سورة الأعراف
المص ( 1 )
كِتَابٌ أُنْـزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ
بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ( 2 ) اتَّبِعُوا
مَا أُنْـزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ
أَوْلِيَاءَ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ ( 3 )
وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ
قَائِلُونَ ( 4 )
سورة الأعراف
مكية كلها إلا خمس آيات, أولها
وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ
( المص )
( كِتَابٌ ) أي:
هذا كتاب, ( أُنْـزِلَ إِلَيْكَ ) وهو
القرآن, ( فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ ) قال
مجاهد: شك, فالخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم والمراد به الأمة. وقال أبو
العالية: حرج أي ضيق, معناه لا يضيق صدرك بالإبلاغ وتأدية ما أرسلت به, (
لِتُنْذِرَ بِهِ ) أي: كتاب أنـزل إليك لتنذر
به, ( وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ) أي:
عظة لهم, وهو رفع, مردود على الكتاب.
(
اتَّبِعُوا ) أي: وقل لهم اتبعوا: ( مَا
أُنْـزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ ) أي: لا
تتخذوا غيره أولياء تطيعونهم في معصية الله تعالى, (
قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ ) تتعظون, وقرأ ابن عامر: «
يتذكرون » بالياء والتاء.
(
وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا )
بالعذاب, ( وَكَم ) للتكثير و « رب » للتقليل,
( فَجَاءَهَا بَأْسُنَا )
عذابنا, ( بَيَاتًا ) ليلا ( أَوْ
هُمْ قَائِلُونَ ) من القيلولة, تقديره: فجاءها
بأسنا ليلا وهم نائمون, أو نهارا وهم قائلون, أي نائمون ظهيرة, والقيلولة
الاستراحة نصف النهار, وإن لم يكن معها نوم. ومعنى الآية: أنهم جاءهم بأسنا وهم
غير متوقعين له إما ليلا أو نهارا. قال الزجاج: و « أو » لتصريف
العذاب, مرة ليلا ومرة نهارا, وقيل: معناه من أهل القرى من أهلكناهم ليلا ومنهم من
أهلكناهم نهارا.
فإن قيل: ما معنى أهلكناها
فجاءها بأسنا؟ فكيف يكون مجيء البأس بعد الهلاك؟ قيل: معنى قوله: « أهلكنا
» أي: حكمنا بإهلاكها فجاءها بأسنا. وقيل: فجاءها بأسنا هو
بيان قوله « أهلكناها » مثل قول
القائل: أعطيتني فأحسنت إلي, لا فرق بينه وبين قوله: أحسنت إلي فأعطيتني, فيكون
أحدهما بدلا من الآخر.
فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ
جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ( 5 )
فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ( 6 )
فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ ( 7 )
وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ ( 8 )
( فَمَا
كَانَ دَعْوَاهُمْ ) أي: قولهم ودعاؤهم وتضرعهم,
والدعوى تكون بمعنى الادعاء وبمعنى الدعاء, قال سيبويه: تقول العرب اللهم أشركنا
في صالح دعوى المسلمين أي في دعائهم, ( إِذْ
جَاءَهُمْ بَأْسُنَا ) عذابنا, ( إِلا
أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ) معناه
لم يقدروا على رد العذاب, وكان حاصل أمرهم الاعتراف بالجناية حين لا ينفع
الاعتراف.
(
فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ ) يعني:
الأمم عن إجابتهم الرسل, وهذا سؤال توبيخ لا سؤال استعلام, يعني: لنسألهم عما
عملوا فيما بلغتهم الرسل, ( وَلَنَسْأَلَنَّ
الْمُرْسَلِينَ ) عن الإبلاغ.
(
فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ ) أي:
لنخبرنهم عن علم. قال ابن عباس رضي الله عنهما: ينطق عليهم كتاب أعمالهم, كقوله
تعالى: هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ (
الجاثية, 29 ) , ( وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ ) عن
الرسل فيما بلغوا, وعن الأمم فيما أجابوا.
قوله عز وجل: (
وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ ) يعني:
يوم السؤال, قال مجاهد: معناه والقضاء يومئذ العدل. وقال الأكثرون: أراد به وزن
الأعمال بالميزان, وذاك أن الله تعالى ينصب ميزانا له لسان وكفتان كل كفة بقدر ما
بين المشرق والمغرب.
واختلفوا في كيفية الوزن, فقال
بعضهم: تُوزن صحائف الأعمال: وروينا: « أن
رجلا ينشر عليه تسعة وتسعون سجلا كل سجل مد البصر, فيخرج له بطاقة فيها شهادة أن
لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله, فتوضع السجلات في كفة, والبطاقة في
كفة, فطاشت السجلات وثقلت البطاقة » .
وقيل: توزن الأشخاص, وروينا عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « ليأتي
الرجل العظيم السمين يوم القيامة فلا يزن عند الله جناح بعوضة » .
وقيل: توزن الأعمال, روي ذلك عن
ابن عباس, فيؤتى بالأعمال الحسنة على صورة حسنة وبالأعمال السيئة على صورة قبيحة
فتوضع في الميزان, والحكمة في وزن الأعمال امتحان الله عباده بالإيمان في الدنيا
وإقامة الحجة عليهم في العقبى, ( فَمَنْ ثَقُلَتْ
مَوَازِينُهُ ) قال مجاهد: حسناته, (
فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )
وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ
فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا
يَظْلِمُونَ ( 9 )
وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلا
مَا تَشْكُرُونَ ( 10 )
وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ
اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ( 11 )
( وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ
فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا
يَظْلِمُونَ ) يجحدون, قال أبو بكر رضي الله عنه حين حضره الموت في وصيته
لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: إنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة
باتباعهم الحق في الدنيا, وثقله عليهم, وحق لميزان يوضع فيه الحق غدا أن يكون
ثقيلا وإنما خفت موازين من خفت موازينه يوم القيامة باتباعهم الباطل في الدنيا,
وخفته عليهم, وحق لميزان يوضع فيه الباطل غدا أن يكون خفيفا.
فإن قيل: قد قال: ( مَنْ
ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ) ذكر بلفظ الجمع, والميزان
واحد؟ قيل: يجوز أن يكون لفظه جمعا ومعناه واحد كقوله: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ ,
وقيل: لكل عبد ميزان, وقيل: الأصل ميزان واحد عظيم, ولكل عبد فيه ميزان معلق به,
وقيل جمعه: لأن الميزان يشتمل على الكفتين والشاهدين واللسان, ولا يتم الوزن إلا
باجتماعها.
قوله تعالى: (
وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأرْضِ ) أي:
مكناكم والمراد من التمكين التمليك والقدرة, ( وَجَعَلْنَا
لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ ) أي: أسبابا تعيشون بها أيام
حياتكم من التجارات والمكاسب والمآكل والمشارب والمعايش جمع المعيشة, (
قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ ) فيما صنعت إليكم.
قوله عز وجل: (
وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ) قال
ابن عباس: خلقناكم, أي: أصولكم وآباءكم ثم صورناكم في أرحام أمهاتكم. وقال قتادة
والضحاك والسدي: أما « خلقناكم » فآدم,
وأما « صورناكم » فذريته. وقال مجاهد في
خلقناكم: آدم, ثم صورناكم في ظهر آدم بلفظ الجمع, لأنه أبو البشر ففي خلقه خلق من
يخرج من صلبه, وقيل: خلقناكم في ظهر آدم ثم صورناكم يوم الميثاق حين أخرجكم كالذر.
وقال عكرمة: خلقناكم في أصلاب الرجال ثم صورناكم في أرحام النساء. وقال يمان: خلق
الإنسان في الرحم ثم صوره وشق سمعه وبصره وأصابعه. وقيل: الكل آدم خلقه وصوّره و « ثم » بمعنى
الواو.
( ثُمَّ قُلْنَا
لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ ) فإن
قيل: الأمر بسجود الملائكة كان قبل خلق بني آدم, فما وجه قوله « ثم
قلنا » وثم للترتيب وللتراخي؟ قيل: على قول من يصرف الخلق والتصوير
إلى آدم وحده يستقيم هذا الكلام, إما على قول من يصرفه إلى الذرية: فعنه أجوبة:
أحدها « ثم » بمعنى
الواو, أي: وقلنا للملائكة, فلا تكون للترتيب والتعقيب.
وقيل: أراد « ثم » أخبركم
أنا قلنا للملائكة اسجدوا.
وقيل: فيه تقديم وتأخير تقديره ولقد خلقناكم, يعني: آدم ثم
قلنا للملائكة اسجدوا ثم صورناكم.
قوله تعالى: (
فَسَجَدُوا ) يعني الملائكة, ( إِلا
إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ) لآدم.
قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلا
تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ
وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ( 12 )
( قَالَ
) الله تعالى يا إبليس: ( مَا
مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ) أي:
وما منعك أن تسجد و « لا » زائدة
كقوله تعالى: وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (
الأنبياء, 95 ) . ( قَالَ ) إبليس
مجيبا ( أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ ) لأنك (
خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ) والنار
خير وأنور من الطين.
قال ابن عباس: أول من قاس إبليس
فأخطأ القياس, فمن قاس الدين بشيء من رأيه قرنه الله مع إبليس.
قال ابن سيرين: ما عبدت الشمس
إلا بالقياس.
قال محمد بن جرير: ظن الخبيث أن
النار خير من الطين ولم يعلم أن الفضل لمن جعل الله له الفضل, وقد فضل الله الطين
على النار من وجوه منها: أن من جوهر الطين الرزانة والوقار والحلم والصبر وهو
الداعي لآدم بعد السعادة التي سبقت له إلى التوبة والتواضع والتضرع فأورثه
الاجتباء والتوبة والهداية, ومن جوهر النار الخفة والطيش والحدة والارتفاع وهو
الداعي لإبليس بعد الشقاوة التي سبقت له إلى الاستكبار والإصرار, فأورثه اللعنة
والشقاوة, ولأن الطين سبب جمع الأشياء والنار سبب تفرقها ولأن التراب سبب الحياة,
فإن حياة الأشجار والنبات به, والنار سبب الهلاك.
قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا
فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ
( 13 )
قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ( 14 )
قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ( 15 )
قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ( 16 )
ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ
أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ( 17 )
قوله تعالى: ( قَالَ
فَاهْبِطْ مِنْهَا ) أي: من الجنة, وقيل: من
السماء إلى الأرض وكان له ملك الأرض فأخرجه منها إلى جزائر البحر وعرشه في البحر
الأخضر, فلا يدخل الأرض إلا خائفا على هيئة السارق مثل شيخ عليه أطمار يروع فيها
حتى يخرج منها.
قوله تعالى: ( فَمَا
يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ ) بمخالفة الأمر, (
فِيهَا ) أي: في الجنة, فلا ينبغي أن يسكن في الجنة ولا السماء متكبر
مخالف لأمر الله تعال: ( فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ
الصَّاغِرِينَ ) من الأذلاء, والصغار: الذل
والمهانة.
( قَالَ
) إبليس عند ذلك, (
أَنْظِرْنِي ) أخرني وأمهلني فلا تمتني, ( إِلَى
يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) من قبورهم وهو النفخة الأخيرة
عند قيام الساعة, أراد الخبيث أن لا يذوق الموت.
( قَالَ
) الله تعالى, (
إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ) المؤخرين, وبيّن مدة النظر
والمهلة في موضع آخر فقال: إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (
الحجر, 38 ) , وهو النفخة الأولى حين يموت الخلق كلهم.
( قَالَ
فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي ) اختلفوا في « ما » قيل: هو
استفهام يعني فبأي شيء أغويتني؟ ثم ابتدأ فقال: (
لأقْعُدَنَّ لَهُمْ ) وقيل: « ما » الجزاء,
أي: لأجل أنك أغويتني لأحقدن لهم. وقيل: هو « ما »
المصدرية موضع القسم تقديره: فبإغوائك إياي لأقعدن لهم, كقوله بِمَا غَفَرَ لِي
رَبِّي ( يس, 27 ) , يعني: لغفران ربي.
والمعنى بقدرتك عليّ ونفاذ سلطانك
فيّ. وقال ابن الأنباري: أي فيما أوقعت في قلبي من الغي الذي كان سبب هبوطي من
السماء, أغويتني: أضللتني عن الهدى. وقيل: أهلكتني, وقيل: خيبتني, (
لأقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ) أي:
لأجلسن لبني آدم على طريقك القويم وهو الإسلام.
( ثُمَّ
لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ ) قال
علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: من بين أيديهم أي من قِبل الآخرة فأشككهم فيها, (
وَمِنْ خَلْفِهِمْ ) أرغبهم في دنياهم, (
وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ ) أشبه عليهم أمر دينهم. (
وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ ) أشهي لهم المعاصي, وروى عطية
عن ابن عباس: ( مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ ) من
قِبَل دنياهم, يعني أزينها في قلوبهم, (
وَمِنْ خَلْفِهِمْ ) من قِبَل الآخرة فأقول: لا
بعث, ولا نشور, ولا جنة, ولا نار, (
وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ ) من قِبَل حسناتهم, (
وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ ) من قِبَل سيئاتهم.
وقال الحكم: من بين أيديهم: من
قبل الدنيا يزينها لهم, ومن خلفهم: من قبل الآخرة يثبطهم عنها, وعن أيمانهم: من
قبل الحق يصدهم عنه, وعن شمائلهم: من قبل الباطل يزينه لهم. وقال قتادة: أتاهم من
بين أيديهم فأخبرهم أنه لا بعث ولا جنة ولا نار, ومن خلفهم: من أمور الدنيا يزينها
لهم ويدعوهم إليها, وعن أيمانهم: من قبل حسناتهم بطأهم عنها, وعن شمائلهم: زين لهم
السيئات والمعاصي ودعاهم إليها أتاك يا ابن آدم من كل وجه غير أنه لم يأتك من فوقك
لم يستطع أن يحول بينك وبين رحمة الله. وقال مجاهد: من بين أيديهم وعن أيمانهم من
حيث يبصرون, ومن خلفهم وعن شمائلهم حيث لا يبصرون. وقال ابن جريج: معنى قوله حيث
لا يبصرون أي لا يخطئون وحيث لا يبصرون أي لا يعلمون أنهم يخطئون.
( وَلا
تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ) مؤمنين, فإن قيل: كيف علم
الخبيث ذلك؟ قيل: قاله ظنا فأصاب, قال الله تعالى وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ
إِبْلِيسُ ظَنَّهُ ( سبأ, 20 ) .
قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا
مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ
أَجْمَعِينَ ( 18 )
وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا
وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ( 19 )
فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ
سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلا
أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ( 20 )
وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ( 21 )
( قَالَ
) الله تعالى لإبليس, (
اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا ) أي:
معيبا, والذيم والذأم أشد العيب, يقال: ذأمه يذأمه ذأما فهو مذءوم وذامه يذيمه
ذاما فهو مذيم, مثل سار يسير سيرا, والمدحور: المبعد المطرود, يقال: دحره يدحره
دحرا إذا أبعده وطرده. قال ابن عباس: مذءوما أي ممقوتا. وقال قتادة: مذءوما
مدحورا: أي لعينا منفيا. وقال الكلبي: مذءوما, مدحورا: مقصيا من الجنة ومن كل خير.
( لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ ) من بني
آدم, ( لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ ) اللام
لام القسم, ( مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ ) أي:
منك ومن ذريتك ومن كفار ذرية آدم أجمعين.
(
فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ ) أي:
إليهما, والوسوسة: حديث يلقيه الشيطان في قلب الإنسان (
لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا ) أي:
أظهر لهما ما غطي وستر عنهما من عوراتهما, قيل: اللام فيه لام العاقبة وذلك أن
إبليس لم يوسوس بهذا ولكن كان عاقبة أمرهم ذلك, وهو ظهور عورتهما, كقوله تعالى:
فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا (
القصص، 8 ) , ثم بين الوسوسة فقال: (
وَقَال ) يعني: إبليس لآدم وحواء ( مَا
نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ ) يعني:
لئلا تكونا, كراهية أن تكونا ملكين من الملائكة يعلمان الخير والشر, ( أَوْ
تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ) من الباقين الذين لا يموتون
كما قال في موضع آخر: هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا
يَبْلَى ( طه, 120 ) .
(
وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ) أي:
وأقسم وحلف لهما وهذا من المفاعلة التي تختص بالواحد, قال قتادة: حلف لهما بالله حتى
خدعهما, وقد يخدع المؤمن بالله, فقال: إني خلقت قبلكما وأنا أعلم منكما فاتبعاني
أرشدكما, وإبليس أول من حلف بالله كاذبا, فلما حلف ظن آدم أن أحدا لا يحلف بالله
كاذبا, فاغتر به.
فَدَلاهُمَا بِغُرُورٍ
فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ
عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا
عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ
مُبِينٌ ( 22 )
( فَدَلاهُمَا بِغُرُورٍ ) أي:
خدعهما, يقال: ما زال فلان يدلي لفلان بغرور, يعني: ما زال يخدعه ويكلمه بزخرف
باطل من القول.
وقيل: حطهما من منـزلة الطاعة إلى حالة المعصية, ولا يكون
التدلي إلا من علو إلى أسفل, والتدلية: إرسال الدلو في البئر, يقال: تدلى بنفسه
ودلى غيره, قال الأزهري: أصله: تدلية العطشان البئر ليروى من الماء ولا يجد الماء
فيكون مدلى بغرور, والغرور: إظهار النصح مع إبطان الغش.
( فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ
بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا ) قال الكلبي: فلما أكلا منها,
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قبل أن ازدردا أخذتهما العقوبة,
والعقوبة أن « بدت » ظهرت لهما «
سوآتهما » عوراتهما, وتهافت عنهما لباسهما حتى أبصر كل واحد منهما ما
ووري عنه من عورة صاحبه, وكانا لا يريان ذلك. قال وهب: كان لباسهما من النور. وقال
قتادة: كان ظفرا ألبسهما الله من الظفر لباسا فلما وقعا في الذنب بدت لهما سوآتهما
فاستحيا, ( وَطَفِقَا ) أقبلا
وجعلا ( يَخْصِفَانِ ) يرقعان
ويلزقان ويصلان, ( عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ
الْجَنَّةِ ) وهو ورق التين حتى صار كهيئة الثوب.
قال الزجاج: يجعلان ورقة على ورقة ليسترا سوآتهما, وروي عن
أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم « كان
آدم رجلا طوالا كأنه نخلة سحوق كثير شعر الرأس, فلما وقع في الخطيئة بدت له سوأته,
وكان لا يراها فانطلق هاربا في الجنة, فعرضت له شجرة من شجر الجنة فحبسته بشعره,
فقال لها: أرسليني, قالت: لست بمرسلتك, فناداه ربه: يا آدم أمني تفر؟ قال: لا يا
رب, ولكن استحييتك » .
( وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا
أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ ) يعني:
الأكل منها, ( وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ
مُبِينٌ ) أي: بيّن العداوة, قال محمد بن قيس: ناداه ربه يا آدم أكلت
منها وقد نهيتك؟ قال: رب أطعمتني حواء, قال لحواء: لم أطعمتيه؟ قالت: أمرتني
الحية, قال للحية: لم أمرتيها؟ قالت: أمرني إبليس, فقال الله تعالى: أما أنت يا
حواء فكما أدميت الشجرة فتدمين كل شهر, وأما أنت يا حية فأقطع قوائمك فتمشين على
بطنك ووجهك, وسيشدخ رأسك من لقيك, وأما أنت يا إبليس فملعون مدحور .
قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا
أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ
الْخَاسِرِينَ ( 23 )
قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ
وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ( 24 )
قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ ( 25 ) يَا
بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْـزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا
وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ
يَذَّكَّرُونَ ( 26 )
( قَالَ
فِيهَا تَحْيَوْنَ ) يعني في الأرض تعيشون, ( وَفِيهَا
تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ ) أي: من
الأرض تخرجون من قبوركم للبعث, قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي: (
تُخْرَجُونَ ) بفتح التاء هاهنا وفي الزخرف, وافق يعقوب هاهنا وزاد حمزة
والكسائي: وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ في أول الروم, والباقون بضم التاء وفتح الراء فيهن.
( يَا بَنِي آدَمَ قَدْ
أَنْـزَلْنَا عَلَيْكُمْ ) أي: خلقنا لكم (
لِبَاسًا ) وقيل: إنما قال: «
أنـزلنا » لأن اللباس إنما يكون من نبات الأرض, والنبات يكون بما ينـزل
من السماء, فمعنى قوله: ( أَنْـزَلْنَا ) أي:
أنـزلنا أسبابه. وقيل: كل بركات الأرض منسوبة إلى بركات السماء كما قال تعالى:
وَأَنْـزَلْنَا الْحَدِيدَ ( سورة الحديد, 25 ) ,
وإنما يستخرج الحديد من الأرض.
وسبب نـزول هذه الآية: أنهم
كانوا في الجاهلية يطوفون بالبيت عراة, ويقولون: لا نطوف في ثياب عصينا الله فيها,
فكان الرجال يطوفون بالنهار والنساء بالليل عراة.
وقال قتادة: كانت المرأة تطوف
وتضع يدها على فرجها وتقول:
اليَـــوْمَ يَبْــدُو
بَعْضُــهُ أَوْ كُلُّـهُ وَمَــا بَـــدَا مِنْــهُ فَـلا أُحِـلُّـهُ
فأمر الله سبحانه بالستر فقال:
( قَدْ أَنْـزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي
سَوْآتِكُمْ ) يستر عوراتكم, واحدتها سوأة, سميت بها لأنه يسوء صاحبها
انكشافها, فلا تطوفوا عراة, ( وَرِيشًا ) يعني:
مالا في قول ابن عباس ومجاهد والضحاك والسدي: يقال: تريش الرجل إذا تمول, وقيل:
الريش الجمال, أي: ما يتجملون به من الثياب, وقيل: هو اللباس.
(
وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ) قرأ
أهل المدينة وابن عامر والكسائي « ولباس » بنصب
السين عطفا على قوله ( لِبَاسًا ) وقرأ
الآخرون بالرفع على الابتداء وخبره (
خَيْرٌ ) وجعلوا ( ذَلِكَ ) صلة في
الكلام, ولذلك قرأ ابن مسعود وأبي بن كعب ( وَلِبَاسُ
التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ )
واختلفوا في (
وَلِبَاسُ التَّقْوَى ) قال قتادة والسدي: لباس
التقوى هو الإيمان. وقال الحسن: هو الحياء لأنه يبعث على التقوى.
وقال عطية عن ابن عباس: هو
العمل الصالح. وعن عثمان بن عفان, أنه قال: السمت الحسن.
وقال عروة بن الزبير: لباس
التقوى خشية الله, وقال الكلبي: هو العفاف. والمعنى: لباس التقوى خير لصاحبه إذا
أخذ به مما خلق له من اللباس للتجمل.
وقال ابن الأنباري: لباس التقوى
هو اللباس الأول وإنما أعاده إخبارا أن ستر العورة خير من التعري في الطواف.
وقال زيد بن علي: لباس التقوى
الآلات التي يُتقى بها في الحرب كالدرع والمغفر والساعد والساقين.
وقيل: لباس التقوى هو الصوف
والثياب الخشنة التي يلبسها أهل الورع. (
ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ )
يَا بَنِي آدَمَ لا
يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ
يَنْـزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ
هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ
أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ( 27 )
وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ
أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ
عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ( 28 ) قُلْ
أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ
وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ( 29 )
( يَا
بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ ) لا
يضلنكم الشيطان, ( كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ
) أي: كما فتن أبويكم آدم وحواء فأخرجهما, ( مِنَ
الْجَنَّةِ يَنْـزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا ) ليرى
كل واحد سوأة الآخر, ( إِنَّهُ يَرَاكُمْ ) يعني
أن الشيطان يراكم يا بني آدم, ( هُوَ وَقَبِيلُهُ ) جنوده.
قال ابن عباس: هو وولده. وقال قتادة: قبيله: الجن والشياطين, ( مِنْ
حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ ) قال مالك بن دينار: إن عدوا يراك
ولا تراه لشديد الخصومة والمؤنة إلا من عصم الله, (
إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ ) قرناء
وأعوانا, ( لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ) وقال
الزجاج: سلطانهم عليهم يزيدون في غيهم كما قال: أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ
عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا [
مريم- 83 ] .
(
وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً ) قال ابن عباس ومجاهد: هي
طوافهم بالبيت عراة. وقال عطاء: الشرك والفاحشة, اسم لكل فعل قبيح بلغ النهاية في
القبح. ( قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا ) وفيه
إضمار معناه: وإذا فعلوا فاحشة فنهوا عنها قالوا وجدنا عليها آباءنا. قيل: ومن أين
أخذ آباؤكم؟ قالوا: ( وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا
قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا
تَعْلَمُونَ )
( قُلْ
أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ ) قال ابن عباس: بلا إله إلا
الله, وقال الضحاك: بالتوحيد. وقال مجاهد والسدي: بالعدل. (
وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ) قال
مجاهد والسدي: يعني وجّهوا وجوهكم حيث ما كنتم في الصلاة إلى الكعبة. وقال الضحاك:
إذا حضرت الصلاة وأنتم عند مسجد فصلوا فيه ولا يقولن أحدكم أصلي في مسجدي. وقيل:
معناه اجعلوا سجودكم لله خالصا, (
وَادْعُوهُ ) واعبدوه, (
مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) الطاعة والعبادة, ( كَمَا
بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ) قال ابن عباس: إن الله تعالى
بدأ خلق بني آدم مؤمنا وكافرا كما قال: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ
كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ ( التغابن, 2 ) , ثم
يعيدهم يوم القيامة كما خلقهم مؤمنا وكافرا. قال مجاهد: يبعثون على ما ماتوا عليه.
أخبرنا أحمد بن عبد الله
الصالحي حدثنا أبو سعيد محمد بن موسى الصيرفي أنبأنا محمد بن عبد الله الصفار
حدثنا أحمد بن محمد بن عيسى البرتي حدثنا أبو حذيفة حدثنا سفيان الثوري عن الأعمش
عن أبي سفيان عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يبعث
كل عبد على ما مات عليه, المؤمن على إيمانه والكافر على كفره » .
وقال أبو العالية: عادوا على
عمله فيهم. قال سعيد بن جبير: كما كتب عليكم تكونون.
قال محمد بن كعب: من ابتدأ الله
خلقه على الشقاوة صار إليها وإن عمل أهل السعادة, كما أن إبليس كان يعمل بعمل أهل
السعادة ثم صار إلى الشقاوة, ومن ابتداء خلقه على السعادة صار إليها وإن عمل بعمل
أهل الشقاء, وكما أن السحرة كانت تعمل بعمل أهل الشقاوة فصاروا إلى السعادة.
أخبرنا عبد الواحد المليحي
أنبأنا عبد الرحمن بن أبي شريح أنبأنا أبو القاسم البغوي ثنا علي بن الجعد حدثنا
أبو غسان عن أبي حازم قال: سمعت سهل بن سعد يقول: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: « إن العبد يعمل فيما يرى الناس بعمل أهل الجنة وإنه من أهل
النار, وإنه ليعمل فيما يرى الناس بعمل أهل النار وإنه من أهل الجنة, وإنما
الأعمال بالخواتيم » .
وقال الحسن ومجاهد: كما بدأكم
وخلقكم في الدنيا ولم تكونوا شيئا, كذلك تعودون أحياء يوم القيامة كما قال الله
تعالى: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ (
الأنبياء, 104 ) , قال قتادة: بدأهم من التراب
وإلى التراب يعودون, نظيره قوله تعالى: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا
نُعِيدُكُمْ ( طه, 55 ) .
فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا
حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ
مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ( 30 )
قوله عز وجل: (
فَرِيقًا هَدَى ) أي هداهم الله, (
وَفَرِيقًا حَقَّ ) وجب (
عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ ) أي: بالإرادة السابقة, (
إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ
أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ) فيه دليل على أن الكافر الذي
يظن أنه في دينه على الحق والجاحد والمعاند سواء.
يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا
زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ
لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ( 31 ) قُلْ
مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ
الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً
يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ( 32 )
قوله تعالى: ( يَا بَنِي
آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ) قال
أهل التفسير: كانت بنو عامر يطوفون بالبيت عراة, فأنـزل الله عز وجل: « يا بني
آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد » , يعني الثياب. قال مجاهد: ما
يواري عورتك ولو عباءة.
قال الكلبي: الزينة ما يواري
العورة عند كل مسجد لطواف أو صلاة.
( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا ) قال
الكلبي: كانت بنو عامر لا يأكلون في أيام حجهم من الطعام إلا قوتا ولا يأكلون
دسما, يعظمون بذلك حجهم, فقال المسلمون: نحن أحق أن نفعل ذلك يا رسول الله, فأنـزل
الله عز وجل: « وكلوا » يعني اللحم والدسم « واشربوا
» اللبن ( وَلا تُسْرِفُوا ) بتحريم
ما أحل الله لكم من اللحم والدسم, (
إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ) الذين
يفعلون ذلك. قال ابن عباس: كل ما شئت والبس ما شئت ما أخطأتك خصلتان سرف ومخيلة.
قال علي بن الحسين بن واقد: قد جمع الله الطب كله في نصف آية فقال: « كلوا
واشربوا ولا تسرفوا » .
قوله عز وجل: ( قُلْ
مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ ) يعني
لبس الثياب في الطواف, ( وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ
الرِّزْقِ ) يعني اللحم والدسم في أيام الحج.
وعن ابن عباس وقتادة: والطيبات
من الرزق ما حرم أهل الجاهلية من البحائر والسوائب.
( قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ
آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) فيه
حذف تقديره: هي للذين آمنوا وللمشركين في الحياة الدنيا فإن أهل الشرك يشاركون
المؤمنين في طيبات الدنيا, وهي في الآخرة خالصة للمؤمنين لا حظ للمشركين فيها.
وقيل: هي خالصة يوم القيامة من
التنغيص والغم للمؤمنين, فإنها لهم في الدنيا مع التنغيص والغم.
قرأ نافع (
خَالِصَةً ) رفع, أي: قل هي للذين آمنوا مشتركين في الدنيا, وهي في الآخرة
خالصة يوم القيامة للمؤمنين. وقرأ الآخرون بالنصب على القطع, (
كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ )
قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ
رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ
بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ
سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ( 33 )
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً
وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ( 34 ) يَا
بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ
آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ
( 35 )
( قُلْ
إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ) يعني:
الطواف عراة ( مَا ظَهَرَ ) طواف
الرجال بالنهار ( وَمَا بَطَنَ ) طواف
النساء بالليل. وقيل: هو الزنا سرا وعلانية.
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد
المليحي أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنبأنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن
إسماعيل حدثنا سليمان بن حرب حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي وائل عن عبد الله
قال قلت: أنت سمعت هذا من عبد الله؟ قال: نعم, فرفعه, قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: « لا أحد أغير من الله, فلذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما
بطن, ولا أحد أحب إليه المدح من الله فلذلك مدح نفسه » .
قوله عز وجل: (
وَالإثْمَ ) يعني: الذنب والمعصية. وقال الضحاك: الذنب الذي لا حد فيه.
قال الحسن: الإثم: الخمر. قال الشاعر:
شـربت الإثـم حـتى ضـل عقـلي
كـذاك الإثـم تــذهب بالعقـــول
(
وَالْبَغْيَ ) الظلم والكبر, (
بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَـزِّلْ بِهِ
سُلْطَانًا ) حجة وبرهانا, (
وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) في
تحريم الحرث والأنعام, في قول مقاتل. وقال غيره: هو عام في تحريم القول في الدين
من غير يقين.
(
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ) مدة, وأكل وشرب. وقال ابن
عباس وعطاء والحسن: يعني وقتا لنـزول العذاب بهم, (
فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ ) وانقطع أكلهم, ( لا
يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ) أي:
ولا يتقدمون. وذلك حين سألوا العذاب فأنـزل الله هذه الآية.
قوله تعالى: ( يَا
بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ ) أي: أن
يأتيكم. قيل: أراد جميع الرسل. وقال مقاتل: أراد بقوله: ( يَا
بَنِي آدَمَ ) مشركي العرب وبالرسل محمدا صلى الله عليه وسلم وحده, (
يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي ) قال ابن عباس: فرائضي
وأحكامي, ( فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ ) أي:
اتقى الشرك وأصلح عمله. وقيل: أخلص ما بينه وبين ربه ( فَلا
خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ) إذا خاف الناس, ( وَلا
هُمْ يَحْزَنُونَ ) أي: إذا حزنوا.
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا
بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا
خَالِدُونَ ( 36 )
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ
أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ
رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ
اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا
كَافِرِينَ ( 37 )
( وَالَّذِينَ كَذَّبُوا
بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا ) تكبروا
عن الإيمان بها, وإنما ذكر الاستكبار لأن كل مكذب وكافر متكبر. قال الله تعالى
إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (
الصافات, 35 ) , ( أُولَئِكَ أَصْحَابُ
النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ )
قوله تعالى: (
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ) جعل له
شريكا, ( أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ )
بالقرآن, ( أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ ) أي: حظهم
مما كتب لهم في اللوح المحفوظ. واختلفوا فيه, قال الحسن والسدي: ما كتب لهم من
العذاب وقضى عليهم من سواد الوجوه وزرقة العيون. قال عطية عن ابن عباس: كتب لمن
يفتري على الله أن وجهه مسود, قال الله تعالى: وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى
الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ (
الزمر, 60 ) .
وقال سعيد بن جبير ومجاهد: ما سبق لهم من الشقاوة والسعادة.
وقال ابن عباس وقتادة والضحاك: يعني أعمالهم التي عملوها وكتب
عليهم من خير وشر يجزي عليها.
وقال محمد بن كعب القرظي: ما كتب لهم من الأرزاق والآجال والأعمال
فإذا فنيت, ( جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ ) يقبضون
أرواحهم يعني ملك الموت وأعوانه, (
قَالُوا ) يعني يقول الرسل للكافر, (
أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ ) تعبدون, ( مِنْ
دُونِ اللَّهِ ) سؤال تبكيت وتقريع, (
قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا ) بطلوا وذهبوا عنا, (
وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ ) اعترفوا عند معاينة الموت, (
أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ )
قَالَ
ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ فِي
النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا
فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا
فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا
تَعْلَمُونَ ( 38 ) وَقَالَتْ أُولاهُمْ
لأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ
بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ( 39 ) إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا
بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ
وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ
وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ ( 40 )
( قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ ) يعني: يقول الله لهم يوم
القيامة ادخلوا في أمم, أي: مع جماعات, ( قَدْ خَلَتْ ) مضت, ( مِنْ
قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ فِي النَّارِ ) يعني كفار الأمم الخالية, ( كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا ) يريد أختها في الدين لا في
النسب, فتلعن اليهود اليهود والنصارى النصارى, وكل فرقة تلعن أختها ويلعن الأتباع
القادة, ولم يقل أخاها لأنه عنى الأمة والجماعة, ( حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا ) أي: تداركوا وتلاحقوا
واجتمعوا في النار, ( جَمِيعًا
قَالَتْ أُخْرَاهُمْ ) قال
مقاتل: يعني أخراهم دخولا النار وهم الأتباع, ( لأولاهُمْ ) أي: لأولاهم دخولا وهم القادة, لأن القادة يدخلون النار
أولا. وقال ابن عباس: يعني آخر كل أمة لأولاها, وقال السدي: أهل آخر الزمان
لأولاهم الذين شرعوا لهم ذلك الدين, ( رَبَّنَا هَؤُلاءِ ) الذين, (
أَضَلُّونَا ) عن
الهدى يعني القادة (
فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ ) أي: ضعف عليهم العذاب, ( قَالَ ) الله
تعالى, (
لِكُلٍّ ضِعْفٌ ) يعني
للقادة والأتباع ضعف من العذاب, (
وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ ) ما لكل
فريق منكم من العذاب.
قرأ
الجمهور: « ولكن
لا تعلمون » , وقرأ
أبو بكر « لا
يعلمون » بالياء,
أي: لا يعلم الأتباع ما للقادة ولا القادة ما للأتباع.
( وَقَالَتْ أُولاهُمْ ) يعني القادة ( لأخْرَاهُمْ ) للأتباع, ( فَمَا
كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ ) لأنكم كفرتم كما كفرنا فنحن وأنتم في الكفر سواء وفي العذاب
سواء, (
فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ )
( إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا
عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ )
بالتاء, خفف أبو عمرو, وبالياءِ خفف حمزة والكسائي, والباقون بالتاء مشددة, ( أَبْوَابُ السَّمَاءِ ) لأدعيتهم ولا لأعمالهم. وقال
ابن عباس: لأرواحهم لأنها خبيثة لا يصعد بها بل يهوى بها إلى سجين, إنما تفتح
أبواب السماء لأرواح المؤمنين وأدعيتهم وأعمالهم, ( وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ
حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ ) أي: حتى يدخل البعير في ثقب الإبرة, والخياط والمخيط
الإبرة, والمراد منه: أنهم لا يدخلون الجنة أبدا لأن الشيء إذا علق بما يستحيل
كونه يدل ذلك على تأكيد المنع, كما يقال: لا أفعل كذا حتى يشيب الغراب أو يبيض
القار, يريد لا أفعله أبدا. (
وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ )
لَهُمْ
مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي
الظَّالِمِينَ ( 41 ) وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا أُولَئِكَ
أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( 42 )
وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ
وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ
لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ
وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( 43 )
( لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ
مِهَادٌ ) أي:
فراش, (
وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ ) أي:
لحف, وهي جمع غاشية, يعني ما غشاهم وغطاهم, يريد إحاطة النار بهم من كل جانب, كما
قال الله, لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ
(
الزمر, 16 ) , ( وَكَذَلِكَ نَجْزِي
الظَّالِمِينَ )
( وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا ) أي: طاقتها وما لا تحرج فيه
ولا تضيق عليه, ( أُولَئِكَ
أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ )
(
وَنَـزَعْنَا )
وأخرجنا, ( مَا
فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ ) من غش
وعداوة كانت بينهم في الدنيا فجعلناهم إخوانا على سرر متقابلين لا يحسد بعضهم بعضا
على شيء خص الله به بعضهم. (
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ ) روى الحسن عن علي رضي الله عنه قال: فينا والله أهل بدر
نـزلت: وَنَـزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ
مُتَقَابِلِينَ .
وقال علي
رضي الله عنه أيضا: إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير من الذين قال لهم
الله عز وجل: (
وَنَـزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ )
أخبرنا
عبد الواحد المليحي أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنبأنا محمد بن يوسف حدثنا
محمد بن إسماعيل حدثنا الصلت بن محمد حدثنا يزيد بن زريع حدثنا سعيد عن قتادة عن
أبي المتوكل الناجي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يخلص المؤمنون من النار,
فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار, فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في
الدنيا, حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة, فوالذي نفس محمد بيده لأحدهم
أهدى بمنـزله في الجنة منه بمنـزله كان في الدنيا » .
وقال
السدي في هذه الآية: إن أهل الجنة إذا سيقوا إلى الجنة وجدوا عند بابها شجرة, في
أصل ساقها عينان, فشربوا من إحداهما, فينـزع ما في صدورهم من غل, فهو الشراب
الطهور, واغتسلوا من الأخرى فجرت عليهم نضرة النعيم فلن يشعثوا ولن يسحنوا بعدها
أبدا, أي إلى هذا, يعني طريق الجنة.
وقال
سفيان الثوري: معناه هدانا لعمل هذا ثوابه, ( وَمَا كُنَّا ) قرأ ابن عامر: « ما كنا » بلا
واو, (
لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا
بِالْحَقِّ ) هذا
قول أهل الجنة حين رأوا ما وعدهم الرسل عيانا, ( وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا
كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) قيل:
هذا النداء إذا رأوا الجنة من بعيد نودوا أن تلكم الجنة.
وقيل:
هذا النداء يكون في الجنة.
أخبرنا
أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة الخطيب أنبأنا أبو طاهر محمد بن الحارث
أنبأنا محمد بن يعقوب الكسائي أنبأنا عبد الله بن محمد أنبأنا إبراهيم بن عبد الله
الخلال حدثنا عبد الله بن المبارك عن سفيان عن أبي إسحاق عن الأغر عن أبي سعيد وعن
أبي هريرة قالا ينادي مناد: إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا, وإن لكم أن تحيوا
فلا تموتوا أبدا, وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا, وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا
أبدا, فذلك قوله: « ونودوا
أن تلكم الجنة, أورثتموها بما كنتم تعملون » , هذا حديث صحيح أخرجه مسلم بن الحجاج عن إسحاق بن إبراهيم
وعبد الرحمن بن حميد عن عبد الرزاق عن سفيان الثوري بهذا الإسناد مرفوعا . وروي عن
أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما من أحد إلا وله منـزله في
الجنة ومنـزله في النار, فأما الكافر فإنه يرث المؤمن منـزله من النار, والمؤمن
يرث الكافر منـزله من الجنة » .
وَنَادَى أَصْحَابُ
الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا
فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ
مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ( 44 )
الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ
بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ ( 45 )
وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلا بِسِيمَاهُمْ
وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ
يَطْمَعُونَ ( 46 )
قوله تعالى: ( وَنَادَى
أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا
رَبُّنَا ) من الثواب, (
حَقًّا ) أي صدقا, (
فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ ) من
العذاب, ( حَقًّا قَالُوا نَعَمْ ) قرأ
الكسائي بكسر العين حيث كان, والباقون بفتحها وهما لغتان, (
فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ ) أي: نادى مناد أسمع الفريقين,
( أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ) قرأ
أهل المدينة والبصرة وعاصم: « أن » خفيف, « لعنة » , رفع,
وقرأ الآخرون بالتشديد, « لعنةَ الله » نصب على
الظالمين, أي: الكافرين,
( الَّذِينَ يَصُدُّونَ ) أي:
يصرفون الناس, ( عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ) طاعة
الله, ( وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا ) أي:
يطلبونها زيغا وميلا أي: يطلبون سبيل الله جائرين عن القصد.
قال ابن عباس: يصلّون لغير الله,
ويعظمون ما لم يعظمه الله. والعِوَج - بكسر العين - في الدين والأمر والأرض وكل ما
لم يكن قائما, وبالفتح في كل ما كان قائما كالحائط والرمح ونحوهما. (
وَهُمْ بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ )
( وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ ) يعني:
بين الجنة والنار, وقيل: بين أهل الجنة وبين أهل النار حجاب, وهو السور الذي ذكر
الله تعالى في قوله: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ (
الحديد, 13 ) .
قوله تعالى: (
وَعَلَى الأعْرَافِ رِجَالٌ ) والأعراف هي ذلك السور الذي
بين الجنة والنار, وهي جمع عُرف, وهو اسم للمكان المرتفع, ومنه عرف الديك لارتفاعه
عما سواه من جسده. وقال السدي: سمي ذلك السور أعرافا لأن أصحابه يعرفون الناس.
واختلفوا في الرجال الذين أخبر
الله عنهم أنهم على الأعراف: فقال حذيفة وابن عباس: هم قوم استوت حسناتهم
وسيئاتهم, فقصرت بهم سيئاتهم عن الجنة, وتجاوزت بهم حسناتهم عن النار, فوقفوا هناك
حتى يقضي الله فيهم ما يشاء, ثم يُدخلهم الجنة بفضل رحمته, وهم آخر من يدخل الجنة.
أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد
الله بن أبي توبة أنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن الحارث أنا محمد بن يعقوب الكسائي
أنا عبد الله بن محمود أنا إبراهيم بن عبد الله الخلال ثنا عبد الله بن المبارك عن
أبي بكر الهذلي قال: قال سعيد بن جبير, يحدث عن ابن مسعود قال: يحاسب الناس يوم
القيامة فمن كانت حسناته أكثر من سيئاته بواحدة دخل الجنة, ومن كانت سيئاته أكثر
من حسناته بواحدة دخل النار, ثم قرأ قول الله تعالى: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ
فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ
الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ (
الأعراف 8- 9 ) . ثم قال: إن الميزان يخف بمثقال حبة أو يرجح . قال: ومن
استوت حسناته وسيئاته كان من أصحاب الأعراف فوقفوا على الصراط, ثم عرفوا أهل الجنة
وأهل النار فإذا نظروا إلى أهل الجنة نادوا سلام عليكم, وإذا صرفوا أبصارهم إلى
أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين, فأما أصحاب الحسنات فإنهم
يعطون نورا يمشون به بين أيديهم وبأيمانهم, ويعط كل عبد [
يومئذ ] نورا فإذا أتوا على الصراط سلب الله نور كل منافق ومنافقة,
[ فلما ] رأى أهل الجنة ما لقي
المنافقون قالوا ربنا أتمم لنا نورنا.
فأما أصحاب الأعراف فإن النور
لم ينـزع من بين أيديهم, ومنعتهم [
سيئاتهم ] أن يمضوا فبقي في قلوبهم الطمع إذ لم ينـزع النور من بين
أيديهم, فهنالك يقول الله: « لم يدخلوها وهم يطمعون » , وكان
الطمع النور الذي [ بين أيديهم ] ثم
أدخلوا الجنة, وكانوا آخر أهل الجنة دخولا.
وقال شرحبيل بن سعد: أصحاب
الأعراف قوم خرجوا في الغزو بغير إذن آبائهم, ورواه مقاتل في تفسيره مرفوعا: هم
رجال غزوا في سبيل الله [ عصاة لآبائهم فقتلوا,
فأعتقوا من النار بقتلهم في سبيل الله ] وحبسوا
عن الجنة بمعصية آبائهم, فهم آخر من يدخل الجنة.
وروي عن مجاهد: أنهم أقوام رضي
عنهم أحد الأبوين دون الآخر, يُحبسون على [
الأعراف ] إلى أن يقضي الله بين الخلق, ثم يدخلون الجنة.
وقال عبد العزيز بن يحيى
الكناني: هم الذين ماتوا في الفترة ولم يبدلوا دينهم.
وقيل: هم أطفال المشركين. وقال
الحسن: هم أهل الفضل من المؤمنين علوا على الأعراف فيطلعون على أهل الجنة وأهل
النار جميعا, ويطالعون أحوال الفريقين.
قوله تعالى: (
يَعْرِفُونَ كُلا بِسِيمَاهُمْ ) أي: يعرفون أهل الجنة ببياض وجوههم
وأهل النار بسواد وجوههم. ( وَنَادَوْا أَصْحَابَ
الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ) أي:
إذا رأوا أهل الجنة قالوا سلام عليكم, ( لَمْ
يَدْخُلُوهَا ) يعني: أصحاب الأعراف لم يدخلوا الجنة, (
وَهُمْ يَطْمَعُونَ ) في دخولها, قال أبو العالية: ما
جعل الله ذلك الطمع فيهم إلا كرامة [
يريد ] بهم, قال الحسن: الذي جعل الطمع في قلوبهم يوصلهم إلى ما
يطمعون.
وَإِذَا صُرِفَتْ
أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ
الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ( 47 )
وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا
أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ ( 48 )
أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا
الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ ( 49 )
(
وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ ) تعوذوا
بالله, ( قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ ) يعني: الكافرين في النار.
(
وَنَادَى أَصْحَابُ الأعْرَافِ رِجَالا ) كانوا
عظماء في الدنيا من أهل النار, ( يَعْرِفُونَهُمْ
بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ ) في
الدنيا من المال والولد, ( وَمَا كُنْتُمْ
تَسْتَكْبِرُونَ ) عن الإيمان. قال الكلبي:
ينادون وهم على السور: يا وليد بن المغيرة ويا أبا جهل بن هشام ويا فلان, ثم
ينظرون إلى الجنة فيرون فيها الفقراء والضعفاء ممن كانوا يستهزءون بهم, مثل سلمان
وصهيب وخباب وبلال وأشباههم, فيقول أصحاب الأعراف لأولئك الكفار: (
أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ )
(
أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ ) حلفتم,
( لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ) أي:
حلفتم أنهم لا يدخلون الجنة. ثم يقال لأهل الأعراف: (
ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ ) وفيه
قول آخر: أن أصحاب الأعراف إذا قالوا لأهل النار ما قالوا, قال لهم أهل النار: إن
دخل أولئك الجنة وأنتم لم تدخلوها. فيعيرونهم بذلك, ويقسمون أنهم يدخلون النار,
فتقول الملائكة الذين حبسوا أصحاب الأعراف على الصراط لأهل النار: أهؤلاء, يعني:
أصحاب الأعراف, الذين أقسمتم يا أهل النار أنهم لا ينالهم الله برحمة, ثم قالت
الملائكة لأصحاب الأعراف: « ادخلوا الجنة لا خوف عليكم
ولا أنتم تحزنون » فيدخلون الجنة.
وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ
أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا
رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ ( 50 )
الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ
الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا
كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ( 51 )
قوله تعالى: (
وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا ) أي:
صبوا, ( عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ ) أي:
أوسعوا علينا مما رزقكم الله من طعام الجنة.
قال عطاء عن ابن عباس: لما صار أصحاب الأعراف إلى الجنة طمع
أهل النار في الفرج, وقالوا: يا رب إن لنا قرابات من أهل الجنة, فأذن لنا حتى
نراهم ونكلمهم, فينظروا إلى قرابتهم في الجنة وما هم فيه من النعيم فيعرفونهم ولم
يعرفهم أهل الجنة لسواد وجوههم, فينادي أصحاب النار أصحاب الجنة بأسمائهم,
وأخبروهم بقراباتهم: أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله, (
قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ ) يعني:
الماء والطعام.
( الَّذِينَ اتَّخَذُوا
دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا ) وهو ما زين لهم الشيطان من
تحريم البحيرة وأخواتها, والمكاء والتصدية حول البيت, وسائر الخصال الذميمة, التي
كانوا يفعلونها في الجاهلية. وقيل: دينهم أي عيدهم, (
وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ ) نتركهم
في النار, ( كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا ) أي:
كما تركوا العمل للقاء يومهم هذا, ( وَمَا
كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ )
وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ
بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( 52 ) هَلْ
يَنْظُرُونَ إِلا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ
نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ
شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا
نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ( 53 )
(
وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ ) يعني: القرآن (
فَصَّلْنَاهُ ) بيناه, ( عَلَى عِلْمٍ ) منا
لما يصلحهم, ( هُدًى وَرَحْمَةً ) أي:
جعلنا القرآن هاديا وذا رحمة, ( لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ )
( هَلْ يَنْظُرُونَ ) أي: هل
ينتظرون, ( إِلا تَأْوِيلَهُ ) قال
مجاهد: جزاءه. وقال السدي: عاقبته. ومعناه: هل ينتظرون إلا ما يئول إليه أمرهم, في
العذاب ومصيرهم إلى النار. ( يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ ) أي:
جزاؤه وما يئول إليه أمرهم, ( يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ
مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ )
اعترفوا به حين لا ينفعهم الاعتراف, (
فَهَلْ لَنَا ) اليوم, ( مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا
لَنَا أَوْ نُرَدُّ ) إلى الدنيا, (
فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ )
أهلكوها بالعذاب, ( وَضَلَّ ) [
وبطل ] ( عَنْهُمْ مَا كَانُوا
يَفْتَرُونَ )
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ
الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى
عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ
وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ
اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ( 54 )
قوله تعالى: ( إِنَّ
رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ) أراد
به في مقدار ستة أيام لأن اليوم من لدن طلوع الشمس إلى غروبها, ولم يكن يومئذ يوم
ولا شمس ولا سماء, قيل: ستة أيام كأيام الآخرة وكل يوم كألف سنة. وقيل: كأيام
الدنيا, قال سعيد بن جبير: كان الله عز وجل قادرا على خلق السموات والأرض في لمحة
ولحظة, فخلقهن في ستة أيام [ تعليما ] لخلقه
التثبت والتأني في الأمور وقد جاء في الحديث: « التأني
من الله والعجلة من الشيطان » .
( ثُمَّ
اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ) قال الكلبي ومقاتل: استقر.
وقال أبو عبيدة: صعد. وأولت المعتزلة الاستواء بالاستيلاء, وأما أهل السنة
فيقولون: الاستواء على العرش صفة لله تعالى, بلا كيف, يجب على الرجل الإيمان به,
ويكل العلم فيه إلى الله عز وجل. وسأل رجل مالك بن أنس عن قوله: الرَّحْمَنُ عَلَى
الْعَرْشِ اسْتَوَى [ طه- 5 ] , كيف
استوى؟ فأطرق رأسه مليًّا, وعلاه الرحضاء, ثم قال: الاستواء غير مجهول, والكيف غير
معقول, والإيمان به واجب, والسؤال عنه بدعة, وما أظنك إلا ضالا ثم أمر به فأخرج.
وروي عن سفيان الثوري والأوزاعي
والليث بن سعد وسفيان بن عيينة وعبد الله بن المبارك وغيرهم من علماء السنة في هذه
الآيات التي جاءت في الصفات المتشابهة: أمِرّوها كما جاءت بلا كيف.
والعرش في اللغة: هو السرير.
وقيل: هو ما علا فأظل, ومنه عرش الكروم. وقيل: العرش الملك.
(
يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ ) قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر
ويعقوب: « يُغشّي » بالتشديد هاهنا وفي سورة
الرعد, والباقون بالتخفيف, أي: يأتي الليل على النهار فيغطيه, وفيه حذف أي: ويغشي
النهار الليل, ولم يذكره لدلالة الكلام عليه وذكر في آية أخرى فقال: يُكَوِّرُ
اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ [
الزمر- 5 ] , ( يَطْلُبُهُ حَثِيثًا ) أي:
سريعا, وذلك أنه إذا كان يعقب أحدهم الآخر ويخلفه, فكأنه يطلبه. (
وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ ) قرأ
ابن عامر كلها بالرفع على الابتداء والخبر, والباقون بالنصب, وكذلك في سورة النحل
عطفا على قوله: « خلق السموات والأرض » , أي:
خلق هذه الأشياء مسخرات, أي: مذللات (
بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ ) له
الخلق لأنه [ خلقهم ] وله الأمر, يأمر في خلقه بما
يشاء. قال سفيان بن عيينة: فرق الله بين الخلق والأمر فمن جمع بينهما فقد كفر.
(
تَبَارَكَ اللَّهُ ) أي: تعالى الله وتعظم. وقيل:
ارتفع. والمبارك المرتفع. وقيل: تبارك تفاعل من البركة وهي النماء والزيادة, أي:
البركة تكتسب وتنال بذكره.
وعن ابن عباس قال: جاء بكل
بركة. وقال الحسن: تجيء البركة من قِبَله وقيل: تبارك: تقدس. والقدس: الطهارة.
وقيل: تبارك الله أي: باسمه يتبرك في كل شيء. وقال المحققون: معنى هذه [
الصفة ] ثبت ودام بما لم يزل ولا يزال. وأصل البركة الثبوت. ويقال:
تبارك اللهُ ولا يقال: متبارك ولا مبارك, لأنه لم يرد به التوقيف. ( رَبِّ
الْعَالَمِينَ )
ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا
وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ( 55 ) وَلا
تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ
رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ( 56 )
(
ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا ) تذللا واستكانة, (
وَخُفْيَةً ) أي سرا. قال الحسن: بين دعوة السر ودعوة العلانية سبعون
ضعفا, ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوت, وإن كان إلا همسا
بينهم وبين ربهم, وذلك أن الله سبحانه يقول: « ادعوا
ربكم تضرعا وخفية » , وإن الله ذكر عبدا صالحا
ورضي فعله فقال: إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا [
مريم- 3 ] . ( إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ
) قيل: المعتدين في الدعاء, وقال أبو مجلز: هم الذين يسألون
منازل الأنبياء عليهم السلام.
أخبرنا عمر بن عبد العزيز
الفاشاني, أنبأنا القاسم بن جعفر الهاشمي, أنبأنا أبو علي محمد بن أحمد اللؤلؤي,
ثنا أبو داود السجستاني, حدثنا موسى بن إسماعيل, حدثنا حماد يعني ابن سلمة, أنبأنا
سعيد الجريري, عن أبي نعامة أن عبد الله بن مغفل سمع ابنه يقول: اللهم إني أسألك
القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها, فقال: يا بني سل الله الجنة وتعوذ من
النار, فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إنه
سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطهور والدعاء » .
وقيل: أراد به الاعتداء بالجهر
[ والصياح ] قال
ابن جريج: من الاعتداء رفع الصوت والنداء بالدعاء والصياح.
وروينا عن أبي موسى قال لما غزا
رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر أشرف الناس على واد فرفعوا أصواتهم بالتكبير,
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « اربعوا
على أنفسكم, إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا, إنكم تدعون سميعا قريبا » . وقال
عطية: هم الذين يدعون على المؤمنين فيما لا يحل, فيقولون: اللهم أخزهم اللهم
العنهم.
( وَلا
تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ) أي لا
تفسدوا فيها بالمعاصي والدعاء إلى غير طاعة الله بعد إصلاح الله إياها ببعث الرسل
وبيان الشريعة, والدعاء إلى طاعة الله, وهذا معنى قول الحسن والسدي والضحاك
والكلبي.
وقال عطية: لا تعصوا في الأرض
فيمسك الله المطر ويهلك الحرث بمعاصيكم. فعلى هذا معنى قوله: « بعد
إصلاحها » أي: بعد إصلاح الله إياها بالمطر والخصب.
(
وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا ) أي: خوفا منه ومن عذابه,
وطمعا فيما عنده من مغفرته وثوابه. وقال ابن جريج: خوف العدل وطمع الفضل. ( إِنَّ
رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ) ولم
يقل قريبة, قال سعيد بن جبير: الرحمة هاهنا الثواب فرجع النعت إلى المعنى دون
اللفظ كقوله: وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى
وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ [
النساء- 8 ] ولم يقل منها لأنه أراد الميراث والمال.
وقال الخليل بن أحمد: القريب
والبعيد يستوي فيهما في اللغة: المذكر والمؤنث والواحد والجمع. قال أبو عمرو بن
العلاء: القريب في اللغة يكون بمعنى القرب وبمعنى المسافة, تقول العرب: هذه امرأة
قريبة منك إذا كانت بمعنى القرابة, وقريب منك إذا كانت بمعنى المسافة.
وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ
الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا
ثِقَالا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْـزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا
بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ
تَذَكَّرُونَ ( 57 )
قوله تعالى: (
وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا ) قرأ
عاصم « بُشرا » بالباء وضمها وسكون الشين
هاهنا وفي الفرقان وسورة النمل, ويعني: أنها تبشر بالمطر بدليل قوله تعالى:
الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ [ الروم- 46 ] , [
وقرأ حمزة والكسائي « نشرا »
بالنون وفتحها, وهي الريح الطيبة اللينة, قال الله تعالى ] :
وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا [ المرسلات- 3 ] , وقرأ
ابن عامر بضم النون وسكون الشين, وقرأ الآخرون بضم النون والشين, جمع نشور, مثل
صبور وصبر ورسول ورسل, أي: متفرقة وهي الرياح التي تهب من كل ناحية (
بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ) أي: قدام المطر.
أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب أنبأنا عبد العزيز بن أحمد
الخلال أنبأنا أبو العباس الأصم أنبأنا الربيع أنبأنا الشافعي أنبأنا الثقة عن
الزهري عن ثابت بن قيس عن أبي هريرة قال: أخذت الناس ريح بطريق مكة وعمر حاج
فاشتدت, فقال عمر رضي الله عنه لمن حوله: ما بلغكم في الريح فلم يرجعوا إليه شيئا,
فبلغني الذي سأل [ عمر عنه من أمر الريح ]
فاستحثثت راحلتي حتى أدركت عمر رضي الله عنه, وكنت في مؤخر الناس, فقلت: يا أمير
المؤمنين أخبرت أنك سألت عن الريح وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « الريح من
روح الله تأتي بالرحمة وبالعذاب فلا تسبوها, وسلوا الله من خيرها وتعوذوا به من
شرها » ورواه عبد الرزاق عن معمر عن الزهري بإسناده .
( حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ ) حملت
الرياح ( سَحَابًا ثِقَالا )
بالمطر, ( سُقْنَاهُ ) وردّ
الكناية إلى السحاب, ( لِبَلَدٍ مَيِّتٍ ) أي:
إلى بلد ميت محتاج إلى الماء, وقيل: معناه لإحياء بلد ميت لا نبات فيه (
فَأَنْـزَلْنَا بِهِ ) أي: بالسحاب. وقيل: بذلك
البلد الميت ( الْمَاءَ ) يعني:
المطر, ( فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ
نُخْرِجُ الْمَوْتَى ) استدل بإحياء الأرض بعد موتها
على إحياء الموتى, ( لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) قال
أبو هريرة وابن عباس: إذا مات الناس كلهم في النفخة الأولى أرسل الله عليهم مطرا
كمنيّ الرجال من ماء تحت العرش يدعى ماء الحيوان, فينبتون في قبورهم نبات الزرع
حتى إذا استكملت أجسادهم نفخ فيهم الروح, ثم يلقي عليهم النوم فينامون في قبورهم,
ثم يحشرون بالنفخة الثانية وهم يجدون طعم النوم في رءوسهم وأعينهم, فعند ذلك
يقولون: يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا [ يس-
52 ] .
وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ
يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلا نَكِدًا
كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ ( 58 )
قوله عز وجل: (
وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ ) هذا
مثل ضربه الله عز وجل للمؤمن والكافر فمثل المؤمن مثل البلد الطيب, يصيبه المطر
فيخرج نباته بإذن ربه, ( وَالَّذِي خَبُثَ ) يريد
الأرض السبخة التي ( لا يَخْرُجُ )
نباتها, ( إِلا نَكِدًا ) قرأ
أبو جعفر بفتح الكاف, وقرأ الآخرون بكسرها, أي: عسرا قليلا بعناء ومشقة.
فالأول: مثل المؤمن الذي إذا سمع
القرآن وعاه وعقله وانتفع به, والثاني: مثل الكافر الذي يسمع القرآن فلا يؤثر فيه,
كالبلد الخبيث الذي لا يتبين أثر المطر فيه (
كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ) نبينها, (
لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ )
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد
المليحي أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنبأنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن
إسماعيل حدثنا محمد بن العلاء حدثنا حماد بن أسامة عن يزيد بن عبد الله عن أبي
بردة عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « مثل ما
بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكانت منها طائفة طيبة
قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير, وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله
بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا, وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء
ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم, ومثل
من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به » .
لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا
إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ
غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ( 59 )
قَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ( 60 )
قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ
الْعَالَمِينَ ( 61 )
أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا
تَعْلَمُونَ ( 62 )
قوله تعالى: (
لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ ) وهو
نوح بن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ وهو إدريس, وهو أول نبي بعث بعد إدريس, وكان نجارا
بعثه الله إلى قومه وهو ابن خمسين سنة. وقال ابن عباس: ابن أربعين سنة. وقيل: بعث
وهو ابن مائتين وخمسين سنة . وقال مقاتل: ابن مائة سنة. وقال ابن عباس: سمي نوحا
لكثرة ما ناح على نفسه.
واختلفوا في سبب نوحه فقال
بعضهم: لدعوته على قومه بالهلاك, وقيل: لمراجعته ربه في شأن ابنه كنعان. وقيل:
لأنه مر بكلب مجذوم, فقال: اخسأ يا قبيح فأوحى الله تعالى إليه: أعبتني أم عبت
الكلب؟ ( فَقَالَ ) لقومه, ( يَا
قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ) قرأ
أبو جعفر والكسائي ( مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ) بكسر
الراء حيث كان, على نعت الإله, وافق حمزة في سورة فاطر: هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ
اللَّهِ ( فاطر- 3 ) , وقرأ الآخرون برفع الراء
على التقديم, تقديره: ما لكم غيره من إله, (
إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ ) إن لم تؤمنوا, (
عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ )
( قَالَ
الْمَلأ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ ) خطأ
وزوال عن الحق, ( مُبِينٍ ) بيّن.
( قَالَ
) نوح, ( يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي
ضَلالَةٌ ) ولم يقل ليست, لأن معنى الضلالة: الضلال أو على تقديم
الفعل, ( وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ )
(
أُبَلِّغُكُمْ ) قرأ أبو عمرو: « أبلغكم
» بالتخفيف حيث كان من الإبلاغ. لقوله: لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ
[ الأعراف- 93 ] , (
رِسَالاتِ رَبِّي ) [ لِيَعْلَمَ
أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ , وقرأ الآخرون بالتشديد من التبليغ,
لقوله تعالى: بَلِّغْ مَا أُنْـزِلَ إِلَيْكَ (
المائدة- 67 ) , رسالات ربي ] (
وَأَنْصَحُ لَكُمْ ) يقال نصحته ونصحت له, والنصح
أن يريد لغيره من الخير ما يريد لنفسه, ( وَأَعْلَمُ
مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) أن
عقابه لا يرد عن القوم المجرمين.
أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ
جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ
وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ( 63 )
فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا
الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ ( 64 )
وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ
مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ ( 65 )
قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ
وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ( 66 )
قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ
الْعَالَمِينَ ( 67 )
( أَوَعَجِبْتُمْ ) ألف
استفهام دخلت على واو العطف, ( أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ
رَبِّكُمْ ) قال ابن عباس رضي الله عنهما: موعظة. وقيل: بيان. وقيل:
رسالة. ( عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ ) عذاب
الله إن لم تؤمنوا, ( وَلِتَتَّقُوا ) أي:
لكي تتقوا الله, ( وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) لكي
ترحموا.
( فَكَذَّبُوهُ ) يعني: كذبوا
نوحا, ( فَأَنْجَيْنَاهُ ) من
الطوفان, ( وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ ) في
السفينة, ( وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ
كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ ) أي: كفارا, قال ابن عباس:
عميت قلوبهم عن معرفة الله. قال الزجاج: عموا عن الحق والإيمان, يقال رجل عم عن
الحق وأعمى في البصر. وقيل: العمي والأعمى كالخضر والأخضر. قال مقاتل: عموات عن
نـزول العذاب بهم وهو الغرق.
قوله تعالى: (
وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا ) أي: وأرسلنا إلى عاد - وهو
عاد بن عوص بن ارم بن سام بن نوح عليه السلام - , وهي عاد الأولى « أخاهم
» في النسب لا في الدين « هودا » , وهو
هود بن عبد الله بن رباح بن الجلود بن عاد بن عوص. وقال ابن إسحاق: هو بن شالخ بن
ارفخشذ بن سام بن نوح, ( قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا
اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ ) أفلا تخافون
نقمته؟
( قَالَ الْمَلأ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ ) يا
هود, ( فِي سَفَاهَةٍ ) في حمق
وجهالة, قال ابن عباس رضي الله عنهما: تدعونا إلى دين لا نعرفه, (
وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ) أنك
رسول الله إلينا.
( قَالَ ) هود, ( يَا
قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ )
أُبَلِّغُكُمْ
رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ ( 68 ) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ
جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ
وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي
الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( 69 ) قَالُوا أَجِئْتَنَا
لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا
بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ( 70 )
قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي
فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَـزَّلَ اللَّهُ بِهَا
مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ( 71 ) فَأَنْجَيْنَاهُ
وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا
بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ ( 72 )
( أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ
رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ ) ناصح أدعوكم إلى التوبة أمين على الرسالة. قال الكلبي: كنت
فيكم قبل اليوم أمينا.
( أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ
عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ ) يعني
نفسه, (
لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ ) يعني في الأرض, ( مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ ) أي: من بعد إهلاكهم, ( وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ
بَسْطَةً ) أي:
طولا وقوة. قال الكلبي والسدي: كانت قامة الطويل منهم مائة ذراع, وقامة القصير
منهم ستون ذراعا. وقال أبو حمزة الثمالي: سبعون ذراعا. وعن ابن عباس رضي الله
عنهما: ثمانون ذراعا. وقال مقاتل: كان طول كل رجل اثني عشر ذراعا. وقال وهب: كان
رأس أحدهم مثل القبة العظيمة وكان عين الرجل تفرخ فيها الضباع, وكذلك مناخرهم. ( فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ ) نعم الله, واحدها إليَّ وآلاء
مثل مِعَيّ وأمعاء, وقفا وأقفاء, ونظيرها: آنَاءَ اللَّيْلِ ( الزمر- 9 ) , واحدها أنا وآناء, ( لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )
( قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ
مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا ) من
الأصنام, فأتنا بما تعدنا , من العذاب, ( إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ )
( قَالَ ) هود, ( قَدْ وَقَعَ ) وجب ونـزل, ( عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ
رِجْسٌ ) أي
عذاب, والسين مبدلة من الزاي, (
وَغَضَبٌ ) أي:
سخط, (
أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا ) وضعتموها, ( أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ ) قال أهل التفسير: كانت لهم أصنام يعبدونها سموها أسماء
مختلفة, ( مَا
نَـزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ ) حجة وبرهان, ( فَانْتَظِرُوا ) نـزول العذاب, ( إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ )
( فَأَنْجَيْنَاهُ ) يعني هودا عند نـزول العذاب,
(
وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا
بِآيَاتِنَا ) أي:
استأصلناهم وأهلكناهم عن آخرهم, ( وَمَا
كَانُوا مُؤْمِنِينَ )
وكانت
قصة عاد على ما ذكر محمد بن إسحاق وغيره: أنهم كانوا قوما ينـزلون اليمن وكانت
مساكنهم بالأحقاف, وهي رمال بين عمان وحضرموت, وكانوا قد فشوا في الأرض كلها
وقهروا أهلها بفضل قوتهم التي آتاهم الله عز وجل, وكانوا أصحاب أوثان يعبدونها,
صنم يقال له صدى, وصنم يقال له صمود, وصنم يقال له الهباء, فبعث الله إليهم هودا
نبيا, وهو من أوسطهم نسبا وأفضلهم حسبا, فأمرهم أن يوحدوا الله ويكفوا عن ظلم
الناس ولم يأمرهم بغير ذلك, فكذبوه فقالوا من أشد منا قوة فبنوا المصانع وبطشوا
بطشة الجبارين, فلما فعلوا ذلك أمسك الله عنهم المطر ثلاث سنين حتى جهدهم ذلك.
وكان
الناس في ذلك الزمان إذا نـزل بهم بلاء فطلبوا الفرج كانت طلبتهم إلى الله عز وجل
عند بيته الحرام بمكة مسلمهم ومشركهم, فيجتمع بمكة ناس كثير شتى, مختلفة أديانهم
وكلهم معظّم لمكة, وأهل مكة يومئذ العماليق سموا عماليق, لأن أباهم عمليق بن لاذا
بن سام بن نوح, وكان سيد العماليق إذ ذاك بمكة رجل يقال له معاوية بن بكر وكانت أم
معاوية كلهدة بنت الخيبري رجل من عاد, فلما قحط المطر عن عاد وجهدوا قالوا جهزوا
وافدا منكم إلى مكة فليستسقوا لكم, فبعثوا قيل بن عنـز ولقيم بن هزال من هزيل,
وعقيل بن صندين بن عاد الأكبر, ومرثد بن سعد بن عفير وكان مسلما يكتم إسلامه,
وجلهمة بن الخيبري خال معاوية بن بكر, ثم بعثوا لقمان بن عاد الأصغر بن صندين بن
عاد الأكبر, فانطلق كل رجل من هؤلاء ومعه رهط من قومه حتى بلغ عدد وفدهم سبعين رجلا.
فلما
قدموا مكة نـزلوا على معاوية بن بكر وهو بظاهر مكة خارجا من الحرم, فأنـزلهم
وأكرمهم وكانوا أخواله وأصهاره فأقاموا عنده شهرا يشربون الخمر وتغنيهم الجرادتان,
قينتان لمعاوية بن بكر, وكان مسيرهم شهرا ومقامهم شهرا فلما رأى معاوية بن بكر طول
مقامهم وقد بعثهم قومهم يتغوثون بهم من البلاء الذي أصابهم شق ذلك عليه, وقال هلك
أخوالي وأصهاري وهؤلاء مقيمون عندي وهم ضيفي, والله ما أدري كيف أصنع بهم, أستحي
أن آمرهم بالخروج إلى ما بعثوا إليه, فيظنون أنه ضيق مني بمقامهم عندي, وقد هلك من
وراءهم من قومهم جهدا وعطشا, فشكا ذلك من أمرهم إلى قينتيه الجرادتين, فقالتا: قل
شعرا نغنيهم به, لا يدرون من قاله, لعل ذلك أن يحركهم, فقال معاوية بن بكر:
ألا يـا
قيــل ويحـك قـــم فهينم لعــل اللــه يسـقينـا غمـامــا
فيســقي
أرض عـــاد إن عــادا قـــد أمســوا لا يبينـون الكلامـا
مــن العطش
الشــديد فليس نرجـو بـــه الشـيخ الكبـير ولا الغلامــا
وقــد
كـانـت نسـاؤهـم بخـيـر فقـــد أمســـت نسـاؤهم أيـامى
وإن
الوحـــش تـأتيهـم جهــارا فــلا تخشـــى لعـادي سـهـاما
وأنتـــم
هاهنــا فيمــا اشـتهيتم نهــاركمـو وليلكمــو التمامـــا
فقبـح
وفـدكـم مـن وفــد قــوم ولا لقـــوا التحيـــة والســلاما
فلما
غنّتهم الجرادتان هذا قال بعضهم لبعض: يا قوم إنما بعثكم قومكم يتغوثون بكم من
البلاء الذي نـزل بهم, وقد أبطأتم عليهم, فادخلوا هذا الحرم فاستسقوا لقومكم, فقال
مرثد بن سعد بن عفير, وكان قد آمن بهود سرا: إنكم والله لا تُسقون بدعائكم, ولكن
إن أطعتم نبيكم وأنبتم إلى ربكم سقيتم, فأظهر إسلامه عند ذلك وقال:
عصــت
عــاد رسـولهم فأمسـوا عطاشــا مــا تبلهــم السـمـاء
لهــم
صنــم يقــال لـه صمـود يقابلـــه صــــداء والهبـــاء
فبصرنــا
الرسـول سـبيل رشــد فأبصرنــا الهــدى وجـلى العمـاء
وإن
إلــه هـــود هــو إلهــي عــلى اللــه التـوكـل والرجــاء
فقالوا
لمعاوية بن بكر: احبس عنا مرثد بن سعد فلا يقدمن معنا مكة, فإنه قد اتبع دين هود,
وترك ديننا, ثم خرجوا إلى مكة يستسقون لعاد, فلما ولوا إلى مكة خرج مرثد بن سعد من
منـزل معاوية حتى أدركهم قبل أن يدعوا الله بشيء مما خرجوا له, فلما انتهى إليهم
قام يدعو الله, وبها وفد عاد يدعون, فقال: اللهم أعطني سؤلي وحدي ولا تدخلني في
شيء مما يدعوك به وفد عاد, وكان قِيْلُ بن عنـز رأس وفد عاد, فقال وفد عاد: اللهم
أعط قيلا ما سألك واجعل سؤلنا مع سؤله.
وكان قد
تخلف عن وفد عاد - حين دعوا - لقمان بن عاد, وكان سيد عاد, حتى إذا فرغوا من
دعوتهم قام, فقال: اللهم إني جئتك وحدي في حاجتي فأعطني سؤلي, وسأل الله طول العمر
فعمر عمر سبعة أنسر, وقال قِيْلُ بن عنـز حين دعا: يا إلهنا إن كان هود صادقا
فاسقنا فإنا قد هلكنا, فأنشأ الله سحائب ثلاثا بيضاء وحمراء وسوداء, ثم ناداه مناد
من السحايب [ يا
قيل ] اختر
لنفسك وقومك من هذه السحائب [ ما
شئت ] فقال
قيل: اخترت السحابة السوداء فإنها أكثر السحاب ماء فناداه مناد: اخترت رمادا رمددا
لا تبقي من آل عاد أحدا, وساق الله سبحانه وتعالى السحابة السوداء التي اختارها
قيل بما فيها من النقمة إلى عاد حتى خرجت عليهم من واد لهم يقال له « المغيث » فلما رأوها استبشروا وقالوا:
هذا عارض ممطرنا, يقول الله تعالى: بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا
عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا ( الأحقاف- 24- 25 ) أي: كل شيء مرت به.
وكان أول
من أبصر ما فيها وعرف أنها ريح مهلكة امرأة من عاد يقال لها مهدد, فلما تبينت ما
فيها صاحت ثم صعقت, فلما أفاقت قالوا لها: ماذا رأيت؟ قالت: رأيت الريح فيها كشهب
النار أمامها رجال يقودونها, فسخرها الله عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما, فلم
تدع من آل عاد أحدا إلا هلك, واعتزل هود ومن معه من المؤمنين في حظيرة ما يصيبه هو
ومن معه من الريح إلا ما تلين عليه الجلود وتلذ الأنفس, وإنها لتمر من عاد بالظعن
فتحملهم بين السماء والأرض وتدمغهم بالحجارة, وخرج وفد عاد من مكة حتى مروا
بمعاوية بن بكر فنـزلوا عليها فبينما هم عنده إذا أقبل رجل على ناقة في ليلة مقمرة
مساء ثالثة من مصاب عاد فأخبرهم الخبر, فقالوا له فأين فارقت هودا وأصحابه؟ فقال:
فارقتهم بساحل البحر فكأنهم شكوا فيما حدثهم به, فقالت هزيلة بنت بكر: صدق ورب
مكة.
وذكروا
أن مرثد بن سعد ولقمان بن عاد, وقيل بن عنـز حين دعوا بمكة, قيل لهم: قد أعطيتكم
مُنَاكم فاختاروا لأنفسكم, إلا أنه لا سبيل إلى الخلود, ولا بد من الموت, فقال
مرثد: اللهم أعطني صدقا وبرا فأعطي ذلك, وقال لقمان: أعطني يا رب عمرا, فقيل له:
اختر, فاختار عمر سبعة أنسر, فكان يأخذ الفرخ حين يخرج من بيضته فيأخذ الذكر منها
لقوته, حتى إذا مات أخذ غيره فلم يزل يفعل ذلك حتى أتى على السابع, وكان كل نسر
يعيش ثمانين سنة, وكان آخرها لبد فلما مات لبد مات لقمان معه.
وأما قيل
فإنه قال: أختار أن يصيبني ما أصاب قومي فقيل له: إن الهلاك, فقال: لا أبالي لا
حاجة لي في البقاء بعدهم, فأصابه الذي أصاب عادا من العذاب فهلك.
قال
السدي: بعث الله على عاد الريح العقيم فلما دنت منهم نظروا إلى الإبل والرجال,
تطير بهم الريح بين السماء والأرض, فلما رأواها تبادروا البيوت فدخلوها وأغلقوا
أبوابهم, فجاءت الريح فقلعت أبوابهم فدخلت عليهم فأهلكتهم فيها, ثم أخرجتهم من
البيوت, فلما أهلكهم الله أرسل عليهم طيرا سوداء فنقلتهم إلى البحر فألقتهم فيه.
وروي أن
الله عز وجل أمر الريح فأهالت عليهم الرمال, فكانوا تحت الرمل سبع ليال وثمانية
أيام لهم أنين تحت الرمل, ثم أمر الريح فكشفت عنهم الرمال فاحتملتهم فرمت بهم في
البحر ولم تخرج ريح قط إلا بمكيال إلا يومئذ فإنها عتت على الخزنة فغلبتهم فلم
يعلموا كم كان مكيالها.
وفي
الحديث: « إنها
خرجت عليهم على قدر خرق الخاتم » وروي عن
علي رضي الله عنه: أن قبر هود عليه السلام بحضرموت في كثيب أحمر. وقال عبد الرحمن
بن سابط: بين الركن والمقام وزمزم قبر تسعة وتسعين نبيا, وإن قبر هود وشعيب وصالح
وإسماعيل عليهم السلام في تلك البقعة. ويروى: أن النبي من الأنبياء إذا هلك قومه
جاء هو والصالحون معه إلى مكة يعبدون الله فيها حتى يموتوا.
وَإِلَى
ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ
إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ
اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا
بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 73 )
قوله عز
وجل: (
وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا ) وهو ثمود بن عابر بن أرم بن سام بن نوح, وأراد هاهنا
القبيلة.
قال أبو عمرو بن العلاء: سميت ثمود لقلة مائها, والثمد: الماء القليل, وكانت مساكنهم الحجر بين الحجاز والشام إلى وادي القرى ( أَخَاهُمْ صَالِحًا ) أي: أرسلنا إلى ثمود أخاهم في النسب, لا في الدين صالحا, وهو صالح بن عبيد بن آسف بن ماشيح بن عبيد بن خادر بن ثمود, ( قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ) حجة من ربكم على صدقي , ( هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ ) أضافها إليه على التفضيل والتخصيص, كما يقال بيت الله, ( لَكُمْ آيَةٌ ) نصب على الحال, ( فَذَرُوهَا تَأْكُلْ ) العشب, ( فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ ) لا تصيبوها بعقر, ( فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )
وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ
خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ
سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ
وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ ( 74 )
قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا
لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ
قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ ( 75 )
(
وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ ) أسكنكم
وأنـزلكم, ( فِي الأرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا
وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا ) كانوا
ينقبون في الجبال البيوت ففي الصيف يسكنون بيوت الطين, وفي الشتاء بيوت الجبال.
وقيل: كانوا ينحتون البيوت في الجبل لأن بيوت الطين ما كانت تبقى مدة أعمارهم لطول
أعمارهم, ( فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأرْضِ
مُفْسِدِينَ ) والعيث: أشد الفساد.
( قَالَ الْمَلأ ) قرأ
ابن عامر: ( وقال الملأ ) بالواو
( الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ) يعني
الأشراف والقادة الذين تعظموا عن الإيمان بصالح, (
لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا ) يعني الأتباع, (
لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ ) يعني: قال الكفار للمؤمنين, (
أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ ) إليكم,
( قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ )
قَالَ الَّذِينَ
اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ( 76 )
فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ
ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ( 77 )
فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ( 78 )
فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي
وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ ( 79 )
( قَالَ
الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ )
جاحدون.
(
فَعَقَرُوا النَّاقَةَ ) قال الأزهري: العقر هو قطع
عرقوب البعير, ثم جعل النحر عقرا لأن ناحر البعير يعقره ثم ينحره, (
وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ ) والعتو
الغلو في الباطل, يقال: عتا يعتو عتوا: إذا استكبروا, والمعنى: عصوا الله وتركوا
أمره في الناقة وكذبوا نبيهم. ( وَقَالُوا يَا صَالِحُ
ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا ) أي: من العذاب, ( إِنْ
كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ )
( فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ ) وهي
زلزلة الأرض وحركتها وأهلكوا بالصيحة والرجفة, (
فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ ) قيل: أراد الديار. وقيل: أراد
في أرضهم وبلدتهم, ولذلك وحد الدار, (
جَاثِمِينَ ) خامدين ميتين. قيل: سقطوا على وجوههم موتى عن آخرهم.
(
فَتَوَلَّى ) أعرض صالح, (
عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ
لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ ) فإن
قيل: كيف خاطبهم بقوله لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم بعدما هلكوا بالرجفة؟
قيل: كما خاطب النبي صلى الله
عليه وسلم الكفار من قتلى بدر حين ألقاهم في القليب, فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء
آبائهم: أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا, فهل
وجدتم ما وعد ربكم حقا؟ فقال عمر: يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح لها؟
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [ « والذي
نفس محمد بيده » ] ما
أنتم بأسمع لما أقول منهم, ولكن لا يجيبون « . »
وقيل: خاطبهم ليكون عبرة لمن
خلفهم.
وقيل: في الآية تقديم وتأخير
تقديرها: فتولى عنهم, وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي فأخذتهم الرجفة.
وكان قصة ثمود على ما ذكره محمد
بن إسحاق ووهب وغيرهما: أن عاد لما هلكت وانقضى أمرها عمرت ثمود بعدها, واستخلفوا
في الأرض فدخلوا فيها وكثروا وعمروا, حتى جعل أحدهم يبني المسكن من المدر فينهدم
والرجل حي, فلما رأوا ذلك اتخذوا من الجبال بيوتا, وكانوا في سعة من معاشهم فعثوا
وأفسدوا في الأرض وعبدوا غير الله, فبعث الله إليهم صالحا وكانوا قوما عربا, وكان
صالح من أوسطهم نسبا وأفضلهم حسبا وموضعا, فبعثه الله إليهم غلاما شابا, فدعاهم
إلى الله حتى شمط وكبر لا يتبعه منهم إلا قليل مستضعفون, فلما ألح عليهم صالح
بالدعاء والتبليغ وأكثر لهم التحذير والتخويف سألوه أن يريهم آية تكون مصداقا لما
يقول, فقال لهم: أيّ آية تريدون؟ قالوا: تخرج معنا غدا إلى عيدنا, وكان لهم عيد
يخرجون فيه بأصنامهم في يوم معلوم من السنة فتدعو إلهك وندعو آلهتنا, فإن استجيب
لك اتبعناك وإن استجيب لنا اتبعتنا, فقال لهم صالح: نعم, فخرجوا بأوثانهم إلى
عيدهم, وخرج صالح معهم فدعوا أوثانهم, وسألوها أن لا يستجاب لصالح في شيء مما يدعو
به, ثم قال جندع بن عمرو بن حوّاس وهو يومئذ سيد ثمود: يا صالح أخرج لنا من هذه
الصخرة - لصخرة منفردة في ناحية من الحجر يقال لها الكاثبة - ناقة مخترجة جوفاء
وبراء عشراء - والمخترجة ما شاكل البخت من الإبل - , فإن فعلت صدقناك وآمنا بك,
فأخذ عليهم صالح مواثيقهم لئن فعلت لتصدقني ولتؤمنن بي, قالوا: نعم, فصلى صالح
ركعتين ودعا ربه فتمخضت الصخرة تمخض النتوج بولدها, ثم تحركت الهضبة فانصدعت عن
ناقة عشراء جوفاء وبراء كما وصفوا لا يعلم ما بين جنبيها عظما إلا الله, وهم
ينظرون ثم نتجت سقيا مثلها في العظم, فآمن به جندع بن عمرو ورهط من قومه, وأراد
أشراف ثمود أن يؤمنوا به ويصدقوه فنهاهم ذؤاب بن عمرو بن لبيد والحباب صاحب
أوثانهم ورباب بن صمغر وكان كاهنهم وكانوا من أشراف ثمود.
فلما خرجت الناقة قال لهم صالح:
هذه ناقة الله, لها شرب ولكم شرب يوم معلوم, فمكثت الناقة ومعها سقيها في أرض
ثمود, ترعى الشجر وتشرب الماء, فكانت ترد الماء غبا, فإذا كان يومها وضعت رأسها في
بئر في الحجر يقال لها بئر الناقة فما ترفع رأسها حتى تشرب كل ماء فيها, فلا تدع
قطرة, ثم ترفع رأسها فتنفشخ حتى تفحج لهم فيحلبون ما شاءوا من لبن, فيشربون
ويدخرون, حتى يملئوا أوانيهم كلها ثم تصدر من غير الفج الذي وردت منه لا تقدر أن
تصدر من حيث ترد, يضيق عنها, حتى إذا كان الغد كان يومهم فيشربون ما شاءوا من
الماء ويدخرون ما شاءوا ليوم الناقة, فهم من ذلك في سعة ودعة, وكانت الناقة
تُصيِّف إذا كان الحر بظهر الوادي, فتهرب منها المواشي, أغنامهم وبقرهم وإبلهم,
فتهبط إلى بطن الوادي في حره وجدبه, وتشتو ببطن الوادي إذا كان الشتاء, فتهرب
مواشيهم إلى [ ظهر ] الوادي في البرد والجدب فأضر
ذلك بمواشيهم للبلاء والاختبار, فكبر ذلك عليهم فعتوا عن أمر ربهم وحملهم ذلك على
عقر الناقة, فأجمعوا على عقرها.
وكانت امرأتان من ثمود إحداهما
يقال لها عنيزة بنت غنم بن مجلز تكنى بأم غنم, وكانت امرأة ذؤاب بن عمرو وكانت
عجوزا مسنة, وكانت ذات بنات حسان وذات مال من إبل وبقر وغنم, وامرأة أخرى يقال لها
صدوف بنت المحيا وكانت جميلة غنية ذات مواشي كثيرة, وكانتا من أشد الناس عداوة
لصالح وكانتا تحبان عقر الناقة [ لما أضرت ] بهما
من مواشيهما فتحيلتا في عقر الناقة فدعت صدوف رجلا من ثمود يقال له الحباب لعقر
الناقة, وعرضت عليه نفسها إن هو فعل فأبى عليها فدعت ابن عم لها يقال له مصدع بن
مهرج بن المحيا, وجعلت له نفسها على أن يعقر الناقة وكانت من أحسن الناس وأكثرهم
مالا فأجابها إلى ذلك ودعت عنيزة بنت غنم قدار بن سالف, وكان رجلا أحمر أزرق
قصيرا, يزعمون أنه كان لزانية, ولم يكن لسالف, ولكنه ولد على فراش سالف, فقالت:
أعطيك أيّ بناتي شئت على أن تعقر الناقة, وكان قدار عزيزا منيعا في قومه.
أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا
أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا موسى بن
إسماعيل حدثنا وهيب حدثنا هشام عن أبيه أنه أخبره عبد الله بن زمعة أنه سمع النبي
صلى الله عليه وسلم يخطب وذكر الناقة والذي عقرها, فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (
الشمس- 12 ) , انبعث لها رجل عزيز عارم منيع في قومه مثل أبي زمعة .
رجعنا إلى القصة, قالوا: فانطلق
قدار بن سالف ومصدع بن مهرج فاستغويا غواة ثمود فاتبعهم سبعة نفر فكانوا تسعة رهط,
فانطلق قدار وصدع وأصحابهما فرصدوا الناقة حين صدرت عن الماء, وقد كمن لها قدار في
أصل صخرة على طريقها, وكمن لها مصدع في طريق آخر فمرت على مصدع, فرماها بسهم
فانتظم به في عضلة ساقها, وخرجت بنت غنم عنيزة, وأمرت ابنتها, وكانت من أحسن
الناس, فأسفرت لقدار ثم ذمرته فشد على الناقة بالسيف فكشفت عرقوبها فخرت ورغت رغاة
واحدة تحذر سقبها ثم طعن في لبتها فنحرها, وخرج أهل البلدة واقتسموا لحمها وطبخوه,
فلما رأى سقبها ذلك انطلق حتى أتى جبلا منيفا يقال له: صنو, وقيل: اسمه قارة, وأتى
صالح فقيل له: أدرك الناقة فقد عقرت, فأقبل وخرجوا يتلقونه ويعتذرون إليه: يا نبي
الله إنما عقرها فلان ولا ذنب لنا, فقال صالح: انظروا هل تدركون فصيلها, فإن
أدركتموه فعسى أن يُرْفَع عنكم العذاب, فخرجوا يطلبونه, فلما رأوه على الجبل ذهبوا
ليأخذوه, فأوحى الله تعالى إلى الجبل فتطاول في السماء حتى ما تناله الطير.
وجاء صالح فلما رآه الفصيل بكى
حتى سالت دموعه, ثم رغا ثلاثا, وانفجرت الصخرة فدخلها. فقال صالح لكل رغوة أجل يوم
فتمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب.
وقال ابن إسحاق: اتبع السقب
أربعة نفر من التسعة الذين عقروا الناقة, وفيهم مصدع بن مهرج وأخوه ذاب بن مهرج,
فرماه مصدع بسهم فانتظم قلبه, ثم جر برجله فأنـزله, فألقوا لحمه مع لحم أمه, وقال
لهم صالح: انتهكتم حرمة الله فأبشروا بعذاب الله ونقمته, قالوا وهم يهزءون به:
ومتى ذلك يا صالح؟ وما آية ذلك؟ وكانوا يسمون الأيام فيهم: الأحد أول, والاثنين
أهون, والثلاثاء دبار والأربعاء جبار, والخميس مؤنس والجمعة العروبة, والسبت شيار,
وكانوا عقروا الناقة يوم الأربعاء, فقال لهم صالح حين قالوا ذلك: تصبحون غداة يوم
مؤنس ووجوهكم مصفرة, ثم تصبحون يوم العروبة ووجوهكم محمرة, ثم تصبحون يوم شيار
ووجوهكم مسودة, ثم يصبحكم العذاب يوم أول.
فلما قال لهم صالح ذلك قال
التسعة الذين عقروا الناقة: هلم فلنقتل صالحا فإن كان صادقا عجلناه قبلنا, وإن كان
كاذبا قد كنا ألحقناه بناقته, فأتوه ليلا ليبيتوه في أهله, فدمغتهم الملائكة
بالحجارة, فلما أبطأوا على أصحابهم أتوا منـزل صالح فوجدوهم قد رضخوا بالحجارة,
فقالوا لصالح: أنت قتلتهم, ثم هموا به فقامت عشيرته دونه ولبسوا السلاح, وقالوا
لهم: والله لا تقتلونه أبدا فقد وعدكم أن العذاب نازل بكم بعد ثلاث, فإن كان صادقا
لم تزيدوا ربكم عليكم إلا غضبا وإن كان كاذبا فأنتم من وراء ما تريدون, فانصرفوا
عنهم ليلتهم فأصبحوا يوم الخميس ووجوههم مصفرة كأنما طليت بالخلوق, صغيرهم
وكبيرهم, ذكرهم وأنثاهم, فأيقنوا بالعذاب وعرفوا أن صالحا قد صدقهم, فطلبوه
ليقتلوه, وخرج صالح هاربا منهم حتى جاء إلى بطن من ثمود يقال لهم بني غنم, فنـزل
على سيدهم, رجل يقال له نفيل ويكنى بأبي هدب, وهو مشرك فغيبه, ولم يقدروا عليه,
فغدوا على أصحاب صالح يعذبونهم ليدلوهم عليه, فقال رجل من أصحاب صالح يقال له مبدع
بن هرم: يا نبي الله إنهم ليعذبوننا لندلهم عليك, أفندلهم؟ قال: نعم, فدلهم عليه,
وأتوا أبا هدب فكلموه في ذلك, فقال: نعم عندي صالح وليس لكم عليه سبيل, فأعرضوا
عنه وتركوه وشغلهم عنه ما أنـزل الله بهم من عذابه, فجعل بعضهم يخبر بعضا بما يرون
في وجوههم فلما أمسوا صاحوا بأجمعهم ألا قد مضى يوم من الأجل, فلما أصبحوا اليوم
الثاني إذا وجوههم محمرة كأنما خضبت بالدماء فصاحوا وضجوا وبكوا, وعرفوا أنه
العذاب, فلما أمسوا صاحوا بأجمعهم: ألا قد مضى يومان من الأجل وحضركم العذاب, فلما
أصبحوا اليوم الثالث إذا وجوههم مسودة كأنما طليت بالقار, فصاحوا جميعا: ألا قد
حضركم العذاب.
فلما كان ليلة الأحد خرج صالح
من بين أظهرهم ومن أسلم معه إلى الشام, فنـزل رملة فلسطين, فلما أصبح القوم تكفنوا
وتحنطوا وألقوا أنفسهم إلى الأرض يقلبون أبصارهم إلى السماء مرة وإلى الأرض مرة,
لا يدرون من أين يأتيهم العذاب, فلما اشتد الضحى من يوم الأحد أتتهم صيحة من
السماء فيها صوت كل صاعقة, وصت كل شيء له صوت في الأرض, فقطعت قلوبهم في صدورهم,
فلم يبق منهم صغير ولا كبير إلا هلك كما قال الله تعالى: «
فأصبحوا في دارهم جاثمين » ُ إلا جارية مقعدة يقال لها
ذريعة بنت سالف, وكانت كافرة شديدة الكفر والعداوة لصالح, فأطلق الله رجليها بعدما
عاينت العذاب, فخرجت كأسرع ما يرى شيء قط حتى أتت قزح, وهو واد القرى, فأخبرتهم
بما عاينته من العذاب وما أصاب ثمود, ثم استقت من الماء فسقيت فلما شربت ماتت.
وذكر السدي في عقر الناقة وجها
آخر قال: فأوحى الله تعالى إلى صالح عليه السلام أن قومك سيعقرون ناقتك, فقال لهم
ذلك فقالوا: ما كنا نفعل, فقال صالح: إنه يولد في شهركم هذا غلام يعقرها فيكون
هلاككم على يديه, فقالوا: لا يولد لنا ولد في هذا الشهر إلا قتلناه, قال: فولد
لتسعة منهم في ذلك الشهر فذبحوا أبناءهم ثم ولد للعاشر فأبى أن يذبح ابنه, وكان لم
يولد له قبل ذلك, وكان ابنه أزرق أحمر فنبت نباتا سريعا وكان إذا مر بالتسعة ورأوه
قالوا: لو كان أبناؤنا أحياء لكانوا مثل هذا, فغضب التسعة على صالح لأنه كان سبب
قتل أولادهم, فتقاسموا بالله لنبيتنه وأهله, قالوا: نخرج ليرى الناس أنا قد خرجنا
إلى سفر فنأتي الغار فنكون فيه, حتى إذا كان الليل وخرج صالح إلى مسجده أتيناه
فقتلناه, ثم رجعنا إلى الغار فكنا فيه فانصرفنا إلى رحلنا فقلنا: ما شهدنا مهلك
أهله, وإنا لصادقون, فيصدقوننا, يظنون أنا قد خرجنا إلى سفر. وكان صالح لا ينام
معهم في القرية, وكان يبيت في مسجد يقال له مسجد صالح, فإذا أصبح أتاهم فوعظهم
وذكّرهم وإذا أمسى خرج إلى المسجد فبات فيه فانطلقوا فدخلوا الغار, فسقط عليهم
الغار فقتلهم, فانطلق رجال ممن قد اطلع على ذلك منهم فإذا هم رضخ, فرجعوا يصيحون
في القرية: أي عباد الله ما رضي صالح أن أمرهم بقتل أولادهم حتى قتلهم, فاجتمع أهل
القرية على عقر الناقة.
وقال ابن إسحاق: كان تقاسم
التسعة على تبييت صالح بعد عقرهم الناقة كما ذكرنا.
قال السدي وغيره: فلما ولد ابن
العاشر, يعني: قذار, شب في اليوم شباب غيره في الجمعة, وشب في شهر شباب غيره في
السنة, فلما كبر جلس مع أناس يصيبون من الشراب, فأرادوا ماء يمزجون به شرابهم, وكان
ذلك اليوم شرب الناقة, فوجدوا الماء قد شربته الناقة, فاشتد ذلك عليهم وقالوا: ما
نصنع نحن باللبن؟ لو كنا نأخذ هذا الماء الذي تشربه هذه الناقة فنسقيه أنعامنا
وحروثنا كان خيرا لنا, فقال ابن العاشر: هل لكم في أن أعقرها لكم؟ قالوا: نعم,
فعقروها.
أخبرنا عبد الواحد المليحي
أنبانا أحمد بن عبد الله النعيمي أنبأنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ثنا
محمد بن مسكين ثنا يحيى بن حسان بن حيان أبو زكريا ثنا سليمان عن عبد الله بن
دينار عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نـزل الحجر, في غزوة تبوك,
أمرهم أن لا يشربوا من بئر بها ولا يستقوا منها, فقالوا: قد عجنا منها واستقينا,
فأمرهم أن يطرحوا ذلك العجين ويهريقوا ذلك الماء « . وقال
نافع عن ابن عمر: فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهريقوا ما استقوا من
آبارها وأن يعلفوا الإبل العجين, وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت تردها
الناقة . »
وروى أبو الزبير عن جابر قال:
لما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجر في غزوة تبوك قال لأصحابه: لا يدخلن
أحد منكم القرية ولا تشربوا من مائهم ولا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا
باكين أن يصيبكم مثل ما أصابهم, ثم قال: أما بعد فلا تسألوا رسولكم الآيات, هؤلاء
قوم صالح سألوا رسولهم, فبعث الله الناقة فكانت ترد من هذا الفج وتصدر من هذا الفج
وتشرب ماءهم يوم ورودها, وأراهم مرتقى الفصيل من القارة, فعتوا عن أمر ربهم
وعقروها, فأهلك الله تعالى من تحت أديم السماء منهم في مشارق الأرض ومغاربها إلا
رجلا واحدا يقال له أبو رُغَال, وهو أبو ثقيف كان في حرم الله, فمنعه حرم الله من
عذاب الله, فلما خرج أصابه ما أصاب قومه فدفن ودفن معه غصن من ذهب, وأراهم قبر أبي
رغال, فنـزل القوم فابتدروا بأسيافهم وحفروا عنه واستخرجوا ذلك الغصن .
وكانت الفرقة المؤمنة من قوم
صالح أربعة آلاف خرج بهم صالح إلى حضرموت, فلما دخلوها مات صالح فسمى حضرموت ثم
بنى الأربعة آلاف مدينة يقال لها حاصوراء, قال قوم من أهل العلم توفي بمكة, وهو
ابن ثمان وخمسين سنة, وأقام في قومه عشرين سنة.
وَلُوطًا إِذْ قَالَ
لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ
الْعَالَمِينَ ( 80 )
إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ
قَوْمٌ مُسْرِفُونَ ( 81 )
قوله تعالى: (
وَلُوطًا ) أي: وأرسلنا لوطا. وقيل: معناه واذكر لوطا. وهو لوط بن
هاران بن تارخ ابن أخي إبراهيم, ( إِذْ
قَالَ لِقَوْمِهِ ) وهم أهل سدوم وذلك أن لوطا
شخص من أرض بابل [ سافر ] مع عمه
إبراهيم عليه السلام مؤمنا به مهاجرا معه إلى الشام, فنـزل إبراهيم فلسطين وأنـزل
لوطا الأردن, فأرسله الله عز وجل إلى أهل سدوم فقال لهم, ( أَتَأْتُونَ
الْفَاحِشَةَ ) يعني: إتيان الذكران, ( مَا
سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ ) قال
عمرو بن دينار ما يرى ذكر على ذكر في الدنيا إلا كان من قوم لوط.
( إِنَّكُمْ ) قرأ
أهل المدينة وحفص ( إنكم ) بكسر
الألف على الخبر, وقرأ الآخرون على الاستئناف, (
لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ ) في أدبارهم, (
شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ ) فسَّر تلك الفاحشة يعني أدبار
الرجال أشهى عندكم من فروج النساء, ( بَلْ
أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ ) مجاوزون الحلال إلى الحرام.
قال محمد بن إسحاق: كانت لهم ثمار وقرى لم يكن في الأرض مثلها
فقصدهم الناس فآذوهم, فعرض لهم إبليس في صورة شيخ, فقال: إن فعلتم بهم كذا نجوتم,
فأبوا فلما ألح عليهم الناس قصدوهم فأصابوهم غلمانا صباحا, فأخذوهم وقهروهم على
أنفسهم فأخبثوا واستحكم ذلك فيهم. قال الحسن: كانوا لا ينكحون إلا الغرباء.
وقال الكلبي: إن أول من عمل عمل قوم لوط إبليس, لأن بلادهم
أخصبت فانتجعها أهل البلدان, أي: فتمثل لهم إبليس في صورة شاب, ثم دعا إلى دبره,
فنكح في دبره, فأمر الله تعالى السماء أن تحصبهم وأمر الأرض أن تخسف بهم.
وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ
إِلا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ
يَتَطَهَّرُونَ ( 82 )
فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ( 83 )
وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ
الْمُجْرِمِينَ ( 84 )
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا
لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ
فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا
تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ ( 85 )
قوله عز وجل: ( وَمَا
كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا ) قال
بعضهم لبعض: ( أَخْرِجُوهُمْ ) يعني:
لوطا وأهل دينه, ( مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ
أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ) يتنـزهون عن أدبار الرجال.
( فَأَنْجَيْنَاهُ ) يعني:
لوطا, ( وَأَهْلَهُ )
المؤمنين, وقيل: أهله: ابنتاه, ( إِلا امْرَأَتَهُ كَانَتْ
مِنَ الْغَابِرِينَ ) يعني: الباقين في العذاب,
وقيل: معناه كانت من الباقين المعمرين, قد أتى عليها دهر طويل فهلكت مع من هلك من
قوم لوط, وإنما قال: « من الغابرين » لأنه
أراد: ممن بقي من الرجال فلما ضم ذكرها إلى ذكر الرجال قال: « من
الغابرين » .
( وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ
مَطَرًا ) يعني: حجارة من سجيل. قال وهب: الكبريت والنار, (
فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ) قال
أبو عبيدة: يقال في العذاب: أمطر, وفي الرحمة: مطر.
قوله تعالى: (
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا ) أي:
وأرسلنا إلى ولد مدين - وهو مدين بن إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام - وهم أصحاب
الأيكة: أخاهم شعيبا في النسب لا في الدين. قال عطاء: هو شعيب بن توبة بن مدين بن
إبراهيم. وقال ابن إسحاق: هو شعيب بن ميكائيل بن يسخر بن مدين بن إبراهيم, وأم
ميكائيل بنت لوط. وقيل: هو شعيب بن يثرون بن مدين وكان شعيب أعمى وكان يقال له
خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه, وكان قومه أهل كفر وبخس للمكيال والميزان.
( قَالَ
يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ
بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ) فإن قيل: ما معنى قوله تعالى:
« قد جاءتكم بينة من ربكم » ولم تكن
لهم آية؟.
قيل: قد كانت لهم آية إلا أنها
لم تذكر, وليست كل الآيات مذكورة في القرآن.
وقيل: أراد بالبينة مجيء شعيب.
(
فَأَوْفُوا الْكَيْلَ ) أتموا الكيل, (
وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ ) لا
تظلموا الناس حقوقهم ولا تنقصوهم إياها, ( وَلا
تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ) أي:
ببعث الرسل والأمر بالعدل, وكل نبي بعث إلى قوم فهو صلاحهم, ( ذَلِكُمْ
) الذي ذكرت لكم وأمرتكم به, (
خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) مصدقين
بما أقول.
وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ
صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ
وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلا فَكَثَّرَكُمْ
وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ( 86 )
( وَلا
تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ ) أي: على كل طريق, (
تُوعِدُونَ ) تهددون, ( وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ
اللَّهِ ) دين الله, ( مَنْ
آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا ) زيغا,
وقيل: تطلبون الاعوجاج في الدين والعدول عن القصد, وذلك أنهم كانوا يجلسون على
الطريق فيقولون لمن يريد الإيمان بشعيب, إن شعيب كذاب فلا يفتننك عن دينك ويتوعدون
المؤمنين بالقتل ويخوفونهم, وقال السدي: كانوا عشارين. (
وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلا فَكَثَّرَكُمْ ) فكثر
عددهم, ( وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ) أي:
آخر أمر قوم لوط.
وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ
مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا
فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ( 87 )
( وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ
مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا ) أي: إن
اختلفتم في رسالتي فصرتم فرقتين مكذبين ومصدقين, (
فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا ) بتعذيب
المكذبين وإنجاء المصدقين, ( وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ
)
قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ
اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا
مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا
كَارِهِينَ ( 88 ) قَدِ
افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ
نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلا أَنْ
يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ
تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ
خَيْرُ الْفَاتِحِينَ ( 89 )
( قَالَ
الْمَلأ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ) يعني
الرؤساء الذين تعظموا عن الإيمان به, (
لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ
لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ) لترجعن إلى ديننا الذي نحن
عليه, ( قَالَ ) شعيب (
أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ ) يعني: لو كنا, أي: وإن كنا
كارهين لذلك فتجبروننا عليه؟
( قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى
اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ
مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا ) بعد إذ
أنقذنا الله منها, ( إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ
رَبُّنَا ) يقول إلا أن يكون قد سبق لنا في علم الله ومشيئته أنا نعود
فيها فحينئذ يمضي قضاء الله فينا وينفذ حكمه علينا.
فإن قيل: ما معنى قوله: « أو
لتعودن في ملتنا » , « وما يكون
لنا أن نعود فيها » , ولم يكن شعيب قط على ملتهم
حتى يصح قولهم ترجع إلى ملتنا؟
قيل: معناه: أو لتدخلن في
ملتنا, فقال: وما كان لنا أن ندخل فيها.
وقيل: معناه إن صرنا في ملتكم.
ومعنى عاد صار.
وقيل: أراد به قوم شعيب لأنهم
كانوا كفارا فآمنوا فأجاب شعيب عنهم.
قوله تعال: (
وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ) أحاط
علمه بكل شيء, ( عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا ) فيما
توعدوننا به, ثم عاد شعيب بعدما أيس من فلاحهم فقال: (
رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا ) أي:
اقض بيننا, ( بِالْحَقِّ )
والفتاح: القاضي, ( وَأَنْتَ خَيْرُ
الْفَاتِحِينَ ) أي: الحاكمين.
وَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا
لَخَاسِرُونَ ( 90 )
فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ( 91 )
الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا
شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ ( 92 )
(
وَقَالَ الْمَلأ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا ) وتركتم
دينكم, ( إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ )
مغبونون, وقال عطاء: جاهدون. قال الضحاك: عجزة.
(
فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ ) قال الكلبي: الزلزلة, وقال
ابن عباس وغيره: فتح الله عليهم بابا من جهنم, فأرسل عليهم حرا شديدا, فأخذ
بأنفاسهم ولم ينفعهم ظل ولا ماء, فكانوا يدخلون الأسراب ليتبردوا فيها, فإذا
دخلوها وجدوها أشد حرا من الظاهر, فخرجوا هربا إلى البرية فبعث الله سحابة فيها
ريح طيبة فأظلتهم وهي الظلة, فوجدوا لها بردا ونسيما فنادى بعضهم بعضا حتى اجتمعوا
تحت السحابة, رجالهم ونساؤهم وصبيانهم, ألهبها الله عليهم نارا, ورجفت بهم الأرض
فاحترقوا كما يحترق الجراد المقلي, وصاروا رمادا.
وروي أن الله تعالى حبس عنهم
الريح سبعة أيام ثم سلط عليهم الحر. قال يزيد الجريري: سلط الله عليهم الحر سبعة
أيام ثم رفع لهم جبل من بعيد, فأتاه رجل فإذا تحته أنهار وعيون فاجتمعوا تحته كلهم
فوقع ذلك الجبل عليهم, فذلك قوله عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ ( الشعراء-
189 ) , قال قتادة: بعث الله شعيبا إلى أصحاب الأيكة وأصحاب مدين,
أما أصحاب الأيكة فأهلكوا بالظلة, وأما أصحاب مدين فأخذتهم الصيحة, صاح بهم جبريل
عليه السلام صيحة فهلكوا جميعا. قال أبو عبد الله البجلي: كان أبو جاد وهوز وحطي
وكلمن وسعفص وقرشت ملوك مدين, وكان ملكهم في زمن شعيب عليه السلام يوم الظلة كلمن,
فلما هلك قالت ابنته تبكيه:
كــلمـن قـــد هـــد ركــني
هلكــــه وســــط المحـلــه
ســـيــد القـــــوم أتـــاه
الحــتف نــارا تحـــت ظـلــه
جـــعلـت نــــارا عليـهــم
دارهـــــم كالمضمحــلــــه
وقوله تعالى: (
كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا ) أي: لم يقيموا ولم ينـزلوا
فيها, من قولهم: غنيت بالمكان إذا قمت به, والمغاني المنازل واحدها مغنى, وقيل:
كأن لم يتنعموا فيها. ( الَّذِينَ كَذَّبُوا
شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ ) لا
المؤمنين كما زعموا.
فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ
يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ
آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ ( 93 )
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلا أَخَذْنَا أَهْلَهَا
بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ( 94 )
ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ
مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا
يَشْعُرُونَ ( 95 )
( فَتَوَلَّى ) أعرض (
عَنْهُمْ ) شعيب شاخصا من بين أظهرهم حين أتاهم العذاب, (
وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ
فَكَيْفَ آسَى ) أحزن ( عَلَى
قَوْمٍ كَافِرِينَ ) والأسى: الحزن, والأسى:
الصبر.
قوله تعالى: ( وَمَا
أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ ) فيه
إضمار, يعني: فكذبوه, ( إِلا أَخَذْنَا ) عاقبنا
( أَهْلَهَا ) حين لم
يؤمنوا, ( بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ ) قال
ابن مسعود: البأساء: الفقر, والضراء: المرض, وهذا معنى قول من قال: البأساء في
المال, والضراء في النفس, وقيل: البأساء البؤس وضيق العيش, والضراء والضر سوء
الحال. وقيل: البأساء في الحرب والضراء: الجدب, (
لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ) لكي يتضرعوا فيتوبوا.
( ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ
السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ ) يعني: مكان البأساء والضراء
الحسنة, يعني: النعمة والسعة والخصب والصحة, (
حَتَّى عَفَوْا ) أي: كثروا وازدادوا, وكثرت أموالهم,
[ يقال: عفا الشعر إذا كثر. قال مجاهد: كثرت أموالهم
وأولادهم ] ( وَقَالُوا ) من
غرتهم وغفلتهم بعد ما صاروا إلى الرخاء, ( قَدْ
مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ ) أي:
هكذا كانت عادة الدهر قديما لنا ولآبائنا, ولم يكن ما مسنا من الضراء عقوبة من
الله, فكونوا على ما أنتم عليه كما كان آباؤكم فإنهم لم يتركوا دينهم لما أصابهم
من الضراء, قال الله تعالى: ( فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً ) فجأة
آمن ما كانوا ( وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) بنـزول
العذاب.
وَلَوْ
أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ
السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا
يَكْسِبُونَ ( 96 ) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى
أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ ( 97 ) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى
أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ ( 98 ) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ
اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ( 99 ) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ
يَرِثُونَ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ
بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ ( 100 )
( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ
الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ
وَالأرْضِ ) يعني:
المطر من السماء والنبات من الأرض. وأصل البركة: المواظبة على الشيء, أي: تابعنا
عليهم المطر والنبات ورفعنا عنهم القحط والجدب, ( وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا
يَكْسِبُونَ ) من
الأعمال الخبيثة.
( أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى ) الذين كفروا وكذبوا, يعني:
أهل مكة وما حولها, ( أَنْ
يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا )
عذابنا, (
بَيَاتًا ) ليلا ( وَهُمْ نَائِمُونَ )
( أَوَأَمِنَ ) قرأ أهل الحجاز والشام: « أوْ أمن » بسكون
الواو, والباقون بفتحها, (
أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى ) أي: نهارا, والضحى: صدر
النهار, ووقت انبساط الشمس, (
وَهُمْ يَلْعَبُونَ ) ساهون
لاهون.
( أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ
إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ) ومكر
الله استدراجه إياهم بما أنعم عليهم في دنياهم. وقال عطية: يعني أخذه وعذابه.
( أَوَلَمْ يَهْدِ ) قرأ قتادة ويعقوب: « نهد » بالنون على التعظيم, والباقون
بالياء على التفريدِ يعني أوَلم نبين, ( لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأرْضَ مِنْ بَعْدِ ) هلاك ( أَهْلِهَا ) الذين كانوا فيها قبلهم ( أَنْ لَوْ نَشَاءُ
أَصَبْنَاهُمْ ) أي:
أخذناهم وعاقبناهم, (
بِذُنُوبِهِمْ ) كما
عاقبنا من قبلهم, (
وَنَطْبَعُ ) نختم ( عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا
يَسْمَعُونَ )
الإيمان ولا يقبلون الموعظة, قال الزجاج: قوله ( وَنَطْبَعُ عَلَى ) منقطع عما قبله لأن قوله ( أَصَبْنَاهُمْ ) ماض و « نطبع » مستقبل.
تِلْكَ
الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ
بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ
يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ ( 101 )
وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ
لَفَاسِقِينَ ( 102
)
( تِلْكَ الْقُرَى ) أي: هذه القرى التي ذكرت لك أمرها
وأمر أهلها, يعني: قرى قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وشعيب, ( نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ
أَنْبَائِهَا )
أخبارها لما فيها من الاعتبار, (
وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ ) بالآيات والمعجزات والعجائب, ( فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا
بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ ) أي:
فما كانوا ليؤمنوا بعد رؤية المعجزات والعجائب بما كذبوا من قبل رؤيتهم تلك
العجائب, نظيره قوله عز وجل: قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ
أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (
المائدة- 102 ) .
قال ابن
عباس والسدي: يعني فما كان هؤلاء الكفار الذين أهلكناهم ليؤمنوا عند إرسال الرسل
بما كذبوا من قبل يوم أخذ ميثاقهم حين أخرجهم من ظهر آدم, فأقروا باللسان وأضمروا
التكذيب. وقال مجاهد: معناه فما كانوا لو أحييناهم بعد إهلاكهم ليؤمنوا بما كذبوا
به من قبل هلاكهم, لقوله عز وجل: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ ( الأنعام- 28 ) .
قال يمان
بن رباب: هذا على معنى أن كل نبي أنذر قومه بالعذاب فكذبوه, يقول: ما كانوا
ليؤمنوا بما كذب به أوائلهم من الأمم الخالية, بل كذبوا بما كذب أوائلهم, نظيره
قوله عز وجل: كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا
قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (
الذاريات- 52 ) . ( كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ
عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ ) أي:
كما طبع الله على قلوب الأمم الخالية التي أهلكها, كذلك يطبع الله على قلوب الكفار
الذين كتب عليهم أن لا يؤمنوا من قومك.
( وَمَا وَجَدْنَا لأكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ ) أي: وفاء بالعهد الذي عاهدهم
يوم الميثاق, حين أخرجهم من صلب آدم ( وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ ) أي: ما وجدنا أكثرهم إلا
فاسقين ناقضين للعهد.
ثُمَّ
بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ
فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ( 103 ) وَقَالَ مُوسَى يَا
فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( 104 )
قوله
تعالى: ( ثُمَّ
بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ ) أي: من
بعد نوح وهود وصالح وشعيب, ( مُوسَى
بِآيَاتِنَا )
بأدلتنا, ( إِلَى
فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا ) فجحدوا بها, والظلم: وضع الشيء في غير موضعه, فظلمهم وضع
الكفر موضع الإيمان, (
فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ) وكيف فعلنا بهم.
( وَقَالَ مُوسَى ) لما دخل على فرعون, ( يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي
رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) إليك, فقال فرعون: كذبت .
حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لا
أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ
فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ( 105
) قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ
كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ( 106 )
فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ ( 107
)
فقال موسى: (
حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ ) أي:
أنا خليق بأن لا أقول على الله إلا الحق, فتكون « على » بمعنى
الباء كما يقال: رميت بالقوس ورميت على القوس, وجئت على حال حسنة وبحال حسنة, يدل
عليه قراءة أبيّ والأعمش « حقيق بأن لا أقول على الله
إلا الحق » وقال أبو عبيدة: معناه حريص على أن لا أقول على الله إلا
الحق, وقرأ نافع ( عَلَيَّ ) بتشديد
الياء أي حق واجب علي أن لا أقول على الله إلا الحق. ( قَدْ
جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ) يعني
العصا, ( فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) أي:
أطلق عنهم وخلّهم يرجعون إلى الأرض المقدسة, وكان فرعون قد استخدمهم في الأعمال
الشاقة من ضرب اللبن ونقل التراب ونحوهما.
فقال فرعون مجيبا لموسى: ( قَالَ
إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ )
( فَأَلْقَى ) موسى (
عَصَاهُ ) من يده ( فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ
مُبِينٌ ) والثعبان: الذكر العظيم من الحيات, فإن قيل: أليس قال في موضع:
كَأَنَّهَا جَانٌّ ( النمل- 10 ) ,
والجان الحية الصغيرة؟ قيل: إنها كانت كالجان في الحركة والخفة, وهي في جثتها حية
عظيمة.
قال ابن عباس والسدي: إنه لما
ألقى العصا صارت حية عظيمة صفراء شعراء فاغرة فاها ما بين لحييها ثمانون ذراعا
وارتفعت من الأرض بقدر ميل, وقامت له على ذنبها واضعة لحيها الأسفل في الأرض
والأعلى على سور القصر, وتوجهت نحو فرعون لتأخذه, وروي أنها أخذت قبة فرعون بين
نابيها فوثب فرعون من سريره هاربا وأحدث.
قيل: أخذه البطن في ذلك اليوم
أربعمائة مرة, وحملت على الناس فانهزموا وصاحوا ومات منهم خمسة وعشرون ألفا قتل
بعضهم بعضا ودخل فرعون البيت وصاح يا موسى أنشدك بالذي أرسلك خذها وأنا أؤمن بك
وأرسل معك بني إسرائيل, فأخذها موسى فعادت عصا كما كانت ثم قال فرعون: هل معك آية
أخرى؟ قال: نعم.
وَنَـزَعَ يَدَهُ فَإِذَا
هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ ( 108 ) قَالَ
الْمَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ( 109
) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا
تَأْمُرُونَ ( 110 )
قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ( 111
) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ ( 112
)
(
وَنَـزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ ) فأدخل
يده في جيبه ثم نـزعها, وقيل: أخرجها من تحت إبطه فإذا هي بيضاء لها شعاع غلب نور
الشمس, وكان موسى آدم, ثم أدخلها جيبه فصارت كما كانت.
( قَالَ
الْمَلأ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ) يعنون
أنه ليأخذ بأعين الناس حتى يخيل إليهم العصا حية والآدم أبيض, ويُري الشيء بخلاف
ما هو به.
(
يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ ) يا معشر القبط, ( مِنْ
أَرْضِكُمْ ) مصر, ( فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ) أي:
تشيرون إليه, هذا يقوله فرعون وإن لم يذكره, وقيل: هذا من قول الملأ لفرعون
وخاصته.
(
قَالُوا ) يعني الملأ (
أَرْجِهْ ) قرأ ابن كثير وأهل البصرة وابن عامر بالهمزة وضم الهاء,
وقرأ الآخرون بلا همز, ثم نافع برواية ورش والكسائي يشبعان الهاء كسرا, ويسكنها
عاصم وحمزة, ويختلسها أبو جعفر وقالون.
قال عطاء, معناه أخره. وقيل:
احبسه, ( وَأَخَاهُ ) معناه
أشاروا عليه بتأخير أمره وترك التعرض له بالقتل, (
وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ) يعني
الشرط والمدائن, وهي مدائن الصعيد من نواحي مصر, قالوا: أرسل إلى هذا المدائن
رجالا يحشرون إليك من فيها من السحرة, وكان رؤساء السحرة بأقصى مدائن الصعيد, فإن
غلبهم موسى صدقناه وإن غلبوا علمنا أنه ساحر.
فذلك قوله: (
يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ ) قرأ
حمزة والكسائي: « سحار » هاهنا
وفي سورة يونس, ولم يختلفوا في الشعراء أنه « سحار » .
قيل: الساحر: الذي يَعْلمُ
السحر ولا يُعَلِّم, والسحَّار: الذي يعلّم, وقيل: الساحر من يكون سحره في وقت دون
وقت, والسحار من يديم السحر.
قال ابن عباس وابن إسحاق
والسدي: قال فرعون لما رأى من سلطان الله في العصا ما رأى: إنا لا نغالب إلا بمن
هو أعلم منه, فاتخذ غلمانا من بني إسرائيل فبعث بهم إلى قرية يقال لها الفرحاء
يعلمونهم السحر, فعلموهم سحرا كثيرا, وواعد فرعون موسى موعدا فبعث إلى السحرة
فجاءوا ومعلمهم معهم, فقال له: ماذا صنعت؟ قال: قد علمتهم سحرا لا يطيقه سحرة أهل
الأرض إلا أن يكون أمرا من السماء, فإنه لا طاقة لهم به, ثم بعث فرعون في مملكته
فلم يترك في سلطانه ساحرا إلا أتى به.
واختلفوا في عددهم, فقال مقاتل:
كانوا اثنين وسبعين, اثنان من القبط, وهما رأسا القوم, وسبعون من بني إسرائيل.
وقال الكلبي: كان الذين
يعملونهم رجلين مجوسيين من أهل نينوي, وكانوا سبعين غير رئيسهم.
وقال كعب: كانوا اثني عشر ألفا.
وقال السدي: كانوا بضعة وثلاثين ألفا.
وقال عكرمة: كانوا سبعين ألفا.
وقال محمد بن المنكدر: كانوا ثمانين ألفا, وقال مقاتل: كان رئيس السحرة شمعون.
وقال ابن جريج: رئيس السحرة يوحنا.
وَجَاءَ السَّحَرَةُ
فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ ( 113
) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ( 114
) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ
نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ ( 115 )
قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ
وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ ( 116 )
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا
يَأْفِكُونَ ( 117 )
(
وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ ) واجتمعوا, (
قَالُوا ) لفرعون ( إِنَّ لَنَا لأجْرًا ) أي
جُعْلا ومالا ( إِنْ كُنَّا نَحْنُ
الْغَالِبِينَ ) قرأ أهل الحجاز وحفص: « أن لنا
» على الخبر, وقرأ الباقون بالاستفهام, ولم يختلفوا في الشعراء
أنه مستفهم.
( قَالَ
) فرعون ( نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ
الْمُقَرَّبِينَ ) في المنـزلة الرفيعة عندي مع
الأجر, قال الكلبي: يعني أول من يدخل وآخر من يخرج.
(
قَالُوا ) يعني السحرة ( يَا
مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ ) عصاك (
وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ )
لعصيّنا وحبالنا.
( قَالَ
) موسى بل ( أَلْقُوا ) أنتم,
( فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ ) أي:
صرفوا أعينهم عن إدراك حقيقة ما فعلوه من التمويه والتخييل, وهذا هو السحر, (
وَاسْتَرْهَبُوهُمْ ) أي: أرهبوهم وأفزعوهم, (
وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ ) وذلك أنهم ألقوا حبالا غلاظا
وخشبا طوالا فإذا هي حيات كأمثال الجبال قد ملأت الوادي يركب بعضها بعضا. وفي
القصة أن الأرض كانت ميلا في ميل صارت حيات وأفاعي في أعين الناس.
(
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ )
فألقاها فصارت حية عظيمة حتى سدت الأفق. قال ابن زيد: كان اجتماعهم بالإسكندرية.
ويقال: بلغ ذنب الحية من وراء البحيرة ثم فتحت فاها ثمانين ذراعا, (
فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ ) قرأ حفص: « تلقف » ساكنة
اللام, خفيفة, حيث كان, وقرأ الآخرون: بفتح اللام وتشديد القاف, أي: تبتلع, ( مَا
يَأْفِكُونَ ) يكذبون من التخاييل وقيل: يزوِّرون على الناس. فكانت تلتقم
حبالهم وعصيهم واحدا واحدا حتى ابتعلت الكل وقصدت القوم الذين حضروا فوقع الزحام
عليهم فهلك منهم في الزحام خمسة وعشرون ألفا, ثم أخذها موسى فصارت عصا كما كانت.
فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ
مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 118 )
فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ ( 119
) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ ( 120
)
( فَوَقَعَ الْحَقُّ ) قال
الحسن ومجاهد: ظهر الحق, ( وَبَطَلَ مَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ ) من السحرُ وذلك أن السحرة قالوا: لو كان ما يصنع موسى سحرا
لبقيت حبالنا وعصيّنا فلما فقدت علموا أن ذلك من أمر الله.
( فَغُلِبُوا هُنَالِكَ
وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ ) ذليلين مقهورين .
( وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ
سَاجِدِينَ ) لله تعالى. قال مقاتل: ألقاهم الله. وقيل: ألهمهم الله أن
يسجدوا فسجدوا. وقال الأخفش: من سرعة ما سجدوا كأنهم ألقوا.
قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ
الْعَالَمِينَ ( 121 )
رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ ( 122 )
قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ
مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ
تَعْلَمُونَ ( 123 )
لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ
أَجْمَعِينَ ( 124 )
(
قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) فقال
فرعون: إياي تعنون فقالوا, ( رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ )
( رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ ) قال مقاتل:
قال موسى لكبير السحرة تؤمن بي إن غلبتك؟ فقال: لآتين بسحر لا يغلبه سحر, ولئن
غلبتني لأومنن بك, وفرعون ينظر.
( قَالَ ) لهم (
فِرْعَوْنُ ) حين آمنوا (
آمَنْتُمْ بِهِ ) قرأ حفص « آمنتم
» على الخبر هاهنا وفي طه والشعراء, وقرأ الآخرون بالاستفهام
أآمنتم به, ( قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ ) أصدقتم
موسى من غير أمري إياكم, ( إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ
مَكَرْتُمُوهُ ) أي: صنيع صنعتموه أنتم وموسى:
( فِي الْمَدِينَةِ ) في مصر
قبل خروجكم إلى هذا الموضع لتستولوا على مصر, (
لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ) ما
أفعل بكم.
(
لأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ) وهو أن
يقطع من كل شق طرفا. قال الكلبي: لأقطعن أيديكم اليمنى وأرجلكم اليسرى, ( ثُمَّ
لأصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ ) على شاطئ [ نهر
] مصر.
قَالُوا إِنَّا إِلَى
رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ ( 125 )
وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا
رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ ( 126
) وَقَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى
وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ
أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ( 127
)
( قَالُوا ) يعني
السحرة لفرعون, ( إِنَّا إِلَى رَبِّنَا
مُنْقَلِبُونَ ) راجعون في الآخرة.
( وَمَا
تَنْقِمُ مِنَّا ) أي: ما تكره منا. وقال الضحاك
وغيره: وما تطعن علينا. وقال عطاء: ما لنا عندك من ذنب تعذبنا عليه, ( إِلا
أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا ) ثم
فزعوا إلى الله عز وجل فقالوا: ( رَبَّنَا أَفْرِغْ ) اصبب,
( عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ ) ذكر
الكلبي: أن فرعون قطع أيديهم وأرجلهم وصلبهم وذكر غيره: أنه لم يقدر عليهم لقوله
تعالى: فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا
الْغَالِبُونَ [ القصص- 35 ] .
(
وَقَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ ) له (
أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأرْضِ )
وأرادوا بالإفساد في الأرض دعاءهم الناس إلى مخالفة فرعون في عبادته, (
وَيَذَرَكَ ) أي: وليذرك, (
وَآلِهَتَكَ ) فلا يعبدك ولا يعبدها. قال ابن عباس: كان لفرعون بقرة
يعبدها, وكان إذا رأى بقرة حسناء أمرهم أن يعبدوها, فلذلك أخرج السامري لهم عجلا.
وقال الحسن: كان قد علق على عنقه صليبا يعبده. وقال السدي: كان فرعون قد اتخذ
لقومه أصناما وأمرهم بعبادتها, وقال لقومه هذه آلهتكم وأنا ربها وربكم, فذلك قوله
أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى ( النازعات- 24 ) , وقرأ
ابن مسعود وابن عباس والشعبي والضحاك: « ويذرك
وإلاهتك » بكسر الألف, أي: عبادتك فلا يعبدك, لأن فرعون كان يُعْبَد
ولا يَعْبُد وقيل: أراد بالآلهة الشمس. وكانوا يعبدونها قال الشاعر:
تروحنــا مــن اللعبــاء قصـرا
وأعجلنـــا الإلاهـــة أن تؤبــا
( قَالَ
) فرعون ( سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ ) قرأ
أهل الحجاز: « سنقتل » بالتخفيف من القتل, وقرأ
الآخرون بالتشديد من التقتيل على التكثير, (
وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ) نتركهن أحياء, (
وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ) غالبون. قال ابن عباس: كان
فرعون يقتل أبناء بني إسرائيل في العام الذي قيل أنه يولد مولود يذهب بملكك, فلم
يزل يقتلهم حتى أتاهم موسى بالرسالة, وكان من أمره ما كان, فقال فرعون: أعيدوا
عليهم القتل, فأعادوا عليهم القتل, فشكت ذلك بنو إسرائيل.
قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ
اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ
يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ( 128
) قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ
بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ
وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ( 129
) وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ
مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ( 130
)
( قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ
اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأرْضَ لِلَّهِ ) يعني
أرض مصر, ( يُورِثُهَا ) يعطيها
( مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ
) بالنصر والظفر. وقيل: السعادة والشهادة. وقيل: الجنة.
( قَالُوا أُوذِينَا ) قال
ابن عباس: لما آمنت السحرة اتبع موسى ستمائة ألف من بني إسرائيل, فقالوا - يعني
قوم موسى - إنا أوذينا, ( مِنْ قَبْلِ أَنْ
تَأْتِيَنَا ) بالرسالة بقتل الأبناء, (
وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا ) بإعادة القتل علينا. وقيل:
فالمراد منه أن فرعون كان يستسخرهم قبل مجيء موسى إلى نصف النهار, فلما جاء موسى
استسخرهم جميع النهار بلا أجر. وذكر الكلبي أنهم كانوا يضربون له اللَّبِن بتبن
فرعون, فلما جاء موسى أجبرهم أن يضربوه بتبن من عندهم. ( قَالَ
) موسى ( عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ
يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ ) فرعون, (
وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأرْضِ ) أي: يسكنكم أرض مصر من بعدهم,
( فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ) فحقق
الله ذلك بإغراق فرعون واستخلافهم في ديارهم وأموالهم فعبدوا العجل.
قوله عز وجل: (
وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ ) أي:
بالجدوب والقحط. تقول العرب: مستهم السنة, أي: جدب السنة وشدة السنة. وقيل: أراد
بالسنين القحط سنة بعد سنة, ( وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ )
والغلات بالآفات والعاهات. وقال قتادة: أما السنين فلأهل البوادي, وأما نقص الثمرات
فلأهل الأمصار, ( لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ) أي:
يتعظون وذلك لأن الشدة ترقق القوب وترغبها فيما عند الله عز وجل.
فَإِذَا جَاءَتْهُمُ
الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا
بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ
أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ( 131 )
وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ
لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ( 132 )
فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ
وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ ( 133
)
(
فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ ) يعني:
الخصب والسعة والعافية, ( قَالُوا لَنَا هَذِهِ ) أي:
نحن أهلها ومستحقوها على العادة التي جرت لنا في سعة أرزاقنا ولم يروها تفضلا من
الله عز وجل فيشكروا عليها, ( وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ
) جدب وبلاء ورأوا ما يكرهون, (
يَطَّيَّرُوا ) يتشاءموا, (
بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ ) وقالوا: ما أصابنا بلاء حتى
رأيناهم, فهذا من شؤم موسى وقومه.
قال سعيد بن جبير ومحمد بن
المنكدر: كان ملك فرعون أربعمائة سنة, وعاش ستمائة وعشرين سنة لا يرى مكروها, ولو
كان له في تلك المدة جوع يوم أو حمى ليلة, أو وجع ساعة, لما ادعى الربوبية قط. قال
الله تعالى ( أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ ) أي:
انصباؤهم من الخصب والجدب والخير والشر كله من الله. وقال ابن عباس: طائرهم ما قضى
الله عليهم وقدّر لهم. وفي رواية عنه: شؤمهم عند الله ومن قِبَل الله. أي: إنما
جاءهم الشؤم بكفرهم بالله. وقيل: معناه الشؤم العظيم الذي لهم عند الله من عذاب
النار, ( وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) أن
الذي أصابهم من الله.
( وَقَالُوا ) يعني:
القبط لموسى ( مَهْمَا تَأْتِنَا ) متى ما
كلمة تستعمل للشرط والجزاء, ( تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ ) من
علامة, ( لِتَسْحَرَنَا بِهَا )
لتنقلنا عما نحن عليه من الدين, ( فَمَا
نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ) بمصدقين.
(
فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ ) قال
ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة ومحمد بن إسحاق - دخل كلام بعضهم في بعض - : لما
آمنت السحرة, ورجع فرعون مغلوبا, أبى هو وقومه إلا الإقامة على الكفر والتمادي في
الشر, فتابع الله عليهم الآيات وأخذهم بالسنين ونقص من الثمرات, فلما عالج منهم
بالآيات الأربع: العصا, واليد, والسنين, ونقص الثمار, فأبوا أن يؤمنوا فدعا عليهم,
فقال: يا رب إن عبدك فرعون علا في الأرض وبغى وعتا وإن قومه قد نقضوا عهدك, رب
فخذهم بعقوبة تجعلها لهم نقمة ولقومي عظة ولمن بعدهم آية وعبرة, فبعث الله عليهم
الطوفان, وهو الماء, أرسل الله عليهم الماء وبيوت بني إسرائيل وبيوت القبط مشتبكة
مختلطة, فامتلأت بيوت القبط حتى قاموا في الماء إلى تراقيهم ومن جلس منهم غرق, ولم
يدخل بيوت بني إسرائيل من الماء قطرة, وركد الماء على أرضهم لا يقدرون أن يحرثوا
ولا يعملوا شيئا, ودام ذلك عليهم سبعة أيام من السبت إلى السبت.
وقال مجاهد وعطاء: الطوفان
الموت. وقال وهب: الطوفان الطاعون بلغة اليمن, وقال أبو قلابة: الطوفان الجدري,
وهم أول من عذبوا به فبقي في الأرض.
وقال مقاتل: الطوفان الماء طغى
فوق حروثهم.
وروى ابن ظبيان عن ابن عباس
قال: الطوفان أمر من الله طاف بهم, ثم قرأ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ
وَهُمْ نَائِمُونَ ( القلم- 19 ) .
قال نحاة الكوفة: الطوفان مصدر
لا يُجْمَعُ, كالرجحان والنقصان.
وقال أهل البصرة: هو جمع,
واحدها طوفانة, فقال لموسى ادع لنا ربك يكشف عنا المطر فنؤمن بك ونرسل معك بني
إسرائيل, فدعا ربه فرفع عنهم الطوفان, فأنبت الله لهم في تلك السنة شيئا لم ينتبه
لهم قبل ذلك من الكلأ والزرع والثمر وأخصبت بلادهم, فقالوا: ما كان هذا الماء إلا
نعمة علينا وخصبا, فلم يؤمنوا وأقاموا شهرا في عافية, فبعث الله عليهم الجراد فأكل
عامة زروعهم وثمارهم وأوراق الشجر حتى كانت تأكل الأبواب وسقوف البيوت والخشب
والثياب والأمتعة ومسامير الأبواب من الحديد حتى تقع دورهم, وابتلي الجراد بالجوع,
فكان لا يشبع ولم يصب بني إسرائيل شيء من ذلك فعجوا وضجوا, وقالوا: يا موسى ادع
لنا ربك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك, وأعطوه عهد الله وميثاقه, فدعا موسى عليه
السلام فكشف الله عنهم الجراد بعدما أقام عليه سبعة أيام من السبت إلى السبت.
وفي الخبر: « مكتوب
على صدر كل جرادة جند الله الأعظم » .
ويقال إن موسى برز إلى الفضاء
فأشار بعصاه نحو المشرق والمغرب فرجعت الجراد من حيث جاءت, وكانت قد بقيت من زروعهم
وغلاتهم بقية, فقالوا: قد بقي لنا ما هو كافينا فما نحن بتاركي ديننا, فلم يفوا
بما عاهدوا, وعادوا لأعمالهم السوء, فأقاموا شهرا في عافية, ثم بعث الله عليهم
القمل.
[
واختلفوا في القمل ] فروى سعيد بن جبير عن ابن
عباس قال: القمل السوس الذي يخرج من الحنطة. وقال مجاهد والسدي وقتادة والكلبي:
القمل الدَّبى والجراد الطيارة التي لها أجنحة, والدبى الصغار التي لا أجنحة لها.
وقال [ عكرمة: هي بنات ]
الجراد. وقال أبو عبيدة: وهو الحمْنَان وهو ضرب من القراد. وقال عطاء الخرساني: هو
القمل. وبه قرأ أبو الحسن ( القَمْل ) بفتح
القاف وسكون الميم.
قالوا: أمر الله موسى أن يمشي
إلى كثيب أعفر, بقرية من قرى مصر تدعى عين الشمس, فمشى موسى إلى ذلك الكثيب وكان
أهيل فضربه بعصاه فانثال عليهم القمل, فتتبع ما بقي من حروثهم وأشجارهم وبناتهم
فأكله, ولحس الأرض كلها وكان يدخل بين ثوب أحدهم وجلده فيعضه, وكان أحدهم يأكل
الطعام فيمتلئ قملا.
قال سعيد بن المسيب: القمل
السوس الذي يخرج من الحبوب, وكان الرجل يخرج عشرة أجربة إلى الرحا فلا يرد منها
ثلاثة أقفزة, فلم يصابوا ببلاء كان أشد عليهم من القمل, وأخذ أشعارهم وأبشارهم
وأشفار عيونهم وحواجبهم ولزم جلودهم كأنه الجدري عليهم ومنعهم النوم والقرار
فصرخوا وصاحوا إلى موسى أنا نتوب فادع لنا ربك يكشف عنا البلاء, فدعا موسى عليه
السلام الله فرفع الله القمل عنهم بعدما أقام عليهم سبعة أيام من السبت إلى السبت,
فنكثوا وعادوا إلى أخبث أعمالهم. وقالوا: ما كنا قط أحق أن نستيقن أنه ساحر منا
اليوم يجعل الرمل دواب. فدعا موسى بعدما أقاموا شهرا في عافية, فأرسل الله عليهم
الضفادع فامتلأت منها بيوتهم وأفنيتهم وأطعمتهم وآنيتهم, فلا يكشف أحد إناء ولا
طعاما إلا وجد فيه الضفادع, وكان الرجل يجلس في الضفادع إلى ذقنه, ويهم أن يتكلم فيثب
الضفدع في فيه, وكانت تثب في قدورهم فتفسد عليهم طعامهم وتطفئ نيرانهم, وكان أحدهم
يضطجع فتركبه الضفادع فتكون عليه ركاما حتى ما يستطيع أن ينصرف إلى شقه الآخر,
ويفتح فاه لأكلته فيسبق الضفدع أكلته إلى فيه, ولا يعجن عجينا الإ تشدخت فيه, ولا
يفتح قدرا إلا امتلأت ضفادع, فلقوا منها أذى شديدا.
روى عكرمة عن ابن عباس قال:
كانت الضفادع برية, فلما أرسلها الله على آل فرعون سمعت وأطاعت فجعلت تقذف أنفسها
في القدور وهي تغلي, وفي التنانير وهي تفور, فأثابها الله بحسن طاعتها برد الماء,
فلما رأوا ذلك بكوا وشكوا ذلك إلى موسى, وقالوا هذه المرة نتوب ولا نعود, فأخذ
عهودهم ومواثيقهم, ثم دعا ربه فكشف عنهم الضفادع بعدما أقام سبعا من السبت إلى
السبت, فأقاموا شهرا في عافية ثم نقضوا العهد وعادوا لكفرهم, فدعا عليهم موسى
فأرسل الله عليهم الدم, فسال النيل عليهم دما وصارت مياههم دما وما يستقون من
الآبار والأنهار إلا وجدوه دما عبيطا أحمر, فشكوا إلى فرعون وقالوا ليس لنا شراب,
فقال: إنه سحركم, فقالوا: من أين سحرنا ونحن لا نجد في أوعيتنا شيئا من الماء إلا
دما عبيطا؟ وكان فرعون يجمع بين القبطي والإسرائيلي على الإناء الواحد فيكون ما
يلي الإسرائيلي ماء والقبطي دما [
ويقومان إلى الجرة فيها الماء فيخرج للإسرائيلي ماء وللقبطي دم ] حتى
كانت المرأة من آل فرعون تأتي المرأة من بني إسرائيل حين جهدهم العطش فتقول اسقني
من مائك فتصب لها من قربتها فيعود في الإناء دما حتى كانت تقول اجعليه في فيك ثم
مجيه في فيَّ فتأخذ في فيها ماء فإذا مجَّته في فيها صار دما, وإن فرعون اعتراه
العطش حتى إنه ليضطر إلى مضغ الأشجار الرطبة, فإذا مضغها يصير ماؤها في فيه ملحا
أجاجا, فمكثوا في ذلك سبعة أيام لا يشربون إلا الدم.
قال زيد بن أسلم: الدم الذي سلط
عليهم كان الرعاف, فأتوا موسى وقالوا يا موسى ادع ربك يكشف عنا هذا الدم فنؤمن بك
ونرسل معك بني إسرائيل, فدعا ربه عز وجل فكشف عنهم, فلم يؤمنوا, فذلك قوله عز وجل:
( فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ
وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ ) يتبع
بعضها بعضا. وتفصيلها أن كل عذاب يمتد أسبوعا, وبين كل عذابين شهرا, (
فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ )
وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ
الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ
كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي
إِسْرَائِيلَ ( 134 )
فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ
يَنْكُثُونَ ( 135 )
فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا
وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ ( 136 )
(
وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ ) أي:
نـزل بهم العذاب وهو ما ذكر الله عز وجل من الطوفان وغيره.. وقال سعيد بن جبير:
الرجز الطاعون, وهو العذاب السادس بعد الآيات [
الخمس ] حتى مات منهم سبعون ألفا في يوم احد, فأمسوا وهو لا
يتدافنون ( قَالُوا ) لموسى ( يَا
مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ ) أي:
بما أوصاك.
وقال عطاء: بما نبأك. وقيل: بما
عهد عندك من إجابة دعوتك ( لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا
الرِّجْزَ ) وهو الطاعون (
لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ )
أخبرنا أبو الحسن السرخسي ثنا
زاهر بن أحمد ثنا أبو إسحاق الهاشمي ثنا أبو مصعب عن مالك عن محمد بن المنكدر عن
أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه انه سمعه
يسأل أسامة بن زيد: أسمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطاعون؟ فقال أسامة
بن زيد: [ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ] «
الطاعون رجز أرسل على بني إسرائيل أو على من كان قبلكم, فإذا سمعتم به بأرض فلا
تقدموا عليه, وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه »
قوله عز وجل: (
فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ ) يعني:
إلى الغرق في اليم ( إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ ) ينقضون
العهد.
(
فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ ) يعني:
البحر ( بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا
غَافِلِينَ ) أي: عن النقمة قبل حلولها غافلين. وقيل: معناه عن آياتنا
معرضين.
وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ
الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي
بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ
بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا
كَانُوا يَعْرِشُونَ ( 137 )
( وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ
الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ )
يُقهرون ويُستذلون بذبح الأبناء واستخدام النساء [
والاستعباد وهم بنو إسرائيل ] ( مَشَارِقَ
الأرْضِ وَمَغَارِبَهَا ) يعني مصر والشام (
الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ) بالماء والأشجار والثمار
والخصب والسعة ( وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ
الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ ) يعني:
وفَّت كلمة الله وهي وعده إياهم بالنصر والتمكين في الأرض, وذلك قوله تعالى:
وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ (
القصص- 5 ) ( بِمَا صَبَرُوا ) على
دينهم وعلى عذاب فرعون ( وَدَمَّرْنَا ) أهلكنا
( مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ ) في أرض
مصر من العمارات, ( وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ ) قال
مجاهد: يبنون من البيوت والقصور. وقال الحسن: يعرشون من الأشجار والثمار والأعناب.
وقرأ ابن عامر وأبو بكر ( يَعْرِشُونَ ) بضم
الراء هاهنا وفي النحل, وقرأ الآخرون بكسرها.
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ
الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا
مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ
تَجْهَلُونَ ( 138 )
إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 139
) قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ
فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ( 140
)
قوله تعالى: (
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ ) قال
الكلبي: عبر بهم موسى البحر يوم عاشوراء بعد مهلك فرعون وقومه فصامه شكرا لله عز
وجل ( فَأَتَوْا ) فمروا
( عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ ) يقيمون
قرأ حمزة والكسائي « يعكفون » بكسر
الكاف وقرأ الآخرون بضمها وهما لغتان, ( عَلَى
أَصْنَامٍ ) أوثان ( لَهُمْ )
يعبدونها من دون الله.
قال ابن جريج: كانت تماثيل بقر,
وذلك أول شأن العجل. قال قتادة: كان أولئك القوم من لخم وكانوا نـزولا بالرقة,
فقالت بنو إسرائيل لما رأوا ذلك: (
قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا ) أي:
مثالا نعبده ( كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ) ولم
يكن ذلك شكا من بني إسرائيل في وحدانية الله, وإنما معناه: اجعل لنا شيئا نعظمه
ونتقرب بتعظيمه إلى الله عز وجل وظنوا أن ذلك لا يضر الديانة وكان ذلك لشدة جهلهم.
( قَالَ ) موسى (
إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ) عظمة الله.
( إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ) مهلك,
( مَا هُمْ فِيهِ )
والتتبير الإهلاك, ( وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ )
( قَالَ
) يعني موسى (
أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ ) أي: أبغي لكم وأطلب, (
إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ) أي:
على عالمي زمانكم.
أخبرنا أبو سعيد عبد الله بن
أحمد الطاهري, أنا جدي أبو سهل عبد الصمد بن عبد الرحمن البزار, أنا أبو بكر محمد بن
زكريا العذافري, أنا إسحاق بن إبراهيم الديري أنا عبد الرزاق أنا معمر عن الزهري
عن سنان بن أبي سنان الديلي عن أبي واقد الليثي, قال: خرجنا مع النبي صلى الله
عليه وسلم قِبَلَ حنين, فمررنا بسدرة, فقلنا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما
كان للكفار ذات أنواط, وكان الكفار ينوطون سلاحهم بسدرة يعكفون حولها, فقال النبي
صلى الله عليه وسلم: الله أكبر, هذا كما قالت بنو إسرائيل لموسى « اجعل
لنا إلها كما لهم آلهة إنكم تركبون سنن من قبلكم » .
وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ
آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ
وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ( 141
) وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا
بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ
هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ
الْمُفْسِدِينَ ( 142 )
قوله عز وجل: (
وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ ) قرأ ابن عامر « أنجاكم
» وكذلك هو في مصاحف أهل الشام, ( مِنْ
آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ ) قرأ
نافع « يقتلون » خفيفة, من القتل, وقرأ الآخرون
بالتشديد على التكثير من التقتيل, (
وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ )
(
وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً ) ذي
القعدة, ( وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ ) من ذي
الحجة, ( فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ
مُوسَى ) عند انطلاقه إلى الجبل للمناجاة (
لأخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي ) كن خليفتي, ( فِي
قَوْمِي وَأَصْلِحْ ) أي أصلحهم بحملك إياهم على
طاعة الله. وقال ابن عباس: يريد الرفق بهم والإحسان إليهم ( وَلا
تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ) أي: لا
تطع من عصى الله ولا توافقه على أمره, وذلك أن موسى عليه السلام وعد بني إسرائيل
وهم بمصر: أن الله إذا أهلك عدوهم أتاهم بكتاب فيه بيان ما يأتون وما يذرون! فلما
فعل الله ذلك بهم سأل موسى ربه الكتاب, فأمره الله عز وجل أن يصوم ثلاثين يوما,
فلما تمت ثلاثون أنكر خلوف فمه, فتسوك بعود خروب.
وقال أبو العالية: أكل من لحاء
شجرة, فقالت له الملائكة: كنا نشم من فيك رائحة المسك, فأفسدته بالسواك, فأمره
الله تعالى أن يصوم عشرة أيام من ذي الحجة, وقال: أما علمت أن خلوف فم الصائم أطيب
عندي من ريح المسك, فكانت فتنتهم في العشر التي زادها.
وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى
لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ
لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ
فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ
مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا
أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ( 143 )
قوله عز وجل: (
وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا ) أي:
للوقت الذي ضربنا له أن نكلمه فيه. قال أهل التفسير: إن موسى عليه السلام تطهر
وطهر ثيابه لميعاد ربه لما أتى طور سيناء. وفي القصة: إن الله عز وجل أنـزل ظلمة
على سبعة فراسخ وطرد عنه الشيطان وطرد عنه هوام الأرض ونحى عنه الملكين وكشط له
السماء ورأى الملائكة قياما في الهواء ورأى العرش بارزا وكلمه الله وناجاه حتى
أسمعه, وكان جبريل عليه السلام معه فلم يسمع ما كلمه ربه وأدناه حتى سمع صرير
القلم فاستحلى موسى عليه السلام كلام ربه واشتاق إلى رؤيته ( قَالَ
رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ ) قال
الزجاج: فيه اختصار تقديره: أرني نفسك أنظر إليك. قال ابن عباس: أعطني النظر إليك.
فإن قيل: كيف سأل الرؤية وقد علم أن الله تعالى لا يُرى في الدنيا؟ قال الحسن: هاج
به الشوق فسأل الرؤية. وقيل: سأل الرؤية ظنا منه أنه يجوز أن يُرى في الدنيا ( قَالَ
) الله تعالى ( لَنْ
تَرَانِي ) وليس لبشر أن يطيق النظر [
إليَّ في الدنيا من نظر إلي ] في الدنيا مات فقال إلهي سمعت
كلامك فاشتقت إلى النظر إليك ولأن انظر إليك ثم أموت أحب إلي من أن أعيش ولا أراك
فقال الله عز وجل: ( وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى
الْجَبَلِ ) وهو أعظم جبل بمدين يقال له زبير.
قال السدي: لما كلم الله موسى غاص الخبيث إبليس في الأرض حتى
خرج بين قدمي موسى, فوسوس إليه: أن يكلمك شيطان فعند ذلك سأل موسى الرؤية فقال
الله عز وجل: ( لَنْ تَرَانِي ) وتعلقت
نفاة الرؤية بظاهر هذه الآية, وقالوا: قال الله تعالى: ( لَنْ
تَرَانِي ) ولن تكون للتأبيد, ولا حجة لهم فيها ومعنى الآية: لن تراني
في الدنيا أو في الحال, لأنه كان يسأل الرؤية في الحال و « لن » لا تكون
للتأبيد, كقوله تعالى: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا [
البقرة- 95 ] , إخبارا عن اليهود, ثم أخبر عنهم أنهم يتمنون الموت في
الآخرة يقولون يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ [
الزخرف- 77 ] , و يا ليتها كانت القاضية [
الحاقة- 27 ] , والدليل عليه أنه لم ينسبه إلى الجهل بسؤال الرؤية ولم
يقل إني لا أرى حتى تكون لهم حجة بل علق الرؤية على استقرار الجبل واستقرار الجبل
على التجلي غير مستحيل إذا جعل الله تعالى له تلك القوة, والمعلق بما لا يستحيل لا
يكون محالا.
قال الله تعالى: (
وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ) قال
وهب وابن إسحاق لما سأل موسى ربه الرؤية أرسل الله الضباب والصواعق والظلمة والرعد
والبرق وأحاطت بالجبل الذي عليه موسى أربعة فراسخ من كل جانب, وأمر الله ملائكة
السماء أن يعترضوا على موسى فمرت به ملائكة السماء الدنيا كثيران البقر تنبع
أفواههم بالتسبيح والتقديس بأصوات عظيمة كصوت الرعد الشديد, ثم أمر الله ملائكة
السماء الثانية أن اهبطوا على موسى فاعترضوا عليه, فهبطوا عليه أمثال الأسود لهم
لجب بالتسبيح والتقديس, ففزع العبد الضعيف ابن عمران مما رأى وسمع واقشعرت كل شعرة
في رأسه وجسده, ثم قال: لقد ندمت على مسألتي فهل ينجيني من مكاني الذي أنا فيه
شيء؟ فقال له خير الملائكة ورأسهم: يا موسى اصبر لم سألت, فقليل من كثير ما رأيت.
ثم أمر الله ملائكة السماء الثالثة أن اهبطوا على موسى
فاعترضوا عليه, فهبطوا أمثال النسور لهم قصف ورجف شديد, وأفواههم تنبع بالتسبيح
والتقديس كجلب الجيش العظيم ألوانهم كلهب النار, ففزع موسى واشتد نفسه وأيس من
الحياة, فقال له خير الملائكة: مكانك يا ابن عمران حتى ترى ما لا تصبر عليه, ثم
أمر الله تعالى ملائكة السماء الرابعة أن اهبطوا فاعترضوا على موسى بن عمران
فهبطوا عليه لا يشبههم شيء من الذين مروا به قبلهم ألوانهم كلهب النار, وسائر
خلقهم كالثلج الأبيض أصواتهم علية بالتقديس والتسبيح لا يقاربهم شيء من أصوات
الذين مروا به قبلهم, فاصطكت ركبتاه وأرعد قلبه واشتد بكاؤه فقال له خير الملائكة
ورأسهم: يا ابن عمران اصبر لما سألت فقليل من كثير ما رأيت.
ثم أمر الله تعالى ملائكة السماء الخامسة أن اهبطوا فاعترضوا
على موسى فهبطوا عليه لهم سبعة ألوان فلم يستطع موسى أن يتبعهم بصره, لم ير مثلهم
ولم يسمع مثل أصواتهم فامتلأ جوفه خوفا واشتد حزنه وكثر بكاؤه, فقال له خير
الملائكة ورأسهم: يا ابن عمران مكانك حتى ترى بعض ما لا تصبر عليه.
ثم أمر الله ملائكة السماء السادسة أن اهبطوا على عبدي الذي
طلب ليراني, فهبطوا عليه في يد كل ملك منهم مثل النخلة الطويلة, نار أشد ضوءا من الشمس,
ولباسهم كلهب النار إذا سبحوا وقدسوا جاوبهم من كان قبلهم من ملائكة السموات, كلهم
يقولون بشدة أصواتهم: سبوح قدوس, رب العزة أبدا لا يموت, في رأس كل ملك منهم أربعة
أوجه, فلما رآهم موسى رفع صوته يسبح معهم [ حين
سبحوا ] وهو يبكي ويقول: رب اذكرني ولا تنس عبدك لا أدري أأنفلت مما
أنا فيه أم لا؟ إن خرجت احترقت وإن مكثت مت, فقال له كبير الملائكة ورأسهم: قد
أوشكت يا ابن عمران أن يشتد خوفك وينخلع قلبك فاصبر للذي سألت.
ثم أمر الله تعالى أن يحمل عرشه في ملائكة السماء السابعة
فلما بدا نور العرش انفرج الجبل من عظمة الرب جل جلاله, ورفعت ملائكة السموات
أصواتهم جميعا يقولون: سبحان القدوس رب العزة أبدا لا يموت بشدة أصواتهم, فارتج
الجبل واندكت كل شجرة كانت فيه وخر العبد الضعيف موسى صعقا على وجهه ليس معه روحه,
فأرسل الله برحمته الروح فتغشاه, وقلب عليه الحجر الذي كان عليه موسى وجعله كهيئة
القبة لئلا يحترق موسى, فأقامه الروح مثل اللامة, فقام موسى يسبح الله تعالى ويقول
آمنت بك ربي وصدقت أنه لا يراك أحد فيحيا, من نظر إلى ملائكتك انخلع قلبه فما
أعظمك وأعظم ملائكتك أنت رب الأرباب وإله الآلهة وملك الملوك, ولا يعدلك شيء ولا
يقوم لك شيء, رب تبت إليك الحمد لك لا شريك لك ما أعظمك وما أجلك رب العالمين,
فذلك قوله تعالى: ( فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ
لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا ) قال ابن عباس: ظهر نور ربه
للجبل, جبل زبير. وقال الضحاك: أظهر الله من نور الحجب مثل منخر ثور. وقال عبد
الله بن سلام وكعب الأحبار: ما تجلى من عظمة الله للجبل إلا مثل سم الخياط حتى صار
دكا. وقال السدي: ما تجلى إلا قدر الخنصر, يدل عليه ما روى ثابت عن أنس أن النبي
صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية وقال: « هكذا » ووضع
الإبهام على المفصل الأعلى من الخنصر, فساخ الجبل .
وحكي عن سهل بن سعد الساعدي أن الله تعالى اظهر من سبعين ألف
حجاب نورا قدر الدرهم فجعل الجبل دكا, أي: مستويا بالأرض, قرأ حمزة والكسائي ( دكاء ) ممدودا
غير منون هاهنا وفي سورة الكهف, [
وافق عاصم في الكهف ] وقرأ الآخرون ( دكا ) مقصورا
منونا, فمن قصره فمعناه جعله مدقوقا: والدك والدق واحد, وقيل: معناه دكه الله دكا,
أي: فتته كما قال: كَلا إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا [
الفجر- 21 ] , ومن قرأ بالمد أي: جعله مستويا أرضا دكاء.
وقيل: معناه جعله مثل دكاء وهي الناقة التي لا سنام لها قال
ابن عباس: جعله ترابا. وقال سفيان: ساخ الجبل في الأرض حتى وقع في البحر فهو يذهب
فيه. وقال عطية العوفي: صار رملا هائلا. وقال الكلبي: جعله دكا أي كسرا جبالا
صغارا.
ووقع في تعض التفاسير: صار لعظمته ستة أجبل وقعت ثلاثة
بالمدينة: أحد وورقان ورضوي, ووقعت ثلاثة بمكة ثور وثبير وحراء .
قوله عز وجل: (
وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا ) قال ابن عباس والحسن: مغشيا
عليه. وقال قتادة: ميتا. وقال الكلبي: خر موسى صعقا يوم الخميس يوم عرفة وأعطي
التوراة يوم الجمعة يوم النحر.
قال الواقدي: لما خر موسى صعقا قالت ملائكة السموات: ما لابن
عمران وسؤال الرؤية؟ وفي بعض الكتب أن ملائكة السموات أتوا موسى وهو مغشي عليه
فجعلوا يركلونه بأرجلهم ويقولون يا ابن النساء الحيض أطمعت في رؤية رب العزة. (
فَلَمَّا أَفَاقَ ) موسى من صعقته وثاب إليه عقله
عرف أنه قد سأل أمرا لا ينبغي له ( قَالَ
سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ ) عن سؤال الرؤية (
وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ) بأنك لا تُرى في الدنيا. وقال
مجاهد والسدي: وأنا أول من آمن بك من بني إسرائيل.
قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي
اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ
وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ( 144 )
( قَالَ
يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ ) اخترتك
على الناس, قرأ ابن كثير وأبو عمرو « إني » بفتح
الياء وكذلك أَخِي * اشْدُدْ [ طه- 31 ] , (
بِرِسَالاتِي ) قرأ أهل الحجاز برسالتي على التوحيد, والآخرون بالجمع, (
وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ ) أعطيتك
( وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ) لله
على نعمه.
فإن قيل: فما معنى قوله «
اصطفيتك على الناس برسالاتي » وقد أعطي غيره الرسالة؟ قيل
:لما لم تكن الرسالة على العموم في حق الناس كافة استقام قوله اصطفيتك على الناس
وإن شاركه فيه غيره, كما يقول الرجل: خصصتك بمشورتي وإن شاور غيره إذا لم تكن
المشورة على العموم يكون مستقيما.
وفي بعض القصة: أن موسى عليه
السلام كان بعدما كلمه ربه لا يستطيع أحد أن ينظر إليه لما غشي وجهه من النور, ولم
يزل على وجهه برقع حتى مات. وقالت له امرأته: أنا أيم منك منذ كلمك ربك فكشف لها
عن وجهه فأخذها مثل شعاع الشمس فوضعت يدها على وجهها وخرجت لله ساجدة, وقالت: ادع
الله أن يجعلني زوجتك في الجنة, قال: ذاك لك إن لم تتزوجي بعدي, فإن المرأة لآخر
أزواجها.
أخبرنا أبو سعيد الشريحي أنا
أبو إسحاق الثعلبي أنا أبو عبد الله محمد بن أحمد بن علي المزكي أنا أبو العباس
محمد بن أحمد بن إسحاق السراج حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا راشد بن أسعد بن عبد
الرحمن المغافري عن أبيه عن كعب الأحبار: أن موسى نظر في التوراة فقال: إني أجد
أمة خير الأمم أخرجت للناس يأمرون بالمعروف, وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله
وبالكتاب الأول وبالكتاب الآخر, ويقاتلون أهل الضلالة حتى يقاتلوا الأعور الدجال,
رب اجعلهم أمتي, قال: هي أمة محمد يا موسى, فقال: ربي إني أجد أمة هم الحمادون
رعاة الشمس المحكمون إذا أرادوا أمرا قالوا نفعل إن شاء الله فاجعلهم أمتي, قال:
هي أمة محمد, فقال: رب إني أجد أمة يأكلون كفاراتهم وصدقاتهم, وكان الأولون يحرقون
صدقاتهم بالنار, وهم المستجيبون والمستجاب لهم الشافعون المشفوع لهم فاجعلهم أمتي,
قال: هي أمة محمد, قال: يا رب إني أجد أمة إذا أشرف أحدهم على شرف كبّر الله فإذا
هبط واديا حمد الله, الصعيد لهم طهور والأرض لهم مسجد حيث ما كانوا, يتطهرون من
الجنابة طهورهم بالصعيد كطهورهم بالماء حيث لا يجدون الماء, غر محجلون من آثار
الوضوء فاجعلهم أمتي, قال: هي أمة محمد, فقال: رب إني أجد أمة إذا همّ أحدهم بحسنة
فلم يعملها كتبت له حسنة مثلها وإن عملها كتبت له ضعف عشرة أمثالها إلى سبعمائة
ضعف, وإذا همّ بسيئة ولم يعملها لم تكتب عليه وإن عملها كتبت له سيئة مثلها,
فاجعلهم أمتي, قال: هي أمة أحمد, فقال: رب إني أجد أمة مرحومة ضعفاء يرثون الكتاب
من الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات ولا
أجد أحدا منهم إلا مرحوما فاجعلهم أمتي, قال: هي أمة محمد, فقال: يا رب إني أجد
أمة [ مصاحفهم ] في
صدورهم يلبسون ألوان ثياب أهل الجنة يصفون في صلاتهم صفوف الملائكة أصواتهم في
مساجدهم كدوي النحل لا يدخل النار أحد منهم أبدا إلا من يرى الحساب مثل ما يرى
الحجر من وراء الشحر, فاجعلهم أمتي, قال: هي أمة أحمد, فلما عجب موسى من الخير
الذي أعطى الله محمدا صلى الله عليه وسلم وأمته قال: يا ليتني من أصحاب محمد
وأمته, فأوحى الله إليه ثلاث آيات يرضيه بهن: « يا
موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي » إلى
قوله: سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ * وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ
بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ فرضي موسى كل الرضابس .
وَكَتَبْنَا لَهُ فِي
الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا
بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ
الْفَاسِقِينَ ( 145 )
قوله عز وجل: (
وَكَتَبْنَا لَهُ ) يعني لموسى, ( فِي
الألْوَاحِ ) قال ابن عباس: يريد ألواح التوراة, وفي الحديث: « كانت
من سدر الجنة طول اللوح اثنا عشر ذراعا » . وجاء
في أحاديث خلق الله آدم بيده: « وكتب التوراة بيده وغرس شجرة طوبى
بيده » .
وقال الحسن: كانت الألواح من
خشب. قال الكلبي كانت من زبرجدة خضراء. وقال سعيد بن جبير: كانت من ياقوت أحمر,
وقال الربيع بن أنس: كانت الألواح من برد. قال ابن جريج: كانت من زمرد, أمر الله
جبريل حتى جاء بها من عدن, وكتبها بالقلم الذي كتب به الذكر واستمد من نهر النور
وقال وهب: أمره الله بقطع الألواح من صخرة صماء ليّنها الله له فقطعها بيده ثم
شققها بأصبعه, وسمع موسى صرير القلم بالكلمات العشرة وكان ذلك في أول يوم من ذي
القعدة, وكانت الألواح عشرة أذرع على طول موسى. وقال مقاتل ووهب: (
وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الألْوَاحِ ) كنقش
الخاتم. وقال الربيع بن أنس: نـزلت التوراة وهي سبعون وقر بعير, يقرأ الجزء منه في
سنة, لم يقرأه إلا أربعة نفر: موسى, ويوشع, وعزير, وعيسى.
وقال الحسن: هذه الآية في
التوراة ألف آية يعني « وكتبنا له في الألواح » ( مِنْ
كُلِّ شَيْءٍ ) مما أمروا به ونهوا عنه, (
مَوْعِظَةً ) نهيا عن الجهل, وحقيقة الموعظة: التذكرة والتحذير بما يخاف
عاقتبه, ( وَتَفْصِيلا لِكُلِّ شَيْءٍ ) أي:
تبيينا لكل شيء من الأمر والنهي, والحلال والحرام, والحدود والأحكام. (
فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ ) أي: بجد واجتهاد, وقيل: بقوة
القلب وصحة العزيمة, لأنه إذا أخذه بضعف النية أداه إلى الفتور, (
وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا ) قال
عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما: يحلوا حلالها, ويحرموا حرامها, ويتدبروا
أمثالها, ويعملوا بمحكمها, ويقفوا عند متشابهها وكان موسى عليه السلام أشد عبادة
من قومه, فأمر بما لم يؤمروا به.
قال قطرب: بأحسنها أي بحسنها,
وكلها حسن. وقيل: أحسنها الفرائض والنوافل, وهي ما يستحق عليها الثواب, وما دونها
المباح, لأنه لا يستحق عليه الثواب. وقيل: بأحسنها بأحسن الأمرين في كل شيء كالعفو
أحسن من القصاص, والصبر أحسن من الانتصار.
(
سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ ) قال
مجاهد: مصيرها في الآخرة. قال الحسن وعطاء: يعني جهنم, يحذركم أن تكونوا مثلهم.
وقال قتادة وغيره: سأدخلكم الشأم فأريكم منازل القرون الماضية الذين خالفوا أمر
الله لتعتبروا بها. قال عطية العوفي: أراد دار فرعون وقومه وهي مصر, يدل عليه
قراءة قسامة بن زهير: « سأوريكم دار الفاسقين » , وقال
السدي: دار الفاسقين مصارع الكفار. وقال الكلبي: ما مروا عليه إذا سافروا من منازل
عاد وثمود والقرون الذين أهلكوا.
سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ
الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ
آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ
سَبِيلا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ
كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ ( 146
) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ
حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 147
)
قوله تعالى: (
سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ
) قال ابن عباس: يريد الذين يتجبرون على عبادي ويحاربون
أوليائي حتى لا يؤمنوا بي, يعني: سأصرفهم عن قبول آياتي والتصديق بها عوقبوا
بحرمان الهداية لعنادهم للحق, كقوله: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ
قُلُوبَهُمْ .
قال سفيان بن عيينة: سأمنعهم
فهم القرآن. قال ابن جريج: يعني عن خلق السموات والأرض وما فيها أي أصرفهم عن أن
يتفكروا فيها ويعتبروا بها. وقيل: حكم الآية لأهل مصر خاصة, وأراد بالآيات الآيات
التسع التي أعطاها الله تعالى موسى عليه السلام. والأكثرون على أن الآية عامة (
وَإِنْ يَرَوْا ) [
يعني: هؤلاء المتكبرين ] ( كُلَّ
آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ ) قرأ
حمزة والكسائي « الرَّشَد » بفتح
الراء والشين, والآخرون بضم الراء وسكون الشين وهما لغتان كالسُّقم والسَّقم
والبُخل والبَخل والحُزن والحَزن.
وكان أبو عمرو يفرِّق بينهما,
فيقول: الرُّشد - بالضم - الصلاح في الأمر, وبالفتح الاستقامة في الدين. معنى
الآية: إن يروا طريق الهدى والسداد ( لا
يَتَّخِذُوهُ ) لأنفسهم ( سَبِيلا ) (
وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ ) أي
طريق الضلال ( يَتَّخِذُوهُ سَبِيلا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا
بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ ) عن
التفكير فيها والاتعاظ بها غافلين ساهين.
(
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ ) أي:
ولقاء الدار الآخرة التي هي موعد الثواب والعقاب, (
حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ ) بطلت وصارت كأن لم تكن, ( هَلْ
يُجْزَوْنَ ) في العقبى ( إِلا
مَا كَانُوا ) أي إلا جزاء ما كانوا (
يَعْمَلُونَ ) في الدنيا.
وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى
مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا
أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا
ظَالِمِينَ ( 148 )
وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ
لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ( 149
)
قوله عز وجل: (
وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ ) أي:
بعد انطلاقه إلى الجبل ( مِنْ حُلِيِّهِمْ ) التي
استعاروها من قوم فرعون. قرأ حمزة والكسائي ( مِنْ
حُلِيِّهِمْ ) بكسر الحاء [
وقرأ يعقوب بفتح الحاء وسكون اللام ] واتخذ
السامري منها ( عِجْلا ) وألقى
في فمه من تراب أثر فرس جبريل عليه السلام فتحول عجلا (
جَسَدًا ) حيا ولحما ودما ( لَهُ
خُوَارٌ ) وهو صوت البقر, وهذا قول ابن عباس, والحسن, وقتادة, وجماعة
أهل التفسير.
وقيل: كان جسدا مجسدا من ذهب لا روح فيه, كان يسمع منه صوت.
وقيل: كان يسمع صوت حفيف الريح يدخل في جوفه ويخرج, والأول
أصح.
وقيل: إنه ما خار إلا مرة واحدة, وقيل: كان يخور كثيرا كلما
خار سجدوا له وإذا سكت رفعوا رءوسهم. وقال وهب: كان يسمع منه الخوار وهو لا يتحرك.
وقال السدي: كان يخور ويمشي (
أَلَمْ يَرَوْا ) يعني: الذين عبدوا العجل (
أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلا ) قال
الله عز وجل: ( اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا
ظَالِمِينَ ) أي: اتخذوه إلها وكانوا كافرين.
( وَلَمَّا سُقِطَ فِي
أَيْدِيهِمْ ) أي ندموا على عبادة العجل, تقول العرب لكل نادم على أمر: قد
سقط في يديه, ( وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ
ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا ) يتب
علينا ربنا, ( وَيَغْفِرْ لَنَا ) يتجاوز
عنا, ( لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) قرأ
حمزة والكسائي: « ترحمنا وتغفر لنا » بالتاء
فيهما « ربنا » بنصب الباء. وكان هذا الندم
والاستغفار منهم بعد رجوع موسى إليهم.
وَلَمَّا
رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ
بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ
أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي
وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ
الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ( 150
)
قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ
الرَّاحِمِينَ ( 151
)
قوله عز
وجل: (
وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا ) قال أبو الدرداء: الأسف شديد
الغضب. وقال ابن عباس والسدي: أسِفا أي حزينا. والأسف أشد الحزن, ( قَالَ بِئْسَمَا
خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي ) أي:
بئس ما عملتهم بعد ذهابي, يقال: خلفه بخير أو بشر إذا أولاه في أهله بعد شخوصه
عنهم خيرا أو شرا, (
أَعَجِلْتُمْ ) أسبقتم
(
أَمْرَ رَبِّكُمْ ) قال
الحسن: وعد ربكم الذي وعدكم من الأربعين ليلة. وقال الكلبي: أعجلتم بعبادة العجل
قبل أن يأتيكم أمر ربكم. (
وَأَلْقَى الألْوَاحَ ) التي
فيها التوراة وكان حاملا لها, فألقاها على الأرض من شدة الغضب.
قالت
الرواة: كانت التوراة سبعة أسباع, فلما ألقى الألواح تكسرت فرفعت ستة أسباعها وبقي
سبع, فرفع ما كان من أخبار الغيب, وبقي ما فيه الموعظة والأحكام والحلال والحرام,
(
وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ )
بذوائبه ولحيته (
يَجُرُّهُ إِلَيْهِ ) وكان
هارون أكبر من موسى بثلاث سنين وأحب إلى بني إسرائيل من موسى, لأنه كان لين الغضب.
( قَالَ
) هارون
عند ذلك ( ابْنَ
أُمَّ ) قرأ
أهل الكوفة والشام هاهنا وفي طه بكسر الميم, يريد يا ابن أمي, فحذف ياء الإضافة
وأبقيت الكسرة لتدل على الإضافة كقوله: يَا عِبَادِ وقرأ أهل الحجاز والبصرة وحفص:
بفتح الميم على معنى يا ابن أماه.
وقيل:
جعله اسما واحدا وبناه على الفتح, كقولهم: حضرموت, وخمسة عشر, ونحوهما, وإنما قال
ابن أم وكان هارون أخاه لأبيه وأمه ليرققه ويستعطفه.
وقيل:
كان أخاه لأمه دون أبيه, ( إِنَّ
الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي ) يعني
عَبَدَة العجل, (
وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي ) هموا
وقاربوا أن يقتلوني, ( فَلا
تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي ) في مؤاخذتك عليّ ( مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) يعني عبدة العجل.
( قَالَ ) موسى لما تبين له عذر أخيه, ( رَبِّ اغْفِرْ لِي ) ما صنعت إلى أخي, ( وَلأخِي ) إن كان منه تقصير في الإنكار
على عبدة العجل, (
وَأَدْخِلْنَا ) جميعا
( فِي
رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ )
إِنَّ
الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ
فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ ( 152 ) وَالَّذِينَ عَمِلُوا
السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ
بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ( 153
)
وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا
هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ ( 154 )
قوله
تعالى: ( إِنَّ
الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ ) أي: اتخذوه
إلها (
سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ ) في الآخرة ( وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) قال أبو العالية: هو ما أمروا
به من قتل أنفسهم. وقال عطية العوفي: « إن الذين اتخذوا العجل » أراد اليهود الذين كانوا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم
عيّرهم بصنيع آبائهم فنسبه إليهم ( سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) أراد
ما أصاب بني قريظة والنضير من القتل والجلاء.
وقال ابن
عباس رضي الله عنهما: هو الجزية, ( وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ ) الكاذبين, قال أبو قلابة هو -
والله - جزاء كل مفتر إلى يوم القيامة أن يذله الله. قال سفيان بن عيينة: هذا في
كل مبتدع إلى يوم القيامة.
قوله
تبارك وتعالى: (
وَلَمَّا سَكَتَ ) أي:
سكن, ( عَنْ
مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الألْوَاحَ ) التي كان ألقاها وقد ذهبت ستة أسباعها ( وَفِي نُسْخَتِهَا ) اختلفوا فيه, قيل: أراد بها
الألواح, لأنها نسخت من اللوح المحفوظ.
وقيل: إن
موسى لما ألقى الألواح تكسرت فنسخ منها نسخة أخرى فهو المراد من قوله: ( وَفِي نُسْخَتِهَا )
وقيل:
أراد: وفيما نسخ منها. وقال عطاء: فيما بقي منها. وقال ابن عباس وعمرو بن دينار:
لما ألقى موسى الألواح فتكسرت صام أربعين يوما فردت عليه في لوحين فكان فيه, ( هُدًى وَرَحْمَةً ) أي: هدى من الضلالة ورحمة من
العذاب, (
لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ ) أي: للخائفين من ربهم, واللام في ( لِرَبِّهِمْ ) زيادة توكيد, كقوله: رَدِفَ
لَكُمْ [ النمل-
72 ] , وقال
الكسائي: لما تقدمت قبل الفعل حسنت, كقوله: لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ [ يوسف- 43 ] , وقال قطرب: أراد من ربهم
يرهبون. وقيل: أراد راهبون. وقيل: أراد راهبون لربهم.
وَاخْتَارَ
مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ
الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ
أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلا فِتْنَتُكَ
تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ
لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ ( 155 )
قوله
تعالى: (
وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ ) أي: من
قومه, فانتصب لنـزع حرف الصفة, (
سَبْعِينَ رَجُلا لِمِيقَاتِنَا ) فيه
دليل على أن كلهم لم يعبدوا العجل. قال السدي: أمر الله تعال موسى أن يأتيه في ناس
من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادة العجل, فاختار موسى من قومه سبعين رجلا ( فَلَمَّا ) أتوا ذلك المكان قالوا: لن
نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة فماتوا.
قال ابن
إسحاق: اختارهم ليتوبوا إليه مما صنعوا ويسألوا التوبة على من تركوا وراءهم من قومهم,
فهذا يدل على أن كلهم عبدوا العجل.
وقال
قتادة, وابن جريج, ومحمد بن كعب: ( أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ ) لأنهم لم يزايلوا قومهم حين عبدوا العجل, ولم يأمروهم
بالمعروف لم ينهوهم عن المنكر.
وقال ابن
عباس: إن السبعين الذين قالوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً
فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ [
البقرة- 55 ] ,
كانوا قبل السبعين الذين أخذتهم الرجفة, وإنما أمر الله سبحانه وتعالى موسى عليه
السلام أن يختار من قومه سبعين رجلا فاختارهم وبرز بهم ليدعوا ربهم, فكان فيما
دعوا أن قالوا: اللهم أعطنا ما لم تعطه أحدا قبلنا, ولا تعطه أحدا بعدنا, فكره
الله ذلك من دعائهم, فأخذتهم الرجفة.
وقال
وهب: لم تكن الرجفة صوتا, ولكن القوم لما رأوا تلك الهيبة أخذتهم الرعدة وقلقوا
ورجفوا, حتى كادت أن تَبِيْنَ مفاصلهم, فلما رأى موسى ذلك رحمهم وخاف عليهم الموت,
فاشتد عليه فقدهم, وكانوا له وزراء على الخير, سامعين مطيعين, فعند ذلك دعا وبكى
وناشد ربه, فكشف الله عنهم تلك الرجفة, فاطمأنوا وسمعوا كلام ربهم, فذلك قوله عز
وجل: ( قَالَ
) يعني
موسى ( رَبِّ
لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ ) يعني عن عبادة العجل ( وَإِيَّايَ ) بقتل القبطي. ( أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا ) يعني عبدة العجل, وظن موسى
أنهم عوقبوا باتخاذهم العجل, وقال هذا على طريق السؤال, يسأل: أتهلكنا بفعل
السفهاء؟.
وقال
المبرد: قوله «
أتهلكنا بما فعل السفهاء منا » استفهام
استعطاف, أي: لا تهلكنا, وقد علم موسى عليه السلام أن الله تعالى أعدل من أن يأخذ
بجريرة الجاني غيره.
قوله
تعالى ( إِنْ
هِيَ إِلا فِتْنَتُكَ ) أي:
التي وقع فيها السفهاء, لم تكن إلا اختبارك وابتلاءك, أضللت بها قوما فافتتنوا,
وهديت قوما فعصمتهم حتى ثبتوا على دينك, فذلك هو معنى قوله: ( تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ
وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا ) ناصرنا وحافظنا, ( فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ
الْغَافِرِينَ )
وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ
الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي
أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا
لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا
يُؤْمِنُونَ ( 156 )
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ
مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ
وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ
الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ
وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( 157
)
(
وَاكْتُبْ لَنَا ) أوجب لنا ( فِي
هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً ) النعمة والعافية, ( وَفِي
الآخِرَةِ ) أي: وفي الآخرة (
حَسَنَةً ) أي المغفرة والجنة, (
إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ ) أي: تبنا إليك, ( قَالَ
) الله تعالى: (
عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ ) من
خلقي, ( وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ) عمت كل
شيء, قال الحسن وقتادة: وسعت رحمته في الدنيا البر والفاجر, وهي يوم القيامة
للمتقين خاصة. وقال عطية العوفي: وسعت كل شيء ولكن لا تجب إلا للذين يتقون, وذلك
أن الكافر يرزق, ويدفع عنه بالمؤمنين لسعة رحمة الله للمؤمنين, فيعيش فيها, فإذا
صار إلى الآخرة وجبت للمؤمنين خاصة, كالمستضيء بنار غيره إذا ذهب صاحب السراج
بسراجه. قال ابن عباس - رضي الله عنهما - وقتادة, وابن جريج: لما نـزلت: « ورحمتي
وسعت كل شيء » قال إبليس: أنا من ذلك الشيء, فقال الله سبحانه وتعالى: (
فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ
بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ ) فتمناها اليهود والنصارى,
وقالوا: نحن نتقي ونؤمن, ونؤتي الزكاة, فجعلها الله لهذه الأمة فقال:
( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ
الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ ) الآية.
قال نوف البكالي الحميري: لما اختار موسى قومه سبعين رجلا قال الله تعالى لموسى:
أجعل لكم الأرض مسجدا وطهورا, تصلون حيث أردكتكم الصلاة إلا عند مرحاض أو حمام أو
قبر, وأجعل السكينة في قلوبكم, وأجعلكم تقرأون التوراة عن ظهر قلوبكم, يقرؤها
الرجل والمرأة, والحر والعبد, والصغير والكبير, فقال ذلك موسى لقومه, فقالوا: لا
نريد أن نصلي إلا في الكنائس, ولا نستطيع حمل السكينة في قلوبنا, ولا نستطيع أن
نقرأ التوراة عن ظهور قلوبنا, ولا نريد أن نقرأها إلا نظرا, فقال الله تعالى: «
فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة » إلى
قوله: « أولئك هم المفلحون » ,
فجعلها الله لهذه الأمة. فقال موسى عليه السلام: يا رب اجعلني نبيهم, فقال: نبيهم
منهم, قال: رب اجعلني منهم فقال: إنك لن تدركهم, فقال موسى عليه السلام: يا رب أني
أتيتك بوفد بني إسرائيل فجعلت وفادتنا لغيرنا, فأنـزل الله تعالى: وَمِنْ قَوْمِ
مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ [
الأعراف- 159 ] , فرضي موسى .
قوله تعالى: (
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ ) وهو
محمد صلى الله عليه وسلم. قال ابن عباس رضي الله عنهما هو نبيكم كان أميا لا يكتب
ولا يقرأ ولا يحسب. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: « إنا
أمة أمية لا نكتب ولا نحسب » وهو منسوب إلى الأم, أي هو على
ما ولدته أمه. وقيل هو منسوب إلى أمته, أصله أمتي فسقطت التاء في النسبة كما سقطت
في المكي والمدني وقيل: هو منسوب إلى أم القرى وهي مكة.
( الَّذِي يَجِدُونَهُ ) أي:
يجدون صفته ونعته ونبوته, ( مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي
التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ )
أخبرنا عبد الواحد المليحي أن
أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا محمد بن
سنان حدثنا فليح حدثنا هلال عن عطاء بن يسار قال لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص,
فقلت: أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة: قال: أجل, والله
إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن, يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا
ومبشرا ونذيرا, وحرزا للأميين, أنت عبدي ورسولي, سميتك المتوكل, ليس بفظ لا غليظ
ولا سخَّاب في الأسواق, ولا يدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر, ولن يقبضه الله
حتى يقيم به الملة العوجاء, بأن يقولوا: لا إله إلا الله, ويفتح به أعينا عميا
وآذانا صما وقلوبا غلفا « . »
تابعه عبد العزيز بن أبي سلمة,
عن هلال عن عطاء عن ابن سلام أخبرنا الإمام الحسين بن محمد القاضي أنا أبو العباس
عبد الله بن محمد بن هارون الطيسفوني أنا أبو الحسن محمد بن أحمد الترابي أنا أبو
بكر أحمد بن محمد بن عمر بن بسطام أنا أبو الحسن أحمد بن سيار القرشي حدثنا عبد
الله بن عثمان عن أبي حمزة عن الأعمش عن أبي صالح عن عبد الله بن ضمرة عن كعب -
رضي الله عنه - قال: إني أجد في التوراة مكتوبا محمد رسول الله لا فظ ولا غليظ ولا
سخاب في الأسواق, ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح, أمته الحمادون يحمدون
الله في كل منـزلة ويكبرونه على كل نجد, يأتزرون على أنصافهم ويوضئون أطرافهم,
صفهم في الصلاة وصفهم في القتال سواء, مناديهم ينادي في جو السماء, لهم في جوف
الليل دوي كدوي النحل, مولده بمكة ومهاجره بطابة وملكه بالشام .
قوله تعالى: (
يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ) أي: بالإيمان, (
وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ ) أي: عن الشرك, وقيل: المعروف:
الشريعة والسنة, والمنكر: ما لا يعرف في شريعة ولا سنة. وقال عطاء: يأمرهم
بالمعروف: بخلع الأنداد, ومكارم الأخلاق, وصلة الأرحام, وينهاهم عن المنكر: عن
عبادة الأوثان وقطع الأرحام. ( وَيُحِلُّ لَهُمُ
الطَّيِّبَاتِ ) يعني: ما كانوا يحرمونه في
الجاهلية من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام (
وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ ) يعني:
الميتة, والدم, ولحم الخنـزير, والزنا وغيرها من المحرمات. (
وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ ) قرأ ابن عامر « آصارهم
» بالجمع. والإصر: كل ما يثقل على الإنسان من قول أو فعل.
قال ابن عباس والحسن والضحاك
والسدي ومجاهد: يعني العهد الثقيل كان أخذ على بني إسرائيل بالعمل بما في التوراة.
وقال قتادة: يعني التشديد الذي
كان عليهم في الدين, ( وَالأغْلالَ ) يعني:
الأثقال ( الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ) وذلك
مثل: قتل الأنفس في التوبة, وقطع الأعضاء الخاطئة, وقرض النجاسة عن الثوب
بالمقراض, وتعيين القصاص في القتل وتحريم أخذ الدية, وترك العمل في السبت, وأن
صلاتهم لا تجوز إلا في الكنائس وغير ذلك من الشدائد. وشبهت بالأغلال التي تجمع
اليد إلى العنق. ( فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ ) أي:
بمحمد صلى الله عليه وسلم. ( وَعَزَّرُوهُ )
وقّروه, ( وَنَصَرُوهُ ) على
الأعداء ( وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْـزِلَ مَعَهُ ) يعني:
القرآن ( أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ
إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ
وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ
وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ
وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ( 158
) وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ
وَبِهِ يَعْدِلُونَ ( 159 )
قوله تعالى: ( قُلْ
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ
مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا
بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ
وَكَلِمَاتِهِ ) أي: آياته وهي القرآن. وقال
مجاهد والسدي: يعني عيسى ابن مريم, ويقرأ « كلمته
» ( وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ
تَهْتَدُونَ )
قوله عز وجل: (
وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى ) يعني: بني إسرائيل (
أُمَّةٌ ) أي: جماعة, (
يَهْدُونَ بِالْحَقِّ ) أي: يرشدون ويدعون إلى الحق.
وقيل: معناه يهتدون ويستقيمون عليه, (
وَبِهِ يَعْدِلُونَ ) أي: بالحق يحكمون وبالعدل
يقومون. قال الكلبي والضحاك والربيع: هم قوم خلف الصين, بأقصى الشرق على نهر [
يجري الرمل ] يسمى نهر أوداف, ليس لأحد منهم مال دون صاحبه, يمطرون
بالليل ويصحون بالنهار, ويزرعون حتى لا يصل إليهم منا أحد, وهم على الحق .
وذُكر: أن جبرائيل عليه السلام ذهب بالنبي صلى الله عليه وسلم
ليلة أسري به, فكلمهم [ فقال لهم جبريل: هل تعرفون
من تكلمون؟ قالوا: لا فقال لهم: هذا محمد النبي الأمي فآمنوا به ]
فقالوا: يا رسول الله إن موسى عليه السلام أوصانا أن من أدرك منكم أحمد فليقرأ
عليه منا السلام, فرد النبي صلى الله عليه وسلم على موسى وعليهم, ثم أقرأهم عشر
سور من القرآن أنـزلت بمكة, وأمرهم بالصلاة والزكاة, وأمرهم أن يقيموا مكانهم,
وكانوا يسبتون, فأمرهم أن يجمِّعوا ويتركوا السبت .
وقيل: هم الذين أسلموا من اليهود في زمن النبي صلى الله عليه
وسلم. والأول أصح .
وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ
عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ
قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا
عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ
الْغَمَامَ وَأَنْـزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ
طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ
يَظْلِمُونَ ( 160 )
وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ
شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ
خَطِيئَاتِكُمْ سَنَـزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ( 161
) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلا غَيْرَ
الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا
كَانُوا يَظْلِمُونَ ( 162 )
قوله عز وجل: (
وَقَطَّعْنَاهُمُ ) أي: فرّقناهم, يعني بني
إسرائيل, ( اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا )
قال الفراء: إنما قال: « اثنتي
عشرة » , والسبط مذكر لأنه قال: « أمما » فرجع
التأنيث إلى الأمم, وقال الزجاج: المعنى وقطعناهم اثنتي عشرة أمما, وإنما قال: « أسباطا
أمما » , بالجمع وما فوق العشرة لا يفسر بالجمع, فلا يقال: أتاني
اثنا عشر رجالا لأن الأسباط في الحقيقة نعت المفسر المحذوف وهو الفرقة, أي:
وقطعناهم اثنتي عشرة فرقة أمما.
وقيل: فيه تقديم وتأخير,
تقديره: وقطعناهم أسباطا أمما اثنتي عشرة, والأسباط القبائل واحدها سبط.
قوله تعالى: (
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ ) في
التيه, ( أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ )
انفجرت. وقال أبو عمرو بن العلاء: عرقت وهو الانبجاس, ثم انفجرت, (
مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا ) لكل
سبط عين ( قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ ) كل
سبط, ( مَشْرَبَهُمْ ) وكل
سبط بنو أب واحد.
قوله تعالى: (
وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ ) في
التيه تقيهم حر الشمس, ( وَأَنْـزَلْنَا عَلَيْهِمُ
الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا
وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ )
( وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ
اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ
وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ ) قرأ
أهل المدينة وابن عامر ويعقوب: « نغفر » بالتاء
وضمها وفتح الفاء. وقرأ الآخرون بالنون وفتحها وكسر الفاء, (
خَطِيئَاتِكُمْ ) قرأ ابن عامر «
خطيئتكم » على التوحيد ورفع التاء, [
وقرأ أبو عمرو: « خطاياكم » ,
وقرأ أهل المدينة ويعقوب: « خطيئاتكم »
بالجمع ورفع التاء ] . وقرأ الآخرون بالجمع وكسر
التاء ( سَنَـزِيدُ الْمُحْسِنِينَ )
(
فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ
فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا ) عذابا
( مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ )
وَاسْأَلْهُمْ عَنِ
الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ
إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا
يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ( 163
)
قوله تعالى: (
وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ ) قيل:
هي « مدين » , [ أي:
سلْ يا محمد هؤلاء اليهود الذي هم جيرانك سؤال توبيخ وتقريع عن القرية التي كانت
حاضرة البحر ] أي: بقربه. قال ابن عباس: هي قرية يقال لها « إيلة » بين « مدين » و « الطور
» على شاطئ البحر. وقال الزهري: هي « طبرية
الشام » . ( إِذْ يَعْدُونَ فِي
السَّبْتِ ) أي: ظاهرة على الماء كثيرة, جمع شارع. وقال الضحاك:
متتابعة.
وفي القصة: أنها كانت تأتيهم يوم السبت مثل الكباش السمان
البيض.
( وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا
تَأْتِيهِمْ ) كإتيانهم يوم السبت, قرأ الحسن: « لا
يُسبتون » بضم الياء أي: لا يدخلون في السبت, والقراءة المعروفة بنصب
الياء, ومعناه: لا يعظمون السبت, (
كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ ) نختبرهم, ( بِمَا
كَانُوا يَفْسُقُونَ ) فوسوس إليهم الشيطان وقال: إن
الله لم ينهكم عن الاصطياد وإنما نهاكم عن الأكل, فاصطادوا. أو قيل: وسوس إليهم
أنكم إنما نهيتم عن الأخذ, فاتخذوا حيضا على شاطئ البحر, تسوقون الحيتان إليها يوم
السبت, ثم تأخذونها يوم الأحد. ففعلوا ذلك زمانا ثم تجرأوا على السبت, وقالوا: ما
نرى السبت إلا قد أُحلّ لنا, فأخذوا وأكلوا وباعوا, فصار أهل القرية أثلاثا,
وكانوا نحوا من سبعين ألفا, ثلث نهوا, وثلث لم ينهوا وسكتوا وقالوا: لِمَ تعظون
قوما الله مهلكهم؟ وثلث هم أصحاب الخطيئة, فلما لم ينتهوا قال الناهون: لا نساكنكم
في قرية واحدة فقسموا القرية بجدار للمسلمين باب وللمعتدين باب, ولعنهم داود عليه
السلام, فأصبح الناهون ذات يوم ولم يخرج من المعتدين أحد, فقالوا: إن لهم شأنا لعل
الخمر غلبتهم فعَلَوا على الجدار, فإذا هم قردة, فعرفت القرود أنسابها من الإنس
ولم تعرف الإنس أنسابها من القرود, فجعلت القرود يأتيها نسيبها من الإنس فتشم
ثيابه وتبكي, فيقول: ألم ننهكم فتقول برأسها: نعم, فما نجا إلا الذين نهوا وهلك
سائرهم.
وَإِذْ
قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ
مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ
وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ( 164
)
فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ
وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ( 165 )
قوله
تعالى: (
وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ ) اختلفوا في الذين قالوا هذا,
قيل: كانوا من الفرقة الهالكة, وذلك أنهم لما قيل لهم انتهوا عن هذا العمل السيئ,
قبل أن ينـزل بكم العذاب وأنا نعلم أن الله منـزل بكم بأسه إن لم تنتهوا أجابوا
وقالوا: ( لم
تعظون قوما الله مهلكهم ) , ( أَوْ ) علمتهم أنه ( مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا
شَدِيدًا قَالُوا ) أي:
قال الناهون (
مَعْذِرَةً ) أي:
موعظتنا معذرة ( إِلَى
رَبِّكُمْ ) قرأ
حفص: « معذرة
» بالنصب
أي نفعل ذلك معذرة إلى ربكم. والأصح أنها من قول الفرقة الساكنة, قالوا لم تعظون
قوما الله مهلكهم, قالوا معذرة إلى ربكم, ومعناه أن الأمر بالمعروف واجب علينا
فعلينا موعظة هؤلاء عذرا إلى الله, ( وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) أي: يتقون الله ويتركوا المعصية, ولو كان الخطاب مع
المعتدين لكان يقول ولعلكم تتقون.
( فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ ) أي: تركوا ما وعظوا به, ( أَنْجَيْنَا الَّذِينَ
يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا ) يعني الفرقة العاصية, ( بِعَذَابٍ بَئِيسٍ ) أي: شديد وجيع, من البأس وهو
الشدة.
واختلف
القراء فيه قرأ أهل المدينة وابن عامر « بئيس » بكسر
الباء على وزن فعل, إلا أن ابن عامر يهمزه, وأبو جعفر ونافع لا يهمزان, وقرأ عاصم
في رواية أبي بكر بفتح الباء وسكون الياء وفتح الهمزة على وزن فيعل مثل صيقل, وقرأ
الآخرون على وزن فعيل مثل بعير وصغير.
( بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ) قال ابن عباس رضي الله عنهما:
أسمع الله يقول: « أنجينا
الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس » , فلا أدري ما فعل بالفرقة
الساكتة؟ قال عكرمة: قلت له: جعلني الله فداك ألا تراهم قد أنكروا وكرهوا ما هم
عليه, وقالوا: لم تعظون قوما الله مهلكهم؟ وإن لم يقل الله أنجيتهم لم يقل:
أهلكتهم, فأعجبه قولي, فرضي وأمر لي ببردين فكسانيهما.
وقال
يمان بن رباب: نجت الطائفتان الذين قالوا لم تعظون قوما والذين قالوا معذرة إلى
ربكم, وأهلك الله الذين أخذوا الحيتان. وهذا قول الحسن.
وقال ابن
زيد: نجت الناهية, وهلكت الفرقتان, وهذه أشد آية في ترك النهي عن المنكر.
فَلَمَّا
عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ( 166 ) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ
عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ
رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ( 167 )
قوله
تعالى: (
فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ ) قال ابن عباس: أبوا أن يرجعوا عن المعصية ( قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا
قِرَدَةً خَاسِئِينَ )
مبعدين, فمكثوا ثلاثة أيام ينظر إليهم الناس ثم هلكوا.
( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ ) أي: آذن وأعلم ربك, يقال:
تأذن وآذن, مثل: توعد وأوعد. وقال ابن عباس: تأذن ربك قال ربك. وقال مجاهد: أمر
ربك. وقال عطاء: حكم ربك. ( لَيَبْعَثَنَّ
عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ) أي: على اليهود, ( مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ ) بعث الله عليهم محمدا صلى
الله عليه وسلم وأمته يقاتلونهم حتى يسلموا أو يعطوا الجزية, ( إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ
الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ )
وَقَطَّعْنَاهُمْ
فِي الأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ
وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ( 168 ) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ
خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ
سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ
عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ
وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا
تَعْقِلُونَ ( 169
)
( وَقَطَّعْنَاهُمْ ) وفرقناهم ( فِي
الأرْضِ أُمَمًا ) فرقا
فرقهم الله فتشتت أمرهم ولم تجتمع لهم كلمة, ( مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ ) قال ابن عباس ومجاهد: يريد الذين أدركوا رسول الله صلى الله
عليه وسلم وآمنوا به (
وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ ) يعني
الذين بقوا على الكفر.
وقال
الكلبي: منهم الصالحون هم الذين وراء نهر أوداف من وراء الصين ومنهم دون ذلك,
يعني: من هاهنا من اليهود, (
وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ ) بالخصب
والعافية, (
وَالسَّيِّئَاتِ ) الجدب
والشدة, (
لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) لكي
يرجعوا إلى طاعة ربهم ويتوبوا.
قوله عز
وجل: (
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ ) أي:
جاء من هؤلاء الذين وصفناهم (
خَلْفٌ )
والخلف: القرن الذي يجيء بعد قرن. قال أبو حاتم: الخلف بسكون اللام الأولاد,
الواحد والجمع فيه سواء, والخلف بفتح اللام: البدل سواء كان ولدا أو غريبا.
وقال ابن
الأعرابي: الخلّف بالفتح: الصالح, وبالجزم: الطالح.
وقال
النضر بن شميل: الخلف بتحريك اللام وإسكانها في القرن السوء واحد, وأما في القرن
الصالح فبتحريك اللام لا غير.
وقال
محمد بن جرير: أكثر ما جاء في المدح بفتح اللام, وفي الذم بتسكينها وقد يحرك في
الذم ويسكن في المدح. (
وَرِثُوا الْكِتَابَ ) أي:
انتقل إليهم الكتاب من آبائهم وهو التوراة, ( يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى ) فالعرض متاع الدنيا,
والعَرْض, بسكون الراء, ما كان من الأموال سوى الدراهم والدنانير. وأراد بالأدنى
العالَم, وهو هذه الدار الفانية, فهو تذكير الدنيا, وهؤلاء اليهود ورثوا التوراة
فقرؤوها وضيّعوا العمل بما فيها, وخالفوا حكمها, يرتشون في حكم الله وتبديل
كلماته, (
وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا ) ذنوبنا
يتمنون على الله الأباطيل.
أخبرنا
محمد بن عبد الله بن أبي توبة أنبأنا أبو طاهر, محمد بن أحمد بن الحارث, أنبأنا
أبو الحسن محمد بن يعقوب الكسائي, أنبأنا عبد الله بن محمود, أنبأنا إبراهيم بن
عبد الله الخلال, أنبأنا عبد الله بن المبارك عن أبي بكر بن أبي مريم الغساني عن
ضمرة بن حبيب عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « الكيس من دان نفسه وعمل لما
بعد الموت, والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله » .
( وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ
مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ ) هذا
إخبار عن حرصهم على الدنيا وإصرارهم على الذنوب, يقول إذا أشرف لهم شيء من الدنيا
أخذوه حلالا كان أو حراما, ويتمنون على الله المغفرة وإن وجدوا من الغد مثله
أخذوه. وقال السدي: كانت بنو إسرائيل لا يستقضون قاضيا إلا ارتشى في الحكم, فيقال
له: ما لك ترتشي؟ فيقول: سيغفر لي, فيطعن عليه الآخرون, فإذا مات أو نـزع وجعل
مكانه رجل ممن كان يطعن عليه فيرتشي أيضا. يقول: وإن يأت الآخرين عرض مثله يأخذوه.
( أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ
مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ ) أي: أخذ عليهم العهد في
التوراة أن لا يقولوا على الله الباطل, وهي تمني المغفرة مع الإصرار, وليس في
التوراة ميعاد المغفرة مع الإصرار, ( وَدَرَسُوا مَا فِيهِ ) قرأوا ما فيه, فهم ذاكرون لذلك, ولو عقلوه لعملوا للدار
الآخرة, ودرس الكتاب: قراءته وتدبره مرة بعد أخرى, ( وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ
لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ )
وَالَّذِينَ
يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ
الْمُصْلِحِينَ ( 170
)
( وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ
بِالْكِتَابِ ) قرأ
أبو بكر عن عاصم: « يمسكون
»
بالتخفيف, وقراءة العامة بالتشديد, لأنه يقال: مسكت بالشيء, ولا يقال أمسكت
بالشيء, إنما يقال: أمسكته, وقرأ أبي بن كعب: « والذين تمسكوا بالكتاب » , على الماضي وهو جيد لقوله تعالى: ( وَأَقَامُوا الصَّلاةَ ) إذ قَلَّ ما يعطف ماض على
مستقبل إلا في المعنى, [
وأراد ] الذين
يعملون بما في الكتاب, قال مجاهد: هم المؤمنون من أهل الكتاب, عبد الله بن سلام
وأصحابه, تمسكوا بالكتاب الذي جاء به موسى فلم يحرّفوه ولم يكتموه ولم يتخذوه
مأكلة. وقال عطاء: هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم. ( وَأَقَامُوا الصَّلاةَ
إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ )
وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ
فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا
آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( 171
) وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ
ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا
بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا
غَافِلِينَ ( 172 )
قوله تعالى: (
وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ ) أي:
فلقنا الجبل, وقيل: رفعناه ( كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ ) قال
عطاء: سقيفة, والظلة: كل ما أظلك, (
وَظَنُّوا ) علموا ( أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ
خُذُوا ) أي: وقلنا لهم خذوا, ( مَا آتَيْنَاكُمْ
بِقُوَّةٍ ) بجد واجتهاد, (
وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ ) واعلموا به, (
لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) وذلك حين أبوا أن يقبلوا
أحكام التوراة, فرفع الله على رءوسهم جبلا. قال الحسن: فلما نظروا إلى الجبل خر كل
رجل منهم ساجدا على حاجبه الأيسر ينظر بعينه اليمنى إلى الجبل فرقا من أن يسقط
عليه, ولذلك لا تجد يهوديا إلا ويكون سجوده على حاجبه الأيسر.
قوله تعالى: (
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ) الآية.
أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد
السرخسي, أنا زاهر بن أحمد, أنا أبو إسحاق الهاشمي, أنا أبو مصعب, عن مالك, عن زيد
بن أبي أنيسة, عن عبد الحميد بن عبد الرحمن, عن زيد بن الخطاب أخبره عن مسلم بن
يسار الجهني أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سئل عن هذه الآية: (
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ) الآية.
قال عمر بن الخطاب: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم [
يُسأل عنها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ] « إن
الله عز وجل خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه, فاستخرج منه ذرية, فقال: خلقت هؤلاء
للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون. ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال: خلقت هؤلاء
للنار وبعمل أهل النار يعملون, فقال رجل: ففيم العمل يا رسول الله؟ فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: إن الله عز وجل إذا خلق العبد للجنة استعمله للجنة بعمل أهل
الجنة, حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة, فيدخله به الجنة وإذا خلق العبد
للنار استعمله بعمل أهل النار, حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله به
النار » وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن. ومسلم بن يسار لم يسمع من عمر,
وقد ذكر بعضهم في هذا الإسناد بين مسلم بن يسار وعمر رجلا.
قال مقاتل وغيره من أهل
التفسير: إن الله مسح صفحة ظهر آدم اليمنى فأخرج منه ذرية بيضاء كهيئة الذر
يتحركون, ثم مسح صفحة ظهره اليسرى فأخرج منه ذرية سوداء كهيئة الذر, فقال: يا آدم
هذه ذريتك, ثم قال لهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى, فقال للبيض: هؤلاء في الجنة
برحمتي ولا أبالي وهم أصحاب اليمين, وقال للسود: هؤلاء في النار ولا أبالي, وهم
أصحاب الشمال, ثم أعادهم جميعا في صلبه, فأهل القبور محبوسون حتى يخرج أهل الميثاق
كلهم من أصلاب الرجال وأرحام النساء. قال الله تعالى فيمن نقض العهد الأول: وَمَا
وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ [
الأعراف- 102 ] .
وقال بعض أهل التفسير: إن أهل
السعادة أقروا طوعا وقالوا: بلى, وأهل الشقاوة قالوه تقية وكرها, وذلك معنى قوله:
وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا [ آل
عمران- 83 ] .
واختلفوا في موضع الميثاق؛ قال
ابن عباس رضي الله عنهما: ببطن نَعْمان - واد إلا جنب عرفة - وروي عنه أيضا: أنه
بدهناء من أرض الهند وهو الموضع الذي هبط آدم عليه السلام عليه. وقال الكلبي: بين
مكة والطائف, وقال السدي: أخرج الله آدم عليه السلام من الجنة فلم يهبط من السماء
ثم مسح ظهره فأخرج ذريته. وروي: أن الله أخرجهم جميعا وصوّرهم وجعل لهم عقولا
يعلمون بها وألسنا ينطقون بها ثم كلمهم قُبُلا - يعني عيانا - وقال ألست بربكم؟
وقال الزجاج وجائز أن يكون الله تعالى جعل لأمثال الذر فهما تعقل به, كما قال
تعالى: قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ [
النمل- 18 ] .
وروي أن الله تعالى قال لهم
جميعا: اعملوا أنه لا إله غيري وأنا ربكم لا رب لكم غيري فلا تشركوا بي شيئا, فإني
سأنتقم ممن أشرك بي ولم يؤمن بي, وإني مرسل إليكم رسلا يذكرونكم عهدي وميثاقي,
ومنـزل عليكم كتبا, فتكلموا جميعا, وقالوا: شهدنا أنك ربنا وإلهنا لا رب لنا غيرك,
فأخذ بذلك مواثيقهم, ثم كتب آجالهم وأرزقاهم ومصائبهم, فنظر إليهم آدم فرأى منهم
الغني والفقير وحسن الصورة ودون ذلك, فقال: رب لولا سويت بينهم؟ قال: إني أحب أن
أشكر, فلما قررهم بتوحيده وأشهد بعضهم على بعض أعادهم إلى صلبه فلا تقوم الساعة
حتى يولد كل من أخذ ميثاقه فذلك قوله تعالى: « وإذ
أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم » أي: من ظهور بني آدم ذريتهم,
قرأ أهل المدينة وأبو عمرو وابن عامر: «
ذرياتهم » بالجمع وكسر التاء, وقرأ الآخرون « ذريتهم
» على التوحيد, ونصب التاء.
فإن قيل: ما معنى قوله « وإذ
أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم » وإنما أخرجهم من ظهر آدم؟ قيل:
إن الله أخرج ذرية آدم بعضهم من ذرية آدم بعضهم من ظهور بعض على نحو ما يتوالد
الأبناء من الآباء في الترتيب, فاستغنى عن ذكر ظهر آدم لِمَا علم أنهم كلهم بنوه
وأخرجوا من ظهره
قوله تعالى: (
وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى ) أي:
أشهد بعضهم على بعض: ( شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا ) قرأ
أبو عمرو: « أن يقولوا » ويقولوا
بالياء فيهما, وقرأ الآخرون بالتاء فيهما.
واختلفوا في قوله: « شهدنا
» قال السدي: هو خبر من الله عن نفسه وملائكته أنهم شهدوا على
إقرار بني آدم. وقال بعضهم: هو خبر عن قول بني آدم حين أشهد الله بعضهم على بعض,
فقالوا بلى شهدنا. وقال الكلبي: ذلك من قول الملائكة, وفيه حذف تقديره: لما قالت
الذرية: بلى قال الله للملائكة: اشهدوا, قالوا: شهدنا, قوله: « أن
يقولوا » يعني: وأشهدهم على أنفسهم أن يقولوا, أي: لئلا يقولوا أو
كراهية أن يقولوا, ومن قرأ بالتاء فتقدير الكلام: أخاطبكم: ألست بربكم لئلا
تقولوا: ( يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ) أي: عن
هذا الميثاق والإقرار, فإن قيل: كيف تلزم الحجة على أحد لا يذكر الميثاق؟ قيل: قد
أوضح الله الدلائل على وحدانيته وصدق رسله فيما أخبروا, فمن أنكره كان معاندا
ناقضا للعهد ولزمته الحجة, وبنسيانهم وعدم حفظهم لا يسقط الاحتجاج بعد إخبار
المخبر الصادق صاحب المعجزة.
أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا
أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ
أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ ( 173
) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ
( 174 )
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا
فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ ( 175
)
قوله تعالى: ( أَوْ تَقُولُوا
إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ ) يقول:
إنما أخذ الميثاق عليكم لئلا تقولوا أيها المشركون: إنما أشرك آباؤنا من قبل
ونقضوا العهد وكنا ذرية من بعدهم, أي كنا أتباعا لهم فاقتدينا بهم, فتجعلوا هذا
عذرا لأنفسكم وتقولوا: ( أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا
فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ ) أفتعذبنا بجناية آبائنا
المبطلين, فلا يمكنهم أن يحتجوا بمثل هذا الكلام بعد تذكير الله تعالى بأخذ
الميثاق على التوحيد.
(
وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ ) أي: نبين الآيات ليتدبرها
العباد, ( وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) من
الكفر إلى التوحيد.
قوله تعالى: (
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا ) الآية.
اختلفوا فيه, قال ابن عباس كان من بني إسرائيل. وروي عن علي بن أبي طلحة رضي الله
عنه أنه كان من الكنعانيين من مدينة الجبارين وقال مقاتل: هو من مدينة بلقا.
وكانت قصته - على ما ذكره ابن
عباس وابن إسحاق والسدي وغيرهم - أن موسى لما قصد حرب الجبارين ونـزل أرض بني
كنعان من أرض الشام أتى قوم بلعم إلى بلعم - وكان عنده اسم الله الأعظم - فقالوا:
إن موسى رجل حديد ومعه جند كثير, وأنه جاء يخرجنا من بلادنا ويقتلنا ويحلها بني
إسرائيل, وأنت رجل مجاب الدعوة, فاخرج فادع الله أن يردهم عنا, فقال: ويلكم نبي
الله ومعه الملائكة والمؤمنون كيف أدعو عليهم وأنا أعلم من الله ما أعلم, وإني إن
فعلت هذا ذهبت دنياي وآخرتي, فراجعوه وألحوا عليه فقال: حتى أؤامر ربي, وكان لا
يدعوه حتى ينظر ما يؤمر به في المنام فآمر في الدعاء عليهم, فقيل له في المنام لا
تدع عليهم, فقال لقومه: إني قد آمرت ربي وإني قد نهيت فأهدوا إليه هدية فقبلها, ثم
راجعوه فقال: حتى أؤامر, فآمر, فلم يوح إليه شيء, فقال: قد آمرت فلم يجز إلي شيء, فقالوا:
لو كره ربك أن تدعو عليهم لنهاك كما نهاك في المرة الأولى, فلم يزالوا يتضرعون
إليه حتى فتنوه فافتتن فركب أتانا له متوجها إلى جبل يطلعه على عسكر بني إسرائيل
يقال له حسبان, فلما سار عليها غير كثير ربضت به, فنـزل عنها فضربها حتى إذا
أذلقها قامت فركبها, فلم تسر به كثيرا حتى ربضت, ففعل بها مثل ذلك فقامت, فركبها
فلم تسر به كثيرا حتى ربضت, فضربها حتى أذلقها, أذن الله لها بالكلام فكلمته حجة
عليه, فقالت: ويحك يا بلعم أين تذهب بي؟ ألا ترى الملائكة أمامي تردني عن وجهي
هذا؟ أتذهب بي إلى نبي الله والمؤمنين تدعو عليهم؟ فلم ينـزع, فخلى الله سبيلها
فانطلقت حتى إذا أشرفت به على جبل حسبان جعل يدعو عليهم ولا يدعو عليهم بشيء إلا
صرف الله به لسانه إلى قومه, ولا يدعو لقومه بخير إلا صرف الله به لسانه إلى بني
إسرائيل. فقال له قومه: يا بلعم أتدري ماذا تصنع إنما تدعو لهم علينا؟! فقال: هذا
ما لا أملكه, هذا شيء قد غلب الله عليه, فاندلع لسانه فوقع على صدره, فقال لهم: قد
ذهبت الآن مني الدنيا والآخرة فلم يبق إلا المكر والحيلة, فسأمكر لكم وأحتال,
جمِّلوا النساء وزيِّنوهن وأعطوهن السلع, ثم أرسلوهن إلى العسكر يبعنها فيه,
ومروهن فلا تمنع امرأة نفسها من رجل أرادها, فإنهم إن زنا رجل واحد منهم كفيتموهم,
ففعلوا فلما دخل النساء العسكر مرت امرأة من الكنعانيين, اسمها كستى بنت صور, برجل
من عظماء بني إسرائيل يقال له زمري بن شلوم رأس سبط شمعون بن يعقوب, فقام إليها
فأخذ بيدها حين [ أعجبه جمالها ] ثم
أقبل بها حتى وقف بها على موسى, فقال: إني أظنك ستقول هذه حرام عليك؟ قال: أجل هي
حرام عليك لا تقربها, قال: فوالله لا أطيعك في هذا, ثم دخل بها قبته فوقع عليها
فأرسل الله الطاعون على بني اسرائيل في الوقت, وكان فنحاص بن العيزار بن هارون
صاحب أمر موسى, وكان رجلا قد أعطي بسطة في الخلق وقوة في البطش, وكان غائبا حين
صنع زمري بن شلوم ما صنع, فجاء والطاعون يجوس بني إسرائيل, فأخبر الخبر, فأخذ
حربته وكانت من حديد كلها, ثم دخل عليهما القبة, وهما متضاجعان فانتظمهما بحربته,
ثم خرج بهما رافعهما إلى السماء, والحربة قد أخذها بذراعه واعتمد بمرفقه على
خاصرته, وأسند الحربة إلى لحيته وكان بكر العيزار, وجعل يقول: اللهم هكذا نفعل بمن
يعصيك, ورُفع الطاعون, فحُسِب من هلك من بني إسرائيل في الطاعون فيما بين أن أصاب
زمري المرأة إلى أن قتله فنحاص, فوجدوا قد هلك منهم سبعون ألفا في ساعة من النهار,
فمن هنالك يعطي بنو إسرائيل ولد فنحاص من كل ذبيحة ذبحوها القبة والذراع واللحى,
لاعتماده بالحربة على خاصرته, وأخذه إياها بذراعه, وإسناده إياها إلى لحيته,
والبكر من كل أموالهم وأنفسهم, لأنه كان بكر العيزار وفي بلعم أنـزل الله تعالى: « واتل
عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا » الآية.
وقال مقاتل: إن ملك البلقاء قال
لبلعام: ادع الله على موسى, فقال: إنه من أهل ديني لا أدعو عليه, فنحت خشبة ليصلبه
فلما رأى ذلك خرج على أتان له ليدعو عليه, فلما عاين عسكرهم قامت به الأتان ووقفت
فضربها, فقالت: لِمَ تضربني؟ إني مأمورة وهذه نار أمامي قد منعتني أن أمشي فرجع
وأخبر الملك فقال: لتدعون عليه أو لأصلبنك, فدعا على موسى بالاسم الأعظم: أن لا
يدخل المدينة, فاستجيب له ووقع موسى وبنو إسرائيل في التية بدعائه, فقال موسى: يا
رب بأيّ ذنب وقعنا في التيه؟ فقال: بدعاء بلعام. قال: فكما سمعت دعاءه عليّ فاسمع
دعائي عليه, [ فدعا موسى عليه السلام ] أن
ينـزع عنه الاسم الأعظم والإيمان, فنـزع الله عنه المعرفة وسلخه منها فخرجت من
صدره كحمامة بيضاء, فذلك قوله: « فانسلخ منها » .
وقال عبد الله بن عمرو بن
العاص, وسعيد بن المسيب, وزيد بن أسلم: نـزلت هذه الآية في أمية بن أبي الصلت
الثقفي, وكانت قصته: أنه كان قد قرأ الكتب وعلم أن الله مرسل رسولا فرجا أن يكون
هو ذلك الرسول, فلما أرسل محمد صلى الله عليه وسلم حسده وكفر به, وكان صاحب حكمة
وموعظة حسنة, وكان قصد بعض الملوك فلما رجع مر على قتلى بدر, فسأل عنهم فقيل:
قتلهم محمد, فقال: لو كان نبيا ما قتل أقرباءه, فلما مات أمية أتت أخته فارعة إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم, فسألها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وفاة أخيها
فقالت: بينما هو راقد أتاه آتيان فكشفا سقف البيت, فنـزلا فقعد أحدهما عند رجليه
والآخر عند رأسه, فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه: وعى؟ قال أزكى؟ قال: أبى,
قالت: فسألته عن ذلك فقال: خير أريد بي, فصرف عني فغشي عليه, فلما أفاق قال:
كــل عيش وإن تطــاول دهـــرا
صـائــر مــرة إلـى أن يــزولا
ليتنـي كـنت قبـل مـا قــد بـدا
لي فـي قـلال الجبـال أرعـى الوعـولا
إن يــوم الحســاب يــوم عظيـم
شـاب فيـه الصغـيـر يومـا ثقيـلا
ثم قال لها رسول الله صلى الله
عليه وسلم: أنشديني من شعر أخيك, فأنشدته بعض قصائده, فقال لها رسول الله صلى الله
عليه وسلم: « آمن شعره وكفر قلبه » ,
فأنـزل الله عز وجل ( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ
الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا ) الآية
.
وفي رواية عن ابن عباس: أنها
نـزلت في البسوس, رجل من بني إسرائيل وكان قد أعطي له ثلاث دعوات مستجابات, وكانت
له امرأة له منها ولد, فقالت: اجعل لي منها دعوة, فقال لك منها واحدة فما تريدين؟
قالت: ادع الله أن يجعلني أجمل امرأة في بني إسرائيل, فدعا لها فجعلت أجمل النساء
في بني إسرائيل, فلما علمت أنه ليس فيهم مثلها رغبت عنه, فغضب الزوج ودعا عليها
فصارت كلبة نباحة, فذهبت فيها دعوتان, فجاء بنوها وقالوا: ليس لنا على هذا قرار,
قد صارت أمنا كلبة نباحة, والناس يعيِّروننا بها, ادع الله أن يردّها إلى الحال
التي كانت عليها, فدعا الله فعادت كما كانت, فذهبت فيها الدعوات كلها . والقولان
الأولان أظهر .
وقال الحسن وابن كيسان: نـزلت
في منافقي أهل الكتاب الذين كانوا يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم.
وقال قتادة: هذا مثل ضربه الله
عز وجل لمن عُرض عليه الهدى فأبى أن يقبله, فذلك قوله « واتل
عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا » . قال ابن عباس والسدي: اسم
الله الأعظم. قال ابن زيد: كان لا يسأل الله شيئا إلا أعطاه. وقال ابن عباس في
رواية أخرى: أوتي كتابا من كتب الله فانسلخ, أي: خرج منها كما تنسلخ, أي: خرج منها
كما تنسلخ الحية من جلدها. ( فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ ) أي:
لحقه وأدركه, ( فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ )
وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ
بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ
كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ
ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ
لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ( 176 )
(
وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا ) أي:
رفعنا درجته ومنـزلته بتلك الآيات. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: لرفعناه بعلمه
بها. وقال مجاهد وعطاء: لرفعنا عنه الكفر وعصمناه بالآيات. (
وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ ) أي:
سكن إلى الدنيا ومال إليها. قال الزجاج: خلد وأخلد واحد. وأصله من الخلود وهو
الدوام والمقام, يقال: أخلد فلان بالمكان إذا أقام به, والأرض هاهنا عبارة عن
الدنيا, لأن ما فيها من القفار والرباع كلها أرض, وسائر متاعها مستخرج من الأرض. (
وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ) انقاد لما دعاه إليه الهوى,
قال ابن زيد: كان هواه مع القوم. قال عطاء: أراد الدنيا وأطاع شيطانه. وهذه أشد
آية على العلماء, وذلك أن الله أخبر أنه آتاه [ آية
] من اسمه الأعظم والدعوات المستجابة والعلم والحكمة, فاستوجب
بالسكون إلى الدنيا واتباع الهوى تغيير النعمة عليه والانسلاخ عنها, ومَن الذي يَسْلَمُ
من هاتين الخلتين إلا من عصمه الله؟
أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد
الله بن أبي توبة أنا محمد بن أحمد بن الحارث, أنا محمد بن يعقوب الكسائي, أنا عبد
الله بن محمود, أنا إبراهيم بن عبد الله الخلال, أنا عبد الله بن المبارك عن زكريا
بن أبي زائدة, عن محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة عن كعب بن مالك الأنصاري عن
أبيه, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما
ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه » .
قوله تعالى: (
فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ
يَلْهَثْ ) يقال: لهث الكلب يلهث لهثا: إذا أدلع لسانه. قال مجاهد: هو
مثل الذي يقرأ الكتاب ولا يعمل به.
والمعنى: إن هذا الكافر إن
زجرته لم ينـزجر, وإن تركته لم يهتد, فالحالتان عنده سواء, كحالتي الكلب: إن طرد
وحمل عليه بالطرد كان لاهثا, وإن ترك وربض كان لاهثا. قال القتيبي: كل شيء يلهث
إنما يلهث من إعياء أو عطش إلا الكلب, فإنه يلهث في حال الكلال وفي حال الراحة وفي
حال العطش, فضربه الله مثلا لمن كذب بآياته فقال: إن وعظته فهو ضال وإن تركته فهو
ضال كالكلب إن طردته لهث, وإن تركته على حاله لهث, نظيره قوله تعالى: وَإِنْ
تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ
أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ [
الأعراف- 193 ] , ثم عم بهذا التمثيل جميع من يكذب بآيات الله فقال: (
ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ
لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) وقيل: هذا مثل لكفار مكة وذلك
أنهم كانوا يتمنون هاديا يهديهم ويدعوهم إلى طاعة الله, فلما جاءهم نبي لا يشكّون
في صدقه كذّبوه فلم يهتدوا تُركوا أو دُعوا.
سَاءَ مَثَلا الْقَوْمُ
الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ ( 177
) مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ
فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ( 178
)
( سَاءَ مَثَلا الْقَوْمُ
الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ) أي:
بئس مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا, وتقديره: ساء مثلا مثل القوم, فحذف مثل وأقيم
القوم مقامه فرُفع, ( وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا
يَظْلِمُونَ )
وَلَقَدْ ذَرَأْنَا
لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ
بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ
بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ( 179
) وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا
وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ ( 180 )
( وَلَقَدْ
ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ ) أخبر
الله تعالى أنه خلق كثيرا من الجن والإنس للنار, وهم الذين حقت عليهم الكلمة
الأزلية بالشقاوة, ومن خلقه الله لجهنم فلا حيلة له في الخلاص منها.
أخبرنا أبو بكر يعقوب بن أحمد
بن محمد بن علي الصيرفي, أنا أبو محمد الحسن بن أحمد المخلدي, أنا أحمد بن محمد بن
أبي حمزة البلخي, حدثنا موسى بن محمد بن الحكم الشطوي, حدثنا حفص بن غياث, عن طلحة
بن يحيى, عن عائشة بنت طلحة عن عائشة أم المؤمنين قالت: أدرك النبي صلى الله عليه
وسلم جنازة صبي من صبيان الأنصار, فقالت عائشة: طوبى له عصفور من عاصفير الجنة,
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « وما
يدريك؟ إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلا وهم في أصلاب آبائهم, وخلق النار وخلق لها
أهلا وهم في أصلاب آبائهم » . وقيل: اللام في قوله « لجهنم
» لام العاقبة, أي: ذرأناهم, وعاقبة أمرهم جهنم, كقوله تعالى:
فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا ( القصص
8 ) , ثم وصفهم فقال: (
لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا ) أي لا
يعلمون بها الخير والهدى. ( وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا
يُبْصِرُونَ بِهَا ) طريق الحق وسبيل الرشاد, (
وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا ) مواعظ
القرآن فيتفكرون فيها ويعتبرون بها, ثم ضرب لهم مثلا في الجهل والاقتصار على الأكل
والشرب, فقال: ( أُولَئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ
هُمْ أَضَلُّ ) أي: كالأنعام في أن همتهم في الأكل والشرب والتمتع
بالشهوات, بل هم أضل لأن الأنعام تميز بين المضار والمنافع, فلا تقدم على المضار,
وهؤلاء يقدمون على النار معاندة, مع العلم بالهلاك, (
أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ )
قوله تعالى: (
وَلِلَّهِ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ) قال
مقاتل: وذلك أن رجلا دعا الله في صلاته ودعا الرحمن, فقال بعض مشركي مكة: إن محمدا
صلى الله عليه وسلم وأصحابه يدّعون أنهم يعبدون ربا واحدا, فما بال هذا يدعو
اثنين؟ فأنـزل الله عز وجل: « ولله الأسماء الحسنى فادعوه
بها » . والحسنى تأنيث الأحسن كالكبرى والصغرى, فادعوه بها.
أخبرنا أحمد بن عبد الله
الصالحي, أنا أبو الحسين علي بن محمد بن عبد الله بن بشران, أنا أبو علي إسماعيل
بن محمد الصفار, أنا أحمد بن منصور المرادي حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن همام
بن منبه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إن لله
تسعة وتسعين اسما, مائة إلا واحدا, من أحصاها دخل الجنة إنه وتر يحب الوتر » .
(
وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ ) قرأ
حمزة: « يلحدون » - بفتح الياء والحاء حيث كان -
وافقه الكسائي في النحل, والباقون بضم الياء وكسر الحاء, ومعنى الإلحاد هو: الميل
عن [ المقصد ] يقال:
ألحد يلحد إلحادا, ولحد يلحد لحودا: إذا مال. قال يعقوب بن السكيت: الإلحاد هو
العدول عن الحق, وإدخال ما ليس منه فيه, يقال: ألحد في الدين, ولحد, وبه قرأ حمزة.
( وَذَرُوا الَّذِينَ
يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ ) هم المشركون عدلوا بأسماء
الله تعالى عما هي عليه, فسموا بها أوثانهم فزادوا ونقصوا, فاشتقوا اللات من « الله » والعزى
من « العزيز » , ومناة من « المنان
» , هذا قول ابن عباس ومجاهد.
وقيل: هو تسميتهم الأصنام آلهة.
وروي عن ابن عباس: يلحدون في أسمائه أي يكذبون. وقال أهل المعاني: الإلحاد في
أسماء الله: تسميته بما لم يُسَمَّ به, ولم ينطق به كتاب الله ولا سنة رسول الله
صلى الله عليه وسلم.
وجملته: أن أسماء الله تعالى
على التوقيف فإنه يسمى جوادا ولا يسمى سخيا, وإن كان في معنى الجواد, ويسمى رحيما
ولا يسمى رفيقا, ويسمى عالما ولا يسمى عاقلا وقال تعالى: يُخَادِعُونَ اللَّهَ
وَهُوَ خَادِعُهُمْ ( النساء 142 ) وقال
عز من قائل: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ ( آل
عمران- 54 ) , ولا يقال في الدعاء: يا مخادع, يا مكار, بل يدعى بأسمائه
التي ورد بها التوقيف على وجه التعظيم, فيقال: يا الله, يا رحمن, يا رحيم, يا
عزيز, يا كريم ونحو ذلك. ( سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ ) في الآخرة.
وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ
يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ( 181
) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ
مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ ( 182 ) وَأُمْلِي
لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ( 183 )
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ
مُبِينٌ ( 184 )
قوله تعالى: (
وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ ) أي: عصابة, (
يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ) قال
عطاء عن ابن عباس: يريد أمة محمد صلى الله عليه وسلم, وهم المهاجرون والتابعون لهم
بإحسان. وقال قتادة: بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ هذه الآية
قال: « هذه لكم وقد أعطي القوم بين أيديكم مثلها, ومن قوم موسى أمة
يهدون بالحق وبه يعدلون » .
أخبرنا عبد الواحد المليحي, أنا
أحمد بن عبد الله النعيمي, أنا محمد بن يوسف, أنا محمد بن إسماعيل, حدثنا الحميدي,
حدثني الوليد, حدثني ابن جابر, وهو عبد الرحمن بن يزيد بن جابر, حدثني عمير بن
هانئ أنه سمع معاوية رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « لا
تزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله, لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر
الله وهم على ذلك » . وقال الكلبي: هم من جميع
الخلق.
(
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ
) قال عطاء: سنمكر بهم من حيث لا يعلمون. وقيل: نأتيهم من
مأمنهم, كما قال: فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا (
الحشر- 2 ) , قال الكلبي: يزين لهم أعمالهم ويهلكهم. وقال الضحاك: كلما
جدَّدوا معصية جددنا لهم نعمة. قال سفيان الثوري: نسبغ عليهم النعمة وننسيهم
الشكر. قال أهل المعاني: الاستدراج أن يتدرج إلى الشيء في خفية قليلا قليلا فلا
يباغت ولا يجاهر, ومنه درج الصبي إذا قارب بين خطاه في المشي, ومنه درج الكتاب إذا
طواه شيئا بعد شيء.
(
وَأُمْلِي لَهُمْ ) أي: أمهلهم وأطيل لهم مدة
عمرهم ليتمادوا في المعاصي, ( إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ) أي: إن
أخذي قوي شديد, قال ابن عباس: إن مكري شديد. قيل: نـزلت في المستهزئين, فقتلهم
الله في ليلة واحدة.
قوله تعالى: (
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ ) قال
قتادة ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قام على الصفا ليلا فجعل يدعو قرشا
فخذا فخذا: يا بني فلان, يا بني فلان, يحذرهم بأس الله ووقائعه, فقال قائلهم: إن
صاحبكم هذا لمجنون, بات يصوت إلى الصباح, فأنـزل الله تعالى: « أولم
يتفكروا ما بصاحبهم » محمد صلى الله عليه وسلم: ( مِنْ
جِنَّةٍ ) جنون, ( إِنْ هُوَ ) ما هو,
( إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ ) ثم
حثهم على النظر المؤدي إلى العلم فقال:
أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي
مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ
عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ
يُؤْمِنُونَ ( 185 ) مَنْ
يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ( 186
) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ
إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلا هُوَ ثَقُلَتْ
فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ
كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ
أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ( 187
)
( أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي
مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ ) فيهما
( مِنْ شَيْءٍ ) أي:
وينظروا إلى ما خلق الله من شيء ليستدلوا بها على وحدانيته. (
وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ ) أي:
لعل أن يكون قد اقترب أجلهم فيموتوا قبل أن يؤمنوا ويصيروا إلى العذاب, (
فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ) أي:
بعد القرآن يؤمنون. يقول: بأي كتاب غير ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم
يصدِّقون, وليس بعده نبي ولا كتاب, ثم ذكر علة إعراضهم عن الإيمان فقال:
( مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا
هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ ) قرأ أهل البصرة وعاصم بالياء
ورفع الراء, وقرأ حمزة والكسائي بالياء وجزم الراء, لأن ذكر الله قد مر قبله, وجزم
الراء مردود على « يضلل » وقرأ
الآخرون: بالنون ورفع الراء على أنه كلام مستأنف. ( فِي
طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) يترددون متحيرين.
قوله تعالى: (
يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا ) قال
قتادة: قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن بيننا وبينك قرابة فأسر إلينا
متى الساعة؟ فأنـزل الله تعالى: « يسألونك عن الساعة » يعني:
القيامة, ( أَيَّانَ مُرْسَاهَا ) قال
ابن عباس رضي الله عنهما: منتهاها. وقال قتادة: قيامها, وأصله الثبات, أي: مثبتها؟
( قُلْ ) يا محمد (
إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي ) استأثر
بعملها ولا يعلمها إلا هو, ( لا يُجَلِّيهَا ) لا
يكشفها ولا يظهرها. وقال مجاهد: لا يأتي بها, (
لِوَقْتِهَا إِلا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) يعني:
ثقل علمها وخفي أمرها على أهل السموات والأرض, وكل خفي ثقيل. قال الحسن: يقول إذا
جاء ثقلت وعظمت على أهل السموات والأرض, ( لا
تَأْتِيكُمْ إِلا بَغْتَةً ) فجأة على غفلة.
أخبرنا عبد الواحد المليحي, حدثنا أحمد بن عبد الله النعيمي,
حدثنا محمد بن يوسف, حدثنا محمد بن إسماعيل, حدثنا أبو اليمان, حدثنا شعيب, حدثنا
أبو الزناد عن عبد الرحمن الأعرج, عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال « لتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه
ولا يطويانه, ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه, ولتقومن
الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقي فيه, ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فيه فلا
يطعمها » .
( يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ
حَفِيٌّ عَنْهَا ) أي: عالم بها من قولهم أحفيت
في المسألة, أي: بالغت فيها, معناه: كأنك بالغت في السؤال عنها حتى علمتها, ( قُلْ
إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) أن
علمها عند الله حتى سألوا محمدا صلى الله عليه وسلم عنها.
قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي
نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ
لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ
وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( 188
)
( قُلْ
لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ ) قال
ابن عباس رضي الله عنهما: إن أهل مكة قالوا: يا محمد, ألا يخبرك ربك بالسعر الرخيص
قبل أن يغلو فتشتريه وتربح فيه عند الغلاء؟ وبالأرض التي يريد أن تجذب فترتحل منها
إلى ما قد أخصبت؟ فأنـزل الله تعالى « قل لا
أملك لنفسي نفعا » أي: لا أقدر لنفسي نفعا, أي:
اجتلاب نفع بأن أربح ولا ضرا, أي دفع ضر بأن أرتحل من أرض تريد أن تجدب إلا ما شاء
الله أن أملكه.
( وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ
الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ ) أي: لو
كنت أعلم الخصب والجدب لاستكثرت من الخير, أي: من المال لسنة القحط ( وَمَا
مَسَّنِيَ السُّوءُ ) أي: الضر والفقر والجوع.
وقال ابن جريج: « قل لا
أملك لنفسي نفعا ولا ضرا » يعني: الهدى والضلالة, ( ولو كنت
أعلم الغيب ) أي: متى أموت, لاستكثرت من الخير, يعني: من العمل الصالح
وما مسني السوء.
قال ابن زيد: واجتنبت ما يكون
من الشر واتقيته.
وقيل: معناه ولو كنت أعلم الغيب
أي متى الساعة لأخبرتكم حتى تؤمنوا وما مسني السوء بتكذيبكم. وقيل: ما مسني السوء:
ابتداء, يريد: وما مسني الجنون لأنهم كانوا ينسبونه إلى الجنون. ( إِنْ
أَنَا إِلا نَذِيرٌ ) لمن لا يصدق بما جئت به, (
وَبَشِيرٌ ) بالجنة, ( لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ )
يصدِّقون.
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ
نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا
تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا
اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ( 189
) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ
فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ( 190
)
قوله تعالى: ( هُوَ
الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ) يعني:
آدم, ( وَجَعَلَ ) وخلق (
مِنْهَا زَوْجَهَا ) يعني: حواء, (
لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا ) ليأنس بها ويأوي إليها (
فَلَمَّا تَغَشَّاهَا ) أي: واقعها وجامعها ( حَمَلَتْ
حَمْلا خَفِيفًا ) وهو أول ما تحمل المرأة من
النطفة يكون خفيفا عليها, ( فَمَرَّتْ بِهِ ) أي:
استمرت به وقامت وقعدت به, لم يثقلها, (
فَلَمَّا أَثْقَلَتْ ) أي: كبر الولد في بطنها وصارت
ذات ثقل بحملها ودنت ولادتها, ( دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا ) يعني
آدم وحواء, ( لَئِنْ آتَيْتَنَا ) يا
ربنا ( صَالِحًا ) أي:
بشرا سويا مثلنا, ( لَنَكُونَنَّ مِنَ
الشَّاكِرِينَ ) قال المفسرون: فلما حملت حواء
أتاها إبليس في صورة رجل, فقال لها: ما الذي في بطنك؟ قالت: ما أدري. قال: إني
أخاف أن يكون بهمية, أو كلبا, أو خنـزيرا, وما يدريك من أين يخرج؟ من دبرك فيقتلك,
أو من [ قبلك ] وينشق بطنك, فخافت حواء من
ذلك, وذكرت ذلك لآدم عليه السلام فلم يزالا في هم من ذلك, ثم عاد إليها فقال: إني
من الله بمنـزلة, فإن دعوت الله أن يجعله خلقا سويا مثلك ويسهل عليك خروجه تسمّيه عبد
الحارث؟ - وكان اسم إبليس في الملائكة الحارث - فذكرت ذلك لآدم, فقال: لعله صاحبنا
الذي قد علمتِ, فعاودها إبليس, فلم يزل بهما حتى غرهما, فلما ولدت سمياه عبد
الحارث .
قال الكلبي: قال إبليس لها: إن
دعوت الله فولدت إنسانا أتسمينه بي؟ قالت: نعم, فلما ولدت قال سميه بي, قالت: وما
اسمك قال الحارث, ولو سمى لها نفسه لعرفته فسمته عبد الحارث.
وروي عن ابن عباس رضي الله
عنهما قال: كانت حواء تلد لآدم فيسميه عبد الله, وعبيد اللهُ وعبد الرحمن, فيصيبهم
الموت, فأتاهما إبليس وقال: إن سركما أن يعيش لكما ولد فسمياه عبد الحارث, فولدت
فسمياه عبد الحارث فعاش. وجاء في الحديث: « خدعهما
إبليس مرتين مرة في الجنة ومرة في الأرض » .
وقال ابن زيد: ولد لآدم ولد
فسماه عبد الله فأتاهما إبليس فقال لهما: ما سميتما ابنكما؟ قالا عبد الله - وكان
قد ولد لهما قبل ذلك ولد فسمياه عبد الله فمات - فقال إبليس: أتظنان أن الله تارك
عبده عندكما, لا والله ليذهبن به كما ذهب بالآخر, ولكن أدلكم على اسم يبقى لكما ما
بقيتما, فسمياه عبد شمس. والأول أصح, فذلك قوله: (
فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا )
(
فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا ) بشرا سويا (
جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا ) قرأ
أهل المدينة وأبو بكر: « شركا » بكسر
الشين والتنوين, أي: شركة. قال أبو عبيدة: أي حظا ونصيبا, وقرأ الآخرون: « شركاء
» بضم الشين ممدودا على جمع شريك, يعني: إبليس, أخبر عن الواحد
بلفظ الجمع. أي: جعلا له شريكا إذ سمياه عبد الحارث, ولمن يكن هذا إشراكا في
العبادة ولا أن الحارث ربهما, فإن آدم كان نبيا معصوما من الشرك, ولكن قصد إلى أن
الحارث كان سبب نجاة الولد وسلامة أمه, وقد يطلق اسم العبد على من لا يراد به أنه
مملوك, كما يطلق اسم الرب على ما لا يراد به أنه معبود هذا, كالرجل إذا نـزل به ضيف
يسمي نفسه عبد الضيف, على وجه الخضوع لا على أن الضيف ربه, ويقول للغير: أنا عبدك.
وقال يوسف لعزيز مصر: إنه ربي, ولم يرد به أنه معبوده, كذلك هذا.
وقوله: (
فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) قيل:
هذا ابتداء كلام وأراد به إشراك أهل مكة, ولئن أراد به ما سبق فمستقيم من حيث أنه
كان الأولى بهما أن لا يفعلا ما أتيا به من الإشراك في الاسم.
وفي الآية قول آخر: وهو أنه
راجع إلى جميع المشركين من ذرية آدم, وهو قول الحسن وعكرمة, ومعناه: جعل أولادهما
شركاء, فحذف الأولاد وأقامهما مقامهم, كما أضاف فعل الآباء إلى الأبناء في تعييرهم
بفعل الآباء فقال: ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ , وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا خاطب
به اليهود الذين كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم, وكان ذلك الفعل من
آبائهم. وقيل: هم اليهود والنصارى, رزقهم الله أولادا فهودوا ونصروا, وقال ابن
كيسان: هم الكفار سموا أولادهم عبد العزى وعبد اللات وعبد مناة ونحوه. وقال عكرمة:
خاطب كل واحد من الخلق بقوله خلقكم أي خلق كل واحد من أبيه وجعل منها زوجها, أي:
جعل من جنسها زوجها, وهذا قول حسن, لولا قول السلف مثل عبد الله بن عباس رضي الله
عنهما ومجاهد وسعيد بن المسيب وجماعة المفسرين أنه في آدم وحواء.
أَيُشْرِكُونَ مَا لا
يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ ( 191
) وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلا أَنْفُسَهُمْ
يَنْصُرُونَ ( 192 )
وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ
أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ ( 193
) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ
أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 194
)
قال الله تعالى: (
أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئًا ) يعني:
إبليس والأصنام, ( وَهُمْ يُخْلَقُونَ ) أي: هم
مخلوقون.
( وَلا
يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا ) أي: الأصنام لا تنصر من
أطاعها, ( وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ ) قال
الحسن: لا يدفعون عن أنفسهم مكروه من أراد بهم بكسر أو نحوه ثم خاطب المؤمنين
فقال: ( وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى )
(
وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى ) إن
تدعوا المشركين إلى الإسلام, ( لا يَتَّبِعُوكُمْ ) قرأ
نافع بالتخفيف وكذلك: يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ في الشعراء ( الآية
224 ) وقرأ الآخرون بالتشديد فيهما وهما لغتان, يقال: تبعه تبعا
وأتبعه إتباعا. ( سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ
أَدَعَوْتُمُوهُمْ ) إلى الدين, ( أَمْ
أَنْتُمْ صَامِتُونَ ) عن دعائهم لا يؤمنون, كما
قال: سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ
( البقرة- 6 ) وقيل: « وإن
تدعوهم إلى الهدى » يعني: الأصنام, لا يتبعوكم
لأنها غير عاقلة.
( إِنَّ
الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ) يعني
الأصنام, ( عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ ) يريد
أنها مملوكة أمثالكم. وقيل: أمثالكم في التسخير, أي: أنهم مسخرون مذللون لما أريد
منهم. قال مقاتل: قوله « عباد أمثالكم » أراد به
الملائكة, والخطاب مع قوم كانوا يعبدون الملائكة. والأول أصح.
(
فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) أنها
آلهة, قال ابن عباس: فاعبدوهم, هل يثيبونكم أو يجاوزونكم إن كنتم صادقين أن لكم
عندها منفعة؟ ثم بيّن عجزهم فقال: أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ
أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا
أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ
بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ
بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ
كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ ( 195 )
( أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ
بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا ) قرأ
أبو جعفر بضم الهاء هنا وفي القصص والدخان, وقرأ الآخرون بكسر الطاء, ( أَمْ
لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ) أراد
أن قدرة المخلوقين تكون بهذه الجوارح والآلات, وليست للأصنام هذه الآلات, فأنتم
مفضلون عليها بالأرجل الماشية والأيدي الباطشة والأعين الباصرة والآذان السامعة,
فكيف تعبدون من أنتم أفضل وأقدر منهم؟ ( قُلِ
ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ) يا معشر المشركين, ( ثُمَّ
كِيدُونِ ) أنتم وهم, ( فَلا
تُنْظِرُونِ ) أي: لا تمهلوني واعجلوا في كيدي.
إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ
الَّذِي نَـزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ( 196
) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ
نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ ( 197
) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَسْمَعُوا
وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ ( 198
) خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ
الْجَاهِلِينَ ( 199 )
قوله: ( إِنَّ
وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَـزَّلَ الْكِتَابَ ) يعني القرآن,
أي أنه يتولاني وينصرني كما أيدني بإنـزال الكتاب, (
وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ) قال
ابن عباس رضي الله عنهما: يريد الذين لا يعدلون بالله شيئا فالله يتولاهم بنصره
فلا يضرهم عداوة من عاداهم
( وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى
الْهُدَى لا يَسْمَعُوا ) يعني الأصنام, (
وَتَرَاهُمْ ) يا محمد ( يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ ) يعني
الأصنام, ( وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ ) وليس
المراد من النظر حقيقة النظر, إنما المراد منه: المقابلة, تقول العرب: داري تنظر
إلى دارك, أي: تقابلها. وقيل: وتراهم ينظرون إليك أي: كأنهم ينظرون إليك, كقوله
تعالى: وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى ( الحج:
2 ) , أي: كأنهم سكارى هذا قول [
أكثر ] المفسرين. وقال الحسن: « وإن
تدعوهم إلى الهدى » يعني: المشركين لا يسمعوا ولا
يعقلوا ذلك بقلوبهم, وتراهم ينظرون إليك بأعينهم وهم لا يبصرون بقلوبهم.
قوله تعالى: ( خُذِ
الْعَفْوَ ) قال عبد الله بن الزبير: أمر الله نبيه عليه الصلاة والسلام
أن يأخذ العفو من أخلاق الناس. وقال مجاهد: خذ العفو يعني العفو من أخلاق الناس
وأعمالهم من غير تجسس, وذلك مثل قبول الاعتذار والعفو والمساهلة وترك البحث عن
الأشياء ونحو ذلك.
ورُوي أنه لما نـزلت هذه الآية
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل: « ما
هذا؟ قال لا أدري حتى أسأله, ثم رجع فقال: إن ربك يأمرك أن تصل من قطعك وتعطي من
حرمك وتعفو عمن ظلمك » .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما
والسدي والضحاك والكلبي: يعي خُذْ ما عفا لك من الأموال وهو الفضل عن العيال, وذلك
معنى قوله: « يسألونك ماذا ينفقون قل العفو » (
البقرة- 219 ) , ثم نسخت هذه بالصدقات المفروضات. قوله تعالى: (
وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ ) أي: بالمعروف, وهو كل ما
يعرفه الشرع. وقال عطاء: وأمر بالعرف يعني بلا إله إلا الله. (
وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ) أبي جهل وأصحابه, نسختها آية
السيف. وقيل: إذا تسفه عليك الجاهل فلا تقابله بالسفه, وذلك مثل قوله: وَإِذَا
خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا (
الفرقان- 63 ) , وذلك سلام المتاركة. قال جعفر الصادق: أمر الله نبيه صلى
الله عليه وسلم بمكارم الأخلاق, وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه
الآية.
أخبرنا عبد الله بن عبد الصمد [
الجرجاني ] ثنا أبو القاسم علي بن أحمد الخزاعي, ثنا الهيثم بن كليب,
ثنا أبو عيسى الترمذي, ثنا محمد بن بشار, ثنا محمد بن جعفر, ثنا شعبة, عن أبي
إسحاق, عن أبي عبد الله الجدلي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: « لم يكن
رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشا ولا متفحشا ولا سخابا في الأسواق, ولا يجزي
بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح » .
ثنا أبو الفضل زياد بن محمد
الحنفي ثنا أبو سعيد عبد الملك بن أبي عثمان الواعظ ثنا عماد بن محمد البغدادي ثنا
أحمد بن محمد عن سعيد الحافظ ثنا محمد بن إسماعيل ثنا عمر بن إبراهيم يعني الكوفي
ثنا يوسف بن محمد بن المنكدر عن أبيه عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: « إن الله بعثني لتمام مكارم
الأخلاق وإتمام محاسن الأفعال » .
وَإِمَّا يَنْـزَغَنَّكَ مِنَ
الشَّيْطَانِ نَـزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( 200
) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ
الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ( 201
)
قوله تعالى: ( وَإِمَّا
يَنْـزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَـزْغٌ ) أي:
يصيبك ويعتريك ويعرض لك من الشيطان نـزغ نخسة, والنـزغ من الشيطان الوسوسة. وقال
الزجاج: النـزغ أدنى حركة تكون من الآدمي, ومن الشيطان أدنى وسوسة. وقال عبد
الرحمن بن زيد: لما نـزلت هذه الآية: خُذِ الْعَفْوَ , قال النبي صلى الله عليه
وسلم: « كيف يا رب والغضب » ؟
فنـزل: « وإما ينـزغنك من الشيطان نـزغ فاستعذ بالله » أي:
استجر بالله ( إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ )
( إِنَّ
الَّذِينَ اتَّقَوْا ) يعني المؤمنين, ( إِذَا
مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ ) قرأ
ابن كثير وأهل البصرة والكسائي: « طيف » , وقرأ
الآخرون « طائف » بالمد والهمز, وهما لغتان
كالميت والمائت, ومعناهما: الشيء يلم بك. وفرق قوم بينهما, فقال أبو عمرو: الطائف
ما يطوف حول الشيءُ والطيف: اللمة والوسوسة, وقيل: الطائف ما طاف به من وسوسة
الشيطان, والطيف اللمم والمس. ( تَذَكَّرُوا ) عرفوا,
قال سعيد بن جبير: هو الرجل يغضب الغضبة فيذكر الله تعالى فيكظم الغيظ. وقال
مجاهد: هو الرجل يهم بالذنب فيذكر الله فيدعه. (
فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ) أي يبصرون مواقع خطاياهم
بالتذكر والتفكر. قال السدي: إذا زلوا تابوا. وقال مقاتل: إن المتقي إذا أصابه
نـزغ من الشيطان تذكر وعرف أنه معصية, فأبصر فنـزغ عن مخالفة الله.
وَإِخْوَانُهُمْ
يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ ( 202
) وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلا
اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا
بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( 203
) وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ
وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ( 204
)
قوله: (
وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ ) يعني إخوان الشياطين من
المشركين يمدونهم, أي: يمدهم الشيطان. قال الكلبي: لكل كافر أخ من الشياطين. ( فِي
الْغَيِّ ) أي: يطلبون هم الإغواء حتى يستمروا عليه. وقيل: يزيدونهم في
الضلالة. وقرأ أهل المدينة: « يمدونهم » بضم
الياء وكسر الميم, من الإمداد, والآخرون: بفتح الياء وضم الميم وهما لغتان بمعنى
واحد. ( ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ ) أي: لا
يكفون. قال ابن عباس رضي الله عنهما: لا الإنس يقصرون عما يعملون من السيئات, ولا
الشياطين يمسكون عنهم, فعلى هذا قوله: ( ثُمَّ
لا يُقْصِرُونَ ) من فعل المشركين والشياطين
جميعا. قال الضحاك ومقاتل: يعني المشركين لا يقصرون عن الضلالة ولا يبصرونها,
بخلاف ما قال في المؤمنين: تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ .
(
وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ ) يعني:
إذا لم تأت المشركين بآية, ( قَالُوا لَوْلا
اجْتَبَيْتَهَا ) هلا افتعلتها وأنشأتها من قبل
نفسك واختيارك؟ تقول العرب: اجتبيت الكلام إذا اختلقته. قال الكلبي: كان أهل مكة
يسألون النبي صلى الله عليه وسلم الآيات تعنتا فإذا تأخرت اتهموه وقالوا: لولا
اجتبيتها؟ أي: هلا أحدثتها وأنشأتها من عندك؟ ( قُلْ ) لهم يا
محمد ( إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي ) ثم
قال: ( هَذَا ) يعني: القرآن (
بَصَائِرُ ) حجج وبيان وبرهان ( مِنْ
رَبِّكُمْ ) واحدتها بصيرة, وأصلها ظهور الشيء واستحكامه حتى يبصره
الإنسان, فيهتدي به يقول: هذا دلائل تقودكم إلى الحق. (
وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ )
قوله عز وجل: (
وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ
تُرْحَمُونَ ) اختلفوا في سبب نـزول هذه الآية فذهب جماعة إلى أنها في
القراءة في الصلاة, روي عن أبي هريرة كانوا يتكلمون في الصلاة بحوائجهم فأمروا
بالسكوت والاستماع إلى قراءة القرآن . وقال قوم: نـزلت في ترك الجهر بالقراءة خلف
الإمام .
وروى زيد بن أسلم عن أبيه عن
أبي هريرة قال: نـزلت هذه الآية في رفع الأصوات وهم خلف رسول الله صلى الله عليه
وسلم في الصلاة .
وقال الكلبي: كانوا يرفعون
أصواتهم في الصلاة حين يسمعون ذكر الجنة والنار .
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه
سمع ناسا يقرأون مع الإمام فلما انصرف قال: أما آن لكم أن تفقهوا وإذا قرئ القرآن
فاستمعوا له وأنصتوا كما أمركم الله ؟ وهذا قول الحسن والزهري والنخعي: أن الآية
في القراءة في الصلاة.
وقال سعيد بن جبير وعطاء
ومجاهد: إن الآية في الخطبة, أمروا بالإنصات لخطبة الإمام يوم الجمعة .
وقال سعيد بن جبير: هذا في
الإنصات يوم الأضحى والفطر ويوم الجمعة, وفيما يجهر به الإمام .
وقال عمر بن عبد العزيز: [ يجب
] الإنصات لقول كل واعظ.
والأول أولاها, وهو أنها في القراءة
في الصلاة لأن الآية مكية والجمعة وجبت بالمدينة . واتفقوا على أنه مأمور بالإنصات
حالة ما يخطب الإمام.
أخبرنا عبد الوهاب بن محمد
الخطيب ثنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ثنا أبو العباس الأصم ثنا الربيع ثنا
الشافعي ثنا مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: « إذا قلت لصاحبك أنصت والإمام
يخطب يوم الجمعة فقد لغوت » .
واختلف أهل العلم في القراءة
خلف الإمام في الصلاة: فذهب جماعة إلى إيحابها سواء جهر الإمام بالقراءة أو أسر.
رُوي ذلك عن عمر, وعثمان, وعلي, وابن عباس, ومعاذ, وهو قول الأوزاعي والشافعي.
وذهب قوم إلى أنه يقرأ فيما أسر
الإمام فيه بالقراءة ولا يقرأ إذا جهر, يروى ذلك عن ابن عمر, وهو قول عروة بن
الزبير, والقاسم بن محمد, وبه قال الزهري ومالك وابن المبارك وأحمد وإسحاق.
وذهب قوم إلى أنه لا يقرأ سواء
أسر الإمام أو جهر, يروى ذلك عن جابر, وبه قال الثوري وأصحاب الرأي ويتمسك من لا
يرى القراءة خلف الإمام بظاهر هذه الآية, ومن أوجبها قال الآية في غير الفاتحة
وإذا قرأ الفاتحة يتبع سكتات الإمام ولا ينازع الإمام في القراءة.
والدليل عليه: ما أخبرنا أبو عثمان
سعيد بن إسماعيل الضبي, ثنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي, ثنا أبو العباس
المحبوبي, ثنا أبو عيسى الترمذي, ثنا هناد, ثنا عبدة بن سليمان, عن محمد بن إسحاق
عن مكحول, عن محمود بن الربيع, عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه, قال: صلى النبي
صلى الله عليه وسلم الصبح فثقلت عليه القراءة, فلما انصرف قال: « إني
أراكم تقرأون وراء إمامكم » ؟ قال: قلنا يا رسول الله إي
والله, قال: « لا تفعلوا إلا بأم القرآن فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها » .
وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي
نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ
وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ ( 205
) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ
عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ ( 206
)
قوله تعالى: (
وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ ) قال ابن عباس: يعني بالذكر:
القراءة في الصلاة, يريد يقرأ سرا في نفسه, (
تَضَرُّعًا وَخِيفَةً ) خوفا, أي: تتضرع إليّ وتخاف
مني هذا في صلاة السر. وقوله: ( وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ
الْقَوْلِ ) أراد في صلاة الجهر لا تجهر جهرا شديدا, بل في خفض وسكون,
يسمع من خلفك, وقال مجاهد وابن جريج: أمر أن يذكروه في الصدور بالتضرع إليه في
الدعاء والاستكانة دون رفع الصوت والصياح بالدعاء (
بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ ) أي:
بالبكر والعشيات, واحد آصال: أصيل مثل يمين وأيمان, وهو ما بين العصر والمغرب.
( إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ
) يعني: الملائكة المقربين بالفضل والكرامة, ( لا
يَسْتَكْبِرُونَ ) لا يتكبرون, ( عَنْ
عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ ) وينـزهونه ويذكرونه, فيقولون:
سبحان الله. ( وَلَهُ يَسْجُدُونَ )
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي, أنبأنا أحمد بن الحسن
الحيري, أنبأنا حاجب بن أحمد الطوسي, ثنا عبد الرحيم بن منيب, ثنا يعلى بن عبيد عن
الأعمش, عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إذا
قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي, فيقول: يا ويله أمر هذا بالسجود فسجد
فله الجنة وأمرت بالسجود فعصيت فلي النار »
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ثنا أبو منصور محمد بن
محمد بن سمعان, ثنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني, ثنا حميد بن
زنجويه, ثنا محمد بن يوسف, ثنا الأوزاعي, عن الوليد بن هشام, عن معدان قال: سألت
ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: حدثني حديثا ينفعني الله به, قال:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « ما من
عبد يسجد لله سجدة إلا رفعه الله بها درجة وحط عنه بها سيئة » .