سورة الفرقان
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ
الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ( 1 )
الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ
يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا
( 2 )
( تَبَارَكَ ) تفاعل,
من البركة. عن ابن عباس: معناه: جاء بكل بركة, دليله قول الحسن: مجيء البركة من
قبله. وقال الضحاك: تعظَّم, ( الَّذِي نـزلَ الْفُرْقَانَ ) أي:
القرآن, ( عَلَى عَبْدِهِ ) محمد
صلى الله عليه وسلم. ( لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ
نَذِيرًا ) أي: للجن والإنس. قيل: النذير هو القرآن. وقيل: محمد صلى
الله عليه وسلم . ( الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ
وَالأرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ
وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ ) مما يطلق عليه صفة المخلوق, (
فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ) فسواه وهيأه لما يصلح له, لا
خلل فيه ولا تفاوت, وقيل: قدَّر لكل شيء تقديرًا من الأجل والرزق, فجرت المقادير
على ما خلق.
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ
آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ
لأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا
نُشُورًا ( 3 )
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ
عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا ( 4 )
وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً
وَأَصِيلا ( 5 ) قُلْ
أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ
غَفُورًا رَحِيمًا ( 6 )
قوله عز وجل: (
وَاتَّخَذُوا ) يعني عبدة الأوثان, ( مِنْ
دُونِهِ آلِهَةً ) يعني: الأصنام, ( لا
يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لأنْفُسِهِمْ ضَرًّا
وَلا نَفْعًا ) أي: دفع ضر ولا جلب نفع, ( وَلا
يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً ) أي:
إماتةً وإحياءً, ( وَلا نُشُورًا ) أي:
بعثا بعد الموت. ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) يعني:
المشركين, يعني: النضر بن الحارث وأصحابه, ( إِنَّ
هَذَا ) ما هذا القرآن, ( إِلا
إِفْكٌ ) كذب, ( افْتَرَاه ) اختلقه
محمد صلى الله عليه وسلم, ( وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ
آخَرُونَ ) قال مجاهد: يعني اليهود . وقال الحسن: هو عبيد بن الخضر
الحبشي الكاهن. وقيل: جبر, ويسار, وعداس بن عبيد, كانوا بمكة من أهل الكتاب, فزعم
المشركون أن محمدا صلى الله عليه وسلم يأخذ منهم, قال الله تعالى: (
فَقَدْ جَاءُوا ) يعني قائلي هذه المقالة, (
ظُلْمًا وَزُورًا ) أي: بظلم وزور. فلما حذف
الباء انتصب, يعني جاؤوا شركًا وكذبًا بنسبتهم كلام الله تعالى إلى الإفك
والافتراء. ( وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا ) يعني
النضر بن الحارث كان يقول: إن هذا القرآن ليس من الله وإنما هو مما سَطَّره
الأولون مثل حديث رستم واسفنديار «
اكتتبها » : انتسخها محمد من جبر, ويسار, وعداس, ومعنى « اكتتب
» يعني طلب أن يكتب له, لأنه كان لا يكتب, (
فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ ) يعني تقرأ عليه ليحفظها لا
ليكتبها, ( بُكْرَةً وَأَصِيلا ) غدوة
وعشيًا. قال الله عز وجل ردًا عليهم: ( قُلْ
أَنـزلَهُ ) يعني القرآن, (
الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ ) يعني الغيب, ( فِي
السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا )
وَقَالُوا مَالِ هَذَا
الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنْزِلَ
إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا ( 7 ) أَوْ
يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ
الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلا مَسْحُورًا ( 8 )
انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا
( 9 )
تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا ( 10 )
( وَقَالُوا مَالِ هَذَا
الرَّسُولِ ) يعنون محمدا صلى الله عليه وسلم, ( يَأْكُلُ
الطَّعَامَ ) كما نأكل نحن, (
وَيَمْشِي فِي الأسْوَاقِ ) يلتمس المعاش كما نمشي, فلا
يجوز أن يمتاز عنَّا بالنبوة, وكانوا يقولون له: لست أنت بمَلَك ولا بملِك, لأنك
تأكل والمَلَك لا يأكل, ولست بملِك لأن الملِك لا يتسوق, وأنت تتسوق وتتبذل. وما
قالوه فاسد؛ لأن أكله الطعام لكونه آدميًا, ومشيه في الأسواق لتواضعه, وكان ذلك
صفة له, وشيءٌ من ذلك لا ينافي النبوة. (
لَوْلا أُنـزلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ ) فيصدقه, (
فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا ) داعيًا. ( أَوْ
يُلْقَى إِلَيْهِ كَنـز ) أي: ينـزل عليه كنـز من
السماء ينفقه, فلا يحتاج إلى التردد والتصرف في طلب المعاش, ( أَوْ
تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ ) بستان, (
يَأْكُلُ مِنْهَا ) قرأ حمزة والكسائي: « نأكل » بالنون
أي: نأكل نحن منها, ( وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ
تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلا مَسْحُورًا )
مخدوعًا. وقيل: مصروفًا عن الحق. (
انْظُرْ ) يا محمد, (
كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمْثَالَ ) يعني
الأشباه, فقالوا: مسحور, محتاج, وغيره, (
فَضَلُّوا ) عن الحق, ( فَلا
يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا ) إلى الهدى ومخرجًا عن
الضلالة. ( تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ
ذَلِكَ ) الذي قالوا, أو أفضل من الكنـز والبستان الذي ذكروا, وروى
عكرمة عن ابن عباس قال: يعني خيرًا من المشي في الأسواق والتماس المعاش . ثم بين
ذلك الخير فقال: ( جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا ) بيوتًا
مشيدة, والعرب تسمي كل بيت مشيَّد قصرًا, وقرأ ابن كثير, وابن عامر, وعاصم برواية
أبي بكر: « ويجعلُ » برفع اللام, وقرأ الآخرون
بجزمها على محل الجزاء في قوله: « إن شاء جعل لك » .
أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد
الله بن أبي توبة الكشميهني, أخبرنا أبو طاهر محمد بن الحارث, أخبرنا أبو الحسن
محمد بن يعقوب الكسائي, أخبرنا عبد الله بن محمود, أخبرنا إبراهيم بن عبد الله
الخلال, حدثنا عبد الله بن المبارك, عن يحيى بن أيوب, حدثني عبد الله بن زخر, عن
علي بن يزيد, عن القاسم بن أبي عبد الرحمن, عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: « عرض علي ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذهبا فقلت: لا يا رب, ولكن
أشبع يومًا وأجوع يومًا, وقال ثلاثًا أو نحو هذا, فإذا جعت تضرعتُ إليك وذكرتُك,
وإذا شبعتُ حمدتُك وشكرتُك » .
حدثنا أبو طاهر المُطَهَّرُ بن
علي بن عبيد الله الفارسي, أخبرنا أبو ذر محمد بن إبراهيم الصالحاني, أخبرنا أبو
محمد عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان المعروف بأبي الشيخ, أخبرنا أبو يعلى,
حدثنا محمد بن بكار, حدثنا أبو معشر عن سعيد يعني المقبري, عن عائشة قالت: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لو شئتُ لسارت معي جبال
الذهب, جاءني مَلَكٌ إن حُجِزْتَهُ لتساوي الكعبة, فقال: إن ربك يقرأ عليك السلام,
ويقول: إن شئتَ نبيًا عبدًا, وإن شئت نبيًا مَلِكًا, فنظرت إلى جبريل فأشار إليَّ
أنْ ضَعْ نفسك, فقلت: نبيًا عبدًا » قال:
فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك لا يأكل متكئًا يقول: « آكل
كما يأكل العبد, وأجلس كما يجلس العبد » .
بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ
وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا ( 11 )
قوله عز وجل: ( بَلْ
كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ ) بالقيامة, (
وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا ) نارًا مستعرة.
إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ قال الكلبي والسدي: من مسيرة عام. وقيل: من
مسيرة مائة سنة. وقيل: خمسمائة سنة. وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه
قال: « من كذب علي متعمدا فليتبوأ بين عيني جهنم مقعدا » .
قالوا: وهل لها من عينين؟ قال: نعم ألم تستمعوا قول الله تعالى:
إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ
مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا ( 12 )
( إِذَا
رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ) وقيل
إذا رأتهم زبانيتها. ( سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا )
غليانًا, كالغضبان إذا غَلَى صدره من الغضب. ( وَزَفِيرًا
) صوتًا. فإن قيل: كيف يسمع التغيظ؟ قيل: معناه رأوا وعلموا
أن لها تغيظًا وسمعوا لها زفيرًا, كما قال الشاعر:
ورأيــتُ زوجَــكِ فــي
الـوَغَى مُتَقَلِّــــدًا سَــــيْفًا ورُمْحًـــا
أي وحاملا رمحًا . وقيل: سمعوا
لها تغيظًا, أي: صوت التغيظ من التلهب والتوقد, قال عبيد بن عمير: تزفر جهنم يوم
القيامة زفرة فلا يبقى مَلَك مُقرَّب ولا نبي مرسل إلا خرَّ لوجهه.
وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا
مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا ( 13 ) لا
تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا ( 14 ) قُلْ
أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ
لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا ( 15 )
( وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا
مَكَانًا ضَيِّقًا ) قال ابن عباس: تضيق عليهم كما
يضيق الزجُّ . في الرمح, ( مُقَرَّنِينَ ) مصفدين
قد قرنت أيديهم إلى أعناقهم في الأغلال. وقيل: مقرنين مع الشياطين في السلاسل, (
دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا ) قال ابن عباس: ويلا. وقال
الضحاك: هلاكًا, وفي الحديث: « إن أول من يكسى حلة من النار
إبليس, فيضعها على حاجبيه ويسحبها من خلفه, وذريتُه من خلفه, وهو يقول: يا ثبوراه,
وهم ينادون: يا ثبورهم, حتى يقفوا على النار فينادون: يا ثبوراه, وينادي: يا
ثبورهم, فيقال لهم ( لا تَدْعُوا الْيَوْمَ
ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا ) قيل:
أي هلاككم أكثر من أن تدعوا مرة واحدة, فادعوا أدعية كثيرة. قوله عز وجل: ( قُلْ
أَذَلِكَ ) يعني الذي ذكرته من صفة النار وأهلها, (
خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ
جَزَاءً ) ثوابًا, ( وَمَصِيرًا )
مرجعًا. »
لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ
خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولا ( 16 )
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ
أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ ( 17 )
قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ
أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ
وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا ( 18 )
فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلا نَصْرًا
وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا ( 19 )
( لَهُمْ فِيهَا مَا
يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولا )
مطلوبًا, وذلك أن المؤمنين سألوا ربهم في الدنيا حين قالوا: رَبَّنَا وَآتِنَا مَا
وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ ( آل عمران- 194 ) ,
يقول: كان أعطى الله المؤمنين جنة خلد وعدًا, وعدهم على طاعتهم إياه في الدنيا
ومسألتهم إياه ذلك. قال محمد بن كعب القرظي: الطلب من الملائكة للمؤمنين وذلك
قولهم: رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ ( غافر-
8 ) . ( وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ ) قرأ
ابن كثير, وأبو جعفر, ويعقوب, وحفص: (
يَحْشُرُهُمْ ) بالياء, وقرأ الباقون بالنون, ( وَمَا
يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ) قال مجاهد: من الملائكة والجن
والإنس وعيسى وعزير. وقال عكرمة والضحاك والكلبي: يعني الأصنام, ثم يخاطبهم (
فَيَقُولُ ) قرأ ابن عامر بالنون والآخرون بالياء, (
أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ ) أخطأوا
الطريق. ( قَالُوا سُبْحَانَكَ ) نـزهوا
الله من أن يكون معه إله, ( مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا
أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ ) يعني:
ما كان ينبغي لنا أن نوالي أعداءك, بل أنت ولينا من دونهم. وقيل: ما كان لنا أن
نأمرهم بعبادتنا ونحن نعبدك. وقرأ أبو جعفر « أن
نُتَّخَذَ » بضم النون وفتح الخاء, فتكون « من » الثاني
صلة. ( وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ ) في
الدنيا بطول العمر والصحة والنعمة, (
حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ ) تركوا الموعظة والإيمان
بالقرآن. وقيل: تركوا ذكرك وغفلوا عنه, (
وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا ) يعني هلكى غلب عليهم الشقاء
والخذلان, رجل يقال له بائر, وقوم بور, وأصله من البوار وهو الكساد والفساد, ومنه
بوار السلعة وهو كسادها. وقيل هو اسم مصدر كالزور, يستوي فيه الواحد والاثنان
والجمع والمذكر والمؤنث. ( فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ ) هذا
خطاب مع المشركين, أي: كذبكم المعبودون, ( بِمَا
تَقُولُونَ ) إنهم آلهة, ( فَمَا
تَسْتَطِيعُونَ ) قرأ حفص بالتاء يعني
العابدين, وقرأ الآخرون بالياء يعني: الآلهة. (
صَرْفًا ) يعني: صرفًا من العذاب عن أنفسهم, ( وَلا
نَصْرًا ) يعني: ولا نصر أنفسهم. وقيل: ولا نصركم أيها العابدون من
عذاب الله بدفع العذاب عنكم. وقيل: « الصرف
» : الحيلة, ومنه قول العرب: إنه ليصرف, أي: يحتال, (
وَمَنْ يَظْلِمْ ) يشرك, (
مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا )
وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ
مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي
الأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ
رَبُّكَ بَصِيرًا ( 20 )
قوله عز وجل: ( وَمَا
أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ) يا
محمد, ( إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ ) روى
الضحاك عن ابن عباس قال: لما عيرَّ المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا
ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق, أنـزل الله عز وجل هذه الآية .
يعني: ما أنا إلا رسول وما كنتُ بِدْعًا من الرسل, وهم كانوا بشرًا يأكلون الطعام,
( وَيَمْشُونَ فِي الأسْوَاقِ ) وقيل:
معناه وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا قيل لهم مثل هذا أنهم يأكلون الطعام ويمشون
في الأسواق كما قال في موضع آخر: مَا يُقَالُ لَكَ إِلا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ
مِنْ قَبْلِكَ ( فصلت- 43 ) .
( وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ
لِبَعْضٍ فِتْنَةً ) أي بلية, فالغني فتنة للفقير,
يقول الفقير: ما لي لم أكن مثله؟ والصحيح فتنة للمريض, والشريف فتنة للوضيع. وقال
ابن عباس: أي جعلت بعضكم بلاءً لبعض لتصبروا على ما تسمعون منهم, وترون من خلافهم,
وتتبعوا الهدى. وقيل: نـزلت في ابتلاء الشريف بالوضيع؛ وذلك أن الشريف إذا أراد أن
يسلم فرأى الوضيع قد أسلم قبله أَنِف, وقال: أُسْلِمُ بعده فيكون له عليَّ السابقة
والفضل؟! فيقيم على كفره ويمتنع من الإسلام, فذلك افتتان بعضهم ببعض, وهذا قول
الكلبي وقال مقاتل: نـزلت في أبي جهل, والوليد بن عقبة, والعاص بن وائل, والنضر بن
الحارث؛ وذلك أنهم لما رأوا أبا ذر, وابن مسعود, وعمارًا, وبلالا وصهيبًا, وعامرَ
بن فهيرة, وذويهم, قالوا: نسلم فنكون مثل هؤلاء؟. وقال: نـزلت في ابتلاء فقراء
المؤمنين بالمستهزئين من قريش, كانوا يقولون: انظروا إلى هؤلاء الذين اتبعوا
محمدًا من موالينا وأراذلنا, فقال الله تعالى لهؤلاء المؤمنين: (
أَتَصْبِرُون ) يعني على هذه الحالة من الفقر والشدة والأذى.
( وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا ) بمن
صبر وبمن جزع. أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي, أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن,
أخبرنا أبو العباس الأصم, حدثنا زكريا بن يحيى المروزي, حدثنا سفيان بن عيينة, عن
أبي الزناد عن الأعرج, عن أبي هريرة يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إذا
نظر أحدكم إلى مَنْ فُضِّلَ عليه في المال والجسم فلينظر إلى مَنْ دونه في المال
والجسم » .
وَقَالَ الَّذِينَ لا
يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى
رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا ( 21 )
يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ
وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا ( 22 )
قوله عز وجل: (
وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ) أي: لا
يخافون البعث, قال الفرَّاء: « الرجاء » بمعنى
الخوف, لغة تهامة, ومنه قوله تعالى: مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا ( نوح-
13 ) , أي: لا تخافون لله عظمة. (
لَوْلا أُنـزلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ )
فتخبرنا أن محمدًا صادق, ( أَوْ نَرَى رَبَّنَا )
فيخبرنا بذلك. ( لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا ) أي:
تعظموا. ( فِي أَنْفُسِهِمْ ) بهذه
المقالة, ( وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا ) قال
مجاهد: « عتوًا » طغوا في القول و «
العتُّو » : أشد الكفر وأفحشُ الظلم, وعتوهم طلبهم رؤية الله حتى
يؤمنوا به. ( يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ ) عند
الموت. وقيل: في القيامة. ( لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ
لِلْمُجْرِمِينَ ) للكافرين, وذلك أن الملائكة
يبشرون المؤمنين يوم القيامة, ويقولون للكفار: لا بشرى لكم, هكذا قال عطية, وقال
بعضهم: معناه أنه لا بشرى يوم القيامة للمجرمين, أي: لا بشارة لهم بالجنة, كما
يُبَشَّرُ المؤمنون. ( وَيَقُولُونَ حِجْرًا
مَحْجُورًا ) قال عطاء عن ابن عباس: تقول الملائكة حرامًا محرمًا أن يدخل
الجنة, إلا من قال لا إله إلا الله. وقال مقاتل: إذا خرج الكفار من قبورهم قالت
لهم الملائكة حرامًا محرمًا عليكم أن يكون لكم البشرى. وقال بعضهم: هذا قول الكفار
للملائكة. قال ابن جريج: كانت العرب إذا نـزلت بهم شدة رأوا ما يكرهون, قالوا
حجرًا محجورًا, فهم يقولونه إذا عاينوا الملائكة. قال مجاهد: يعني عَوْذًا معاذًا,
يستعيذون به من الملائكة .
وَقَدِمْنَا إِلَى مَا
عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا ( 23 )
أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا ( 24 )
( وَقَدِمْنَا )
وعمدنا, ( إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً
مَنْثُورًا ) أي: باطلا لا ثواب له, فهم لم يعملوه لله عز وجل. واختلفوا
في « الهباء » , قال علي « هو ما
يرى في الكُوَّة إذا وقع ضوء الشمس فيها كالغبار, ولا يمس بالأيدي, ولا يرى في
الظل » , وهو قول الحسن وعكرمة ومجاهد, و «
المنثور » : المتفرق. وقال ابن عباس وقتادة وسعيد بن جبير: هو ما تسفيه
الرياح وتذريه من التراب وحطام الشجر. وقال مقاتل: هو ما يسطع من حوافر الدوابِّ
عند السير. وقيل: « الهباء المنثور » : ما
يرى في الكوة, و « الهباء المنبث » : هو ما
تطيره الرياح من سنابك الخيل . قوله عز وجل: (
أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا ) أي: من
هؤلاء المشركين المتكبرين, ( وَأَحْسَنُ مَقِيلا ) موضع
قائلة, يعني: أهل الجنة لا يمر بهم يوم القيامة إلا قدر النهار من أوله إلى وقت
القائلة حتى يسكنوا مساكنهم في الجنة. قال ابن مسعود: لا ينتصف النهار يوم القيامة
حتى يقيل أهل الجنة في الجنة, وأهل النار في النار, وقرأ « ثم إن
مقيلهم لإلى الجحيم » هكذا كان يقرأ . وقال ابن عباس
في هذه الآية: الحساب ذلك اليوم في أوله, وقال القوم حين قالوا في منازلهم في
الجنة. قال الأزهري: « القيلولة » و « المقيل
» : الاستراحة نصف النهار, وإن لم يكن مع ذلك نوم, لأن الله
تعالى قال: « وأحسن مقيلا » ,
والجنة لا نوم فيها. ويروى أن يوم القيامة يقصر على المؤمنين حتى يكون كما بين
العصر إلى غروب الشمس .
وَيَوْمَ تَشَقَّقُ
السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلا ( 25 )
الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ
عَسِيرًا ( 26 )
وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ
مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا ( 27 )
قوله عز وجل: ( وَيَوْمَ
تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ ) أي: عن
الغمام, الباء وعن يتعاقبان, كما يقال: رميت عن القوس وبالقوس, وتشقق بمعنى تتشقق,
أدغموا إحدى التاءين, وقرأ أبو عمرو وأهل الكوفة بتخفيف الشين هاهنا, وفي سورة « ق » بحذف
إحدى التاءين, وقرأ الآخرون بالتشديد, أي: تتشق بالغمام, وهو غمام أبيض رقيق مثل
الضبابة, ولم يكن إلا لبني إسرائيل في تيههم. (
وَنـزلَ الْمَلائِكَةُ تَنـزيلا ) قرأ ابن كثير: و «
نُنـزلُ » بنونين خفيف ورفع اللام, «
الملائكةَ » نصب, قال ابن عباس: تشقق السماء الدنيا فينـزل أهلها, وهم
أكثر ممن في الأرض من الجن والإنس, ثم تشقق السماء الثانية فينـزل أهلها, وهم أكثر
ممن في السماء الدنيا, ومن الجن والإنس, ثم كذلك حتى تشقق السماء السابعة وأهل كل
سماء يزيدون على أهل السماء التي قبلها, ثم ينـزل الكروبيون ثم حملة العرش . (
الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ ) أي: [
الملك ] الذي هو الملك الحق حقًا ملك الرحمن يوم القيامة. قال ابن
عباس: يريد أن يوم القيامة لا ملك يقضى غيره. (
وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا )
شديدًا, فهذا الخطاب يدل على أنه لا يكون على المؤمن عسيرا, وجاء في الحديث: « أنه
يهون يوم القيامة على المؤمنين حتى يكون عليهم أخف من صلاة مكتوبة صلوها في الدنيا
» ( وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ
عَلَى يَدَيْهِ ) أراد بالظالم عقبة بن أبي
معيط, وذلك أن عقبة كان لا يقدم من سفر إلا صنع طعامًا فدعا إليه أشراف قومه, وكان
يكثر مجالسة النبي صلى الله عليه وسلم فقدم ذات يوم من سفر فصنع طعامًا فدعا الناس
ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم, فلما قرب الطعام قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: « ما أنا بآكل طعامك حتى تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول
الله » فقال عقبة: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله,
فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم من طعامه, وكان عقبة صديقًا لأبَيِّ بن خلف,
فلما أخبر أبي بن خلف قال له: يا عقبة صبأت؟ قال: لا والله ما صبأت, ولكن دخل علي
رجل فأبى أن يأكل طعامي إلا أن أشهد له, فاستحييتُ أن يخرج من بيتي ولم يطعم,
فشهدت له فطعم, فقال: ما أنا بالذي أرضى عنك أبدًا إلا أن تأتيه فتبزق في وجهه,
ففعل ذلك عقبة, فقال عليه السلام: « لا
ألقاك خارجًا من مكة إلا علوتُ رأسك بالسيف » فقتل
عقبة يوم بدر صبرًا. وأما أبي بن خلف فقتله النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد بيده
وقال الضحاك: لما بزق عقبة في وجه
رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد بزاقه في وجهه فاحترق خداه, وكان أثر ذلك فيه
حتى الموت . وقال الشعبي كان عقبة بن أبي معيط خليل أمية بن خلف فأسلم عقبة, فقال
أمية: وجهي من وجهك حرام أن بايعت محمدًا, فكفر وارتدَّ, فأنـزل الله عز وجل: « ويوم
يعض الظالم » يعني: عقبة بن أبي معيط بن عبد شمس بن مناف « على
يديه » ندمًا وأسفًا على ما فرط في جنب الله, وأوبق نفسه بالمعصية
والكفر بالله بطاعة خليله الذي صده عن سبيل ربه. قال عطاء: يأكل يديه حتى تبلغ
مرفقيه ثم تنبتان, ثم يأكل هكذا, كلما نبتت يده أكلها تحسرا على ما فعل. (
يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ ) في
الدنيا, ( مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا ) ليتني
اتبعت محمدا صلى الله عليه وسلم, واتخذت معه سبيلا إلى الهدى. قرأ أبو عمرو: « يَا
ليتني اتخذت » بفتح الياء, والآخرون بإسكانها.
يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ
أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلا ( 28 )
لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ
لِلإِنْسَانِ خَذُولا ( 29 )
( يَا
وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلا ) يعني:
أبي بن خلف. ( لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ ) عن
الإيمان والقرآن, ( بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي ) يعني:
الذكر مع الرسول, ( وَكَانَ الشَّيْطَانُ ) وهو كل
متمرد عات من الإنس والجن, وكل من صد عن سبيل الله فهو شيطان. (
لِلإنْسَانِ خَذُولا ) أي: تاركًا يتركه ويتبرأ منه
عند نـزول البلاء والعذاب, وحكم هذه الآية عام في حق كل متحابين اجتمعا على معصية
الله. أخبرنا عبد الواحد المليحي, أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي, أخبرنا محمد
بن يوسف, حدثنا محمد بن إسماعيل, حدثنا محمد بن العلاء, أخبرنا أبو أسامة, عن
يزيد, عن أبي بردة, عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « مَثَلُ
الجليسِ الصالح والسوءِ, كحامِلْ المسك ونافخِ الكِير, فحاملُ المسك إمَّا أن
يُحْذِيَك وإمَّا أن تبتاع منه, وإمَّا أن تجدَ منه ريحًا طيبة, ونافخُ الكير
إمَّا أن يحرق ثيابك, وإمَّا أن تجد منه ريحًا خبيثة » .
أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد
الله بن أبي توبة, أخبرنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن الحارث, أخبرنا محمد بن يعقوب
الكسائي, أخبرنا عبد الله بن محمود, أخبرنا إبراهيم بن عبد الله الخلال, حدثنا عبد
الله بن المبارك, عن حياة بن شريح, أخبرني سالم بن غيلان أن الوليد بن قيس
التُّجيـبـي أخبره أنه سمع أبا سعيد الخدري - قال سالم: أو عن أبي الهيثم عن أبي
سعيد- أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: « لا
تصاحب إلا مؤمنًا ولا يأكل طعامك إلا تقي » .
أخبرنا عبد الواحد المليحي, أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد بن كساب النيسابوري,
أخبرنا أبو العباس الأصم, حدثنا حميد بن عياش الرملي, أخبرنا مؤمل بن إسماعيل,
حدثنا زهير بن محمد الخراساني, حدثنا موسى بن وردان عن أبي هريرة رضي الله عنه
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « المرءُ
على دين خليلهِ فلينظْر أحدُكم من يُخَالِلُ » .
وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ
إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا ( 30 )
(
وَقَالَ الرَّسُولُ ) يعني: ويقول الرسول في ذلك
اليوم: ( يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ
مَهْجُورًا ) أي: متروكًا فأعرضوا عنه, ولم يؤمنوا به ولم يعملوا بما
فيه. وقيل: جعلوه بمنـزلة الهجر وهو الهذيان, والقوي السيء, فزعموا أنه شعر وسحر,
وهو قول النخعي ومجاهد. وقيل: قال الرسول يعني: محمدا صلى الله عليه وسلم يشكوا
قومه إلى الله يا رب: إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورًا فعزَّاه الله تعالى فقال:
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ
نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا ( 31 )
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً
وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا ( 32 )
( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا ) يعني:
كما جعلنا لك أعداء من مشركي قومك كذلك جعلنا, (
لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ ) يعني:
المشركين. قال مقاتل: يقول لا يَكْبُرَنَّ عليك, فإن الأنبياء قبلك قد لَقِيَتْ
هذا من قومهم, فاصبر لأمري كما صبروا, فإني ناصرك وهاديك, (
وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا ) (
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نـزلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً ) كما
أنـزلت التوراة على موسى والإنجيل على عيسى والزبور على داود. قال الله تعالى: (
كَذَلِكَ ) فَعَلْتُ, (
لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ) أي: أنـزلناه متفرقًا ليقوى
به قلبك فتعيه وتحفظه, فإن الكتب أنـزلت على الأنبياء يكتبون ويقرءون, وأنـزل الله
القرآن على نبي أمي لا يكتب ولا يقرأ, ولأن من القرآن الناسخ والمنسوخ, ومنه ما هو
جواب لمن سأل عن أمور, ففرقناه ليكون أوعى لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأيسر على
العامل به. ( وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا ) قال
ابن عباس: بيَّنَّاه بيانًا, والترتيل: التبيين في ترسل وتثبت. وقال السدي:
فصَّلناه تفصيلا. وقال مجاهد: بعضه في إثر بعض. وقال النخعي والحسن وقتادة: فرقناه
تفريقًا, آيةً بعد آية.
وَلا
يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا ( 33 ) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ
عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلا ( 34 )
( وَلا يَأْتُونَكَ ) يا محمد يعني: هؤلاء
المشركين, (
بِمَثَل )
يضربونه في إبطال أمرك ( إِلا جِئْنَاكَ
بِالْحَقِّ ) يعني
بما ترد به ما جاءوا به من المثل وتبطله, فسمي ما يوردون من الشبه مثلا وسمي ما
يدفع به الشبه حقًا, (
وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا ) أي:
بيانًا وتفصيلا و «
التفسير » :
تفعيل, من الفَسْر, وهو كشف ما قد غطي. ثم ذكرَ مآل هؤلاء المشركين فقال: ( الَّذِينَ ) [ أي: هم الذين ] ( يُحْشَرُونَ عَلَى
وُجُوهِهِمْ )
فيساقون ويجرون, ( إِلَى
جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا ) أي: مكانة ومنـزلة, ويقال: منـزلا ومصيرًا, ( وَأَضَلُّ سَبِيلا ) أخطأُ طريقًا.
وَلَقَدْ
آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا ( 35 ) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى
الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا ( 36 ) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا
كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً
وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا ( 37 )
وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا ( 38 )
( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ
أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا )
مُعِيَنًا وظهيرًا . (
فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ) يعني القبط, ( فَدَمَّرْنَاهُمْ ) فيه إضمار, أي: فكذبوهما
فدمرناهم, (
تَدْمِيرًا )
أهلكناهم إهلاكًا. (
وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ ) أي: الرسول, ومن كذب رسولا واحدًا فقد كذب جميع الرسل,
فلذلك ذكر بلفظ الجمع. ( أَغْرَقْنَاهُمْ
وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً ) يعني:
لمن بعدهم عبرة, (
وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ ) في
الآخرة, (
عَذَابًا أَلِيمًا ) سوى ما
حلَّ به من عاجل العذاب. (
وَعَادًا وَثَمُودَ ) أي:
وأهلكنا عادًا وثمود, (
وَأَصْحَابَ الرَّسِّ )
اختلفوا فيهم, قال وهب بن منبه: كانوا أهل بئر قعودًا عليها, وأصحابَ مواشي,
يعبدون الأصنام, فوجَّه الله إليهم شعيبًا يدعوهم إلى الإسلام, فتمادوا في
طغيانهم, وفي أذى شعيب عليه السلام, فبينما هم حول البئر في منازلهم انهارت البئر,
فخسف بهم وبديارهم ورباعهم, فهلكوا جميعًا. و « الرسُّ » :
البئر, وكل ركية لم تُطْوَ بالحجارة والآجر فهو رسٌّ. وقال قتادة والكلبي: « الرس » بئر بفَلْج اليمامة, قتلوا
نبيهم فأهلكهم الله عز وجل. وقال بعضهم: هم بقية ثمود قوم صالح, وهم أصحاب البئر
التي ذكر الله تعالى في قوله: وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ ( الحج- 45 ) . وقال سعيد بن جبير: كان لهم
نبي يقال له حنظلة بن صفوان فقتلوه فأهلكهم الله تعالى. وقال كعب ومقاتل والسدي: « الرس » : بئر بإنطاكية قتلوا فيها
حبيبًا النجار, وهم الذين ذكرهم الله في سورة يس. وقيل: هم أصحاب الأخدود, [ والرسُّ هو الأخدود ] الذي حفروه. وقال عكرمة: هم
قوم رسّوا نبيهم في بئر . وقيل: الرسُّ المعدن, وجمعه رساس. ( وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ
كَثِيرًا ) أي:
وأهلكنا قرونًا كثيرًا بين عاد وأصحاب الرس.
وَكُلا
ضَرَبْنَا لَهُ الأَمْثَالَ وَكُلا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا ( 39 ) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى
الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا
بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ نُشُورًا ( 40 )
وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ
اللَّهُ رَسُولا ( 41 ) إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا
عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ
يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلا ( 42 )
أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلا ( 43 )
( وَكُلا ضَرَبْنَا لَهُ الأمْثَالَ ) أي: الأشباه في إقامة الحجة عليهم, فلم نهلكهم إلا بعد الإنذار ( وَكُلا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا ) أي: أهلكنا إهلاكًا. وقال الأخفش: كسرنا تكسيرًا. قال الزجاج: كل شيء كسرتُه وفتَّته فقد تبَّرتَه. ( وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ ) يعني الحجارة, وهي قريات قوم لوط, وكانت خمس قرى, فأهلك الله أربعًا منها, ونجت واحدة, وهي أصغرها, وكان أهلها لا يعملون العمل الخبيث, ( أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا ) إذ مروا بهم في أسفارهم فيعتبروا ويتذكروا, لأن مدائن قوم لوط كانت على طريقهم عند ممرهم إلى الشام, ( بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ ) لا يخافون, ( نُشُورًا ) بعثًا. قوله عز وجل: ( وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ ) يعني: ما يتخذونك, ( إِلا هُزُوًا ) أي: مهزوءًا به, نـزلت في أبي جهلٍ, كان إذ مرَّ بأصحابه على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال مستهزئًا: ( أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولا ) ؟! ( إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا ) أي: قد قارب أن يضلنا, ( عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا ) أي: لو لم نصبر عليها لصرفنا عنها, ( وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلا ) من أَخطأُ طريقًا. ( أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ ) وذلك أن الرجل من المشركين كان يعبد الحجر فإذا رأى حجرًا أحسن منه طرح الأول وأخذ الآخر فعبده. وقال ابن عباس: أرأيت من ترك عبادة الله وخالقه ثم هوي حجرًا فعبده ما حاله عندي؟ ( أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلا ) أي: حافظًا, يقول: أفأنت عليه كفيل تحفظه من اتباع هواه وعبادة من يهوى من دون الله؟ أي: لست كذلك. قال الكلبي: نسختها آية القتال.
أَمْ
تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلا
كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا ( 44 )
أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ
سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلا ( 45 ) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ
إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا ( 46 ) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ
لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا ( 47 )
( أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ
أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ ) ما
تقول سماع طالب الإفهام, ( أَوْ
يَعْقِلُونَ ) ما
يعاينون من الحجج والإعلام, ( إِنْ
هُمْ ) ما هم,
( إِلا
كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا ) لأن البهائم تهتدي لمراعيها ومشاربها وتنقاد لأربابها الذين
يتعهدونها, وهؤلاء الكفار لا يعرفون طريق الحق, ولا يطيعون ربهم الذي خلقهم
ورزقهم, ولأن الأنعام تسجد وتسبح لله وهؤلاء الكفار لا يفعلون. قوله عز وجل: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ
كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ ) معناه
ألم ترَ إلى مَدِّ ربِّك الظلَّ, وهو ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس, جعله
ممدودًا لأنه ظل لا شمس معه, كما قال: « في ظل الجنة » , وَظِلٍّ مَمْدُودٍ ( الواقعة- 30 ) إذ لم يكن معه شمس. ( وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ) دائمًا ثابتًا لا يزول ولا تذهبه
الشمس. قال أبو عبيدة: « الظل » : ما نسخته الشمس, وهو
بالغداة, و « الفيء
» : ما
نسخ الشمس, وهو بعد الزوال, سُمِّي فيئًا لأنه فاء من جانب المشرق إلى جانب
المغرب, ( ثُمَّ
جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلا ) أي: على الظل. ومعنى دلالتها عليه أنه لو لم تكن الشمس لما
عرف الظل, ولولا النور لما عرفت الظلمة, والأشياء تعرف بأضدادها. ( ثُمَّ قَبَضْنَاهُ ) يعني الظل, ( إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا ) بالشمس التي تأتي عليه, و « القبض » : جمع المنبسط من الشيء,
معناه: أن الظل يعم جميع الأرض قبل طلوع الشمس, فإذا طلعت الشمس قبض الله الظلَّ
جزءًا فجزءًا « قبضا
يسيرا » , أي:
خفيًا. (
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا ) أي: سترًا تستترون به, يريد أن ظلمته تغشى كل شيء, كاللباس
الذي يشتمل على لابسه, (
وَالنَّوْمَ سُبَاتًا ) راحةً
لأبدانكم وقطعًا لعملكم, وأصل « السبت
» :
القطع, والنائم مسبوت لأنه انقطع عمله وحركته. ( وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا ) أي: يقظة وزمانًا, تنتشرون
فيه لابتغاء الرزق, وتنتشرون لأشغالكم.
وَهُوَ
الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ
السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا ( 48 )
( وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ
رَحْمَتِهِ ) يعني
المطر (
وَأَنـزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا ) وهو الطاهر في نفسه المطهر لغيره, فهو اسم لما يتطهر به,
كالسَّحور اسم لما يتسحر به, والفَطور اسم لما يفطر به, والدليل عليه ما روينا أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال في البحر: « هو الطهور ماؤه الحل ميتته » وأراد به المطهِّر, فالماء
مطهر لأنه يطهر الإنسان من الحَدَث والنجاسة, كما قال في آية أخرى: وَيُنَـزِّلُ
عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ ( الأنفال- 11 ) , فثبت به أن التطهير يختص
بالماء.
وذهب
أصحاب الرأي إلى أن « الطهور
» هو
الطاهر, حتى جوزوا إزالة النجاسة بالمائعات الطاهرة, مثل الخل وماء الورد والمرق
ونحوها . ولو جاز إزالة النجاسة بها لجاز إزالة الحدث بها. وذهب بعضهم إلى أن « الطهور » ما يتكرر منه التطهير, كالصبور
اسم لمن يتكرر منه الصبر, والشكور اسم لمن يتكرر منه الشكر, وهو قول مالك, حتى
جوَّز الوضوء بالماء الذي توضأ منه مرة . وإن وقع في الماء شيء غيرَّ طعمه أو لونه
أو ريحه هل تزول طهوريته؟ نظر: إن كان الواقع شيئًا لا يمكن صون الماء عنه, كالطين
والتراب وأوراق الأشجار, لا تزول, فيجوز الطهارة به كما لو تغير لطول المكث في
قراره, وكذلك لو وقع فيه ما لا يخالطه, كالدهن يصب فيه فيتروح الماء برائحته يجوز
الطهارة به, لأن تغيره للمجاورة لا للمخالطة. وإن كان شيئا يمكن صون الماء منه
ويخالطه كالخل والزعفران ونحوهما تزول [ طهوريته فلا يجوز الوضوء به. وإن لم يتغير أحد أوصافه,
ينظر: إن كان الواقع فيه شيئًا طاهرًا لا تزول ] طهوريته, فتجوز الطهارة به, سواء كان الماء قليلا أو
كثيرًا, وإن كان الواقع فيه شيئًا نجسًا, ينظر: فإن كان الماء قليلا أقل من القلتين
ينجس الماء, وإن كان قدر قلتين فأكثر فهو طاهر يجوز الوضوء به. والقلتان خمس قرب,
ووزنه خمسمائة رطل, والدليل عليه ما: أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي, أخبرنا أبو
بكر أحمد بن الحسن الحيري, أخبرنا حاجب بن أحمد الطوسي, حدثنا عبد الرحيم بن
المنيب, أخبرنا جرير عن محمد بن إسحاق, عن محمد بن جعفر بن الزبير, عن عبيد الله
بن عبد الله بن عمر, عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الماء يكون
في الفلاة وما يَرِدُه من الدوابِّ والسِّباع؟ فقال: « إذا كان الماء قُلَّتين ليس
يحمل الخبث » وهذا
قول الشافعي, وأحمد, وإسحاق, وجماعة من أهل الحديث: أن الماء إذا بلغ هذا الحدّ لا
ينجس بوقوع النجاسة فيه ما لم يتغير أحد أوصافه .
وذهب
جماعة إلى أن الماء القليل لا ينجس بوقوع النجاسة فيه ما لم يتغير طعمه أو لونه أو
ريحه, وهو قول الحسن وعطاء والنخعي والزهري. واحتجوا بما: أخبرنا أبو القاسم بن
عبد الله بن محمد الحنفي, أخبرنا أبو الحارث طاهر بن محمد الطاهري, حدثنا أبو محمد
الحسن بن محمد بن حكيم, حدثنا أبو الموجه محمد بن عمرو بن الموجه, حدثنا صدقة بن
الفضل أخبرنا أبو أسامة عن الوليد بن كثير, عن محمد بن كعب القرظي, عن عبد الله بن
عبد الرحمن بن رافع بن خديج, عن أبي سعيد الخدري قال: قيل يا رسول الله أنتوضأ من
بئر بضاعة؟ وهي بئر يلقى في الحيض ولحوم الكلاب والنتن, فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: « إن
الماء طهور لا ينجسه شيء » .
لِنُحْيِيَ
بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ
كَثِيرًا ( 49 ) وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ
بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا ( 50 )
قوله عز
وجل: (
لِنُحْيِيَ بِهِ ) أي:
بالمطر, (
بَلْدَةً مَيْتًا ) ولم
يقل: « ميتة » لأنه رجع به إلى الموضع والمكان,
(
وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا ) أي: نسقي من ذلك الماء أنعامًا, ( وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا ) أي: بشرًا كثيرًا, والأناسي:
[ جمع
أنسي, وقيل ] جمع
إنسان, وأصله: « أناسين
» مثل:
بستان وبساتين, فجعل الياء عوضًا عن النون. ( وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ ) يعني: المطر, مرة ببلدة ومرة
ببلد آخر. قال ابن عباس: ما من عام بأمطر من عام ولكن الله يصرفه في الأرض, وقرأ
هذه الآية . وهذا كما روي مرفوعًا: « ما من ساعة من ليل ولا نهار إلا السماء تمطر فيها يصرفه
الله حيث يشاء » .
وذكر ابن
إسحاق وابن جريج ومقاتل وبلغوا به وابن مسعود يرفعه قال: « ليس من سنة بأمطر من أخرى,
ولكن الله قسم هذه الأرزاق, فجعلها في السماء الدنيا, في هذا القطر ينـزل منه كل
سنة بكيل معلوم ووزن معلوم, وإذا عمل قوم بالمعاصي حول الله ذلك إلى غيرهم, فإذا
عصوا جميعًا صرف الله ذلك إلى الفيافي والبحار » . وقيل: المراد من تصريف المطر تصريفه وابلا وطلا ورذاذًا
ونحوها. وقيل: التصريف راجع إلى الريح.
( لِيَذَّكَّرُوا ) أي: ليتذكروا ويتفكروا في
قدرة الله تعالى, (
فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا ) جحودا, وكفرانهم هو أنهم إذا مطروا قالوا مطرنا بنوء كذا.
أخبرنا أبو الحسن السرخسي, أخبرنا زاهر بن أحمد, أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي, أخبرنا
أبو مصعب عن مالك بن أنس, عن صالح بن كيسان, عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن
مسعود, عن زيد بن خالد الجهني أنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة
الصبح بالحديبية في أثر سماء كانت من الليل فلما انصرف أقبل على الناس فقال: هل
تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال « أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر,
فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي, وكافر بالكواكب, وأما من قال:
مطرنا بنَوْء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب »
وَلَوْ
شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا ( 51 ) فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ
وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا ( 52 )
وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ
وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا ( 53 ) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ
الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا ( 54 )
قوله عز
وجل: (
وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا ) رسولا ينذرهم, ولكن بعثناك
إلى القرى كلها, وحملناك ثقل النذارة جميعها, لتستوجب بصبرك عليه ما أعددنا لك من
الكرامة والدرجة الرفيعة. ( فَلا
تُطِعِ الْكَافِرِينَ ) فيما
يدعونك إليه من موافقتهم ومداهنتهم. ( وَجَاهِدْهُمْ بِهِ ) أي: بالقرآن, ( جِهَادًا كَبِيرًا ) شديدًا. (
وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ ) خلطهما وأفاض أحدهما في الآخر, وقيل: أرسلهما في مجاريهما
وخلاهما كما يرسل الخيل في المرج, وأصل « المرج » : الخلط
والإرسال, يقال: مرجت الدابة وأمرجتها إذا أرسلتها في المرعى وخليتها تذهب حيث
تشاء, ( هَذَا
عَذْبٌ فُرَاتٌ ) شديد العذوبة,
و « الفرات
» : أعذب
المياه, (
وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ ) شديد
الملوحة. وقيل: أُجاج أي: مرّ (
وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا ) أي:
حاجزًا بقدرته لئلا يختلط العذب بالملح ولا الملح بالعذب, ( وَحِجْرًا مَحْجُورًا ) أي: سترًا ممنوعًا فلا
يبغيان, ولا يفسد الملحُ العَذْبَ. ( وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ ) من النطفة, ( بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا
وَصِهْرًا ) أي:
جعله ذا نسب وصهر, قيل: « النسب
» ما لا
يحل نكاحه, و « الصهر
» : ما
يحل نكاحه, فالنسبُ ما يوجب الحرمة, والصهرُ ما لا يوجبها, وقيل: - وهو الصحيح- :
النسب: من القرابة, والصهر: الخلطة التي تشبه القرابة, وهو السبب المحرم للنكاح,
وقد ذكرنا أن الله تعالى حرم بالنسب سبعًا وبالسبب سبعًا, في قوله حُرِّمَتْ
عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ (
النساء- 23 ) , ( وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا )
وَيَعْبُدُونَ
مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ
عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا ( 55 )
( وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ
اللَّهِ ) يعني:
هؤلاء المشركين, ( مَا
لا يَنْفَعُهُمْ ) إن
عبدوه, ( وَلا
يَضُرُّهُمْ ) إن
تركوه, (
وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا ) أي: معينًا للشيطان على ربه بالمعاصي. قال الزجاج: أي:
يعاون الشيطان على معصية الله لأن عبادتهم الأصنام معاونة للشيطان. وقيل: معناه
وكان الكافر على ربه ظهيرًا, أي: هينًا ذليلا كما يقال الرجل: جعلني بظهير, أي:
جعلني هينًا. ويقال: ظهرت به, إذا جعله خلف ظهره فلم يلتفت إليه.
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا
مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ( 56 ) قُلْ
مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى
رَبِّهِ سَبِيلا ( 57 ) وَتَوَكَّلْ
عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ
عِبَادِهِ خَبِيرًا ( 58 )
الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ
ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا ( 59 )
( وَمَا
أَرْسَلْنَاكَ إِلا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ) أي:
منذرًا. ( قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ ) على
تبليغ الوحي, ( مِنْ أَجْرٍ )
فتقولوا إنما يطلب محمد أموالنا بما يدعونا إليه فلا نتبعه, ( إِلا
مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا ) هذا من
الاستثناء المنقطع, مجازه: لكن من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا بالإنفاق من ماله في
سبيله فعل ذلك, والمعنى: لا أسألكم لنفسي أجرًا ولكن لا أمنع من إنفاق المال في
طلب مرضاة الله واتخاذ السبيل إلى جنته. (
وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ ) أي: صل
له شكرًا على نعمه. وقيل: قل: سبحان الله, والحمد لله. (
وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا ) عالمًا
فيجازيهم بها. ( الَّذِي خَلَقَ
السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى
عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا )
بالرحمن. قال الكلبي: يقول فاسأل الخبير [
بذلك, يعني: بما ذكر من خلق السماوات والأرض والاستواء على العرش. وقيل: ] الخطاب
للرسول والمراد منه غيره لأنه كان مصدقًا به, والمعنى: أيها الإنسان لا ترجح في
طلب العلم بهذا إلى غيري. وقيل: الباء بمعنى « عن » , أي:
فاسأل عنه خبيرا وهو الله عز وجل. وقيل: جبريل عليه السلام.
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ
اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا
وَزَادَهُمْ نُفُورًا ( 60 )
تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا
وَقَمَرًا مُنِيرًا ( 61 )
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ
يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ( 62 )
( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ
اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ ) ما
نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة, يعنون مسيلمة الكذاب, كانوا يسمونه رحمن اليمامة. (
أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا ) قرأ حمزة والكسائي « يأمرنا
» بالياء, أي: لما يأمرنا محمد بالسجود له, وقرأ الآخرون
بالتاء, أي: لما تأمرنا أنت يا محمد, (
وَزَادَهُم ) يعني: زادهم قول القائل لهم: « اسجدوا
للرحمن » ( نُفُورًا ) عن
الدين والإيمان. قوله عز وجل ( تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ
فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا ) قال الحسن ومجاهد وقتادة: « البروج
» : هي النجوم الكبار, سميت بروجًا لظهورها, وقال عطية العوفي:
« بروجًا » أي: قصورًا فيها الحرس كما
قال: وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ (
النساء- 78 ) . وقال عطاء عن ابن عباس: هي البروج الاثنا عشر التي هي
منازل الكواكب السبعة السيارة, وهي الحمل, والثور, والجوزاء, والسرطان, والأسد,
والسنبلة, والميزان, والعقرب, والقوس, والجدي, والدلو, والحوت, فالحمل والعقرب
بيتا المريخ, والثور والميزان بيتا الزهرة, والجوزاء والسنبلة بيتا عطارد,
والسرطان بيت القمر, والأسد بيت الشمس, والقوس والحوت بيتا المشتري, والجدي والدلو
بيتا زحل, وهذه البروج مقسومة على الطبائع الأربع فيكون نصيب كل واحد منها ثلاثة بروج
تسمى المثلثات, فالحمل والأسد والقوس مثلثة نارية, والثور والسنبلة والجدي مثلثة
أرضية, والجوزاء والميزان والدلو مثلثة هوائية, والسرطان والعقرب والحوت مثلثة
مائية.
( وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا ) يعني
الشمس, كما قال: وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا ( نوح-
16 ) , وقرأ حمزة والكسائي: «
سُرُجًا » بالجمع, يعني النجوم. (
وَقَمَرًا مُنِيرًا ) والقمر قد دخل في «
السُّرْج » على قراءة من قرأ بالجمع, غير أنه خصه بالذكر لنوع فضيلة,
كما قال: فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (
الرحمن - 68 ) , خص النخل والرمان بالذكر مع دخولهما في الفاكهة. (
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً )
اختلفوا فيها, قال ابن عباس والحسن وقتادة: يعني خلفًا وعوضًا, يقوم أحدهما مقام
صاحبه, فمن فاته عمله في أحدهما قضاه في الآخر. قال شقيق: جاء رجل إلى عمر بن
الخطاب, قال فاتتني الصلاةُ الليلةَ, فقال: أدرِكْ ما فاتك من ليلتك في نهارك, فإن
الله عز وجل جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكَّر . [ قال
مجاهد: يعني جعل كل واحد منهما مخالفًا لصاحبه فجعل هذا أسود وهذا أبيض . وقال ابن
زيد وغيره ] يعني يخلف أحدهما صاحبه إذا ذهب أحدهما جاء الآخر فهما
يتعاقبان في الضياء والظلمة والزيادة والنقصان . (
لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ ) قرأ حمزة بتخفيف الذال والكاف
وضمها من الذكر, وقرأ الآخرون بتشديدهما أي: يتذكر ويتعظ ( أَوْ
أَرَادَ شُكُورًا ) قال مجاهد: أي: شكر نعمة ربه
عليه فيهما.
وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ
الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ
قَالُوا سَلامًا ( 63 )
قوله عز وجل: (
وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ ) أي: أفاضل العباد. وقيل: هذه
الإضافة للتخصيص والتفضيل, وإلا فالخلق كلهم عباد الله. ( الَّذِينَ
يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا ) أي:
بالسكينة والوقار متواضعين غير أَشِرين ولا مرحين, ولا متكبرين. وقال الحسن: علماء
وحكماء. وقال محمد بن الحنفية: أصحاب وقار وعفة لا يسفهون, وإن سُفه عليهم حلموا,
و « الهَوْن » في اللغة: الرفق واللين . (
وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ ) يعني
السفهاء بما يكرهون, ( قَالُوا سَلامًا ) قال
مجاهد: سدادًا من القول . وقال مقاتل بن حيان: قولا يسلمون فيه من الإثم. وقال
الحسن: إن جهل عليهم جاهل حلموا ولم يجهلوا, وليس المراد منه السلام المعروف. وروي
عن الحسن: معناه سلموا عليهم, دليله قوله عز وجل: وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ
أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ
عَلَيْكُمْ ( القصص- 55 ) . قال
الكلبي وأبو العالية: هذا قبل أن يؤمر بالقتال, ثم نسختها آية القتال . وروي عن
الحسن البصري أنه كان إذا قرأ هذه الآية قال: هذا وصف نهارهم, ثم قرأ وَالَّذِينَ
يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا قال: هذا وصف ليلهم.
وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ
لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا ( 64 )
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ
عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا ( 65 )
إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا ( 66 )
وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ
ذَلِكَ قَوَامًا ( 67 )
قوله تعالى: (
وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ ) يقال
لمن أدرك الليل: بات, نام أو لم ينم, يقال: بات فلان قَلِقًا, والمعنى: يبيتون
لربهم بالليل في الصلاة, ( سُجَّدًا ) على
وجوههم, ( وَقِيَامًا ) على
أقدامهم. قال ابن عباس: من صلى بعد العشاء الآخرة ركعتين أو أكثر فقد بات لله
ساجدًا وقائمًا . أخبرنا عبد الواحد المليحي, أخبرنا أبو منصور محمد بن محمد بن
سمعان, أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني, حدثنا حميد بن
زنجويه, حدثنا أبو نعيم عن سفيان, عن عثمان بن حكيم, عن عبد الرحمن بن أبي عمرة,
عن عثمان بن عفان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من صلى
العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل, ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل
كله » قوله عز وجل: (
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ
عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا ) أي: مُلِحًا دائمًا, لازمًا
غير مفارقٍ من عذب به من الكفار, ومنه سمي الغريم لطلبه حقه وإلحاحه على صاحبه
وملازمته إياه. قال محمد بن كعب القرظي: سأل الله الكفار ثمن نعمه فلم يؤدوا
فأغرمهم فيه, فبقوا في النار. قال الحسن: كل غريم يفارق غريمه إلا جهنم. و « الغرام
» : الشر اللازم, وقيل: « غرامًا
» هلاكًا. ( إِنَّهَا سَاءَتْ
مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا ) أي: بئس موضع قرار وإقامة. (
وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا ) قرأ
ابن كثير وأهل البصرة « يقتروا » بفتح
الياء وكسر التاء, وقرأ أهل المدينة وابن عامر بضم الياء وكسر التاء, وقرأ الآخرون
بفتح الياء وضم التاء, وكلها بلغات صحيحة. يقال: أقتر وقترَّ بالتشديد, وقترّ
يُقَتِّر. واختلفوا في معنى الإسراف والإقتار, فقال بعضهم: «
الإسراف » : النفقة في معصية الله وإن قلت, و «
الإقتار » : منع حق الله تعالى. وهو قول ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن
جريج. وقال الحسن في هذه الآية لم ينفقوا في معاصي الله ولم يمسكوا عن فرائض الله
. وقال قوم: « الإسراف » : مجاوزة الحد في الإنفاق, حتى
يدخل في حد التبذير, و « الإقتار » :
التقصير عمَّا لا بدَّ منه, وهذا معنى قول إبراهيم: لا يجيعهم ولا يعريهم ولا ينفق
نفقة يقول الناس قد أسرف . ( وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ
قَوَامًا ) قصدًا وسطًا بين الإسراف والإقتار, حسنة بين السيئتين. قال
يزيد بن أبي حبيب في هذه الآية: أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم, كانوا لا
يأكلون طعامًا للتنعم واللذة, ولا يلبسون ثوبًا للجمال, ولكن كانوا يريدون من
الطعام ما يسد عنهم الجوع ويقويهم على عبادة ربهم, ومن الثياب ما يستر عوراتهم
ويُكِنُّهم من الحر والقر . قال عمر بن الخطاب: كفى سرفًا أن لا يشتهي الرجل شيئًا
إلا اشتراه فأكله
وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ
مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ
إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا ( 68 )
قوله عز وجل: (
وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ ) الآية.
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي, أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي, أخبرنا محمد
بن يوسف, حدثنا محمد بن إسماعيل, حدثنا إبراهيم بن موسى, أخبرنا هشام بن يوسف بن
جريج أخبرهم قال: قال يعلى وهو يعلى بن مسلم, أن سعيد بن جبير, أخبره عن ابن عباس
أن ناسًا من أهل الشرك كانوا قد قتلوا فأكثروا وزنوا فأكثروا فأتوا محمدا صلى الله
عليه وسلم فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملناه كفارة,
فنـزلت: « والذين لا يدعون مع الله إلها آخر » .
( وَلا
يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ ) ونـزل:
قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ
رَحْمَةِ اللَّهِ ( الزمر- 53 ) .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد
المليحي, أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي, أخبرنا محمد بن يوسف, حدثنا محمد بن
إسماعيل, حدثنا قتيبة بن سعيد, حدثنا جرير عن الأعمش, عن أبي وائل, عن عمرو بن
شرحبيل قال: قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رجل: يا رسول الله أيُّ
الذنب أكبر عند الله؟ قال: « أن تدعو لله ندًا وهو خلقك » قال « ثم أي؟
قال: » أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك « , قال:
ثم أي؟ قال: » أن تزاني حليلة جارك « ,
فأنـزل الله تصديقها: » والذين لا يدعون مع الله إلها
آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما « قوله
عز وجل: ( وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ) أي:
شيئًا من هذه الأفعال, ( يَلْقَ أَثَامًا ) قال
ابن عباس رضي الله عنهما: إنما يريد جزاء الإثم. وقال أبو عبيدة: » الآثام « :
العقوبة. وقال مجاهد: » الآثام « : واد
في جهنم, يروى ذلك عن عبد الله بن عمرو بن العاص ويروى في الحديث: » الغي
والآثام بئران يسيل فيها صديد أهل النار « . »
يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا ( 69 ) إِلا
مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ
سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ( 70 )
( يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا ) قرأ
ابن عامر وأبو بكر « يُضَاعفُ » و « يخلدُ
» برفع الفاء والدال على الابتداء, وشدد بن عامر: « يضعف » , وقرأ
الآخرون بجزم الفاء والدال على جواب الشرط. ( إِلا
مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا ) قال
قتادة: إلا من تاب من ذنبه, وآمن بربه, وعمل عملا صالحًا فيما بينه وبين ربه.
أخبرنا أبو سعيد الشريحي, أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي, أخبرني الحسين بن محمد بن عبد
الله, حدثنا موسى بن محمد, حدثنا موسى بن هارون الحمال, حدثنا إبراهيم بن محمد
الشافعي, حدثنا عبد الله بن رجاء عن عبيد الله بن عمر, عن علي بن يزيد, عن يوسف بن
مهران, عن ابن عباس, قال: قرأناها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم سنتين:
وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ ، الآية, ثم نـزلت: ( إِلا
مَنْ تَابَ ) فما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم فرح بشيء قط كفرحه بها
وفرحه بـ: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا
تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ( الفتح
1 - 2 )
(
فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا
رَحِيمًا ) فذهب جماعة إلى أن هذا التبديل في الدنيا؛ قال ابن عباس,
وسعيد بن جبير, والحسن, ومجاهد, والسدي, والضحاك: يبدلهم الله بقبائح أعمالهم في
الشرك محاسن الأعمال في الإسلام, فيبدلهم بالشرك إيمانًا، وبقتل المؤمنين قتل
المشركين, وبالزنا عفة وإحصانًا . وقال قوم: يبدل الله سيئاتهم التي عملوها في
الإسلام حسناتٍ يوم القيامة وهو قول سعيد بن المسيب, ومكحول, يدل عليه ما: أخبرنا
أبو محمد عبد الله بن عبد الصمد الجوزجاني, أخبرنا أبو القاسم علي بن أبي أحمد
الخزاعي, أخبرنا الهيثم بن كليب, أخبرنا أبو عيسى الترمذي, حدثنا أبو عمار الحسين
بن خريت, حدثنا وكيع, حدثنا الأعمش, عن المعرور بن سويد, عن أبي ذر قال: قال النبي
صلى الله عليه وسلم: « إني لأعلم آخر رجل يخرج من
النار, يؤتى به يوم القيامة فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه, ويخبأ عنه كبارها,
فيقال له عملت يوم كذا وكذا كذا وكذا, وهو مقر لا ينكر, وهو مشفق من كبارها,
فيقال: أعطُوه مكان كل سيئة عملها حسنة, فيقول: ربِّ إنَّ لي ذنوبًا ما أراها
هاهنا , قال أبو ذر: لقد رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدتْ نواجذه
. وقال بعضهم: إن الله عز وجل يمحو بالندم جميع السيئات, ثم يثبت مكان كل سيئة
حسنة. »
وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ
صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا ( 71 )
قوله عز وجل: (
وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا ) قال بعض أهل العلم: هذا في
التوبة عن غير ما سبق ذكره في الآية الأولى من القتل والزنا, يعني: من تاب من
الشرك وعمل صالحًا, أي: أدى الفرائض ممن لم يقتل ولم يَزْنِ, (
فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ ) أي:
يعود إليه بعد الموت, ( مَتَابًا ) حسنًا
يفضل به على غيره ممن قتل وزنى, فالتوبة الأولى وهو قوله: « ومن
تاب » رجوع عن الشرك, والثاني رجوع إلى الله للجزاء والمكافأة.
وقال بعضهم: هذه الآية أيضًا في التوبة عن جميع السيئات. ومعناه: ومن أراد التوبة
وعزم عليها فليتب لوجه الله. وقوله: (
يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ ) خبر بمعنى الأمر, أي: ليتب
إلى الله. وقيل: معناه فليعلم أن توبته ومصيره إلى الله.
وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ
الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا ( 72 )
(
وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ ) قال
الضحاك وأكثر المفسرين: يعني الشرك . وقال علي بن طلحة: يعني شهادة الزور. وكان
عمر بن الخطاب: يجلد شاهد الزور أربعين جلدة, ويسخم وجهه, ويطوف به في السوق .
وقال ابن جريج: يعني الكذب وقال مجاهد: يعني أعياد المشركين . وقيل: النَّوْح قال
قتادة: لا يساعدون أهل الباطل على باطلهم . وقال محمد بن الحنفية: لا يشهدون اللهو
والغناء . قال ابن مسعود: « الغناء ينبت النفاق في القلب
كما ينبت الماء الزرع » . وأصل « الزور
» تحسين الشيء ووصفه بخلاف صفته, فهو تمويه الباطل بما يوهم
أنه حق
(
وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا ) قال
مقاتل: إذا سمعوا من الكفار الشتم والأذى أعرضوا وصفحوا, وهي رواية ابن أبي نجيح
عن مجاهد, نظيره قوله: وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ (
القصص- 55 ) , قال السدي: وهي منسوخة بآية القتال قال الحسن والكلبي: « اللغو
» : المعاصي كلها, يعني إذا مروا بمجلس اللهو والباطل مروا
كرامًا مسرعين معرضين. يقال: تكرم فلان عما يشينه إذا تنـزه وأكرم نفسه عنه .
وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا
بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا ( 73 )
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا
قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ( 74 )
(
وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا ) لم
يقعوا ولم يسقطوا, ( عَلَيْهَا صُمًّا
وَعُمْيَانًا ) كأنهم صم عمي, بل يسمعون ما يذكرون به فيفهمونه ويرون الحق
فيه فيتبعونه. قال القتيـبـي لم يتغافلوا عنها, كأنهم صم لم يسمعوها وعمي لم
يروها. ( وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ
أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا ) قرأ بغير ألف: أبو عمرو,
والكسائي, وأبو بكر. وقرأ الباقون بالألف على الجمع, (
قُرَّةَ أَعْيُنٍ ) أي: أولادًا أبرارًا أتقياء,
يقولون اجعلهم صالحين فتقر أعينُنا بذلك. قال القرظي: ليس شيء أقر لعين المؤمن من
أن يرى زوجته وأولاده مطيعين لله عز وجل. وقاله الحسن, ووحَّد القُرَّةَ لأنها
مصدر, وأصلها من البرد, لأن العرب تتأذى من الحر وتستروح إلى البرد, وتذكر قرة
العين عند السرور, وسخنة العين عند الحزن, ويقال: دمع العين عند السرور بارد, وعند
الحزن حار. وقال الأزهري: معنى قرة الأعين: أن يصادف قلبه من يرضاه, فتقر عينه به
عن النظر إلى غيره. ( وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ
إِمَامًا ) أي: أئمة يقتدون في الخير بنا, ولم يقل: أئمة, كقوله تعالى:
إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (
الشعراء- 16 ) , وقيل: أراد أئمة كقوله: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي (
الشعراء- 77 ) , أي: أعداء, ويقال: أميرنا هؤلاء, أي: أمراؤنا. وقيل: لأنه
مصدر كالصيام والقيام, يقال: أم إمامًا, كما يقال: قام قيامًا, وصام صيامًا. قال
الحسن: نقتدي بالمتقين ويقتدي بنا المتقون. وقال ابن عباس: اجعلنا أئمة هداة, كما
قال: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا (
السجدة- 24 ) , ولا تجعلنا أئمة ضلالة كما قال: وَجَعَلْنَاهُمْ
أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ (
القصص- 41 ) , وقيل: هذا من المقلوب, يعني: واجعل المتقين لنا إمامًا,
واجعلنا مؤتمين مقتدين بهم, وهو قول مجاهد.
أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ
الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا ( 75 )
خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا ( 76 ) قُلْ
مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ
يَكُونُ لِزَامًا ( 77 )
( أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ ) أي:
يثابون, ( الْغُرْفَة ) أي:
الدرجة الرفيعة في الجنة, و « الغرفة » : كل
بناء مرتفع عال. وقال عطاء: يريد غرف الدر والزبرجد والياقوت في الجنة, ( بِمَا
صَبَرُوا ) على أمر الله تعالى وطاعته. وقيل: على أذى المشركين. وقيل:
عن الشهوات ( وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا ) قرأ
حمزة, والكسائي, وأبو بكر: بفتح الياء وتخفيف القاف, كما قال: فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ
غَيًّا ( مريم- 59 ) , وقرأ
الآخرون بضم الياء وتشديد القاف كما قال: وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (
الإنسان- 11 ) , وقوله: (
تَحِيَّةً ) أي مُلْكًا, وقيل: بقاءً دائمًا, (
وَسَلامًا ) أي: يسلم بعضهم على بعض. وقال الكلبي: يحيي بعضهم بعضًا
بالسلام, ويرسل الرب إليهم بالسلام. وقيل: « سلامًا
» أي: سلامة من الآفات. (
خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا ) أي:
موضع قرار وإقامة. ( قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ
رَبِّي ) قال مجاهد وابن زيد: أي: ما يصنع وما يفعل بكم. قال أبو
عبيدة يقال: ما عبأت به شيئًا أي: لم أعدّه, فوجوده وعدمه سواء, مجازه: أي وزن وأي
مقدار لكم عنده, ( لَوْلا دُعَاؤُكُمْ )
إيَّاه, وقيل: لولا إيمانكم, وقيل: لولا عبادتكم, وقيل: لولا دعاؤه إياكم إلى
الإسلام, فإذا آمنتم ظهر لكم قدر. وقال قوم: معناها: قل ما يعبأ بخلقكم ربي لولا
عبادتكم وطاعتكم إياه يعني إنه خلقكم لعبادته, كما قال: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ
وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ ( الذاريات- 56 ) وهذا
قول ابن عباس ومجاهد. وقال قوم: « قل ما يعبأ » ما
يبالي بمغفرتكم ربي لولا دعاؤكم معه آلهة, أو ما يفعل بعذابكم لولا شرككم, كما قال
الله تعالى: مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ (
النساء- 147 ) . وقيل: ما يعبأ بعذابكم لولا دعاؤكم إياه في الشدائد, كما
قال: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ (
العنكبوت- 65 ) , وقال: فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ
لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ( الأنعام- 42 ) .
وقيل: « قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم » يقول:
ما خلقتكم ولي إليكم حاجة إلا أن تسألوني فأعطيكم وتستغفروني فأغفر لكم.
( فَقَدْ كَذَّبْتُمْ ) أيها
الكافرون, يخاطب أهل مكة, يعني: إن الله دعاكم بالرسول إلى توحيده وعبادته فقد
كذبتم الرسول ولم تجيبوه. ( فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا ) هذا
تهديده لهم, أي: يكون تكذيبكم لزامًا, قال ابن عباس: موتًا. وقال أبو عبيدة:
هلاكًا وقال ابن زيد: قتالا. والمعنى: يكون التكذيب لازمًا لمن كذب, فلا يعطى
التوبة حتى يجازى بعمله. وقال ابن جرير عذابًا دائمًا لازمًا وهلاكًا مقيمًا يلحق
بعضكم ببعض. واختلفوا فيه, فقال قوم: هو يوم بدر قتل منهم سبعون وأسر سبعون. وهو
قول عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب ومجاهد ومقاتل, يعني: أنهم قتلوا يوم بدر واتصل
بهم عذاب الآخرة, لازمًا لهم. أخبرنا عبد الواحد المليحي, أخبرنا أحمد بن عبد الله
النعيمي, أخبرنا محمد بن يوسف, أخبرنا محمد بن إسماعيل, أخبرنا عمر بن حفص بن
غياث, أخبرنا أبي, أخبرنا الأعمش, حدثنا مسلم, عن مسروق قال: قال عبد الله: خمس قد
مضين: الدُّخَان, والقمر, والرُّوم, والبَطْشَةُ, واللِّزام « (
فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا ) وقيل: اللزام هو عذاب
الآخرة.»