تفسير البغوي

52 - تفسير البغوي سورة الطور

التالي السابق

سورة الطور

مكية

بسم الله الرحمن الرحيم

وَالطُّورِ ( 1 ) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ ( 2 ) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ ( 3 ) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ ( 4 ) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ ( 5 )

( وَالطُّورِ ) أراد به الجبل الذي كلم الله تعالى عليه موسى عليه السلام بالأرض المقدسة, أقسم الله تعالى به .

( وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ ) مكتوب.

( فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ ) « والرق » : ما يكتب فيه, وهو أديم الصحف, و « المنشور » : المبسوط, واختلفوا في هذا الكتاب, قال الكلبي: هو ما كتب الله بيده لموسى من التوراة وموسى يسمع صرير القلم.

وقيل: هو اللوح المحفوظ. وقيل: دواوين الحفظة تخرج إليهم يوم القيامة منشورة, فآخذ بيمينه وآخذ بشماله. دليله قوله عز وجل: وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا , ( الإسراء- 13 ) .

( وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ ) بكثرة الغاشية والأهل, وهو بيت في السماء حذاء العرش بحيال الكعبة يقال له: الضُّرَاح, حرمته في السماء كحرمة الكعبة في الأرض, يدخله كل يوم سبعون ألفًا من الملائكة يطوفون به ويصلون فيه ثم لا يعودون إليه أبدًا .

( وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ ) يعني: السماء, نظيره قوله عز وجل: وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا . ( الأنبياء- 32 ) .

وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ ( 6 ) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ ( 7 ) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ ( 8 )

( وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ ) قال محمد بن كعب القرظي والضحاك: يعني الموقد المحمى بمنـزلة التنور المسجور, وهو قول ابن عباس, وذلك ما روي أن الله تعالى يجعل البحار كلها يوم القيامة نارا فيزاد بها في نار جهنم, كما قال الله تعالى: وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ , ( التكوير- 6 ) وجاء في الحديث عن عبدالله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا يركبن رجل بحرًا إلا غازيًا أو معتمرًا أو حاجًا, فإن تحت البحر نارًا وتحت النار بحرًا » .

وقال مجاهد والكلبي: « المسجور » : المملوء, يقال: سجرت الإناء إذا ملأته.

وقال الحسن, وقتادة, وأبو العالية: هو اليابس الذي قد ذهب ماؤه ونضب

وقال الربيع بن أنس: المختلط العذب بالمالح.

وروى الضحاك عن النـزال بن سبرة عن عليّ أنه قال في البحر المسجور: هو بحر تحت العرش, غمره كما بين سبع سماوات إلى سبع أرضين, فيه ماء غليظ يقال له: بحر الحيوان. يمطر العباد بعد النفخة الأولى منه أربعين صباحًا فينبتون في قبورهم . هذا قول مقاتل: أقسم الله بهذه الأشياء . ( إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ ) نازل كائن.

( مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ ) مانع قال جبير بن مطعم: قدمت المدينة لأكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسارى بدر فدفعت إليه وهو يصلي بأصحابه المغرب, وصوته يخرج من المسجد فسمعته يقرأ وَالطُّورِ إلى قوله « إن عذاب ربك لواقع ماله من دافع » , فكأنما صدع قلبي حين سمعته, ولم يكن أسلم يومئذ, قال: فأسلمت خوفًا من نـزول العذاب, وما كنت أظن أني أقوم من مكاني حتى يقع بي العذاب .

يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا ( 9 ) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا ( 10 ) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ( 11 ) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ ( 12 ) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا ( 13 ) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ ( 14 )

( يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا ) أي: تدور كدوران الرحى وتتكفأ بأهلها تكفؤَ السفينة. قال قتادة: تتحرك. قال عطاء الخراساني: تختلف أجزاؤها بعضها في بعض. وقيل: تضطرب, و « المور » يجمع هذه المعاني, فهو في اللغة: الذهاب والمجيء والتردد والدوران والاضطراب.

( وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا ) فتزول عن أماكنها وتصير هباءً منثورًا .

( فَوَيْل ) فشدة عذاب, ( يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ ) يخوضون في الباطل يلعبون غافلين لاهين.

( يَوْمَ يُدَعُّونَ ) يدفعون, ( إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا ) دفعًا بعنف وجفوة, وذلك أن خزنة جهنم يغلون أيديهم إلى أعناقهم, ويجمعون نواصيهم إلى أقدامهم, ثم يدفعون بهم إلى النار دفعًا على وجوههم, وزجًّا في أقفيتهم حتى يَرِدُوا النار, فإذا دنوا منها قال لهم خزنتها:

( هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ ) في الدنيا.

 

أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ ( 15 ) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( 16 ) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ ( 17 ) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ( 18 )

ثم بَيَّنَ أنه متى يقع فقال:

( أَفَسِحْرٌ هَذَا ) وذلك أنهم كانوا ينسبون محمدًا صلى الله عليه وسلم إلى السحر, وإلى أنه يغطي على الأبصار بالسحر, فَوُبِّخوا به, وقيل لهم: ( أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ ) .

( اصْلَوْهَا ) قاسوا شدتها, ( فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ ) الصبر والجزع, ( إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) .

( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ فَاكِهِينَ ) معجبين بذلك ناعمين ( بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ) ويقال لهم:

كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( 19 ) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ ( 20 ) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ ( 21 )

( كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا ) مأمون العاقبة من التخمة والسقم, ( بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) .

( مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ ) موضوعة بعضها إلى جنب بعض, ( وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ ) .

( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ ) قرأ أبو عمرو: « وأتبعناهم » , بقطع الألف على التعظيم, « ذرياتهم » , بالألف وكسر التاء فيهما لقوله: « ألحقنا بهم » « وما ألتناهم » , ليكون الكلام على نسق واحد.

وقرأ الآخرون: « واتبعتهم » بوصل الألف وتشديد التاء بعدها وسكون التاء الأخيرة.

ثم اختلفوا في « ذريتهم » : قرأ أهل المدينة الأولى بغير ألف وضم التاء, والثانية بالألف وكسر التاء, وقرأ أهل الشام ويعقوب كلاهما بالألف وكسر التاء في الثانية, وقرأ الآخرون بغير ألف فيهما ورفع التاء في الأولى ونصبها في الثانية.

واختلفوا في معنى الآية, فقال قوم: معناها والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان, يعني: أولادهم الصغار والكبار, فالكبار بإيمانهم بأنفسهم, والصغار بإيمان آبائهم, فإن الولد الصغير يحكم بإسلامه تبعًا لأحد الأبوين ( أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ) المؤمنين [ في الجنة بدرجاتهم وإن لم يبلغوا بأعمالهم درجات آبائهم ] تكرمة لآبائهم لتقرَّ بذلك أعينهم. وهي رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهم.

وقال آخرون: معناه والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم البالغون بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم الصغار الذين لم يبلغوا الإيمان بإيمان آبائهم. وهو قول الضحاك, ورواية العوفي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما, أخبر الله عز وجل أنه يجمع لعبده المؤمن ذريته في الجنة كما كان يحب في الدنيا أن يجتمعوا إليه, يدخلهم الجنة بفضله ويلحقهم بدرجته بعمل أبيه, من غير أن ينقص الآباء من أعمالهم شيئًا, فذلك قوله: ( وَمَا أَلَتْنَاهُمْ ) قرأ ابن كثير بكسر اللام, والباقون بفتحها أي ما نقصناهم يعني الآباء ( مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ) .

أخبرنا أبو سعيد أحمد بن إبراهيم الشريحي, أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي, أخبرني الحسين بن محمد بن عبدالله الحديثي, حدثنا سعيد بن محمد بن إسحاق الصيرفي, حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جبارة بن المغلس، حدثنا قيس بن الربيع، حدثنا عمرو بن مرة, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الله يرفع ذرية المؤمن في درجته وإن كانوا دونه في العمل, لتقرَّ بهم عينه » , ثم قرأ: « والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم » , إلى آخر الآية .

أخبرنا أبو سعيد الشريحي, أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي, أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه الدينوري, حدثنا أبو بكر بن مالك القطيعي، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل, حدثني عثمان ابن أبي شيبة, حدثنا محمد بن فضيل عن محمد بن عثمان عن زاذان عن عليّ رضي الله عنه قال: سألتْ خديجة رضي الله تعالى عنها النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن ولدين ماتا لها في الجاهلية, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « هما في النار » , فلما رأى الكراهة في وجهها, قال: « لو رأيتِ مكانهما لأبغضتهما » , قالت: يا رسول الله فولدي منك؟ قال: « في الجنة » ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن المؤمنين وأولادهم في الجنة, وإن المشركين وأولادهم في النار » , ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم « والذين آمنوا واتَّبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم » .

( كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ ) قال مقاتل: كل امرئ كافر بما عمل من الشرك مرتهن في النار, والمؤمن لا يكون مرتهنًا, لقوله عز وجل: « كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلا أَصْحَابَ الْيَمِينِ , ثم ذكر ما يزيدهم من الخير والنعمة فقال: »

وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ ( 22 ) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ ( 23 ) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ ( 24 ) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ( 25 ) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ ( 26 )

( وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ ) زيادة على ما كان لهم, ( وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ ) من أنواع اللحمان .

( يَتَنَازَعُون ) يتعاطون ويتناولون, ( فِيهَا كَأْسًا لا لَغْوٌ فِيهَا ) وهو الباطل, وروي ذلك عن قتادة, وقال مقاتل بن حيان: لا فضول فيها. وقال سعيد بن المسيب: لا رفث فيها. وقال ابن زيد: لا سباب ولا تخاصم فيها. وقال القتيـبي: لا تذهب عقولهم فيلغوا ويرفثوا, ( وَلا تَأْثِيمٌ ) أي لا يكون منهم ما يؤثمهم. قال الزجاج: لا يجري بينهم ما يلغي ولا ما فيه إثم كما يجري في الدنيا لشربة الخمر. وقيل: لا يأثمون في شربها.

( وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ ) بالخدمة, ( غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ ) في الحسن والبياض والصفاء, ( لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ ) مخزون مصون لم تمسه الأيدي. قال سعيد بن جبير: يعني في الصدف.

قال عبدالله بن عمر: وما من أحد من أهل الجنة إلا يسعى عليه ألف غلام, وكل غلام على عمل ما عليه صاحبه .

وروي عن الحسن أنه لما تلا هذه الآية قال: قالوا يا رسول الله: الخادم كاللؤلؤ المكنون, فكيف المخدوم؟ .

وعن قتادة أيضًا قال: ذكر لنا أن رجلا قال: يا نبي الله هذا الخادم فكيف المخدوم؟ قال: « فضل المخدوم على الخادم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب » .

( وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ) يسأل بعضهم بعضًا في الجنة. قال ابن عباس: يتذاكرون ما كانوا فيه من التعب والخوف في الدنيا .

( قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا ) في الدنيا ( مُشْفِقِينَ ) خائفين من العذاب .

فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ ( 27 ) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ ( 28 ) فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ ( 29 ) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ( 30 ) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ ( 31 )

( فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا ) بالمغفرة, ( وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ ) قال الكلبي: عذاب النار. وقال الحسن: « السموم » اسم من أسماء جهنم .

( إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ ) في الدنيا, ( نَدْعُوهُ ) نخلص له العبادة, ( إِنَّه ) قرأ أهل المدينة [ والكسائي ] « أنه » بفتح الألف, أي: لأنه أو بأنه, وقرأ الآخرون بالكسر على الاستئناف, ( هُوَ الْبَرُّ ) قال ابن عباس: اللطيف. وقال الضحاك: الصادق فيما وعد ( الرَّحِيمُ ) .

( فَذَكِّرْ ) يا محمد بالقرآن أهل مكة, ( فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ ) برحمته وعصمته, ( بِكَاهِنٍ ) تبتدع القول وتخبر بما في غد من غير وحي, ( وَلا مَجْنُونٍ ) نـزلت في الذين اقتسموا عِقَابَ مكة يرمون رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكهانة والسحر والجنون والشعر .

( أَمْ يَقُولُونَ ) بل يقولون, يعني: هؤلاء المقتسمين الخراصين, ( شَاعِرٌ ) أي: هو شاعر, ( نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ) حوادث الدهر وصروفه فيموت ويهلك كما هلك من قبله من الشعراء, ويتفرق أصحابه وإن أباه مات شابًا ونحن نرجو أن يكون موته كموت أبيه, و « المنون » يكون بمعنى الدهر, ويكون بمعنى الموت, سُمِّيَا بذلك لأنهما يقطعان الأجل .

( قُلْ تَرَبَّصُوا ) انتظروا بي الموت, ( فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ ) [ من المنتظرين ] حتى يأتي أمر الله فيكم, فعُذِّبوا يوم بدر بالسيف .

 

أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ( 32 )

( أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ ) عقولهم, ( بِهَذَا ) وذلك أن عظماء قريش كانوا يُوصَفُون بالأحلام والعقول, فأزرى الله بعقولهم حين لم تتميز لهم معرفة الحق من الباطل, ( أَمْ هُمْ ) بل هم ( قَوْمٌ طَاغُونَ ) .

أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ ( 33 ) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ ( 34 ) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ( 35 ) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ ( 36 ) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ ( 37 )

( أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ ) أي: يخلق القرآن من تلقاء نفسه, « والتقول » , تكلف القول, ولا يستعمل إلا في الكذب, ليس الأمر كما زعموا, ( بَلْ لا يُؤْمِنُونَ ) بالقرآن استكبارًا. ثم ألزمهم الحجة فقال: ( فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ ) ,أي: مثل القرآن ونظمه وحسن بيانه, ( إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ ) أن محمدًا يقوله من قِبَل نفسه .

( أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ ) قال ابن عباس: من غير رَبٍّ, ومعناه: أَخُلقوا من غير شيء خلقهم فوجدوا بلا خالق؟ وذلك مما لا يجوز أن يكون, لأن تعلق الخلق بالخالق من ضرورة الاسم, فإن أنكروا الخالق لم يجز أن يوجدوا بلا خالق, ( أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ) لأنفسهم وذلك في البطلان أشد, لأن ما لا وجود له كيف يخلق؟

فإذا بطل الوجهان قامت الحجة عليهم بأن لهم خالقًا فليؤمنوا به, ذكر هذا المعنى أبو سليمان الخطابي.

وقال الزجَّاج: معناه: أخلقوا باطلا لا يحاسبون ولا يؤمرون؟ وقال ابن كيسان: أخلقوا عبثًا وتركوا سدى لا يؤمرون ولا ينهون, فهو كقول القائل: فعلت كذا وكذا من غير شيء أي: لغير شيء, أم هم الخالقون لأنفسهم فلا يجب عليهم لله أمر؟

( أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأرْض ) فيكونوا هم الخالقين, ليس الأمر كذلك, ( بَل لا يُوقِنُونَ ) .

( أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ ) قال عكرمة: يعني النبوة. قال مقاتل: أبأيديهم مفاتيح ربك بالرسالة فيضعونها حيث شاؤوا؟ قال الكلبي: خزائن المطر والرزق, ( أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ ) المسلطون الجبارون, قال عطاء: أرباب قاهرون فلا يكونوا تحت أمر ونهي, يفعلون ما شاؤوا. ويجوز بالسين والصاد جميعًا, قرأ ابن عامر بالسين هاهنا وقوله: « بمسيطر » , وقرأ حمزة بإشمام الزاي فيهما, وقرأ ابن كثير هاهنا بالسين و « بمصيطر » بالصاد, وقرأ الآخرون بالصاد فيهما.

أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ( 38 ) أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ ( 39 ) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ ( 40 ) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ ( 41 ) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ ( 42 )

( أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ ) مرقًى ومصعد إلى السماء, ( يَسْتَمِعُونَ فِيهِ ) أي يستمعون عليه الوحي, كقوله: وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ ( طه- 71 ) أي: عليها, معناه: ألهم سُلَّمٌ يرتقون به إلى السماء, فيستمعون الوحي ويعلمون أن ما هم عليه حق بالوحي, فهم مستمسكون به كذلك؟ ( فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ ) إن ادعوا ذلك, ( بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ) حجة بينة.

( أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ ) هذا إنكار عليهم حين جعلوا لله ما يكرهون, كقوله: فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ ( الصافات- 149 ) .

( أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا ) جُعْلا على ما جئتهم به ودعوتهم إليه من الدين, ( فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ ) أثقلهم ذلك المغرم الذي تسألهم, فمنعهم من ذلك عن الإسلام.

( أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ ) أي: علم ما غاب عنهم, حتى علموا أن ما يخبرهم الرسول من أمر القيامة والبعث باطل.

وقال قتادة: هذا جواب لقولهم: نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ , يقول: أعندهم علم الغيب حتى علموا أن محمدًا صلى الله عليه وسلم يموت قبلهم؟ ( فَهُمْ يَكْتُبُونَ ) أي: يحكمون, والكتاب: الحكم, قال النبي صلى الله عليه وسلم للرجلين اللذين تخاصما إليه: « أقضي بينكما بكتاب الله » أي بحكم الله.

وقال ابن عباس: معناه أم عندهم اللوح المحفوظ فهم يكتبون ما فيه ويخبرون الناس به؟

( أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا ) مكرًا بك ليهلكوك؟ ( فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ ) أي: هم المجزيون بكيدهم, يريد أن ضرر ذلك يعود عليهم, ويحيق مكرهم بهم, وذلك أنهم مكروا به في دار الندوة فقتلوا ببدر.

أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ( 43 ) وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ ( 44 ) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ ( 45 ) يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ( 46 ) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ( 47 ) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ ( 48 )

( أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ ) يرزقهم وينصرهم؟ ( سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) قال الخليل: ما في هذه السورة من ذكر « أم » كله استفهام وليس بعطف.

( وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا ) قطعة, ( مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا ) هذا جواب لقولهم: فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ , يقول: لو عذبناهم بسقوط بعض من السماء عليهم لم ينتهوا عن كفرهم, ( يَقُولُوا ) - لمعاندتهم- هذا, ( سَحَابٌ مَرْكُومٌ ) بعضه على بعض يسقينا.

( فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا ) يعاينوا, ( يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ ) أي: يموتون, حتى يعاينوا الموت, قرأ ابن عامر وعاصم يصعقون بضم الياء, أي: يهلكون.

( يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ) أي: لا ينفعهم كيدهم يوم الموت ولا يمنعهم من العذاب مانع.

( وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ) [ كفروا ] ( عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ ) أي: عذابًا في الدنيا قبل عذاب الآخرة. قال ابن عباس: يعني القتل يوم بدر, وقال الضحاك: هو الجوع والقحط سبع سنين. وقال البراء بن عازب: هو عذاب القبر. ( وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) أن العذاب نازل بهم.

( وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ ) إلى أن يقع بهم العذاب الذي حكمنا عليهم, ( فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ) أي بمرأىً مِنَّا, قال ابن عباس: نرى ما يُعْمَلُ بك. وقال الزجَّاج: إنك بحيث نراك ونحفظك فلا يصلون إلى مكروهك. ( وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ ) قال سعيد بن جبير وعطاء: أي: قل حين تقوم من مجلسك: سبحانك اللهم وبحمدك, فإن كان المجلس خيرًا ازددت فيه إحسانًا, وإن كان غير ذلك كان كفارة له .

أخبرنا أبو عبد الله عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد القفال, أخبرنا أبو منصور أحمد بن الفضل البَرْوَنْجِرْدي, أخبرنا أبو أحمد بكر بن محمد الصيرفي, حدثنا أحمد بن عبدالله القرشي, حدثنا حجاج بن محمد عن ابن جريج, عن موسى بن عقبة, عن سهيل بن أبي صالح, عن أبيه, عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من جلس مجلسًا وكثر فيه لَغَطُهُ, فقال قبل أن يقوم: سبحانك اللهم وبحمدك, أشهد أن لا إله إلا أنت, أستغفرك وأتوب إليك, إلا كان كفارة لما بينهما » .

وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: معناه صَلِّ لله حين تقوم من مقامك .

وقال الضحاك والربيع: إذا قمت إلى الصلاة فقل: « سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك » .

أخبرنا أبو عثمان الضبي, أخبرنا أبو محمد الجراحي, حدثنا أبو العباس المحبوبي, حدثنا أبو عيسى الترمذي, حدثنا الحسن بن عرفة ويحيى بن موسى قال: حدثنا أبو معاوية عن حارثة بن أبي الرجال, عن عمرة عن عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا افتتح الصلاة قال: « سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك » .

وقال الكلبي: هو ذكر الله باللسان حين تقوم من الفراش إلى أن تدخل في الصلاة.

أخبرنا أبو طاهر عمر بن عبد العزيز القاشاني, أخبرنا أبو عمر القاسم بن جعفر بن عبد الواحد الهاشمي, أخبرنا أبو علي محمد بن أحمد بن عمر اللؤلؤي, حدثنا أبو داود سليمان بن الأشعث, حدثنا محمد بن نافع، حدثنا زيد بن حباب, أخبرني معاوية بن صالح, أخبرنا أزهر بن سعيد الحرازي عن عاصم بن حميد قال: سألت عائشة رضي الله تعالى عنها بأي شيء كان يفتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم قيام الليل؟ فقالت: كان إذا قام كَبَّرَ الله عشرًا, وحمد الله عشرا, وسبح الله عشرًا, وهلل عشرًا, واستغفر عشرًا, وقال: اللهم اغفر لي واهدني وارزقني وعافني, ويتعوذ من ضيق المقام يوم القيامة « . »

وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ ( 49 )

( وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ ) أي: صلِّ له, قال مقاتل: يعني صلاة المغرب والعشاء. ( وَإِدْبَارَ النُّجُومِ ) يعني الركعتين قبل صلاة الفجر, وذلك حين تدبر النجوم أي تغيب بضوء الصبح, هذا قول أكثر المفسرين. وقال الضحاك: هو فريضة صلاة الصبح.

أخبرنا أبو الحسن السرخسي, أخبرنا زاهر بن أحمد, أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي, أخبرنا أبو مصعب, عن مالك, عن ابن شهاب, عن محمد بن جبير بن مطعم, عن أبيه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في المغرب بالطور .

 

 

أعلى