فهرس تفسير بن كثير للسور

10 - تفسير بن كثير سورة يونس

التالي السابق

 

تفسير سورة يونس

 

[ وهي مكية ]

بسم الله الرحمن الرحيم

الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ ( 1 ) أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ ( 2 )

أما الحروف المقطعة في أوائل السور، فقد تقدم الكلام عليها [ مستوفى ] في أوائل سورة البقرة.

وقال أبو الضحى، عن ابن عباس في قوله تعالى: « الر » ، أي:أنا الله أرى. وكذا قال الضحاك وغيره.

( تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ ) أي:هذه آيات القرآن المحكم المبين وقال مجاهد: ( الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ ) [ قال:التوراة والإنجيل ] .

[ وقال الحسن:التوراة والزبور ] .

وقال قتادة: ( تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ ) قال:الكتب التي كانت قبل القرآن.

وهذا القول لا أعرف وجهه ولا معناه.

وقوله: ( أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا ) الآية، يقول تعالى منكرا على من تعجب من الكفار من إرسال المرسلين من البشر، كما أخبر تعالى عن القرون الماضية من قولهم: أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا [ التغابن:6 ] وقال هود وصالح لقومهما: أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ [ الأعراف:63:69 ] وقال تعالى مخبرا عن كفار قريش أنهم قالوا: أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ ص:5 ] .

وقال الضحاك، عن ابن عباس:لما بعث الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم رسولا أنكرت العرب ذلك، أو من أنكر منهم، فقالوا:الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا مثل محمد. قال:فأنـزل الله عز وجل: ( أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ ) .

وقوله: ( أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ ) اختلفوا فيه، فقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: ( أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ [ عِنْدَ رَبِّهِمْ ] ) يقول:سبقت لهم السعادة في الذكر الأول.

وقال العوفي، عن ابن عباس: ( أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ ) يقول:أجرا حسنا، بما قدموا. وكذا قال الضحاك، والربيع بن أنس، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم. وهذا كقوله تعالى:لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا * مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا [ الكهف:2 ، 3 ]

وقال مجاهد: ( أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ ) قال:الأعمال الصالحة صلاتهم وصومهم وصدقتهم وتسبيحهم.

[ وقال عمرو بن الحارث عن قتادة أو الحسن ( أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ ] ) قال:محمد صلى الله عليه وسلم شفيع لهم. وكذا قال زيد بن أسلم، ومقاتل بن حيان.

وقال قتادة:سَلفُ صدق عند ربهم.

واختار ابن جرير قول مجاهد - أنها الأعمال الصالحة التي قدموها - قال:كما يقال: « له قدم في الإسلام » ومنه قول [ حسان ] رضي الله عنه.

لنــا القَـــدَمُ العُليا إليك وخَلْفُنا لأوَّلِنــا فــي طاعَــة اللـهِ تَـابعُ

وقول ذي الرُّمة:

لكُــم قَــدَمٌ لا يُنْكـرُ النـاسُ أنهـا مَـعَ الحسَـبِ العَادِيّ طَمَّت على البَحْرِ

وقوله تعالى: ( قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ ) أي:مع أنا بعثنا إليهم رسولا منهم، رجلا من جنسهم، بشيرا ونذيرا، ( قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ ) أي:ظاهر، وهم الكاذبون في ذلك.

إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ( 3 )

يخبر تعالى أنه رب العالم جميعه، وأنه خَلَق السموات والأرض في ستة أيام - قيل:كهذه الأيام، وقيل:كل يوم كألف سنة مما تعدون. كما سيأتي بيانه [ إن شاء الله تعالى ] ثم استوى على العرش، والعرش أعظم المخلوقات وسقفها.

قال ابن أبي حاتم:حدثنا حجاج بن حمزة، حدثنا أبو أسامة، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد قال:سمعت سعد الطائي يقول:العرش ياقوتة حمراء.

وقال وهب بن منبه:خلقه الله من نوره.

وهذا غريب.

( يُدَبِّرُ الأمْرَ ) أي:يدبر أمر الخلائق، لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ [ سبأ:3 ] ، ولا يشغله شأن عن شأن، ولا تغلّظه المسائل، ولا يتبرم بإلحاح الملحين ولا يلهيه تدبير الكبير عن الصغير، في الجبال والبحار والعمران والقفار، وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [ هود:6 ] . وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [ الأنعام:59 ] .

وقال الدراوردي، عن سعد بن إسحاق بن كعب [ بن عجرة ] أنه قال حين نـزلت هذه الآية: ( إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ) لقيهم ركب عظيم [ لا يرون إلا أنهم ] من العرب، فقالوا لهم:من أنتم؟ قالوا. من الجن، خرجنا من المدينة، أخرجتنا هذه الآية. رواه ابن أبي حاتم.

[ وقوله ] ( مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ) كقوله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ [ البقرة:255 ] وكقوله تعالى: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى [ النجم:26 ] وقوله: وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [ سبأ:23 ] .

وقوله: ( ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) أي:أفردوه بالعبادة وحده لا شريك له، ( أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) أي:أيها المشركون في أمركم، تعبدون مع الله غيره، وأنتم تعلمون أنه المتفرد بالخلق، كقوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [ الزخرف:87 ] ، وقوله:قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ [ المؤمنون:86 - 87 ] ، وكذا الآية التي قبلها والتي بعدها.

إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ( 4 )

أخبر تعالى أن إليه مرجع الخلائق يوم القيامة، لا يترك منهم أحدا حتى يعيده كما بدأه. ثم ذكر تعالى أنه كما بدأ الخلق كذلك يعيده، وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [ الروم:27 ] .

( لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ ) أي:بالعدل والجزاء الأوفى، ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ) أي:بسبب كفرهم يعذبون يوم القيامة بأنواع العقاب من: سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ [ الواقعة:42 ، 43 ] . هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ * وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ [ ص:57 ، 58 ] . هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ * يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ [ الرحمن:43 ، 44 ] .

هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ( 5 ) إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ ( 6 )

يخبر تعالى عما خلق من الآيات الدالة على كمال قدرته، وعظيم سلطانه، وأنه جعل الشعاع الصادر عن جرم الشمس ضياء وشعاع القمر نورا، هذا فن وهذا فن آخر، ففاوت بينهما لئلا يشتبها، وجعل سلطان الشمس بالنهار، وسلطان القمر بالليل، وقدر القمر منازل، فأول ما يبدو صغيرًا، ثم يتزايد نُوره وجرمه، حتى يستوسق ويكمل إبداره، ثم يشرع في النقص حتى يرجع إلى حاله الأول في تمام شهر، كما قال تعالى:وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [ يس:39 ، 40 ] . وقال: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [ الأنعام:96 ] .

وقال في هذه الآية الكريمة: ( وقدره ) أي:القمر ( وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ) فبالشمس تعرف الأيام، وبسير القمر تعرف الشهور والأعوام.

( مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلا بِالْحَقِّ ) أي:لم يخلقه عبثا بل له حكمة عظيمة في ذلك، وحجة بالغة، كما قال تعالى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [ ص:27 ] . وقال تعالى:أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [ المؤمنون:115 ، 116 ] .

وقوله: ( نُفَصِّلُ الآيَاتِ ) أي:نبين الحجج والأدلة ( لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ )

وقوله: ( إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ) أي:تعاقبهما إذا جاء هذا ذهب هذا، وإذا ذهب هذا جاء هذا، لا يتأخر عنه شيئا، كما قال تعالى: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا [ الأعراف:54 ] ، وقال: لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ [ يس:40 ] ، وقال تعالى: فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [ الأنعام:96 ] .

وقوله: ( وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) أي:من الآيات الدالة على عظمته تعالى، كما قال: وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ] [ يوسف:105 ] ، [ وقال قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ] وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ [ يونس:101 ] . وقال: أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [ سبأ:9 ] . وقال: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ [ آل عمران:190 ] . أي:العقول، وقال هاهنا: ( لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ ) أي:عقاب الله، وسخطه، وعذابه.

 

إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ ( 7 ) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ( 8 )

يقول الله تعالى مخبرًا عن حال الأشقياء الذين كفروا بلقاء الله يوم القيامة ولا يرجون في لقاء الله شيئا، ورضوا بهذه الحياة الدنيا واطمأنت إليها أنفسهم.

قال الحسن:والله ما زينوها ولا رفعوها، حتى رضوا بها وهم غافلون عن آيات الله الكونية فلا يتفكرون فيها، والشرعية فلا يأتمرون بها، بأن مأواهم يوم معادهم النار، جزاء على ما كانوا يكسبون في دنياهم من الآثام والخطايا والإجرام، مع ما هم فيه من الكفر بالله ورسوله واليوم الآخر.

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ( 9 ) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( 10 )

وهذا إخبار عن حال السعداء الذين آمنوا بالله وصدقوا المرسلين، وامتثلوا ما أمروا، به فعملوا الصالحات، بأنه سيهديهم بإيمانهم.

يحتمل أن تكون « الباء » هاهنا سببية فتقديره:بسبب إيمانهم في الدنيا يهديهم الله يوم القيامة على الصراط، حتى يجوزوه ويخلصُوا إلى الجنة. ويحتمل أن تكون للاستعانة، كما قال مجاهد في قوله: ( يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ ) قال: [ يكون لهم نورا يمشون به ] .

وقال ابن جُرَيْج في [ قوله: ( يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ ) قال ] :يمثُل له عمله في صورة حسنة وريح طيبة إذا قام من قبره، يعارض صاحبه ويبشره بكل خير، فيقول له:من أنت؟ فيقول:أنا عملك. فيجعل له نورا. من بين يديه حتى يدخله الجنة، فذلك قوله تعالى: ( يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ ) والكافر يَمْثُلُ له عمله في صورة سيئة وريح منتنة فيلازم صاحبه ويلازُّه حتى يقذفه في النار.

وروي نحوه عن قتادة مرسلا فالله أعلم.

وقوله: ( دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) أي:هذا حال أهل الجنة.

قال ابن جريج:أخبرتُ أن قوله: ( دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ ) [ قال:إذا مر بهم الطير يشتهونه، قالوا:سبحانك اللهم ] وذلك دعواهم فيأتيهم الملك بما يشتهونه، فيسلم عليهم، فيردون عليه. فذلك قوله: ( وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ ) قال:فإذا أكلوا حمدوا الله ربهم، فذلك قوله: ( وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ )

وقال مقاتل بن حيان:إذا أراد أهل الجنة أن يدعوا بالطعام قال أحدهم: ( سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ ) قال:فيقوم على أحدهم عشرة آلاف خادم، مع كل خادم صحفة من ذهب، فيها طعام ليس في الأخرى، قال:فيأكل منهن كلهن.

وقال سفيان الثوري:إذا أراد أحدهم أن يدعو بشيء قال: ( سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ )

وهذه الآية فيها شبه من قوله: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا [ الأحزاب:44 ] ، وقوله: لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا * إِلا قِيلا سَلامًا سَلامًا [ الواقعة:25 ، 26 ] . وقوله: سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [ يس:58 ] . وقوله: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [ الرعد:23 ، 24 ] .

وقوله: ( وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) هذا فيه دلالة على أن الله تعالى هو المحمود أبدا، المعبود على طول المدى؛ ولهذا حمد نفسه عند ابتداء خلقه واستمراره، وفي ابتداء كتابه، وعند ابتداء تنـزيله، حيث يقول تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ [ الكهف:1 ] ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ [ الأنعام:1 ] إلى غير ذلك من الأحوال التي يطول بسطها، وأنه المحمود في الأول و [ في ] الآخر، في الحياة الدنيا وفي الآخرة، في جميع الأحوال؛ ولهذا جاء في الحديث: « إن أهل الجنة يُلْهَمُونَ التسبيح والتحميد كما يُلْهَمُونَ النَّفَس » وإنما يكون ذلك كذلك لما يرون من تضاعف نعم الله عليهم، فتكرّر وتعاد وتزاد، فليس لها انقضاء ولا أمد، فلا إله إلا هو ولا رب سواه.

وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ( 11 )

يخبر تعالى عن حلمه ولطفه بعباده:أنه لا يستجيب لهم إذا دعوا على أنفسهم أو أموالهم أو أولادهم في حال ضجرهم وغضبهم، وأنه يعلم منهم عدم القصد إلى إرادة ذلك، فلهذا لا يستجيب لهم - والحالة هذه - لطفا ورحمة، كما يستجيب لهم إذا دعوا لأنفسهم أو لأموالهم وأولادهم بالخير والبركة والنماء؛ ولهذا قال: ( وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ ) أي:لو استجاب لهم كل ما دعوه به في ذلك، لأهلكهم، ولكن لا ينبغي الإكثار من ذلك، كما جاء في الحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البزار في مسنده:

حدثنا محمد بن مَعْمَر، حدثنا يعقوب بن محمد، حدثنا حاتم بن إسماعيل، حدثنا يعقوب بن مجاهد أبو حَزْرَة عن عبادة بن الوليد، حدثنا جابر قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا تدعوا على أنفسكم، لا تدعوا على أولادكم، لا تدعوا على أموالكم،لا توافقوا من الله ساعة فيها إجابة فيستجيب لكم » .

ورواه أبو داود، من حديث حاتم بن إسماعيل، به .

وقال البزار: [ و ] تفرد به عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت الأنصاري، لم يشاركه أحد فيه، وهذا كقوله تعالى: وَيَدْعُ الإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولا [ الإسراء:11 ] .

وقال مجاهد في تفسير هذه الآية: ( وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ ) هو قول الإنسان لولده وماله إذا غضب عليه: « اللهم لا تبارك فيه والعنه » . فلو يعجل لهم الاستجابة في ذلك، كما يستجاب لهم في الخير لأهلكهم.

وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 12 )

يخبر تعالى عن الإنسان وضجره وقلقه إذا مسه الضر، كقوله: وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ [ فصلت:51 ] أي:كثير، وهما في معنى واحد؛ وذلك لأنه إذا أصابته شدة قلق لها وجزع منها، وأكثر الدعاء عند ذلك، فدعا الله في كشفها وزوالها عنه في حال اضطجاعه وقعوده وقيامه، وفي جميع أحواله، فإذا فرج الله شدته وكشف كربته، أعرض ونأى بجانبه، وذهب كأنه ما كان به من ذاك شيء، ( مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ )

ثم ذم تعالى مَنْ هذه صفته وطريقته فقال: ( كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) فأما من رزقه الله الهداية والسداد والتوفيق والرشاد، فإنه مستثنى من ذلك، كما قال تعالى: إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [ هود:11 ] ، وكقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: « عجبا لأمر المؤمن لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرا له:إن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيرا له » ، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن .

وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ( 13 ) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ( 14 )

أخبر تعالى عما أحلّ بالقرون الماضية، في تكذيبهم الرسل فيما جاءوهم به من البينات والحجج الواضحات، ثم استخلف الله هؤلاء القومَ من بعدهم، وأرسل إليهم رسولا لينظر طاعتهم له، واتباعهم رسوله، وفي صحيح مسلم من حديث أبي نَضْرَة، عن أبي سعيد قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الدنيا حلوة خَضِرة، وإن الله مستخلفكم فيها فناظر ماذا تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء؛ فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء » .

وقال ابن جرير:حدثني المثنى، حدثنا زيد بن عوف أبو ربيعة فهد حدثنا حماد، عن ثابت البُناني، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى؛ أن عوف بن مالك قال لأبي بكر:رأيت فيما يرى النائم كأن سَبَبًا دُلِّي من السماء، فانتُشط رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، ثم أعيد، فانتُشط أبو بكر، ثم ذُرعَ الناس حول المنبر، ففضل عمر بثلاث أذرع إلى المنبر. فقال عمر:دعنا من رؤياك، لا أرَبَ لنا فيها! فلما استخلف عمر قال:يا عوف، رؤياك! فقال:وهل لك في رؤياي من حاجة؟ أولم تنتهرني ؟ فقال:ويحك! إني:كرهت أن تنعَى لخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه! فقصّ عليه الرؤيا، حتى إذا بلغ: « ذُرع الناس إلى المنبر بهذه الثلاث الأذرع » ، قال:أما إحداهن فإنه كائن خليفة. وأما الثانية فإنه لا يخاف في الله لومة لائم. وأما الثالثة فإنه شهيد. قال:فقال:يقول الله تعالى: ( ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ) فقد استُخلفت يا ابن أم عمر، فانظر كيف تعمل؟ وأما قوله: « فإني لا أخاف في الله لومة لائم » ، فما شاء الله! وأما قوله: [ إني ] شهيد فَأَنَّى لعمر الشهادة والمسلمون مطيفون به .

 

وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ( 15 ) قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ( 16 )

يخبر تعالى عن تعنّت الكفار من مشركي قريش الجاحدين الحقّ المعرضين عنه، أنهم إذا قَرَأ عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم كتاب الله وحُجَجه الواضحة قالوا له: ( ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا ) أي:رد هذا وجئنا بغيره من نمط آخر، أو بَدّله إلى وضع آخر، قال الله لنبيه، صلوات الله وسلامه عليه، ( قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي ) أي:ليس هذا إلي، إنما أنا عبد مأمور، ورسول مبلغ عن الله، ( إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ )

ثم قال محتجا عليهم في صحة ما جاءهم به: ( قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ ) أي:هذا إنما جئتكم به عن إذن الله لي في ذلك ومشيئته وإرادته، والدليل على أني لست أتقوله من عندي ولا افتريته أنكم عاجزون عن معارضته، وأنكم تعلمون صدقي وأمانتي منذ نشأت بينكم إلى حين بعثني الله عز وجل، لا تنتقدون علي شيئا تَغمصوني به؛ ولهذا قال: ( فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ) أي:أفليس لكم عقول تعرفون بها الحق من الباطل؛ ولهذا لما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان ومن معه، فيما سأله من صفة النبي صلى الله عليه وسلم، قال:هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال أبو سفيان:فقلت:لا - وقد كان أبو سفيان إذ ذاك رأس الكفرة وزعيم المشركين، ومع هذا اعترف بالحق:

وَالفَضْلُ ما شَهدَتْ به الأعداءُ

فقال له هرقل:فقد أعرف أنه لم يكن ليدَعَ الكذب على الناس ثم يذهب فيكذب على الله. !

وقال جعفر بن أبي طالب للنجاشي ملك الحبشة:بعث الله فينا رسولا نعرف نسبه وصدقه وأمانته، وقد كانت مدة مقامه، عليه السلام، بين أظهرنا قبل النبوة أربعين سنة. وعن سعيد بن المسيب:ثلاثا وأربعين سنة. والصحيح المشهور الأول.

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ ( 17 )

يقول تعالى:لا أحد أظلم ولا أعتى ولا أشد إجراما ( مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ) وتَقَوّل على الله، وزعم أن الله أرسله، ولم يكن كذلك، فليس أحد أكبر جرمًا ولا أعظم ظُلما من هذا، ومثل هذا لا يخفى أمره على الأغبياء، فكيف يشتبه حال هذا بالأنبياء! فإن من قال هذه المقالة صادقا أو كاذبا، فلا بد أن الله يَنصب عليه من الأدلة على برِّه أو فُجُوره ما وأظهر من الشمس، فإن الفرق بين محمد صلى الله عليه وسلم وبين مسيلمة الكذاب [ لعنه الله ] لمن شاهدهما أظهر من الفرق بين وقت الضحى ووقت نصف الليل في حنْدس الظلماء، فَمِنْ سيما كل منهما وكلامه وفعاله يَستدّل من له بصيرة على صدق محمد صلى الله عليه وسلم وكذب مسيلمة الكذاب، وسَجَاح، والأسود العَنْسي.

قال عبد الله بن سلام:لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة انْجَفَل الناس، فكنت فيمن انجفل، فلما رأيته عرفت أن وجهه ليس بوجه رجل كذاب، فكان أول ما سمعته يقول: « يا أيها الناس أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، [ وصلوا الأرحام ] وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلون الجنة بسلام » .

ولما قَدم ضمام بن ثعلبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في قومه بني سعد بن بكر قال لرسول الله فيما قال له من رفع هذه السماء؟ قال: « الله » . قال:ومن نصب هذه الجبال؟ قال: « الله » . قال:ومن سطح هذه الأرض؟ قال: « الله » . قال:فبالذي رفع هذه السماء، ونصب هذه الجبال، وسَطَح هذه الأرض:الله أرسلك إلى الناس كلهم؟ قال: « اللهم نعم » ثم سأله عن الصلاة، والزكاة، والحج، والصيام، ويحلف عند كل واحدة هذه اليمين، ويحلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له:صدقت، والذي بعثك بالحق لا أزيد على ذلك ولا أنقص.

فاكتفى هذا الرجل بمجرد هذا، وقد أيقن بصدقه، صلوات الله وسلامه عليه، بما رأى وشاهد من الدلائل الدالة عليه، كما قال حسان بن ثابت:

لَــو لــم تَكُــن فيه آياتٌ مُبَيّنة كـانت بَديهَتُـــه تَأتيكَ بالخَبَرِ

وأما مسيلمة فمن شاهده من ذَوي البصائر، علم أمره لا محالة، بأقواله الركيكة التي ليست بفصيحة، وأفعاله غير الحسنة بل القبيحة، وقرآنه الذي يخلد به في النار يوم الحسرة والفضيحة، وكم من فرق بين قوله تعالى: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [ البقرة:255 ] . وبين عُلاك مسيلمة قبحه الله ولعنه: « يا ضفدع بنت الضفدعين، نقي كما تنقين لا الماء تكدرين، ولا الشارب تمنعين » . وقوله - قُبّح ولعن - : « لقد أنعم الله على الحبلى، إذ أخرج منها نَسَمة تسعى، من بين صِفَاق وحَشَى » . وقوله - خَدّره الله في نار جهنم، وقد فعل - : « الفيل وما أدراك ما الفيل؟ له زُلقُومٌ طويل » وقوله - أبعده الله من رحمته: « والعاجنات عجنا، والخابزات خبزا، واللاقمات لقما، إهالة وسمنا، إن قريشا قوم يعتدون » إلى غير ذلك من الهذيانات والخرافات التي يأنف الصبيان أن يتلفظوا بها، إلا على وجه السخرية والاستهزاء؛ ولهذا أرغم الله أنفه، وشرب يوم « حديقة الموت » حتفه. ومَزّق شمله. ولعنه صحبُه وأهله. وقدموا على الصديق تائبين، وجاءوا في دين الله راغبين، فسألهم الصديق خليفة الرسول، صلوات الله وسلامه عليه، ورضي [ الله ] عنه - أن يقرءوا عليه شيئا من قرآن مسيلمة لعنه الله، فسألوه أن يعفيهم من ذلك، فأبى عليهم إلا أن يقرءوا شيئا منه ليسمعه من لم يسمعه من الناس، فيعرفوا فضل ما هم عليه من الهدى والعلم. فقرءوا عليه من هذا الذي ذكرناه وأشباهه، فلما فرغوا قال لهم الصديق، رضي الله عنه:ويحكم! أين كان يُذهب بعقولكم؟ والله إن هذا لم يخرج من إلٍّ.

وذكروا أن وفد عمرو بن العاص على مسيلمة، وكان صديقا له في الجاهلية، وكان عمرو لم يسلم بعدُ، فقال له مسيلمة:ويحك يا عمرو، ماذا أنـزل على صاحبكم - يعني:رسول الله صلى الله عليه وسلم - في هذه المدة؟ فقال:لقد سمعت أصحابه يقرءون سورة عظيمة قصيرة فقال:وما هي؟ فقال: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [ سورة العصر ] ، ففكر مسيلمة ساعة، ثم قال:وقد أنـزل عليّ مثله. فقال:وما هو؟ فقال: « يا وَبْرُ إنما أنت أذنان وصدر، وسائرك حَقْرٌ نَقْر، كيف ترى يا عمرو؟ » فقال له عمرو: والله إنك لتعلم أني أعلم أنك لتكذب « ، فإذا كان هذا من مشرك في حال شركه، لم يشتبه عليه حال محمد صلى الله عليه وسلم وصدقه، وحال مسيلمة - لعنه الله - وكذبه، فكيف بأولي البصائر والنهى، وأصحاب العقول السليمة المستقيمة والحجى! ولهذا قال الله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ [ الأنعام:93 ] ، وقال في هذه الآية الكريمة: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [ الأنعام:21 ] ، وكذلك من كذّب بالحق الذي جاءت به الرسل، وقامت عليه الحجج، لا أحد أظلم منه كما جاء في الحديث: » أعتى الناس على الله رجلٌ قتل نبيا، أو قتله نبي « . »

وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ( 18 ) وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ( 19 )

ينكر تعالى على المشركين الذين عبدوا مع الله غيره، ظانين أن تلك الآلهة تنفعهم شفاعتُها عند الله، فأخبر تعالى أنها لا تنفع ولا تضر ولا تملك شيئا، ولا يقع شيء مما يزعمون فيها، ولا يكون هذا أبدا؛ ولهذا قال تعالى: ( قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ ) .

وقال ابن جرير:معناه أتخبرون الله بما لا يكون في السماوات ولا في الأرض؟ ثم نـزه نفسه عن شركهم وكفرهم، فقال: ( سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) .

ثم أخبر تعالى أن هذا الشرك حادث في الناس، كائن بعد أن لم يكن، وأن الناس كلهم كانوا على دين واحد، وهو الإسلام؛ قال ابن عباس:كان بين آدم ونوح عشرة قرون، كلهم على الإسلام، ثم وقع الاختلاف بين الناس، وعُبدت الأصنام والأنداد والأوثان، فبعث الله الرسل بآياته وبيناته وحُجَجه البالغة وبراهينه الدامغة، لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ [ الأنفال:42 ] .

وقوله: ( وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) أي:لولا ما تقدم من الله تعالى أنه لا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه؛ وأنه قد أجل الخلق إلى أجل معدود لقضى بينهم فيما فيه اختلفوا، فأسعد المؤمنين، وأعنَتَ الكافرين.

وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ( 20 )

أي:ويقول هؤلاء الكفرة [ الملحدون ] المكذبون المعاندون: « لولا أنـزل على محمد آية من ربه » ، يعنون كما أعطى الله ثمود الناقة، أو أن يحول لهم الصفا ذهبا، أو يزيح عنهم جبال مكة ويجعل مكانها بساتين وأنهارا، ونحو ذلك مما الله عليه قادر ولكنه حكيم في أفعاله وأقواله، كما قال تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا [ الفرقان:10 ، 11 ] وقال تعالى: وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا [ الإسراء:59 ] ، يقول تعالى:إن سنتي في خلقي أني إذا آتيتهم ما سألوا، فإن آمنوا وإلا عاجلتهم بالعقوبة. ولهذا لما خيَّر رسول الله، عليه الصلاة والسلام، بين أن يُعطى ما سألوا، فإن أجابوا وإلا عُوجلوا، وبين أن يتركهم ويُنْظرهم، اختار إنظارهم، كما حلم عنهم غير مرة، صلوات الله عليه؛ ولهذا قال تعالى إرشادا لنبيه إلى الجواب عما سألوا: ( فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ ) أي:الأمر كله لله، وهو يعلم العواقب في الأمور، ( فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ) أي:إن كنتم لا تؤمنون حتى تشاهدوا ما سألتم فانتظروا حكم الله فيَّ وفيكم. هذا مع أنهم قد شاهدوا من معجزاته، عليه السلام أعظم مما سألوا حين أشار بحضرتهم إلى القمر ليلة إبداره، فانشق باثنتين فرقة من وراء الجبل، وفرقة من دونه. وهذا أعظم من سائر الآيات الأرضية مما سألوا وما لم يسألوا، ولو علم الله منهم أنهم سألوا ذلك استرشادا وتثبّتا لأجابهم، ولكن علم أنهم إنما يسألون عنادا وتعنتا، فتركهم فيما رابهم، وعلم أنهم لا يؤمن منهم أحد، كما قال تعالى:إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ [ يونس:96 ، 97 ] ، وقال تعالى: وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ [ الأنعام:111 ] ، ولما فيهم من المكابرة، كما قال تعالى:وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ [ الحجر:14 ، 15 ] ، وقال تعالى: وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ [ الطور:44 ] ، وقال تعالى: وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ [ الأنعام:7 ] ، فمثل هؤلاء أقل من أن يجابوا إلى ما سألوه؛ لأنه لا فائدة في جواب هؤلاء؛ لأنه دائر على تعنتهم وعنادهم، لكثرة فجورهم وفسادهم؛ ولهذا قال: ( فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ )

 

وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ ( 21 ) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ( 22 ) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( 23 )

يخبر تعالى أنه إذا أذاق الناس رحمة من بعد ضراء مستهم، كالرخاء بعد الشدة، والخصب بعد الجدب، والمطر بعد القحط ونحو ذلك ( إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا ) .

قال مجاهد:استهزاء وتكذيب. كما قال: وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ [ يونس:12 ] ، وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم الصبح على أثر سماء - مطر - أصابهم من الليل ثم قال: « هل تدرون ماذا قال ربكم الليلة؟ » قالوا الله ورسوله أعلم. قال: « قال:أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال:مُطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال:مطرنا بنوء كذا وكذا، فذاك كافر بي مؤمن بالكوكب » .

وقوله: ( قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا ) أي:أشد استدراجا وإمهالا حتى يظن الظان من المجرمين أنه ليس بمعذب، وإنما هو في مهلة، ثم يؤخذ على غرة منه، والكاتبون الكرام يكتبون عليه جميع ما يفعله، ويحصونه عليه، ثم يعرضون على عالم الغيب والشهادة، فيجازيه على الحقير والجليل والنقير والقِطْمير.

ثم أخبر تعالى أنه: ( هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ) أي:يحفظكم ويكلؤكم بحراسته ( حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا ) أي:بسرعة سيرهم رافقين، فبينما هم كذلك إذ ( جَاءَتْهَا ) أي:تلك السفن ( رِيحٌ عَاصِفٌ ) أي:شديدة ( وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ ) أي:اغتلم البحر عليهم ( وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ ) أي:هلكوا ( دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) أي:لا يدعون معه صنما ولا وثنا، بل يفردونه بالدعاء والابتهال، كما قال تعالى: وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا [ الإسراء:67 ] ، وقال هاهنا: ( دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ ) أي:هذه الحال ( لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ) أي:لا نشرك بك أحدا، ولنفردنك بالعبادة هناك كما أفردناك بالدعاء هاهنا ، قال الله تعالى: ( فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ ) أي:من تلك الورطة ( إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ) أي:كأن لم يكن من ذاك شيء كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ

ثم قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ ) أي:إنما يذوق وبال هذا البغي أنتم أنفسكم ولا تضرون به أحدا غيركم، كما جاء في الحديث: « ما من ذنب أجدر أن يعجل الله عقوبته في الدنيا، مع ما يَدخر الله لصاحبه في الآخرة، من البغي وقطيعة الرحم » .

وقوله: ( مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) أي:إنما لكم متاع في الحياة الدنيا الدنيئة الحقيرة ( ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ ) أي:مصيركم ومآلكم ( فننبئكم ) أي:فنخبركم بجميع أعمالكم، ونوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه.

إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ( 24 ) وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ( 25 )

ضرب [ تبارك و ] تعالى مثلا لزهرة الحياة الدنيا وزينتها وسرعة انقضائها وزوالها، بالنبات الذي أخرجه الله من الأرض بما أنـزل من السماء من الماء، مما يأكل الناس من زرع وثمار، على اختلاف أنواعها وأصنافها، وما تأكل الأنعام من أب وقَضْب وغير ذلك، ( حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأرْضُ زُخْرُفَهَا ) أي:زينتها الفانية، ( وَازَّيَّنَتْ ) أي:حَسُنت بما خرج من رُباها من زهور نَضِرة مختلفة الأشكال والألوان، ( وَظَنَّ أَهْلُهَا ) الذين زرعوها وغرسوها ( أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا ) أي:على جَذاذها وحصادها فبيناهم كذلك إذ جاءتها صاعقة، أو ريح بادرة، فأيبست أوراقها، وأتلفت ثمارها؛ ولهذا قال تعالى: ( أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا ) أي:يبسا بعد [ تلك ] الخضرة والنضارة، ( كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأمْسِ ) أي:كأنها ما كانت حسناء قبل ذلك.

وقال قتادة: ( كَأَنْ لَمْ تَغْنَ ) كأن لم تنعم.

وهكذا الأمور بعد زوالها كأنها لم تكن؛ ولهذا جاء في الحديث يؤتى بأنعم أهل الدنيا، فيُغْمَس في النار غَمْسَة ثم يقال له:هل رأيت خيرًا قط؟ [ هل مر بك نعيم قط؟ ] فيقول:لا. ويؤتى بأشد الناس عذابًا في الدنيا فيغمس في النعيم غمسة، ثم يقال له:هل رأيت بؤسا قط؟ فيقول:لا « »

وقال تعالى إخبارًا عن المهلكين: فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ * كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا [ هود:94 ، 95 ] .

ثم قال تعالى: ( كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ ) أي:نبين الحُجج والأدلة، ( لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) فيعتبرون بهذا المثل في زوال الدنيا من أهلها سريعًا مع اغترارهم بها، وتمكنهم بمواعيدها وتَفَلّتها منهم، فإن من طبعها الهرب ممن طلبها، والطلب لمن هرب منها، وقد ضرب الله مثل الحياة الدنيا بنبات الأرض، في غير ما آية من كتابه العزيز، فقال في سورة الكهف: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا [ الكهف:45 ] ، وكذا في سورة الزمر والحديد يضرب بذلك مثل الحياة الدنيا كماء.

وقال ابن جرير:حدثني الحارث حدثنا عبد العزيز، حدثنا ابن عُيَيْنَةَ، عن عمرو بن دينار، عن عبد الرحمن بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال:سمعت مروان - يعني:ابن الحكم - يقرأ على المنبر: « وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها وما كان الله ليهلكها إلا بذنوب أهلها » ، قال:قد قرأتها وليست في المصحف فقال عباس بن عبد الله بن عباس:هكذا يقرؤها ابن عباس. فأرسلوا إلى ابن عباس فقال:هكذا أقرأني أبيّ بن كعب.

وهذه قراءة غريبة، وكأنها زيادة للتفسير.

وقوله: ( وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ ) الآية:لما ذكر تعالى الدنيا وسرعة [ عطبها و ] زوالها، رغَّب في الجنة ودعا إليها، وسماها دار السلام أي:من الآفات، والنقائص والنكبات، فقال: ( وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) .

قال أيوب عن أبي قِلابة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « قيل لي:لتنَمْ عينُك، وليعقلْ قلبك، ولتسمع أذنك فنامت عيني، وعقل قلبي، وسمعت أذني. ثم قيل:سيّدٌ بَنَى دارًا، ثم صنع مأدبة، وأرسل داعيًا، فمن أجاب الداعي دخل الدار، وأكل من المأدبة، ورضي عنه السيد، ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار، ولم يأكل من المأدبة، ولم يرض عنه السيد فالله السيد، والدار الإسلام، والمأدبة الجنة، والداعي محمد صلى الله عليه وسلم. »

وهذا حديث مرسل، وقد جاء متصلا من حديث الليث، عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال، عن جابر بن عبد الله، رضي الله عنه، قال:خرج علينا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يومًا فقال: « إني رأيت في المنام كأن جبريل عند رأسي، وميكائيل عند رجلي، يقول أحدهما لصاحبه:اضرب له مثلا. فقال:اسمع سَمعت أذنك، واعقل عَقَل قلبك، إنما مَثَلُك ومثل أمَّتك كمثل ملك اتخذ دارا، ثم بنى فيها بيتًا، ثم جعل فيها مأدبة، ثم بعث رسولا يدعو الناس إلى طعامه، فمنهم من أجاب الرسول، ومنهم من تركه، فالله الملك، والدار الإسلام، والبيت الجنة، وأنت يا محمد الرسُول، فمن أجابك دخل الإسلام، ومن دخل الإسلام دخل الجنة، ومن دخل الجنة أكل منها » رواه ابن جرير.

وقال قتادة:حدثني خُلَيْد العَصَري، عن أبي الدرداء قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما من يوم طلعت فيه شمسه إلا وبجنَبَتَيْها ملكان يناديان يسمعهما خلق الله كلهم إلا الثقلين:يا أيها الناس، هلموا إلى ربكم، إن ما قلَّ وكَفَى، خير مما كثر وألهى » . قال:وأنـزل ذلك في القرآن، في قوله: ( وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) رواه ابن أبي حاتم، وابن جرير.

 

لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( 26 )

يخبر تعالى أن لمن أحسن العمل في الدنيا بالإيمان والعمل الصالح أبدله الحسنى في الدار الآخرة، كما قال تعالى: هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ [ الرحمن:60 ] .

وقوله: ( وَزِيَادَة ) هي تضعيف ثواب الأعمال بالحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وزيادة على ذلك [ أيضا ] ويشمل ما يعطيهم الله في الجنان من القُصُور والحُور والرضا عنهم، وما أخفاه لهم من قرة أعين، وأفضل من ذلك وأعلاه النظرُ إلى وجهه الكريم، فإنه زيادة أعظم من جميع ما أعطوه، لا يستحقونها بعملهم، بل بفضله ورحمته وقد روي تفسير الزيادة بالنظر إلى وجه الله الكريم، عن أبي بكر الصديق، وحذيفة بن اليمان، وعبد الله بن عباس [ قال البغوي وأبو موسى وعبادة بن الصامت ] وسعيد بن المسيب، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وعبد الرحمن بن سابط، ومجاهد، وعكرمة، وعامر بن سعد، وعطاء، والضحاك، والحسن، وقتادة، والسدي، ومحمد بن إسحاق، وغيرهم من السلف والخلف.

وقد وردت في ذلك أحاديثُ كثيرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن ذلك ما رواه الإمام أحمد:

حدثنا عفان، أخبرنا حماد بن سلمة، عن ثابت البُناني، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن صهيب؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية: ( لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ) وقال: « إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، نادى مناد:يا أهل الجنة، إن لكم عند الله موعدًا يريد أن يُنْجِزَكُمُوه. فيقولون:وما هو؟ ألم يُثقِّل موازيننا، ويبيض وجوهنا، ويدخلنا الجنة، ويزحزحنا من النار؟ » . قال: « فيكشف لهم الحجاب، فينظرون إليه، فوالله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر إليه، ولا أقر لأعينهم » .

وهكذا رواه مسلم وجماعة من الأئمة، من حديث حماد بن سلمة، به.

وقال ابن جرير:أخبرنا يونس، أخبرنا ابن وهب:أخبرنا شبيب، عن أبان عن أبي تَمِيمَة الهُجَيْمي؛ أنه سمع أبا موسى الأشعري يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الله يبعث يوم القيامة مناديا ينادي:يا أهل الجنة - بصَوْت يُسْمعُ أوَّلهم وآخرهم - :إن الله وعدكم الحسنى وزيادة، الحسنى:الجنة. وزيادة:النظر إلى وجه الرحمن عز وجل » .

ورواه أيضا ابنُ أبي حاتم، من حديث أبي بكر الهُذلي عن أبي تميمة الهجيمي، به.

وقال ابن جرير أيضًا:حدثنا ابن حميد، حدثنا إبراهيم بن المختار عن ابن جُرَيْج، عن عطاء، عن كعب بن عُجْرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ( لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ) قال:النظر إلى وجه الرحمن عز وجل.

وقال أيضا:حدثنا ابن عبد الرحيم حدثنا عمرو بن أبي سلمة، سمعت زهيرًا عمن سمع أبا العالية، حدثنا أبيّ بن كعب:أنه سأل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله عز وجل: ( لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ) قال: « الحسنى:الجنة، والزيادة:النظر إلى وجه الله عز وجل » .

ورواه ابن أبي حاتم أيضا من حديث زهير، به.

وقوله تعالى: ( وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ ) أي:قتام وسواد في عَرَصات المحشر، كما يعتري وجوه الكفرة الفجرة من القُتْرة والغُبْرة، ( وَلا ذِلَّةٌ ) أي:هوان وصغار، أي:لا يحصل لهم إهانة في الباطن، ولا في الظاهر، بل هم كما قال تعالى في حقهم: فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا أي:نضرة في وجوههم، وسرورًا في قلوبهم، جعلنا الله منهم بفضله ورحمته، آمين.

وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( 27 )

لما أخبر تعالى عن حال السعداء الذين يُضاعف لهم الحسنات، ويزدادون على ذلك، عطف بذكر حال الأشقياء، فذكر عدله تعالى فيهم، وأنه يجازيهم على السيئة بمثلها، لا يزيدهم على ذلك، ( وَتَرْهَقُهُم ) أي:تعتريهم وتعلوهم ذلة من معاصيهم وخوفهم منها، كما قال تعالى: وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ [ الشورى:45 ] ، وقال تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ * وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ [ إبراهيم:42 - 44 ] ، وقوله ( مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ ) أي:من مانع ولا واق يقيهم العذاب، كما قال تعالى: يَقُولُ الإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ * كَلا لا وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ [ القيامة:10 - 12 ] .

وقوله: ( كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا ) إخبار عن سواد وجوههم في الدار الآخرة، كما قال تعالى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [ آل عمران:106 ، 107 ] ، وكما قال تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ [ عبس:38 - 42 ] . الآية.

وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ ( 28 ) فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ ( 29 ) هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ( 30 )

يقول تعالى: ( وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ ) أي:أهل الأرض كلهم، من إنس وجن وبر وفاجر، كما قال: وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا [ الكهف:47 ] .

( ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ ) أي:الزموا أنتم وهم مكانًا معينًا، امتازوا فيه عن مقام المؤمنين، كما قال تعالى: وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ [ يس:59 ] ، وقال وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ [ الروم:14 ] ، وفي الآية الأخرى: يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ [ الروم:43 ] أي:يصيرون صِدعين، وهذا يكون إذا جاء الرب تعالى لفصل القضاء؛ ولهذا قيل:ذلك يستشفع المؤمنون إلى الله تعالى أن يأتي لفصل القضاء ويريحنا من مقامنا هذا، وفي الحديث الآخر: « نحن يوم القيامة على كَوْم فوق الناس . »

وقال الله تعالى في هذه الآية الكريمة إخبارًا عما يأمر به المشركين وأوثانهم يوم القيامة: ( مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ ) أنكروا عبادتهم، وتبرءوا منهم، كما قال تعالى: [ كَلا ] سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا الآية. [ مريم:82 ] . وقال: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا [ البقرة:166 ] ، وقال وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [ الأحقاف:5 ، 6 ] .

وقال في هذه الآية إخبارًا عن قول الشركاء فيما راجعوا فيه عابديهم عند ادعائهم عبادتهم: ( فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ ) أي:ما كنا نشعر بها ولا نعلم، وإنما أنتم كنتم تعبدوننا من حيث لا ندري بكم، والله شهيد بيننا وبينكم أنا ما دعوناكم إلى عبادتنا، ولا أمرناكم بها، ولا رضينا منكم بذلك.

وفي هذا تبكيت عظيم للمشركين الذين عبدوا مع الله غيره، ممن لا يسمع ولا يبصر، ولا يغني عنهم شيئًا، ولم يأمرهم بذلك ولا رضي به ولا أراده، بل تبرأ منهم في وقت أحوج ما يكونون إليه، وقد تركوا عبادة الحي القيوم، السميع البصير، القادر على كل شيء، العليم بكل شيء وقد أرسل رسله وأنـزل كتبه، آمرا بعبادته وحده لا شريك له، ناهيًا عن عبادة ما سواه، كما قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ [ النحل:36 ] ، وقال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ [ الأنبياء:25 ] ، وقال: وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [ الزخرف:45 ] .

والمشركون أنواع وأقسام كثيرون، قد ذكرهم الله في كتابه، وبَيّن أحوالهم وأقوالهم، ورَد عليهم فيما هم فيه أتم رد.

وقوله: ( هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ ) أي:في موقف الحساب يوم القيامة تختبر كل نفس وتعلم ما أسلفت من [ عملها من ] خير وشر، كما قال تعالى: يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ [ الطارق:9 ] ، وقال تعالى: يُنَبَّأُ الإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ [ القيامة:13 ] ، وقال تعالى: وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [ الإسراء:13 ، 14 ] .

وقد قرأ بعضهم: ( هُنَالِكَ تَتْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ ) وفسَّرها بعضهم بالقراءة، وفسّرها بعضهم بمعنى تتبع ما قدمته من خير وشر، وفسّرها بعضهم بحديث: « تتبع كل أمة ما كانت تعبد، فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس، ويتبع من كان يعبد القمر القمر، ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت » الحديث.

وقوله: ( وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ ) أي:ورجعت الأمور كلها إلى الله الحكم العدل، ففصلها، وأدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار.

( وَضَلَّ عَنْهُمْ ) أي:ذهب عن المشركين ( مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ) أي:ما كانوا يعبدون من دون الله افتراء عليه.

قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ ( 31 ) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ( 32 ) كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ( 33 )

يحتج تعالى على المشركين باعترافهم بوحدانيته وربوبيته على وحدانية الإله فقال: ( قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ ) أي:من ذا الذي ينـزل من السماء ماء المطر، فيشق الأرض شقًا بقدرته ومشيئته، فيخرج منها حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا [ عبس:27 - 31 ] ، أإله مع الله؟ فسيقولون:الله، أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ [ الملك:21 ] ؟، وكذلك قوله: ( أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ ) [ يونس:31 ] ؟ ؟ أي:الذي وهبكم هذه القوة السامعة، والقوة الباصرة، ولو شاء لذهب بها ولسلبكم إياها، كما قال تعالى: قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ [ الملك:23 ] ، وقال قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ [ الأنعام:46 ] .

وقوله: ( وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ ) أي:بقدرته العظيمة، ومنته العميمة، وقد تقدم ذكر الخلاف في ذلك، وأن الآية عامة في ذلك كله.

وقوله: ( وَمَنْ يُدَبِّرُ الأمْرَ ) أي:من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه، وهو المتصرف الحاكم الذي لا معقب لحكمه، ولا يُسأل عما يفعل وهم يُسْألُون، يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [ الرحمن:29 ] ، فالملك كله العلوي والسفلي، وما فيهما من ملائكة وإنس وجان، فقيرون إليه، عبيد له، خاضعون لديه، ( فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ ) أي:هم يعلمون ذلك ويعترفون به، ( فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ ) أي:أفلا تخافون منه أن تعبدوا معه غيره بآرائكم وجهلكم؟.

وقوله: ( فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ) أي:فهذا الذي اعترفتم بأنه فاعل ذلك كله هو ربكم وإلهكم الحق الذي يستحق أن يفرد بالعبادة، ( فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ ) أي:فكل معبود سواه باطل، لا إله إلا هو، واحد لا شريك له.

( فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ) أي:فكيف تصرفون عن عبادته إلى عبادة ما سواه، وأنتم تعلمون أنه الرب الذي خلق كل شيء، والمتصرف في كل شيء؟

وقوله: ( كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) أي:كما كفر هؤلاء المشركون واستمروا على شركهم وعبادتهم مع الله غيره، مع أنهم يعترفون بأنه الخالق الرازق المتصرف في الملك وحده، الذي بعث رسله بتوحيده؛ فلهذا حقت عليهم كلمة الله أنهم أشقياء من ساكني النار، كقوله: قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ [ الزمر:71 ] .

 

قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ( 34 ) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ( 35 ) وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ( 36 )

وهذا إبطال لدعواهم فيما أشركوا بالله غيره، وعبدوا من الأصنام والأنداد، ( قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ) أي:من بدأ خلق هذه السموات والأرض ثم ينشئ ما فيهما من الخلائق، ويفرق أجرام السموات والأرض ويبدلهما بفناء ما فيهما، ثم يعيد الخلق خلقًا جديدًا؟ ( قُلِ اللَّهُ ) هو الذي يفعل هذا ويستقل به، وحده لا شريك له، ( فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ) أي:فكيف تصرفون عن طريق الرشد إلى الباطل؟!

( قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ ) أي:أنتم تعلمون أن شركاءكم لا تقدر على هداية ضال، وإنما يهدي الحيارى والضلال، ويقلب القلوب من الغي إلى الرشد الله الذي لا إله إلا هو.

( أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلا أَنْ يُهْدَى ) أي:أَفَيُتَّبَع [ العبد الذي يهدي إلى الحق ويُبَصّر بعد العمى، أم الذي لا يهدي إلى شيء إلا ] أن يهدى، لعماه وبكمه؟ كما قال تعالى إخبارًا عن إبراهيم أنه قال: يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا [ مريم:42 ] ، وقال لقومه: أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [ الصافات:95 ، 96 ] إلى غير ذلك من الآيات.

وقوله: ( فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) أي:فما بالكم يُذْهَبُ بعقولكم، كيف سويتم بين الله وبين خَلقه، وعدلتم هذا بهذا، وعبدتم هذا وهذا؟ وهلا أفردتم الرب جل جلاله المالك الحاكم الهادي من الضلالة بالعبادة وحده، وأخلصتم إليه الدعوة والإنابة.

ثم بين تعالى أنهم لا يتبعون في دينهم هذا دليلا ولا برهانًا، وإنما هو ظن منهم، أي:توهم وتخيل، وذلك لا يغني عنهم شيئا، ( إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ) تهديد لهم، ووعيد شديد؛ لأنه تعالى أخبر أنه سيجازيهم على ذلك أتم الجزاء.

وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( 37 ) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 38 ) بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ( 39 ) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ ( 40 )

هذا بيان لإعجاز القرآن، وأنه لا يستطيع البشر أن يأتوا بمثله، ولا بعشر سور، ولا بسورة من مثله، لأنه بفصاحته وبلاغته ووَجازته وحَلاوته، واشتماله على المعاني العزيزة [ للعزيرة ] النافعة في الدنيا والآخرة، لا يكون إلا من عند الله الذي لا يشبهه شيء في ذاته ولا صفاته، ولا في أفعاله وأقواله، فكلامه لا يشبه كلام المخلوقين؛ ولهذا قال تعالى: ( وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ ) أي:مثل هذا القرآن لا يكون إلا من عند الله، ولا يشبه هذا كلام البشر، ( وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ) أي:من الكتب المتقدمة، ومهيمنا عليها، ومبينا لما وقع فيها من التحريف والتأويل والتبديل.

وقوله: ( وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) أي:وبيان الأحكام والحلال والحرام، بيانًا شافيًا كافيًا حقًا لا مرية فيه من الله رب العالمين، كما تقدم في حديث الحارث الأعور، عن علي بن أبي طالب: « فيه خَبَرُ ما قبلكم، ونبأ ما بعدكم، وفصل ما بينكم » ، أي:خَبَر عما سلف وعما سيأتي، وحكم فيما بين الناس بالشرع الذي يحبه الله ويرضاه.

وقوله: ( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) أي:إن ادعيتم وافتريتم وشككتم في أن هذا من عند الله، وقلتم كذبًا ومَيْنا: « إن هذا من عند محمد » ، فمحمد بشر مثلكم، وقد جاء فيما زعمتم بهذا القرآن، فأتوا أنتم بسورة مثله، أي:من جنس القرآن، واستعينوا على ذلك بكل من قَدرتم عليه من إنس وجان.

وهذا هو المقام الثالث في التحدي، فإنه تعالى تحداهم ودعاهم، إن كانوا صادقين في دعواهم، أنه من عند محمد، فلتعارضوه بنظير ما جاء به وحده واستعينوا بمن شئتم وأخبر أنهم لا يقدرون على ذلك، ولا سبيل لهم إليه، فقال تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [ الإسراء:88 ] ، ثم تقاصر معهم إلى عشر سور منه، فقال في أول سورة هود: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [ هود:13 ] ، ثم تنازل إلى سورة، فقال في هذه السورة: ( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) وكذا في سورة البقرة - وهي مدنية - تحداهم بسورة منه، وأخبر أنهم لا يستطيعون ذلك أبدا، فقال: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الآية: [ البقرة:24 ] .

هذا وقد كانت الفصاحة من سجاياهم، وأشعارهم ومعلقاتهم إليها المنتهى في هذا الباب، ولكن جاءهم من الله ما لا قِبَلَ لأحد به، ولهذا آمن من آمن منهم بما عرف من بلاغة هذا الكلام وحلاوته، وجزالته وطلاوته، وإفادته وبراعته، فكانوا أعلم الناس به، وأفهمهم له، وأتبعهم له وأشدهم له انقيادا، كما عرف السحرة، لعلمهم بفنون السحر، أن هذا الذي فعله موسى، عليه السلام، لا يصدر إلا عن مُؤيَّد مُسَدد مرسل من الله، وأن هذا لا يستطاع لبشر إلا بإذن الله. وكذلك عيسى، عليه السلام، بُعِث في زمان علماء الطب ومعالجة المرضى، فكان يبرئ الأكمه والأبرص، ويحيي الموتى بإذن الله، ومثل هذا لا مدخل للعلاج والدواء فيه، فعرف من عرف منهم أنه عبد الله ورسوله؛ ولهذا جاء في الصحيح، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « ما من نبي من الأنبياء إلا وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا » .

وقوله: ( بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ) يقول:بل كذب هؤلاء بالقرآن، ولم يفهموه ولا عرفوه، ( وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ) أي:ولم يُحصّلوا ما فيه من الهدى ودين الحق إلى حين تكذيبهم به جهلا وسفهًا ( كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) أي:من الأمم السالفة ( فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ) أي:فانظر كيف أهلكناهم بتكذيبهم رسلنا ظلمًا وعلوا، وكفرا وعنادًا وجهلا فاحذروا أيها المكذبون أن يصيبكم ما أصابهم.

وقوله: ( وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ ) أي:ومن هؤلاء الذين بُعثتَ إليهم يا محمد من يؤمن بهذا القرآن، ويتبعك وينتفع بما أرسلت به، ( وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ ) بل يموت على ذلك ويبعث عليه، ( وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ ) أي:وهو أعلم بمن يستحق الهداية فيهديه، ومن يستحق الضلالة فيضله، وهو العادل الذي لا يجور، بل يعطي كلا ما يستحقه، تبارك وتعالى وتقدس وتنـزه، لا إله إلا هو.

وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ ( 41 ) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لا يَعْقِلُونَ ( 42 )

يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم:وإن كذبك هؤلاء المشركون، فتبرأ منهم ومن عملهم، ( فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ ) كقوله تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [ سورة الكافرون ] . وقال إبراهيم الخليل وأتباعه لقومهم المشركين: إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ [ الممتحنة:4 ] .

وقوله: ( وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ ) أي:يسمعون كلامك الحسن، والقرآن العظيم، والأحاديث الصحيحة الفصيحة النافعة في القلوب والأبدان والأديان، وفي هذا كفاية عظيمة، ولكن ليس ذلك إليك ولا إليهم، فإنك لا تقدر على إسماع الأصم - وهو الأطرش - فكذلك لا تقدر على هداية هؤلاء، إلا أن يشاء الله.

 

وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لا يُبْصِرُونَ ( 43 ) إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ( 44 )

( وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ ) أي:ينظرون إليك وإلى ما أعطاك الله من التؤدة، والسمت الحسن، والخلق العظيم، والدلالة الظاهرة، على نبوءتك لأولي البصائر والنهى، وهؤلاء ينظرون كما ينظر غيرهم، ولا يحصل لهم من الهداية شيء مما يحصل لغيرهم، بل المؤمنون ينظرون إليك بعين الوقار، والكافرون ينظرون إليك بعين الاحتقار، وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولا * إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلا [ الفرقان:41 ، 42 ] .

ثم أخبر تعالى أنه لا يظلم أحدا شيئًا، وإن كان قد هدى به من هدى [ من الغي ] وبصر به من العمى، وفتح به أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبًا غلفا، وأضل به عن الإيمان آخرين، فهو الحاكم المتصرف في ملكه بما يشاء، الذي لا يُسْأل عما يفعل وهم يسألون، لعلمه وحكمته وعدله؛ ولهذا قال تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) وفي الحديث عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيما يرويه عنه ربه عز وجل: « يا عبادي، إني حرّمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا - إلى أن قال في آخره:يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يَلُومَنَّ إلا نفسه » . رواه مسلم بطوله.

وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ( 45 )

يقول تعالى مُذكِّرًا للناس قيام الساعة وحشرهم من أجداثهم إلى عَرَصات القيامة:كأنهم يوم يوافونها لم يلبثوا في الدنيا ( إِلا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ ) كما قال تعالى: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا [ النازعات:46 ] ، وقال تعالى: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا * يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا عَشْرًا * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا يَوْمًا [ طه:102 - 104 ] ، وقال تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [ الروم:55 ، 56 ] .

وهذا كله دليل على استقصار الحياة الدنيا في الدار الآخرة كما قال: قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [ المؤمنون:112 ، 114 ] .

وقوله: ( يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ ) أي:يعرف الأبناء الآباء والقرابات بعضهم لبعض، كما كانوا في الدنيا، ولكن كل مشغول بنفسه فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ [ المؤمنون:101 ] ، وقال تعالى: وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا * يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ * وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ * كَلا [ المعارج:10 ، 15 ] .

وقوله: ( قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ) كقوله تعالى: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [ المرسلات:15 ] . لأنهم خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة، ألا ذلك هو الخسران المبين. فهذه هي الخسارة العظيمة، ولا خسارة أعظم من خَسارة من فُرّق بينه وبين أحبته يوم الحسرة والندامة.

وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ ( 46 ) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ( 47 )

يقول تعالى مخاطبا لرسوله صلى الله عليه وسلم: ( وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ ) أي:ننتقم منهم في حياتك لتقرّ عينُك منهم، ( أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ) أي:مصيرهم ومتقَلَبهم، والله شهيد على أفعالهم بعدك.

وقد قال الطبراني:حدثنا عبد الله بن أحمد، حدثنا عقبة بن مكرم، حدثنا أبو بكر الحنفي، حدثنا داود بن الجارود، عن أبي الطفيل عن حذيفة بن أسيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « عُرضت عليّ أمتي البارحة لدى هذه الحجرة، أولها وآخرها. فقال رجل:يا رسول الله، عرض عليك من خُلِق، فكيف من لم يخلق؟ فقال: » صُوِّروا لي في الطين، حتى إني لأعْرَفُ بالإنسان منهم من أحدكم بصاحبه « . »

ورواه عن محمد بن عثمان بن أبي شيبة، عن عقبة بن مكرم، عن يونس بن بُكَيْر، عن زياد بن المنذر، عن أبي الطفيل، عن حذيفة بن أسيد، به نحوه.

وقوله: ( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ ) قال مجاهد:يعني يوم القيامة.

( قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) كما قال تعالى: وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [ الزمر:69 ] ، فكل أمة تعرض على الله بحضرة رسولها، وكتابُ أعمالها من خير وشر موضوعٌ شاهد عليهم، وحفظتهم من الملائكة شهودٌ أيضا أمة بعد أمة. وهذه الأمة الشريفة وإن كانت آخر الأمم في الخلق، إلا أنها أول الأمم يوم القيامة يفصل بينهم، ويقضى لهم، كما جاء في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، المقضى لهم قبل الخلائق » فأمته إنما حازت قَصَب السبق لشرف رسولها، صلوات الله وسلامه عليه [ دائمًا ] إلى يوم الدين.

وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 48 ) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعًا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ( 49 ) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ ( 50 ) أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ( 51 ) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ( 52 )

يقول تعالى مخبرًا عن كفر هؤلاء المشركين في استعجالهم العذَاب وسؤالهم عن وقته قبل التعين، مما لا فائدة فيه لهم كما قال تعالى: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ [ الشورى:18 ] أي:كائنة لا محالة وواقعة، وإن لم يعلموا وقتها عينا، ولهذا أرشَدَ رسوله صلى الله عليه وسلم إلى جوابهم فقال: ( قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعًا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ ) أي:لا أقول إلا ما علَّمني، ولا أقدر على شيء مما استأثر به إلا أن يُطلعني عليه، فأنا عبده ورسوله إليكم، وقد أخبرتكم بمجيء الساعة وأنها كائنة، ولم يطلعني على وقتها، [ ولكن ] ( لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ) أي:لكل قرن مدَّة من العمر مقدَّرة فإذا انقضى أجلهم ( فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ) كما قال تعالى: وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا [ المنافقون:11 ] ، ثم أخبرهم أن عذاب الله سيأتيهم بغتة، فقال: ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا ) أي:ليلا أو نهارا، ( مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ * أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ ) يعني:أنهم إذا جاءهم العذاب قالوا: رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ [ السجدة:12 ] ، وقال تعالى: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ [ غافر:84 ، 85 ] .

( ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ ) أي:يوم القيامة يقال لهم هذا، تبكيتا وتقريعًا، كقوله: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا * هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ * اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [ الطور:13 - 16 ] .

وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ( 53 )

يقول تعالى:ويستخبرونك ( أَحَقٌّ هُوَ ) أي:المعاد والقيامة من الأجداث بعد صيرورة الأجسام ترابا. ( قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ) أي:ليس صيرورتكم ترابا بمعجز الله عن إعادتكم كما بدأكم من العدم: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [ يس:82 ] .

وهذه الآية ليس لها نظير في القرآن إلا آيتان أخريان، يأمر الله تعالى رسوله أن يقسم به على من أنكر المعاد في سورة سبأ: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ [ سبأ:3 ] . وفي التغابن: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [ التغابن:7 ] .

 

وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ( 54 )

ثم أخبر تعالى أنه إذا قامت القيامة يودّ الكافر لو افتدى من عذاب الله بملء الأرض ذهبا، ( وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ ) أي:بالحق، ( وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) .

أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ( 55 ) هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( 56 )

يخبر تعالى أنه مالك السموات والأرض، وأنَّ وعده حقّ كائن لا محالة، وأنه يحيي ويميت وإليه مرجعهم، وأنه القادر على ذلك، العليم بما تفرّق من الأجسام وتمزّق في سائر أقطار الأرض والبحار والقفار [ سبحانه وتعالى تقدست أسماؤه وجل ثناؤه ] .

يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ( 57 ) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ( 58 )

يقول تعالى ممتنا على خلقه بما أنـزل إليهم من القرآن العظيم على رسوله الكريم: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ) أي:زاجر عن الفواحش، ( وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ ) أي:من الشُبَه والشكوك، وهو إزالة ما فيها من رجس ودَنَس، ( وَهُدًى وَرَحْمَةٌ ) أي:محصلٌ لها الهداية والرحمة من الله تعالى. وإنما ذلك للمؤمنين به والمصدقين الموقنين بما فيه، كما قال تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا [ الإسراء:82 ] ، وقال تعالى: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ [ فصلت:44 ] .

وقوله تعالى: ( قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ) أي:بهذا الذي جاءهم من الله من الهدى ودين الحق فليفرحوا، فإنه أولى ما يفرحون به، ( هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ) أي:من حطام الدنيا وما فيها من الزهرة الفانية الذاهبة لا محالة، كما قال ابن أبي حاتم، في تفسير هذه الآية: « وذُكِر عن بَقيَّة - يعني ابن الوليد - عن صفوان بن عمرو، سمعت أيفع بن عبد الكلاعي يقول:لما قَدم خراجُ العراق إلى عمر، رضي الله عنه، خرج عُمَرُ ومولى له فجعل عمر يعد الإبل، فإذا هي أكثر من ذلك، فجعل عمر يقول:الحمد لله تعالى، ويقول مولاه:هذا والله من فضل الله ورحمته. فقال عمر:كذبت. ليس هذا، هو الذي يقول الله تعالى: ( قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ) وهذا مما يجمعون. »

وقد أسنده الحافظ أبو القاسم الطبراني، فرواه عن أبي زُرْعَة الدمشقي، عن حَيوة بن شُرَيح، عن بقية، فذكره.

قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ ( 59 ) وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ ( 60 )

قال ابن عباس، ومجاهد، والضحاك، وقتادة، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم:نـزلت إنكارًا على المشركين فيما كانوا يحرمون ويحلون من البحائر والسوائب والوصايا، كقوله تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا [ الأنعام:136 ] الآيات.

وقال الإمام أحمد:حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق، سمعت أبا الأحوص - وهو عوف بن [ مالك بن ] نضلة - يحدث عن أبيه قال:أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا قَشْف الهيئة، فقال: « هل لك مال؟ » قال:قلت:نعم. قال: « من أي المال؟ » قال:قلت:من كل المال، من الإبل والرقيق والخيل والغنم. فقال إذا آتاك مالا فَلْيُرَ عليك « . وقال: » هل تنتج إبل قومك صحاحا آذانُها، فتعمَد إلى موسى فتقطع آذانها، فتقول:هذه بحر وتشقها، أو تشق جلودها وتقول:هذه صُرُم، وتحرمها عليك وعلى أهلك؟ « قال:نعم. قال: » فإن ما آتاك الله لك حل، وساعد الله أشد من ساعدك، وموسى الله أحد من موساك « وذكر تمام الحديث. »

ثم رواه عن سفيان بن عيينة، عن أبي الزعراء عمرو بن عمرو، عن عمه أبي الأحوص وعن بَهْز بن أسد، عن حماد بن سلمة، عن عبد الملك بن عمير، عن أبي الأحوص، به وهذا حديث جيد قوي الإسناد.

وقد أنكر [ الله ] تعالى على من حَرّم ما أحل الله، أو أحل ما حرم بمجرد الآراء والأهواء، التي لا مستند لها ولا دليل عليها. ثم توعدهم على ذلك يوم القيامة، فقال: ( وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَة ) أي:ما ظنهم أن يُصنَع بهم يوم مرجعهم إلينا يوم القيامة.

وقوله: ( إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ ) قال ابن جرير:في تركه معاجلتهم بالعقوبة في الدنيا.

قلت:ويحتمل أن يكون المراد لذو فضل على الناس فيما أباح لهم مما خلقه من المنافع في الدنيا، ولم يحرم عليهم إلا ما هو ضار لهم في دنياهم أو دينهم.

( وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ ) بل يحرمون ما أنعم الله [ به ] عليهم، ويضيقون على أنفسهم، فيجعلون بعضا حلالا وبعضا حراما. وهذا قد وقع فيه المشركون فيما شرعوه لأنفسهم، وأهل الكتاب فيما ابتدعوه في دينهم. وقال ابن أبي حاتم في تفسير هذه الآية:حدثنا أبي، حدثنا أحمد بن أبي الحواري، حدثنا رباح، حدثنا عبد الله بن سليمان، حدثنا موسى بن الصباح في قول الله عز وجل: ( إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ ) قال:إذا كان يوم القيامة، يؤتى بأهل ولاية الله عز وجل، فيقومون بين يدي الله عز وجل ثلاثة أصناف قال:فيؤتى برجل من الصنف الأول فيقول:عبدي، لماذا عملت؟ فيقول:يا رب:خلقت الجنة وأشجارها وثمارها وأنهارها، وحورها ونعيمها، وما أعددت لأهل طاعتك فيها، فأسهرتُ ليلي وأظمأتُ نهاري شوقا إليها. قال:فيقول الله تعالى:عبدي، إنما عملت للجنة، هذه الجنة فادخلها، ومن فضلي عليك أن أعتقتك من النار، [ ومن فضلي عليك أن أدخلك جنتي ] قال:فيدخل هو ومن معه الجنة.

قال:ثم يؤتى برجل من الصنف الثاني، قال:فيقول:عبدي، لماذا عملت؟ فيقول:يا رب، خلقت نارا وخلقت أغلالها وسعيرها وسمومها ويحمُومها، وما أعددت لأعدائك وأهل معصيتك فيها فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري خوفا منها. فيقول:عبدي، إنما عملت ذلك خوفا من ناري، فإني قد أعتقتك من النار، ومن فضلي عليك أن أدخلك جنتي. فيدخل هو ومن معه الجنة.

ثم يؤتى برجل من الصنف الثالث، فيقول:عبدي، لماذا عملت؟ فيقول:رب حبًا لك، وشوقا إليك، وعزتك لقد أسهرت ليلي وأظمأت نهاري شوقا إليك وحبا لك، فيقول تبارك وتعالى:عبدي، إنما عملت حبا لي وشوقا إلي، فيتجلى له الرب جل جلاله، ويقول:ها أنا ذا، انظر إلي ثم يقول:من فضلي عليك أن أعتقك من النار، وأبيحك جنتي، وأزيرَك ملائكتي، وأسلم عليك بنفسي. فيدخل هو ومن معه الجنة.

وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ( 61 )

يخبر تعالى نبيه، صلوات الله عليه وسلامه أنه يعلم جميع أحواله وأحوال أمته، وجميع الخلائق في كل ساعة وآن ولحظة، وأنه لا يعزُب عن علمه وبصره مثقالُ ذرة في حقارتها وصغرها في السموات ولا في الأرض، ولا أصغر منها ولا أكبر إلا في كتاب مبين، كقوله: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [ الأنعام:59 ] ، فأخبر تعالى أنه يعلم حركة الأشجار وغيرها من الجمادات وكذلك الدواب السارحة في قوله: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ [ الأنعام:38 ] ، وقال تعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [ هود:6 ] .

وإذا كان هذا علمه بحركات هذه الأشياء، فكيف بعلمه بحركات المكلفين المأمورين بالعبادة، كما قال تعالى: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ [ الشعراء:217 - 219 ] ؛ ؛ ولهذا قال تعالى: ( وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ) أي:إذ تأخذون في ذلك الشيء نحن مشاهدون لكم راءون سامعون، ولهذا قال، عليه السلام لما سأله جبريل عن الإحسان [ قال ] أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك « .»

 

أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ( 62 ) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ( 63 ) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( 64 )

يخبر تعالى أن أولياءه هم الذين آمنوا وكانوا يتقون، كما فسرهم ربهم، فكل من كان تقيا كان لله وليا:أنه ( لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ) [ أي ] فيما يستقبلون من أهوال القيامة، ( وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) على ما وراءهم في الدنيا.

وقال عبد الله بن مسعود، وابن عباس، وغير واحد من السلف:أولياء الله الذين إذا رءوا ذُكِر الله.

وقد ورد هذا في حديث مرفوع كما قال البزار:

حدثنا علي بن حَرْب الرازي، حدثنا محمد بن سعيد بن سابق، حدثنا يعقوب بن عبد الله الأشعري - وهو القمي - عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:قال رجل:يا رسول الله، مَنْ أولياء الله؟ قال: « الذين إذا رءُوا ذُكر الله » . ثم قال البزار:وقد روي عن سعيد مرسلا.

وقال ابن جرير:حدثنا أبو هشام الرِّفاعي، حدثنا ابن فضيل حدثنا أبي، عن عمارة بن القعقاع، عن أبي زُرْعَة بن عمرو بن جرير البَجَلي، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن من عباد الله عبادا يغبطهم الأنبياء والشهداء » . قيل:من هم يا رسول الله؟ لعلنا نحبهم. قال: « هم قوم تحابوا في الله من غير أموال ولا أنساب، وجوههم نور على منابر من نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس » . ثم قرأ: ( أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ )

ثم رواه أيضا أبو داود، من حديث جرير، عن عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير، عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بمثله.

وهذا أيضا إسناد جيد، إلا أنه منقطع بين أبي زرعة وعمر بن الخطاب، والله أعلم.

وفي حديث الإمام أحمد، عن أبي النضر، عن عبد الحميد بن بَهْرَام، عن شَهْر بن حَوْشَب، عن عبد الرحمن بن غَنْم، عن أبي مالك الأشعري قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يأتي من أفناء الناس ونوازع القبائل قوم لم تتصل بينهم أرحام متقاربة، تحابوا في الله، وتصافوا في الله، يضع الله لهم يوم القيامة منابر من نور، فيجلسهم عليها، يفزع الناس ولا يفزعون، وهم أولياء الله، الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون » . والحديث متطول.

وقال الإمام أحمد:حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا سفيان، عن الأعمش، عن ذَكْوَان أبي صالح، عن رجل، عن أبي الدرداء، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ( لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ) قال: « الرؤيا الصالحة يراها المسلم، أو تُرى له » .

وقال ابن جرير:حدثني أبو السائب، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن عطاء بن يسار، عن رجل من أهل مصر، عن أبي الدرداء في قوله: ( لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ) قال:سأل رجل أبا الدرداء عن هذه الآية، فقال:لقد سألت عن شيء ما سمعتُ [ أحدًا ] سأل عنه بعد رجل سأل عنه رسولَ الله، فقال: « هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل المسلم، أو تُرَى له، بشراه في الحياة الدنيا، وبشراه في الآخرة [ الجنة ] » .

ثم رواه ابن جرير من حديث سفيان، عن ابن المنْكَدِر، عن عَطَاء بن يَسَار، عن رجل من أهل مصر، أنه سأل أبا الدرداء عن هذه الآية، فذكر نحو ما تقدم.

وقال ابن جرير:حدثني المثنى:حدثنا الحجاج بن مِنْهَال، حدثنا حماد بن زيد، عن عاصم بن بَهْدَلَة، عن أبي صالح قال:سمعت أبا الدرداء، وسئل عن: ( الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى ) فذكر نحوه سواء.

وقال الإمام أحمد:حدثنا عفان، حدثنا أبان، حدثنا يحيى، عن أبي سلمة، عن عبادة بن الصامت؛ أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:يا رسول الله، أرأيت قول الله تعالى: ( لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ) ؟ فقال: « لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد من أمتي - أو:أحد قبلك » قال: « تلك الرؤيا الصالحة، يراها الرجل الصالح أو تُرَى له » .

وكذا رواه أبو داود الطيالسي، عن عمران القَطَّان، عن يحيى بن أبي كثير، به ورواه الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، فذكره. ورواه علي بن المبارك، عن يحيى، عن أبي سلمة قال:نُبّئنا عن عبادة بن الصامت، سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية، فذكره.

وقال ابن جرير:حدثني أبو حميد الحِمْصيّ، حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا عمر بن عمرو بن عبد الأحْمُوسي، عن حميد بن عبد الله المزني قال:أتى رجل عبادة بن الصامت فقال:آية في كتاب الله أسألك عنها، قول الله تعالى: ( لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) ؟ فقال عبادة:ما سألني عنها أحد قبلك، سألت عنها نبي الله فقال مثل ذلك: « ما سألني عنها أحد قبلك، الرؤيا الصالحة، يراها العبد المؤمن في المنام أو تُرَى له » .

ثم رواه من حديث موسى بن عبيدة، عن أيوب بن خالد بن صَفْوان، عن عبادة بن الصامت؛ أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ) فقد عرفنا بشرى الآخرة الجنة، فما بشرى الدنيا؟ قال: « الرؤيا الصالحة يراها العبد أو تُرَى له، وهي جزء من أربعة وأربعين جزءا أو سبعين جزءا من النبوة » .

وقال [ الإمام ] أحمد أيضا:حدثنا بَهْز، حدثنا حماد، حدثنا أبو عمران، عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر؛ أنه قال:يا رسول الله، الرجل يعمل العمل فيحمده الناس عليه، ويثنون عليه به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « تلك عاجل بشرى المؤمن » . رواه مسلم.

وقال أحمد أيضا:حدثنا حسن - يعني الأشيب - حدثنا ابن لَهِيعة، حدثنا دَرَّاج، عن عبد الرحمن بن جُبَيْر، عن عبد الله بن عمرو، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ) قال: « الرؤيا الصالحة يبشرها المؤمن، هي جزء من تسعة وأربعين جزءا من النبوة، فمن رأى [ ذلك ] فليخبر بها، ومن رأى سوى ذلك فإنما هو من الشيطان ليَحْزُنه، فلينفث عن يساره ثلاثا، وليكبر ولا يخبر بها أحدا » لم يخرجوه.

وقال ابن جرير:حدثني يونس، أنبأنا ابن وَهْب، حدثني عمرو بن الحارث، أن دَرَّاجا أبا السمح حدثه عن عبد الرحمن بن جُبَيْر، عن عبد الله بن عمرو، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) الرؤيا الصالحة يبشَّرها المؤمن، جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة « . »

وقال أيضا ابن جرير:حدثني محمد بن أبي حاتم المؤدَّب، حدثنا عمار بن محمد، حدثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ) قال: « هي في الدنيا الرؤيا الصالحة، يراها العبد أو تُرَى له، وهي في الآخرة الجنة » .

ثم رواه عن أبي كُرَيْب، عن أبي بكر بن عَيَّاش، عن أبي حصين، عن أبي صالح، عن أبي هريرة أنه قال:الرؤيا الحسنة بشرى من الله، وهي من المبشّرات.

هكذا رواه من هذه الطريق موقوفا.

وقال أيضا:حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا أبو بكر، حدثنا هشام، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « الرؤيا الحسنة هي البشرى، يراها المسلم أو تُرَى له » .

وقال ابن جرير:حدثني أحمد بن حماد الدُّولابي، حدثنا سفيان، عن عبيد الله بن أبي يزيد، عن أبيه، عن سِبَاع بن ثابت، عن أم كُرْز الكعبية:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « ذهبت النبوة، وبقيت المبشرات » .

وهكذا روي عن ابن مسعود، وأبي هريرة، وابن عباس، ومجاهد، وعُرْوَة بن الزبير، ويحيى بن أبي كثير، وإبراهيم النَّخَعي، وعطاء بن أبي رباح:أنهم فسروا ذلك بالرؤيا الصالحة.

وقيل:المراد بذلك بشرى الملائكة للمؤمن عند احتضاره بالجنة والمغفرة كما في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلا مِنْ غَفُورٍ رَحِيم [ فصلت:30 - 32 ] .

وفي حديث البراء: « أن المؤمن إذا حضره الموت، جاءه ملائكة بيض الوجوه، بيض الثياب، فقالوا:اخرجي أيتها الروح الطيبة إلى روح وريحان، ورب غير غضبان. فتخرج من فمه، كما تسيل القطرة من فم السقاء » .

وأما بشراهم في الآخرة، فكما قال تعالى: لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [ الأنبياء:103 ] . وقال تعالى: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [ الحديد:12 ] .

وقوله: ( لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ) أي:هذا الوعد لا يبدل ولا يخلف ولا يغير، بل هو مقرر مثبت كائن لا محالة: ( ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ )

وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( 65 ) أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ ( 66 ) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ( 67 )

يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: ( وَلا يَحْزُنْكَ ) قولُ هؤلاء المشركين، واستعن بالله عليهم، وتوكل عليه؛ فإن العزة لله جميعا، أي:جميعها له ولرسوله وللمؤمنين، ( هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) أي:السميع لأقوال عباده العليم بأحوالهم.

ثم أخبر تعالى أن له ملك السموات والأرض، وأن المشركين يعبدون الأصنام، وهي لا تملك شيئا، لا ضرًا ولا نفعا، ولا دليل لهم على عبادتها، بل إنما يتبعون في ذلك ظنونهم وتخرصهم وكذبهم وإفكهم.

ثم أخبر أنه الذي جعل لعباده الليل ليسكنوا فيه، أي:يستريحون فيه من نَصَبهم وكلالهم وحَرَكاتهم، ( وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا ) أي:مضيئا لمعاشهم وسعيهم، وأسفارهم ومصالحهم، ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ) أي:يسمعون هذه الحجج والأدلة، فيعتبرون بها، ويستدلون على عظمة خالقها، ومقدرها ومسيرها.

قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ( 68 ) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ ( 69 ) مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ( 70 )

يقول تعالى منكرًا على من ادعى أن له ولدًا: ( سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ ) أي:تقدس عن ذلك، هو الغني عن كل ما سواه، وكل شيء فقير إليه، ( لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ ) أي:فكيف يكون له ولد مما خلق، وكل شيء مملوك له، عبد له؟! ( إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا ) أي:ليس عندكم دليل على ما تقولونه من الكذب والبهتان! ( أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) إنكار ووعيد أكيد، وتهديد شديد، كما قال تعالى: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا [ مريم:88 - 95 ] .

ثم توعد تعالى الكاذبين عليه المفترين، ممن زعم أنه له ولدا، بأنهم لا يفلحون في الدنيا ولا في الآخرة، فأما في الدنيا فإنهم إذا استدرجهم وأملى لهم متعهم قليلا ثم يضطرهم إلى عذاب غليظ، كما قال ها هنا: ( مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ) أي:مدة قريبة، ( ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ) أي:يوم القيامة، ( ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ ) أي:الموجع المؤلم ( بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ) أي:بسبب كفرهم وافترائهم وكذبهم على الله، فيما ادعوه من الإفك والزور.

 

وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ ( 71 ) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ( 72 ) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ ( 73 )

يقول تعالى لنبيه، صلوات الله وسلامه عليه: ( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ ) أي:أخبرهم واقصص عليهم، أي:على كفار مكة الذين يكذبونك ويخالفونك ( نَبَأَ نُوحٍ ) أي:خبره مع قومه الذين كذبوه، كيف أهلكهم الله ودَمّرهم بالغرق أجمعين عن آخرهم، ليحذر هؤلاء أن يصيبهم من الهلاك والدمار ما أصاب أولئك. ( إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ ) أي:عَظُم عليكم، ( مَقَامِي ) أي فيكم بين أظهركم، ( وَتَذْكِيرِي ) إياكم ( بِآيَاتِ اللَّهِ ) أي:بحججه وبراهينه، ( فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ ) أي:فإني لا أبالي ولا أكف عنكم سواء عظم عليكم أو لا! ( فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ) أي:فاجتمعوا أنتم وشركاؤكم الذين تدعون من دون الله، من صَنَم ووثن، ( ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ) أي:ولا تجعلوا أمركم عليكم ملتبسا، بل افصلوا حالكم معي، فإن كنتم تزعمون أنكم محقون، فاقضوا إلي ولا تنظرون، أي:ولا تؤخروني ساعة واحدة، أي:مهما قدرتم فافعلوا، فإني لا أباليكم ولا أخاف منكم، لأنكم لستم على شيء، كما قال هود لقومه: إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [ هود:54 - 56 ] .

فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ ) أي:كذبتم وأدبرتم عن الطاعة، ( فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ ) أي:لم أطلب منكم على نصحي إياكم شيئا، ( إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) أي:وأنا ممتثل ما أمرت به من الإسلام لله عز وجل، والإسلام هو دين [ جميع ] الأنبياء من أولهم إلى آخرهم، وإن تنوعت شرائعهم وتعددت مناهلهم، كما قال تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [ المائدة:48 ] . قال ابن عباس:سبيلا وسنة. فهذا نوح يقول: وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [ النمل:91 ] ، وقال تعالى عن إبراهيم الخليل: إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [ البقرة:131 ، 132 ] ، وقال يوسف: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [ يوسف:101 ] . وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ [ يونس:84 ] . وقالت السحرة: رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ [ الأعراف:126 ] . وقالت بلْقيس: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [ النمل:44 ] . وقال [ الله ] تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا [ المائدة:44 ] ، وقال تعالى: وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ [ المائدة:111 ] وقال خاتم الرسل وسيد البشر: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [ الأنعام:162 ، 163 ] أي:من هذه الأمة؛ ولهذا قال في الحديث الثابت عنه: « نحن معاشر الأنبياء أولاد عَلات، ديننا واحد » أي:وهو عبادة الله وحده لا شريك له، وإن تنوعت شرائعنا، وذلك معنى قوله: « أولاد علات » ، وهم:الإخوة من أمهات شتى والأب واحد.

وقوله تعالى: ( فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ ) أي:على دينه ( فِي الْفُلْكِ ) وهي:السفينة، ( وَجَعَلْنَاهُمْ خَلائِفَ ) أي:في الأرض، ( وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ ) أي:يا محمد كيف أنجينا المؤمنين، وأهلكنا المكذبين.

ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ ( 74 )

يقول تعالى:ثم بعثنا من بعد نوح رسلا إلى قومهم، فجاءوهم بالبينات، أي:بالحجج والأدلة والبراهين على صدق ما جاءوهم به، ( فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ ) أي:فما كانت الأمم لتؤمن بما جاءتهم به رسلهم، بسبب تكذيبهم إياهم أول ما أرسلوا إليهم، كما قال تعالى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [ الأنعام:110 ] .

وقوله: ( كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ ) أي:كما طبع الله على قلوب هؤلاء، فما آمنوا بسبب تكذيبهم المتقدم، هكذا يطبع الله على قلوب من أشبههم ممن بعدهم، ويختم على قلوبهم، فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم.

والمراد:أن الله تعالى أهلك الأمم المكذبة للرسل، وأنجى من آمن بهم، وذلك من بعد نوح، عليه السلام، فإن الناس كانوا من قبله من زمان آدم عليه السلام على الإسلام، إلى أن أحدث الناس عبادة الأصنام، فبعث الله إليهم نوحا، عليه السلام؛ ولهذا يقول له المؤمنون يوم القيامة:أنت أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض.

وقال ابن عباس:كان بين آدم ونوح عشرة قرون، كلهم على الإسلام.

وقال الله تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا [ الإسراء:17 ] ، وفي هذا إنذار عظيم لمشركي العرب الذين كذبوا بسيد الرسل وخاتم الأنبياء والمرسلين، فإنه إذا كان قد أصاب من كذب بتلك الرسل ما ذكره الله تعالى من العقاب والنَّكَال، فماذا ظن هؤلاء وقد ارتكبوا أكبر من أولئك؟

ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ ( 75 ) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ ( 76 ) قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ ( 77 ) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ ( 78 )

يقول تعالى: ( ثُمَّ بَعَثْنَا ) من بعد تلك الرسل ( مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ ) أي:قومه. ( بِآيَاتِنَا ) أي:حجَجنا وبراهيننا، ( فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ ) أي:استكبروا عن اتباع الحق والانقياد له، ( فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ ) كأنهم - قبَّحهم الله - أقسموا على ذلك، وهم يعلمون أن ما قالوه كذب وبهتان، كما قال تعالى: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ [ النمل:14 ] .

( قَاَلَ ) لهم ( مُوسَى ) منكرا عليهم: ( أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ * قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا ) أي:تثنينا ( عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ) أي:الدّين الذي كانوا عليه، ( وَتَكُونَ لَكُمَا ) أي:لك ولهارون ( الْكِبْرِيَاء ) أي:العظمة والرياسة ( فِي الأرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ ) .

وكثيرًا ما يذكر الله تعالى قصة موسى، عليه السلام، مع فرعون في كتابه العزيز؛ لأنها من أعجب القصص، فإن فرعون حَذر من موسى كل الحذر، فسخره القدر أن رَبَّى هذا الذي يُحذَّر منه على فراشه ومائدته بمنـزلة الولد، ثم ترعرع وعقد الله له سببا أخرجه من بين أظهرهم، ورزقه النبوة والرسالة والتكليم، وبعثه إليه ليدعوه إلى الله تعالى ليعبده ويرجع إليه، هذا ما كان عليه فرعون من عظمة المملكة والسلطان، فجاءه برسالة الله، وليس له وزير سوى أخيه هارون عليه السلام، فتمرد فرعون واستكبر وأخذته الحمية، والنفس الخبيثة الأبية، وقوى رأسه وتولّى بركنه، وادعى ما ليس له، وتجهرم على الله، وعتا وبغى وأهان حزب الإيمان من بني إسرائيل، والله تعالى يحفظ رسوله موسى وأخاه هارون، ويحوطهما، بعنايته، ويحرسهما بعينه التي لا تنام، ولم تزل المحاجة والمجادلة والآيات تقوم على يدي موسى شيئا بعد شيء، ومرة بعد مرة، مما يبهر العقول ويدهش الألباب، مما لا يقوم له شيء، ولا يأتي به إلا من هو مؤيد من الله، وما تأتيهم من آية إلا هي أكبر من أختها، وصمم فرعون وَمَلَؤه - قبحهم الله - على التكذيب بذلك كله، والجحد والعناد والمكابرة، حتى أحل الله بهم بأسه الذي لا يُرَد، وأغرقهم في صبيحة واحدة أجمعين، فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [ الأنعام:45 ] .

 

وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ ( 79 ) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ ( 80 ) فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ ( 81 ) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ( 82 )

ذكر تعالى قصة السحرة مع موسى، عليه السلام، في سورة الأعراف، وقد تقدم الكلام عليها هناك. وفي هذه السورة، وفي سورة طه، وفي الشعراء؛ وذلك أن فرعون - لعنه الله - أراد أن يَتَهَرَّج على الناس، ويعارض ما جاء به موسى، عليه السلام، من الحق المبين، بزخارف السحرة والمشعبذين، فانعكَس عليه النظام، ولم يحصل له ذلك المرام، وظهرت البراهين الإلهية في ذلك المحفل العام، و فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ [ الشعراء:46 - 48 ] فظن فرعون أن يستنصر بالسحَّار، على رسول عالم الأسرار، فخاب وخسر الجنة، واستوجب النار.

( وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ * فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ ) ؛ وإنما قال لهم ذلك لأنهم اصطفوا - وقد وعدوا من فرعون بالتقريب والعطاء الجزيل قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى * قَالَ بَلْ أَلْقُوا [ طه:65 ، 66 ] ، فأراد موسى أن تكون البَدَاءة منهم، ليرى الناس ما صنعوا، ثم يأتي بالحق بعده فيدمغ باطلهم؛ ولهذا لما أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ [ الأعراف:116 ] ، فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى * قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى [ طه:67 ، 69 ] ، فعند ذلك قال موسى لما ألقوا: ( مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ * وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ) .

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا محمد بن عمار بن الحارث، حدثنا عبد الرحمن - يعني الدَّشْتَكِيّ - أخبرنا أبو جعفر الرازي، عن لَيْث - وهو ابن أبي سليم - قال:بلغني أن هؤلاء الآيات شفاء من السحر بإذن الله تعالى، تقرأ في إناء فيه ماء، ثم يصب على رأس المسحور:الآية التي من سورة يونس: ( فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ * وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ) والآية الأخرى: فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [ الأعراف:118 ] ، وقوله إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى [ طه:69 ] .

فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ ( 83 )

يخبر تعالى أنه لم يؤمن بموسى، عليه السلام، مع ما جاء به من الآيات البينات والحجج القاطعات والبراهين الساطعات، إلا قليل من قوم فرعون، من الذرية - وهم الشباب - على وجل وخوف منه ومن مَلَئه، أن يردوهم إلى ما كانوا عليه من الكفر؛ لأن فرعون كان جبارا عنيدا مسرفا في التمرد والعتوّ، وكانت له سَطْوة ومَهابة، تخاف رعيته منه خوفا شديدا.

قال العوفي:عن ابن عباس: ( فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ ) قال:فإن الذرية التي آمنت لموسى، من أناس غير بني إسرائيل، من قوم فرعون يسير، منهم:امرأة فرعون، ومؤمن آل فرعون، وخازن فرعون، وامرأة خازنه.

وروى علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: ( فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ ) يقول:بني إسرائيل.

وعن ابن عباس، والضحاك، وقتادة ( الذرية ) :القليل.

وقال مجاهد في قوله: ( إِلا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ ) يقول:بني إسرائيل. قال:هم أولاد الذين أرسل إليهم موسى، من طول الزمان، ومات آباؤهم.

واختار ابن جرير قول مجاهد في الذرية:أنها من بني إسرائيل لا من قوم فرعون، لعود الضمير على أقرب المذكورين.

وفي هذا نظر؛ لأنه أراد بالذرية الأحداث والشباب وأنهم من بني إسرائيل، فالمعروف أن بني إسرائيل كلهم آمنوا بموسى، عليه السلام، واستبشروا به، وقد كانوا يعرفون نعته وصفته والبشارة به من كتبهم المتقدمة، وأن الله تعالى سينقذهم به من أسر فرعون ويظهرهم عليه؛ ولهذا لما بلغ هذا فرعون حَذَر كل الحذر فلم يُجْد عنه شيئا. ولما جاء موسى آذاهم فرعون أشد الأذى، و قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [ الأعراف:129 ] . وإذا تقرر هذا فكيف يكون المراد إلا ذرية من قوم موسى، وهم بنو إسرائيل؟.

( عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ ) أي:وأشراف قومهم أن يفتنهم، ولم يكن في بني إسرائيل من يخاف منه أن يَفتِنَ عن الإيمان سوى قارون، فإنه كان من قوم موسى، فبغى عليهم؛ لكنه كان طاويا إلى فرعون، متصلا به، متعلقا بحباله ومن قال:إن الضمير في قوله: ( وَمَلَئِهِمْ ) عائد إلى فرعون، وعظم الملك من أجل اتباعه أو بحذف « آل » فرعون، وإقامة المضاف إليه مقامه - فقد أبعد، وإن كان ابن جرير قد حكاهما عن بعض النحاة. ومما يدل على أنه لم يكن في بني إسرائيل إلا مؤمن قوله تعالى:

وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ ( 84 ) فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ( 85 ) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ( 86 )

يقول تعالى مخبرا عن موسى أنه قال لبني إسرائيل: ( يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ ) أي:فإن الله كاف من توكل عليه، أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ [ الزمر:36 ] ، وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [ الطلاق:3 ] .

وكثيرا ما يقرن الله بين العبادة والتوكل، كما في قوله تعالى: فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ [ هود:123 ] ، قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا [ الملك:29 ] ، رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا [ المزمل:9 ] ، وأمر الله تعالى المؤمنين أن يقولوا في كل صلواتهم مرات متعددة: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [ الفاتحة:5 ] .

وقد امتثل بنو إسرائيل ذلك، فقالوا: ( عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) أي:لا تظفرهم بنا، وتسلطهم علينا، فيظنوا أنهم إنما سلطوا لأنهم على الحق ونحن على الباطل، فيفتنوا بذلك. هكذا روي عن أبي مِجْلَز، وأبي الضُّحى.

وقال ابن أبي نَجِيح وغيره واحد، عن مجاهد:لا تعذبنا بأيدي قوم فرعون، ولا بعذاب من عندك، فيقول قوم فرعون:لو كانوا على حق ما عذبوا، ولا سُلِّطنا عليهم، فيفتنوا بنا.

وقال عبد الرزاق:أنبأنا ابن عُيَيْنَةَ، عن ابن نَجِيح، عن مجاهد: ( رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) [ أي ] لا تسلطهم علينا، فيفتنونا.

( وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ ) أي:خلصنا برحمة منك وإحسان، ( مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ) أي:الذين كفروا الحق وستروه، ونحن قد آمنا بك وتوكلنا عليك.

وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ( 87 )

يذكر تعالى سبب إنجائه بني إسرائيل من فرعون وقومه، وكيفية خلاصهم منهم وذلك أن الله تعالى أمر موسى وأخاه هارون، عليهما السلام ( أَنْ تَبَوَّءَا ) أي:يتخذا لقومهما بمصر بيوتا.

واختلف المفسرون في معنى قوله تعالى: ( وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً ) فقال الثوري وغيره، عن خُصَيْف، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس: ( وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً ) قال:أمرُوا أن يتخذوها مساجد.

وقال الثوري أيضا، عن ابن منصور، عن إبراهيم: ( وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً ) قال:كانوا خائفين، فأمروا أن يصلوا في بيوتهم.

وكذا قال مجاهد، وأبو مالك، والربيع بن أنس، والضحاك، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وأبوه زيد بن أسلم:وكأن هذا - والله أعلم - لما اشتد بهم البلاء من قبَل فرعون وقومه، وضيقوا عليهم، أمروا بكثرة الصلاة، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [ البقرة:153 ] . وفي الحديث:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى. أخرجه أبو داود. ولهذا قال تعالى في هذه الآية: ( وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ) أي:بالثواب والنصر القريب.

وقال العوفي، عن ابن عباس، في تفسير هذه الآية قال:قالت بنو إسرائيل لموسى، عليه السلام:لا نستطيع أن نظهر صلاتنا مع الفراعنة، فأذن الله تعالى لهم أن يصلوا في بيوتهم، وأمروا أن يجعلوا بيوتهم قبل القبلة. وقال مجاهد: ( وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً ) قال:لما خاف بنو إسرائيل من فرعون أن يقتلوا في الكنائس الجامعة، أمروا أن يجعلوا بيوتهم مساجد مستقبلة الكعبة، يصلون فيها سرًا. وكذا قال قتادة، والضحاك.

وقال سعيد بن جبير: ( وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً ) أي:يقابل بعضها بعضا.

وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ ( 88 )

هذا إخبار من الله تعالى عما دعا به موسى، عليه السلام، على فرعون وَمَلَئه، لما أبوا قبول الحق واستمروا على ضلالهم وكفرهم معاندين جاحدين، ظلما وعلوا وتكبرًا وعتوا، قال: ( رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً ) أي:من أثاث الدنيا ومتاعها، ( وأموالا ) أي:جزيلة كثيرة، ( فِي ) هذه ( الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيَضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ ) - بفتح الياء - أي:أعطيتهم ذلك وأنت تعلم أنهم لا يؤمنون بما أرسلتني به إليهم استدراجا منك لهم، كما قال تعالى: لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ

وقرأ آخرون: ( لِيُضِلُّوا ) بضم الياء، أي:ليفتتن بما أعطيتهم من شئت من خلقك، ليظن من أغويته أنك إنما أعطيت هؤلاء هذا لحبك إياهم واعتنائك بهم.

( رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ ) قال ابن عباس، ومجاهد:أي:أهلكها. وقال الضحاك، وأبو العالية، والربيع بن أنس:جعلها الله حجارة منقوشة كهيئة ما كانت.

وقال قتادة:بلغنا أن زروعهم تحولت حجارة.

وقال محمد بن كعب القُرَظي:اجعل سُكَّرهم حجارة.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا إسماعيل بن أبي الحارث، حدثنا يحيى بن أبي بُكَيْر، عن أبي مَعْشَر، حدثني محمد بن قيس:أن محمد بن كعب قرأ سورة يونس على عمر بن عبد العزيز: ( وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ ) إلى قوله: ( اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ ) إلى آخرها [ فقال له:عمر يا أبا حمزة أي شيء الطمس؟ قال:عادت أموالهم كلها حجارة ] فقال عمر بن عبد العزيز لغلام له:ائتني بكيس. [ فجاءه بكيس ] فإذا فيه حمص وبيض، قد قطع حول حجارة.

وقوله: ( وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ ) قال ابن عباس:أي اطبع عليها، ( فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ )

وهذه الدعوة كانت من موسى، عليه السلام، غضبًا لله ولدينه على فرعون وملئه، الذين تبين له أنه لا خير فيهم، ولا يجيء منهم شيء كما دعا نوح، عليه السلام، فقال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا [ نوح:26 ، 27 ] ؛ ولهذا استجاب الله تعالى لموسى، عليه السلام، فيهم هذه الدعوة، التي أمَّنَ عليها أخوه هارون، فقال تعالى: قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا

قال أبو العالية، وأبو صالح، وعكرمة، ومحمد بن كعب القرظي، والربيع بن أنس:دعا موسى وأمَّنَ هارون، أي:قد أجبناكما فيما سألتما من تدمير آل فرعون.

وقد يحتج بهذه الآية من يقول: « إن تأمين المأموم على قراءة الفاتحة يُنـزل منـزلة قراءتها؛ لأن موسى دعا وهارون أمن » .

 

قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ( 89 )

وقال تعالى: ( قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا [ وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ] ) أي:كما أجيبت دعوتكما فاستقيما على أمري.

قال ابن جُرَيْج، عن ابن عباس: ( فَاسْتَقِيمَا ) فامضيا لأمري، وهي الاستقامة. قال ابن جريج:يقولون:إن فرعون مكث بعد هذه الدعوة أربعين سنة.

وقال محمد بن علي بن الحسين:أربعين يوما.

وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ( 90 ) آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ( 91 ) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ ( 92 )

يذكر تعالى كيفية إغراقه فرعون وجنوده؛ فإن بني إسرائيل لما خرجوا من مصر صحبة موسى، عليه السلام، وهم - فيما قيل - ستمائة ألف مقاتل سوى الذرية، وقد كانوا استعاروا من القبط حُلِيّا كثيرا، فخرجوا به معهم، فاشتد حَنَق فرعون عليهم، فأرسل في المدائن حاشرين يجمعون له جنوده من أقاليمه، فركب وراءهم في أبهة عظيمة، وجيوش هائلة لما يريده الله تعالى بهم، ولم يتخلف عنه أحد ممن له دولة وسلطان في سائر مملكته، فلحقوهم وقت شروق الشمس، فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [ الشعراء:61 ] وذلك أنهم لما انتهوا إلى ساحل البحر، وأدركهم فرعون، ولم يبق إلا أن يتقاتل الجمعان، وألح أصحاب موسى، عليه السلام، عليه في السؤال كيف المخلص مما نحن فيه؟ فيقول:إني أمرت أن أسلك هاهنا، كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [ الشعراء:62 ] فعندما ضاق الأمر اتسع، فأمره الله تعالى أن يضرب البحر بعصاه، فضربه فانفلق البحر، فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ [ الشعراء:63 ] أي:كالجبل العظيم، وصار اثني عشر طريقًا، لكل سبط واحد. وأمر الله الريح فنَشَّفت أرضه، فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى [ طه:77 ] وتخرق الماء بين الطرق كهيئة الشبابيك، ليرى كل قوم الآخرين لئلا يظنوا أنهم هلكوا. وجازت بنو إسرائيل البحر، فلما خرج آخرهم منه انتهى فرعون وجنوده إلى حافته من الناحية الأخرى، وهو في مائة ألف أدهم سوى بقية الألوان، فلما رأى ذلك هاله وأحجم وهاب وهم بالرجوع، وهيهات ولات حين مناص، نفذ القدر، واستجيبت الدعوة. وجاء جبريل، عليه السلام، على فرس - وديق حائل - فمر إلى جانب حصان فرعون فحمحم إليها وتقدم جبريل فاقتحم البحر ودخله، فاقْتحم الحصان وراءه، ولم يبق فرعون يملك من نفسه شيئا، فتجلد لأمرائه، وقال لهم:ليس بنو إسرائيل بأحق بالبحر منا، فاقتحموا كلهم عن آخرهم وميكائيل في ساقتهم، لا يترك أحدا منهم، إلا ألحقه بهم. فلما استوسقوا فيه وتكاملوا، وهم أولهم بالخروج منه، أمر اللهُ القدير البحرَ أن يرتطم عليهم، فارتطم عليهم، فلم ينج منهم أحد، وجعلت الأمواج ترفعهم وتخفضهم، وتراكمت الأمواج فوق فرعون، وغشيته سكرات الموت، فقال وهو كذلك: ( آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) فآمن حيث لا ينفعه الإيمان، فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ [ غافر:84 ، 85 ] .

وهكذا قال الله تعالى في جواب فرعون حين قال ما قال: ( آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ ) أي:أهذا الوقت تقول، وقد عصيت الله قبل هذا فيما بينك وبينه؟ ( وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ) أي:في الأرض الذين أضلوا الناس، وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ [ القصص:41 ]

وهذا الذي حكى الله تعالى عن فرعون من قوله هذا في حاله ذاك من أسرار الغيب التي أعلم الله بها رسوله؛ ولهذا قال الإمام أحمد بن حنبل، رحمه الله:

حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهْران، عن ابن عباس قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لما قال فرعون: ( آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ ) قال:قال لي جبريل: [ يا محمد ] لو رأيتني وقد أخذت [ حالا ] من حال البحر، فدسسته في فيه مخافة أن تناله الرحمة »

ورواه الترمذي، وابن جرير، وابن أبي حاتم في تفاسيرهم، من حديث حماد بن سلمة، به وقال الترمذي:حديث حسن.

وقال أبو داود الطيالسي:حدثنا شعبة، عن عدي بن ثابت وعطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « قال لي جبريل:لو رأيتني وأنا آخذ من حال البحر، فأدسه في فم فرعون مخافة أن تدركه الرحمة » . وقد رواه أبو عيسى الترمذي أيضا، وابن جرير أيضا، من غير وجه، عن شعبة، به وقال الترمذي:حسن غريب صحيح.

ووقع في رواية عند ابن جرير، عن محمد بن المثنى، عن غُنْدَر، عن شعبة، عن عطاء وعَدِيّ، عن سعيد، عن ابن عباس، رفعه أحدهما - وكأن الآخر لم يرفعه، فالله أعلم.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو سعيد الأشَجّ، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن عمر بن عبد الله بن يَعْلَى الثقفي، عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس قال:لما أغرق الله فرعون، أشار بأصبعه ورفع صوته: ( آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ ) قال:فخاف جبريل أن تسبق رحمة الله فيه غضبه، فجعل يأخذ الحال بجناحيه فيضرب به وجهه فيرمسه.

وكذا رواه ابن جرير، عن سفيان بن وَكِيع، عن أبي خالد، به موقوفا

وقد روي من حديث أبي هريرة أيضا، فقال ابن جرير:

حدثنا ابن حميد، حدثنا حَكَّام، عن عَنْبَسة - هو ابن سعيد - عن كثير بن زاذان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « قال لي جبريل:يا محمد، لو رأيتني وأنا أغطّه وأدس من الحال في فيه، مخافة أن تدركه رحمة الله فيغفر له » يعني:فرعون

كثير بن زاذان هذا قال ابن مَعِين:لا أعرفه، وقال أبو زُرْعَة وأبو حاتم:مجهول، وباقي رجاله ثقات.

وقد أرسل هذا الحديث جماعة من السلف:قتادة، وإبراهيم التيمي، وميمون بن مِهْران. ونقل عن الضحاك بن قيس:أنه خطب بهذا للناس، فالله أعلم.

وقوله: ( فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً ) قال ابن عباس وغيره من السلف:إن بعض بني إسرائيل شكُّوا في موت فرعون، فأمر الله تعالى البحر أن يلقيه بجسده بلا روح، وعليه درعه المعروفة [ به ] على نجوة من الأرض وهو المكان المرتفع، ليتحققوا موته وهلاكه؛ ولهذا قال تعالى: ( فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ ) أي:نرفعك على نَشز من الأرض، ( بِبَدَنِك ) قال مجاهد:بجسدك. وقال الحسن:بجسم لا روح فيه. وقال عبد الله بن شداد:سويا صحيحا، أي:لم يتمزق ليتحققوه ويعرفوه. وقال أبو صخر:بدرعك

وكل هذه الأقوال لا منافاة بينها، كما تقدم، والله أعلم.

وقوله: ( لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً ) أي:لتكون لبني إسرائيل دليلا على موتك وهلاكك، وأن الله هو القادر الذي ناصية كل دابة بيده، وأنه لا يقوم لغضبه شيء؛ ولهذا قرأ بعض السلف: « لِتَكُونَ لِمَنْ خَلَقَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ » أي:لا يتعظون بها، ولا يعتبرون. وقد كان [ إهلاك فرعون وملئه ] يوم عاشوراء، كما قال البخاري:

حدثنا محمد بن بشار، حدثنا غُنْدَر، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينَة، واليهود تصوم يوم عاشوراء فقالوا:هذا يوم ظهر فيه موسى على فرعون. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: « أنتم أحق بموسى منهم، فصوموه »

وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ( 93 )

يخبر تعالى عما أنعم به على بني إسرائيل من النعم الدينية والدنيوية ف ( مُبَوَّأَ صِدْقٍ ) قيل:هو بلاد مصر والشام، مما يلي بيت المقدس ونواحيه، فإن الله تعالى لما أهلك فرعون وجنوده استقرت يد الدولة الموسوية على بلاد مصر بكمالها، كما قال الله تعالى: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ [ الأعراف:137 ] وقال في الآية الأخرى: فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [ الشعراء:57- 59 ] ولكن استمروا مع موسى، عليه السلام، طالبين إلى بلاد بيت المقدس [ وهي بلاد الخليل عليه السلام فاستمر موسى بمن معه طالبا بيت المقدس ] وكان فيه قوم من العمالقة، [ فنكل بنو إسرائيل عن قتال العمالقة ] فشردهم الله تعالى في التيه أربعين سنة، ومات فيه هارون، ثم، موسى، عليهما السلام، وخرجوا بعدهما مع يوشع بن نون، ففتح الله عليهم بيت المقدس، واستقرت أيديهم عليها إلى أن أخذها منهم بختنصر حينا من الدهر، ثم عادت إليهم، ثم أخذها ملوك اليونان، وكانت تحت أحكامهم مدة طويلة، وبعث الله عيسى ابن مريم، عليه السلام، في تلك المدة، فاستعانت اليهود - قبحهم الله - على معاداة عيسى، عليه السلام، بملوك اليونان، وكانت تحت أحكامهم، ووشوا عندهم، وأوحوا إليهم أن هذا يفسد عليكم الرعايا فبعثوا من يقبض عليه، فرفعه الله إليه، وشُبّه لهم بعض الحواريين بمشيئة الله وقدره فأخذوه فصلبوه، واعتقدوا أنه هو، وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا [ النساء:157 ، 158 ] ثم بعد المسيح، عليه السلام بنحو [ من ] ثلاثمائة سنة، دخل قسطنطين أحد ملوك اليونان - في دين النصرانية، وكان فيلسوفا قبل ذلك. فدخل في دين النصارى قيل:تقية، وقيل:حيلة ليفسده، فوضعت له الأساقفة منهم قوانين وشريعة وبدعًا أحدثوها، فبنى لهم الكنائس والبيَع الكبار والصغار، والصوامع والهياكل، والمعابد، والقلايات. وانتشر دين النصرانية في ذلك الزمان، واشتهر على ما فيه من تبديل وتغيير وتحريف، ووضع وكذب، ومخالفة لدين المسيح. ولم يبق على دين المسيح على الحقيقة منهم إلا القليل من الرهبان، فاتخذوا لهم الصوامع في البراري والمهامه والقفار، واستحوذت يدُ النصارى على مملكة الشام والجزيرة وبلاد الروم، وبنى هذا الملك المذكور مدينة قسطنطينية، والقُمَامة، وبيت لحم، وكنائس [ بلاد ] بيت المقدس، ومدن حَوْران كبُصرى وغيرها من البلدان بناءات هائلة محكمة، وعبدوا الصليب من حينئذ، وصلوا إلى الشرق، وصوروا الكنائس، وأحلوا لحم الخنـزير، وغير ذلك مما أحدثوه من الفروع في دينهم والأصول، ووضعوا له الأمانة الحقيرة، التي يسمونها الكبيرة، وصنفوا له القوانين،

وبسط هذا يطول.

والغرض أن يدهم لم تزل على هذه البلاد إلى أن انتزعها منهم الصحابة، رضي الله عنهم، وكان فتح بيت المقدس على يدي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، ولله الحمد والمنة.

وقوله: ( وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ) أي:الحلال، من الرزق الطيب النافع المستطاب طبعا وشرعا.

وقوله: ( فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ ) أي:ما اختلفوا في شيء من المسائل إلا من بعد ما جاءهم العلم، أي:ولم يكن لهم أن يختلفوا، وقد بين الله لهم وأزال عنهم اللبس. وقد ورد في الحديث:أن اليهود اختلفوا على إحدى وسبعين فرقة، وأن النصارى اختلفوا على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، منها واحدة في الجنة، وثنتان وسبعون في النار. قيل:من هم يا رسول الله؟ قال: « ما أنا عليه وأصحابي » .

رواه الحاكم في مستدركه بهذا اللفظ، وهو في السنن والمسانيد ولهذا قال الله تعالى: ( إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ ) أي:يفصل بينهم ( يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ )

فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ( 94 ) وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ ( 95 ) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ ( 96 ) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ ( 97 )

قال قتادة بن دِعَامة:بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « لا أشك ولا أسأل »

وكذا قال ابن عباس، وسعيد بن جبير، والحسن البصري، وهذا فيه تثبيت للأمة، وإعلام لهم أن صفة نبيهم صلى الله عليه وسلم موجودة في الكتب المتقدمة التي بأيدي أهل الكتاب، كما قال تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ الآية [ الأعراف:157 ] . ثم مع هذا العلم يعرفونه من كتبهم كما يعرفون أبناءهم، يلبسون ذلك ويحرفونه ويبدلونه، ولا يؤمنون به مع قيام الحجة عليهم؛ ولهذا قال تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ ) أي:لا يؤمنون إيمانا ينفعهم، بل حين لا ينفع نفسًا إيمانها؛ ولهذا لما دعا موسى، عليه السلام، على فرعون وملئه قال: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ [ يونس:88 ] ، كما قال تعالى: وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ [ الأنعام:111 ] ثم قال تعالى:

فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ( 98 )

يقول تعالى:فهلا كانت قرية آمنت بكمالها من الأمم السالفة الذين بعثنا إليهم الرسل، بل ما أرسلنا من قبلك يا محمد من رسول إلا كذبه قومه، أو أكثرهم كما قال تعالى: يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ [ يس:30 ] ، كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ [ الذاريات:52 ] ، وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ [ الزخرف:23 ] وفي الحديث الصحيح: « عرض علي الأنبياء، فجعل النبي يمر ومعه الفئام من الناس، والنبي معه الرجل والنبي معه الرجلان، والنبي ليس معه أحد » ثم ذكر كثرة أتباع موسى، عليه السلام، ثم ذكر كثرة أمته، صلوات الله وسلامه عليه، كثرة سدت الخافقين الشرقي والغربي.

والغرض أنه لم توجد قرية آمنت بكمالها بنبيهم ممن سلف من القرى، إلا قوم يونس، وهم أهل نِينَوى ، وما كان إيمانهم إلا خوفا من وصول العذاب الذي أنذرهم به رسولهم، بعد ما عاينوا أسبابه، وخرج رسولهم من بين أظهرهم، فعندها جأروا إلى الله واستغاثوا به، وتضرعوا لديه. واستكانوا وأحضروا أطفالهم ودوابهم ومواشيهم، وسألوا الله تعالى أن يرفع عنهم العذاب الذي أنذرهم به نبيهم. فعندها رحمهم الله، وكشف عنهم العذاب وأخروا، كما قال تعالى: ( إِلا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ) .

واختلف المفسرون:هل كُشف عنهم العذاب الأخروي مع الدنيوي؟ أو إنما كشف عنهم في الدنيا فقط؟ على قولين، أحدهما:إنما كان ذلك في الحياة الدنيا، كما هو مقيد في هذه الآية. والقول الثاني فيهما لقوله تعالى: وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ [ الصافات:147 ، 148 ] فأطلق عليهم الإيمان، والإيمان منقذ من العذاب الأخروي، وهذا هو الظاهر، والله أعلم.

قال قتادة في تفسير هذه الآية:لم ينفع قرية كفرت ثم آمنت حين حضرها العذاب، فتركت، إلا قوم يونس، لما فقدوا نبيهم وظنوا أن العذاب قد دنا منهم، قذف الله في قلوبهم التوبة، ولبسوا المسوح، وفَرّقوا بين كل بهيمة وولدها ثم عَجّوا إلى الله أربعين ليلة. فلما عرف الله منهم الصدق من قلوبهم، والتوبة والندامة على ما مضى منهم كشف الله عنهم العذاب بعد أن تدلى عليهم - قال قتادة:وذكر أن قوم يونس كانوا بنينوى أرض الموصل.

وكذا روي عن ابن مسعود، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وغير واحد من السلف، وكان ابن مسعود يقرؤها: « فَهَلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ » .

وقال أبو عمران، عن أبي الجَلْد قال:لما نـزل بهم العذاب، جعل يدور على رءوسهم كقطع الليل المظلم، فمشوا إلى رجل من علمائهم فقالوا:علمنا دعاء ندعوا به، لعل الله يكشف عنا العذاب، فقال:قولوا:يا حيّ حين لا حيّ، يا محيي الموتى لا إله إلا أنت. قال:فكشف عنهم العذاب.

وتمام القصة سيأتي مفصلا في سورة الصافات إن شاء الله.

وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ( 99 ) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ ( 100 )

يقول تعالى: ( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ ) - يا محمد - لأذن لأهل الأرض كلهم في الإيمان بما جئتهم به، فآمنوا كلّهم، ولكن له حكمة فيما يفعله تعالى كما قال تعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [ هود:118 ، 119 ] ، وقال تعالى: أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا [ الرعد:31 ] ؛ ولهذا قال تعالى: ( أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ ) أي:تلزمهم وتلجئهم ( حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ) أي:ليس ذلك عليك ولا إليك، بل [ إلى ] الله يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ [ فاطر:8 ] ، لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [ البقرة:272 ] ، لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [ الشعراء:3 ] ، إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [ القصص:56 ] ، فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ [ الرعد:40 ] ، فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [ الغاشية:21 ، 22 ] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن الله تعالى هو الفعال لما يريد، الهادي من يشاء، المضل لمن يشاء، لعلمه وحكمته وعدله؛ ولهذا قال: ( وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ ) وهو الخبال والضلال، ( عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ ) أي:حججَ الله وأدلته، وهو العادل في كل ذلك، في هداية من هدى، وإضلال من ضل.

قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ ( 101 ) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ( 102 ) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ ( 103 )

يرشدُ تعالى عباده إلى التفكر في آلائه وما خلق في السموات والأرض من الآيات الباهرة لذوي الألباب، مما في السموات من كواكب نيرات، ثوابت وسيارات، والشمس والقمر، والليل والنهار، واختلافهما، وإيلاج أحدهما في الآخر، حتى يطول هذا ويقصر هذا، ثم يقصر هذا ويطول هذا، وارتفاع السماء واتساعها، وحسنها وزينتها، وما أنـزل الله منها من مطر فأحيا به الأرض بعد موتها، وأخرج فيها من أفانين الثمار والزروع والأزاهير، وصنوف النبات، وما ذرأ فيها من دوابّ مختلفة الأشكال والألوان والمنافع، وما فيها من جبال وسهول وقفار وعمران وخراب. وما في البحر من العجائب والأمواج، وهو مع هذا [ مسخر ] مذلل للسالكين، يحمل سفنهم، ويجري بها برفق بتسخير القدير له، لا إله إلا هو، ولا رب سواه.

وقوله: ( وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ ) أي:وأي شيء تُجدي الآيات السماوية والأرضية، والرسل بآياتها وحججها وبراهينها الدالة على صدقها، عن قوم لا يؤمنون، كما قال: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ [ يونس:96 ، 97 ] .

وقوله: ( فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ ) أي:فهل ينتظر هؤلاء المكذبون لك يا محمد من النقمة والعذاب إلا مثل أيام الله في الذين خلوا من قبلهم من الأمم المكذبة لرسلهم، ( قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ * ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا ) أي:ونهلك المكذبين بالرسل، ( كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ ) [ أي ] حقا:أوجبه تعالى على نفسه الكريمة:كقوله كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [ الأنعام:12 ] كما جاء في الصحيحين، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « إن الله كتب كتابا فهو عنده فوق العرش:إن رحمتي سبقت غضبي »

قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ( 104 ) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( 105 ) وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ ( 106 )

يقول تعالى لرسوله محمد، صلوات الله وسلامه عليه:قل:يا أيها الناس، إن كنتم في شك من صحة ما جئتكم من الدين الحنيف، الذي أوحاه الله إلي، فها أنا لا أعبد الذين تعبدون من دون الله، ولكن أعبد الله وحده لا شريك له، وهو الذي يتوفاكم كما أحياكم، ثم إليه مرجعكم؛ فإن كانت آلهتكم التي تدعون من دون الله حقا، فأنا لا أعبدها فادعوها فلتضرني، فإنها لا تضر ولا تنفع، وإنما الذي بيده الضر والنفع هو الله وحده لا شريك له، وأمرت أن أكون من المؤمنين.

وقوله: ( وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) أي:أخلص العبادة لله وحده حنيفا، أي:منحرفا عن الشرك؛ ولهذا قال: ( وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) وهو معطوف على قوله: ( وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ )

 

وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ( 107 )

وقوله: ( وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ ) إلى آخرها، بيان لأن الخير والشر والنفع والضر إنما هو راجع إلى الله تعالى وحده لا يشاركه في ذلك أحد، فهو الذي يستحق العبادة وحده، لا شريك له.

روى الحافظ ابن عساكر، في ترجمة صفوان بن سليم، من طريق عبد الله بن وهب:أخبرني يحيى بن أيوب عن عيسى بن موسى، عن صفوان بن سليم، عن أنس بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « اطلبوا الخير دهركم كله، وتعرضوا لنفحات رحمة الله، فإن لله نفحات من رحمته، يصيب بها من يشاء من عباده واسألوه أن يستر عوراتكم، ويؤمن روعاتكم »

ثم رواه من طريق الليث، عن عيسى بن موسى، عن صفوان، عن رجل من أشجع، عن أبي هريرة مرفوعا؛ بمثله سواء

وقوله: ( وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) أي:لمن تاب إليه وتوكل عليه، ولو من أيّ ذنب كان، حتى من الشرك به، فإنه يتوب عليه.

قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ ( 108 ) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ( 109 )

يقول تعالى آمرا لرسوله، صلوات الله وسلامه عليه، أن يخبر الناس أن الذي جاءهم به من عند الله هو الحق الذي لا مرية فيه ولا شك، فمن اهتدى به واتبعه فإنما يعود نفع ذلك الاتباع على نفسه، [ ومن ضل عنه فإنما يرجع وبال ذلك عليه ]

( وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ ) أي:وما أنا موكل بكم حتى تكونوا مؤمنين به، وإنما أنا نذير لكم، والهداية على الله تعالى.

وقوله: ( وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ ) أي:تمسك بما أنـزل الله عليك وأوحاه واصبر على مخالفة من خالفك من الناس، ( حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ ) أي:يفتح بينك وبينهم، ( وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ) أي:خير الفاتحين بعدله وحكمته.

 

أعلى