سورة المرسلات
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا ( 1 )
فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا ( 2 )
وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا ( 3 )
فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا ( 4 )
(
وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا ) يعني الرياح أرسلت متتابعة كعرف
الفرس. وقيل: عرفًا أي كثيرًا تقول العرب: الناس إلى فلان عرف واحد، إذا توجهوا
إليه فأكثروا، هذا [ معنى ] قول
مجاهد وقتادة. وقال مقاتل: يعني الملائكة التي أرسلت بالمعروف من أمر الله ونهيه،
وهي رواية مسروق عن ابن مسعود. ( فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا ) يعني الرياح
الشديدة الهبوب. ( وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا ) يعني
الرياح اللينة. وقال الحسن: هي الرياح التي يرسلها الله بشرًا بين يدي رحمته.
وقيل: هي الرياح التي تنشر السحاب وتأتي بالمطر. وقال مقاتل: هم الملائكة ينشرون
الكتب . ( فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا ) قال
ابن عباس، ومجاهد، والضحاك: يعني الملائكة تأتي بما يفرق بين الحق والباطل. وقال [
قتادة ] والحسن: هي آي القرآن تفرق بين الحلال والحرام. وروي عن
مجاهد قال: هي الرياح تفرق السحاب وتبدِّده .
فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا ( 5 )
عُذْرًا أَوْ نُذْرًا ( 6 )
إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ ( 7 )
فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ ( 8 )
وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ ( 9 )
وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ ( 10 )
(
فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا ) يعني الملائكة تلقي الذكر إلى
الأنبياء، نظيرها: يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ ( غافر-
15 ) . ( عُذْرًا أَوْ نُذْرًا ) أي
للإعذار والإنذار، وقرأ الحسن « عُذُرًا » بضم
الذال واختلف فيه عن أبي بكر عن عاصم، وقراءة العامة بسكونها، وقرأ أبو عمرو وحمزة
والكسائي وحفص « [
عذرًا أو ] نذرًا » ساكنة الذال فيهما، وقرأ
الباقون بضمها، ومن سكَّن قال: لأنهما في موضع مصدرين بمعنى الإنذار والإعذار،
وليسا بجمع فينقلا [ وقال ابن كثير ونافع، وابن
عامر، وأبو بكر عن عاصم ويعقوب برواية رويس بن حسان: « عذْرًا
» سكون الذال و «
نُذُرًا » بضم الذال، وقرأ روح بالضم في العذر والنذر جميعًا، وهي
قراءة الحسن، والوجه فيهما أن العذر والنذر بضمتين كالأذُن والعُنِق هو الأصل
ويجوز التخفيف فيهما كما يجوز التخفيف في العنق والأذن، يقال: عذْر ونذْر، وعذُر
ونذُر، كما يقال: عُنْق وعُنُق، وأُذْن وأُذُن، والعذر والنذر مصدران بمعنى
الإعذار والإنذار كالنكير والعذير والنذير، ويجوز أن يكونا جمعين لعذير ونذير، ويجوز
أن يكون العذر جمع عاذر، كشارف وشُرُف، والمعنى في التحريك والتسكين واحد على ما
بينا إلى هاهنا أقسام ] ذكرها على قوله: ( إِنَّ
مَا تُوعَدُونَ ) ( إِنَّ
مَا تُوعَدُونَ ) من أمر الساعة والبعث (
لَوَاقِع ) [ لكائن ] ثم ذكر
متى يقع. فقال: ( فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ
) محي نورها. (
وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ ) شقت. (
وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ ) قلعت من أماكنها.
وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ
( 11 )
لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ ( 12 )
لِيَوْمِ الْفَصْلِ ( 13 ) وَمَا
أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ ( 14 )
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ( 15 )
أَلَمْ نُهْلِكِ الأَوَّلِينَ ( 16 )
ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآخِرِينَ ( 17 )
كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ ( 18 )
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ( 19 )
( وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ
) قرأ أهل البصرة « وقتت » بالواو،
وقرأ أبو جعفر بالواو وتخفيف القاف، وقرأ الآخرون بالألف وتشديد القاف، وهما
لغتان. والعرب تعاقبت بين الواو والهمزة كقولهم: وكَّدت وأكدت، ورَّخت وأرخت،
ومعناهما: جمعت لميقات يوم معلوم، وهو يوم القيامة ليشهدوا على الأمم. ( لأيِّ
يَوْمٍ أُجِّلَتْ ) أي أخرت، وضرب الأجل لجمعهم
فعجَّب العباد من ذلك اليوم، ثم بيَّن فقال (
لِيَوْمِ الْفَصْلِ ) قال ابن عباس رضي الله عنهما:
يوم يفصل الرحمن عز وجل بين الخلائق. ( وَمَا
أَدْرَاكَ مَا يَومُ الفَصْلِ * وَيْلٌ يَومَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أَلَمْ
نُهْلِكِ الأوَّلِينَ ) يعني الأمم الماضية بالعذاب،
في الدنيا حين كذبوا رسلهم. ( ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ
الآخِرِينَ ) السالكين سبيلهم في الكفر والتكذيب يعني كفار مكة بتكذيبهم
محمد صلى الله عليه وسلم. ( كَذَلِكَ نَفْعَلُ
بِالْمُجْرِمِينَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ )
أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ
مَاءٍ مَهِينٍ ( 20 )
فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ( 21 )
إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ ( 22 )
فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ ( 23 )
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ( 24 ) أَلَمْ
نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا ( 25 )
(
أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ) يعني
النطفة. ( فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ) يعني
الرحم. ( إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ ) وهو
وقت الولادة. ( فَقَدَرْنَا ) قرأ
أهل المدينة والكسائي: « فقدَّرنا »
بالتشديد من التقدير، وقرأ الآخرون بالتخفيف من القدرة، لقوله: « فنعم
القادرون » وقيل: معناهما واحد، وقوله: (
فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ ) أي المقدّرون. (
وَيْلٌ يَومَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * أَلَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ كِفَاتًا ) وعاءً،
ومعنى الكَفْت: الضم والجمع، يقال: كفت الشيء: إذا ضمه وجمعه وقال الفَّراء: يريد
تكفتهم أحياء على ظهرها في دورهم ومنازلهم، وتكفتهم أمواتًا في بطنها، أي: تحوزهم
.
أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا ( 26 )
وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا ( 27 )
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ( 28 )
انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ( 29 )
انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ ( 30 ) لا
ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ ( 31 )
إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ ( 32 )
وهو قوله ( أَحْيَاءً
وَأَمْوَاتًا * وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ ) جبالا
( شَامِخَاتٍ )
عاليات، ( وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا ) عذبًا.
( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) قال
مقاتل: وهذا كله أعجب من البعث، ثم أخبر أنه يقال لهم يوم القيامة (
انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ )
(
انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ) في
الدنيا. ( انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ ) يعني
دخان جهنم إذا ارتفع انشعب وافترق ثلاث فرق. وقيل: يخرج عنق من النار فيتشعب ثلاث
شعب، أما النور فيقف على رءوس المؤمنين، والدخان يقف على رءوس المنافقين، واللهب
الصافي يقف على رءوس الكافرين. ثم وصف ذلك الظل فقال عز وجل ( لا
ظَلِيلٍ ) لا يظل من الحر ( وَلا
يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ ) قال الكلبي: لا يرد لهب جهنم
عنكم، والمعنى أنهم [ إذا ]
استظلوا بذلك الظل لم يدفع عنهم حر اللهب. (
إِنَّهَا ) يعني جهنم (
تَرْمِي بِشَرَرٍ ) وهو ما تطاير من النار،
واحدها شررة ( كَالْقَصْرِ ) وهو
البناء العظيم، قال ابن مسعود: يعني الحصون.
وقال عبد الرحمن بن عياش سألت
ابن عباس عن قوله تعالى: « إنها ترمي بشرر كالقصر » قال: هي
الخشب العظام المقطعة، وكنا نعمد إلى الخشب فنقطعها ثلاثة أذرع وفوق ذلك ودونه
ندخرها للشتاء، فكنا نسميها القصر.
وقال سعيد بن جبير، والضحاك: هي
أصول النخل والشجر العظام، واحدتها قصرة، مثل تمرة وتمر، وجمرة وجمر.
وقرأ علي وابن عباس « كالقصر
» بفتح الصاد، أي أعناق النخل، والقصرة العنق، وجمعها قصر
وقصرات.
كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ ( 33 )
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ( 34 )
هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ ( 35 ) وَلا
يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ( 36 )
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ( 37 ) هَذَا
يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأَوَّلِينَ ( 38 )
فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ ( 39 )
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ( 40 )
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ ( 41 )
وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ ( 42 )
(
كَأَنَّه ) رد الكناية إلى اللفظ (
جِمَالَة ) قرأ حمزة والكسائي وحفص: « جمالة
» على جمع الجمل، مثل حجر وحجارة، وقرأ يعقوب بضم الجيم بلا
ألف، أراد: الأشياء العظام المجموعة، وقرأ الآخرون: « جمالات
» بالألف وكسر الجيم على جمع الجمال، وقال ابن عباس رضي الله
عنهما وسعيد بن جبير: هي حبال السفن يجمع بعضها إلى بعض، حتى تكون كأوساط الرجال،
( صُفْرٌ ) جمع الأصفر، يعني لون النار،
وقيل: « الصفر » معناه: السود، لأنه جاء في
الحديث أن شرر نار جهنم أسود كالقير، والعرب تسمى سود الإبل صفرًا لأنه يشوب
سوادها شيء من صفرة كما يقال لبيض الظباء: أدم، لأن بياضها يعلوه كدرة. (
وَيْلٌ يَومَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ ) وفي
القيامة مواقف، ففي بعضها يختصمون ويتكلمون، وفي بعضها يختم على أفواههم فلا
ينطقون. ( وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ) رفع
عطف على قوله: « يؤذن » قال
الجنيد: أي لا عذر لمن أعرض عن مُنْعِمِه وكفر بأياديه ونعمه. (
وَيْلٌ يَومَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ ) بين
أهل الجنة والنار ( جَمَعْنَاكُمْ وَالأوَّلِينَ
) يعني مكذبي هذه الأمة والأولين الذين كذبوا أنبياءهم. (
فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ ) قال
مقاتل: إن كانت لكم حيلة فاحتالوا لأنفسكم. (
وَيْلٌ يَومَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ ) جمع ظل
أي في ظلال الشجر ( وَعُيُون ) الماء.
(
وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ ) .
كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا
بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( 43 )
إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ( 44 )
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ( 45 )
كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ ( 46 )
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ( 47 )
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ ( 48 ) وَيْلٌ
يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ( 49 )
فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ( 50 )
ويقال لهم ( كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا
بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) في الدنيا بطاعتي.
( إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي
المُحْسِنِينَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِين ) .
ثم قال لكفار مكة: (
كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلا ) في الدنيا (
إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ ) مشركون بالله عز وجل مستحقون
للعذاب. ( إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ * وَيْلٌ
يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِين * وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا ) صلُّوا
( لا يَرْكَعُونَ ) لا
يصلُّون، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إنما يقال لهم هذا يوم القيامة حين
يدعون إلى السجود فلا يستطيعون. (
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِين * فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ ) بعد
القرآن ( يُؤْمِنُونَ ) إذا لم
يؤمنوا به.