأنبياء عليهم السلام من أهل الكتاب وغيرهم. قوله عز وجل: ( قُلِ
ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ ) وذلك
أن المشركين أصابهم قحط شديد حتى أكلوا الكلاب والجيف فاستغاثوا بالنبي صلى الله
عليه وسلم ليدعو لهم قال الله تعالى: ( قُلِ )
للمشركين ( ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ ) أنها
آلهة ( فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ ) القحط
والجوع ( عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلا ) إلى
غيركم أو تحويل الحال من العسر إلى اليسر. (
أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ ) يعني
الذين يدعونهم المشركون آلهة يعبدونهم.
قال ابن عباس ومجاهد: وهم عيسى
وأمه وعزير والملائكة والشمس والقمر والنجوم « يبتغون
» أي يطلبون إلى ربهم «
الوسيلة » أي القربة. وقيل: الوسيلة الدرجة العليا أي: يتضرعون إلى
الله في طلب الدرجة العليا.
وقيل: الوسيلة كل ما يتقرب به
إلى الله تعالى.
وقوله: (
أَيُّهُمْ أَقْرَبُ ) معناه: ينظرون أيهم أقرب إلى
الله فيتوسلون به وقال الزجاج: أيهم أقرب يبتغي الوسيلة إلى الله تعالى ويتقرب
إليه بالعمل الصالح ( وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ ) جنته (
وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا ) أي
يطلب منه الحذر.
وقال عبد الله بن مسعود: نـزلت
الآية في نفر من العرب كانوا يعبدون نفرا من الجن فأسلم الجنيون ولم يعلم الإنس
الذين كانوا يعبدونهم بإسلامهم فتمسكوا بعبادتهم فعيرهم الله وأنـزل هذه الآية .
وقرأ ابن مسعود « أولئك الذين
تدعون » بالتاء.
وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلا
نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا
شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا ( 58 )
( وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ ) وما من
قرية ( إِلا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ) أي:
مخربوها ومهلكوها أهلها ( أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا
شَدِيدًا ) بأنواع العذاب إذا كفروا وعصوا وقال مقاتل وغيره: مهلكوها
في حق المؤمنين بالإماتة ومعذبوها في حق الكفار بأنواع العذاب.
قال عبد الله بن مسعود: إذا ظهر الزنا والربا في قرية أذن
الله في هلاكها .
( كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ
) في اللوح المحفوظ (
مَسْطُورًا ) مكتوبا.
قال عبادة بن الصامت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول: « إن أول ما خلق الله القلم فقال اكتب فقال ما أكتب؟ قال
القدر وما كان وما هو كائن إلى الأبد » .
وَمَا مَنَعَنَا أَنْ
نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ
النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا
تَخْوِيفًا ( 59 )
وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا
الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي
الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلا طُغْيَانًا كَبِيرًا ( 60 )
قوله عز وجل: ( وَمَا
مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ ) قال
ابن عباس: سأل أهل مكة [ رسول الله صلى الله عليه
وسلم ] أن يجعل لهم الصفا ذهبا وأن ينحى الجبال عنهم فيزرعوا فأوحى
الله تعالى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم: إن شئت أن أستأني بهم فعلت وإن شئت أن
أوتيهم ما سألوا فعلت فإن لم يؤمنوا أهلكتهم كما أهلكت من كان قبلهم [ من
الأمم ] فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « لا بل
تستأني بهم » فأنـزل الله عز وجل
( وَمَا مَنَعَنَا أَنْ
نُرْسِلَ بِالآيَاتِ ) التي سألها كفار قريش ( إِلا
أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأوَّلُونَ ) فأهلكناهم فإن لم يؤمن قومك
بعد إرسال الآيات أهلكتهم لأن من سنتنا في الأمم إذا سألوا الآيات ثم لم يؤمنوا
بعد إتيانها أن نهلكهم ولا نمهلهم وقد حكمنا بإهلاك هذه الأمة بالعذاب فقال جل
ذكره: بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (
القمر- 46 ) ثم قال:
( وَآتَيْنَا
ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً ) مضيئة بينة (
فَظَلَمُوا بِهَا ) أي: جحدوا بها أنها من عند
الله كما قال: بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (
الأعراف- 9 ) أي: يجحدون وقيل: ظلموا أنفسهم بتكذيبها يريد فعاجلناهم
بالعقوبة.
( وَمَا
نُرْسِلُ بِالآيَاتِ ) أي: العبر والدلالات ( إِلا
تَخْوِيفًا ) للعباد ليؤمنوا
قال قتادة إن الله تعالى يخوف
الناس بما شاء من آياته لعلهم يرجعون. قوله عز وجل: (
وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ ) أي: هم
في قبضته لا يقدرون على الخروج عن مشيئته فهو حافظك ومانعك منهم فلا تهبهم وامض
إلى ما أمرك به من تبليغ الرسالة كما قال: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ (
المائدة- 67 )
( وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا
الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ )
فالأكثرون على أن المراد منه ما رأى النبي صلى الله عليه وسلم [
ليلة المعراج من العجائب والآيات.
قال ابن عباس: هي رؤيا عين
أريها النبي صلى الله عليه وسلم ] وهو قول سعيد بن جبير والحسن
ومسروق وقتادة ومجاهد وعكرمة وابن جريج والأكثرين والعرب تقول: رأيت بعين رؤية
ورؤيا فلما ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس أنكر بعضهم ذلك وكذبوا فكان
فتنة للناس.
وقال قوم: [
أسري بروحه دون بدنه .
وقال بعضهم: كان له
معراجان: معراج رؤية بالعين ومعراج رؤيا بالقلب.
وقال قوم ] . أراد
بهذه الرؤيا ما رأى صلى الله عليه وسلم عام الحديبية أنه دخل مكة هو وأصحابه فجعل
السير إلى مكة قبل الأجل فصده المشركون فرجع إلى المدينة وكان رجوعه في ذلك العام
بعدما أخبر أنه يدخلها فتنة لبعضهم حتى دخلها في العام المقبل فأنـزل الله تعالى:
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ (
الفتح- 27 ) .
(
وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ ) يعني
شجرة الزقوم, مجازه: والشجرة الملعونة المذكورة في القرآن والعرب تقول لكل طعام
كريه: طعام ملعون. وقيل: [ معناه الملعون ] أكلها
ونصب الشجرة عطفا على الرؤيا أي: وما جعلنا الرؤيا التي أريناك والشجرة الملعونة
إلا فتنة للناس فكانت الفتنة في الرؤيا ما ذكرنا.
والفتنة في الشجرة الملعونة من
وجهين أحدهما: أن أبا جهل قال: إن ابن أبي كبشة يوعدكم بنار تحرق الحجارة ثم يزعم
أنه ينبت فيها شجرة وتعلمون أن النار تحرق الشجرة.
والثاني أن عبد الله بن الزبعري
قال: إن محمدا يخوفنا بالزقوم ولا نعرف الزقوم إلا الزبد والتمر وقال أبو جهل: يا
جارية تعالي فزقمينا فأتت بالتمر والزبد فقال: يا قوم [
تزقموا ] فإن هذا ما يخوفكم به محمد فوصفها الله تعالى في الصافات .
وقيل: الشجرة الملعونة هي: التي
تلتوي على الشجر فتجففه يعني الكشوث .
(
وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ )
التخويف ( إِلا طُغْيَانًا كَبِيرًا ) أي:
تمردا وعتوا عظيما.
وَإِذْ قُلْنَا
لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ
لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا ( 61 )
قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى
يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلا ( 62 )
قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً
مَوْفُورًا ( 63 )
وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ
بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ
وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا ( 64 )
(
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ قَالَ
أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا ) أي:
خلقته من طين أنا جئت به وذلك ما روي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: أن الله تعالى
بعث إبليس حتى أخذ كفا من تراب الأرض من عذبها وملحها فخلق منه آدم فمن خلقه من
العذب فهو سعيد وإن كان ابن كافرين ومن خلقه من الملح فهو شقي وإن كان ابن نبيين .
( قَالَ ) يعني: إبليس (
أَرَأَيْتَكَ ) أي: أخبرني والكاف لتأكيد المخاطبة ( هَذَا
الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ ) أي: فضلته علي (
لَئِنْ أَخَّرْتَنِي ) أمهلتني ( إِلَى
يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ ) أي:
لأستأصلنهم بالإضلال يقال: احتنك الجراد الزرع إذا أكله كله وقيل هو من قول العرب حنك
الدابة يحنكها: إذا شد في حنكها الأسفل حبلا يقودها أي: لأقودنهم كيف شئت وقيل
لأستولين عليهم بالإغواء ( إِلا قَلِيلا ) يعني
المعصومين الذين استثناهم الله عز وجل في قوله: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ
عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ( الحجر- 42 ) . ( قَالَ
) الله: ( اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ
مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ ) أي:
جزاءك وجزاء أتباعك ( جَزَاءً مَوْفُورًا ) وافرا
مكملا يقال: وفرته أوفره وفرا. وقوله: (
وَاسْتَفْزِزْ ) واستخفف واستجهد ( مَنِ
اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ ) أي: من ذرية آدم (
بِصَوْتِكَ ) قال ابن عباس وقتادة: بدعائك إلى معصية الله. وكل داع إلى
معصية الله [ فهو من جند إبليس.
قال الأزهري: معناه ادعهم
دعاء تستفزهم به إلى جانبك أي: تستخفهم ] .
وقال مجاهد: بالغناء والمزامير
.
(
وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ ) قيل:
اجمع عليهم مكايدك وخيلك, ويقال: « أجلبوا
» و « جلبوا » إذا
صاحوا يقول: صِحْ بخيلك ورجلك وحُثَّهم عليه بالإغواء.
قال مقاتل: استعن عليهم بركبان
جندك ومشاتهم والخيل: الركبان والرجل: المشاة.
قال أهل التفسير: كل راكب وماش
في معاصي الله فهو من جند إبليس.
وقال مجاهد وقتادة: إن له خيلا
ورجلا من الجن والإنس, وهو كل من يقاتل في المعصية والرجل والرجالة والراجلة واحد
يقال: راجل ورجل مثل: تاجر وتجر وراكب وركب وقرأ حفص ورجلك بكسر الجيم وهما لغتان.
(
وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ وَالأولادِ )
فالمشاركة في الأموال: كل ما أصيب من حرام أو أنفق في حرام هذا قول مجاهد والحسن
وسعيد بن جبير.
وقال عطاء: هو الربا وقال قتادة
هو ما كان المشركون يحرمونه من الأنعام كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام.
وقال الضحاك: هو ما كانوا
يذبحونه لآلهتهم .
وأما الشركة في الأولاد: روي عن
ابن عباس: أنها المؤودة.
وقال مجاهد والضحاك: هم أولاد
الزنا.
وقال الحسن, وقتادة: هو أنهم
هودوا أولادهم ونصروهم ومجسوهم.
وعن ابن عباس رواية أخرى: هو
تسميتهم الأولاد عبد الحارث وعبد شمس وعبد العزى وعبد الدار ونحوها
وروي عن جعفر بن محمد أن
الشيطان يقعد على ذكر الرجل فإذا لم يقل: « بسم الله
» أصاب معه امرأته وأنـزل في فرجها كما ينـزل الرجل.
وروي في بعض الأخبار: إن فيكم
مغربين قيل: وما المغربون؟ قال: الذين يشارك فيهم الجن .
وروي أن رجلا قال لابن عباس: إن
امرأتي استيقظت وفي فرجها شعلة من نار؟ قال: ذلك من وطء الجن.
وفي الآثار: أن إبليس لما أخرج
إلى الأرض قال: يا رب أخرجتني من الجنة لأجل آدم فسلطني عليه وعلى ذريته قال: أنت
مسلط فقال: لا أستطيعه إلا بك فزدني قال: استفزز من استطعت منهم بصوتك الآية فقال
آدم: يا رب سلطت إبليس علي وعلى ذريتي وإني لا أستطيعه إلا بك قال: لا يولد لك ولد
إلا وكلت به من يحفظونه قال: زدني قال: الحسنة بعشر أمثالها والسيئة بمثلها قال:
زدني قال: التوبة معروضة ما دام الروح في الجسد فقال: زدني قال: يَا عِبَادِيَ
الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ الآية (
الزمر- 53 ) .
وفي الخبر: أن إبليس قال: يا رب
بعثت أنبياء وأنـزلت كتبا فما قراءتي؟ قال: الشعر قال: فما كتابي؟ قال: الوشم قال:
ومن رسلي؟ قال: الكهنة قال: وأين مسكني؟ قال الحمامات قال: وأين مجلسي؟ قال:
الأسواق قال: أي شيء مطعمي؟ قال: ما لم يذكر عليه اسمي قال: ما شرابه؟ قال: كل
مسكر قال: وما حبالي؟ قال النساء قال: وما أذاني؟ قال: المزامير .
قوله عز وجل (
وَعِدْهُمْ ) أي: منهم الجميل في طاعتك. وقيل: قل لهم: لا جنة ولا نار
ولا بعث.
( وَمَا
يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا )
والغرور تزيين الباطل بما يظن أنه حق.
فإن قيل: كيف ذكر الله هذه
الأشياء وهو يقول: إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ (
الأعراف- 28 ) ؟
قيل: هذا على طريق التهديد
كقوله تعالى: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ ( فصلت-
40 ) وكقول القائل: افعل ما شئت فسترى .
إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ
عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلا ( 65 )
رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ
فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ( 66 )
قوله ( إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ
عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلا ) أي
حافظا من يوكل الأمر إليه. قوله عز وجل ( رَبُّكُمُ
الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ ) أي:
يسوق ويجري لكم الفلك ( فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا
مِنْ فَضْلِهِ ) لتطلبوا من رزقه (
إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا )
وَإِذَا
مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ فَلَمَّا
نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا ( 67 ) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ
يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لا
تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلا ( 68 ) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ
يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ
فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ
تَبِيعًا ( 69 )
( وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ ) الشدة وخوف الغرق ( فِي الْبَحْرِ ضَلَّ ) أي: بطل وسقط ( مَنْ تَدْعُونَ ) من الآلهة ( إِلا إِيَّاهُ ) إلا الله فلم تجدوا مغيثا
غيره وسواه (
فَلَمَّا نَجَّاكُمْ ) أجاب
دعاءكم وأنجاكم من هول البحر وأخرجكم ( إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ ) عن الإيمان والإخلاص والطاعة
كفرا منكم لنعمه (
وَكَانَ الإنْسَانُ كَفُورًا ) ( أَفَأَمِنْتُمْ ) بعد ذلك ( أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ ) يغور بكم ( جَانِبَ الْبَرِّ ) ناحية البر وهي الأرض ( أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ
حَاصِبًا ) أي:
يمطر عليكم حجارة من السماء كما أمطر على قوم لوط وقال أبو عبيدة والقتيـبي:
الحاصب الريح التي ترمي بالحصباء وهي الحصا الصغار ( ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلا
) قال
قتادة: مانعا. ( أَمْ
أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ ) يعني في البحر ( تَارَةً ) مرة ( أُخْرَى فَيُرْسِلَ
عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ ) قال ابن عباس: أي: عاصفا وهي الريح الشديدة.
وقال أبو
عبيدة: هي الريح التي تقصف كل شيء أي تدقه وتحطمه.
وقال
القتيـبي: هي التي تقصف الشجر أي تكسره.
( فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ
عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا ) ناصرا
ولا ثائرا و « تبيع » بمعنى تابع أي تابعا مطالبا
بالثأر. وقيل: من يتبعنا بالإنكار.
قرأ ابن
كثير وأبو عمرو « أن
نخسف ونرسل ونعيدكم فنرسل فنغرقكم » بالنون فيهن لقوله « علينا » وقرأ
الآخرون بالياء لقوله « إلا
إياه » وقرأ
أبو جعفر ويعقوب: «
فتغرقكم » بالتاء
يعني الريح.
وَلَقَدْ
كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ
مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا ( 70 )
قوله عز
وجل (
وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ) روي عن
ابن عباس أنه قال: هو أنهم يأكلون بالأيدي وغير الآدمي يأكل بفيه من الأرض وروي
عنه أنه قال: بالعقل.
وقال
الضحاك: بالنطق وقال عطاء: بتعديل القامة وامتدادها والدواب منكبة على وجوهها
وقيل: بحسن الصورة وقيل: الرجال باللحى والنساء بالذوائب وقيل: بأن سخر لهم سائر
الأشياء وقيل: بأن منهم خير أمة أخرجت للناس .
( وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ) أي: حملناهم في البر على
الدواب وفي البحر على السفن.
( وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ) يعني: لذيذ المطاعم والمشارب
قال مقاتل: السمن والزبد والتمر والحلوى وجعل رزق غيرهم ما لا يخفى.
( وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى
كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا ) وظاهر الآية أنه فضلهم على كثير ممن خلقهم لا على الكل.
وقال
قوم: فضلوا على جميع الخلق إلا على الملائكة.
وقال
الكلبي: فضلوا على الخلائق كلهم إلا على طائفة من الملائكة: جبريل وميكائيل
وإسرافيل وملك الموت وأشباههم.
وفي
تفضيل الملائكة على البشر اختلاف فقال قوم: فضلوا على جميع الخلق وعلى الملائكة
كلهم وقد يوضع الأكثر موضع الكل كما قال تعالى: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ
تَنَـزَّلُ الشَّيَاطِينُ إلى قوله تعالى: وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ ( الشعراء- 221 - 223 ) أي: كلهم.
وفي
الحديث عن جابر يرفعه قال: « لما خلق
الله آدم وذريته قالت الملائكة: يا رب خلقتهم يأكلون ويشربون وينكحون فاجعل لهم
الدنيا ولنا الآخرة فقال تعالى: لا أجعل من خلقته بيدي ونفخت فيه من روحي كمن قلت
له: كن فكان » .
والأولى
أن يقال: عوام المؤمنين أفضل من عوام الملائكة وخواص المؤمنين أفضل من خواص
الملائكة قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ( البينة- 7 ) .
وروي عن
أبي هريرة أنه قال: « المؤمن
أكرم على الله من الملائكة الذين عنده » .
يَوْمَ
نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ
فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلا ( 71 )
قوله عز
وجل (
يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِم ) قال مجاهد وقتادة: بنبيهم وقال أبو صالح والضحاك: بكتابهم
الذي أنـزل عليهم.
وقال الحسن
وأبو العالية: بأعمالهم.
وقال
قتادة أيضا: بكتابهم الذي فيه أعمالهم بدليل سياق الآية.
( فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ
بِيَمِينِهِ ) ويسمى
الكتاب إماما كما قال عز وجل: وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ( يس- 12 ) .
وعن سعيد
بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما: بإمام زمانهم الذي دعاهم في الدنيا إلى ضلالة
أو هدى قال الله تعالى: وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ( الأنبياء- 73 ) وقال: وَجَعَلْنَاهُمْ
أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ( القصص- 41 ) .
وقيل:
بمعبودهم وعن سعيد بن المسيب قال: كل قوم يجتمعون إلى رئيسهم في الخير والشر.
وقال
محمد بن كعب: (
بِإِمَامِهِم ) قيل:
يعني بأمهاتهم وفيه ثلاثة أوجه من الحكمة أحدها: لأجل عيسى عليه السلام والثاني:
لشرف الحسن والحسين والثالث: لئلا يفتضح أولاد الزنا .
( فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ
بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلا ) أي لا ينقص من حقهم قدر فتيل
.
وَمَنْ
كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلا ( 72 )
( وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ
أَعْمَى )
اختلفوا في هذه الإشارة فقال قوم: هي راجعة إلى النعم التي عددها الله تعالى في
هذه الآيات من قوله: رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ إلى قوله
تَفْضِيلا يقول: من كان منكم في هذه النعم التي قد عاين أعمى ( فَهُوَ فِي ) أمر ( الآخِرَةِ ) التي لم يعاين ولم ير ( أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلا ) يروى هذا عن ابن عباس .
وقال
الآخرون: هي راجعة إلى الدنيا يقول: من كان في هذه الدنيا أعمى القلب عن رؤية قدرة
الله وآياته ورؤية الحق فهو في الآخرة أعمى أي: أشد عمى وأضل سبيلا أي: أخطأ طريقا
.
وقيل: من
كان في هذه الدنيا أعمى عن الاعتبار فهو في الآخرة أعمى عن الاعتذار.
وقال
الحسن: من كان في هذه الدنيا ضالا كافرا فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا لأنه في
الدنيا تقبل توبته وفي الآخرة لا تقبل توبته .
وأمال
بعض القراء هذين الحرفين وفتحهما بعضهم وكان أبو عمرو يكسر الأول ويفتح الثاني فهو
في الآخرة أشد عمى لقوله « وأضل
سبيلا » .
وَإِنْ
كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ
عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلا ( 73 )
قوله عز
وجل: (
وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ) الآية اختلفوا في سبب نـزولها:
قال سعيد
بن جبير: كان النبي صلى الله عليه وسلم يستلم الحجر الأسود فمنعته قريش وقالوا: [ لا تلم ] حتى تلم بآلهتنا وتمسها فحدث
نفسه: ما علي أن أفعل ذلك والله تعالى يعلم أني لها كاره بعد أن يدعوني حتى أستلم
الحجر الأسود .
وقيل:
طلبوا منه أن يمس آلهتهم حتى يسلموا ويتبعوه فحدث نفسه بذلك فأنـزل الله هذه الآية
.
قال ابن
عباس: قدم وفد ثقيف على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: نبايعك على أن تعطينا
ثلاث خصال قال: وما هن؟ قالوا: أن لا ننحني - أي في الصلاة- ولا نكسر أصنامنا
بأيدينا وأن تمتعنا باللات سنة من غير أن نعبدها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « لا خير في دين لا ركوع فيه
ولا سجود وأما أن تكسروا أصنامكم بأيديكم فذاك لكم وأما الطاغية - يعني اللات
والعزى- فإني غير ممتعكم بها » فقالوا:
يا رسول الله إنا نحب أن تسمع العرب أنك أعطيتنا ما لم تعط غيرنا فإن خشيت أن تقول
العرب أعطيتهم ما لم تعطنا فقل: الله أمرني بذلك؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه
وسلم فطمع القوم في سكوته أن يعطيهم ذلك فأنـزل الله عز وجل هذه الآية . ( وَإِنْ كَادُوا
لَيَفْتِنُونَكَ )
ليصرفونك ( عَنِ
الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ) ( لِتَفْتَرِيَ ) لتختلق ( عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا ) لو فلعت ما دعوك إليه ( لاتَّخَذُوكَ خَلِيلا ) أي: والوك وصافوك.
وَلَوْلا
أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلا ( 74 ) إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ
وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا ( 75 )
( وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ ) على الحق بعصمتنا ( لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ ) أي: تميل ( إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلا ) أي: قريبا من الفعل.
فإن قيل:
كان النبي صلى الله عليه وسلم معصوما فكيف يجوز أن يقرب مما طلبوه وما طلبوه كفر؟
قيل: كان
ذلك خاطر قلب ولم يكن عزما وقد غفر الله عز وجل عن حديث النفس.
قال
قتادة: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول بعد ذلك: « اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة
عين » .
والجواب
الصحيح هو أن الله تعالى قال: ( وَلَوْلا
أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلا ) وقد ثبته الله ولم يركن وهذا
مثل قوله تعالى: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ
الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلا (
النساء- 83 ) [ وقد تفضل فلم يتبعوا ] . ( إِذًا لأذَقْنَاكَ ضِعْفَ
الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ) أي: لو
فعلت ذلك لأذقناك ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات يعني: أضعفنا لك العذاب في
الدنيا والآخرة.
وقيل: « الضعف » : هو العذاب سمي ضعفا لتضاعف
الألم فيه.
( ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ
عَلَيْنَا نَصِيرًا ) أي:
ناصرا يمنعك من عذابنا.
وَإِنْ كَادُوا
لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ
خِلافَكَ إِلا قَلِيلا ( 76 )
قوله تعالى: (
وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا ) اختلفوا
في معنى الآية فقال بعضهم: هذه الآية مدنية قال الكلبي: لما قدم رسول الله صلى
الله عليه وسلم المدينة كره اليهود مقامه بالمدينة حسدا منهم فأتوه وقالوا: يا أبا
القاسم لقد علمت ما هذه بأرض الأنبياء فإن أرض الأنبياء الشام [ وهي
الأرض المقدسة وكان بها إبراهيم والأنبياء عليهم الصلاة والسلام فإن كنت نبيا
مثلهم فأت الشام ] وإنما يمنعك من الخروج إليها
مخافتك الروم وإن الله سيمنعك من الروم إن كنت رسوله فعسكر النبي صلى الله عليه
وسلم على ثلاثة أميال من المدينة وفي رواية: إلى ذي الحليفة حتى يجتمع إليه أصحابه
ويخرج فأنـزل الله هذه الآية و « الأرض » هاهنا
هي المدينة .
وقال مجاهد وقتادة: « الأرض
» أرض مكة والآية مكية هم المشركون أن يخرجوه منها فكفهم الله
عنه حتى أمره بالهجرة فخرج بنفسه وهذا أليق بالآية لأن ما قبلها خبر عن أهل مكة
والسورة مكية .
وقيل: هم الكفار كلهم أرادوا أن
يستفزوه من أرض العرب باجتماعهم وتظاهرهم عليه فمنع الله عز وجل رسوله صلى الله
عليه وسلم ولم ينالوا منه ما أملوا والاستفزاز هو الإزعاج بسرعة.
(
وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ ) أي
بعدك وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص ويعقوب (
خِلافَكَ ) اعتبارا بقوله تعالى: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ
بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ (
التوبة- 81 ) ومعناهما واحد . ( إِلا
قَلِيلا ) أي: لا يلبثون بعدك إلا قليلا حتى يهلكوا فعلى هذا القول
الأول: مدة حياتهم وعلى الثاني: ما بين خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة
إلى أن قتلوا ببدر.
سُنَّةَ مَنْ قَدْ
أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلا ( 77 )
قوله عز وجل: (
سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا ) أي:
كسنتنا فانتصب بحذف الكاف وسنة الله في الرسل إذا كذبتهم الأمم أن لا يعذبهم ما
دام نبيهم بين أظهرهم فإذا خرج نبيهم من بين أظهرهم عذبهم.
( وَلا
تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلا ) أي تبديلا.
أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ
الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ
كَانَ مَشْهُودًا ( 78 )
قوله: (
أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ )
اختلفوا في الدلوك: روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: الدلوك هو الغروب وهو قول
إبراهيم النخعي ومقاتل بن حيان والضحاك والسدي.
وقال ابن عباس: وابن عمر وجابر:
هو زوال الشمس وهو قول عطاء وقتادة ومجاهد والحسن وأكثر التابعين.
ومعنى اللفظ يجمعهما لأن أصل
الدلوك الميل والشمس تميل إذا زالت وغربت.
والحمل على الزوال أولى القولين
لكثرة القائلين به ولأنا إذا حملناه عليه كانت الآية جامعة لمواقيت الصلاة كلها « فدلوك
الشمس » : يتناول صلاة الظهر والعصر و « إلى
غسق الليل » : يتناول المغرب والعشاء و « قرآن
الفجر » : هو صلاة الصبح .
قوله عز وجل: ( إِلَى
غَسَقِ اللَّيْلِ ) أي: ظهور ظلمته وقال ابن
عباس: بدو الليل وقال قتادة: وقت صلاة المغرب وقال مجاهد: غروب الشمس.
(
وَقُرْآنَ الْفَجْرِ ) يعني: صلاة الفجر سمي صلاة
الفجر قرآنا لأنها لا تجوز إلا بقرآن وانتصاب القرآن من وجهين أحدهما: أنه عطف على
الصلاة أي: وأقم قرآن الفجر قاله الفراء وقال أهل البصرة: على الإغراء أي وعليك
قرآن الفجر.
( إِنَّ
قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا ) أي:
يشهده ملائكة الليل وملائكة النهار.
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد
المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنبأنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن
إسماعيل حدثنا أبو اليمان أنبأنا شعيب عن الزهري أخبرني سعيد بن المسيب وأبو سلمة
بن عبد الرحمن أن أبا هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « تفضل
صلاة الجميع على صلاة أحدكم وحده بخمس وعشرين جزءا وتجتمع ملائكة الليل وملائكة
النهار في صلاة الفجر » ثم يقول أبو هريرة: اقرؤوا إن
شئتم: ( إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا ) .
وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ
بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ( 79 )
قوله تعالى: (
وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ ) أي: قم
بعد نومك والتهجد لا يكون إلا بعد النوم يقال: تهجد إذا قام بعدما نام وهجد إذا
نام.
والمراد من الآية: قيام الليل
للصلاة.
وكانت صلاة الليل فريضة على
النبي صلى الله عليه وسلم في الابتداء وعلى الأمة لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا
الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا (
المزمل- 1- 2 ) ثم نـزل التخفيف فصار الوجوب منسوخا في حق الأمة بالصلوات
الخمس وبقي الاستحباب: قال الله تعالى: فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ (
المزمل 20 ) وبقي الوجوب في حق النبي صلى الله عليه وسلم .
وروي عن عائشة رضي الله عنها أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: « ثلاث هن علي فريضة وهن سنة
لكم الوتر [ والسواك ] وقيام
الليل » .
قوله عز وجل: (
نَافِلَةً لَكَ ) أي: زيادة لك يريد: فضيلة زائدة
على سائر الفرائض فرضها الله عليك.
وذهب قوم إلى أن الوجوب صار
منسوخا في حقه كما في حق الأمة فصارت نافلة وهو قول مجاهد وقتادة لأن الله تعالى
قال: « نافلة لك » ولم يقل
عليك .
فإن قيل: فما معنى التخصيص وهي
زيادة في حق كافة المسلمين كما في حقه صلى الله عليه وسلم؟
قيل: التخصيص من حيث إن نوافل
العباد كفارة لذنوبهم والنبي صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما
تأخر فكانت نوافله لا تعمل في كفارة الذنوب فتبقى له زيادة في رفع الدرجات.
أخبرنا أبو محمد عبد الله بن
عبد الصمد الجوزجاني أخبرنا أبو القاسم علي بن أحمد الخزاعي أخبرنا أبو سعيد
الهيثم بن كليب حدثنا أبو عيسى الترمذي حدثنا قتيبة وبشر بن معاذ قالا حدثنا أبو
عوانة عن زياد بن علاقة عن المغيرة بن شعبة قال: قام النبي صلى الله عليه وسلم حتى
انتفخت قدماه فقيل له: أتتكلف هذا وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: « أفلا
أكون عبدا شكورا » .
أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد
السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي
أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن عبد الله بن أبي بكرة عن أبيه عن عبد الله بن قيس بن
مخرمة أنه أخبره عن زيد بن خالد الجهني أنه قال: « لأرمقن
صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم الليلة فتوسدت عتبته أو فسطاطه فقام فصلى
ركعتين خفيفتين ثم صلى ركعتين طويلتين ثم صلى ركعتين دون اللتين قبلهما [ ثم
صلى ركعتين دون اللتين قبلهما ثم صلى ركعتين دون التين قبلهما ] ثم
أوتر فذلك ثلاث عشرة ركعة . »
أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد
السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن
سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه أخبره أنه سأل عائشة رضي
الله عنها: كيف كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان؟ قال: فقالت ما
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة
يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم
يصلي ثلاثا. قالت عائشة فقلت: يا رسول الله أتنام قبل أن توتر؟ فقال: « يا
عائشة إن عيني تنامان ولا ينام قلبي » .
أخبرنا الإمام أبو علي الحسين
بن محمد القاضي أخبرنا أبو نعيم عبد الملك بن الحسن الإسفرايني أخبرنا أبو عوانة
يعقوب بن إسحاق أخبرنا يونس بن هارون بن عبد الأعلى أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس
وابن أبي ذئب وعمر بن الحارث أن ابن شهاب أخبرهم عن عروة بن الزبير عن عائشة قالت:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم « يصلي
فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى الفجر إحدى عشرة ركعة يسلم من كل ركعتين ثم
يوتر بواحدة فيسجد السجدة قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية قبل أن يرفع رأسه فإذا سكت
المؤذن من أذان الفجر وتبين له الفجر قام فركع ركعتين خفيفتين ثم اضطجع على شقه
الأيمن حتى يأتيه المؤذن للإقامة فيخرج » وبعضهم
يزيد على بعض .
أخبرنا أحمد بن عبد الله
الصالحي أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري أخبرنا حاجب بن أحمد الطوسي أخبرنا
عبد الرحمن بن منيب أخبرنا يزيد بن هارون أخبرنا حميد الطويل عن أنس بن مالك رضي
الله عنه قال: ما كنا نشاء أن نرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الليل مصليا
إلا رأيناه ولا نشاء أن نراه نائما إلا رأيناه وقال: كان يصوم من الشهر حتى نقول
لا يفطر منه شيئا ويفطر حتى نقول لا يصوم منه شيئا .
قوله عز وجل: ( عَسَى
أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ) عسى من
الله تعالى واجب لأنه لا يدع أن يعطي عباده أو يفعل بهم ما أطمعهم فيه.
والمقام المحمود هو: مقام
الشفاعة لأمته لأنه يحمده فيه الأولون والآخرون: أخبرنا عبد الواحد بن أحمد
المليحي أخبرنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن
عبد الجبار الرياني حدثنا حميد بن زنجويه أخبرنا عبد الله بن يزيد المقري أخبرنا
حياة عن كعب عن علقمة عن عبد الرحمن بن جبير عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال: « إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل
ما يقول: ثم صلوا علي فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا ثم سلوا الله
لي الوسيلة فإنها منـزلة في الجنة لا ينبغي أن تكون إلا لعبد من عباد الله وأرجو
أن أكون أنا هو فمن سأل لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة » .
أخبرنا عبد الواحد المليحي
أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا
علي بن عباس حدثنا سعيد بن أبي حمزة عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « من قال
حين يسمع النداء اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة
والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته حلت له شفاعتي يوم القيامة » .
أخبرنا أبو حامد أحمد بن عبد
الله الصالحي أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري أخبرنا حاجب بن أحمد الطوسي
أخبرنا عبد الرحيم بن منيب أخبرنا يعلى عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي
الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن لكل
نبي دعوة مستجابة وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي وهي نائلة منكم إن شاء الله- من
مات لا يشرك بالله شيئا » .
أخبرنا عبد الواحد المليحي
أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل قال:
وقال حجاج بن منهال حدثنا همام بن يحيى حدثنا قتادة عن أنس أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: « يحبس المؤمنون يوم القيامة حتى يهتموا بذلك فيقولون: لو استشفعنا
إلى ربنا فيريحنا من مكاننا فيأتون آدم فيقولون: أنت آدم أبو الناس خلقك الله بيده
وأسكنك جنته وأسجد لك ملائكته وعلمك أسماء كل شيء اشفع لنا عند ربك حتى يريحنا من
مكاننا هذا فيقول: لست هناكم ويذكر خطيئته التي أصاب وأكله من الشجرة وقد نهي عنها
ولكن ائتوا نوحا أول نبي بعثه الله إلى أهل الأرض. »
فيأتون نوحا فيقول: لست هناكم
ويذكر خطيئته التي أصاب سؤاله ربه بغير علم ولكن ائتوا إبراهيم خليل الرحمن قال
فيأتون إبراهيم فيقول: إني لست هناكم ويذكر ثلاث كذبات كذبهن ولكن ائتوا موسى عبدا
آتاه الله التوراة وكلمه وقربه نجيا.
قال: فيأتون موسى فيقول إني لست
هناكم ويذكر خطيئته التي أصاب بقتل النفس ولكن ائتوا عيسى عبد الله ورسوله وروح
الله وكلمته.
فيأتون عيسى فيقول: لست هناكم
ولكن ائتوا محمدا عبدا غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
قال: فيأتوني فأستأذن على ربي
في داره فيؤذن لي عليه فإذا رأيته وقعت ساجدا فيدعني ما شاء الله أن يدعني ثم
يقول: ارفع رأسك يا محمد وقل تسمع واشفع تشفع وسل تعطه قال: فأرفع رأسي فأثني على
ربي بثناء وتحميد يعلمنيه ثم أشفع فيحد لي حدا فأخرج فأخرجهم فأدخلهم الجنة.
قال قتادة: وسمعته أيضا يقول:
فأخرج فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة, ثم أعود فأستأذن على ربي في داره فيؤذن لي
عليه فإذا رأيته وقعت ساجدا فيدعني ما شاء الله أن يدعني ثم يقول: ارفع رأسك يا
محمد وقل تسمع واشفع تشفع وسل تعطه قال: فأرفع رأسي فأثني على ربي بثناء وتحميد
يعلمنيه ثم أشفع فيحد لي حدا فأخرج فأدخلهم الجنة [ ثم
أعود الثالثة فأستأذن على ربي في داره فيؤذن لي عليه فإذا رأيته وقعت ساجدا فيدعني
ما شاء الله أن يدعني ثم يقول ارفع رأسك يا محمد وقل تسمع واشفع تشفع وسل تعطه
قال: فأرفع رأسي فأثني على ربي بثناء وتحميد يعلمنيه ثم أشفع فيحد لي حدا فأخرج
فأدخلهم الجنة « ] .
»
قال قتادة: وقد سمعته أيضا
يقول: « فأخرج فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة حتى ما يبقى في النار
إلا من حبسه القرآن » - أي وجب عليه الخلود- قال: ثم
تلا هذه الآية: ( عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ
رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ) [
قال: « وهذا المقام المحمود ]
الذي وعده نبيكم صلى الله عليه وسلم » .
وبهذا الإسناد قال: حدثنا [
محمد بن إسماعيل حدثنا ] سليمان بن حرب حدثنا حماد بن
زيد حدثنا معبد بن هلال الغزي قال: ذهبنا إلى أنس بن مالك فذكر حديث الشفاعة
بمعناه وقال: « فأستأذن على ربي فيؤذن لي ويلهمني محامد أحمده بها لا
تحضرني الآن فأحمده بتلك المحامد وأخر له ساجدا فيقال: يا محمد ارفع رأسك وقل تسمع
[ وسل تعطه ] واشفع
تشفع فأقول: يا رب أمتي أمتي فيقول: انطلق فأخرج منها من كان في قلبه مثقال شعيرة
من إيمان فأنطلق فأفعل ثم أعود فأحمده بتلك المحامد ثم أخر له ساجدا وذكر مثله
فيقال: » انطلق فأخرج من كان في قلبه مثقال ذرة أو خردلة من الإيمان
فأنطلق فأفعل ثم أعود فأحمده بتلك المحامد ثم أخر له ساجدا وذكر مثله ثم يقال:
انطلق فأخرج من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال حبة من خردل من إيمان فأنطلق
فأفعل فلما خرجنا من عند أنس مررنا بالحسن فسلمنا عليه فحدثناه بالحديث إلى هذا
الموضع فقال: هيه فقلنا: لم يزدنا على هذا فقال: لقد حدثني وهو [
يومئذ جميع ] منذ عشرين سنة كما حدثكم ثم قال: ثم أعود الرابعة فأحمده
بتلك المحامد ثم أخر له ساجدا فيقال: يا محمد ارفع رأسك وقل تسمع وسل تعطه واشفع
تشفع فأقول يا ربي أتأذن فيمن قال لا إله إلا الله؟ فيقول: وعزتي وجلالي وكبريائي
وعظمتي لأخرجن منها من قال لا إله إلا الله « . »
وروي عن عبد الله بن عمر قال: « إن
الشمس تدنو يوم القيامة حتى يبلغ العرق نصف الأذن فبينما هم كذلك استغاثوا بآدم ثم
بموسى ثم بمحمد صلى الله عليه وسلم [
فيشفع ليقضى بين الخلق فيمشي حتى يأخذ بحلقة الباب فيومئذ يبعثه الله مقاما محمودا
يحمده أهل الجمع كلهم » .
وأخبرنا الإمام أبو علي الحسين
بن محمد القاضي أخبرنا أبو محمد عبد الله بن يوسف بن محمد ] بن
ماموية حدثنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان حدثنا محمد بن حموية حدثنا سعيد بن
سليمان حدثنا منصور بن أبي الأسود حدثنا الليث عن الربيع بن أنس عن أنس بن مالك
رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « أنا
أولهم خروجا [ إذا بعثوا ] وأنا
قائدهم إذا وفدوا وأنا خطيبهم إذا أنصتوا وأنا شفيعهم إذا حبسوا [
وأنا مبشرهم إذا أيسوا ] الكرامة والمفاتيح يومئذ بيدي
ولواء الحمد يومئذ بيدي وأنا أكرم ولد آدم على ربي يطوف علي ألف خادم كأنهم بيض
مكنون أو لؤلؤ منثور » .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر
أخبرنا عبد الغافر بن محمد أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي حدثنا إبراهيم بن محمد بن
سفيان حدثنا مسلم بن الحجاج حدثني الحكم بن موسى حدثنا معقل بن زياد عن الأوزاعي
حدثني أبو عمار حدثني عبد الله بن فروخ حدثني أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: « أنا سيد ولد آدم يوم القيامة
وأول من ينشق عنه القبر وأول شافع وأول مشفع »
والأخبار في الشفاعة كثيرة وأول
من أنكرها عمرو بن عبيد وهو مبتدع باتفاق أهل السنة .
وروي عن يزيد بن صهيب الفقير
قال: كنت قد شغفني رأي من رأي الخوارج وكنت رجلا شابا فخرجنا في عصابة نريد أن نحج
فمررنا على المدينة فإذا جابر بن عبد الله يحدث القوم عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم وذكر الجهنميين فقلت له: يا صاحب رسول الله ما هذا الذي يحدثون والله عز وجل
يقول: إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ ( آل
عمران- 192 ) و كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا
فِيهَا ( السجدة- 20 ) ؟ فقال
لي: يا فتى تقرأ القرآن؟ قلت: نعم قال: هل سمعت بمقام محمد المحمود الذي يبعثه
الله فيه؟ قلت: نعم قال: فإنه مقام محمد المحمود الذي يخرج الله به من يخرج من
النار [ ثم نعت وضع الصراط ومر الناس عليه ] وأن
قوما يخرجون من النار بعدما يكونون فيها قال: فرجعنا وقلنا أترون هذا الشيخ يكذب
على رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟.
وروي عن أبي وائل عن عبد الله
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إن
الله عز وجل اتخذ إبراهيم خليلا وإن صاحبكم حبيب الله وأكرم الخلق على الله » ثم قرأ:
( عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ) [
قال: يقعد على العرش ] .
[ وعن
مجاهد في قوله تعالى: ( عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ
رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ) قال: يجلسه على العرش ] .
وعن عبد الله بن سلام قال:
يقعده على الكرسي .
وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ
صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا
نَصِيرًا ( 80 )
قوله عز وجل: (
وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ ) والمراد
من المدخل والمخرج: الإدخال والإخراج واختلف أهل التفسير فيه:
فقال ابن عباس والحسن وقتادة: « أدخلني
مدخل صدق » : المدينة. «
وأخرجني مخرج صدق » : مكة, نـزلت حين أمر النبي
صلى الله عليه وسلم بالهجرة .
وقال الضحاك: «
وأخرجني مخرج صدق » : من مكة آمنا من المشركين «
وأدخلني مدخل صدق » : مكة ظاهرا عليها بالفتح.
وقال مجاهد: أدخلني في أمرك
الذي أرسلتني به من النبوة مدخل صدق الجنة وأخرجني من الدنيا وقد قمت بما وجب علي
من حقها مخرج صدق.
وعن الحسن أنه قال: « أدخلني
مدخل صدق » : الجنة « وأخرجني مخرج صدق » : من
مكة.
وقيل: أدخلني في طاعتك وأخرجني
من المناهي وقيل: معناه أدخلني حيث ما أدخلتني بالصدق وأخرجني بالصدق, أي: لا
تجعلني ممن يدخل بوجه ويخرج بوجه فإن ذا الوجهين لا يكون آمنا ووجيها عند الله.
ووصف الإدخال والإخراج بالصدق
لما يؤول إليه الخروج والدخول من النصر والعز ودولة الدين كما وصف القدم بالصدق
فقال: أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ ( يونس-
2 ) .
(
وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا ) قال
مجاهد: حجة بينة وقال الحسن: ملكا قويا تنصرني به على من ناوأني وعزا ظاهرا أقيم
به دينك. فوعده الله لينـزعن ملك فارس والروم وغيرهما فيجعله له.
قال قتادة: علم نبي الله صلى
الله عليه وسلم أن لا طاقة له بهذا الأمر إلا بسلطان [
نصير ] فسأل سلطانا نصيرا: كتاب الله وحدوده وإقامة دينه.
وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ
وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ( 81 )
قوله عز وجل: (
وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ ) يعني القرآن (
وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ) أي: الشيطان قال قتادة وقال
السدي: « الحق » : الإسلام و « الباطل
» : الشرك وقيل: « الحق » : عبادة
الله و « الباطل » : عبادة الأصنام.
( إِنَّ
الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ) ذاهبا يقال: زهقت نفسه أي
خرجت.
أخبرنا عبد الواحد المليحي
أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي حدثنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا
صدقة بن الفضل حدثنا ابن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن أبي معمر عن عبد الله
قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح وحول البيت ستون وثلاثمائة نصب
فجعل يطعنها بعود [ في يده ] ويقول:
« جاء الحق وزهق الباطل جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ
الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ . »
وَنُنَـزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ
مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا
خَسَارًا ( 82 )
وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا
مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا ( 83 )
قوله عز وجل: (
وَنُنَـزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ) قيل: « من » ليس للتبعيض
ومعناه: وننـزل من القرآن ما كله شفاء أي: بيان من الضلالة والجهالة يتبين به
المختلف ويتضح به المشكل ويستشفى به من الشبهة ويهتدى به من الحيرة فهو شفاء
القلوب بزوال الجهل عنها ورحمة للمؤمنين.
( وَلا
يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا ) لأن
الظالم لا ينتفع به والمؤمن من ينتفع به فيكون رحمة له.
وقيل: زيادة الخسارة للظالم من
حيث أن كل آية تنـزل يتجدد منهم تكذيب ويزداد لهم خسارة.
قال قتادة: لم يجالس هذا القرآن
أحد إلا قام عنه بزيادة أو نقصان قضى الله الذي قضى شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد
الظالمين إلا خسارا. قوله تعالى: (
وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإنْسَانِ أَعْرَضَ ) عن
ذكرنا ودعائنا ( وَنَأَى بِجَانِبِهِ ) أي
تباعد عنا بنفسه أي ترك التقرب إلى الله بالدعاء وقال عطاء: تعظم وتكبر ويكسر
النون والهمزة حمزة والكسائي ويفتح النون ويكسر الهمزة أبو بكر وقرأ ابن عامر وأبو
جعفر « وناء » مثل جاء قيل: هو بمعنى نأى
وقيل: ناء من النوء وهو النهوض والقيام.
(
وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ ) الشدة والضرر ( كَانَ
يَئُوسًا ) أي آيسا قنوطا. وقيل: معناه أنه يتضرع ويدعو عند الضر
والشدة فإذا تأخرت الإجابة يئس ولا ينبغي للمؤمن أن ييأس من الإجابة وإن تأخرت
فيدع الدعاء.
قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى
شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلا ( 84 )
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ
مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا ( 85 )
قوله عز وجل: ( قُلْ
كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ ) قال
ابن عباس: على ناحيته.
قال الحسن وقتادة على نيته.
وقال مقاتل: على خليقته.
قال الفراء على طريقته التي جبل
عليها.
وقال القتيـبي: على طبيعته
وجبلته.
وقيل: على السبيل الذي اختاره
لنفسه وهو من الشكل يقال: لست على شكلي ولا شاكلتي وكلها متقاربة تقول العرب: طريق
ذو شواكل إذا تشعبت منه الطرق. ومجاز الآية: كل يعمل على ما يشبهه كما يقال في
المثل: كل امرئ يشبهه فعله.
(
فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلا ) أوضح
طريقا. قوله تعالى: ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ
الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) الآية.
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد
المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن
إسماعيل حدثنا قيس بن حفص حدثنا عبد الواحد - يعني ابن زياد- حدثنا الأعمش عن
إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال: بينا أنا أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في
حرث المدينة وهو يتوكأ على عسيب معه فمر بنفر من اليهود فقال بعضهم لبعض: سلوه عن
الروح وقال بعضهم: لا تسألوه لا يجيء فيه بشيء تكرهونه فقال بعضهم لنسألنه فقام
رجل منهم فقال: يا أبا القاسم ما الروح؟ فسكت فقلت: إنه يوحى إليه فقمت فلما انجلى
عنه الوحي قال: ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ
الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا
قَلِيلا ) قال الأعمش: هكذا في قراءتنا.
وروي عن ابن عباس أنه قال: إن
قريشا قد اجتمعوا وقالوا: إن محمدا نشأ فينا بالأمانة والصدق وما اتهمناه بكذب وقد
ادعى ما ادعى فابعثوا نفرا إلى اليهود بالمدينة واسألوهم عنه فإنهم أهل كتاب
فبعثوا جماعة إليهم فقالت اليهود: سلوه عن ثلاثة أشياء فإن أجاب عن كلها أو لم يجب
عن شيء منها فليس بنبي وإن أجاب عن اثنين ولم يجب عن واحدة فهو نبي فسلوه عن فتية
فقدوا في الزمن الأول ما كان من أمرهم؟ فإنه كان لهم حديث عجيب وعن رجل بلغ شرق
الأرض وغربها ما خبره وعن الروح؟ فسألوه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أخبركم
بما سألتم غدا ولم يقل إن شاء الله فلبث الوحي - قال مجاهد: اثني عشرة ليلة وقيل:
خمسة عشر يوما وقال عكرمة: أربعين يوما- وأهل مكة يقولون: وعدنا محمد غدا وقد
أصبحنا لا يخبرنا بشيء حتى حزن النبي صلى الله عليه وسلم من مكث الوحي وشق عليه ما
يقوله أهل مكة ثم نـزل جبريل بقوله: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ
ذَلِكَ غَدًا * إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ونـزل في قصة الفتية أَمْ حَسِبْتَ
أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا ونـزل
فيمن بلغ الشرق والغرب وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ ونـزل في الروح «
ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي » .
واختلفوا في الروح الذي وقع
السؤال عنه فروي عن ابن عباس: أنه جبريل وهو قول الحسن وقتادة.
وروي عن علي أنه قال: هو ملك له
سبعون ألف وجه لكل وجه سبعون ألف لسان يسبح الله تعالى بكلها.
وقال مجاهد: خلق على صور بني
آدم لهم أيد وأرجل ورءوس وليسوا بملائكة ولا ناس يأكلون الطعام.
وقال سعيد بن جبير: لم يخلق
الله تعالى خلقا أعظم من الروح غير العرش لو شاء أن يبتلع السموات السبع والأرضين
السبع ومن فيها بلقمة واحدة لفعل صورة خلقه على صورة خلق الملائكة وصورة وجهه على
صورة الآدميين يقوم يوم القيامة عن يمين العرش وهو أقرب الخلق إلى الله عز وجل
اليوم عند الحجب السبعين وأقرب إلى الله يوم القيامة وهو ممن يشفع لأهل التوحيد
ولولا أن بينه وبين الملائكة سترا من نور لاحترق أهل السموات من نوره.
وقيل: الروح هو القرآن.
وقيل: المراد منه عيسى عليه
السلام فإنه روح الله وكلمه ومعناه: أنه ليس كما يقول اليهود ولا كما يقوله
النصارى.
وقال قوم: هو الروح المركب في
الخلق الذي يحيا به الإنسان وهو الأصح.
وتكلم فيه قوم فقال بعضهم: هو
الدم ألا ترى أن الحيوان إذا مات لا يفوت منه شيء إلا الدم؟
وقال قوم: هو نفس الحيوان بدليل
أنه يموت باحتباس النفس.
وقال قوم: هو عرض.
وقال قوم: هو جسم لطيف.
وقال بعضهم: الروح معنى اجتمع
فيه النور والطيب والعلو والبقاء ألا ترى أنه إذا كان موجودا يكون الإنسان موصوفا
بجميع هذه الصفات فإذا خرج ذهب الكل ؟
وأولى الأقاويل: أن يوكل علمه
إلى الله عز وجل وهو قول أهل السنة. قال عبد الله بن بريدة: إن الله لم يطلع على
الروح ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا.
وقوله عز وجل: ( قُلِ
الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) قيل من علم ربي.
( وَمَا
أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا ) أي: في
جنب علم الله قيل هذا خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم.
وقيل: خطاب لليهود لأنهم كانوا
يقولون أوتينا التوراة وفيها العلم الكثير.
وقيل: كان النبي صلى الله عليه
وسلم يعلم معنى الروح ولكن لم يخبر به أحدا لأن ترك إخباره به كان علما لنبوته.
والأول أصح لأن الله عز وجل
استأثر بعلمه.
وَلَئِنْ شِئْنَا
لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ
عَلَيْنَا وَكِيلا ( 86 )
قوله تعالى: (
وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ) يعني
القرآن. معناه: إنا كما منعنا علم الروح عنك وعن غيرك لو شئنا لنذهبن بالذي أوحينا
إليك يعني القرآن ( ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ
عَلَيْنَا وَكِيلا ) أي: من يتوكل برد القرآن
إليك.
إِلا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ
إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا ( 87 ) قُلْ
لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا
الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ( 88 )
( إِلا
رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ) هذا استثناء منقطع معناه:
ولكن لا نشاء ذلك رحمة من ربك.
( إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ
عَلَيْكَ كَبِيرًا ) فإن قيل: كيف يذهب القرآن وهو
كلام الله عز وجل؟
قيل: المراد منه: محوه من
المصاحف وإذهاب ما في الصدور.
وقال عبد الله بن مسعود: اقرؤوا
القرآن قبل أن يرفع فإنه لا تقوم الساعة حتى يرفع. قيل: هذه المصاحف ترفع فكيف بما
في صدور الناس؟ قال يسري عليه ليلا فيرفع ما في صدورهم فيصبحون لا يحفظون شيئا ولا
يجدون في المصاحف شيئا ثم يفيضون في الشعر .
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص
قال: لا تقوم الساعة حتى يرجع القرآن من حيث نـزل له دوي حول العرش كدوي النحل
فيقول الرب ما لك وهو أعلم؟ فيقول: يا رب أتلى ولا يعمل بي . قوله جل وعلا ( قُلْ
لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا
الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ) لا
يقدرون على ذلك ( وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ
لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ) عونا ومظاهرا.
نـزلت حين قال الكفار: لو نشاء
لقلنا مثل هذا فكذبهم الله تعالى
فالقرآن معجز في النظم والتأليف
والإخبار عن الغيوب وهو كلام في أعلى طبقات البلاغة لا يشبه كلام الخلق لأنه غير
مخلوق ولو كان مخلوقا لأتوا بمثله
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا
لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا
كُفُورًا ( 89 )
وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا ( 90 )
قوله عز وجل: (
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ ) من كل
وجه من العبر والأحكام والوعد والوعيد وغيرها (
فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا ) جحودا
. قوله عز وجل: ( وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ
لَكَ ) لن نصدقك (
حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعًا ) قرأ
أهل الكوفة ويعقوب « تفجر » بفتح
التاء وضم الجيم مخففا لأن الينبوع واحد وقرأ الباقون بالتشديد من التفجير واتفقوا
على تشديد قوله: فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا لأن الأنهار جمع
والتشديد يدل على التكثير ولقوله تَفْجِيرًا من بعد.
وروى عكرمة عن ابن عباس: أن
عتبة وشيبة ابني ربيعة وأبا سفيان بن حرب والنضر بن الحارث وأبا البختري بن هشام
والأسود بن عبد المطلب وزمعة بن الأسود والوليد بن المغيرة وأبا جهل بن هشام وعبد الله
بن أبي أمية وأمية بن خلف والعاص بن وائل ونبيها ومنبها ابني الحجاج اجتمعوا ومن
اجتمع معهم بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد
فكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه فبعثوا إليه أن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك
فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعا وهو يظن أنه بدا لهم في أمره بدء وكان
عليهم حريصا يحب رشدهم حتى جلس إليهم فقالوا: يا محمد إنا بعثنا إليك لنعذر فيك
وإنا والله لا نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك لقد شتمت
الآباء وعبت الدين وسفهت الأحلام وشتمت الآلهة وفرقت الجماعة فما بقي أمر قبيح إلا
وقد جئته فيما بينك وبيننا فإن كنت جئت بهذا الحديث تطلب به مالا جعلنا لك من
أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا وإن كنت تطلب الشرف سودناك علينا وإن كنت تريد ملكا
ملكناك علينا وإن كان هذا الأمر الذي بك رئي تراه حتى قد غلب عليك لا تستطيع رده
بذلنا لك أموالنا في طلب الطب حتى نبرئك منه أو نعذر فيك وكانوا يسمون التابع من
الجن: الرئي.
فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: ما بي ما تقولون ما جئتكم بما جئتكم به لطلب أموالكم ولا الشرف عليكم ولا
الملك عليكم ولكن الله بعثني إليكم رسولا وأنـزل علي كتابا وأمرني أن أكون لكم
بشيرا ونذيرا فبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم فإن تقبلوا مني فهو حظكم في الدنيا
والآخرة وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم.
فقالوا: يا محمد إن كنت غير
قابل منا ما عرضنا عليك فقد علمت أنه ليس أحد أضيق منا بلادا ولا أشد منا عيشا فسل
لنا ربك الذي بعثك فليسير عنا هذه الجبال فقد ضيقت علينا ويبسط لنا بلادنا ويفجر
فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق وليبعث لنا من مضى من آبائنا وليكن منهم قصي بن
كلاب فإنه كان شيخا صدوقا فنسألهم عما تقول أحق هو أم باطل؟ فإن صدقوك صدقناك.
فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم ما بهذا بعثت فقد بلغتكم ما أرسلت به فإن تقبلوه مني فهوحظكم في الدنيا
والآخرة وإن تردوه أصبر لأمر الله.
قالوا: فإن لم تفعل هذا فسل ربك
أن يبعث لنا ملكا يصدقك, واسأله أن يجعل لك جنانا وقصورا وكنوزا من ذهب وفضة يغنيك
بها عما نراك فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه.
فقال: ما بعثت بهذا ولكن الله
بعثني بشيرا ونذيرا.
قالوا: فأسقط السماء كما زعمت
إن ربك لو شاء فعل.
فقال: ذلك إلى الله إن شاء فعل
ذلك بكم فعله.
وقال قائل منهم: لن نؤمن لك حتى
تأتينا بالله والملائكة قبيلا.
فلما قالوا ذلك قام رسول الله
صلى الله عليه وسلم وقام معه عبد الله بن أبي أمية وهو ابن عمته عاتكة بنت عبد
المطلب فقال: يا محمد عرض عليك قومك ما عرضوا عليك فلم تقبله منهم ثم سألوك
لأنفسهم أمورا يعرفون بها منـزلتك من الله تعالى فلم تفعل ثم سألوك أن تعجل ما تخوفهم
به من العذاب فلم تفعل فوالله لا أؤمن لك أبدا حتى تتخذ إلى السماء سلما ترقى فيها
وأنا أنظر حتى تأتيها وتأتي بنسخة منشورة معك ونفر من الملائكة يشهدون لك بما تقول
وايم الله لو فعلت ذلك لظننت أن لا أصدقك فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى
أهله حزينا لما رأى من مباعدتهم فأنـزل الله تعالى (
وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرْضِ ) يعني:
أرض مكة ( يَنْبُوعًا ) أي:
عيونا.
أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ
مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا ( 91 )
( أَوْ
تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ ) بستان ( مِنْ
نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا )
تشقيقا.
أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ
كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ
قَبِيلا ( 92 ) أَوْ
يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ
لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَـزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ
رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلا بَشَرًا رَسُولا ( 93 )
( أَوْ
تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا ) قرأ
نافع وابن عامر وعاصم بفتح السين أي: قطعا وهي جمع « كسفة » وهي:
القطعة والجانب مثل: كسرة وكسر. وقرأ الآخرون بسكون السين على التوحيد وجمعه أكساف
وكسوف أي: تسقطها طبقا [ واحدا ] وقيل:
أراد جانبها علينا وقيل: معناه أيضا القطع وهي جمع التكسير مثل سدرة وسدر في
الشعراء وسبأ ( كِسَفًا ) بالفتح
حفص وفي الروم ساكنة أبو جعفر وابن عامر.
( أَوْ
تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلا ) قال
ابن عباس: كفيلا أي: يكفلون بما تقول وقال الضحاك: ضامنا وقال مجاهد: هو جمع
القبيلة أي: بأصناف الملائكة قبيلة قبيلة [ وقال
قتادة: عيانا أي: تراهم القابلة ] أي معاينة [
وقال الفراء: هو من قول العرب لقيت فلانا قبيلا وقبيلا أي: معاينة ] . ( أَوْ
يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ ) أي: من
ذهب وأصله الزينة ( أَوْ تَرْقَى ) تصعد ( فِي
السَّمَاءِ ) هذا قول عبد الله بن أبي أمية ( وَلَنْ
نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ ) لصعودك (
حَتَّى تُنَـزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ ) أمرنا
فيه باتباعك ( قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي ) وقرأ
ابن كثير وابن عامر « قال » يعني
محمدا وقرأ الآخرون على الأمر أي: قل يا محمد ( هَلْ
كُنْتُ إِلا بَشَرًا رَسُولا ) أمره بتنـزيهه وتمجيده على
معنى أنه لو أراد أن ينـزل ما طلبوا لفعل ولكن الله لا ينـزل الآيات على ما يقترحه
البشر وما أنا إلا بشر وليس ما سألتم في طوق البشر.
واعلم أن الله تعالى قد أعطى
النبي صلى الله عليه وسلم من الآيات والمعجزات ما يغني عن هذا كله مثل: القرآن وانشقاق
القمر وتفجير العيون من بين الأصابع وما أشبهها والقوم عامتهم كانوا متعنتين لم
يكن قصدهم طلب الدليل ليؤمنوا فرد الله عليهم سؤالهم.
وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ
يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا
رَسُولا ( 94 ) قُلْ
لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا
عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولا ( 95 ) قُلْ
كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ
خَبِيرًا بَصِيرًا ( 96 )
قوله عز وجل: ( وَمَا
مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلا أَنْ قَالُوا ) جهلا
منهم ( أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولا ) أراد:
أن الكفار كانوا يقولون لن نؤمن لك لأنك بشر وهلا بعث الله إلينا ملكا؟ فأجابهم
الله تعالى: ( قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ
مُطْمَئِنِّينَ ) ( قُلْ
لَوْ كَانَ فِي الأرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ )
مستوطنين مقيمين ( لَنَـزَّلْنَا عَلَيْهِمْ
مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولا ) من
جنسهم لأن القلب إلى الجنس أميل منه إلى غير الجنس. ( قُلْ كَفَى
بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ) أني
رسول الله إليكم ( إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ
خَبِيرًا بَصِيرًا )
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ
الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ
جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا ( 97 )
قوله عز وجل: (
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ
أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ ) يهدونهم (
وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ )
أخبرنا أحمد بن عبد الله
الصالحي أخبرنا الحسن بن شجاع الصوفي المعروف بابن الموصلي أنبأنا أبو بكر بن
الهيثم حدثنا جعفر بن محمد الصائغ حدثنا حسين بن محمد حدثنا سفيان عن قتادة عن أنس
أن رجلا قال: يا رسول الله كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟ قال النبي صلى
الله عليه وسلم: « إن الذي أمشاه على رجليه قادر
على أن يمشيه على وجهه » .
وجاء في الحديث: « إنهم
يتقون بوجوههم كل حدب وشوك » . (
عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا )
فإن قيل: كيف وصفهم بأنهم عمي
وبكم وصم وقد قال: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ (
الكهف- 53 ) وقال: دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (
الفرقان- 13 ) وقال: سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (
الفرقان- 12 ) أثبت الرؤية والكلام والسمع؟
قيل: يحشرون على ما وصفهم الله
ثم تعاد إليهم هذه الأشياء.
وجواب آخر قال ابن عباس: عميا
لا يرون ما يسرهم بكما لا ينطقون بحجة صما لا يسمعون شيئا يسرهم.
وقال الحسن: هذا حين يساقون إلى
الموقف إلى أن يدخلوا النار.
وقال مقاتل: هذا حين يقال لهم:
اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ (
المؤمنون- 108 ) فيصيرون بأجمعهم عميا وبكما
وصما لا يرون ولا ينطقون ولا يسمعون (
مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ ) قال
ابن عباس: كلما سكنت أي سكن لهيبها وقال مجاهد: طفئت وقال قتادة: ضعفت وقيل: هو
الهدوّ من غير أن يوجد نقصان في ألم الكفار لأن الله تعالى قال: لا يُفَتَّرُ
عَنْهُمْ ( الزخرف- 75 ) وقيل (
كُلَّمَا خَبَتْ ) أي: أرادت أن تخبو (
زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا ) أي: وقودا.
وقيل: المراد من قوله: (
كُلَّمَا خَبَتْ ) أي: نضجت جلودهم واحترقت
أعيدوا فيها إلى ما كانوا عليه وزيد في تسعير النار لتحرقهم.
ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ
كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا
لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا ( 98 )
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ
عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلا لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى
الظَّالِمُونَ إِلا كُفُورًا ( 99 )
(
ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا
عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا )
فأجابهم الله تعالى فقال: ( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ
الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ ) (
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ ) في
عظمتها وشدتها ( قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ
مِثْلَهُمْ ) في صغرهم وضعفهم نظيره قوله تعالى: لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ
وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ( غافر-
57 ) .
(
وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلا ) أي: وقتا لعذابهم ( لا
رَيْبَ فِيهِ ) أنه يأتيهم قيل: هو الموت وقيل: هو يوم القيامة (
فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلا كُفُورًا ) أي:
جحودا وعنادا.
قُلْ لَوْ أَنْتُمْ
تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنْفَاقِ
وَكَانَ الإِنْسَانُ قَتُورًا ( 100 )
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ
إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا
( 101 )
( قُلْ
لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي ) أي:
نعمة ربي وقيل: رزق ربي ( إِذًا لأمْسَكْتُمْ ) لبخلتم
وحبستم ( خَشْيَةَ الإنْفَاقِ ) أي:
خشية الفاقة قاله قتادة.
وقيل: خشية النفاد يقال: أنفق
الرجل أي أملق وذهب ماله ونفق الشيء أي: ذهب.
وقيل: لأمسكتم عن الإنفاق خشية
الفقر.
(
وَكَانَ الإنْسَانُ قَتُورًا ) أي: بخيلا ممسكا عن الإنفاق.
قوله عز وجل: ( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى
تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ) أي: دلالات واضحات فهي الآيات
التسع.
قال ابن عباس والضحاك: هي العصا
واليد البيضاء والعقدة التي كانت بلسانه فحلها وفلق البحر والطوفان والجراد والقمل
والضفادع والدم.
وقال عكرمة وقتادة ومجاهد
وعطاء: هي الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والعصا واليد والسنون ونقص
الثمرات.
وذكر محمد بن كعب القرظي: الطمس
والبحر بدل السنين ونقص من الثمرات قال: فكان الرجل منهم مع أهله في فراشه وقد صار
حجرين والمرأة منهم قائمة تخبز وقد صارت حجرا.
وقال بعضهم: هن آيات الكتاب .
أخبرنا أبو سعيد أحمد بن
إبراهيم الشريحي أخبرنا أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي أخبرني الحسن
بن محمد الثقفي أخبرنا هارون بن محمد بن هارون العطار أنبأنا يوسف بن عبد الله بن
ماهان حدثنا الوليد الطيالسي حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن مسلمة عن
صفوان بن عسال المرادي أن يهوديا قال لصاحبه: تعال حتى نسأل هذا النبي فقال الآخر:
لا تقل نبي فإنه لو سمع صارت أربعة أعين فأتياه فسألاه عن هذه الآية: (
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ) فقال
لا تشركوا بالله شيئا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا تزنوا ولا
تأكلوا الربا ولا تسحروا ولا تمشوا بالبرىء إلى سلطان ليقتله ولا تسرفوا ولا
تقذفوا المحصنة ولا تفروا من الزحف وعليكم خاصة اليهود أن لا تعدوا في السبت فقبلا
يده وقالا نشهد أنك نبي قال: فما يمنعكم أن تتبعوني؟ قالا إن داود دعا ربه أن لا
يزال في ذريته نبي وإنا نخاف إن تبعناك أن يقتلنا اليهود .
(
فَاسْأَلْ ) يا محمد ( بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ
جَاءَهُمْ ) موسى يجوز أن يكون الخطاب معه والمراد غيره ويجوز أن يكون
خاطبه عليه السلام وأمره بالسؤال ليتبين كذبهم مع قومهم. (
فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لأظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا ) أي:
مطبوبا سحروك قاله الكلبي.
وقال ابن عباس: مخدوعا.
وقيل مصروفا عن الحق.
وقال الفراء وأبو عبيدة: ساحرا
فوضع المفعول موضع الفاعل.
وقال محمد بن جرير: معطى علم
السحر فهذه العجائب التي تفعلها من سحرك .
قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا
أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي
لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا ( 102
)
( قَالَ
) موسى ( لَقَدْ عَلِمْتَ ) قرأ
العامة بفتح التاء خطابا لفرعون وقرأ الكسائي بضم التاء ويروى ذلك عن علي وقال: لم
يعلم الخبيث أن موسى على الحق ولو علم لآمن ولكن موسى هو الذي علم قال ابن عباس:
علمه فرعون ولكنه عاند قال الله تعالى: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا
أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا (
النمل- 14 ) .
وهذه القراءة وهي نصب التاء أصح
في المعنى وعليه أكثر القراء لأن موسى لا يحتج عليه بعلم نفسه ولا يثبت عن علي رفع
التاء لأنه روي عن رجل من مراد عن علي وذلك أن الرجل مجهول ولم يتمسك بها أحد من
القراء غير الكسائي .
( مَا
أَنْـزَلَ هَؤُلاءِ ) هذه الآيات التسع ( إِلا
رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ بَصَائِرَ ) جمع
بصيرة أي يبصر بها.
(
وَإِنِّي لأظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا ) قال ابن
عباس: ملعونا. وقال مجاهد: هالكا وقال قتادة: مهلكا. وقال الفراء: أي مصروفا
ممنوعا عن الخير. يقال: ما ثبرك عن هذا الأمر أي ما منعك وصرفك عنه .
فَأَرَادَ أَنْ
يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا ( 103
) وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا
الأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا ( 104
)
( فَأَرَادَ أَنْ
يَسْتَفِزَّهُمْ ) أي: أراد فرعون أن يستفز موسى
وبني إسرائيل أي: يخرجهم ( مِنَ الأرْضِ ) يعني:
أرض مصر ( فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا ) ونجينا
موسى وقومه. ( وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ ) أي من
بعد هلاك فرعون ( لِبَنِي إِسْرَائِيلَ
اسْكُنُوا الأرْضَ ) يعني أرض مصر والشام (
فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ ) يعني يوم القيامة (
جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا ) أي: جميعا إلى موقف القيامة
واللفيف: الجمع الكثير إذا كانوا مختلطين من كل نوع. يقال: لفت الجيوش إذا اختلطوا
وجمع القيامة كذلك فيهم المؤمن والكافر والبر والفاجر.
وقال الكلبي: « فإذا
جاء وعد الآخرة » : يعني مجيء عيسى من السماء « جئنا
بكم لفيفا » أي: النـزاع من كل قوم من هاهنا ومن هاهنا لفوا جميعا.
وَبِالْحَقِّ أَنْـزَلْنَاهُ
وَبِالْحَقِّ نَـزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ( 105
) وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ
عَلَى مُكْثٍ وَنَـزَّلْنَاهُ تَنْـزِيلا ( 106
)
قوله عز وجل: (
وَبِالْحَقِّ أَنْـزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَـزَلَ ) يعني
القرآن ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا مُبَشِّرًا )
للمطيعين ( وَنَذِيرًا )
للعاصين. ( وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ ) قيل:
معناه: أنـزلناه نجوما لم ينـزل مرة واحدة بدليل قراءة ابن عباس: (
وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ ) بالتشديد وقراءة العامة
بالتخفيف أي: فصلناه وقيل: بيناه وقال الحسن: معناه فرقنا به بين الحق والباطل (
لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ ) أي:
على تؤدة وترتيل وترسل في ثلاث وعشرين سنة (
وَنَـزَّلْنَاهُ تَنْـزِيلا )
قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا
تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى
عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا ( 107
) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ
رَبِّنَا لَمَفْعُولا ( 108 )
وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ( 109
)
( قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا
تُؤْمِنُوا ) هذا على طريق الوعيد والتهديد ( إِنَّ
الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ ) قيل:
هم مؤمنوا أهل الكتاب وهم الذين كانوا يطلبون الدين قبل مبعث رسول الله صلى الله
عليه وسلم ثم أسلموا بعد مبعثه مثل زيد بن عمر بن نفيل وسلمان الفارسي وأبي ذر
وغيرهم .
( إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ ) يعني:
القرآن ( يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ ) أي:
يسقطون على الأذقان قال ابن عباس: أراد بها الوجوه (
سُجَّدًا ) ( وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ
رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا ) أي:
كائنا واقعا . ( وَيَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ
يَبْكُونَ ) أي: يقعون على الوجوه يبكون, البكاء مستحب عند قراءة القرآن
( وَيَزِيدُهُمْ ) نـزول
القرآن ( خُشُوعًا ) خضوعا
لربهم. نظيره قوله تعالى: إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا
سُجَّدًا وَبُكِيًّا ( مريم- 58 ) .
أخبرنا أحمد بن عبد الله
الصالحي أخبرنا أبو عمرو بن بكر بن محمد المزني حدثنا أبو بكر محمد بن عبد الله
الجنيد حدثنا الحسن بن الفضل البجلي أخبرنا عاصم عن علي بن عاصم حدثنا المسعودي هو
عبد الرحمن بن عبد الله عن محمد بن عبد الرحمن مولى أبي طلحة عن عيسى بن طلحة عن أبي
هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا يلج
النار من بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع ولا يجتمع غبار في سبيل الله
ودخان جهنم في منخري مسلم أبدا » .
أخبرنا أبو القاسم بن عبد
الكريم بن هوازن القشيري أخبرنا أبو القاسم عبد الخالق بن علي بن عبد الخالق
المؤذن أخبرنا أحمد بن بكر بن محمد بن حمدان حدثنا محمد بن يونس الكديمي أنبأنا
عبد الله بن محمد الباهلي حدثنا أبو حبيب الغنوي حدثنا بهز بن حكيم عن أبيه عن جده
قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « حرمت
النار على ثلاث أعين: عين بكت من خشية الله وعين سهرت في سبيل الله وعين غضت عن
محارم الله » .
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ
ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلا
تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا ( 110
)
قوله عز وجل ( قُلِ
ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ ) قال
ابن عباس: سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ذات ليلة فجعل يبكي ويقول في
سجوده: يا الله يا رحمن فقال أبو جهل: إن محمدا ينهانا عن آلهتنا وهو يدعو إلهين!
فأنـزل الله تعالى هذه الآية . ومعناه: أنهما اسمان لواحد.
(
أَيًّا مَا تَدْعُوا ) « ما » صلة
معناه: أيا ما تدعوا من هذين الاسمين ومن جميع أسمائه (
فَلَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى )
( وَلا
تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا ) أخبرنا
عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنبأنا محمد بن يوسف
حدثنا محمد بن إسماعيل أخبرنا يعقوب بن إبراهيم حدثنا هشيم حدثنا أبو بشر عن سعيد
بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: ( وَلا
تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا ) قال:
نـزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم مختف بمكة كان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن
فإذا سمعه المشركون سبوا القرآن ومن أنـزله ومن جاء به فقال الله تعالى لنبيه صلى
الله عليه وسلم: ( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ ) أي
بقراءتك فيسمع المشركون فيسبوا القرآن ولا تخافت بها عن أصحابك فلا تسمعهم: (
وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا ) .
وبهذا الإسناد عن محمد بن
إسماعيل قال: حدثنا مسدد عن هشيم عن أبي بشر بإسناده مثله وزاد (
وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا ) أسمعهم
ولا تجهر حتى يأخذوا عنك القرآن .
وقال قوم: الآية في الدعاء وهو
قول عائشة رضي الله عنها والنخعي ومجاهد ومكحول: أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا
أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا طلق بن
غنام حدثنا زائدة عن هشام عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها في قوله: « ولا
تجهر بصلاتك ولا تخافت بها » قالت: أنـزل ذلك في الدعاء .
وقال عبد الله بن شداد: كان
أعراب من بني تميم إذا سلم النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: « اللهم
ارزقنا مالا وولدا فيجهرون بذلك فأنـزل الله هذه الآية: ( وَلا
تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ ) أي: لا ترفع صوتك بقراءتك أو
بدعائك ولا تخافت بها . »
والمخافتة: خفض الصوت والسكوت « وابتغ
بين ذلك سبيلا » أي: بين الجهر والإخفاء.
أخبرنا أبو عثمان سعيد بن
إسماعيل الضبي أخبرنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الخزاعي أخبرنا أبو العباس محمد
بن أحمد المحبوبي حدثنا أبو عيسى الترمذي حدثنا محمود بن غيلان حدثنا يحيى بن إسحاق
حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن عبد الله بن أبي رباح الأنصاري عن أبي قتادة أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر: « مررت
بك وأنت تقرأ وأنت تخفض من صوتك فقال: إني أسمعت من ناجيت فقال: ارفع قليلا وقال
لعمر: مررت بك وأنت تقرأ وأنت ترفع صوتك فقال إني أوقظ الوسنان وأطرد الشيطان فقال
اخفض قليلا » .
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ
يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا ( 111
)
(
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا ) أمر
الله نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يحمده على وحدانيته ومعنى الحمد لله هو: الثناء
عليه بما هو أهله.
قال الحسين بن الفضل: يعني:
الحمد لله الذي عرفني أنه لم يتخذ ولدا.
(
وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ
الذُّلِّ ) قال مجاهد: لم يذل فيحتاج إلى ولي يتعزز به.
(
وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا ) أي: وعظمه عن أن يكون له شريك
أو ولي.
أخبرنا الإمام أبو علي الحسين
بن محمد القاضي أخبرنا الإمام أبو الطيب سهل [ بن
محمد بن سليمان حدثنا أبو العباس الأصم حدثنا محمد بن يعقوب حدثنا محمد بن إسحاق
الصغاني حدثنا نضر بن حماد أبو الحارث الوراق حدثنا شعبة ] عن
حبيب بن أبي ثابت قال: سمعت سعيد بن جبير يحدث عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: « أول من يدعى إلى الجنة يوم
القيامة الذين يحمدون الله في السراء والضراء » .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد
المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أخبرنا
أبو الحسن بن بشران أخبرنا إسماعيل بن محمد الصفار أخبرنا أحمد بن منصور الرمادي
أنبأنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن قتادة أن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: « الحمد لله رأس الشكر ما شكر
الله عبد لا يحمده » .
أخبرنا أبو الفضل بن زياد بن
محمد الحنفي أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن أحمد الأنصاري أخبرنا أبو محمد يحيى بن
محمد بن صاعد حدثنا يحيى بن خالد بن أيوب المخزومي حدثنا موسى بن إبراهيم بن كثير
بن بشر الخزامي الأنصاري عن طلحة بن خراش عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال: « إن أفضل الدعاء الحمد لله
وأفضل الذكر لا إله إلا الله » .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد
المليحي أخبرنا عبد الرحمن بن أبي شريح أخبرنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد
العزيز البغوي حدثنا علي بن الجعد حدثنا زهير حدثنا منصور عن هلال بن بشار عن
الربيع بن عميلة عن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أحب
الكلام إلى الله تعالى أربع: لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله والحمد لله
لا يضرك بأيهن بدأت » .