تفسير البغوي

35 - تفسير البغوي سورة فاطر

التالي السابق

سورة فاطر

 

مكية

بسم الله الرحمن الرحيم

الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 1 )

( الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) خالقها ومبدعها على غير مثال سبق, ( جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلا أُولِي أَجْنِحَةٍ ) ذوي أجنحة ( مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ ) قال قتادة ومقاتل: بعضهم له جناحان, وبعضهم له ثلاثة أجنحة, وبعضهم له أربعة أجنحة, ويزيد فيها ما يشاء وهو قوله, ( يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ )

وقال ابن مسعود في قوله عز وجل: لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى ( النجم- 18 ) , قال رأى جبريل في صورته له ستمائة جناح.

وقال ابن شهاب في قوله: « يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ » قال: حسن الصوت.

وعن قتادة قال: هو الملاحَة في العينين. وقيل: هو العقل والتمييز.

( إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )

مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 2 ) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ( 3 )

( مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ ) [ قيل: من مطر ورزق ] , ( فَلا مُمْسِكَ لَهَا ) لا يستطيع أحد على حبسها, ( وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ ) فيما أمسك ( الْحَكِيمُ ) فيما أرسل.

أخبرنا الإمام أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد الداودي, أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن موسى بن الصلت, أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي, أخبرنا عبيد الله بن أسباط, أخبرنا أبي, أخبرنا عبد الملك بن عمير, عن وراد, عن المغيرة بن شعبة, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في دبر كل صلاة مكتوبة: « لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير, اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد » . ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ ) قرأ حمزة والكسائي « غير » بجر الراء, وقرأ الآخرون برفعها على معنى هل خالق غير الله, لأن « من » زيادة, وهذا استفهام على طريق التقرير كأنه قال: لا خالق غير الله, ( يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ ) أي: من السماء المطر ومن الأرض النبات, ( لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ )

 

وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ ( 4 ) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ( 5 )

( وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ ) يعزي نبيه صلى الله عليه وسلم, ( وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ ) ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ) يعني وعد يوم القيامة, ( فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ) وهو الشيطان.

إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ( 6 ) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ( 7 ) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ( 8 )

( إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ) أي: عادوه بطاعة الله ولا تطيعوه, ( إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ ) أي: أشياعه وأولياءه ( لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ) أي: ليكونوا في السعير, ثم بين حال موافقيه ومخالفيه فقال: ( الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ) قوله تعالى: ( أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ ) قال ابن عباس: نـزلت في أبي جهل ومشركي مكة.

وقال سعيد بن جبير: نـزلت في أصحاب الأهواء والبدع.

وقال قتادة: منهم الخوارج الذين يستحلون دماء المسلمين وأموالهم, فأما أهل الكبائر فليسوا منهم, لأنهم لا يستحلون الكبائر.

( أَفَمَنْ زُيِّنَ ) شبه وموه عليه وحسن ( لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ ) أي: قبيح عمله, ( فَرَآهُ حَسَنًا ) زين له الشيطان ذلك بالوسواس.

وفي الآية حذف مجازه: أفمن زين له سوء عمله فرأى الباطل حقا كمن هداه الله فرأى الحق حقًا والباطل باطلا؟ ( فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ )

وقيل: جوابه تحت قوله ( فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ ) فيكون معناه: أفمن زين له سوء عمله فأضله الله ذهبت نفسك عليه حسرة, أي: تتحسر عليه فلا تذهب نفسك عليهم حسرات.

وقال الحسين بن الفضل: فيه تقديم وتأخير مجازه: أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فلا تذهب نفسك عليهم حسرات, فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء, والحسرة شدة الحزن على ما فات من الأمر, ومعنى الآية: لا تغتم بكفرهم وهلاكهم إن لم يؤمنوا.

وقرأ أبو جعفر: « فلا تذهب » بضم التاء وكسر الهاء « نفسك » نصب, ( إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ )

وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ ( 9 ) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ ( 10 )

( وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ ) من القبور. قوله عز وجل: ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا ) قال الفراء: معنى الآية من كان يريد أن يعلم لمن العزة فلله العزة جميعا.

وقال قتادة: من كان يريد العزة فليتعزز بطاعة الله معناه الدعاء إلى طاعة من له العزة, أي: فليطلب العزة من عند الله بطاعته, كما يقال: من كان يريد المال فالمال لفلان, أي: فليطلبه من عنده, وذلك أن الكفار عبدوا الأصنام وطلبوا به التعزيز كما قال الله: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا * كَلا ( مريم- 81 ) , وقال: الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا ( النساء- 139 ) .

( إِلَيْهِ ) أي: إلى الله, ( يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ ) وهو قوله لا إله إلا الله, وقيل: هو قول الرجل: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر.

أخبرنا عبد الواحد المليحي, أخبرنا أبو منصور السمعاني, أخبرنا أبو جعفر الرياني, أخبرنا حميد ابن زنجويه, أخبرنا الحجاج بن نصر, أخبرنا المسعودي عن عبد الله بن المحارق, عن أبيه, عن ابن مسعود قال: إذا حدثتكم حديثا أنبأتكم بمصداقه من كتاب الله عز وجل: ما من عبد مسلم يقول خمس كلمات: سبحان الله, والحمد لله, ولا إله إلا الله, والله أكبر, وتبارك الله, إلا أخذهن ملك فجعلهن تحت جناحه ثم صعد بهن فلا يمر بهن على جمع من الملائكة إلا استغفروا لقائلهن حتى يحيي بها وجه رب العالمين, ومصداقه من كتاب الله عز وجل قوله: ( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ ) ذكره ابن مسعود.

وقيل: « الكلم الطيب » : ذكر الله. وعن قتادة: « إليه يصعد الكلم الطيب » أي: يقبل الله الكلم الطيب.

قوله عز وجل: ( وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) أي: يرفع العمل الصالح الكلم الطيب, فالهاء في قوله يرفعه راجعة إلى الكلم الطيب, وهو قول ابن عباس, وسعيد بن جبير, والحسن, وعكرمة, وأكثر المفسرين.

وقال الحسن وقتادة: الكلم الطيب ذكر الله والعمل الصالح أداء فرائضه, فمن ذكر الله ولم يؤد فرائضه رد كلامه على عمله, وليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ولكن ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال, فمن قال حسنًا وعمل غير صالح رد الله عليه قوله, ومن قال حسنا وعمل صالحًا يرفعه العمل ذلك بأن الله يقول: ( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) وجاء في الحديث: « لا يقبل الله قولا إلا بعمل ولا قولا ولا عملا إلا بنية » .

وقال قوم: الهاء في قوله « يرفعه » راجعة إلى العمل الصالح [ أي: الكلم الطيب يرفع العمل الصالح ] , فلا يقبل عمل إلا أن يكون صادرًا عن التوحيد, وهذا معنى قول الكلبي ومقاتل.

وقيل: الرفع من صفة الله عز وجل معناه: العمل الصالح يرفعه الله عز وجل.

وقال سفيان بن عيينة: العمل الصالح هو الخالص, يعني أن الإخلاص سبب قبول الخيرات من الأقوال والأفعال, دليله قوله عز وجل: فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ( الكهف- 110 ) , فجعل نقيض الصالح الشرك والرياء, ( وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ ) قال الكلبي: أي: الذين يعملون السيئات. وقال مقاتل: يعني الشرك. وقال أبو العالية: يعني الذين مكروا برسول الله صلى الله عليه وسلم في دار الندوة, كما قال الله تعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ ( الأنفال- 30 ) .

وقال مجاهد: وشهر بن حوشب: هم أصحاب الرياء.

( لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ ) يبطل ويهلك في الآخرة.

وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ( 11 )

قوله عز وجل: ( وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ) أي: آدم, ( ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ) يعني: نسله, ( ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا ) ذكرانًا وإناثًا, ( وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ ) لا يطول عمره, ( وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ ) يعني: من عمر آخر, كما يقال لفلان عندي درهم ونصفه أي: نصف درهم آخر, ( إِلا فِي كِتَابٍ ) وقيل: قوله: « ولا ينقص من عمره » منصرف إلى الأول, قال سعيد بن جبير: مكتوب في أم الكتاب عمر فلان كذا وكذا سنة ثم يكتب أسفل من ذلك ذهب يوم ذهب يومان ذهب ثلاثة أيام حين ينقطع عمره.

وقال كعب الأحبار حين حضر عمر رضي الله عنه الوفاة: والله لو دعا عمر ربه أن يؤخر أجله لأخر, فقيل له إن الله عز وجل يقول: فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ( الأعراف- 34 ) فقال: هذا إذا حضر الأجل فأما قبل ذلك فيجوز أن يزاد وينقص, وقرأ هذه الآية ( إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ) أي: كتابة الآجال والأعمال على الله هين.

 

وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( 12 )

قوله عز وجل: ( وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ ) يعني: العذب والمالح, ثم ذكرهما فقال: ( هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ ) طيب, ( سَائِغٌ شَرَابُهُ ) أي: جائز في الحلق هنيء, ( وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ ) شديد الملوحة. وقال الضحاك: هو المر. ( وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا ) يعني: الحيتان من العذب والمالح جميعا, ( وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً ) أي: من المالح دون العذب ( تَلْبَسُونَهَا ) يعني اللؤلؤ. وقيل: نسب اللؤلؤ إليهما, لأنه يكون في البحر الأجاج عيون عذبة تمتزج بالملح فيكون اللؤلؤ من بين ذلك, ( وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ ) جواري مقبلة ومدبرة بريح واحدة, ( لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ) بالتجارة, ( وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) الله على نعمه.

يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ ( 13 ) إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ( 14 ) يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ( 15 ) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ( 16 ) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ ( 17 ) وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ( 18 )

( يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ) يعني: الأصنام, ( مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ ) وهو لفافة النواة, وهي القشرة الرقيقة التي تكون على النواة. ( إِنْ تَدْعُوهُمْ ) يعني: إن تدعو الأصنام, ( لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ ) ما أجابوكم, ( وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ ) يتبرؤون منكم ومن عبادتكم إياها, يقولون: ما كنتم إيانا تعبدون. ( وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ) يعني: نفسه أي: لا ينبئك أحد مثلي خبير عالم بالأشياء. ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ) إلى فضل الله والفقير المحتاج, ( وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ) الغني عن خلقه المحمود في إحسانه إليهم. ( إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ ) شديد. ( وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ ) أي: نفس مثقلة بذنوبها غيرها, ( إِلَى حِمْلِهَا ) أي: حمل ما عليه من الذنوب, ( لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ) أي: ولو كان المدعو ذا قرابة له ابنه أو أباه أو أمه أو أخاه. قال ابن عباس: يلقى الأب والأم ابنه فيقول: يا بني احمل عني بعض ذنوبي. فيقول: لا أستطيع حسبي ما علي.

( إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ ) يخافون, ( رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ ) ولم يروه. وقال الأخفش: تأويله أي: إنذارك إنما ينفع الذين يخشون ربهم بالغيب, ( وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى ) صلح وعمل خيرا, ( فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ ) لها ثوابه, ( وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ )

 

وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ ( 19 ) وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ ( 20 ) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ ( 21 ) وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ( 22 ) إِنْ أَنْتَ إِلا نَذِيرٌ ( 23 ) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ ( 24 ) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ( 25 ) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ( 26 )

( وَمَا يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ ) يعني: الجاهل والعالم. وقيل: الأعمى عن الهدى والبصير بالهدى, أي: المؤمن والمشرك. ( وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ ) يعني: الكفر والإيمان. ( وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ ) يعني: الجنة والنار, قال ابن عباس: « الحرور » : الريح الحارة بالليل, و « السموم » بالنهار. وقيل: « الحرور » يكون بالنهار مع الشمس. ( وَمَا يَسْتَوِي الأحْيَاءُ وَلا الأمْوَاتُ ) يعني: المؤمنين والكفار. وقيل: العلماء والجهال.

( إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ ) حتى يتعظ ويجيب, ( وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ) يعني: الكفار, شبههم بالأموات في القبور حين لم يجيبوا. ( إِنْ أَنْتَ إِلا نَذِيرٌ ) ما أنت إلا منذر تخوفهم بالنار. ( إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ ) ما من أمة فيما مضى ( إِلا خَلا ) سلف ( فِيهَا نَذِيرٌ ) نبي منذر. ( وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ) الواضح كرر ذلك الكتاب بعد ذكر الزبر على طريق التأكيد. ( ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ )

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ ( 27 ) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ( 28 )

( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنـزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ ) طرق وخطط, واحدتها جدة, مثل: مدة ومدد, ( بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ ) يعني: سود غرابيب على التقديم والتأخير, يقال: أسود غربيب, أي: شديد السواد تشبيها بلون الغراب, أي: طرائق سود. ( وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ ) ذكر الكناية لأجل « من » وقيل: رد الكناية إلى ما في الإضمار, مجازه: ومن الناس والدواب والأنعام ما هو مختلف ألوانه, ( كَذَلِكَ ) يعني كما اختلف ألوان الثمار والجبال, وتم الكلام هاهنا ثم ابتدأ فقال: ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ) قال ابن عباس: يريد إنما يخافني من خلقي من علم جبروتي وعزتي وسلطاني.

أخبرنا عبد الواحد المليحي, أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي, أخبرنا محمد بن يوسف, أخبرنا محمد بن إسماعيل, أخبرنا عمر بن حفص, أخبرنا الأعمش, أخبرنا مسلم, عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها: صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا فرخص فيه, فتنـزه عنه قوم, فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فخطب فحمد الله ثم قال: « ما بال أقوام يتنـزهون عن الشيء أصنعه فوالله إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية » .

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: « لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرًا » .

وقال مسروق: كفى بخشية الله علمًا وكفى بالاغترار بالله جهلا. وقال رجل للشعبي: أفتني أيها العالم, فقال الشعبي: إنما العالم من خشي الله عز وجل.

( إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ) أي: عزيز في ملكه غفور لذنوب عباده.

إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ ( 29 ) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ( 30 )

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ ) يعني: قرأوا القرآن, ( وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ ) لن تفسد ولن تهلك, والمراد من التجارة ما وعد الله من الثواب.

قال الفراء: قوله: « يرجون » جواب لقوله: « إن الذين يتلون كتاب الله » . ( لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ ) جزاء أعمالهم بالثواب, ( وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ) قال ابن عباس: يعني سوى الثواب مما لم تر عين ولم تسمع أذن, ( إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ) قال ابن عباس: يغفر العظيم من ذنوبهم ويشكر اليسير من أعمالهم.

 

وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ ( 31 ) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ( 32 )

( وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ ) يعني: القرآن, و ( هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ) من الكتب, ( إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ ) ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ ) يعني: الكتاب الذي أنـزلناه إليك الذي ذكر في الآية الأولى, وهو القرآن, جعلناه ينتهي إلى, ( الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا )

ويجوز أن يكون « ثم » بمعنى الواو, أي: وأورثنا, كقوله: ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا ( البلد- 17 ) , أي: وكان من الذين آمنوا, ومعنى « أورثنا » أعطينا, لأن الميراث عطاء, قاله مجاهد.

وقيل: « أورثنا » أي: أخرنا, ومنه الميراث لأنه أخر عن الميت, ومعناه: أخرنا القرآن عن الأمم السالفة وأعطيناكموه, وأهلناكم له.

( الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ) قال ابن عباس: يريد أمة محمد صلى الله عليه وسلم, ثم قسمهم ورتبهم فقال:

( فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ ) روي عن أسامة بن زيد في قوله عز وجل: « فمنهم ظالم لنفسه » الآية, قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: « كلهم من هذه الأمة » .

أخبرنا أبو سعيد الشريحي, أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي, أخبرني الحسين بن محمد بن فنجويه, أخبرنا محمد بن علي بن الحسين القاضي, أخبرنا بكر بن محمد المروزي, أخبرنا أبو قلابة, حدثنا عمرو بن الحصين, عن الفضل بن عميرة, عن ميمون الكردي, عن أبي عثمان النهدي قال: سمعت عمر بن الخطاب قرأ على المنبر: ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ) الآية, فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « سابقنا سابق, ومقتصدنا ناج, وظالمنا مغفور له » , قال أبو قلابة فحدثت به يحيى بن معين فجعل يتعجب منه.

واختلف المفسرون في معنى الظالم والمقتصد والسابق.

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي, أخبرنا أبو سعيد محمد بن عيسى الصيرفي, أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الصفار, حدثنا أحمد بن محمد بن عيسى البرتي, حدثنا محمد بن كثير, أخبرنا سفيان, عن الأعمش, عن رجل, عن أبي ثابت أن رجلا دخل المسجد فقال: اللهم ارحم غربتي, وآنس وحشتي, وسق إلي جليسا صالحا, فقال أبو الدرداء: لئن كنت صادقا لأنا أسعد بك منك, سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية: « ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات » فقال: « أما السابق بالخيرات فيدخل الجنة بغير حساب, وأما المقتصد فيحاسب حسابا يسيرا, وأما الظالم لنفسه فيحبس في المقام حتى يدخله الهم, ثم يدخل الجنة » , ثم قرأ هذه الآية: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ .

وقال عقبة بن صهبان سألت عائشة عن قول الله عز وجل: ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ) الآية, فقالت: يا بني كلهم في الجنة, أما السابق بالخيرات فمن مضى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة, وأما المقتصد فمن اتبع أثره من أصحابه حتى لحق به, وأما الظالم لنفسه فمثلي ومثلكم, فجعلت نفسها معنا.

وقال مجاهد, والحسن, وقتادة: فمنهم ظالم لنفسه وهم أصحاب المشئمة, ومنهم مقتصد وهم أصحاب الميمنة, ومنهم سابق بالخيرات [ بإذن الله ] هم السابقون المقربون من الناس كلهم.

وعن ابن عباس قال: السابق: المؤمن المخلص, والمقتصد: المرائي, والظالم: الكافر نعمة الله غير الجاحد لها, لأنه حكم للثلاثة بدخول الجنة فقال: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا .

وقال بعضهم: يذكر ذلك عن الحسن, قال: السابق من رجحت حسناته على سيئاته, والمقتصد من استوت حسناته وسيئاته, والظالم من رجحت سيئاته على حسناته.

وقيل: الظالم من كان ظاهره خيرًا من باطنه, والمقتصد الذي يستوي ظاهره وباطنه, والسابق الذي باطنه خير من ظاهره.

وقيل: الظالم من وحد الله بلسانه ولم يوافق فعله قوله, والمقتصد من وحد الله بلسانه وأطاعه بجوارحه, والسابق من وحد الله بلسانه وأطاعه بجوارحه وأخلص له عمله.

وقيل: الظالم التالي للقرآن, والمقتصد القارئ له العالم به, والسابق القارئ له العالم به العامل بما فيه.

وقيل: الظالم أصحاب الكبائر والمقتصد أصحاب الصغائر, والسابق الذي لم يرتكب كبيرة ولا صغيرة.

وقال سهل بن عبد الله: السابق العالم, والمقتصد المتعلم, والظالم الجاهل.

قال جعفر الصادق: بدأ بالظالمين إخبارا بأنه لا يتقرب إليه إلا بكرمه, وأن الظلم لا يؤثر في الاصطفاء, ثم ثنى بالمقتصدين لأنهم بين الخوف والرجاء, ثم ختم بالسابقين لئلا يأمن أحد مكره, وكلهم في الجنة.

وقال أبو بكر الوراق: رتبهم هذا الترتيب على مقامات الناس, لأن أحوال العبد ثلاثة: معصية وغفلة ثم توبة ثم قربة, فإذا عصى دخل في حيز الظالمين, وإذا تاب دخل في جملة المقتصدين, وإذا صحت التوبة وكثرت العبادة والمجاهدة دخل في عداد السابقين.

وقال بعضهم: المراد بالظالم الكافر ذكره الكلبي.

وقيل: المراد منه المنافق, فعلى هذا لا يدخل الظالم في قوله: جنات عدن يدخلونها .

وحمل هذا القائل الاصطفاء على الاصطفاء في الخلقة وإرسال الرسول إليهم وإنـزال الكتاب والأول هو المشهور أن المراد من جميعهم المؤمنون, وعليه عامة أهل العلم.

قوله: ( وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ ) أي: سابق إلى الجنة, أو إلى رحمة الله بالخيرات, أي: بالأعمال الصالحات, ( بِإِذْنِ اللَّهِ ) أي: أمر الله وإرادته, ( ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ) يعني: إيراثهم الكتاب.

جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ( 33 ) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ( 34 )

ثم أخبر بثوابهم فقال: ( جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا ) يعني: الأصناف الثلاثة, قرأ أبو عمرو « يدخلونها » بضم الياء وفتح الخاء, وقرأ الآخرون بفتح الياء وضم الخاء, ( يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ) ( وَقَالُوا ) أي: ويقولون إذا دخلوا الجنة: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ) والحزن واحد كالبخل والبخل. قال ابن عباس: حزن النار. وقال قتادة: حزن الموت. وقال مقاتل: حزنوا لأنهم كانوا لا يدرون ما يصنع الله بهم. وقال عكرمة: حزن الذنوب والسيئات وخوف رد الطاعات. وقال القاسم: حزن زوال النعم وتقليب القلب, وخوف العاقبة, وقيل: حزن أهوال يوم القيامة. وقال الكلبي: ما كان يحزنهم في الدنيا من أمر يوم القيامة. وقال سعيد بن جبير: هم الخبز في الدنيا. وقيل: هم المعيشة. وقال الزجاج: أذهب الله عن أهل الجنة كل الأحزان ما كان منها لمعاش أو لمعاد.

أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد بن الضحاك الخطيب, حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الإسفرايني, أخبرنا أبو بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي, أخبرنا أبو العباس أحمد بن محمد الترابي, حدثنا يحيى بن عبد الحميد, حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة في قبورهم ولا في منشرهم, وكأني بأهل لا إله إلا الله ينفضون التراب عن رؤوسهم, ويقولون الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن » .

قوله تعالى: ( إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ )

الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ ( 35 ) وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ ( 36 ) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ ( 37 )

( الَّذِي أَحَلَّنَا ) أنـزلنا, ( دَارَ الْمُقَامَةِ ) أي: الإقامة, ( مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ ) أي: لا يصيبنا فيها عناء ومشقة, ( وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ ) إعياء من التعب. قوله تعالى: ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا ) أي: لا يهلكون فيستريحوا كقوله عز وجل: فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ ( القصص - 15 ) , أي: قتله. وقيل: لا يقضي عليهم الموت فيموتوا, كقوله: وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ ( الزخرف- 77 ) , أي: ليقض علينا الموت فنستريح, ( وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا ) من عذاب النار, ( كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ ) كافر, قرأ أبو عمرو: « يجزي » بالياء وضمها وفتح الزاي, « كل » رفع على غير تسمية الفاعل, وقرأ الآخرون بالنون وفتحها وكسر الزاي, « كل » نصب. ( وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ ) يستغيثون ويصيحون, ( فِيهَا ) وهو: يفتعلون, من الصراخ, وهو الصياح, يقولون: ( رَبَّنَا أَخْرِجْنَا ) منها من النار, ( نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ) في الدنيا من الشرك والسيئات, فيقول الله لهم توبيخا: ( أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ ) قيل: هو البلوغ. وقال عطاء وقتادة والكلبي: ثمان عشرة سنة. وقال الحسن: أربعون سنة. وقال ابن عباس: ستون سنة, يروي ذلك عن علي, وهو العمر الذي أعذر الله تعالى إلى ابن آدم.

أخبرنا عبد الواحد المليحي, أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي, أخبرنا محمد بن يوسف, أخبرنا محمد بن إسماعيل, أخبرنا عبد السلام بن مطهر, حدثنا عمر بن علي, عن معن بن محمد الغفاري, عن سعيد بن أبي سعيد المقبري, عن أبي هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « أعذر الله تعالى إلى امرئ أخر أجله حتى بلغه ستين سنة » .

أخبرنا أبو سعيد الشريحي, أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي, أخبرنا الحسين بن محمد بن فنجويه, حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان, حدثنا إبراهيم بن سهاويه, حدثنا الحسن بن عرفة, أخبرنا المحاربي عن محمد بن عمرو, عن أبي سلمة, عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين, وأقلهم من يجوز ذلك » .

( وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ ) يعني: محمدا صلى الله عليه وسلم, هذا قول أكثر المفسرين. وقيل: القرآن. وقال عكرمة, وسفيان بن عيينة, ووكيع: هو الشيب. معناه أو لم نعمركم حتى شبتم. ويقال: الشيب نذير الموت. وفي الأثر: ما من شعرة تبيض إلا قالت لأختها: استعدي فقد قرب الموت.

( فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ )

إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ( 38 )

( إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ )

 

هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلا مَقْتًا وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلا خَسَارًا ( 39 )

( هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأرْضِ ) أي: يخلف بعضكم بعضا, وقيل: جعلكم أمة خلفت من قبلها. ورأت فيمن قبلها, ما ينبغي أن تعتبر به. ( فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ ) أي: عليه وبال كفره ( وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلا مَقْتًا ) غضبا ( وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلا خَسَارًا )

قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلا غُرُورًا ( 40 ) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ( 41 ) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلا نُفُورًا ( 42 )

( قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ) أي: جعلتموهم شركائي بزعمكم يعني: الأصنام, ( أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا ) قال مقاتل: هل أعطينا كفار مكة كتابا, ( فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ ) قرأ ابن كثير, وأبو عمرو, وحمزة, وحفص: « بينة » على التوحيد, وقرأ الآخرون: « بينات » على الجمع, يعني دلائل واضحة منه مما في ذلك الكتاب من ضروب البيان.

( بَلْ إِنْ يَعِدُ ) أي: ما يعد, ( الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلا غُرُورًا ) والغرور ما يغر الإنسان مما لا أصل له, قال مقاتل: يعني ما يعد الشيطان كفار بني آدم من شفاعة الآلهة لهم في الآخرة غرور وباطل. قوله تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ أَنْ تَزُولا ) أي: كيلا تزولا ( وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ ) أي: ما يمسكهما أحد من بعده, أي: أحد سواه, ( إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ) فإن قيل: فما معنى ذكر الحلم هاهنا؟ قيل: لأن السموات والأرض همت بما همت به من عقوبة الكفار فأمسكهما الله تعالى عن الزوال بحلمه وغفرانه أن يعالجهم بالعقوبة. ( وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ ) يعني: كفار مكة لما بلغهم أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم قالوا: لعن الله اليهود والنصارى أتتهم الرسل فكذبوهم, وأقسموا بالله وقالوا لو أتانا رسول لنكونن أهدى دينا منهم, وذلك قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم, فلما بعث محمد كذبوه, فأنـزل الله عز وجل: ( وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ ) رسول, ( لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأمَمِ ) يعني: من اليهود والنصارى, ( فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ ) محمد صلى الله عليه وسلم, ( مَا زَادَهُمْ إِلا نُفُورًا ) أي: ما زادهم مجيئه إلا تباعدا عن الهدى.

اسْتِكْبَارًا فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلا ( 43 ) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا ( 44 )

( اسْتِكْبَارًا فِي الأرْضِ ) نصب « استكبارا » على البدل من النفور, ( وَمَكْرَ السَّيِّئِ ) يعني: العمل القبيح, أضيف المكر إلى صفته, قال الكلبي: هو اجتماعهم على الشرك وقتل النبي صلى الله عليه وسلم, وقرأ حمزة: « مكر السيئ » ساكنة الهمزة تخفيفا, وهي قراءة الأعمش, ( وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ ) أي: لا يحل ولا يحيط المكر السيئ, ( إِلا بِأَهْلِهِ ) فقتلوا يوم بدر, وقال ابن عباس: عاقبة الشرك لا تحل إلا بمن أشرك. والمعنى: وبال مكرهم راجع إليهم, ( فَهَلْ يَنْظُرُونَ ) ينتظرون, ( إِلا سُنَّةَ الأوَّلِينَ ) إلا أن ينـزل بهم العذاب كما نـزل بمن مضى من الكفار, ( فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلا ) ( أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ ) يعني: ليفوت عنه, ( مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا )

 

وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا ( 45 )

( وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا ) من الجرائم, ( مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا ) يعني: على ظهر الأرض, كناية عن غير مذكور, ( مِنْ دَابَّةٍ ) كما كان في زمان نوح أهلك الله ما على ظهر الأرض إلا من كان في سفينة نوح, ( وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا ) قال ابن عباس رضي الله عنهما: يريد أهل طاعته وأهل معصيته.

 

أعلى