سورة الحج
مكية غير آيات من قوله عز وجل
هَذَانِ خَصْمَانِ إلى قوله وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ .
بسم الله الرحمن الرحيم
يَا أَيُّهَا النَّاسُ
اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ( 1 )
يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ
ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى
وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ( 2 )
( يَا أَيُّهَا النَّاسُ
اتَّقُوا رَبَّكُمُ ) أي: احذروا عقابه بطاعته, ( إِنَّ
زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ) والزلزلة
والزلزال شدة الحركة على الحالة الهائلة, واختلفوا في هذه الزلزلة:
فقال علقمة والشعبي: هي من
أشراط الساعة. [ وقيل: قيام الساعة ] .
وقال الحسن والسدي: هذه الزلزلة
تكون يوم القيامة.
وقال ابن عباس: زلزلة الساعة
قيامها فتكون معها. ( يَوْمَ تَرَوْنَهَا ) يعني
الساعة, وقيل: الزلزلة, ( تَذْهَلُ ) قال
ابن عباس: تشغل, وقيل: تنسى, يقال: ذهلت عن كذا أي تركته واشتغلت بغيره. ( كُلُّ
مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ ) أي: كل امرأة معها ولد ترضعه,
يقال: امرأة مرضع, بلا هاء, إذا أريد به الصفة, مثل حائض وحامل, فإذا أرادوا الفعل
أدخلوا الهاء. ( وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ
حَمْلَهَا ) أي: تسقط ولدها من هول ذلك اليوم.
قال الحسن: تذهل المرضعة عن
ولدها بغير فطام وتضع الحامل ما في بطنها بغير تمام وهذا يدل على أن هذه الزلزلة
تكون في الدنيا لأن بعد البعث لا يكون حمل.
ومن قال: تكون في القيامة, قال
هذا على وجه تعظيم الأمر لا على حقيقته, كقولهم: أصابنا أمر يشيب فيه الوليد, يريد
شدته.
(
وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى ) قرأ
حمزة والكسائي: « سكرى وما هم بسكرى » بلا ألف
وهما لغتان في جمع السكران, مثل كسلى وكسالى.
قال الحسن: معناه: وترى الناس
سكارى من الخوف, وما هم بسكارى من الشراب.
وقيل: معناه: وترى الناس كأنهم
سكارى, ( وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ )
أخبرنا الإمام أبو علي الحسين
بن محمد القاضي, أخبرنا أبو طاهر محمد بن محمش الزيادي, أخبرنا أبو بكر محمد بن
عمر بن حفص التاجر, أخبرنا إبراهيم بن عبد الله بن عمر بن بكير الكوفي العبسي,
أخبرنا وكيع عن الأعمش, عن أبي صالح, عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: « يقول الله عز وجل يوم
القيامة: يا آدم قم فابعث بعث النار, قال فيقول: لبيك وسعديك والخير كله في يديك,
يا رب وما بعث النار؟ قال فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين, قال: فحينئذ
يشيب المولود, وتضع كل ذات حمل حملها وترى [
الناس ] سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد, قال: فيقولون:
وأينا ذاك الواحد؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: » تسعمائة
وتسعة وتسعون من يأجوج ومأجوج ومنكم واحد « , فقال
الناس: الله أكبر, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: » والله
إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة, والله إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة,
والله إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة, قال فكبر الناس, فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: ما أنتم يومئذ في الناس إلا كالشعرة البيضاء في الثور الأسود, أو
الشعرة السوداء في الثور الأبيض « . »
وروي عن عمران بن حصين, وأبي
سعيد الخدري, وغيرهما: أن هاتين الآيتين نـزلتا في غزوة بني المصطلق ليلا فنادى [
منادي ] رسول الله صلى الله عليه وسلم فحثوا المطي حتى كانوا حول
رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقرأها عليهم فلم ير أكثر باكيا من تلك الليلة,
فلما أصبحوا لم يحطوا السروج عن الدواب, ولم يضربوا الخيام ولم يطبخوا قدرا,
والناس ما بين باك أو جالس حزين متفكر, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أتدرون
أي يوم ذلك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم, قال: ذلك يوم يقول الله عز وجل لآدم قم
فابعث بعث النار من ولدك, فيقول آدم: من كل كم؟ فيقول الله عز وجل: من كل ألف
تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار وواحد في الجنة, قال: فكبر ذلك على المسلمين وبكوا
وقالوا: فمن ينجو إذا يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبشروا
وسددوا وقاربوا فإن معكم خليقتين ما كانتا في قوم إلا كثرتاه: يأجوج ومأجوج, ثم
قال: إني لأرجو [ أن تكونوا ] ثلث
أهل الجنة, فكبروا وحمدوا الله, ثم قال: إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة,
فكبروا وحمدوا الله, ثم قال: إني لأرجو أن تكونوا ثلثي أهل الجنة, وإن أهل الجنة
مائة وعشرون صفا, ثمانون منها أمتي, وما المسلمون في الكفار إلا كالشامة في جنب
البعير أو كالرقمة في ذراع الدابة, بل كالشعرة السوداء في الثور الأبيض أو كالشعرة
البيضاء في الثور الأسود. ثم قال: ويدخل من أمتي سبعون ألفا الجنة بغير حساب, فقال
عمر: سبعون ألفا؟ قال: نعم ومع كل واحد سبعون ألفا, فقام عكاشة بن محصن فقال: يا
رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنت منهم,
فقام رجل من الأنصار فقال: ادع الله أن يجعلني منهم فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: سبقك بها عكاشة » .
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ ( 3 )
كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى
عَذَابِ السَّعِيرِ ( 4 ) يَا
أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا
خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ
مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي
الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلا ثُمَّ
لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ
إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى
الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ
وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ( 5 )
قوله عز وجل: (
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ) نـزلت
في النضر بن الحارث كان كثير الجدل, وكان يقول: الملائكة بنات الله, والقرآن
أساطير الأولين, وكان ينكر البعث وإحياء من صار ترابا.
قوله تعالى: (
وَيَتَّبِعُ ) أي: يتبع في جداله في الله بغير علم, ( كُلَّ
شَيْطَانٍ مَرِيدٍ ) والمريد: المتمرد المستمر في
الشر. ( كُتِبَ عَلَيْهِ ) قضي
على الشيطان, ( أَنَّهُ مَنْ تَوَلاهُ ) اتبعه
( فَأَنَّهُ ) يعني
الشيطان, ( يُضِلُّهُ ) أي:
يضل من تولاه, ( وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ
السَّعِيرِ ) ثم ألزم الحجة على منكري البعث فقال: ( يَا
أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ ) في شك
( مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ ) يعني:
أباكم آدم الذي هو أصل النسل, ( مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ
نُطْفَةٍ ) يعني: ذريته, والنطفة هي المني, وأصلها الماء القليل وجمعها
نطاف, ( ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ) وهي
الدم الغليظ المتجمد, وجمعها علق, وذلك أن النطفة تصير دما غليظا ثم تصير لحما, ( ثُمَّ
مِنْ مُضْغَةٍ ) وهي لحمة قليلة قدر ما يمضغ,
( مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ )
قال ابن عباس وقتادة: « مخلقة
» أي تامة الخلق, « وغير
مخلقة » غير تامة أي ناقصة الخلق.
وقال مجاهد: مصورة وغير مصورة, يعني السقط.
وقيل: « المخلقة » الولد
الذي تأتي به المرأة لوقته, « وغير المخلقة » السقط.
روي عن علقمة عن عبد الله بن مسعود قال: إن النطفة إذا استقرت
في الرحم أخذها ملك بكفه وقال: أي رب مخلقة أو غير مخلقة؟ فإن قال: غير مخلقة,
قذفها الرحم دما ولم تكن نسمة, وإن قال: مخلقة, قال الملك: أي رب أذكر أم أنثى,
أشقي أم سعيد؟ ما الأجل ما العمل ما الرزق وبأي أرض يموت؟ فيقال له: اذهب إلى أم
الكتاب فإنك تجد فيها كل ذلك, فيذهب فيجدها في أم الكتاب فينسخها, فلا يزال معه
حتى يأتي على آخر صفته .
( لِنُبَيِّنَ لَكُمْ ) كمال
قدرتنا وحكمتنا في تصريف أطوار خلقكم ولتستدلوا بقدرته في ابتداء الخلق على قدرته
على الإعادة.
وقيل: لنبين لكم ما تأتون وما تذرون وما تحتاجون إليه في
العبادة.
( وَنُقِرُّ فِي الأرْحَامِ
مَا نَشَاءُ ) فلا تمجه ولا تسقطه, ( إِلَى
أَجَلٍ مُسَمًّى ) وقت خروجها من الرحم تامة
الخلق والمدة. ( ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ ) من
بطون أمهاتكم ( طِفْلا ) أي:
صغارا, ولم يقل: أطفالا لأن العرب تذكر الجمع باسم الواحد. وقيل: تشبيها بالمصدر
مثل عدل وزور. ( ثُمَّ لِتَبْلُغُوا
أَشُدَّكُمْ ) يعني: الكمال والقوة.
( وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى ) من قبل
بلوغ الكبر, ( وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ ) أي:
الهرم والخرف, ( لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ
بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا ) أي: يبلغ من السن ما يتغير
عقله فلا يعقل شيئا.
ثم ذكر دليلا آخر على البعث فقال: (
وَتَرَى الأرْضَ هَامِدَةً ) أي: يابسة لا نبات فيها, (
فَإِذَا أَنـزلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ ) المطر,
( اهْتَزَّتْ ) تحركت
بالنبات وذلك أن الأرض ترتفع بالنبات فذلك تحركها, (
وَرَبَتْ ) أي: ارتفعت وزادت, وقيل: فيه تقديم وتأخير معناه: ربت
واهتزت وربا نباتها, فحذف المضاف, والاهتزاز في النبات أظهر, يقال: اهتز النبات أي
: طال وإنما أُنِّت لذكر الأرض. وقرأ أبو جعفر: « وربأت »
بالهمزة, وكذلك في حم السجدة, أي: ارتفعت وعلت.
( وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ
زَوْجٍ بَهِيجٍ ) أي: صنف حسن يبهج به من رآه,
أي: يسر, فهذا دليل آخر على البعث.
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ
الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 6 )
وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي
الْقُبُورِ ( 7 )
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا
كِتَابٍ مُنِيرٍ ( 8 )
(
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ ) أي:
لتعلموا أن الله هو الحق, ( وَأَنَّهُ يُحْيِي
الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) . (
وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي
الْقُبُورِ ) . ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ) يعني
النضر بن الحارث, ( وَلا هُدًى ) بيان ( وَلا
كِتَابٍ مُنِيرٍ )
ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ
عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
عَذَابَ الْحَرِيقِ ( 9 )
ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ ( 10 )
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ
اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ
الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ( 11 )
( ثَانِيَ عِطْفِهِ ) أي:
متبخترا لتكبره. وقال مجاهد, وقتادة: لاوي عنقه. قال عطية, وابن زيد: معرضا عما
يدعى إليه تكبرا. وقال ابن جريج: يعرض عن الحق تكبرا. والعطف: الجانب, وعطفا
الرجل: جانباه عن يمين وشمال وهو الموضع الذي يعطفه الإنسان أي يلويه ويميله عند
الإعراض عن الشيء, نظيره قوله تعالى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى
مُسْتَكْبِرًا ( لقمان: 7 ) , وقال
تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ
لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ ( المنافقون: 5 ) . (
لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ) عن دين الله, ( لَهُ
فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ ) عذاب وهوان, وهو القتل ببدر,
فقتل النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط يوم بدر صبرا. (
وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ ) ويقال
له: ( ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ
بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ ) فيعذبهم بغير ذنب وهو جل ذكره
على أي وجه شاء تصرف في عبده, فحكمه عدل وهو غير ظالم. قوله عز وجل: (
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ ) الآية
نـزلت في قوم من الأعراب كانوا يقدمون المدينة مهاجرين من باديتهم فكان أحدهم إذا
قدم المدينة فصح بها جسمه ونتجت بها فرسه مهرا حسنا وولدت امرأته غلاما وكثر ماله,
قال: هذا دين حسن وقد أصبت فيه خيرا واطمأن إليه, وإن أصابه مرض وولدت امرأته
جارية وأجهضت رماكه وقل ماله, قال: ما أصبت منذ دخلت في هذا الدين إلا شرا فينقلب
عن دينه, وذلك الفتنة فأنـزل الله عز وجل:
( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ ) أكثر المفسرين قالوا: على شك
وأصله من حرف الشيء وهو طرفه, نحو حرف الجبل والحائط الذي كالقائم عليه غير مستقر,
فقيل للشاك في الدين إنه يعبد الله على حرف لأنه على طرف وجانب من الدين لم يدخل
فيه على الثبات والتمكن وأصله كالقائم على حرف الجبل مضطرب غير مستقر, يعرض أن يقع
في أحد جانبي الطرف لضعف قيامه, ولو عبدوا الله في الشكر على السراء والصبر على
الضراء لم يكونوا على حرف, قال الحسن: هو المنافق يعبده بلسانه دون قلبه (
فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ ) صحة في جسمه, وسعة في معيشته,
( اطْمَأَنَّ بِهِ ) أي:
رضي به وسكن إليه, ( وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ
) بلاء في جسده, وضيق في معيشته, (
انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ ) ارتد ورجع على عقبه إلى الوجه
الذي كان عليه من الكفر, ( خَسِرَ الدُّنْيَا ) يعني
هذا الشاك خسر الدنيا بفوات ما كان يؤمل, (
وَالآخِرَةَ ) بذهاب الدين والخلود في النار. قرأ يعقوب « خاسر » بالألف
( وَالآخِرَةَ ) جر. (
ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ )
الظاهر.
يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ
مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ ( 12 ) يَدْعُو
لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ
( 13 )
(
يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ ) إن
عصاه ولم يعبده, ( وَمَا لا يَنْفَعُهُ ) إن
أطاعه وعبده, ( ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ
الْبَعِيدُ ) عن الحق والرشد. ( يَدْعُو
لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ ) هذه
الآية من مشكلات القرآن وفيها أسئلة:
أولها قالوا: قد قال الله في
الآية الأولى « يدعو من دون الله ما لا يضره » , وقال
هاهنا: « لمن ضره أقرب » , فكيف
التوفيق بينهما؟
قيل قوله في الآية الأولى « يدعو
من دون الله ما لا يضره » أي: لا يضره ترك عبادته,
وقوله: « لمن ضره أقرب » أي: ضر
عبادته.
فإن قيل: قد قال: « لمن
ضره أقرب من نفعه » ولا نفع في عبادة الصنم أصلا؟.
قيل: هذا على عادة العرب, فإنهم
يقولون لما لا يكون أصلا بعيد, كقوله تعالى: ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ ( ق:3 ) أي: لا
رجع أصلا فلما كان نفع الصنم بعيدا, على معنى: أنه لا نفع فيه أصلا قيل: ضره أقرب,
لأنه كائن.
السؤال الثالث: قوله (
لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ ) ما وجه هذه اللام؟ اختلفوا
فيه, فقال بعضهم: هي صلة, مجازها: يدعو من ضره أقرب وكذلك قرأها ابن مسعود. وقيل: « لمن
ضره » أي إلى الذي ضره أقرب من نفعه. وقيل: « يدعو » بمعنى
يقول: والخبر محذوف, أي يقول: لمن ضره أقرب من نفعه هو إله.
وقيل: معناه يدعو لمن ضره أقرب
من نفعه يدعو, فحذف يدعو الأخيرة اجتزاء بالأولى, ولو قلت: يضرب لمن خيره أكثر من
شره يضرب, ثم يحذف الأخير جاز.
وقيل: على التوكيد, معناه: يدعو
والله لمن ضره أقرب من نفعه.
وقيل: « يدعو
من » صلة قوله: « ذلك هو الضلال البعيد » يقول:
ذلك هو الضلال البعيد يدعو, ثم استأنف فقال: « لمن
ضره أقرب من نفعه » فيكون « من » في محل
رفع بالابتداء وخبره: ( لَبِئْسَ الْمَوْلَى ) أي
الناصر. وقيل: المعبود. ( وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ ) أي:
الصاحب والمخالط, يعني: الوثن, والعرب تسمي الزوج عشيرا لأجل المخالطة.
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ( 14 ) مَنْ
كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ
فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ
يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ ( 15 )
قوله عز وجل: ( إِنَّ
اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ) . ( مَنْ
كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ ) يعني
نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم ( فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ
فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ ) بحبل ( إِلَى
السَّمَاءِ ) أراد بالسماء سقف البيت على قول الأكثرين, أي: ليشدد حبلا
في سقف بيته فليختنق به حتى يموت, ( ثُمَّ
لْيَقْطَعْ ) الحبل بعد الاختناق. وقيل: « ثم
ليقطع » أي ليمد الحبل حتى ينقطع فيموت مختنقا, ( فَلْيَنْظُرْ
هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ) صنيعه وحيلته, ( مَا
يَغِيظُ ) « ما » بمعنى
المصدر, أي: هل يذهبن كيده وحيلته غيظه, معناه: فليختنق غيظا حتى يموت. وليس هذا
على سبيل الحتم أي : أن يفعله لأنه لا يمكنه القطع والنظر بعد الاختناق والموت,
ولكنه كما يقال للحاسد: إن لم ترض هذا فاختنق ومت غيظا.
وقال ابن زيد: المراد من السماء السماء المعروفة.
ومعنى الآية: من كان يظن أن لن ينصر الله نبيه ويكيد في أمره
ليقطعه عنه فليقطعه من أصله, فإن أصله من السماء, فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع
عن النبي صلى الله عليه وسلم الوحي الذي يأتيه فلينظر هل يقدر على إذهاب غيظه بهذا
الفعل.
وروي أن هذه الآية نـزلت في قوم من أسد وغطفان, دعاهم النبي
صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام وكان بينهم وبين اليهود حلف, وقالوا: لا يمكننا أن
نسلم لأنا نخاف أن لا ينصر محمد ولا يظهر أمره فينقطع الحلف بيننا وبين اليهود,
فلا يميروننا ولا يئوننا فنـزلت هذه الآية .
وقال مجاهد: « النصر
» بمعنى الرزق والهاء راجعة إلى ( مَنْ )
ومعناه: من كان يظن أن لن يرزقه الله في الدنيا والآخرة. نـزلت فيمن أساء الظن
بالله عز وجل وخاف ألا يرزقه الله, « فليمدد
بسبب إلى السماء » , أي: إلى سماء البيت, فلينظر
هل يذهبن فعله ذلك ما يغيظ, وهو خيفة أن لا يرزق.
وقد يأتي النصر بمعنى الرزق, تقول العرب: من ينصرني نصره
الله. أي: من يعطني أعطاه الله, قال أبو عبيدة: تقول العرب: أرض منصورة, أي:
ممطورة.
قرأ أبو عمرو, ونافع, وابن عامر, ويعقوب: « ثم
ليقطع » « ثم ليقضوا » بكسر
اللام, والباقون بجزمها لأن الكل لام الأمر, زاد ابن عامر وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ
وَلْيَطَّوَّفُوا ( الحج: 29 ) بكسر
اللام فيهما, ومن كسر في: « ثم ليقطع » وفي « ثم
ليقضوا » فرق بأن ثم مفصول من الكلام, والواو كأنها من نفس الكلمة
كالفاء في قوله: « فلينظر » .
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ
آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ ( 16 )
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى
وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ( 17 )
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي
الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ
وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ
وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا
يَشَاءُ ( 18 )
(
وَكَذَلِكَ ) أي: مثل ذلك, يعني: ما تقدم من آيات القرآن, (
أَنـزلْنَاهُ ) يعني: القرآن (
آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ ) ( إِنَّ
الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى
وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ) يعني:
عبدة الأوثان,, ( إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ
بَيْنَهُمْ ) يحكم بينهم, (
يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) (
أَلَمْ تَرَ ) ألم تعلم, وقيل: (
أَلَمْ تَرَ ) [ تقرأ ] بقلبك
( أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ
وَمَنْ فِي الأرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ
وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ ) قال مجاهد: سجودها تحول ظلالها.
وقال أبو العالية: ما في السماء نجم ولا شمس ولا قمر إلا يقع ساجدا حين يغيب ثم لا
ينصرف حتى يؤذن له, فيأخذ ذات اليمين حتى يرجع إلى مطلعه. وقيل: سجودها بمعنى
الطاعة فإنه ما من جماد إلا وهو مطيع لله خاشع له مسبح له كما أخبر الله تعالى عن
السموات والأرض قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ( فصلت:
11 ) , وقال في وصف الحجارة وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ
خَشْيَةِ اللَّهِ ( البقرة: 74 ) , وقال
تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ
تَسْبِيحَهُمْ ( الإسراء: 44 ) , وهذا
مذهب حسن موافق لقول أهل السنة.
قوله: (
وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ) أي: من هذه الأشياء كلها تسبح
الله عز وجل « وكثير من الناس » , يعني
المسلمين. ( وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ ) وهم
الكفار لكفرهم وتركهم السجود وهم مع كفرهم تسجد ظلالهم لله عز وجل. والواو في
قوله: ( وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ ) واو
الاستئناف.
( وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ ) أي:
يهنه الله ( فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ ) أي: من
يذله الله فلا يكرمه أحد, ( إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا
يَشَاءُ ) أي: يكرم ويهين فالسعادة والشقاوة بإرادته ومشيئته.
هَذَانِ خَصْمَانِ
اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ
نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ ( 19 )
قوله عز وجل : (
هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ ) أي:
جادلوا في دينه وأمره, والخصم اسم شبيه بالمصدر, فلذلك قال: (
اخْتَصَمُوا ) بلفظ الجمع كقوله: وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ
تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ ( ص:21 ) ,
واختلفوا في هذين الخصمين:
أخبرنا عبد الواحد المليحي,
أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي, أخبرنا محمد بن يوسف, أخبرنا محمد بن إسماعيل,
أخبرنا يعقوب بن إبراهيم, أخبرنا هشيم, أخبرنا أبو هاشم, عن أبي مجلز, عن قيس بن
عباد قال: سمعت أبا ذر يقسم قسما أن هذه الآية: (
هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ ) نـزلت
في الذين برزوا يوم بدر: حمزة وعلي, وعبيدة بن الحارث, وعتبة, وشيبة ابني أبي
ربيعة, والوليد بن عتبة .
وأخبرنا عبد الواحد المليحي,
أخبرنا أحمد النعيمي, أخبرنا محمد بن يوسف, أخبرنا محمد بن إسماعيل, أخبرنا حجاج
بن منهال, حدثنا المعتمر بن سليمان, قال: سمعت أبي قال أخبرنا أبو مجلز, عن قيس بن
عباد, عن علي بن أبي طالب قال: أنا أول من يجثو بين يدي الرحمن للخصومة يوم
القيامة, قال قيس: وفيهم نـزلت: (
هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ ) قال:
هم الذين بارزوا يوم بدر: علي وحمزة, وعبيدة, وشيبة بن ربيعة, وعتبة بن ربيعة,
والوليد بن عتبة .
قال محمد بن إسحاق خرج - يعني
يوم بدر - عتبة بن ربيعة بين أخيه شيبة بن ربيعة وابنه الوليد بن عتبة ودعا إلى
المبارزة فخرج إليه فتية من الأنصار ثلاثة: عوذ ومعوذ ابنا الحارث وأمهما عفراء,
وعبد الله بن رواحة فقالوا: من أنتم؟ قالوا: رهط من الأنصار, فقالوا حين انتسبوا:
أكفاء كرام, ثم نادى مناديهم: يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا, فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: قم يا عبيدة بن الحارث ويا حمزة بن عبد المطلب ويا علي
بن أبي طالب, فلما دنوا قالوا من أنتم؟ فذكروا وقالوا: نعم أكفاء كرام فبارز عبيدة
وكان أسن القوم عتبة, وبارز حمزة شيبة, وبارز علي الوليد بن عتبة, فأما حمزة فلم
يمهل أن قتل شيبة, وعلي الوليد, واختلف عبيدة وعتبة بينهما ضربتان كلاهما [
أثبت ] صاحبه, فكر حمزة وعلي بأسيافهما على عتبة فذففا عليه
واحتملا عبيدة إلى أصحابه, وقد قطعت رجله ومخها يسيل, فلما أتوا بعبيدة إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال: ألست شهيدا يا رسول الله؟ قال: « بلى » , فقال
عبيدة: لو كان أبو طالب حيا لعلم أنا أحق بما قال منه حيث يقول:
ونســلمه حــتى نصــرع حولـه
ونــذهل عــن أبنائنـا والحـلائل
وقال ابن عباس وقتادة: نـزلت
الآية في المسلمين وأهل الكتاب فقال أهل الكتاب: نحن أولى بالله وأقدم منكم كتابا,
ونبينا قبل نبيكم, وقال المؤمنون: نحن أحق بالله آمنا بنبينا محمد صلى الله عليه
وسلم ونبيكم وبما أنـزل الله من كتاب, وأنتم تعرفون نبينا وكتابنا وكفرتم به حسدا,
فهذه خصومتهم في ربهم .
وقال مجاهد وعطاء بن أبي رباح
والكلبي: هم المؤمنون والكافرون كلهم من أي ملة كانوا .
وقال بعضهم: جعل الأديان ستة في
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا (
المائدة: 69 ) الآية, فجعل خمسة للنار وواحدا للجنة, فقوله تعالى: (
هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ ) ينصرف
إليهم فالمؤمنون خصم وسائر الخمسة خصم.
وقال عكرمة: هما الجنة والنار
اختصمتا كما أخبرنا حسان بن سعيد المنيعي أخبرنا أبو طاهر الزيادي, أخبرنا أبو بكر
محمد حسين القطان, أخبرنا أحمد بن يوسف السلمي, أخبرنا عبد الرزاق, أخبرنا معمر,
عن همام بن منبه, قال: حدثنا أبو هريرة: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « تحاجت
الجنة والنار فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين, وقالت الجنة: فما لي لا
يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم وغرتهم؟ قال الله عز وجل للجنة: إنما أنت رحمتي
أرحم بك من أشاء من عبادي, وقال للنار: إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي,
ولكل واحدة منكما ملؤها, فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع الله فيها رجله فتقول قط
قط, فهنالك تمتلئ ويزوي بعضها إلى بعض, ولا يظلم الله من خلقه أحدا, وأما الجنة
فإن الله عز وجل ينشئ لها خلقا » . ثم بين الله عز وجل ما
للخصمين فقال:
(
فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ ) قال
سعيد بن جبير: ثياب من نحاس مذاب, وليس من الآنية شيء إذا حمي أشد حرا منه وسمي
باسم الثياب لأنها تحيط بهم كإحاطة الثياب.
وقال بعضهم: يلبس أهل النار
مقطعات من النار, ( يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ
رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ ) الحميم: هو الماء الحار الذي
انتهت حرارته.
يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي
بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ ( 20 )
(
يُصْهَرُ بِهِ ) أي: يذاب بالحميم, ( مَا
فِي بُطُونِهِمْ ) يقال: صهرت الإلية والشحم
بالنار إذا أذبتهما أصهرها صهرا, معناه يذاب بالحميم الذي يصب من فوق رءوسهم حتى
يسقط ما في بطونهم من الشحوم والأحشاء, (
وَالْجُلُودُ ) أي: يشوي حرها جلودهم فتتساط.
أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد
الله بن أبي توبة, أخبرنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن الحارث, أخبرنا أبو الحسن محمد
بن يعقوب الكسائي, أخبرنا عبد الله بن محمود, أخبرنا إبراهيم بن عبد الله الخلال,
أخبرنا عبد الله بن المبارك, عن سعيد بن زيد, عن أبي السمح, عن أبي جحيرة واسمه
عبد الرحمن, عن أبي هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إن
الحميم ليصب على رءوسهم فينفذ الجمجمة حتى يخلص إلى جوفه فيسلت ما في جوفه حتى
يمرق من قدميه, وهو الصهر, ثم يعاد كما كان » .
وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ
حَدِيدٍ ( 21 )
كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا
وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ( 22 )
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ
وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ( 23 )
قوله تعالى: (
وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ ) سياط
من حديد واحدتها: مقمعة, قال الليث: المقمعة شبه الجزر من الحديد, من قولهم: قمعت
رأسه, إذا ضربته ضربا عنيفا, وفي الخبر: « لو وضع
مقمع من حديد في الأرض ثم اجتمع عليه الثقلان ما أقلوه من الأرض » . (
كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ ) أي:
كلما حاولوا الخروج من النار لما يلحقهم من الغم والكرب الذي يأخذ بأنفاسهم (
أُعِيدُوا فِيهَا ) أي: ردوا إليها بالمقامع. وفي
التفسير: إن جهنم لتجيش بهم فتلقيهم إلى أعلاها فيريدون الخروج منها فتضربهم
الزبانية بمقامع من الحديد فيهوون فيها سبعين خريفا. (
وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ) أي: تقول لهم الملائكة: ذوقوا
عذاب الحريق, أي: المحرق, مثل الأليم والوجيع.
قال الزجاج: هؤلاء أحد الخصمين. وقال في الآخر, وهم المؤمنون:
( إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا
مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ ) ( إِنَّ
اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ ) جمع
سوار, ( وَلُؤْلُؤًا ) قرأ
أهل المدينة وعاصم « ولؤلؤا » هاهنا
وفي سورة الملائكة بالنصب وافق يعقوب هاهنا على معنى ويحلون لؤلؤا, ولأنها مكتوبة
في المصاحف بالألف, وقرأ الآخرون بالخفض عطفا على قوله: « من ذهب
» , ويترك الهمزة الأولى في كل القرآن أبو جعفر وأبو بكر,
واختلفوا في وجه إثبات الألف, فيه, فقال أبو عمرو: أثبتوها كما أثبتوا في: قالوا
وكانوا, وقال الكسائي: أثبتوها للهمزة, لأن الهمزة حرف من الحروف (
وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ) أي: يلبسون في الجنة ثياب
الإبريسم وهو الذي حرم لبسه في الدنيا على الرجال.
أخبرنا عبد الواحد المليحي, أخبرنا عبد الرحمن بن أبي شريح,
أخبرنا أبو القاسم البغوي, أخبرنا علي بن الجعد, أخبرنا شعبة, عن قتادة, عن داود
السراج, عن أبي سعيد الخدري, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « من لبس
الحرير في الدنيا لم يلبسه الله إياه في الآخرة, فإن دخل الجنة لبسه أهل الجنة ولم
يلبسه هو » .
وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ
مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ ( 24 )
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ
وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ( 25 )
قوله عز وجل : (
وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ ) قال
ابن عباس: هو شهادة أن لا إله إلا الله. وقال ابن زيد: لا إله إلا الله والله أكبر
والحمد لله [ وسبحان الله ] . وقال
السدي: أي القرآن. وقيل: هو قول أهل الجنة: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا
وَعْدَهُ . ( الزمر:74 ) (
وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ ) إلى
دين الله وهو الإسلام, « والحميد » هو الله
المحمود في أفعاله. قوله عز وجل : ( إِنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ) عطف
المستقبل على الماضي, لأن المراد من لفظ المستقبل الماضي, كما قال تعالى في موضع
آخر: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ (
النساء: 167 ) , معناه: إن الذين كفروا فيما تقدم, ويصدون عن سبيل الله في
الحال, أي: وهم يصدون. ( وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ) أي:
ويصدون عن المسجد الحرام. ( الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ
) قبلة لصلاتهم ومنسكا ومتعبدا كما قال: وُضِعَ لِلنَّاسِ ( آل
عمران: 96 ) . ( سَوَاءً ) قرأ
حفص عن عاصم ويعقوب: « سواء » نصبا
بإيقاع الجعل عليه لأن الجعل يتعدى إلى مفعولين. وقيل: معناه مستويا فيه, (
الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ ) وقرأ الآخرون بالرفع على
الابتداء وما بعده خبر, وتمام الكلام عند قوله « للناس
» وأراد بالعاكف: المقيم فيه, وبالبادي: الطارئ المنتاب إليه
من غيره.
واختلفوا في معنى الآية, فقال
قوم: « سواء العاكف فيه والباد » أي: في تعظيم
حرمته وقضاء النسك فيه. وإليه ذهب مجاهد والحسن وجماعة, وقالوا: المراد منه نفس
المسجد الحرام. ومعنى التسوية: هو التسوية في تعظيم الكعبة في فضل الصلاة في
المسجد الحرام والطواف بالبيت.
وقال آخرون: المراد منه جميع
الحرم, ومعنى التسوية: أن المقيم والبادي سواء في النـزول به, ليس أحدهما أحق
بالمنـزل يكون فيه من الآخر, غير أنه لا يزعج فيه أحد إذا كان قد سبق إلى منـزل,
وهو قول ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة وابن زيد, قالوا: هما سواء في [
البيوت ] والمنازل.
وقال عبد الرحمن بن سابط: كان
الحجاج إذا قدموا مكة لم يكن أحد من أهل مكة بأحق بمنـزله منهم. وكان عمر بن
الخطاب ينهى الناس أن يغلقوا أبوابهم في الموسم, وعلى هذا القول لا يجوز بيع دور
مكة وإجارتها, وعلى القول الأول - وهو الأقرب إلى الصواب - يجوز, لأن الله تعالى
قال: الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ ( الحج:
40 ) , وقال النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: « من دخل
دار أبي سفيان فهو آمن » فنسب الدار إليه نسب ملك,
واشترى عمر دارا للسجن بمكة بأربعة آلاف درهم, فدل على جواز بيعها. وهذا قول طاوس
وعمرو بن دينار, وبه قال الشافعي.
قوله عز وجل: (
وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ ) أي: في
المسجد الحرام بإلحاد بظلم وهو الميل إلى الظلم, الباء في قوله « بإلحاد
» زائدة كقوله: تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ (
المؤمنون: 20 ) , ومعناه من يرد فيه إلحادا بظلم, قال الأعشى: « ضمنت
برزق عيالنا أرماحنا » , أي: رزق عيالنا. وأنكر المبرد
أن تكون الباء زائدة وقال: معنى الآية من تكن إرادته فيه بأن يلحد بظلم.
واختلفوا في هذا الإلحاد, فقال
مجاهد وقتادة: هو الشرك وعبادة غير الله.
وقال قوم: هو كل شيء كان منهيا
عنه من قول أو فعل حتى شتم الخادم.
وقال عطاء: هو دخول الحرم غير
محرم, أو ارتكاب شيء من محظورات الحرم, من قتل صيد, أو قطع شجر.
وقال ابن عباس: هو أن تقتل فيه
من لا يقتلك, أو تظلم فيه من لا يظلمك, وهذا معنى قول الضحاك.
وعن مجاهد أنه قال: تضاعف
السيئات بمكة كما تضاعف الحسنات.
وقال حبيب بن أبي ثابت: وهو
احتكار الطعام بمكة.
وقال عبد الله بن مسعود في
قوله: ( وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ
عَذَابٍ أَلِيمٍ ) قال: لو أن رجلا هم بخطيئة لم
تكتب عليه, ما لم يعملها, ولو أن رجلا هم بقتل رجل بمكة وهو بعدن أبين, أو ببلد
آخر أذاقه الله من عذاب أليم. وقال السدي: إلا أن يتوب.
وروي عن عبد الله بن عمر أنه
كان له فسطاطان أحدهما في الحل والآخر في الحرم, فإذا أراد أن يعاتب أهله عاتبهم
في الآخر, فسئل عن ذلك فقال: كنا نحدث أن من الإلحاد فيه أن يقول الرجل كلا والله,
وبلى والله .
وَإِذْ بَوَّأْنَا
لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ
لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ( 26 )
وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ
يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ( 27 )
قوله عز وجل: (
وَإِذْ بَوَّأْنَا لإبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ ) أي:
وطأنا قال ابن عباس: جعلنا. وقيل: بينا قال الزجاج: جعلنا مكان البيت [
مبوءا لإبراهيم.
وقال مقاتل بن حيان: هيأنا.
وإنما ذكرنا مكان البيت ] لأن الكعبة رفعت إلى السماء
زمان الطوفان, ثم لما أمر الله تعالى إبراهيم ببناء البيت لم يدر أين يبني فبعث
الله ريحا خجوجا فكنست له ما حول البيت على الأساس .
وقال الكلبي: بعث الله سحابة
بقدر البيت فقامت بحيال البيت وفيها رأس يتكلم يا إبراهيم ابن على قدري فبني عليه
. قوله تعالى: ( أَنْ لا تُشْرِكْ بِي
شَيْئًا ) أي: عهدنا إلى إبراهيم وقلنا له لا تشرك بي شيئا, (
وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ ) يعني:
الذين يطوفون بالبيت, ( وَالْقَائِمِينَ ) أي:
المقيمين, ( وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ) أي:
المصلين. ( وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ ) أي:
أعلم وناد في الناس, ( بِالْحَجِّ ) فقال إبراهيم
وما يبلغ صوتي؟ فقال: عليك الأذان وعلي البلاغ, فقام إبراهيم على المقام فارتفع
المقام حتى صار كأطول الجبال فأدخل أصبعيه في أذنيه, وأقبل بوجهه يمينا وشمالا
وشرقا وغربا وقال: يا أيها الناس ألا إن ربكم قد بنى بيتا وكتب عليكم الحج إلى
البيت فأجيبوا ربكم, فأجابه كل من كان يحج من أصلاب الآباء وأرحام الأمهات: لبيك
اللهم لبيك قال ابن عباس: فأول من أجابه أهل اليمن فهم أكثر الناس حجا.
وروي أن إبراهيم صعد أبا قبيس
ونادى . وقال ابن عباس عني بالناس في هذه الآية أهل القبلة, وزعم الحسن أن قوله: « وأذن
في الناس بالحج » كلام مستأنف وأن المأمور بهذا
التأذين محمد صلى الله عليه وسلم أمر أن يفعل ذلك في حجة الوداع.
وروى أبو هريرة قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: « أيها الناس قد فرض عليكم الحج
فحجوا » .
قوله تعالى: (
يَأْتُوكَ رِجَالا ) مشاة على أرجلهم جمع راجل,
مثل قائم وقيام وصائم وصيام, ( وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ ) أي:
ركبانا على كل ضامر, والضامر: البعير المهزول. (
يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ) أي: من
كل طريق بعيد, وإنما جمع « يأتين » لمكان
كل وإرادة النوق.
لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ
لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا
رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ
الْفَقِيرَ ( 28 )
(
لِيَشْهَدُوا ) ليحضروا, (
مَنَافِعَ لَهُمْ ) قال سعيد بن المسيب, ومحمد بن
علي الباقر: العفو والمغفرة. وقال سعيد بن جبير: التجارة, وهي رواية ابن زيد عن
ابن عباس, قال: الأسواق. وقال مجاهد: التجارة وما يرضى الله به من أمر الدنيا
والآخرة . ( وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ ) يعني
عشر ذي الحجة في قول أكثر المفسرين. قيل لها «
معلومات » للحرص على علمها بحسابها من أجل وقت الحج في آخرها. ويروى عن
علي رضي الله عنه: أنها يوم النحر وثلاثة أيام بعده, وفي رواية عطاء عن ابن عباس
أنها يوم عرفة والنحر وأيام التشريق. وقال مقاتل: المعلومات أيام التشريق . ( عَلَى
مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأنْعَامِ ) يعني:
الهدايا, والضحايا, تكون من النعم, وهي الإبل والبقر والغنم.
واختار الزجاج أن الأيام
المعلومات: يوم النحر وأيام التشريق, لأن الذكر على بهيمة الأنعام يدل على التسمية
على نحرها, ونحر الهدايا يكون في هذه الأيام. (
فَكُلُوا مِنْهَا ) أمر إباحة وليس بواجب, وإنما
قال ذلك لأن أهل الجاهلية كانوا لا يأكلون من لحوم هداياهم شيئا, واتفق العلماء
على أن الهدي إذا كان تطوعا يجوز للمهدي أن يأكل منه وكذلك أضحية التطوع لما:
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن
الفضل الخرقي, أخبرنا أبو الحسن علي بن عبد الله الطيسفوني, أخبرنا عبد الله بن
عمر الجوهري, أخبرنا أحمد بن علي الكشميهني, أخبرنا علي بن حجر, أخبرنا إسماعيل بن
جعفر, عن جعفر بن محمد, عن أبيه, عن جابر بن عبد الله قال في قصة حجة الوداع: وقدم
علي ببدن من اليمن وساق رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة بدنة فنحر منها رسول
الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا وستين بدنة بيده ونحر علي ما بقي, ثم أمر النبي صلى
الله عليه وسلم أن تؤخذ بضعة من كل بدنة فتجعل في قدر, فأكلا من لحمها وحسيا من
مرقها .
واختلفوا في الهدي الواجب
بالشرع هل يجوز للمهدي أن يأكل منه شيئا؟ مثل دم التمتع والقران والدم الواجب
بإفساد الحج وفواته وجزاء الصيد؟
فذهب قوم إلى أنه لا يجوز أن
يأكل منه شيئا, وبه قال الشافعي, وكذلك ما أوجبه على نفسه بالنذر, وقال ابن عمر:
لا يأكل من جزاء الصيد والنذر, ويأكل مما سوى ذلك, وبه قال أحمد وإسحاق, وقال
مالك: يأكل من هدي التمتع ومن كل هدي وجب عليه إلا من فدية الأذى وجزاء الصيد
والمنذور, وعند أصحاب الرأي يأكل من دم التمتع والقران ولا يأكل من واجب سواهما.
قوله عز وجل: (
وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ) يعني:
الزمن الفقير الذي لا شيء له و « البائس » الذي
اشتد بؤسه, والبؤس شدة الفقر.
ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ
وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ( 29 )
( ثُمَّ
لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ ) التفث: الوسخ والقذارة من طول
الشعر والأظافر والشعث, تقول العرب لمن تستقذره: ما أتفثك: أي: ما أوسخك. والحاج
أشعث أغبر, لم يحلق شعره ولم يقلم ظفره, فقضاء التفث: إزالة هذه الأشياء ليقضوا
تفثهم, أي: ليزيلوا أدرانهم, والمراد منه الخروج عن الإحرام بالحلق, وقص الشارب,
ونتف الإبط, والاستحداد, وقلم الأظفار, ولبس الثياب. قال ابن عمر وابن عباس: « قضاء
التفث » : مناسك الحج كلها. وقال مجاهد: هو مناسك الحج, وأخذ الشارب,
ونتف الإبط, وحلق العانة, وقلم الأظفار. وقيل: التفث هاهنا رمي الجمار. قال
الزجاج: لا نعرف التفث ومعناه إلا من القرآن.
قوله تعالى: (
وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ ) قال مجاهد: أراد نذر الحج
والهدي وما ينذر الإنسان من شيء يكون في الحج أي: ليتموها بقضائها. وقيل: المراد
منه الوفاء بما نذر على ظاهره. وقيل: أراد به الخروج. عما وجب عليه نذر أو لم
ينذر. والعرب تقول لكل من خرج عن الواجب عليه وفى بنذره. وقرأ عاصم برواية أبي بكر
« وليوفوا » بنصب الواو وتشديد الفاء.
(
وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ) أراد
به الطواف الواجب عليه وهو طواف الإفاضة يوم النحر بعد الرمي والحلق.
والطواف ثلاثة: طواف القدوم,
وهو أن من قدم مكة يطوف بالبيت سبعا يرمل ثلاثا من الحجر الأسود إلى أن ينتهي إليه
ويمشي إربعا, وهذا الطواف سنة لا شيء على من تركه.
أخبرنا عبد الواحد المليحي,
أخبرنا أحمد النعيمي, أخبرنا محمد بن يوسف, أخبرنا محمد بن إسماعيل, أخبرنا أحمد
هو أبو عيسى, أخبرنا ابن وهب, أخبرنا عمرو بن الحارث, عن محمد بن عبد الرحمن بن
نوفل القرشي أنه سأل عروة بن الزبير فقال: قد حج النبي صلى الله عليه وسلم
فأخبرتني عائشة أنه أول شيء بدأ به حين قدم أنه توضأ ثم طاف بالبيت ثم لم يكن
عمرة, ثم حج أبو بكر فكان أول شيء بدأ به الطواف بالبيت ثم لم يكن عمرة, ثم عمر
مثل ذلك, ثم حج عثمان فرأيته أول شيء بدأ به الطواف بالبيت .
أخبرنا عبد الوهاب بن محمد
الكسائي, أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال, أخبرنا أبو العباس الأصم, أخبرنا
الربيع, أخبرنا الشافعي, أخبرنا أنس بن عياض, عن موسى بن عقبة, عن نافع, عن ابن
عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا طاف في الحج أو العمرة أول ما
يقدم يسعى ثلاثة أطواف ويمشي أربعا, ثم يصلي سجدتين, ثم يطوف بين الصفا والمروة
سبعا .
والطواف الثاني: هو طواف
الإفاضة يوم النحر بعد الرمي والحلق, وهو واجب لا يحصل التحلل من الإحرام ما لم
يأت به.
أخبرنا عبد الواحد المليحي,
أخبرنا أحمد النعيمي, أخبرنا محمد بن يوسف, أخبرنا محمد بن إسماعيل, أخبرنا عمر بن
حفص, حدثنا أبي, أخبرنا الأعمش, أخبرنا إبراهيم عن الأسود عن عائشة قالت: حاضت
صفية ليلة النفر فقالت: ما أراني إلا حابستكم قال النبي صلى الله عليه وسلم « عقري
حلقي أطافت يوم النحر؟ قيل: نعم, قال: فانفري » فثبت
بهذا أن من لم يطف يوم النحر طواف الإفاضة لا يجوز له أن ينفر.
والطواف الثالث: هو طواف الوداع
لا رخصة فيه لمن أراد مفارقة مكة إلى مسافة القصر أن يفارقها حتى يطوف بالبيت
سبعا, فمن تركه فعليه دم إلا المرأة الحائض يجوز لها ترك طواف الوداع.
أخبرنا عبد الوهاب بن محمد
الخطيب, أخبرنا عبد العزيز أحمد الخلال, أخبرنا أبو العباس الأصم, أخبرنا الربيع,
أخبرنا الشافعي, أخبرنا سفيان, عن سليمان الأحول, عن طاوس عن ابن عباس , قال: أمر
الناس أن يكون آخر عهدهم الطواف بالبيت إلا أنه رخص للمرأة الحائض .
والرمل مختص بطواف القدوم, ولا
رمل في طواف الإفاضة والوداع.
قوله: (
بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ) اختلفوا في معنى « العتيق
» : قال ابن عباس, وابن الزبير ومجاهد وقتادة: سمي عتيقا لأن
الله أعتقه من أيدي الجبابرة أن يصلوا إلى تخريبه, فلم يظهر عليه جبار قط. قال
سفيان بن عيينة: سمي عتيقا لأنه لم يملك قط, وقال الحسن وابن زيد: سمي به لأنه
قديم وهو أول بيت وضع للناس, يقال: دينار عتيق أي قديم, وقيل: سمي عتيقا لأن الله
أعتقه من الغرق, فإنه رفع أيام الطوفان .
ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ
حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ
الأَنْعَامُ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ
الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ( 30 )
( ذَلِكَ ) أي:
الأمر ذلك, يعني ما ذكر من أعمال الحج, (
وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ ) أي معاصي
الله وما نهى عنه, وتعظيمها ترك ملابستها. قال الليث: حرمات الله ما لا يحل
انتهاكها. وقال الزجاج: الحرمة ما وجب القيام به وحرم التفريط فيه, وذهب قوم إلى
أن معنى الحرمات هاهنا: المناسك, بدلالة ما يتصل بها من الآيات. وقال ابن زيد:
الحرمات هاهنا: البيت الحرام, والبلد الحرام والشهر الحرام, والمسجد الحرام,
والإحرام . ( فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ ) أي:
تعظيم الحرمات, خير له عند الله في الآخرة.
قوله عز وجل: (
وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأنْعَامُ ) أن تأكلوها إذا ذبحتموها وهي
الإبل والبقر والغنم, ( إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ
) تحريمه, وهو قوله في سورة المائدة: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ
الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ ( المائدة: 3 ) ,
الآية, ( فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ ) أي:
عبادتها, يقول: كونوا على جانب منها فإنها رجس, أي: سبب الرجس, وهو العذاب,
والرجس: بمعنى الرجز. وقال الزجاج: ( من ) هاهنا
للتجنيس أي: اجتنبوا الأوثان التي هي رجس, (
وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ) يعني: الكذب والبهتان. وقال
ابن مسعود: شهادة الزور, وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قام خطيبا فقال: « يا
أيها الناس عدلت شهادة الزور بالشرك بالله » , ثم
قرأ هذه الآية . وقيل: هو قول المشركين في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك لبيك إلا
شريكا هو لك تملكه وما ملك.
حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ
مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ
فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ( 31 )
(
حُنَفَاءَ لِلَّهِ ) مخلصين له, (
غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ ) قال قتادة: كانوا في الشرك
يحجون, ويحرمون البنات والأمهات والأخوات, وكانوا يسمون حنفاء, فنـزلت: « حنفاء
لله غير مشركين به » أي: حجاجا لله مسلمين موحدين,
يعني: من أشرك لا يكون حنيفا.
(
وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ ) أي:
سقط, ( مِنَ السَّمَاءِ ) إلى
الأرض, ( فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ ) أي:
تستلبه الطير وتذهب به, والخطف والاختطاف: تناول الشيء بسرعة. وقرأ أهل المدينة:
فتخطفه بفتح الخاء وتشديد الطاء, أي: يتخطفه, ( أَوْ
تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ ) أي: تميل وتذهب به, ( فِي
مَكَانٍ سَحِيقٍ ) أي: بعيد, معناه: بعد من أشرك
من الحق كبعد من سقط من السماء فذهبت به الطير, أو هوت به الريح, فلا يصل إليه
بحال. وقيل: شبه حال المشرك بحال الهاوي من السماء في أنه لا يملك لنفسه حيلة حتى
يقع بحيث تسقطه الريح, فهو هالك لا محالة إما باستلاب الطير لحمه وإما بسقوطه إلى
المكان السحيق, وقال الحسن: شبه أعمال الكفار بهذه الحال في أنها تذهب وتبطل فلا
يقدرون على شيء منها.
ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ
اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ( 32 )
لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ
الْعَتِيقِ ( 33 )
( ذَلِكَ ) يعني:
الذي ذكرت من اجتناب الرجس وقول الزور, ( وَمَنْ
يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ) قال
ابن عباس « شعائر الله » البدن
والهدي، وأصلها من الإشعار, وهو إعلامها ليعرف أنها هدي, وتعظيمها: استسمانها
واستحسانها. وقيل « شعائر الله » أعلام
دينه, « فإنها من تقوى القلوب » , أي: فإن
تعظيمها من تقوى القلوب. ( لَكُمْ فِيهَا ) أي: في
البدن قبل تسميتها للهدي, ( مَنَافِعُ ) في
درها ونسلها وأصوافها وأوبارها وركوب ظهورها, ( إِلَى
أَجَلٍ مُسَمًّى ) وهو أن يسميها ويوجبها هديا,
فإذا فعل ذلك لم يكن له شيء من منافعها, هذا قول مجاهد, وقول قتادة والضحاك, ورواه
مقسم عن ابن عباس.
وقيل: معناه لكم في الهدايا
منافع بعد إيجابها وتسميتها هديا بأن تركبوها وتشربوا ألبانها عند الحاجة « إلى
أجل مسمى » , يعني: إلى أن تنحروها, وهو قول عطاء بن أبي رباح.
واختلف أهل العلم في ركوب
الهدي.
فقال قوم: يجوز له ركوبها
والحمل عليها غير مضر بها, وهو قول مالك, والشافعي, وأحمد, وإسحاق, لما أخبر أبو
الحسن السرخسي, أخبرنا أبو علي زاهر بن أحمد, أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي, أخبرنا
أبو مصعب عن مالك, عن أبي الزناد, عن الأعرج, عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم رأى رجلا يسوق بدنة فقال له : «
اركبها, فقال يا رسول الله إنها بدنة, فقال: اركبها ويلك, في الثانية أو الثالثة » , وكذلك
قال له: « اشرب لبنها بعدما فضل عن ري ولدها » .
وقال أصحاب الرأي: لا يركبها.
وقال قوم: لا يركبها إلا أن
يضطر إليه.
وقال بعضهم: أراد بالشعائر: المناسك
ومشاهدة مكة. « لكم فيها منافع »
بالتجارة والأسواق « إلى أجل مسمى » وهو
الخروج من مكة.
وقيل: « لكم
فيها منافع » بالأجر والثواب في قضاء المناسك. « إلى
أجل مسمى » , أي: إلى انقضاء أيام الحج.
( ثُمَّ
مَحِلُّهَا ) أي: منحرها, ( إِلَى
الْبَيْتِ الْعَتِيقِ ) أي: منحرها عند البيت العتيق,
يريد أرض الحرم كلها, كما قال: فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ (
التوبة: 28 ) أي: الحرم كله.
وروي عن جابر في قصة حجة الوداع
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « نحرت
هاهنا ومنى كلها منحر فانحروا في رحالكم » .
ومن قال: «
الشعائر » المناسك، قال: معنى قوله « ثم
محلها إلى البيت العتيق » أي: محل الناس من إحرامهم إلى
البيت العتيق, أي: أن يطوفوا به طواف الزيادة يوم النحر.
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا
مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ
الأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ
الْمُخْبِتِينَ ( 34 )
قال الله تعالى: (
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ ) أي: جماعة مؤمنة سلفت قبلكم,
( جَعَلْنَا مَنْسَكًا ) قرأ
حمزة والكسائي بكسر السين هاهنا وفي آخر السورة, على معنى الاسم مثل المسجد
والمطلع, أي: مذبحا وهو موضع القربان, وقرأ الآخرون بفتح السين على المصدر, مثل
المدخل والمخرج, أي: إراقة الدماء وذبح القرابين, (
لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأنْعَامِ ) [ عند
نحرها وذبحها, وسماها بهيمة ] لأنها لا تتكلم, وقال: « بهيمة
الأنعام » وقيدها بالنعم, لأن من البهائم ما ليس من الأنعام كالخيل
والبغال والحمير, لا يجوز دخلها في القرابين.
(
فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ ) أي: سموا على الذبائح اسم
الله وحده, فإن إلهكم إله واحد, (
فَلَهُ أَسْلِمُوا ) انقادوا وأطيعوا, (
وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ ) قال ابن عباس وقتادة:
المتواضعين. وقال مجاهد: المطمئنين إلى الله عز وجل, « والخبت
» المكان المطمئن من الأرض. وقال الأخفش: الخاشعين. وقال
النخعي: المخلصين. وقال الكلبي: هم الرقيقة قلوبهم. وقال عمرو بن أوس: هم الذين لا
يظلمون وإذا ظلموا لم ينتصروا.
الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ
اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ
وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ( 35 )
وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ
فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا
فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا
لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( 36 )
(
الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا
أَصَابَهُمْ ) من البلاء والمصائب (
وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ ) أي: المقيمين للصلاة في
أوقاتها, ( وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ )
يتصدقون. قوله عز وجل: ( وَالْبُدْنَ ) جمع
بدنة سميت بدنة لعظمها وضخامتها, يريد: الإبل العظام الصحاح الأجسام, يقال بدن
الرجل بدنا وبدانة إذا ضخم, فأما إذا أسن واسترخى يقال بدن تبدينا. قال عطاء
والسدي: البدن: الإبل والبقر أما الغنم فلا تسمى بدنة. (
جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ) من
أعلام دينه, سميت شعائر لأنها تشعر, وهو أن تطعن بحديدة في سنامها فيعلم أنها هدي,
( لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ ) النفع
في الدنيا والأجر في العقبى, ( فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ
عَلَيْهَا ) عند نحرها, (
صَوَافَّ ) أي: قياما على ثلاث قوائم قد صفت رجليها وإحدى يديها, ويدها
اليسرى معقولة فينحرها كذلك.
أخبرنا عبد الواحد المليحي, أخبرنا
أحمد بن عبد الله النعيمي, أخبرنا محمد بن يوسف, أخبرنا محمد بن إسماعيل, أخبرنا
عبد الله بن مسلمة, أخبرنا يزيد بن زريع, عن يونس, عن زياد بن جبير قال: رأيت ابن
عمر أتى على رجل قد أناخ بدنة ينحرها, قال: ابعثها قياما مقيدة سنة محمد صلى الله
عليه وسلم .
وقال مجاهد: الصواف إذا عقلت
رجلها اليسرى وقامت على ثلاث قوائم.
وقرأ ابن مسعود: « صوافن
» وهي أن تعقل منها يد وتنحر على ثلاث, وهو مثل صواف. وقرأ أبي
والحسن ومجاهد: « صوافي » بالياء
أي: صافية خالصة لله لا شريك له فيها.
(
فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا ) أي: سقطت بعد النحر فوقعت
جنوبها على الأرض. وأصل الوجوب: الوقوع. يقال: وجبت الشمس إذا سقطت للمغيب, (
فَكُلُوا مِنْهَا ) أمر إباحة, (
وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ )
اختلفوا في معناهما:.
فقال عكرمة وإبراهيم وقتادة: « القانع
» الجالس في بيته المتعفف يقنع بما يعطى ولا يسأل, و « المعتر
» الذي يسأل.
وروى العوفي عن ابن عباس: « القانع
» الذي لا يعترض ولا يسأل, و « المعتر
» الذي يريك نفسه ويتعرض ولا يسأل, فعلى هذين التأويلين يكون « القانع
» : من القناعة, يقال: قنع قناعة إذا رضي بما قسم له.
وقال سعيد بن جبير والحسن
والكلبي: « القانع » : الذي يسأل, «
والمعتر » : الذي يتعرض ولا يسأل, فيكون « القانع
» من قنع يقنع قنوعا إذا سأل.
وقرأ الحسن: «
والمعتري » وهو مثل المعتر, يقال: عره واعتره وعراه واعتراه إذا أتاه
يطلب معروفه, إما سؤالا أو تعرضا.
وقال ابن زيد: « القانع
» : المسكين, «
والمعتر » : الذي ليس بمسكين, ولا يكون له ذبيحة يجيء إلى القوم فيتعرض
لهم لأجل لحمهم .
(
كَذَلِكَ ) أي: مثل ما وصفنا من نحرها قياما, (
سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ ) نعمة منا لتتمكنوا من نحرها,
( لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) لكي
تشكروا إنعام الله عليكم.
لَنْ يَنَالَ اللَّهَ
لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ
سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ
الْمُحْسِنِينَ ( 37 )
( لَنْ
يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا ) وذلك
أن أهل الجاهلية كانوا إذا نحروا البدن لطخوا الكعبة بدمائها قربة إلى الله,
فأنـزل الله هذه الآية: ( لن ينال الله لحومها ولا
دماؤها ) قرأ يعقوب « تنال
وتناله » بالتاء فيهما, وقرأ العامة بالياء. قال مقاتل: لن يرفع إلى
الله لحومها ولا دماؤها, ( وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى
مِنْكُمْ ) ولكن ترفع إليه منكم الأعمال الصالحة والتقوى, والإخلاص ما
أريد به وجه الله, ( كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ ) يعني:
البدن, ( لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ ) أرشدكم
لمعالم دينه ومناسك حجه, وهو أن يقول: الله أكبر على ما هدانا والحمد لله على ما
أبلانا وأولانا, ( وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ ) قال
ابن عباس: الموحدين.
إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ
الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ ( 38 )
قوله تعالى: ( إِنَّ
اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا ) قرأ ابن
كثير وأهل البصرة: « يدفع » , وقرأ
الآخرون: « يدافع » بالألف, يريد: يدفع غائلة
المشركين عن المؤمنين ويمنعهم عن المؤمنين. ( إِنَّ
اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ ) أي:
خوان في أمانة الله كفور لنعمته, قال ابن عباس: خانوا الله فجعلوا معه شريكا وكفروا
نعمه. قال الزجاج: من تقرب إلى الأصنام بذبيحته وذكر عليها اسم غير الله فهو خوان
كفور.
أُذِنَ لِلَّذِينَ
يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ( 39 )
قوله عز وجل: (
أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ) قرأ
أهل المدينة والبصرة وعاصم: « أذن » بضم
الألف والباقون بفتحها, أي: أذن الله, « للذين
يقاتلون » , قرأ أهل المدينة وابن عامر وحفص «
يقاتلون » بفتح التاء يعني المؤمنين الذين يقاتلهم المشركون, وقرأ
الآخرون بكسر التاء يعني الذين أذن لهم بالجهاد « يقاتلون
» المشركين.
قال المفسرون: كان مشركو أهل
مكة يؤذون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يزالون محزونين من بين مضروب
ومشجوج, ويشكون ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فيقول لهم: اصبروا فإني لم
أومر بالقتال, حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأنـزل الله عز وجل هذه
الآية وهي أول آية أذن الله فيها بالقتال, فنـزلت هذه الآية بالمدينة.
وقال مجاهد: نـزلت هذه الآية في
قوم بأعيانهم خرجوا مهاجرين من مكة إلى المدينة, فكانوا يمنعون فإذن الله لهم في
قتال الكفار الذين يمنعونهم من الهجرة (
بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ) أي: بسبب ما ظلموا, واعتدوا
عليهم بالإيذاء, ( وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى
نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ )
الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ
دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ
اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ
وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ
يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ( 40 )
الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا
الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ
عَاقِبَةُ الأُمُورِ ( 41 )
( الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ
دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ ) بدل « عن
الذين » الأولى ( إِلا أَنْ يَقُولُوا
رَبُّنَا اللَّهُ ) أي: لم يخرجوا من ديارهم إلا
لقولهم ربنا الله وحده.
( وَلَوْلا
دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ )
بالجهاد وإقامة الحدود, ( لَهُدِّمَتْ ) قرأ
أهل الحجاز بتخفيف الدال, وقرأ الآخرون بالتشديد على التكثير, فالتخفيف يكون
للقليل والتكثير, والتشديد يختص بالتكثير, (
صَوَامِعُ ) قال مجاهد والضحاك: يعني: صوامع الرهبان. وقال قتادة: صوامع
الصابئين, ( وَبِيَعٌ ) بيع
النصارى جمع « بيعة » وهي كنيسة النصارى, (
وَصَلَوَاتٌ ) يعني كنائس اليهود, ويسمونها بالعبرانية صلوتا, (
وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ) يعني
مساجد المسلمين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
ومعنى الآية: ولولا دفع الله
الناس بعضهم ببعض لهدم في شريعة كل نبي مكان صلاتهم, لهدم في زمن موسى الكنائس,
وفي زمن عيسى البيع والصوامع, وفي زمن محمد صلى الله عليه وسلم المساجد.
وقال ابن زيد: أراد بالصلوات
صلوات أهل الإسلام, فإنها تنقطع إذا دخل العدو عليهم.
(
وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ ) أي:
ينصر دينه ونبيه, ( إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ
عَزِيزٌ ) ( الَّذِينَ إِنْ
مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا
بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ ) قال الزجاج:
هذا من صفة ناصريه, ومعنى « مكناهم في الأرض » :
نصرناهم على عدوهم حتى يتمكنوا في البلاد. قال قتادة: هم أصحاب محمد صلى الله عليه
وسلم, وقال الحسن: هم هذه الأمة (
وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأمُورِ ) أي: آخر أمور الخلق ومصيرهم
إليه, يعني: يبطل كل ملك سوى ملكه, فتصير الأمور إليه بلا منازع ولا مدع.
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ ( 42 )
وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ ( 43 )
وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ
أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ( 44 )
فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ
عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ ( 45 )
قوله عز وجل : (
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ ) يعزِّي نبيه صلى الله عليه
وسلم, ( فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ
وَثَمُودُ ) ( وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ
وَقَوْمُ لُوطٍ ) . (
وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ) أي:
أمهلتهم وأخرت عقوبتهم, ( ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ ) [
عاقبتهم ] ( فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ) أي: إنكاري,
أي: كيف أنكرت عليهم ما فعلوا من التكذيب بالعذاب والهلاك, يخوف به من يخالف النبي
صلى الله عليه وسلم ويكذبه. ( فَكَأَيِّنْ ) فكم ( مِنْ
قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا ) بالتاء هكذا قرأ أهل البصرة
ويعقوب, وقرأ الآخرون: « أهلكناها » بالنون
والألف على التعظيم, ( وَهِيَ ظَالِمَةٌ ) أي:
وأهلها ظالمون, ( فَهِيَ خَاوِيَةٌ ) ساقطة
( عَلَى عُرُوشِهَا ) على
سقوفها, ( وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ ) [ أي:
وكم من بئر معطلة ] متروكة مخلاة عن أهلها (
وَقَصْرٍ مَشِيدٍ ) قال قتادة والضحاك ومقاتل:
رفيع طويل, من قولهم شاد بناءه إذا رفعه. وقال سعيد بن جبير ومجاهد وعطاء: مجصص,
من الشيد, وهو الجص. وقيل: إن البئر المعطلة والقصر المشيد باليمن, أما القصر فعلى
قمة جبل, والبئر في سفحه, ولكل واحد منهما قوم كانوا في نعمة فكفروا فأهلكهم الله,
وبقي البئر والقصر خاليين.
وروى أبو روق عن الضحاك: أن هذه
البئر كانت بحضرموت في بلدة يقال لها حاضوراء, وذلك أن أربعة آلاف نفر ممن آمن
بصالح, نجوا من العذاب, أتوا حضرموت ومعهم صالح فلما حضروه مات صالح, فسمي حضرموت,
لأن صالحا لما حضر مات فبنوا حاضوراء وقعدوا على هذه البئر وأمروا عليهم رجلا
فأقاموا دهرا وتناسلوا حتى كثروا, ثم إنهم عبدوا الأصنام وكفروا فأرسل الله إليهم
نبيا يقال له حنظلة بن صفوان, كان حمالا فيهم, فقتلوه في السوق فأهلكهم الله,
وعطلت بئرهم وخربت قصورهم .
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي
الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ
بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي
الصُّدُورِ ( 46 )
( أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي
الأرْضِ ) يعني: كفار مكة, فينظروا إلى مصارع المكذبين من الأمم
الخالية, ( فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ
بِهَا ) يعني: ما يذكر لهم من أخبار القرون الماضية فيعتبرون بها, (
فَإِنَّهَا ) الهاء عماد, ( لا
تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ) ذكر « التي
في الصدور » تأكيدا كقوله: يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ (
الأنعام: 38 ) معناه أن العمى الضار هو عمى القلب, فأما عمى البصر فليس
بضار في أمر الدين, قال قتادة: البصر الظاهر: بلغة ومتعة, وبصر القلب: هو البصر
النافع.
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ
بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ
كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ( 47 )
(
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ ) نـزلت
في النضر بن الحارث حيث قال: إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من
السماء ( وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ ) فأنجز
ذلك يوم بدر. ( وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ
كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ) قرأ
ابن كثير وحمزة والكسائي: « يعدون » بالياء
هاهنا لقوله: ( وَيَسْتَعْجِلُونَكَ ) وقرأ
الباقون: بالتاء لأنه أعم, لأنه خطاب للمستعجلين والمؤمنين, واتفقوا في تنـزيل « السجدة
» أنه بالتاء.
قال ابن عباس: يعني يوما من
الأيام الستة التي خلق الله فيها السموات والأرض.
وقال مجاهد وعكرمة: يوما من
أيام الآخرة, والدليل عليه ما روي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: « أبشروا يا معشر صعاليك المهاجرين بالنور التام يوم القيامة,
تدخلون الجنة قبل أغنياء الناس بنصف يوم, وذلك مقدار خمسمائة سنة » .
قال ابن زيد: « وإن
يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون » هذه
أيام الآخرة. وقوله: « كان مقداره خمسين ألف سنة مما
تعدون » يوم القيامة. والمعنى على هذا: أنهم يستعجلون بالعذاب, وإن
يوما من أيام عذابهم في الآخرة كألف سنة.
وقيل: معناه وإن يوما من أيام
العذاب الذي استعجلوه في الثقل والاستطالة والشدة كألف سنة مما تعدون, فكيف
تستعجلونه؟ هذا كما يقال: أيام الهموم طوال, وأيام السرور قصار.
وقيل: معناه إن يوما عنده وألف
سنة في الإمهال سواء, لأنه قادر متى شاء أخذهم لا يفوته شيء بالتأخير, فيستوي في
قدرته وقوع ما يستعجلون به من العذاب وتأخره, وهذا معنى قول ابن عباس في رواية
عطاء.
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ
أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ ( 48 ) قُلْ
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ( 49 )
فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ
( 50 )
وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ( 51 )
(
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا ) أي
أمهلتها, ( وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ ) . ( قُلْ
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ) . (
فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ
) الرزق الكريم الذي لا ينقطع أبدا. وقيل: هو الجنة. (
وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا ) أي
عملوا في إبطال آياتنا, ( مُعَاجِزِينَ ) قرأ
ابن كثير وأبو عمرو: « معجزين »
بالتشديد هاهنا وفي سورة سبأ أي: مثبطين الناس عن الإيمان, وقرأ الآخرون: «
معاجزين » بالألف أي معاندين مشاقين. وقال قتادة: معناه ظانين ومقدرين
أنهم يعجزوننا بزعمهم أن لا بعث ولا نشور ولا جنة ولا نار, ومعنى يعجزوننا, أي:
يفوتوننا فلا نقدر عليهم. وهذا كقوله تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ
السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا (
العنكبوت: 4 ) , ( أُولَئِكَ أَصْحَابُ
الْجَحِيمِ ) وقيل: « معاجزين »
مغالبين, يريد كل واحد أن يظهر عجز صاحبه.
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ
قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي
أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ
اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( 52 )
قوله عز وجل : ( وَمَا
أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى
الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ) الآية. قال ابن عباس ومحمد بن
كعب القرظي وغيرهما من المفسرين: لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم تولي قومه
عنه وشق عليه ما رأى من مباعدتهم عما جاءهم به من الله تمنى في نفسه أن يأتيه من
الله ما يقارب بينه وبين قومه لحرصه على إيمانهم, فكان يوما في مجلس قريش فأنـزل
الله تعالى سورة « النجم » فقرأها
رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ قوله: أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى *
وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى ألقى الشيطان على لسانه بما كان يحدث به نفسه
ويتمناه: « تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهم لترتجى » , فلما
سمعت قريش ذلك فرحوا به ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في قراءته, فقرأ السورة
كلها وسجد في آخر السورة فسجد المسلمون بسجوده, وسجد جميع من في المسجد من
المشركين, فلم يبق في المسجد مؤمن ولا كافر إلا سجد إلا الوليد بن المغيرة وأبو
أحيحة سعيد بن العاص, فإنهما أخذا حفنة من البطحاء ورفعاها إلى جبهتيهما وسجدا
عليها, لأنهما كانا شيخين كبيرين فلم يستطيعا السجود. وتفرقت قريش وقد سرهم ما
سمعوا من ذكر آلهتهم ويقولون: قد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر, وقالوا: قد عرفنا
أن الله يحيي ويميت ويخلق ويرزق ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده, فإذا جعل لها
نصيبا فنحن معه, فلما أمسى رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل فقال: يا محمد
ماذا صنعت؟ لقد تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله عز وجل! فحزن رسول الله صلى
الله عليه وسلم حزنا شديدا وخاف من الله خوفا كثيرا فأنـزل الله هذه الآية يعزيه,
وكان به رحيما, وسمع بذلك من كان بأرض الحبشة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
وبلغهم سجود قريش. وقيل: أسلمت قريش وأهل مكة فرجع أكثرهم إلى عشائرهم, وقالوا: هم
أحب إلينا حتى إذا دنوا من مكة بلغهم أن الذي كانوا تحدثوا به من إسلام أهل مكة
كان باطلا فلم يدخل أحد إلا بجوار أو مستخفيا, فلما نـزلت هذه الآية قالت قريش:
ندم محمد على ما ذكر من منـزلة آلهتنا عند الله فغير ذلك. وكان الحرفان اللذان
ألقى الشيطان على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وقعا في فم كل مشرك
فازدادوا شرا إلى ما كانوا عليه, وشدة على من أسلم.
قال الله تعالى: ( وَمَا
أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ ) وهو
الذي يأتيه جبريل بالوحي عيانا, ( وَلا
نَبِيٍّ ) وهو الذي تكون نبوته إلهاما أو مناما, وكل رسول نبي, وليس
كل نبي رسولا ( إِلا إِذَا تَمَنَّى ) قال
بعضهم: أي: أحب شيئا واشتهاه وحدث به نفسه ما لم يؤمر به. (
أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ) أي
مراده.
وعن ابن عباس قال: إذا حدث ألقى
الشيطان في حديثه ووجد إليه سبيلا وما من نبي إلا تمنى أن يؤمن به قومه ولم يتمن
ذلك نبي إلا ألقى الشيطان عليه ما يرضى به قومه, فينسخ الله ما يلقي الشيطان.
وأكثر المفسرين قالوا: معنى
قوله:
( تمنى ) أي:
تلا وقرأ كتاب الله تعالى. « ألقى الشيطان في أمنيته » أي: في
تلاوته, قال الشاعر في عثمان حين قتل: تمنــى كتــاب اللــه أول ليلــة وآخرهــا
لاقــى حمـام المقـادر
واختلفوا في أنه كان يقرأ في
الصلاة أو في غير الصلاة؟ فقال قوم: كان يقرأ في الصلاة. وقال قوم: كان يقرأ في
غير الصلاة. فإن قيل كيف يجوز الغلط في التلاوة على النبي صلى الله عليه وسلم وكان
معصوما من الغلط في أصل الدين, وقال جل ذكره في القرآن: لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ
مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ ( فصلت:
42 ) يعني إبليس؟
قيل: قد اختلف الناس في الجواب
عنه, فقال بعضهم: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقرأ, ولكن الشيطان ذكر ذلك بين
قراءته, فظن المشركون أن الرسول قرأه.
وقال قتادة: أغفى النبي صلى
الله عليه وسلم إغفاءة فجرى ذلك على لسانه بإلقاء الشيطان ولم يكن له خبر.
والأكثرون قالوا: جرى ذلك على
لسانه بإلقاء الشيطان على سبيل السهو والنسيان ولم يلبث أن نبهه الله عليه.
وقيل: إن شيطانا يقال له أبيض
عمل هذا العمل, وكان ذلك فتنة ومحنة من الله تعالى يمتحن عباده بما يشاء .
لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي
الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ
قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ( 53 )
وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ
فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ
آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ( 54 )
فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي
الشَّيْطَانُ أي: يبطله ويذهبه, ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ فيثبتها,
وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي
الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ) أي:
محنة وبلية, شك ونفاق, ( وَالْقَاسِيَةِ ) يعني
الجافية, ( قُلُوبُهُمْ ) عن قبول
الحق وهم المشركون, وذلك أنهم افتتنوا لما سمعوا ذلك, ثم نسخ ورفع فازدادوا عتوا,
وظنوا أن محمدا يقوله من تلقاء نفسه ثم يندم فيبطل, (
وَإِنَّ الظَّالِمِينَ ) المشركين ( لَفِي
شِقَاقٍ بَعِيدٍ ) أي: في خلاف شديد. (
وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ) التوحيد
والقرآن. وقال السدي: التصديق بنسخ الله تعالى, (
أَنَّهُ ) يعني: أن الذي أحكم الله من آيات القرآن هو (
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ ) أي:
يعتقدوا أنه من الله, ( فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ
) أي: فتسكن إليه قلوبهم, (
وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) أي:
طريق قويم هو الإسلام.
وَلا يَزَالُ الَّذِينَ
كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ
يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ ( 55 )
( وَلا يَزَالُ الَّذِينَ
كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ ) أي: في شك مما ألقى الشيطان
على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: ما باله ذكرها بخير ثم ارتد عنها.
وقال ابن جريج: « منه » أي من
القرآن. وقيل: من الدين, وهو الصراط المستقيم. (
حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً ) يعني: القيامة.
وقيل: الموت, ( أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ
يَوْمٍ عَقِيمٍ ) قال الضحاك وعكرمة: عذاب يوم
لا ليلة له, وهو يوم القيامة.
والأكثرون على أن اليوم العقيم يوم بدر, لأنه ذكر الساعة من
قبل وهو يوم القيامة. وسمي يوم بدر عقيما لأنه لم يكن في ذلك اليوم للكفار خير,
كالريح العقيم التي لا تأتي بخير, سحاب ولا مطر, [
والعقم في اللغة: المنع, يقال: رجل عقيم إذا منع من الولد ] .
وقيل: لأنه لا مثل له في عظم أمره لقتال الملائكة فيه. وقال ابن جريج: لأنهم لم
ينظروا فيه إلى الليل حتى قتلوا قبل المساء.
الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ
يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ
النَّعِيمِ ( 56 )
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ
( 57 )
وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا
لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ
الرَّازِقِينَ ( 58 )
(
الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ ) يعني يوم القيامة, (
لِلَّهِ ) وحده من غير منازع, (
يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ ) ثم بين الحكم, فقال تعالى: (
فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ) (
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ
) . ( وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ ) فارقوا أوطانهم وعشائرهم في
طاعة الله وطلب رضاه, ( ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا
) وهم كذلك, قرأ ابن عامر « قتلوا
» بالتشديد ( لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ
رِزْقًا حَسَنًا ) والرزق الحسن الذي لا ينقطع
أبدا هو رزق الجنة, ( وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ
خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) قيل: هو قوله: بَلْ أَحْيَاءٌ
عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ( آل عمران: 169 ) .
لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلا
يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ ( 59 )
ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ
لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ( 60 )
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ
فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ( 61 )
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ
الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ( 62 )
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ
مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ( 63 )
( لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلا
يَرْضَوْنَهُ ) لأن لهم فيه ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين, (
وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ ) بنياتهم, (
حَلِيمٌ ) عنهم. ( ذَلِكَ ) أي: الأمر
ذلك الذي قصصنا عليكم, ( وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا
عُوقِبَ بِهِ ) جازى الظالم بمثل ظلمه. قال الحسن: يعني قاتل المشركين كما
قاتلوه, ( ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ ) أي:
ظلم بإخراجه من منـزله يعني: ما أتاه المشركون من البغي على المسلمين حتى أحوجوهم
إلى مفارقة أوطانهم, نـزلت في قوم من المشركين أتوا قوما من المسلمين لليلتين
بقيتا من المحرم فكره المسلمون قتالهم وسألوهم أن يكفوا عن القتال من أجل الشهر
الحرام فأبى المشركون وقاتلوهم فذلك بغيهم عليهم, وثبت المسلمون لهم فنصروا عليهم
قال الله تعالى: ( لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ )
والعقاب الأول بمعنى الجزاء, ( إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ
غَفُورٌ ) عفا عن مساوئ المؤمنين وغفر لهم ذنوبهم. (
ذَلِكَ ) أي: ذلك النصر (
بِأَنَّ اللَّهَ ) القادر على ما يشاء, فمن
قدرته أنه: ( يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ
فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ) (
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ ) قرأ
أهل البصرة وحمزة والكسائي وحفص: بالياء, وقرأ الآخرون: بالتاء, يعني المشركين, ( مِنْ
دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ ) العالي
على كل شيء, ( الْكَبِيرُ ) العظيم
الذي كل شيء دونه. ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ
أَنـزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأرْضُ مُخْضَرَّةً )
بالنبات, ( إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ ) بأرزاق
عباده واستخراج النبات من الأرض, (
خَبِيرٌ ) بما في قلوب العباد واستخراج النبات من الأرض, إذا تأخر
المطر عنهم.
لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ
وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ( 64 )
( لَهُ
مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ ) عبيدا
وملكا, ( وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ ) عن
عباده, ( الْحَمِيدُ ) في
أفعاله.
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ
سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ
وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ
بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ( 65 )
وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ
الإِنْسَانَ لَكَفُورٌ ( 66 )
لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي
الأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ ( 67 )
(
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الأرْضِ وَالْفُلْكَ ) أي:
وسخر لكم الفلك, ( تَجْرِي فِي الْبَحْرِ
بِأَمْرِهِ ) وقيل: « ما في الأرض » :
الدواب تركب في البر, و « الفلك » تركب في
البحر, ( وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأرْضِ ) يعني:
لكيلا تسقط على الأرض, ( إِلا بِإِذْنِهِ إِنَّ
اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ) (
وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ) أي: أنشأكم ولم تكونوا شيئا,
( ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ) عند
انقضاء آجالكم, ( ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ) يوم
البعث للثواب والعقاب, ( إِنَّ الإنْسَانَ لَكَفُورٌ ) لنعم
الله. قوله عز وجل: ( لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا
مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ ) قال ابن عباس: يعني شريعة هم
عاملون بها. وروي عنه أنه قال: عيدا قال قتادة ومجاهد: موضع قربان يذبحون فيه.
وقيل: موضع عبادة. وقيل: مألفا يألفونه.
والمنسك في كلام العرب: الموضع المعتاد
لعمل خير أو شر, ومنه « مناسك الحج » لتردد
الناس إلى أماكن أعمال الحج.
( فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي
الأمْرِ ) يعني في أمر الذبائح. نـزلت في بديل بن ورقاء, وبشر بن
سفيان, ويزيد بن خنيس قالوا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: ما لكم تأكلون مما
تقتلون بأيديكم ولا تأكلون مما قتله الله .
قال الزجاج: معنى قوله ( فَلا
يُنَازِعُنَّكَ ) أي: لا تنازعهم أنت, كما
يقال: لا يخاصمك فلان, أي: لا تخاصمه, وهذا جائز فيما يكون بين الاثنين، ولا يجوز:
لا يضربنك فلان ، وأنت تريد: لا تضربه, وذلك أن المنازعة والمخاصمة لا تتم إلا
باثنين, فإذا ترك أحدهما فلا مخاصمة هناك.
( وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ ) إلى
الإيمان بربك, ( إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى
مُسْتَقِيمٍ ) .
وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ
اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ ( 68 )
اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ
تَخْتَلِفُونَ ( 69 )
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ
ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ( 70 )
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا
لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ ( 71 )
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ
كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ
آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا
اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ( 72 )
(
وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ ) . (
اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ
تَخْتَلِفُونَ ) فتعرفون حينئذ الحق من
الباطل. والاختلاف: ذهاب كل واحد من الخصمين إلى خلاف ما ذهب إليه الآخر. (
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأرْضِ إِنَّ
ذَلِكَ ) كله, ( فِي كِتَابٍ ) يعني اللوح
المحفوظ, ( إِنَّ ذَلِكَ ) يعني:
علمه لجميع ذلك, ( عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ) (
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنـزلْ بِهِ سُلْطَانًا ) حجة, ( وَمَا
لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ ) يعني أنهم فعلوا ما فعلوا عن
جهل لا عن علم, ( وَمَا لِلظَّالِمِينَ )
للمشركين, ( مِنْ نَصِيرٍ ) مانع
يمنعهم من عذاب الله. ( وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ
آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ ) يعني: القرآن, (
تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ ) يعني
الإنكار يتبين ذلك في وجوههم من الكراهية والعبوس, (
يَكَادُونَ يَسْطُونَ ) أي: يقعون ويبسطون إليكم
أيديهم بالسوء. وقيل: يبطشون, ( بِالَّذِينَ يَتْلُونَ
عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا ) أي: بمحمد وأصحابه من شدة
الغيظ. يقال: سطا عليه وسطا به, إذا تناوله بالبطش والعنف, وأصل السطو: القهر.
( قُلْ ) يا
محمد, ( أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ ) أي:
بشر لكم وأكره إليكم من هذا القرآن الذي تستمعون, (
النَّارُ ) أي: هي النار, (
وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ )
يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ
مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا
ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا
يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ( 73 ) مَا
قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ( 74 )
اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ
سَمِيعٌ بَصِيرٌ ( 75 )
( يَا
أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ ) معنى
ضرب: جعل, كقولهم: ضرب السلطان البعث على الناس, وضرب الجزية على أهل الذمة, أي
جعل ذلك عليهم. ومعنى الآية: جعل لي شبه, وشبه بي الأوثان, أي: جعل المشركون
الأصنام شركائي فعبدوها ومعنى ( فَاسْتَمِعُوا لَهُ ) أي:
فاستمعوا حالها وصفتها. ثم بين ذلك فقال:
( إِنَّ
الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ) يعني:
الأصنام, قرأ يعقوب بالياء والباقون بالتاء ( لَنْ
يَخْلُقُوا ذُبَابًا ) واحدا في صغره وقلته لأنها لا
تقدر عليه. والذباب: واحد وجمعه القليل: أذبة, والكثير: ذبان, مثل غراب وأغربة,
وغربان, ( وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ ) أي:
خلقه, ( وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا
يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ) قال ابن عباس: كانوا يطلون
الأصنام بالزعفران , فإذا جف جاء الذباب فاستلب منه.
وقال السدي: كانوا يضعون الطعام
بين يدي الأصنام فتقع الذباب عليه فيأكلن منه.
وقال ابن زيد: كانوا يحلون
الأصنام باليواقيت واللآلئ وأنواع الجواهر, ويطيبونها بألوان الطيب فربما تسقط
منها واحدة فيأخذها طائر أو ذباب فلا تقدر الآلهة على استردادها, فذلك قوله: (
وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا ) أي:
وإن يسلب الذباب الأصنام شيئا مما عليها لا يقدرون أن يستنقذوه منه, (
ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ) قال
ابن عباس: « الطالب » : الذباب يطلب ما يسلب من
الطيب من الصنم, و « المطلوب » : الصنم
يطلب الذباب منه السلب. وقيل: على العكس: « الطالب
» : الصنم و « المطلوب » :
الذباب. وقال الضحاك: « الطالب » :
العابد و « المطلوب » : المعبود. ( مَا
قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ) ما
عظموه حق عظمته وما عرفوه حق معرفته, ولا وصفوه حق صفته إن أشركوا به ما لا يمتنع
من الذباب ولا ينتصف منه, ( إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ
عَزِيزٌ ) ( اللَّهُ يَصْطَفِي ) يعني
يختار ( مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلا ) وهم
جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل وغيرهم, (
وَمِنَ النَّاسِ ) أي: يختار من الناس رسلا مثل إبراهيم
وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم وغيرهم من الأنبياء عليهم السلام, نـزلت حين
قال المشركون: أَؤُنْـزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا فأخبر أن الاختيار
إليه, يختار من يشاء من خلقه .
( إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ
بَصِيرٌ ) أي: سميع لقولهم, بصير بمن يختاره لرسالته.
يَعْلَمُ مَا بَيْنَ
أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ ( 76 ) يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ
وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( 77 )
( يَعْلَمُ مَا بَيْنَ
أَيْدِيهِمْ ) قال ابن عباس: ما قدموا, ( وَمَا
خَلْفَهُمْ ) ما خلفوا, وقال الحسن: « ما بين
أيديهم » : ما عملوا « وما
خلفهم » ما هم عاملون من بعد وقيل: « ما بين
أيديهم » : ملائكته وكتبه ورسله قبل أن خلقهم, « وما
خلفهم » أي: يعلم ما هو كائن فنائهم. ( وَإِلَى
اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ ) ( يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا ) أي:
صلوا, لأن الصلاة لا تكون إلا بالركوع والسجود, (
وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ ) وحده, (
وَافْعَلُوا الْخَيْرَ ) قال ابن عباس صلة الرحم
ومكارم الأخلاق, ( لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) لكي
تسعدوا وتفوزوا بالجنة. واختلف أهل العلم في سجود التلاوة عند قراءة هذه الآية.
فذهب قوم إلى أنه يسجد عندها,
وهو قول عمر, وعلي, وابن عمر, وابن مسعود , وابن عباس, وبه قال ابن المبارك,
والشافعي, وأحمد, وإسحاق . واحتجوا بما أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي,
أخبرنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي, أخبرنا أبو العباس محمد بن أحمد
المحبوبي, أخبرنا أبو عيسى الترمذي, أخبرنا قتيبة, أخبرنا ابن لهيعة, عن مشرح بن
عاهان, عن عقبة بن عامر قال: قلت يا رسول الله فضلت سورة الحج بأن فيها سجدتين؟
قال: « نعم, ومن لم يسجدهما فلا يقرأهما » .
وذهب قوم إلى أنه لا يسجد
هاهنا, وهو قول سفيان الثوري وأصحاب الرأي.
وعدة سجود القرآن أربعة عشر عند
أكثر أهل العلم, منها ثلاث في المفصل.
وذهب قوم إلى أنه ليس في المفصل
سجود. روي ذلك عن أبي بن كعب, وابن عباس, وبه قال مالك. وقد صح عن أبي هريرة قال:
سجدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: في اقْرَأْ و إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ
وأبو هريرة من متأخري الإسلام.
واختلفوا في سجود صاد, فذهب
الشافعي: إلى أنه سجود شكر ليس من عزائم السجود, ويروى ذلك عن ابن عباس وذهب قوم
إلى أنه يسجد فيها, روي ذلك عن عمر, وبه قال سفيان الثوري, وابن المبارك, وأصحاب
الرأي, وأحمد, وإسحاق, فعند ابن المبارك, وإسحاق, وأحمد, وجماعة: سجود القرآن خمسة
عشرة سجدة, فعدوا سجدتي الحج وسجدة ص, وروي عن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله
عليه وسلم أقرأه خمس عشرة سجدة في القرآن .
وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ
حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ
حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ
قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ
عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ
هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ( 78 )
قوله عز وجل: (
وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ ) قيل:
جاهدوا في سبيل الله أعداء الله « حق جهاده » هو
استفراغ الطاقة فيه, قاله ابن عباس: وعنه أيضا أنه قال: لا تخافوا في الله لومة
لائم فهو حق الجهاد, كما قال تعالى: يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا
يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ( المائدة: 54 ) .
قال الضحاك ومقاتل: اعملوا لله حق عمله واعبدوه حق عبادته.
وقال مقاتل بن سليمان: نسخها قوله فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا
اسْتَطَعْتُمْ ( التغابن: 16 ) , وقال
أكثر المفسرين: « حق الجهاد » : أن
تكون نيته خالصة صادقة لله عز وجل. وقال السدي: هو أن يطاع فلا يعصى.
وقال عبد الله بن المبارك: هو مجاهدة النفس والهوى, وهو
الجهاد الأكبر, وهو حق الجهاد. وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع
من غزوة تبوك قال: « رجعنا من الجهاد الأصغر إلى
الجهاد الأكبر » وأراد بالجهاد الأصغر الجهاد
مع الكفار, وبالجهاد الأكبر الجهاد مع النفس.
( هُوَ اجْتَبَاكُمْ ) أي:
اختاركم لدينه, ( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي
الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) ضيق, معناه: أن المؤمن لا
يبتلى بشيء من الذنوب إلا جعل الله له منه مخرجا, بعضها بالتوبة, وبعضها برد
المظالم والقصاص, وبعضها بأنواع الكفارات, فليس في دين الإسلام ذنب لا يجد العبد
سبيلا إلى الخلاص من العقاب فيه.
وقيل: من ضيق في أوقات فروضكم مثل هلال شهر رمضان والفطر ووقت
الحج إذا التبس ذلك عليكم, وسع ذلك عليكم حتى تتيقنوا.
وقال مقاتل: يعني الرخص عند الضرورات, كقصر الصلاة في السفر,
والتيمم, وأكل الميتة عند الضرورة, والإفطار بالسفر والمرض, والصلاة قاعدا عند العجز.
وهو قول الكلبي.
وروي عن ابن عباس أنه قال: الحرج ما كان على بني إسرائيل من
الآصال التي كانت عليهم, وضعها الله عن هذه الأمة .
( مِلَّةَ أَبِيكُمْ
إِبْرَاهِيمَ ) أي كلمة أبيكم, نصب بنـزع حرف الصفة. وقيل: نصب على
الإغراء, أي: اتبعوا ملة أبيكم إبراهيم, [
وإنما أمرنا باتباع ملة إبراهيم ] لأنها داخلة في ملة محمد صلى
الله عليه وسلم.
فإن قيل: فما وجه قوله: (
مِلَّةَ أَبِيكُمْ ) وليس كل المسلمين يرجع نسبهم
إلى إبراهيم؟ .
قيل: خاطب به العرب وهم كانوا من نسل إبراهيم. وقيل: خاطب به
جميع المسلمين, وإبراهيم أب لهم, على معنى وجوب احترامه وحفظ حقه كما يجب احترام
الأب, وهو كقوله تعالى: وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ (
الأحزاب: 6 ) , وقال النبي صلى الله عليه وسلم: « إنما
أنا لكم مثل الوالد [ لولده ] » .
( هُوَ سَمَّاكُمُ ) يعني
أن الله تعالى سماكم ( الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ ) يعني
من قبل نـزول القرآن في الكتب المتقدمة. ( وَفِي
هَذَا ) أي: في الكتاب, هذا قول أكثر المفسرين. وقال ابن زيد: « هو » يرجع
إلى إبراهيم أي أن إبراهيم سماكم المسلمين في أيامه, من قبل هذا الوقت, وفي هذا
الوقت, وهو قوله: رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا
أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ ( البقرة: 128 ) , (
لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ ) يوم
القيامة أن قد بلغكم, ( وَتَكُونُوا ) أنتم,
( شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ) أن
رسلهم قد بلغتهم, ( فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ
وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ ) أي:
ثقوا بالله وتوكلوا عليه. قال الحسن: تمسكوا بدين الله. وروي عن ابن عباس قال:
سلوا ربكم أن يعصمكم من كل ما يكره . وقيل: معناه ادعوه ليثبتكم على دينه. وقيل:
الاعتصام بالله هو التمسك بالكتاب والسنة, ( هُوَ
مَوْلاكُمْ ) [ وليكم ]
وناصركم وحافظكم, ( فَنِعْمَ الْمَوْلَى
وَنِعْمَ النَّصِيرُ ) الناصر لكم.