تفسير البغوي

29 - تفسير البغوي سورة العنكبوت

التالي السابق

سورة العنكبوت

 

مكية

بسم الله الرحمن الرحيم

الم ( 1 ) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ ( 2 )

( الم أَحَسِبَ النَّاسُ ) [ أَظَنَّ الناسُ ] ، ( أَنْ يُتْرَكُوا ) بغير اختبار ولا ابتلاء، ( أَنْ يَقُولُوا ) [ أي: بأن يقولوا ] ، ( آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ ) لا يبتلون في أموالهم وأنفسهم؟ كلا لنختبرنهم ليبَّين المخلص من المنافق والصادق من الكاذب.

واختلفوا في سبب نـزول هذه الآية، قال الشعبي: نـزلت في أناس كانوا بمكة قد أقروا بالإسلام، فكتب إليهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه لا يقبل منكم إقرار بالإسلام حتى تهاجروا، فخرجوا عامدين إلى المدينة فاتبعهم المشركون فقاتلوهم فمنهم من قتل ومنهم من نجا، فأنـزل الله هاتين الآيتين .

وكأن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أراد بالناس الذين آمنوا بمكة: سلمة بن هشام، وعياش بن ربيعة، والوليد بن الوليد وعمار بن ياسر وغيرهم. وقال ابن جريج: نـزلت في عمار بن ياسر، كان يعذب في الله عز وجل . وقال مقاتل: نـزلت في مِهْجَع بن عبد الله مولى عمر، كان أول قتيل من المسلمين يوم بدر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « سيد الشهداء مهجع، وهو أول من يدعى إلى باب الجنة من هذه الأمة » ، فجزع أبواه وامرأته فأنـزل الله فيهم هذه الآية . وقيل: « وهم لا يفتنون » بالأوامر والنواهي، وذلك أن الله تعالى أمرهم في الابتداء بمجرد الإيمان، ثم فرض عليهم الصلاة، والزكاة، وسائر الشرائع، فشقّ على بعضهم، فأنـزل الله هذه الآية، ثم عزّاهم فقال: وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ

وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ( 3 ) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ( 4 )

( وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) يعني الأنبياء والمؤمنين، فمنهم من نُشِرَ بالمنشار ومنهم من قتل، وابتلي بنو إسرائيل بفرعون فكان يسومهم سوء العذاب ، ( فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا ) في قولهم آمنَّا، ( وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ) والله أعلم بهم قبل الاختبار. ومعنى الآية: فليظهرنّ الله الصادقين من الكاذبين حتى يُوجِدَ معلومَه، وقال مقاتل: فليريّن الله. وقيل: ليمّيزن الله كقوله: لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ( الأنفال- 37 ) .

( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ ) يعني الشرك، ( أَنْ يَسْبِقُونَا ) يُعْجزونا ويفوتونا، فلا نقدر على الانتقام منهم، ( سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ) بئس ما حكموا حين ظنوا ذلك.

مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( 5 ) وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ( 6 )

( مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ ) قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ومقاتل: من كان يخشى البعث والحساب. والرجاء بمعنى الخوف. وقال سعيد بن جبير رضي الله عنه: من كان يطمع في ثواب الله، ( فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ ) يعني: ما وعد الله من الثواب والعقاب. وقال مقاتل: يعني: يوم القيامة لكائن. ومعنى الآية: أن من يخشى الله أو يأمله فليستعدّ له، وليعمل لذلك اليوم، كما قال: فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا الآية ( الكهف- 110 ) ، ( وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ )

( وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ ) له ثوابه، و « الجهاد » : هو الصبر على الشدة، ويكون ذلك في الحرب، وقد يكون على مخالفة النفس. ( إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ) عن أعمالهم وعباداتهم.

 

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 7 ) وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( 8 )

( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ ) لنبطلنّها، يعني: حتى تصير بمنـزلة ما لم يُعْمل، والتكفير: إذهاب السيئة بالحسنة، ( وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ) أي: بأحسن أعمالهم وهو الطاعة، وقيل: نعطيهم أكثر مما عملوا وأحسن، كما قال: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ( الأنعام- 160 ) .

قوله عز وجل: ( وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا ) أي: برًا بهما وعطفًا عليهما، معناه: ووصَيّنا الإنسان أن يفعل بوالديه ما يحسن. نـزلت هذه الآية، والتي في سورة لقمان ( الآية 15 ) ، والأحقاف ( الآية 15 ) في سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه - وهو سعد بن مالك أبو إسحاق الزهري، وأمه حمنة بنت أبي سفيان بن أمية بن عبد شمس - لما أسلم، وكان من السابقين الأولين، وكان بارًا بأمه، قالت له أمه: ما هذا الدين الذي أحدثت؟ والله لا آكل ولا أشرب حتى ترجع إلى ما كنتَ عليه، أو أموت فتعيّر بذلك أبد الدهر، ويقال: يا قاتل أمه. ثم إنها مكثت يومًا وليلة لم تأكل ولم تشرب [ ولم تستظل ] ، فأصبحت قد جهدت، ثم مكثت يومًا آخر لم تأكل ولم تشرب، فجاء سعد إليها وقال: يا أماه لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفسًا نفسًا ما تركت ديني فكلي، وإن شئت فلا تأكلي، فلما أيست منه أكلت وشربت، فأنـزل الله تعالى هذه الآية، وأمره بالبر بوالديه والإحسان إليهما وأن لا يطيعهما في الشرك، فذلك قوله عز وجل: ( وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا ) . وجاء في الحديث: « لا طاعة لمخلوق في معصية الله » . ثم أوعد بالمصير إليه فقال: ( إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) أخبركم بصالح أعمالكم وسيئها فأجازيكم عليها.

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ ( 9 ) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ ( 10 )

( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ ) في زمرة الصالحينَ وهم الأنبياء والأولياء، وقيل: في مدخل الصالحين، وهو الجنة.

قوله تعالى: ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ ) أصابه بلاء من الناس افتتن، ( جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ ) أي: جعل أذى الناس وعذابهم كعذاب الله في الآخرة، أي: جزع من عذاب الناس ولم يصبر عليه، فأطاع الناس كما يطيع الله من يخاف عذابه، هذا قول السدي وابن زيد، قالا هو المنافق إذا أوذي في الله رجع عن الدين وكفر. ( وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ ) أي: فتح ودولة للمؤمنين، ( لَيَقُولُنَّ ) يعني: هؤلاء المنافقين للمؤمنين: ( إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ ) على عدوكم وكنّا مسلمين وإنما أكرهنا حتى قلنا ما قلنا، فكذبهم الله وقال: ( أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ ) من الإيمان والنفاق.

وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ ( 11 ) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ( 12 )

( وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا ) صدقوا فثبتوا على الإسلام عند البلاء، ( وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ ) بترك الإسلام عند نـزول البلاء. واختلفوا في نـزول هذه الآية، قال مجاهد: نـزلت في أناس كانوا يؤمنون بألسنتهم، فإذا أصابهم بلاءٌ من الناس أو مصيبة في أنفسهم افتتنوا . وقال عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما: نـزلت في الذين أخرجهم المشركون إلى بدر ، وهم الذين نـزلت فيهم: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ ( النساء- 97 ) . وقال قتادة: نـزلت في القوم الذين ردهم المشركون إلى مكة . وقال الشعبي: هذه الآيات العشر من أول السورة إلى هاهنا مدنية، وباقي السور مكية .

( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا ) قال مجاهد: هذا من قول كفار مكة لمن آمن منهم. وقال الكلبي ومقاتل: قاله أبو سفيان لمن آمن من قريش، « اتبعوا سبيلنا » : ديننا وملة آبائنا، ونحن الكفلاء بكل تبعة من الله تصيبكم، فذلك قوله: ( وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ ) أوزاركم، قال الفرَّاء: لفظه أمر، ومعناه جزاء مجازه: إن اتبعتم سبيلنا حملنا خطاياكم، كقوله: فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ ( طه- 39 ) . وقيل: هو جزم على الأمر، كأنهم أمروا أنفسهم بذلك، فأكذبهم الله عز وجل فقال: ( وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ) فيما قالوا من حمل خطاياهم.

وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ ( 13 ) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ ( 14 )

( وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ ) أوزار أعمالهم التي عملوها بأنفسهم، ( وَأَثْقَالا مَعَ أَثْقَالِهِمْ ) أي: أوزار من أضلوا وصدوا عن سبيل الله مع أوزارهم. نظيره قوله عز وجل: لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ ( النحل- 25 ) . ( وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ ) سؤال توبيخ وتقريع.

قوله تعالى: ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ ) فغرقوا، ( وَهُمْ ظَالِمُونَ ) قال ابن عباس: مشركون.

 

فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ ( 15 ) وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ( 16 ) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( 17 )

( فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ ) يعني من الغرق، ( وَجَعَلْنَاهَا ) يعني السفينة ( آيَةً ) أي: عبرة، ( لِلْعَالَمِينَ ) فإنها كانت باقية على الجودي مدة مديدة. وقيل: جعلنا عقوبتهم للغرق عبرة. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: بعث نوح لأربعين سنة، وبقي في قومه يدعوهم ألف سنة إلا خمسين عامًا، وعاش بعد الطوفان ستين سنة حتى كثر الناس وفشوَا، وكان عمره ألفًا وخمسين سنة.

قوله عز وجل: ( وَإِبْرَاهِيم ) أي: وأرسلنا إبراهيم، ( إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ) أطيعوا الله وخافوه، ( ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ )

( إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا ) أصنامًا، ( وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا ) تقولون كذبا، قال مجاهد: تصنعون أصناما بأيدكم فتسمونها آلهة، ( إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا ) لا يقدرون أن يرزقوكم، ( فَابْتَغُوا ) فاطلبوا، ( عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ )

وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ ( 18 ) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ( 19 ) قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 20 ) يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ ( 21 ) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ( 22 )

( وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ) مثل عاد وثمود وغيرهم فأهلكوا، ( وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ )

( أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ) كيف يخلقهم ابتداء نطفة ثم علقة ثم مضغة ( ثُمَّ يُعِيدُهُ ) في الآخرة عند البعث ( إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ )

( قُلْ سِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ) فانظروا إلى ديارهم وآثارهم كيف بدأ خلقهم، ( ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ ) أي: ثم الله الذي خلقها ينشئها نشأة ثانية بعد الموت، فكما لم يتعذر عليه إحداثها مبدءًا لا يتعذر عليه إنشاؤها معيدًا. قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: ( النَّشْأَة ) بفتح الشين ممدودة حيث وقعت، وقرأ الآخرون بسكون الشين مقصورة نظيرها الرّأفة والرآفة. ( إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )

( يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ ) تردون.

( وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ ) فإن قيل: ما وجه قوله: « ولا في السماء » والخطاب مع الآدميينُ وهم ليسوا في السماء؟.

قال الفراء: معناه ولا من في السماء بمعجز، كقول حسان بن ثابت:

فَمَــنْ يَهْجُــو رسـولَ اللـه مِنْكُـمْ وَيَمْــدَحُــهُ وينْـصُــرُهُ سَــوَاءُ

أراد: من يمدحه ومن ينصره، فأضمر « من » ، يريد: لا يعجزه أهل الأرض في الأرض، ولا أهل السماء في السماء. وقال قطرب: معناه وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء لو كنتم فيها، كقول الرجل: ما يفوتني فلان هاهنا ولا بالبصرة، أي: ولا بالبصرة لو كان بها، ( وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ) أي: من وليٍّ يمنعكم مني ولا نصير ينصركم من عذابي.

وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 23 )

( وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ ) بالقرآن وبالبعث، ( أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي ) جنتي، ( أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) فهذه الآيات في تذكير أهل مكة وتحذيرهم، وهي معترضة في قصة إبراهيم، فقال جل ذكره: فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّار

 

فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( 24 ) وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ( 25 ) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 26 )

( فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّار ) وجعلها عليه بردًا وسلامًا، ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) يصدقون.

( وَقَالَ ) يعني إبراهيم لقومه: ( إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ ) قرأ ابن كثير، والكسائي، وأبو عمرو، ويعقوب: « مودةٌ » رفعًا بلا تنوين، « بينكم » خفضًا بالإضافة على معنى: إن الذين اتخذتم من دون الله أوثانا هي مودة بينكم، ( فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) ثم تنقطع ولا تنفع في الآخرة. ونصب حمزة، وحفص: « مودة » من غير تنوين على الإضافة بوقوع الاتخاذ عليها. وقرأ الآخرون « مودةَ » منصوبة منونة « بينَكم » بالنصب، معناه: إنكم إنما اتخذتم هذه الأوثان مودةً بينكم في الحياة الدنيا تتواردون على عبادتها وتتواصلون عليها في الدنيا. ( ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ) تتبرأ الأوثان من عابديها، وتتبرأ القادة من الأتباع، وتلعن القادة، ( وَمَأْوَاكُمُ ) جميعًا العابدون والمعبودون، ( النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ )

( فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ ) يعني: صدقه، وهو أول من صدق إبراهيم وكان ابن أخيه، ( وَقَالَ ) يعني إبراهيم، ( إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي ) فهاجر من كوثى، وهو من سواد الكوفة، إلى حران ثم إلى الشام، ومعه لوط وامرأته سارة، وهو أول من هاجر، قال مقاتل: هاجر إبراهيم عليه السلام وهو ابن خمس وسبعين سنة، ( إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ )

وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ( 27 ) وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ ( 28 ) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ( 29 )

( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ ) يقال: إن الله لم يبعث نبيًا بعد إبراهيم إلا من نسله، ( وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا ) وهو الثناء الحسن فكل أهل الأديان يتولونه، وقال السدي: هو الولد الصالح، وقيل: هو أنه رأى مكانه في الجنة، ( وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ) أي: في زمرة الصالحين. قال ابن عباس: مثل آدم ونوح.

قوله تعالى: ( وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ ) قرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر: « أئنكم » بالاستفهام، وقرأ الباقون بلا استفهام، واتفقوا على استفهام الثانية، ( لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ ) وهي إتيان الرجال، ( مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ )

( أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ ) وذلك أنهم كانوا يفعلون الفاحشة بمن يمّر بهم من المسافرين، فترك الناس الممر بهم. وقيل: تقطعون سبيل النسل بإيثار الرجال على النساء، ( وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ ) النادي، والندى، والمنتدى: مجلس القوم ومتحدثهم. أخبرنا أبو سعيد الشريحي، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي، أخبرنا أبو العباس بن سهل بن محمد المروزي، أخبرنا جدي لأمي أبو الحسن المحمودي، أخبرنا محمد بن إسحاق بن خزيمة، أن بشر بن معاذ حدثهم: أخبرنا يزيد بن زريع، أخبرنا حاتم بن أبي صغيرة، عن سماك بن حرب، عن أبي صالح مولى أم هانئ بنت أبي طالب [ عن أم هانئ ] قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله: ( وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ ) قلت: ما المنكر الذي كانوا يأتونه؟ قال: « كانوا يحذفون أهل الطرق ويسخرون بهم » .

ويروى أنهم كانوا يجلسون في مجالسهم، وعند كل رجل منهم قصعة فيه حصى فإذا مرّ بهم عابر سبيل حذفوه فأيهم أصابه كان أولى به. وقيل: إنه كان يأخذ ما معه وينكحه ويغرمه ثلاثة دراهم، ولهم قاضٍ بذلك. وقال القاسم بن محمد: كانوا يتضارطون في مجالسهم . وقال مجاهد: كان يجامع بعضهم بعضًا في مجالسهم . وعن عبد الله بن سلام قال: كان يبزق بعضهم على بعض. وعن مكحول قال: كان من أخلاق قوم لوط مضغ العلك وتطريف الأصابع بالحناء، وحل الإزار، والصفير، والحذف، واللواطية ، ( فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ ) لما أنكر عليهم لوط ما يأتونه من القبائح، ( إِلا أَنْ قَالُوا ) له استهزاء: ( ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) أن العذاب نازل بنا، فعند ذلك.

قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ ( 30 )

( قَالَ ) لوط: ( رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ ) بتحقيق قولي في العذاب.

 

وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ ( 31 ) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ( 32 )

( وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشرَى ) من الله بإسحاق ويعقوب، ( قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ ) يعني قوم لوط،والقرية سدوم، ( إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ )

( قَالَ ) إبراهيم للرسل: ( إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا ) يعني: قالت الملائكة ( نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ ) قرأ حمزة والكسائي ويعقوب: « ( لَنُنْجينه ) بالتخفيف، وقرأ الباقون بالتشديد، ( وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ) أي: الباقين في العذاب. »

وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ( 33 ) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ( 34 ) وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ( 35 ) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ ( 36 ) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ( 37 )

( وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا ) ظن أنهم من الإنس، ( سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ) بمجيئهم ( ذَرْعًا وَقَالُوا لا تَخَفْ ) قومك علينا، ( وَلا تَحْزَنْ ) بإهلاكنا إيّاهم، ( إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ) قرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر، ويعقوب: « مُنْجُوك » بالتخفيف، وقرأ الآخرون بالتشديد.

( إِنَّا مُنـزلُونَ ) قرأ ابن عامر بالتشديد، وقرأ الآخرون بالتخفيف، ( عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا ) عذابًا، ( مِنَ السَّمَاءِ ) قال مقاتل: الخسف والحصب، ( بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ )

( وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا ) من قريات لوط، ( آيَةٍ بَيِّنَةٍ ) عبرة ظاهرة، ( لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) يتدبرون الآيات تدبر ذوي العقول، قال ابن عباس: الآية البينة: آثار منازلهم الخربة. وقال قتادة: هي الحجارة التي أهلكوا بها أبقاها الله حتى أدركها أوائل هذه الأمة. وقال مجاهد: هي ظهور الماء الأسود على وجه الأرض .

( وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا ) أي: وأرسلنا إلى مدين أخاهم شُعيبًا، ( فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الآخِرَ ) أي: واخشوا، ( وَلا تَعْثَوْا فِي الأرْضِ مُفْسِدِينَ )

وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ ( 38 )

( وَعَادًا وَثَمُودَ ) أي: وأهلكنا عادًا وثمودًا، ( وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ ) يا أهل مكة، ( مِنْ مَسَاكِنِهِمْ ) منازلهم بالحِجْر واليمن، ( وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ ) عن سبيل الحق ( وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ ) قال مقاتل، والكلبي، وقتادة: كانوا معجبين في دينهم وضلالتهم، يحسبون أنهم على هدى، وهم على الباطل ، والمعنى: أنهم كانوا عند أنفسهم مستبصرين. قال الفراء: كانوا عقلاء ذوي بصائر .

 

وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ ( 39 ) فَكُلا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ( 40 )

( وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ ) أي: أهلكنا هؤلاء، ( وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ) بالدلالات، ( فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ ) أي: فائتين من عذابنا.

( فَكُلا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا ) قوم لوط، و « الحاصب » : الريح التي تحمل الحصباء، وهي الحصاه الصغار، ( وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَة ) يعني ثمود، ( وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرْضَ ) يعني قارون وأصحابه، ( وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا ) يعني: قوم نوح، وفرعون وقومه، ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) .

مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ( 41 ) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 42 ) وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ ( 43 )

( مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ ) يعني: الأصنام، يرجون نصرها ونفعها، ( كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا ) لنفسها تأوي إليه، وإن بيتها في غاية الضعف والوهاء، لا يدفع عنها حرًا ولا بردًا، وكذلك الأوثان لا تمللك لعباديها نفعًا ولا ضرًا. ( وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ )

( إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) قرأ أهل البصرة، وعاصم: « يدعون » بالياء لذكر الأمم قبلها، وقرأ الآخرون بالتاء.

( وَتِلْكَ الأمْثَالُ ) الأشباهُ والمَثَلُ: كلام سائر يتضمن تشبيه الآخر بالأول، يريد: أمثال القرآن التي شبه بها أحوال كفار هذه الأمة بأحوال كفار الأمم المتقدمة، ( نَضْرِبُهَا ) نبينها، ( لِلنَّاسِ ) قال مقاتل: لكفار مكة، ( وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ ) أي: ما يعقل الأمثال إلا العلماء الذين يعقلون عن الله. أخبرنا أبو سعيد الشريحي، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي، أخبرني ابن فنجويه، أخبرنا ابن برزة، أخبرنا الحارث بن أبي أسامة، أخبرنا داود بن المحبر، أخبرنا عباد بن كثير، عن ابن جريج عن عطاء وأبي الزبير عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية: ( وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ ) قال: « العالم من عقل عن الله فعمل بطاعته واجتنب سخطه » .

خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ ( 44 ) اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ( 45 )

قوله عز وجل: ( خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ ) أي: للحق وإظهار للحق، ( إِنَّ فِي ذَلِكَ ) في خلقها، ( لآيَة ) لدلالة ( لِلْمُؤْمِنِينَ ) على قدرته وتوحيده.

( اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ ) يعني القرآن، ( وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ) الفحشاء: ما قبح من الأعمال، والمنكر: ما لا يعرف في الشرع. قال ابن مسعود، وابن عباس: في الصلاة منتهى ومزدجر عن معاصي الله، فمن لم تأمره صلاته بالمعروف، ولم تنهه عن المنكر، لم يزدد بصلاته من الله إلا بعدًا .

وقال الحسن، وقتادة: من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فصلاته وبال عليه . وروي عن أنس قال: كان فتى من الأنصار يصلي الصلوات الخمس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لا يدع شيئا من الفواحش إلا ركبه، فوصف لرسول الله صلى الله عليه وسلم حاله فقال: « إن صلاته تنهاه يوما » فلم يلبث أن تاب وحسن حاله . وقال ابن عون: معنى الآية أن الصلاة تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكر ما دام فيها .

وقيل: أراد بالصلاة القرآن، كما قال تعالى: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ ( الإسراء- 110 ) ، أي: بقراءتك، وأراد أنه يقرأ القرآن في الصلاة، فالقرآن ينهاه عن الفحشاء والمنكر . أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا عبد الرحمن بن أبي شريح، أخبرنا أبو القاسم البغوي، أخبرنا علي بن الجعد، أخبرنا قيس بن الربيع، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر قال: قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: إن رجلا يقرأ القرآن الليل كله فإذا أصبح سرق، قال: « ستنهاه قراءته » .

وفي رواية قيل: يا رسول الله إن فلانا يصلي بالنهار ويسرق بالليل، فقال: « إن صلاته لتردعه » . قوله عز وجل: ( وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ) أي: ذكر الله افضل الطاعات. أخبرنا أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري، أخبرنا أبو الحسين علي بن محمد بن بشران ببغداد، أخبرنا أبو علي الحسين بن صفوان البردعي، أخبرنا أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا، أخبرنا هارون بن معروف أبو علي الضرير، أخبرنا أنس بن عياض، حدثنا عبد الله بن سعيد بن أبي هند، عن زياد بن أبي زياد مولى عبد الله بن عياش، عن أبي تجربة، عن أبي الدرداء رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إعطاء الذهب والورق، وأن تلقوا عدوكم، فتضربوا أعناقهم، ويضربوا أعناقكم » ؟ قالوا: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: « ذكر الله » .

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان، أخبرنا أبو جعفر بن أحمد بن عبد الجبار الرياني، أخبرنا حميد بن زنجويه، أخبرنا أبو الأسود، أخبرنا ابن لهيعة عن دراج، عن أبي السمح، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل أيّ، العباد أفضل، درجةً عند الله يوم القيامة؟ قال: « الذاكرون الله كثيرًا » قالوا: يا رسول الله ومن الغازي في سبيل الله؟ فقال: « لو ضرب بسيفه الكفّار والمشركين حتى ينكسر أو يختضب دمًا، لكان الذاكر الله كثيرًا أفضل منه درجة » . وروينا أن أعرابيا قال: يا رسول الله أي الأعمال أفضل؟ قال: « أن تفارق الدنيا ولسانك رطب من ذكر الله » .

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر الجرجاني، أخبرنا عبد الغافر بن محمد الفارسي، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي، أخبرنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، أخبرنا مسلم بن الحجاج القشيري، أخبرنا أمية بن بِسْطام العَيْشِيُّ، أخبرنا يزيد، يعني: ( ابن زريع ) ، أخبرنا رَوْح بن القاسم، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في طريق مكة فمّر على جبل يقال له جَمْدَان، فقال: « سيروا، هذا جُمْدان، سبق المُفَرَّدون » ، قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: « الذاكرون الله كثيرًا والذاكرات » .

أخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد الداودي، أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن موسى بن الصَّلت، أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي، أخبرنا خلاد بن أسلم، حدثنا النضر، أخبرنا شعبة، عن أبي إسحاق قال: سمعت الأغَرَّ قال: أشهد على أبي هريرة وأبي سعيد أنهما شهدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: « لا يقعد قوم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، ونـزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده » . وقال قوم: معنى قوله: « ولذكر الله أكبر » أي: ذكر الله إياكم أفضل من ذكركم إياه. ويروى ذلك عن ابن عباس ، وهو قول مجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير ، ويروي ذلك مرفوعًا عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم . وقال عطاء في قوله: « إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر » ، قال: ولذكر الله أكبر من أن تبقى معه معصية. ( وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ) قال عطاء: يريد لا يخفى عليه شيء.

 

وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ( 46 )

قوله تعالى: ( وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ ) لا تخاصموهم، ( إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) أي: بالقرآن والدعاء إلى الله بآياته والتنبيه على حججهُ وأرادَ مَنْ قَبَلَ الجزية منهم، ( إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ) أي: أبوا أن يعطوا الجزية ونصبوا الحرب، فجادلوهم بالسيف حتى يسلموا أو يعطوا الجزية، ومجاز الآية: إلا الذين ظلموكم، لأن جميعهم ظالم بالكفر. وقال سعيد بن جبير: هم أهل الحرب ومن لا عهد له. قال قتادة ومقاتل: صارت منسوخة بقوله: قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ( التوبة- 29 ) . ( وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنـزلَ إِلَيْنَا وَأُنـزلَ إِلَيْكُمْ ) يريد إذا أخبركم واحد منهم من قبل الجزية بشيء مما في كتبهم فلا تجادلوهم عليه، ولا تصدقوهم ولا تكذبوهم، وقولوا: آمنا بالذي أنـزل إلينا وأنـزل إليكم.

( وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا محمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، أخبرنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا محمد بن بشار، أخبرنا عثمان بن عمر، أخبرنا علي بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا: آمنا بالله وما أنـزل إلينا وما أنـزل إليكم » . أخبرنا أبو سعيد عبد الله بن أحمد الطاهري، أخبرنا عبد الصمد بن عبد الرحمن البزاز، أخبرنا محمد بن زكريا العذافري، أخبرنا إسحاق بن إبراهيم الدبري، أخبرنا عبد الرازق، أخبرنا معمر عن الزهري، أخبرنا ابن أبي نملة الأنصاري أن أباه أبا نملة الأنصاري أخبره: أنه بينا هو جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءه رجل من اليهود ومرّ بجنازة، فقال: يا محمد هل تتكلم هذه الجنازة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « الله أعلم » ، فقال اليهودي: إنها تتكلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم، وقولوا آمنا بالله وكتبه ورسله، فإن كان باطلا لم تصدقوه وإن كان حقًا لم تكذبوه » .

وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا الْكَافِرُونَ ( 47 ) وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ( 48 )

قوله تعالى: ( وَكَذَلِك ) أي: كما أنـزلنا إليهم الكتب، ( أَنـزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ) يعني: مؤمني أهل الكتاب، عبدَ الله بن سلام وأصحابه، ( وَمِنْ هَؤُلاءِ ) يعني: أهل مكة، ( مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ ) وهم مؤمنو أهل مكةُ ( وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا الْكَافِرُونَ ) ، وذلك أن اليهود عرفوا أن محمدًا نبيٌ، والقرآن حقّ، فجحدوا. قال قتادة: الجحود إنما يكون بعد المعرفة.

( وَمَا كُنْتَ تَتْلُو ) يا محمد، ( مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ ) قبل ما أنـزل إليك الكتاب، ( وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ) ولا تكتبه، أي: لم تكن تقرأ ولا تكتب قبل الوحي، ( إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ) يعني لو كنت تكتب أو تقرأ الكتب قبل الوحي لشك المبطلون المشركون من أهل مكة، وقالوا: إنه يقرؤه من كتب الأولين وينسخه منها، قاله قتادة. وقال مقاتل: « المبطلون » هم اليهود، ومعناه: إذًا لشكوا فيك واتهموك، وقالوا إن الذي نجد نعته في التوراة أمي لا يقرأ ولا يكتب وليس هذا على ذلك النعت .

بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا الظَّالِمُونَ ( 49 ) وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ( 50 ) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( 51 ) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ( 52 )

( بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ ) قال الحسن: يعني القرآن آيات بينات، ( فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ) يعني المؤمنين الذين حملوا القرآن. وقال ابن عباس رضي الله عنهما، وقتادة: بل هو - يعني محمدا صلى الله عليه وسلم- ذو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم من أهل الكتاب، لأنهم يجدونه بنعته وصفته في كتبهم ، ( وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا الظَّالِمُونَ )

( وَقَالُوا لَوْلا أُنـزلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ ) كما أنـزل على الأنبياء من قبل، قرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر: « آية » على التوحيد، وقرأ الآخرون: « آيات من ربه » لقوله عز وجل: ( قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ ) القادر على إرسالها إذا شاء أرسلها، ( وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ) أنذر أهل المعصية بالنار، وليس إنـزال الآيات بيدي.

( أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ ) هذا الجواب لقوله: « لولا أنـزل عليه آيات من ربه » قال: ( أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنـزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ ) [ يعني: أولم يكفهم من الآيات القرآن يتلى عليهم ] ، ( إِنَّ فِي ذَلِكَ ) في إنـزال القرآن، ( لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) أي: تذكيرا وعظة لمن آمن وعمل به.

( قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا ) أني رسوله وهذا القرآن كتابه، ( يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ ) قال ابن عباس: بغير الله. وقال مقاتل: بعبادة الشيطان، ( وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ )

 

وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ( 53 ) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ( 54 ) يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( 55 ) يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ ( 56 )

( وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ ) نـزلت في النضر بن الحارث حين قال: فأمطر علينا حجارة من السماء ( وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى ) قال ابن عباس: ما وعدتك أني لا أعذب قومك ولا أستأصلهم وأؤخر عذابهم إلى يوم القيامة كما قال: بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ ( القمر- 46 ) ، وقال الضحاك: مدة أعمارهم، لأنهم إذا ماتوا صاروا إلى العذاب، وقيل: يوم بدر، ( لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ ) يعني: العذاب وقيل الأجل، ( بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) بإتيانه.

( يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ ) أعاده تأكيدا، ( وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ) جامعة لهم لا يبقى أحد منهم إلا دخلها.

( يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ) يعني: إذا غشيهم العذاب أحاطت بهم جهنم، كما قال: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ ( الأعراف- 41 ) ، ( وَيَقُولُ ذُوقُوا ) قرأ نافع، وأهل الكوفة: « ويقول » بالياء، أي: ويقول لهم الموكل بعذابهم: ذوقوا، وقرأ الآخرون بالنون؛ لأنه لما كان بأمره نسب إليه، ( مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) أي: جزاء ما كنتم تعملون.

( يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ ) قال مقاتل والكلبي: نـزلت في ضعفاء مسلمي مكة، يقول: إن كنتم في ضيق بمكة من إظهار الإيمان فاخرجوا منها إلى أرض المدينة، إن أرضي - يعني المدينة- واسعة آمنة . قال مجاهد: إن أرضي المدينة واسعة فهاجروا وجاهدوا فيها . وقال سعيد بن جبير: إذا عمل في أرض بالمعاصي فاخرجوا منها فإن أرضي واسعة. وقال عطاء: إذا أمرتم بالمعاصي فاهربوا فإن أرضي واسعة. وكذلك يجب على كل من كان في بلد يعمل فيها بالمعاصي ولا يمكنه تغيير ذلك أن يهاجر إلى حيث يتهيأ له العبادة . وقيل: نـزلت في قوم تخلفوا عن الهجرة بمكة، وقالوا: نخشى، إن هاجرنا، من الجوع وضيق المعيشة، فأنـزل الله هذه الآية ولم يعذرهم بترك الخروج. وقال مطرف بن عبد الله: « أرضي واسعة » أي: رزقي لكم واسع فاخرجوا .

كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ( 57 ) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ( 58 ) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ( 59 ) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( 60 )

( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ) خوفهم بالموت ليهون عليهم الهجرة، أي: كل واحد ميت أينما كان فلا تقيموا بدار الشرك خوفا من الموت، ( ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ) فنجزيكم بأعمالكم، وقرأ أبو بكر: « يرجعون بالياء » .

( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ ) قرأ حمزة، والكسائي: بالثاء ساكنة من غير همز، يقال: ثوى الرجل إذا أقام، وأثويته: إذا أنـزلته منـزلا يقيم فيه. وقرأ الآخرون بالباء وفتحها وتشديد الواو وهمزة بعدها، أي: لننـزلنهم، ( مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا ) علالي، ( تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ )

( الَّذِينَ صَبَرُوا ) على الشدائد ولم يتركوا دينهم لشدة لحقتهم، ( وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) يعتمدون.

( وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا ) وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمؤمنين الذين كانوا بمكة وقد آذاهم المشركون: « هاجروا إلى المدينة » ، فقالوا: كيف نخرج إلى المدينة وليس لنا بها دار ولا مال، فمن يطعمنا بها ويسقينا؟ فأنـزل الله: ( وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ ) ذات حاجة إلى غذاء، ( لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا ) أي: لا ترفع رزقها معها ولا تدخر شيئا لغد مثل البهائم والطير، ( اللَّه يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ ) حيث كنتم، ( وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) السميع لأقوالكم: لا نجد ما ننفق بالمدينة، العليم بما في قلوبكم. وقال سفيان عن علي بن الأقمر: وكأين من دابة لا تحمل رزقها، قال: لا تدخر شيئا لغد. قال سفيان: ليس شيء من خلق الله يخبأ إلا الإنسان والفأرة والنملة .

أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي، أخبرنا أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي، أخبرني أبو عبد الله الحسين بن محمد الثقفي، أخبرنا عبد الله بن عبد الرحمن الدقاق، أخبرنا محمد بن عبد العزيز، أخبرنا إسماعيل بن زرارة الرقي، أخبرنا أبو العطوف الجراح بن منهال، عن الزهري، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عمر قال: دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم [ حائطا من حوائط الأنصار، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ] يلقط الرطب بيده ويأكل، فقال: كل يا ابن عمر، قلت: لا أشتهيها يا رسول الله، قال: لكني أشتهيه، وهذه صبح رابعة منذ لم أطعم طعاما ولم أجده، فقلت إنا لله، الله المستعان، قال: يا ابن عمر لو سألت ربي لأعطاني مثل ملك كسرى وقيصر أضعافا مضاعفة، ولكن أجوع يوما وأشبع يوما فكيف بك يا ابن عمر إذا عمرت وبقيت في حثالة من الناس يخبئون رزق سنة ويضعف اليقين، فنـزلت ( وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا ) الآية.

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أبو محمد الحسين بن أحمد المخلدي، أخبرنا أبو العباس السراج، أخبرنا قتيبة بن سعيد، أخبرنا جعفر بن سليمان، عن ثابت، عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم: كان لا يدخر شيئا لغد .

وروينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا » . أخبرنا أبو منصور محمد بن عبد الملك المظفري، أخبرنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن الفضل الفقيه، أخبرنا أبو نصر بن حمدويه المطوعي، أخبرنا أبو الموجه محمد بن عمرو، أخبرنا عبدان، عن أبي حمزة، عن إسماعيل هو ابن أبي خالد، عن رجلين أحدهما زبيد اليامي، عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « أيها الناس ليس من شيء يقربكم إلى الجنة ويباعدكم من النار إلا وقد أمرتكم به، وليس شيء يقربكم إلى النار ويباعدكم من الجنة إلا وقد نهيتكم عنه، وإن الروح الأمين قد نفث في روعي أنه ليس من نفس تموت حتى تستوفي رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء الرزق أن تطلبوه بمعاصي الله، فإنه لا يدرك ما عند الله إلا بطاعته » وقال هشيم عن إسماعيل عن زبيد عمن أخبره عن ابن مسعود.

وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ( 61 ) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( 62 ) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ( 63 )

قوله تعالى: ( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ ) يعني كفار مكة، ( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ) .

( اللَّه يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) .

( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نـزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ ) على أن الفاعل لهذه الأشياء هو الله، ( بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ) وقيل: قل الحمد لله على إقراراهم لزوم الحجة عليهم، ( بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ) ينكرون التوحيد مع إقرارهم بأنه الخالق لهذه الأشياء.

 

وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ( 64 ) فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ ( 65 ) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ( 66 ) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ ( 67 )

قوله تعالى: ( وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا لَهْوٌ وَلَعِبٌ ) اللهو هو: الاستمتاع بلذات الدنيا، واللعب: العبث، سميت بهما لأنها فانية. ( وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ ) أي: الحياة الدائمة الباقية، و « الحيوان » : بمعنى الحياة، أي: فيها الحياة الدائمة، ( لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) فناء الدنيا وبقاء الآخرة.

قوله تعالى: ( فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ ) وخافوا الغرق، ( دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) وتركوا الأصنام، ( فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ ) هذا إخبار عن عنادهم وأنهم عند الشدائد يقرون أن القادر على كشفها هو الله عز وجل وحده، فإذا زالت عادوا إلى كفرهم. قال عكرمة: كان أهل الجاهلية إذا ركبوا البحر حملوا معهم الأصنام فإذا اشتدت بهم الريح ألقوها في البحر وقالوا يا رب يا رب.

( لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ ) هذا لام الأمر، ومعناه التهديد والوعيد، كقوله: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ ( فصلت- 40 ) ، أي: ليجحدوا نعمة الله في إنجائه إياهم، ( وَلِيَتَمتّعُوا ) قرأ حمزة، والكسائي: ساكنة اللام، وقرأ الباقون بكسرها نسقا على قوله: « ليكفروا » ، ( فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ) وقيل: من كسر اللام جعلها لام كي وكذلك في ليكفروا، والمعنى لا فائدة لهم في الإشراك إلا الكفر والتمتع بما يتمتعون به في العالجة من غير نصيب في الآخرة.

( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ) يعني العرب، يسبي بعضهم بعضا، وأهل مكة آمنون، ( أَفَبِالْبَاطِلِ ) بالأصنام والشيطان، ( يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ ) بمحمد والإسلام، ( يَكْفُرُون )

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ ( 68 ) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ( 69 )

( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ) فزعم أن لله شريكا وأنه أمر بالفواحش، ( أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ ) بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن، ( لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ ) استفهام بمعنى التقرير، معناه: أما لهذا الكافر المكذب مأوى في جهنم.

( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا ) الذين جاهدوا المشركين لنصرة ديننا، ( لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ) لنثبتنهم على ما قاتلوا عليه. وقيل: لنـزيدنهم هدى كما قال: وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى ( مريم- 76 ) ، وقيل: لنوقفنهم لإصابة الطريق المستقيمة، والطريق المستقيمة هي التي يوصل بها إلى رضا الله عز وجل. قال سفيان بن عيينة: إذا اختلف الناس فانظروا ما عليه أهل الثغور، فإن الله قال: ( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ) وقيل: المجاهدة هي الصبر على الطاعات. قال الحسن: أفضل الجهاد مخالفة الهوى. وقال الفضيل بن عياض: والذين جاهدوا في طلب العلم لنهدينهم سبل العمل به. وقال سهل بن عبد الله: والذين جاهدوا في إقامة السنة لنهدينهم سبل الجنة. وروي عن ابن عباس: والذين جاهدوا في طاعتنا لنهدينهم سبل ثوابنا. ( وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ) بالنصر والمعونة في دنياهم وبالثواب والمغفرة في عقباهم.

 

أعلى