تفسير البغوي

88 - تفسير البغوي سورة الغاشية

التالي السابق

سورة الغاشية

مكية

بسم الله الرحمن الرحيم

هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ ( 1 ) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ ( 2 ) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ ( 3 )

( هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ ) يعني: قد أتاك حديث القيامة، تغشى كل شيء بالأهوال.

( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ) يعني: يوم القيامة ( خَاشِعَة ) ذليلة.

( عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ ) قال عطاء عن ابن عباس: يعني الذين عملوا ونصبوا في الدنيا على غير دين الإسلام من عَبَدَة الأوثان وكفار أهل الكتاب، مثل الرهبان وغيرهم، لا يقبل الله منهم اجتهادًا في ضلالة، يدخلون النار يوم القيامة، وهو قول سعيد بن جبير، وزيد بن أسلم. ومعنى النَّصبَ: الدأب في العمل بالتعب.

وقال عكرمة والسدي: عاملة في الدنيا بالمعاصي، ناصبة في الآخرة في النار .

وقال بعضهم: عاملة في النار ناصبة فيها. قال الحسن: لم تعمل لله في الدنيا، فأعملها وأنصبها في النار بمعالجة السلاسل، والأغلال. وبه قال قتادة، وهي رواية العوفي عن ابن عباس .

قال ابن مسعود: تخوض في النار كما تخوض الإبل في الوحل.

وقال الكلبي: يَجرُّون على وجوههم في النار.

[ وقال الضحاك: يكلفون ارتقاء جبل من حديد في النار ] والكلام خرج على « الوجوه » والمراد منها أصحابها.

تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً ( 4 ) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ ( 5 ) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلا مِنْ ضَرِيعٍ ( 6 )

( تَصْلَى نَارًا ) قرأ أهل البصرة وأبو بكر: « تُصلى » بضم التاء اعتبارًا بقوله: « تسقى من عين آنية » [ وقرأ الآخرون بفتح التاء ( نَارًا حَامِيَةً ) قال ابن عباس: قد حميت فهي تتلظى على أعداء الله.

( تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ ) متناهية في الحرارة قد أوقدت عليها جهنم منذ خلقت، فدفعوا إليها [ وِرْدًا ] عطاشًا. قال المفسرون: لو وقعت منها قطرة على جبال الدنيا لذابت. هذا شرابهم ثم ذكر طعامهم فقال: ( لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلا مِنْ ضَرِيعٍ ) قال مجاهد وعكرمة وقتادة: هو نبت ذو شوك لاطئ بالأرض، تسميه قريش الشبرق فإذا هاج سموها الضريع، وهو أخبث طعام وأبشعه. وهو رواية العوفي عن ابن عباس. قال الكلبي: لا تقربه دابة إذا يبس.

قال ابن زيد: أما في الدنيا فإن « الضريع » الشوك اليابس الذي يبس له ورق، وهو في الآخرة شوك من نار وجاء في الحديث عن ابن عباس: « الضريع: شيء في النار [ شبه ] الشوك أمرُّ من الصبر، وأنتن من الجيفة، وأشد حرًا من النار » .

وقال أبو الدرداء، والحسن: إن الله تعالى يرسل على أهل النار الجوع حتى يعدل عندهم ما هم فيه من العذاب، فيستغيثون فيغاثون بالضريع، ثم يستغيثون فيغاثون بطعام ذي غُصَّة، فيذكرون أنهم كانوا يجيزون الغصص في الدنيا بالماء، فيستسقون، فيعطشهم ألف سنة، ثم يسقون من عين آنية شربة لا هنيئة ولا مريئة، فلما أدنوه من وجوههم، سلخ جلود وجوههم وشواها، فإذا وصل إلى بطونهم قطعها فذلك قوله عز جل: وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ ( محمد- 15 ) .

لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ ( 7 ) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ ( 8 ) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ ( 9 ) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ ( 10 ) لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً ( 11 ) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ ( 12 ) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ ( 13 ) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ ( 14 ) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ ( 15 ) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ ( 16 ) أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ( 17 )

قال المفسرون: فلما نـزلت هذه الآية قال المشركون: إن إبلنا لتسمن على الضريع، وكذبوا في ذلك، فإن الإبل إنما ترعاه ما دام رطبا، وتسمى « شبرقًا » فإذا يبس لا يأكله شيء. فأنـزل الله: ( لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ )

ثم وصف أهل الجنة فقال: ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ ) قال مقاتل: في نعمة وكرامة.

( لِسَعْيِهَا ) في الدنيا ( رَاضِيَةٌ ) في الآخرة حين أعطيت الجنة بعملها. ( فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً ) لغو وباطل، قرأ أهل مكة والبصرة: « لا يُسْمَع » بالياء وضمها، « لاغيةٌ » رفع. وقرأ نافع « لا تُسمع » بالتاء وضمها، « لاغية » رفع، وقرأ الآخرون بالتاء وفتحها « لاغية » [ بالنصب ] على الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. ( فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ * فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ ) قال ابن عباس: ألواحها من ذهب مكللة بالزبرجد والدر والياقوت، مرتفعة ما لم يجئ أهلها، فإذا أراد أن يجلس عليها تواضعت له حتى يجلس عليها، ثم ترتفع إلى مواضعها.

( وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ ) عندهم، جمع كوب، وهو الإبريق الذي لا عروة له.

( وَنَمَارِقُ ) وسائد ومرافق ( مَصْفُوفَةٌ ) بعضها بجنب بعض، واحدتها « نُمْرُقَة » بضم النون.

( وَزَرَابِيّ ) يعني البسط العريضة. قال ابن عباس: هي الطنافس التي لها خمل واحدتها زَرْبِيَّة، ( مَبْثُوثَةٌ ) مبسوطة، وقيل متفرقة في المجالس.

( أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ) قال أهل التفسير: لما نعت الله تعالى في هذه السورة ما في الجنة عجب من ذلك أهل الكفر وكذبوه، فذكرَّهم الله تعالى صنعه فقال: ( أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإبِلِ ) [ من بين سائر الحيوانات ] ( كَيْفَ خُلِقَتْ ) وكانت الإبل من عيش العرب لهم فيها منافع كثيرة، فلما صنع لهم ذلك في الدنيا صنع لأهل الجنة فيها ما صنع.

وتكلمت الحكماء في وجه تخصيص الإبل من بين سائر الحيوانات؛ فقال مقاتل: لأنهم لم يروا بهيمة قط أعظم منها، ولم [ يشاهد ] الفيل إلا الشاذ منهم.

وقال الكلبي: لأنها تنهض بحملها وهي باركة.

وقال قتادة: ذكر الله تعالى ارتفاع سُرُرِ الجنة وفُرُشِها، فقالوا: كيف نصعدها فأنـزل الله تعالى هذه الآية.

وسئل الحسن عن هذه الآية، وقيل له: الفيل أعظم في الأعجوبة؟ فقال: أما الفيل فالعرب بعيدة العهد بها. ثم هو [ لا خير فيه ] لا يركب ظهرها ولا يؤكل لحمها ولا يحلب درها، والإبل أعز مال للعرب وأنفسها تأكل النوى والقت وتخرج اللبن.

وقيل: [ إنها ] مع عظمها تلين للحمل الثقيل وتنقاد للقائد الضعيف، حتى إن الصبي الصغير يأخذ بزمامها فيذهب بها حيث شاء، وكان شريح القاضي يقول: اخرجوا بنا إلى [ كناسة اسطبل ] حتى ننظر إلى الإبل كيف خلقت .

وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ ( 18 ) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ ( 19 ) وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ( 20 )

( وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ ) عن الأرض حتى لا ينالها شيء بغير عمد.

( وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ ) على وجه الأرض [ مرساة ] لا تزول.

( وَإِلَى الأرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ) [ بسطت ] قال عطاء عن ابن عباس: هل يقدر أحد أن يخلق مثل الإبل، أو يرفع مثل السماء، أو ينصب مثل الجبال، او يسطح مثل الأرض غيري؟.

فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ ( 21 ) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ ( 22 ) إِلا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ ( 23 ) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ ( 24 ) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ( 25 ) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ( 26 )

( فَذَكِّر ) [ أي: عظ يا محمد ] ( إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ ) بمسلَّط فتقتلهم وتكرههم على الإيمان. نسختها آية القتال .

( إِلا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ ) استثناء منقطع عما قبله، معناه: لكن من تولى وكفر بعد التذكير.

( فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأكْبَرَ ) وهو أن يدخله النار وإنما قال « الأكبر » لأنهم عذبوا في الدنيا بالجوع والقحط والقتل والأسر.

( إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ) رجوعهم بعد الموت، يقال آب يؤب أَوْبًا وإِيَابًا، وقرأ أبو جعفر: « إيابهم » بتشديد الياء، وهو شاذ لم يُجِزْه أحد غير الزجَّاج فإنه قال يقال: أيَبَ إِيَّابَا، على: فعل فيعالا.

( ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ) يعني جزاءهم بعد المرجع إلى الله عز وجل.

 

أعلى