تفسير سورة طه
هي مكية.
روى إمام
الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة في كتاب «
التوحيد » ، عن زياد بن أيوب، عن إبراهيم بن المنذر الحِزَامي، حدثنا
إبراهيم بن مهاجر بن مسمار، عن عمر بن حفص بن ذَكْوَان، عن مولى الحُرقة - يعني
عبد الرحمن بن يعقوب - عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن
الله قرأ ( طه ) و ( يس ) قبل أن
يخلق آدم بألف عام، فلما سمعت الملائكة قالوا:طوبى لأمة ينـزل عليهم هذا وطوبى
لأجواف تحمل هذا، وطوبى لألسن تتكلم بهذا » .
هذا حديث
غريب، وفيه نكارة، وإبراهيم بن مهاجر وشيخه تُكلِّم فيهما.
بسم الله الرحمن الرحيم
طه ( 1 ) مَا
أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ( 2 ) إِلا
تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى ( 3 )
تَنْزِيلا مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلا ( 4 )
الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ( 5 ) لَهُ
مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ
الثَّرَى ( 6 )
وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ( 7 )
اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ( 8 )
تقدم
الكلام على الحروف المقطعة في أول سورة « البقرة
» بما أغنى عن إعادته.
وقال ابن
أبي حاتم:حدثنا الحسين بن محمد بن شنبة الواسطي، حدثنا أبو أحمد - يعني:الزبيري -
أنبأنا إسرائيل عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:طه:يا رجل. وهكذا
روي عن مجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، و [
عطاء ] ومحمد بن كعب، وأبي مالك، وعطية العوفي، والحسن، وقتادة،
والضحاك، والسدي، وابن أبزى أنهم قالوا: « طه »
بمعنى:يا رجل.
وفي
رواية عن ابن عباس، وسعيد بن جبير والثوري أنها كلمة بالنبطية معناها:يا رجل. وقال
أبو صالح هي مُعَرّبة.
وأسند
القاضي عياض في كتابه « الشفاء » من طريق
عبد بن حميد في تفسيره:حدثنا هاشم بن [
القاسم ] عن ابن جعفر، عن الربيع بن أنس قال:كان النبي صلى الله عليه
وسلم إذا صلى قام على رجل ورفع الأخرى، فأنـزل الله تعالى ( طه ) ،
يعني:طأ الأرض يا محمد، ( مَا أَنـزلْنَا عَلَيْكَ
الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ) . ثم قال:ولا خفاء بما في هذا
من الإكرام وحسن المعاملة .
وقوله ( مَا
أَنـزلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ) قال
جويبر، عن الضحاك:لما أنـزل الله القرآن على رسوله، قام به هو وأصحابه، فقال
المشركون من قريش:ما أنـزل هذا القرآن على محمد إلا ليشقى! فأنـزل الله تعالى: ( طه *
مَا أَنـزلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى إِلا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى ) .
فليس
الأمر كما زعمه المبطلون، بل من آتاه الله العلم فقد أراد به خيرًا كثيرًا، كما
ثبت في الصحيحين، عن معاوية قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من
يُرد الله به خيرًا يفقهه في الدين » . .
وما أحسن
الحديث الذي رواه الحافظ أبو القاسم الطبراني في ذلك حيث قال:
حدثنا
أحمد بن زهير، حدثنا العلاء بن سالم، حدثنا إبراهيم الطالقاني، حدثنا ابن المبارك،
عن سفيان، عن سِمَاك بن حرب، عن ثعلبة بن الحكم قال:قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: « يقول الله تعالى للعلماء يوم القيامة إذا قعد على كرسيه
لقضاء عباده:إني لم أجعل علمي وحكمتي فيكم إلا وأنا أريد أن أغفر لكم على ما كان
منكم، ولا أبالي » .
إسناده
جيد وثعلبة بن الحكم هذا [ هو الليثي ] ذكره
أبو عمر في استيعابه، وقال:نـزل البصرة، ثم تحول إلى الكوفة، وروى عنه سماك بن حرب
.
وقال
مجاهد في قوله: ( مَا أَنـزلْنَا عَلَيْكَ
الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ) :هي كقوله: فَاقْرَءُوا مَا
تَيَسَّرَ مِنَ [ المزمل:20 ] وكانوا
يعلقون الحبال بصدورهم في الصلاة.
وقال
قتادة: ( مَا أَنـزلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ) :لا
والله ما جعله شقاء، ولكن جعله رحمة ونورًا، ودليلا إلى الجنة.
إِلا
تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى ) :إن الله أنـزل كتابه، وبعث رسله .
رحمة،
رحم بها العباد، ليتذكر ذاكر، وينتفع رجل بما سمع من كتاب الله، وهو ذكر أنـزل
الله فيه حلاله وحرامه.
وقوله: (
تَنـزيلا مِمَّنْ خَلَقَ الأرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلا ) أي:هذا
القرآن الذي جاءك يا محمد [ هو ] تنـزيل
من [ ربك ] رب كل شيء ومليكه، القادر على
ما يشاء، الذي خلق الأرض بانخفاضها وكثافتها، وخلق السموات العلى في ارتفاعها
ولطافتها. وقد جاء في الحديث الذي صححه الترمذي وغيره. أن سُمْك كل سماء مسيرة
خمسمائة عام، وبُعْد ما بينها والتي تليها [
مسيرة ] خمسمائة عام .
وقد أورد
ابن أبي حاتم هاهنا حديث الأوعال من رواية العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم
ورضي الله عنه.
وقوله (
الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ) :تقدم
الكلام على ذلك في سورة الأعراف، بما أغنى عن إعادته أيضًا، وأن المسلك الأسلم في
ذلك طريقة السلف، إمرار ما جاء في ذلك من الكتاب والسنة من غير تكييف ولا تحريف،
ولا تشبيه، ولا تعطيل، ولا تمثيل.
وقوله: ( لَهُ
مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى
) أي:الجميع ملكه وفي قبضته، وتحت تصريفه ومشيئته وإرادته
وحكمه، وهو خالق ذلك ومالكه وإلهه، لا إله سواه، ولا رب غيره.
وقوله: ( وَمَا
تَحْتَ الثَّرَى ) قال محمد بن كعب:أي ما تحت
الأرض السابعة.
وقال
الأوزاعي:إن يحيى بن أبي كثير حدثه أن كعبًا سُئِل فقيل له:ما تحت هذه الأرض؟
فقال:الماء. قيل:وما تحت الماء؟ قال:الأرض. قيل:وما تحت الأرض؟ قال:الماء. قيل:وما
تحت الماء؟ قال:الأرض، قيل:وما تحت الأرض؟ قال:الماء. قيل:وما تحت الماء؟
قال:الأرض، قيل:وما تحت الأرض؟ قال الماء. قيل:وما تحت الماء؟ قال:الأرض، قيل:وما
تحت الأرض؟ قال:صخرة. قيل:وما تحت الصخرة؟ قال:ملك. قيل:وما تحت الملك؟ قال:حوت
معلق طرفاه بالعرش، قيل:وما تحت الحوت؟ قال:الهواء والظلمة وانقطع العلم.
وقال ابن
أبي حاتم:حدثنا أبو عبيد الله بن أخي بن وهب، حدثنا عمي، حدثنا عبد الله بن
عَيَّاش، حدثنا عبد الله بن سليمان عن دَرَّاج، عن عيسى بن هلال الصَّدَفي، عن عبد
الله بن عمرو قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن
الأرضين بين كل أرض والتي تليها مسيرة خمسمائة عام، والعليا منها على ظهر حوت، قد
التقى طرفاه في السماء، والحوت على صخرة، والصخرة بيد الملك، والثانية سجن الريح،
والثالثة فيها حجارة جهنم، والرابعة فيها كبريت جهنم، والخامسة فيها حيات جهنم
والسادسة فيها عقارب جهنم، والسابعة فيها سَقَر، وفيها إبليس مُصَفّد بالحديد، يد
أمامه ويد خلفه، فإذا أراد الله أن يطلقه لما يشاء أطلقه » .
هذا حديث
غريب جدًا ورفعه فيه نظر.
وقال
الحافظ أبو يعلى في مسنده:حدثنا أبو موسى الهروي، عن العباس بن الفضل [ قال
] : قلت:ابن الفضل الأنصاري؟ قال:نعم، [ عن
القاسم ] بن عبد الرحمن، عن محمد بن علي، عن جابر بن عبد الله
قال:كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فأقبلنا راجعين في حر
شديد، فنحن متفرقون بين واحد واثنين، منتشرين، قال:وكنت في أول العسكر:إذ عارضنا
رجل فَسَلّم ثم قال:أيكم محمد؟ ومضى أصحابي ووقفت معه، فإذا رسول الله صلى الله
عليه وسلم قد أقبل في وسط العَسْكَر على جمل أحمر، مُقَنَّع بثوبه على رأسه من
الشمس، فقلت:أيها السائل، هذا رسول الله قد أتاك. فقال:أيهم هو؟ فقلت:صاحب البَكْر
الأحمر. فدنا منه، فأخذ بخطام راحلته، فكف عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فقال :أنت محمد؟ قال: « نعم » .
قال:إني أريد أن أسألك عن خصال، لا يعلمهن أحد من أهل الأرض إلا رجل أو رجلان،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « سل عما
شئت » . فقال:يا محمد، أينام النبي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: « تنام عيناه ولا ينام قلبه » .
قال:صدقت. ثم قال:يا محمد، مِنْ أين يشبه الولد أباه وأمه؟ « قال
ماء الرجل أبيض غليظ، وماء المرأة أصفر رقيق، فأيّ الماءين غلب على الآخر نـزع
الولد » . فقال صدقت. فقال:ما للرجل من الولد وما للمرأة منه؟ فقال: « للرجل
العظام والعروق والعصب، وللمرأة اللحم والدم والشعر »
قال:صدقت. ثم قال:يا محمد، ما تحت هذه، يعني الأرض؟ فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: « خلق » . فقال:فما تحتهم؟ قال: « أرض » .
قال:فما تحت الأرض؟ قال « الماء » قال:فما
تحت الماء؟ قال: « ظلمة » .
قال:فما تحت الظلمة؟ قال: « الهواء » . قال:فما
تحت الهواء؟ قال: « الثرى » .
قال:فما تحت الثرى؟ ففاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبكاء، وقال: « انقطع
علم المخلوقين عند علم الخالق، أيها السائل، ما المسئول عنها بأعلم من السائل » .
قال:فقال:صدقت، أشهد أنك رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أيها
الناس، هل تدرون من هذا؟ » قالوا:الله ورسوله أعلم. قال: « هذا
جبريل صلى الله عليه وسلم » .
هذا حديث
غريب جدًا، وسياق عجيب، تفرد به القاسم بن عبد الرحمن هذا، وقد قال فيه يحيى بن
معين: « ليس يساوي شيئًا » وضعفه
أبو حاتم الرازي، وقال ابن عدي:لا يعرف.
قلت:وقد
خلط في هذا الحديث، ودخل عليه شيء في شيء، وحديث في حديث. وقد يُحْتَمل أنه
تَعَمَّد ذلك، أو أدخل عليه فيه، فالله أعلم.
وقوله: (
وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى )
أي:أنـزل هذا القرآن الذي خلق [ الأرض والسموات العلى،
الذي يعلم السر وأخفى، كما قال تعالى: قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ
فِي ] السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا
[ الفرقان:6 ] .
قال علي
بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى
) قال:السر ما أسرّ ابن آدم في نفسه، (
وَأَخْفَى ) :ما أخفى على ابن آدم مما هو فاعله قبل أن يعلمه فالله يعلم
ذلك كله، فَعلْمه فيما مضى من ذلك وما بقي عِلْم واحد، وجميع الخلائق في ذلك عنده
كنفس واحدة، وهو قوله: مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ [
لقمان:28 ] .
وقال
الضحاك: ( يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى )
قال:السر:ما تحدث به نفسك، وأخفى:ما لم تحدث به نفسك بعد.
وقال
سعيد بن جبير:أنت تعلم ما تسر اليوم، ولا تعلم ما تسر غدًا، والله يعلم ما تسر
اليوم، وما تسر غدًا.
وقال
مجاهد: ( وَأَخْفَى )
يعني:الوسوسة.
وقال أيضًا
هو وسعيد بن جبير: ( وَأَخْفَى ) أي:ما
هو عامله مما لم يحدث به نفسه.
وقوله: (
اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى ) [
أي:الذي أنـزل القرآن عليك هو الله الذي لا إله إلا هو ذو الأسماء الحسنى ]
والصفات العلى.
وقد تقدم
بيان الأحاديث الواردة في الأسماء الحسنى في أواخر سورة «
الأعراف » ولله الحمد والمنة.
وَهَلْ
أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى ( 9 ) إِذْ
رَأَى نَارًا فَقَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي
آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى ( 10 )
من هاهنا
شَرَعَ، تبارك وتعالى، في ذكر قصة موسى [
عليه السلام ] وكيف كان ابتداء الوحي إليه وتكليمه إياه، وذلك بعد ما قضى
موسى الأجَل الذي كان بينه وبين صهْره في رعاية الغنم وسار بأهله قيل:قاصدًا بلاد
مصر بعدما طالت الغيبة عنها أكثر من عشر سنين، ومعه زوجته، فأضل الطريق، وكانت
ليلة شاتية، ونـزل منـزلا بين شعاب وجبال، في برد وشتاء، وسحاب وظلام وضباب، وجعل
يقدح بزند معه ليُوريَ نارًا، كما جرت له العادة به، فجعل لا يقدح شيئًا، ولا يخرج
منه شرر ولا شيء. فبينا هو كذلك، إذ آنس من جانب الطور نارًا، أي:ظهرت له نار من
جانب الجبل الذي هناك عن يمينه، فقال لأهله يبشرهم: (
إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ )
أي:شهاب من نار. وفي الآية الأخرى: أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ [
القصص:29 ] وهي الجمر:الذي معه لهب، لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ [
القصص:29 ] دلّ على وجود البرد، وقوله: (
بِقَبَسٍ ) دلّ على وجود الظلام.
وقوله: ( أَوْ
أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى ) أي:من يهديني الطريق، دلّ على
أنه قد تاه عن الطريق، كما قال الثوري، عن أبي سعد الأعور، عن عكرمة عن ابن عباس
في قوله: ( أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى ) قال:من
يهديني إلى الطريق. وكانوا شاتين وضلوا الطريق، فلما رأى النار قال:إن لم أجد
أحدًا يهديني إلى الطريق آتكم بنار توقدون بها.
فَلَمَّا
أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى ( 11 )
إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى
( 12 )
يقول تعالى: (
فَلَمَّا أَتَاهَا ) أي:النار واقترب منها، (
نُودِيَ يَا مُوسَى ) وفي الآية الأخرى: نُودِيَ
مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ
الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ [
القصص:30 ] وقال هاهنا (
إِنِّي أَنَا رَبُّكَ ) أي:الذي يكلمك ويخاطبك، (
فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ ) قال علي بن أبي طالب، وأبو
ذر، وأبو أيوب، وغير واحد من السلف:كانتا من جلد حمار غير ذكيّ.
وقيل:إنما أمره بخلع نعليه
تعظيمًا للبقعة.
قال سعيد بن جبير:كما يؤمر الرجل
أن يخلع نعليه إذا أراد أن يدخل الكعبة.
وقيل:ليطأ الأرض المقدسة بقدميه
حافيًا غير منتعل. وقيل:غير ذلك، والله أعلم.
وقوله: ( طُوًى
) قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:هو اسم للوادي.
وكذا قال غير واحد، فعلى هذا
يكون عطف بيان.
وقيل:عبارة عن الأمر بالوطء
بقدميه.
وقيل:لأنه قُدّس مرتين، وطوى له
البركة وكررت:والأول أصح، كقوله إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ
طُوًى [ النازعات:16 ] .
وَأَنَا
اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى ( 13 )
إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ
لِذِكْرِي ( 14 )
إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا
تَسْعَى ( 15 ) فَلا
يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى ( 16 )
وقوله: (
وَأَنَا اخْتَرْتُكَ ) كقوله إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ
عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي [
الأعراف:144 ] أي:على جميع الناس من الموجودين في زمانه.
و [ قد ] قيل:إن
الله تعالى قال:يا موسى، أتدري لم خصصتك بالتكليم من بين الناس؟ [
قال:لا. قال: ] لأني لم يتواضع لي أحد تواضعك.
وقوله: (
فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى ) أي:اسمع الآن ما أقول لك
وأوحيه إليك:
( إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا
إِلَهَ إِلا أَنَا ) هذا أول واجب على المكلفين أن
يعلموا أنه لا إله إلا الله، وحده لا شريك له.
وقوله: (
فَاعْبُدْنِي ) أي:وحدّني وَقُم بعبادتي من غير شريك، (
وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي ) قيل:معناه:صَلِّ لتذكرني.
وقيل:معناه:وأقم الصلاة عند ذكرك لي.
ويشهد
لهذا الثاني ما قال الإمام أحمد:حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا المثنى بن سعيد،
عن قتادة، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إذا
رَقَد أحدكم عن الصلاة، أو غفل عنها، فليصلها إذا ذكرها؛ فإن الله تعالى قال: (
وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي ) . »
وفي
الصحيحين عن أنس قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من نام
عن صلاة أو نسيها، فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك » .
وقوله: ( إِنَّ
السَّاعَةَ آتِيَةٌ ) أي:قائمة لا محالة، وكائنة لا
بد منها.
وقوله: (
أَكَادُ أُخْفِيهَا ) قال الضحاك، عن ابن عباس:أنه
كان يقرؤها: « أكاد أخفيها من نفسي » ،
يقول:لأنها لا تخفى من نفس الله أبدًا.
وقال
سعيد بن جبير، عن ابن عباس:من نفسه. وكذا قال مجاهد، وأبو صالح، ويحيى بن رافع.
وقال علي
بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( أَكَادُ أُخْفِيهَا )
يقول:لا أطلع عليها أحدًا غيري.
وقال
السدي:ليس أحد من أهل السموات والأرض إلا قد أخفى الله عنه علم الساعة، وهي في
قراءة ابن مسعود: « إني أكاد أخفيها من نفسي » ،
يقول:كتمتها عن الخلائق، حتى لو استطعت أن أكتمها من نفسي لفعلت.
وقال
قتادة: ( أَكَادُ أُخْفِيهَا ) وهي في
بعض القراءة أخفيها من نفسي، ولعمري لقد أخفاها الله من الملائكة المقربين، ومن
الأنبياء والمرسلين.
قلت:وهذا
كقوله تعالى: قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا
اللَّهُ [ النمل:65 ] وقال:
ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلا بَغْتَةً [
الأعراف:187 ] أي:ثقل علمها على أهل السموات والأرض.
وقال ابن
أبي حاتم:حدثنا أبو زُرْعَة حدثنا مِنْجَاب، حدثنا أبو نُمَيْلة، حدثني محمد بن سهل
الأسدي، عن وِقَاء قال:أقرأنيها سعيد بن جبير ( أكاد
أَخْفيها ) ، يعني:بنصب الألف وخفض الفاء، يقول:أظهرها، ثم [ قال
] أما سمعت قول الشاعر .
دَأبَ شَــهْرَين, ثــم شـهرًا دَمِيكًـا بـــأريكَين
يَخْفيـــان غَمـــيرًا
وقال
الأسدي:الغمير:نبت رطب، ينبت في خلال يبس. والأريكين:موضع، والدميك:الشهر التام.
وهذا الشعر لكعب بن زهير.
وقوله
سبحانه وتعالى: ( لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ
بِمَا تَسْعَى ) أي:أقيمها لا محالة، لأجزي كل
عامل بعمله، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ
مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [
الزلزلة:7، 8 ] و إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [
الطور:16 ] .
وقوله: ( فَلا
يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى ) المراد
بهذا الخطاب آحاد المكلفين، أي:لا تتبعوا [
سبيل ] من كذب بالساعة، وأقبل على ملاذه في دنياه، وعصى مولاه،
واتبع هواه، فمن وافقهم على ذلك فقد خاب وخسر (
فَتَرْدَى ) أي:تهلك وتعطب قال الله تعالى: وَمَا يُغْنِي عَنْهُ
مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى [ الليل:11 ] .
وَمَا
تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى ( 17 )
قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ
فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى ( 18 )
قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى ( 19 )
فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى ( 20 )
قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى ( 21 ) .
هذا برهان
من الله تعالى لموسى، عليه السلام، ومعجزة عظيمة، وخرق للعادة باهر، دال على أنه
لا يقدر على مثل هذا إلا الله عز وجل، وأنه لا يأتي به إلا نبي مرسل، وقوله: ( وَمَا
تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى ) قال بعض المفسرين:إنما قال له
ذلك على سبيل الإيناس له. وقيل:إنما قال له ذلك على وجه التقرير، أي:أما هذه التي
في يمينك عصاك التي تعرفها، فسترى ما نصنع بها الآن، ( وَمَا
تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى ) استفهام تقرير.
( قَالَ
هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا )
أي:أعتمد عليها في حال المشي ( وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي
) أي:أهز بها الشجرة ليسقط ورقها، لترعاه غنمي.
قال عبد
الرحمن بن القاسم:عن الإمام مالك:والهش:أن يضع الرجل المحْجَن في الغصن، ثم يحركه
حتى يسقط ورقه وثَمَره، ولا يكسر العود، فهذا الهش، ولا يخبط. وكذا قال ميمون بن
مهران أيضًا.
وقوله: (
وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى ) أي:مصالح ومنافع وحاجات أخر
غير ذلك. وقد تكلف بعضهم لذكر شيء من تلك المآرب التي أبهمت، فقيل:كانت تضيء له
بالليل، وتحرس له الغنم إذا نام، ويغرسها فتصير شجرة تظله، وغير ذلك من الأمور
الخارقة للعادة.
والظاهر
أنها لم تكن كذلك، ولو كانت كذلك لما استنكر موسى صيرورتها ثعبانًا، فما كان يفر
منها هاربًا، ولكن كل ذلك من الأخبار الإسرائيلية وكذا قول بعضهم:إنها كانت لآدم،
عليه السلام. وقول الآخر:إنها هي الدابة التي تخرج قبل يوم القيامة. وروي عن ابن
عباس أنه قال:كان اسمها ماشا. والله أعلم بالصواب.
وقوله
تعالى: ( [ قَالَ ]
أَلْقِهَا يَا مُوسَى ) أي:هذه العصا التي في يدك يا
موسى، ألقها ( فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى )
أي:صارت في الحال حَيَّة عظيمة، ثعبانًا طويلا يتحرك حركة سريعة، فإذا هي تهتز
كأنها جان، وهو أسرع الحيات حركة، ولكنه صغير، فهذه في غاية الكبر، وفي غاية سرعة
الحركة، ( تَسْعَى ) أي:تمشي وتضطرب.
قال ابن
أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا أحمد بن عَبْدَة، حدثنا حفص بن جُمَيْع، حدثنا سِمَاك،
عن عكرمة، عن [ ابن عباس ]
فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى ) ولم تكن قبل ذلك حية، فمرت بشجرة فأكلتها،
ومرت بصخرة فابتلعتها، فجعل موسى يسمع وقع الصخرة في جوفها، فولى مدبرًا، فنودي
أن:يا موسى، خذها. فلم يأخذها، ثم نودي الثانية أن:خذها ولا تخف. فقيل له في
الثالثة:إنك من الآمنين. فأخذها.
وقال وهب
بن مُنَبّه في قوله: ( فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ
حَيَّةٌ تَسْعَى ) قال:فألقاها على وجه الأرض،
ثم حانت نظرة فإذا بأعظم ثعبان نظر إليه الناظرون، فَدَبّ يلتمس كأنه يبتغي شيئًا
يريد أخْذَه، يمر بالصخرة مثل الخَلِفَة من الإبل فيلتقمها، ويطعن بالناب من
أنيابه في أصل الشجرة العظيمة فيجتثها، عيناه توقدان نارا، وقد عاد المحْجَن منها
عُرفًا. قيل:شعر مثل النيازك، وعاد الشعبتان منها مثل القليب الواسع، فيه أضراس
وأنياب، لها صريف، فلما عاين ذلك موسى ولى مدبرًا ولم يُعَقِّب، فذهب حتى أمعن،
ورأى أنه قد أعجَز الحية، ثم ذكر ربه فوقف استحياء منه، ثم نودي:يا موسى أنْ:ارجع
حيث كنت. فرجع موسى وهو شديد الخوف. فقال: (
خُذْهَا ) بيمينك ( وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا
سِيرَتَهَا الأولَى ) وعلى موسى حينئذ مِدْرَعة من
صوف، فدخلها بخلال من عيدان، فلما أمره بأخذها أدلى طرف المدرعة على يده، فقال له
ملك أرأيت يا موسى، لو أذن الله بما تحاذر أكانت المدرعة تغني عنك شيئًا؟ قال:لا
ولكني ضعيف، ومن ضَعْف خلقت. فكشف عن يده ثم وضعها على فم الحية، حتى سمع حسّ
الأضراس والأنياب، ثم قَبض فإذا هي عصاه التي عهدها، وإذا يده في موضعها الذي كان
يضعها إذا توكأ بين الشعبتين؛ ولهذا قال تعالى: (
سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأولَى ) أي:إلى
حالها التي تعرف قبل ذلك.
وَاضْمُمْ
يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى ( 22 )
لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى ( 23 )
اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ( 24 )
قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ( 25 )
وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ( 26 )
وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي ( 27 )
يَفْقَهُوا قَوْلِي ( 28 )
وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي ( 29 )
هَارُونَ أَخِي ( 30 )
اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي ( 31 )
وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ( 32 ) كَيْ
نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا ( 33 )
وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا ( 34 )
إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا ( 35 ) .
وهذا
بُرهان ثان لموسى، عليه السلام، وهو أن الله أمره أن يدخل يده في جيبه، كما صرح به
في الآية الأخرى، وهاهنا عبر عن ذلك بقوله: (
وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ ) وقال
في مكان آخر: وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ
مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ [
القصص:32 ] .
وقال
مجاهد: ( وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ ) كفه
تحت عضده.
وذلك أن موسى،
عليه السلام، كان إذا أدخل يده في جيبه ثم أخرجها، تخرج تتلألأ كأنها فلقة قمر.
وقوله: (
تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ) أي:من
غير بَرَص ولا أذى، ومن غير شين. قاله ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة، والضحاك،
والسدي، وغيرهم.
وقال
الحسن البصري:أخرجها - والله- كأنها مصباح، فعلم موسى أنه قد لقي ربه عز وجل؛
ولهذا قال تعالى: ( لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا
الْكُبْرَى ) .
وقال
وهب:قال له ربه:ادْنُهْ:فلم يزل يدنيه حتى شدّ ظهره بجذع الشجرة، فاستقر وذهبت عنه
الرعدة، وجمع يده في العصا، وخضع برأسه وعنقه.
وقوله (
اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى )
أي:اذهب إلى فرعون ملك مصر، الذي خَرَجت فارًا منه وهاربًا، فادعه إلى عبادة الله
وحده لا شريك له، ومره فَلْيُحْسِن إلى بني إسرائيل ولا يعذبهم، فإنه قد طغى
وبَغَى، وآثر الحياة الدنيا، ونسي الرب الأعلى.
قال وهب
بن مُنَبِّه:قال الله لموسى:انطلق برسالتي فإنك بعيني وسمعي، وإني معك أيدي
ونَصْري، وإني قد ألبستك جُنَّةً من سلطاني لتستكمل بها القوة في أمري، فأنت جند
عظيم من جندي، بعثتك إلى خلق ضعيف من خلقي، بطر نعمتي، وأمن مكري، وغرته الدنيا
عني، حتى جحد حقي، وأنكر ربوبيتي، وزعم أنه لا يعرفني، فإني أقسم بعزتي لولا القدر
الذي وضعت بيني وبين خلقي، لبطشت به بطشة جبار، يغضب لغضبه السموات والأرض،
والجبال والبحار، فإن أمرت السماء حصبته، وإن أمرت الأرض ابتلعته، وإن أمرت الجبال
دمرته، وإن أمرت البحار غرقته، ولكنه هان عليّ، وسقط من عيني، ووسعه حلمي،
واستغنيت بما عندي، وحقي إني أنا الغنيّ لا غنيّ غيري، فبلغه رسالتي، وادعه إلى
عبادتي وتوحيدي وإخلاصي، وذكره أيامي وحذره نقمتي وبأسي، وأخبره أنه لا يقوم شيء
لغضبي، وقل له فيما بين ذلك قولا لينًا لعله يتذكر أو يخشى، وخَبّره أني إلى العفو
والمغفرة أسرع مني إلى الغضب والعقوبة، ولا يروعنك ما ألبسته من لباس الدنيا، فإن
ناصيته بيدي، ليس ينطق ولا يطرف ولا يتنفس إلا بإذني، وقل له:أجب ربك فإنه واسع
المغفرة، وقد أمهلك أربعمائة سنة، في كلها أنت مبارزه بالمحاربة، تسبه وتتمثل به
وتصدّ عباده عن سبيله وهو يمطر عليك السماء، وينبت لك الأرض، [ و ] لم
تسقم ولم تهرم ولم تفتقر [ ولم تغلب ] ولو
شاء الله أن يعَجِّل لك العقوبة لفعل، ولكنه ذو أناة وحلم عظيم. وجاهده بنفسك
وأخيك وأنتما تحتسبان بجهاده فإني لو شئت أن آتيه بجنود لا قبل له بها لفعلت، ولكن
ليعلم هذا العبد الضعيف الذي قد أعجبته نفسه وجموعه أن الفئة القليلة - ولا قليل
مني- تغلب الفئة الكثيرة بإذني، ولا تعجبنكما زينته، ولا ما مَتّع به، ولا تمدا
إلى ذلك أعينكما، فإنها زهر الحياة الدنيا، وزينة المترفين. ولو شئت أن أزينكما من
الدنيا بزينة، ليعلم فرعون حين ينظر إليها أن مقدرته تعجز عن مثل ما أوتيتما،
فعلت، ولكني أرغب بكما عن ذلك، وأزويه عنكما. وكذلك أفعل بأوليائي، وقديمًا ما جرت
عادتي في ذلك. فإني لأذودُهم عن نعيمها ورخائها، كما يذود الراعي الشفيق إبله عن
مبارك الغرة، وما ذاك لهوانهم عليّ، ولكن ليستكملوا نصيبهم من كرامتي سالما موفرًا
لم تكْلَمْه الدنيا.
واعلم
أنه لا يتزين لي العباد بزينة هي أبلغ مما عندي من الزهد في الدنيا، فإنها زينة
المتقين، عليهم منها لباس يُعْرَفون به من السكينة والخشوع، سيماهم في وجوههم من
أثر السجود، أولئك أوليائي حقًا حقًا، فإذا لقيتهم فاخفض لهم جناحك، وذلل قلبك
ولسانك، واعلم أنه من أهان لي وليًا أو أخافه، فقد بارزني بالمحاربة، وبادأني وعرض
لي نفسه ودعاني إليها، وأنا أسرع شيء إلى نصرة أوليائي، أفيظن الذي يحاربني أن
يقوم لي، أم يظن الذي يعاديني أن يعجزني، أم يظن الذي يبارزني أن يسبقني أو يفوتني.
وكيف وأنا الثائر لهم في الدنيا والآخرة، لا أَكِلُ مضطرهم إلى غيري.
رواه ابن
أبي حاتم.
( قَالَ
رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ) هذا
سؤال من موسى، عليه السلام، لربه عز وجل، أن يشرح له صدره فيما بعثه به، فإنه قد
أمره بأمر عظيم، وخطب جسيم، بعثه إلى أعظم ملك على وجه الأرض إذ ذاك، وأجبرهم،
وأشدهم كفرًا، وأكثرهم جنودًا، وأعمرهم ملكًا، وأطغاهم وأبلغهم تمردًا، بلغ من
أمره أن ادعى أنه لا يعرف الله، ولا يعلم لرعاياه إلهًا غيره.
هذا وقد
مكث موسى في داره مدة وليدًا عندهم، في حجر فرعون، على فراشه، ثم قتل منهم نفسا
فخافهم أن يقتلوه، فهرب منهم هذه المدة بكمالها. ثم بعد هذا بعثه ربه عز وجل إليهم
نذيرًا يدعوهم إلى الله عز وجل أن يعبدوه وحده لا شريك له؛ ولهذا قال: ( رَبِّ
اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ) أي:إن
لم تكن أنت عوني ونصيري، وعضدي وظهيري، وإلا فلا طاقة لي بذلك.
(
وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي ) وذلك
لما كان أصابه من اللثغ، حين عرض عليه التمرة والجمرة، فأخذ الجمرة فوضعها على
لسانه، كما سيأتي بيانه، وما سأل أن يزول ذلك بالكلية، بل بحيث يزول العي، ويحصل
لهم فهم ما يريد منه وهو قدر الحاجة. ولو سأل الجميع لزال، ولكن الأنبياء لا
يسألون إلا بحسب الحاجة، ولهذا بقيت بقية، قال الله تعالى إخبارًا عن فرعون أنه
قال: أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ [
الزخرف 52 ] أي:يفصح بالكلام.
وقال
الحسن البصري: ( وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ
لِسَانِي ) قال:حل عقدة واحدة، ولو سأل أكثر من ذلك أعطى.
وقال ابن
عباس:شكا موسى إلى ربه ما يتخوف من آل فرعون في القتيل، وعقدة لسانه، فإنه كان في
لسانه عقدة تمنعه من كثير من الكلام، وسأل ربه أن يعينه بأخيه هارون يكون له ردءًا
ويتكلم عنه بكثير مما لا يفصح به لسانه، فآتاه سؤله، فحل عقدة من لسانه.
وقال ابن
أبي حاتم:ذُكِرَ عن عَمْرو بن عثمان، حدثنا بَقِيّة، عن أرطاة بن المنذر، حدثني
بعض أصحاب محمد بن كعب، عنه قال:أتاه ذو قرابة له. فقال له:ما بك بأس لولا أنك
تلحن في كلامك، ولست تعرب في قراءتك؟ فقال القرظي:يا ابن أخي، ألست أفهمك إذا
حدثتك ؟ . قال: نعم. قال:فإن موسى، عليه السلام، إنما سأل ربه أن يحل عقدة من
لسانه كي يفقه بنو إسرائيل كلامه، ولم يزد عليها. هذا لفظه.
وقوله: (
وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي ) :وهذا
أيضًا سؤال من موسى في أمر خارجي عنه، وهو مساعدة أخيه هارون له.
قال
الثوري، عن أبي سعيد، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه قال:فَنُبّئ هارون ساعتئذ حين نبئ
موسى، عليهما السلام.
وقال ابن
أبي حاتم:ذكر عن ابن نُمَير، حدثنا أبو أسامة، عن هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة
أنها خرجت فيما كانت تعتمر، فنـزلت ببعض الأعراب، فسمعت رجلا يقول:أيّ أخ كان في
الدنيا أنفع لأخيه؟ قالوا:ما ندري. قال:والله أنا أدري قالت:فقلت في نفسي:في حلفه
لا يستثنى، إنه ليعلم أي أخ كان في الدنيا أنفع لأخيه. قال:موسى حين سأل لأخيه
النبوة. فقلت:صدق والله. قلت:وفي هذا قال الله تعالى في الثناء على موسى، عليه
السلام: وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا [
الأحزاب:69 ] .
وقوله: (
اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي ) قال مجاهد:ظهري.
(
وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ) أي:في مشاورتي.
( كَيْ نُسَبِّحَكَ
كَثِيرًا وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا ) قال مجاهد:لا يكون العبد من
الذاكرين الله كثيرًا، حتى يذكر الله قائما وقاعدًا ومضطجعًا.
وقوله: (
إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا ) أي:في اصطفائك لنا، وإعطائك
إيانا النبوة، وبعثتك لنا إلى عدوك فرعون، فلك الحمد على ذلك.
قَالَ
قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى ( 36 )
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى ( 37 )
هذه إجابة من الله لرسوله موسى،
عليه السلام، فيما سأل من ربه عز وجل، وتذكير له بنعمه السالفة عليه،
إِذْ
أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى ( 38 ) أَنِ
اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ
بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ
مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ( 39 ) إِذْ
تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ
إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا
فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا ( 40 )
فيما كان
ألهم أمه حين كانت ترضعه، وتحذر عليه من فرعون وملئه أن يقتلوه؛ لأنه كان قد ولد
في السنة التي يقتلون فيها الغلمان. فاتخذت له تابوتا، فكانت ترضعه ثم تضعه فيه،
وترسله في البحر - وهو النيل- وتمسكه إلى منـزلها بحبل فذهبت مرة لتربطه فانفلت
منها وذهب به البحر، فحصل لها من الغم والهم ما ذكره الله عنها في قوله:
وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا
أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا [
القصص:10 ] فذهب به البحر إلى دار فرعون فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ
لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا [
القصص:8 ] أي قدرًا مقدورًا من الله، حيث كانوا هم يقتلون الغلمان من
بني إسرائيل، حذرًا من وجود موسى، فحكم الله - وله السلطان العظيم، والقدرة
التامة- ألا يربى إلا على فراش فرعون، ويغذى بطعامه وشرابه، مع محبته وزوجته له؛
ولهذا قال: ( يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ
عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي ) [
أي:عند عدوك، جعلته يحبك. قال سلمة بن كُهَيْل: (
وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي ) ]
قال:حببتك إلى عبادي.
(
وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ) قال أبو عمران الجوني:تربى
بعين الله.
وقال
قتادة:تغذى على عيني.
وقال
معمر بن المثنى: ( وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ) بحيث
أرى.
وقال عبد
الرحمن بن زيد بن أسلم:يعني أجعله في بيت الملك ينعم ويترف، غذاؤه عندهم غذاء
الملك، فتلك الصنعة.
وقوله: ( إِذْ
تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ
إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا ) وذلك
أنه لما استقر عند آل فرعون، عرضوا عليه المراضع، فأباها، قال الله عز وجل:
وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فجات أخته وقالت هَلْ أَدُلُّكُمْ
عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ [
القصص:12 ] . تعني هل أدلكم على من ترضعه لكم بالأجرة؟ فذهبت به وهم
معها إلى أمه، فعرضت عليه ثديها، فقبله، ففرحوا بذلك فرحًا شديدًا، واستأجروها على
إرضاعه فنالها بسببه سعادة ورفعة وراحة في الدنيا وفي الآخرة أغنم وأجزل؛ ولهذا
جاء في الحديث: « مثل الصانع الذي يحتسب في
صنعته الخير، كمثل أم موسى، ترضع ولدها وتأخذ أجرها » .
وقال
تعالى هاهنا: ( فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ
كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ )
أي:عليك، ( وَقَتَلْتَ نَفْسًا )
يعني:القبطي، ( فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ
الْغَمِّ ) وهو ما حصل له بسبب عزم آل فرعون على قتله ففر منهم هاربًا،
حتى ورد ماء مدين، وقال له ذلك الرجل الصالح: لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ [ القصص:25 ] .
وقوله: (
وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا ) قال الإمام أبو عبد الرحمن
أحمد بن شعيب النسائي، رحمه الله، في كتاب التفسير من سننه، قوله: (
وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا ) :
حديث
الفتون
حدثنا
عبد الله بن محمد، حدثنا يزيد بن هارون، أنبأنا أصبغ بن زيد، حدثنا القاسم بن أبي
أيوب، أخبرني سعيد بن جبير، قال:سألت عبد الله بن عباس عن قول الله، عز وجل،
لموسى، عليه السلام: ( وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا ) فسألته
عن الفتون ما هو؟ فقال:استأنف النهار يا بن جبير، فإن لها حديثًا طويلا. فلما
أصبحت غدوت إلى ابن عباس لأنتجز منه ما وعدني من حديث الفتون، فقال:تذاكر فرعون
وجلساؤه ما كان الله وعد إبراهيم، عليه السلام أن يجعل في ذريته أنبياء وملوكًا،
فقال بعضهم:إن بني إسرائيل ينتظرون ذلك، ما يشكون فيه وكانوا يظنون أنه يوسف بن يعقوب،
فلما هلك قالوا:ليس هكذا كان وعد إبراهيم، فقال فرعون:فكيف ترون؟ فائتمروا وأجمعوا
أمرهم على أن يبعث رجالا معهم الشفار، يطوفون في بني إسرائيل، فلا يجدون مولودًا
ذكرًا إلا ذبحوه. ففعلوا ذلك، فلما رأوا أن الكبار من بني إسرائيل يموتون بآجالهم،
والصغار يذبحون، قالوا:يوشك أن تفنوا بني إسرائيل، فتصيروا إلى أن تباشروا من
الأعمال والخدمة التي كانوا يكفونكم، فاقتلوا عامًا كل مولود ذكر، فيقل أبناؤهم
ودعوا عامًا فلا تقتلوا منهم أحدًا، فيشب الصغار مكان من يموت من الكبار؛ فإنهم لن
يكثروا بمن تستحيون منهم فتخافوا مكاثرتهم إياكم، ولم يفنوا بمن تقتلون وتحتاجون
إليهم، فأجمعوا أمرهم على ذلك.
فحملت أم
موسى بهارون في العام الذي لا يذبح فيه الغلمان، فولدته علانية آمنة. فلما كان من
قابل حملت بموسى، عليه السلام، فوقع في قلبها الهَمّ والحزن، وذلك من الفتون - يا
بن جبير- ما دخل عليه في بطن أمه، مما يراد به، فأوحى الله [ جل
ذكره ] إليها أن وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ
إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [
القصص:7 ] فأمرها إذا ولدت أن تجعله في تابوت ثم تلقيه في اليم. فلما
ولدت فعلت ذلك، فلما توارى عنها ابنُها أتاها الشيطان، فقالت في نفسها:ما فعلت با
بني، لو ذبح عندي فواريته وكفنته، كان أحب إليّ من أن ألقيه إلى دواب البحر
وحيتانه.
فانتهى
الماء به حتى أوفى به عند فُرْضَة مستقى جواري امرأة فرعون، فلما رأينه أخذنه
فهممن أن يفتحن التابوت، فقال بعضهن إن في هذا مالا وإنا إن فتحناه لم تصدقنا
امرأة الملك بما وجدناه فيه، فحملنه كهيئته لم يخرجن منه شيئًا حتى رفعنه إليها.
فلما فتحته رأت فيه غلامًا، فألقى عليه منها محبة لم يلق منها على أحد قط. وأصبح
فؤاد أم موسى فارغًا من ذكر كل شيء، إلا من ذكر موسى.
فلما سمع
الذباحون بأمره، أقبلوا بشفارهم إلى امرأة فرعون ليذبحوه، وذلك من الفتون يا بن
جبير، فقالت لهم:أقروه، فإن هذا الواحد لا يزيد في بني إسرائيل حتى آتى فرعون
فأستوهبه منه، فإن وهبه لي كنتم قد أحسنتم وأجملتم، وإن أمر بذبحه لم ألمكم.
فأتت
فرعون فقالت: قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ [
القصص:9 ] فقال فرعون:يكون لك، فأما لي فلا حاجة لي فيه. فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: « والذي يُحْلَف به لو أقر
فرعون أن يكون قرة عين له كما أقرت امرأته، لهداه الله كما هداها، ولكن حرمه ذلك » .
فأرسلت إلى من حولها، إلى كل امرأة لها لبن لتختار له ظئرًا، فجعل كلما أخذته
امرأة منهن لترضعه لم يقبل على ثديها حتى أشفقت امرأة فرعون أن يمتنع من اللبن
فيموت، فأحزنها ذلك، فأمرت به فأخرج إلى السوق ومجمع الناس، ترجو أن تجد له ظئرًا
تأخذه منها، فلم يقبل، وأصبحت أم موسى والهًا، فقالت لأخته:قصى أثره واطلبيه، هل
تسمعين له ذكرًا، أحيّ ابني أم قد أكلته الدواب؟ ونسيت ما كان الله وعدها فيه،
فبصرت به أخته عن جنب وهم لا يشعرون - والجُنُب:أن يسمو بصر الإنسان إلى شيء بعيد
وهو إلى جنبه وهو لا يشعر به - فقالت من الفرح حين أعياهم الظُّؤُرات:أنا أدلكم
على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون. فأخذوها فقالوا:ما يدريك؟ ما نصحهم له؟ هل
يعرفونه ؟ حتى شكوا في ذلك، وذلك من الفتون يا بن جبير. فقالت:نصحهم له وشفقتهم
عليه رغبتهم في ظؤرة الملك، ورجاء منفعة الملك. فأرسلوها فانطلقت إلى أمها
فأخبرتها الخبر. فجاءت أمه، فلما وضعته في حجرها نـزا إلى ثديها فمصَّه، حتى امتلأ
جنباه ريًا، وانطلق البشراء إلى امرأة فرعون يبشرونها أن قد وجدنا لابنك ظئرًا.
فأرسلت إليها. فأتت بها وبه فلما رأت ما يصنع بها قالت:امكثي ترضعي ابني هذا، فإني
لم أحب شيئًا حبه قط. قالت أم موسى:لا أستطيع أن أدع بيتي وولدي فيضيع، فإن طابت
نفسك أن تعطينيه فأذهب به إلى بيتي، فيكون معي لا آلوه خيرًا [
فعلت، وإلا ] فإني غير تاركة بيتي وولدي. وذكرت أم موسى ما كان الله
وعدها فيه، فتعاسرت على امرأة فرعون، وأيقنت أن الله منجز وعده فرجعت به إلى بيتها
من يومها، [ وأنبته ] الله
نباتا حسنا وحفظه لما قد قضى فيه.
فلم يزل
بنو إسرائيل، وهم في ناحية القرية، ممتنعين من السخرة والظلم ما كان فيهم، فلما
ترعرع قالت امرأة فرعون لأم موسى:أتريني ابني؟ فَوَعَدَتْها يومًا تريها إياه فيه،
وقالت امرأة فرعون لخزانها وظُؤُرها وقهارمتها:لا يبقين أحد منكم إلا استقبل ابني
اليوم بهدية وكرامة لأرى ذلك وأنا باعثة أمينا يحصي ما يصنع كل إنسان منكم، فلم
تزل الهدايا والنحل والكرامة تستقبله من حين خرج من بيت أمه إلى أن دخل على امرأة
فرعون، فلما دخل عليها نحلته وأكرمته، وفرحت به ونحلت أمه لحسن أثرها عليه، ثم
قالت:لآتين به فرعون فَلَيَنْحَلَنَّهُ وليكرمنه، فلما دخلت به عليه جعله في حجره،
فتناول موسى لحية فرعون يمدها إلى الأرض، فقال الغواة من أعداء الله لفرعون:ألا
ترى ما وعد الله إبراهيم نبيه، إنه زعم أن يرثك ويعلوك ويصرعك، فأرسل إلى الذباحين
ليذبحوه. وذلك من الفتون يا بن جبير بعد كل بلاء ابتلي به، وأريد به .
فجاءت
امرأة فرعون فقالت ما بدا لك في هذا الغلام الذي وهبته لي؟ فقال ألا ترينه يزعم
أنه يصرعني ويعلوني! فقالت:اجعل بيني وبينك أمرًا يعرف فيه الحق، ائت بجمرتين
ولؤلؤتين، فَقَرِّبْهُنَّ إليه، فإن بطش باللؤلؤتين واجتنب الجمرتين فاعرف أنه
يعقل، وإن تناول الجمرتين ولم يرد اللؤلؤتين، علمت أن أحدا لا يؤثر الجمرتين على
اللؤلؤتين وهو يعقل. فقرب إليه فتناول الجمرتين، فانتزعهما منه مخافة أن يحرقا
يده، فقالت المرأة:ألا ترى؟ فصرفه الله عنه بعد ما كان قد همّ به، وكان الله بالغا
فيه أمره.
فلما بلغ
أشده وكان من الرجال، لم يكن أحد من آل فرعون يخلص إلى أحد من بني إسرائيل معه
بظلم ولا سخرة، حتى امتنعوا كل الامتناع، فبينما موسى، عليه السلام، يمشي في ناحية
المدينة، إذا هو برجلين يقتتلان، أحدهما فرعوني والآخر إسرائيلي، فاستغاثه
الإسرائيلي على الفرعوني، فغضب موسى غضبًا شديدًا؛ لأنه تناوله وهو يعلم منـزلته
من بني إسرائيل وحفظه لهم، لا يعلم الناس إلا أنما ذلك من الرضاع، إلا أم موسى،
إلا أن يكون الله [ سبحانه ] أطلع
موسى من ذلك على ما لم يطلع عليه غيره. فوكز موسى الفرعوني فقتله، وليس يراهما أحد
إلا الله عز وجل والإسرائيلي، فقال موسى حين قتل الرجل: هَذَا مِنْ عَمَلِ
الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ [
القصص:15 ] . ثم قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي
فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [
القصص:16 ] فأصبح في المدينة خائفًا يترقب الأخبار، فأتى فرعون، فقيل
له:إن بني إسرائيل قتلوا رجلا من آل فرعون فخذ لنا بحقنا ولا ترخص لهم.
فقال:ابغوني قاتله، ومن يشهد عليه، فإن الملك وإن كان صَغْوه مع قومه لا يستقيم له
أن يقيد بغير بينة ولا ثبت، فاطلبوا لي علم ذلك آخذ لكم بحقكم. فبينما هم يطوفون
ولا يجدون ثبتًا، إذا بموسى من الغد قد رأى ذلك الإسرائيلي يقاتل رجلا من آل فرعون
آخر. فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني، فصادف موسى قد ندم على ما كان منه وكره
الذي رأى، فغضب الإسرائيلي وهو يريد أن يبطش بالفرعوني، فقال: للإسرائيلي لما فعل
بالأمس واليوم: إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ فنظر الإسرائيلي إلى موسى بعد ما قال له
ما قال، فإذا هو غضبان كغضبه بالأمس الذي قتل فيه الفرعوني فخاف أن يكون بعد ما
قال له: إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ [
القصص:18 ] أن يكون إياه أراد، ولم يكن أراده، وإنما أراد الفرعوني.
فخاف الإسرائيلي وقال: يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ
نَفْسًا بِالأَمْسِ [ القصص:19 ] وإنما
قاله مخافة أن يكون إياه أراد موسى ليقتله، فتتاركا، وانطلق الفرعوني فأخبرهم بما
سمع من الإسرائيلي من الخبر حين يقول: أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ
نَفْسًا بِالأَمْسِ فأرسل فرعون الذباحين ليقتلوا موسى، فأخذ رسل فرعون في الطريق
الأعظم يمشون على هينتهم يطلبون موسى، وهم لا يخافون أن يفوتهم، فجاء رجل من شيعة
موسى من أقصى المدينة، فاختصر طريقا حتى سبقهم إلى موسى، فأخبره وذلك من الفتون يا
بن جبير.
فخرج
موسى متوجهًا نحو مدين، لم يلق بلاء قبل ذلك، وليس له بالطريق علم إلا حسن ظنه
بربه عز وجل ، فإنه قال: عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ *
وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ
وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ [
القصص:22، 23 ] .
يعني
بذلك حابستين غنمهما، فقال لهما:ما خطبكما معتزلتين لا تسقيان مع الناس؟ قالتا ليس
لنا قوة نـزاحم القوم، إنما ننتظر فضول حياضهم. فسقى لهما، فجعل يغترف في الدلو
ماء كثيرا، حتى كان أول الرعاء، فانصرفتا بغنمهما إلى أبيهما، وانصرف موسى، عليه
السلام، فاستظل بشجرة، وقال: رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ
فَقِيرٌ [ القصص:24 ] .
واستنكر أبوهما سرعة صدورهما بغنمهما حُفَّلا بطانًا فقال:إن لكما اليوم لشأنا،
فأخبرتاه بما صنع موسى، فأمر إحداهما أن تدعوه، فأتت موسى فدعته، فلما كلمه قال:
لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [
القصص:25 ] . ليس لفرعون ولا لقومه علينا سلطان ولسنا في مملكته، فقالت
إحداهما: يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ
الأَمِينُ [ القصص:26 ]
فاحتملته الغيرة على أن قال لها:ما يدريك ما قوته؟ وما أمانته؟ فقالت:أما قوته،
فما رأيت منه في الدلو حين سقى لنا، لم أر رجلا قط أقوى في ذلك السقي منه، وأما
الأمانة فإنه نظر إليّ حين أقبلت إليه وشخصت له، فلما علم أني امرأة صوّب رأسه فلم
يرفعه، حتى بلغته رسالتك. ثم قال لي:امشي خلفي، وانعتي لي الطريق. فلم يفعل هذا
إلا وهو أمين، فسرى عن أبيها وصدقها، وظن به الذي قالت.
فقال
له:هل لك أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ
حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ
عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ [
القصص:27 ] ففعل فكانت على نبي الله موسى ثماني سنين واجبة، وكانت سنتان
عدة منه، فقضى الله عنه عدته فأتمها عشرًا.
قال سعيد
- وهو ابن جبير- :فلقيني رجل من أهل النصرانية من علمائهم قال:هل تدري أيّ الأجلين
قضى موسى؟ قلت:لا. وأنا يومئذ لا أدري. فلقيت ابن عباس، فذكرت له ذلك، فقال:أما
علمت أن ثمانيًا كانت على نبي الله واجبة، لم يكن لنبي الله أن ينقص منها شيئًا،
ويعلم أن الله كان قاضيًا عن موسى عدته التي وعده فإنه قضى عشر سنين. فلقيت
النصراني فأخبرته ذلك، فقال:الذي سألته فأخبرك أعلم منك بذلك. قلت:أجل، وأولى.
فلما سار
موسى بأهله كان من أمر النار والعصا ويده ما قص الله عليك في القرآن، فشكا إلى
الله تعالى ما يتخوف من آل فرعون في القتيل وعقدة لسانه، فإنه كان في لسانه عقدة
تمنعه من كثير من الكلام، وسأل ربه أن يعينه بأخيه هارون، يكون له ردءًا، ويتكلم
عنه بكثير مما لا يفصح به لسانه. فآتاه الله سؤله، وحل عقدة من لسانه، وأوحى الله
إلى هارون وأمره أن يلقاه. فاندفع موسى بعصاه حتى لقي هارون، عليهما السلام.
فانطلقا جميعًا إلى فرعون، فأقاما على بابه حينًا لا يؤذن لهما، ثم أذن لهما بعد
حجاب شديد، فقالا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ [
طه:47 ] . قال:فمن ربكما؟ فأخبره بالذي قص الله عليك في القرآن؟
قال:فما تريدان؟ وذكره القتيل، فاعتذر بما قد سمعت. قال:أريد أن تؤمن بالله، وترسل
معي بنى إسرائيل؟ فأبى عليه وقال: فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ
[ الشعراء:154 ] .
فألقى عصاه [ فإذا هي ] حية
تسعى عظيمة فاغرة فاها، مسرعة إلى فرعون. فلما رآها فرعون قاصدة إليه خافها،
فاقتحم عن سريره واستغاث بموسى أن يكفها عنه. ففعل، ثم أخرج يده من جيبه فرآها
بيضاء من غير سوء - يعني من غير برص- ثم ردها فعادت إلى لونها الأول. فاستشار
الملأ حوله فيما رأى، فقالوا له:هذان ساحران يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ
أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى [
طه:63 ] يعني:ملكهم الذي هم فيه والعيش، وأبوا على موسى أن يعطوه
شيئًا مما طلب، وقالوا له:اجمع السحرة فإنهم بأرضك كثير حتى تغلب بسحرك سحرهما.
فأرسل إلى المدائن فحشر له كل ساحر متعالم، فلما أتوا فرعون قالوا:بم يعمل هذا
الساحر؟ قالوا:يعمل بالحيات. قالوا:فلا والله ما أحد في الأرض يعمل بالسحر بالحيات
والحبال والعصى الذي نعمل. فما أجرنا إن نحن غلبنا؟ قال لهم:أنتم أقاربي وخاصتي،
وأنا صانع إليكم كل شيء أحببتم، فتواعدوا يوم الزينة، وأن يحشر الناس ضحى.
قال سعيد
بن جبير:فحدثني ابن عباس:أن يوم الزينة الذي أظهر الله فيه موسى على فرعون
والسحرة، هو يوم عاشوراء.
فلما
اجتمعوا في صعيد واحد قال الناس بعضهم لبعض:انطلقوا فلنحضر هذا الأمر، لَعَلَّنَا
نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ [
الشعراء:40 ] يعنون موسى وهارون استهزاء بهما، فقالوا:يا موسى -
لقُدْرتهم بسحرهم- إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ
الْمُلْقِينَ [ الأعراف:115 ] قَالَ
بَلْ أَلْقُوا [ طه:66 ]
فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا
لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ [ الشعراء:44 ] فرأى
موسى من سحرهم ما أوجس في نفسه خيفة فأوحى الله إليه أن ألق عصاك، فلما ألقاها
صارت ثعبانًا عظيمة فاغرة فاها، فجعلت العصى تلتبس بالحبال حتى صارت جَزرًا إلى
الثعبان، تدخل فيه، حتى ما أبقت عصا ولا حبالا إلا ابتلعته، فلما عرفت السحرة ذلك
قالوا:لو كان هذا سحرًا لم يبلغ من سحرنا كل هذا، ولكنه أمر من الله عز وجل، آمنا
بالله وبما جاء به موسى، ونتوب إلى الله مما كنا عليه. فكسر الله ظهر فرعون في ذلك
الموطن وأشياعه، وظهر الحق، وبطل ما كانوا يعملون فَغُلِبُوا هُنَالِكَ
وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ [ الأعراف:119 ] وامرأة
فرعون بارزة متبذلة تدعو الله بالنصر لموسى على فرعون وأشياعه، فمن رآها من آل
فرعون ظن أنها إنما ابتذلت للشفقة على فرعون وأشياعه، وإنما كان حزنها وهمها
لموسى.
فلما طال
مكث موسى بمواعيد فرعون الكاذبة، كلما جاء بآية وعده عندها أن يرسل معه بني
إسرائيل، فإذا مضت أخلف موعده وقال:هل يستطيع ربك أن يصنع غير هذا؟ . فأرسل الله
على قومه الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات، كل ذلك يشكو إلى
موسى ويطلب إليه أن يكفها عنه، ويواثقه على أن يرسل معه بني إسرائيل، فإذا كف ذلك
أخلف موعده، ونكث عهده.
حتى أمر
الله موسى بالخروج بقومه فخرج بهم ليلا فلما أصبح فرعون ورأى أنهم قد مضوا أرسل في
المدائن حاشرين، فتبعه بجنود عظيمة كثيرة، وأوحى الله إلى البحر:إذا ضربك عبدي
موسى بعصاه فانفلق اثنتي عشرة فرقة، حتى يجوز موسى ومن معه، ثم التق على من بقي بعد
من فرعون وأشياعه. فنسي موسى أن يضرب البحر بالعصا وانتهى إلى البحر وله قصيف،
مخافة أن يضربه موسى بعصاه وهو غافل فيصير عاصيًا لله.
فلما
تراءى الجمعان وتقاربا، قال أصحاب موسى:إنا لمدركون، افعل ما أمرك به ربك، فإنه لم
يكذب ولم تكذب. قال وعدني أن إذا أتيت البحر انفرق اثنتي عشرة فرقة، حتى أجاوزه.
ثم ذكر بعد ذلك العصا فضرب البحر بعصاه حين دنا أوائل جند فرعون من أواخر جند
موسى، فانفرق البحر كما أمره ربه وكما وعد موسى، فلما أن جاز موسى وأصحابه كلهم
البحر، ودخل فرعون وأصحابه، التقى عليهم البحر كما أمر، فلما جاوز موسى البحر قال
أصحابه:إنا نخاف ألا يكون فرعون غرق ولا نؤمن بهلاكه. فدعا ربه فأخرجه له ببدنه
حتى استيقنوا بهلاكه.
ثم مروا
بعد ذلك على قوم يعكفون على أصنام لهم: قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا
كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * إِنَّ هَؤُلاءِ
مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [
الأعراف:138، 139 ] . قد رأيتم من العِبَر وسمعتم
ما يكفيكم ومضى. فأنـزلهم موسى منـزلا وقال أطيعوا هارون، فإني قد استخلفته عليكم،
فإني ذاهب إلى ربي. وأجلهم ثلاثين يومًا أن يرجع إليهم فيها، فلما أتى ربه وأراد
أن يكلمه في ثلاثين يومًا وقد صامهن، ليلهن ونهارهن، وكره أن يكلم ربه وريح فيه
ريح فم الصائم، فتناول موسى من نبات الأرض شيئًا فمضغه، فقال له ربه حين أتاه:لم
أفطرت؟ وهو أعلم بالذي كان، قال:يا رب، إني كرهت أن أكلمك إلا وفمي طيب الريح.
قال:أوما علمت يا موسى أن ريح فم الصائم أطيب من ريح المسك، ارجع فصم عشرًا ثم
ائتني. ففعل موسى، عليه السلام، ما أمر به، فلما رأى قوم موسى أنه لم يرجع إليهم
في الأجل، ساءهم ذلك. وكان هارون قد خطبهم وقال:إنكم قد خرجتم من مصر، ولقوم فرعون
عندكم عواري وودائع، ولكم فيهم مثل ذلك وأنا أرى أنكم تحتسبون ما لكم عندهم، ولا
أحل لكم وديعة استودعتموها ولا عارية، ولسنا برادين إليهم شيئًا من ذلك ولا ممسكيه
لأنفسنا، فحفر حفيرا، وأمر كل قوم عندهم من ذلك من متاع أو حلية أن يقذفوه في ذلك
الحفير، ثم أوقد عليه النار فأحرقه، فقال لا يكون لنا ولا لهم.
وكان
السامري من قوم يعبدون البقر، جيران لبني إسرائيل ولم يكن من بني إسرائيل، فاحتمل
مع موسى وبني إسرائيل حين احتملوا، فقضي له أن رأى أثرًا فقبض منه قبضة، فمر
بهارون، فقال له هارون، عليه السلام:يا سامري، ألا تلقي ما في يدك؟ وهو قابض عليه،
لا يراه أحد طوال ذلك، فقال:هذه قبضة من أثر الرسول الذي جاوز بكم البحر، ولا
ألقيها لشيء إلا أن تدعو الله إذا ألقيتها أن يكون ما أريد. فألقاها، ودعا له
هارون، فقال:أريد أن يكون عجلا. فاجتمع ما كان في الحفيرة من متاع أو حلية أو نحاس
أو حديد، فصار عجلا أجوف. ليس فيه روح، وله خوار.
قال ابن
عباس:لا والله، ما كان له صوت قط، إنما كانت الريح تدخل في دبره وتخرج من فيه،
فكان ذلك الصوت من ذلك.
فتفرق
بنو إسرائيل فرقًا، فقالت فرقة:يا سامري ما هذا؟ وأنت أعلم به. قال:هذا ربكم ولكن
موسى أضل الطريق. وقالت فرقة:لا نكذب بهذا حتى يرجع إلينا موسى، فإن كان ربنا لم
نكن ضيعناه وعجزنا فيه حين رأيناه، وإن لم يكن ربنا فإنا نتبع قول موسى. وقالت
فرقة:هذا عمل الشيطان، وليس بربنا ولا نؤمن به ولا نصدق، وأشرب فرقة في قلوبهم
الصدق بما قال السامري في العجل، وأعلنوا التكذيب به، فقال لهم هارون: يَا قَوْمِ
إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ [
طه:90 ] . قالوا فما بال موسى وعدنا ثلاثين يومًا ثم أخلفنا، هذه
أربعون يومًا قد مضت؟ وقال سفهاؤهم:أخطأ ربه فهو يطلبه ويتبعه.
فلما كلم
الله موسى وقال له ما قال، أخبره بما لقي قومه من بعده، فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى
قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا [ طه:86 ] فقال
لهم ما سمعتم في القرآن، وأخذ برأس أخيه يجره إليه، وألقى الألواح من الغضب، ثم
إنه عذر أخاه بعذره، واستغفر له وانصرف إلى السامري فقال له:ما حملك على ما صنعت؟
قال:قبضت قبضة من أثر الرسول، وفطنت لها وعميت عليكم فقذفتها وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ
لِي نَفْسِي * قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا
مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي
ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ
نَسْفًا [ طه:96، 97 ] ولو
كان إلها لم يخلص إلى ذلك منه. فاستيقن بنو إسرائيل بالفتنة، واغتبط الذين كان
رأيهم فيه مثل رأي هارون، فقالوا لجماعتهم:يا موسى، سل لنا ربك أن يفتح لنا باب
توبة نصنعها، فيكفر عنا ما عملنا. فاختار موسى قومه سبعين رجلا لذلك، لا يألو
الخير، خيار بني إسرائيل، ومن لم يشرك في العجل، فانطلق بهم يسأل لهم التوبة،
فرجفت بهم الأرض، فاستحيا نبي الله من قومه ومن وفده حين فعل بهم ما فعل فقال:
رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ
السُّفَهَاءُ مِنَّا [ الأعراف:155 ] وفيهم
من كان اطلع الله منه على ما أشرب قلبه من حب العجل وإيمانه به، فلذلك رجفت بهم
الأرض، فقال: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ
يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ *
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ
مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ [
الأعراف:156، 157 ] . فقال:يا رب، سألتك التوبة
لقومي، فقلت:إن رحمتي كتبتها لقوم غير قومي، هلا أخرتني حتى تخرجني في أمة ذلك
الرجل المرحومة؟ فقال له:إن توبتهم أن يقتل كل رجل منهم من لقي من والد وولد،
فيقتله بالسيف، ولا يبالي من قتل في ذلك الموطن، وتاب أولئك الذين كان خفي على
موسى وهارون واطلع الله من ذنوبهم فاعترفوا بها، وفعلوا ما أمروا، وغفر الله
للقاتل والمقتول.
ثم سار
بهم موسى، عليه السلام متوجها نحو الأرض المقدسة، وأخذ الألواح بعد ما سكت عنه
الغضب، فأمرهم بالذي أمر به أن يبلغهم من الوظائف، فثقل ذلك عليهم، وأبوا أن يقروا
بها، فنتق الله عليهم الجبل كأنه ظلة، ودنا منهم حتى خافوا أن يقع عليهم فأخذوا
الكتاب بأيمانهم وهم مصغون ينظرون إلى الجبل، والكتاب بأيديهم، وهم من وراء الجبل
مخافة أن يقع عليهم. ثم مضوا حتى أتوا الأرض المقدسة، فوجدوا مدينة فيها قوم
جبارون خَلْقُهُم خَلْق منكر - وذكروا من ثمارهم أمرًا عجيبًا من عظمها- فقالوا:يا
موسى إن فيها قومًا جبارين، لا طاقة لنا بهم، ولا ندخلها ما داموا فيها، فإن
يخرجوا منها فإنا داخلون. قال رجلان من الذين يُخَافُون- قيل ليزيد:هكذا قرأه؟
قال:نعم من الجبارين، آمنا بموسى، وخرجا إليه، فقالوا:نحن أعلم بقومنا إن كنتم
إنما تخافون ما رأيتم من أجسامهم وعددهم، فإنهم لا قلوب لهم ولا مَنَعَة عندهم،
فادخلوا عليهم الباب، فإذا دخلتموه فإنكم غالبون- ويقول أناس:إنهم من قوم موسى.
فقال الذين يخافون، بنو إسرائيل: [
قَالُوا ] يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا
فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [
المائدة:24 ] فأغضبوا موسى، فدعا عليهم وسماهم فاسقين، ولم يدع عليهم قبل
ذلك، لما رأى منهم من المعصية وإساءتهم حتى كان يومئذ فاستجاب الله له وسماهم كما
سماهم فاسقين، فحرمها عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض، يصبحون كل يوم فيسيرون،
ليس لهم قرار، ثم ظلل عليهم الغمام في التيه، وأنـزل عليهم المنّ والسلوى، وجعل
لهم ثيابًا لا تبلى ولا تتسخ، وجعل بين ظهرانيهم حجرًا مربعًا، وأمر موسى فضربه
بعصاه. فانفجرت منه اثنتا عشرة عينًا، في كل ناحية ثلاث أعين، وأعلم كل سِبْط
عينهم التي يشربون منها، فلا يرتحلون من مَنْقَلَة إلا وجدوا ذلك الحجر معهم
بالمكان الذي كان فيه بالأمس.
رفع ابن
عباس هذا الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وصَدَّقَ ذلك عندي أن معاوية سمع
ابن عباس يحدث هذا الحديث، فأنكر عليه أن يكون الفرعوني الذي أفشى على موسى أمر
القتيل الذي قتل، فقال:كيف يُفْشي عليه ولم يكن علم به ولا ظهر عليه إلا
الإسرائيلي الذي حضر ذلك؟. فغضب ابن عباس، فأخذ بيد معاوية فانطلق به إلى سعد بن
مالك الزهري، فقال له:يا أبا إسحاق، هل تذكر يوم حدثنا رسول الله صلى الله عليه
وسلم عن قتيل موسى الذي قتل من آل فرعون؟ الإسرائيلي الذي أفشى عليه أم الفرعوني؟
قال:إنما أفشى عليه الفرعوني، بما سمع من الإسرائيلي الذي شهد على ذلك وحضره.
هكذا
رواه الإمام النسائي في السنن الكبرى، وأخرجه أبو جعفر بن جرير وابن أبي حاتم في
تفسيريهما كلهم من حديث يزيد بن هارون به وهو موقوف من كلام ابن عباس، وليس فيه
مرفوع إلا قليل منه، وكأنه تلقاه ابن عباس، رضي الله عنه مما أبيح نقله من
الإسرائيليات عن كعب الأحبار أو غيره، والله أعلم. وسمعت شيخنا الحافظ أبا الحجاج
المزي يقول ذلك أيضًا.
فَلَبِثْتَ
سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى ( 40 )
وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي ( 41 )
اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي ( 42 )
اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ( 43 )
فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ( 44 )
يقول
تعالى مخاطبًا لموسى، عليه السلام:إنه لبث مقيمًا في أهل « مدين » فارًا
من فرعون وملئه، يرعى على صهره، حتى انتهت المدة وانقضى الأجل، ثم جاء موافقًا
لقدر الله وإرادته من غير ميعاد، والأمر كله لله تبارك وتعالى، وهو المسير عباده
وخلقه فيما يشاء؛ ولهذا قال: ( ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ
يَا [ مُوسَى ] ) قال
مجاهد:أي على موعد.
وقال عبد
الرزاق، عن مَعْمَر، عن قتادة في قوله: ( ثُمَّ
جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى ) قال:على قدر الرسالة
والنبوّة.
وقوله: (
وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي ) أي:اصطفيتك واجتبيتك رَسُولا
لنفسي، أي:كما أريد وأشاء.
وقال
البخاري عند تفسيرها:حدثنا الصَّلْتُ بن محمد، حدثنا مهديّ بن ميمون، حدثنا محمد
ابن سِيرين عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « التقى
آدم وموسى، فقال موسى:أنت الذي أشقيت الناس وأخرجتهم من الجنة؟ فقال آدم:وأنت الذي
اصطفاك الله برسالته واصطفاك لنفسه، وأنـزل عليك التوراة؟ قال:نعم. قال:فوجدتَه قد
كتب عَليّ قبل أن يخلقني؟ قال:نعم. فحَجّ آدم موسى » أخرجاه
.
(
اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي )
أي:بحُجَجي وبراهيني ومعجزاتي، ( وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي ) قال
علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس:لا تُبْطئا.
وقال
مجاهد، عن ابن عباس:لا تَضْعُفا.
والمراد
أنهما لا يفتران في ذكر الله، بل يذكران الله في حال مواجهة فرعون، ليكون ذكرُ
الله عونًا لهما عليه، وقوّة لهما وسلطانًا كاسرًا له، كما جاء في الحديث: « إن
عبدي كل عبدي للذي يذكرني وهو مُنَاجِز قِرْنه » .
(
اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى )
أي:تمرّد وعتا وتَجَهْرم على الله وعصاه،
(
فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ) هذه
الآية فيها عبرة عظيمة، وهو أن فرعون في غاية العتو والاستكبار، وموسى صفوة الله
من خلقه إذ ذاك، ومع هذا أمر ألا يخاطب فرعون إلا بالملاطفة واللين، كما قال يزيد
الرقاشي عند قوله: ( فَقُولا لَهُ قَوْلا
لَيِّنًا ) :يا من يتحبب إلى من يعاديه فكيف بمن يتولاه ويناديه؟
وقال وهب
بن مُنَبه:قولا له:إني إلى العفو والمغفرة أقربُ مني إلى الغضب والعقوبة.
وعن
عكرمة في قوله: ( فَقُولا لَهُ قَوْلا
لَيِّنًا ) قال:لا إله إلا الله، وقال عمرو بن عبيد، عن الحسن البصري:
( فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا ) أعْذرا
إليه، قولا له:إن لك ربًا ولك معادًا، وإن بين يديك جنة ونارا.
وقال بقيَّة،
عن علي بن هارون، عن رجل، عن الضحاك بن مُزَاحم، عن النـزال بن سَبْرَة، عن علي في
قوله: ( فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا )
قال:كَنِّه.
وكذا روي
عن سفيان الثوري:كَنّه بأبي مُرَّة.
والحاصل
من أقوالهم أن دعوتهما له تكون بكلام رقيق لين قريب سهل، ليكون أوقع في النفوس
وأبلغ وأنجع، كما قال تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ
وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ الآية [
النحل:125 ] .
[
قوله ] ( لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ
يَخْشَى ) أي:لعله يرجع عما هو فيه من الضلال والهلكة، ( أَوْ
يَخْشَى ) أي:يُوجد طاعة من خشية ربه، كما قال تعالى:
( لمن
أراد أن يذكر أو يخشى ) فالتذكر:الرجوع عن المحذور،
والخشية:تحصيل الطاعة.
وقال
الحسن البصري [ في قوله ]
لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ) يقول:لا تقل أنت يا موسى وأخوك
هارون:أهْلكْه قبل أن أعذر إليه.
وهاهنا
نذكر شعر زيد بن عمرو بن نفيل، ويروى لأمَيّة بن أبي الصَّلْت فيما ذكره ابن
إسحاق:
وأنـت الـذي من فضـل مَـنٍّ ورحمة بعثـت إلـى موســى رسـولا
مناديا
فقلـت لـه يـا اذهب وهارون فادعُوَا إلـى اللـه فرعـون الذي
كـان باغيا
فقـولا لـه هــل أنت سوّيـت هـذه بــلا وتــد حتـى استقلت
كمـا هيا
وقـــولا لــه آأنت رَفَّعت هـــذه بـــلا عمـد? أرفـق إذن بك
بـانيا
وقــولا لــه آأنت سويــت وسطها مـنـيرًا إذا مـا جَنَّه
الليـل هـاديــا
وقــولا لـه من يخرج الشمس بكـرةً فيصبـح ما مست مـن الأرض
ضاحيـا
وقـولا لـه من ينبت الحب في الثـرى فـيصبـح منــه البقـل
يهـتـز رابيا
ويخــرج منـه حبـه فـي رءوسه ففــي ذاك آيـــات لمن كان واعيا
قَالا
رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى ( 45 )
قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ( 46 )
فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي
إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ
عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى ( 47 )
إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ( 48 )
يقول
تعالى إخبارًا عن موسى وهارون، عليهما السلام، أنهما قالا مستجيرين بالله تعالى
شاكيَيْن إليه: ( إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ
يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى ) يعنيان
أن يَبْدُر إليهما بعقوبة، أو يعتدي عليهما فيعاقبهما وهما لا يستحقان منه ذلك.
قال عبد
الرحمن بن زيد: ( أَنْ يَفْرُطَ ) يعجل.
وقال
مجاهد:يبسط علينا.
وقال
الضحاك، عن ابن عباس: ( أَوْ أَنْ يَطْغَى )
:يعتدي.
( قَالَ
لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ) أي:لا
تخافا منه، فإنني معكما أسمع كلامكما وكلامه، وأرى مكانكما ومكانه، لا يخفى عليّ
من أمركم شيء، واعلما أن ناصيته بيدي، فلا يتكلم ولا يتنفس ولا يبطش إلا بإذني
وبعد أمري، وأنا معكما بحفظي ونصري وتأييدي.
وقال ابن
أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا علي بن محمد الطَّنَافِسيّ، حدثنا أبو معاوية، عن
الأعمش، عن عمرو بن مُرَّة، عن أبي عبيدة، عن عبد الله قال:لما بعث اللهُ عزّ وجل
موسى إلى فرعون قال:رب، أيّ شيء أقول؟ قال قل:هيا شراهيا. قال الأعمش:فَسَّرَ
ذلك:الحي قبل كل شيء، والحي بعد كل شيء. إسناد جيد، وشيء غريب.
(
فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ ) ، قد
تقدم في حديث « الفتون » عن ابن عباس أنه قال:مكثا على
بابه حينًا لا يؤذن لهما، ثم أذن لهما بعد حجاب شديد.
وذكر
محمد بن إسحاق بن يسار:أن موسى وأخاه هارون خرجا، فوقفا بباب فرعون يلتمسان الإذن
عليه وهما يقولان:إنا رسل رب العالمين، فآذنوا بنا هذا الرجل، فمكثا فيما بلغني
سنتين يَغْدوان ويروحان، لا يعلم بهما ولا يجترئ أحد على أن يخبره بشأنهما، حتى
دخل عليه بَطَّال له يلاعبه ويُضْحكه، فقال له:أيها الملك، إن على بابك رجلا يقول
قولا عجيبًا، يزعم أن له إلهًا غيرك أرسله إليك. قال:ببابي؟ قال:نعم. قال:أدخلوه،
فدخل ومعه أخوه هارون وفي يده عصاه، فلما وقف على فرعون قال:إني رسول رب العالمين.
فعرفه فرعون.
وذكر
السّدّي أنه لما قدم بلاد مصر، ضاف أمّه وأخاه وهما لا يعرفانه، وكان طعامهما
ليلتئذ الطعثلل وهو اللفت، ثم عرفاه وسلما عليه، فقال له موسى:يا هارون، إن ربي قد
أمرني أن آتي هذا الرجل فرعون فأدعوه إلى الله، وأمر أن تعاونني. قال:افعل ما أمرك
ربك. فذهبا، وكان ذلك ليلا فضرب موسى باب القصر بعصاه، فسمع فرعون فغضب وقال من
يجترئ على هذا الصنيع؟ فأخبره السدنة والبوابون بأن هاهنا رجلا مجنونًا يقول:إنه
رسول الله. فقال:عليّ به. فلما وقفا بين يديه قالا وقال لهما ما ذكر الله في
كتابه.
وقوله: ( قَدْ
جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ ) أي:بدلالة ومعجزة من ربك، (
وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى )
أي:والسلام عليك إن اتبعت الهدى.
ولهذا
لما كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل عظيم الروم [
كتابًا، كان أوله: « بسم الله الرحمن الرحيم، من
محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم ]
سلام على من اتبع الهدى. أما بعد، [ فإني أدعوك بدعاية الإسلام ] فأسلم تسلم يؤتك
الله أجرك مرتين » .
وكذلك لما
كتب مسيلمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابًا صُورَتُه: « من
مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله، سلام عليك. أما بعد، فإني قد أشركت في الأمر
مَعَكَ، فلك المدر ولي الوبر، ولكن قريش قوم يعتدون » . فكتب
إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من
محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإن الأرض
لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين » .
ولهذا
قال موسى وهارون، عليهما السلام، لفرعون: (
وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى * إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ
الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ) أي:قد
أخبرنا الله فيما أوحاه إلينا من الوحي المعصوم أن العذاب متحمض لمن كذب بآيات
الله وتولى عن طاعته، كما قال تعالى: فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ
الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى [
النازعات:37 - 39 ] وقال تعالى: فَأَنْذَرْتُكُمْ
نَارًا تَلَظَّى * لا يَصْلاهَا إِلا الأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى [
الليل:14 - 16 ] وقال تعالى: فَلا صَدَّقَ
وَلا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [
القيامة:31، 32 ] . أي:كذب بقلبه وتولى بفعله.
قَالَ
فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى ( 49 )
قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ( 50 )
قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى ( 51 )
يقول تعالى مخبرًا عن فرعون أنه
قال لموسى منكرًا وجود الصانع الخالق، إله كل شيء وربه ومليكه، قال: (
فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى ) أي:الذي بعثك وأرسلك مَنْ هو؟
فإني لا أعرفه، وما علمت لكم من إله غيري، ( قَالَ
رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ) . قال
علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس يقول:خلق لكل شيء زَوْجة.
وقال الضحاك عن ابن عباس:جعل
الإنسان إنسانًا، والحمار حمارًا، والشاة شاةً.
وقال ليث بن أبي سُلَيم، عن
مجاهد:أعطى كل شيء صورته.
وقال ابن أبي نَجِيح، عن
مجاهد:سَوّى خلق كل دابة.
وقال سعيد بن جبير في قوله: (
أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى )
قال:أعطى كل ذي خَلْق ما يصلحه من خَلْقه، ولم يجعل للإنسان من خَلْق الدابة، ولا
للدابة من خلق الكلب، ولا للكلب من خلق الشاة، وأعطى كل شيء ما ينبغي له من
النكاح، وهيّأ كلّ شيء على ذلك، ليس شيء منها يشبه شيئًا من أفعاله في الخَلْق
والرزق والنكاح.
وقال بعض المفسرين: (
أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ) كقوله
تعالى: وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى [
الأعلى:3 ] أي:قدر قدرًا، وهدى الخلائق إليه، أي:كَتَب الأعمال والآجال
والأرزاق، ثم الخلائق ماشون على ذلك، لا يحيدون عنه، ولا يقدر أحد على الخروج منه.
يقول:ربنا الذي خلق [ الخلق ] وقدر القَدَر،
وجَبَل الخليقة على ما أراد.
( قَالَ
فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأولَى ) أصح الأقوال في معنى ذلك:أن
فرعون لما أخبره موسى بأن ربه الذي أرسله هو الذي خلق ورزق وقدر فهدى، شرع يحتج
بالقرون الأولى، أي:الذين لم يعبدوا الله، أي:فما بالهم إذا كان الأمر كما تقول،
لم يعبدوا ربك بل عبدوا غيره؟
قَالَ
عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى ( 52 ) .
فقال له
موسى في جواب ذلك:هم وإن لم يعبدوه فإن عملهم عند الله مضبوط عليهم، وسيجزيهم
بعملهم في كتاب الله، وهو اللوح المحفوظ وكتاب الأعمال، ( لا
يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى ) أي:لا يشذ عنه شيء، ولا يفوته
صغير ولا كبير، ولا ينسى شيئًا. يصف علمه تعالى بأنه بكل شيء محيط، وأنه لا ينسى
شيئًا، تبارك وتعالى وتقدس، فإن علم المخلوق يعتريه نقصانان أحدهما:عدم الإحاطة
بالشيء، والآخر نسيانه بعد علمه، فنـزه نفسه عن ذلك.
الَّذِي
جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلا وَأَنْزَلَ مِنَ
السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى ( 53 )
كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُولِي النُّهَى ( 54 ) مِنْهَا
خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى ( 55 )
وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى ( 56 ) .
هذا من
تمام كلام موسى فيما وصف به ربه، عز وجل، حين سأله فرعون عنه، فقال: الَّذِي
أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ، ثم اعترض الكلام بين ذلك، ثم قال: (
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ مِهَادًا ) وفي
قراءة بعضهم « مهدا » أي:قرارا تستقرون عليها
وتقومون وتنامون عليها وتسافرون على ظهرها، (
وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلا ) أي:جعل لكم طرقا تمشون في
مناكبها، كما قال تعالى: وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلا لَعَلَّهُمْ
يَهْتَدُونَ [ الأنبياء:31 ] .
( وَأَنـزلَ مِنَ السَّمَاءِ
مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى ) أي: [ من ] ألوان
النباتات من زروع وثمار، ومن حامض وحلو، وسائر الأنواع.
( كُلُوا
وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ ) أي:شيء لطعامكم وفاكهتكم،
وشيء لأنعامكم لأقواتها خضرا ويابسًا.
( إِنَّ
فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ ) أي:لدلالات وحججا وبراهين (
لأولِي النُّهَى ) أي:لذوي العقول السليمة
المستقيمة، على أنه لا إله إلا الله، ولا رب سواه .
( مِنْهَا
خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى )
أي:من
الأرض مبدؤكم، فإن أباكم آدم مخلوق من تراب من أديم الأرض، (
وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ ) أي:وإليها تصيرون إذا متم
وبليتم، ومنها نخرجكم تارة أخرى. يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ
وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا [
الإسراء:52 ] .
وهذه
الآية كقوله تعالى: قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا
تُخْرَجُونَ [ الأعراف:25 ] .
وفي
الحديث الذي في السنن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حضر جنازة، فلما دفن الميت
أخذ قبضة من التراب فألقاها في القبر ثم قال (
مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ ) ثم [ أخذ
] أخرى وقال: (
وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ ) . ثم أخذ أخرى وقال: (
وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى ) .
وقوله (
وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى ) ،
يعني:فرعون، أنه قامت عليه الحجج والآيات والدلالات وعاين ذلك وأبصره، فكذب بها
وأباها كفرا وعنادا وبغيا، كما قال تعالى: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا
أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ
[ النمل:14 ] .
قَالَ
أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى ( 57 )
فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لا
نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى ( 58 )
قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى ( 59 ) .
يقول
تعالى مخبرًا عن فرعون أنه قال لموسى حين أراه الآية الكبرى، وهي إلقاء عصاه فصارت
ثعبانًا عظيما ونـزع يده من تحت جناحه فخرجت بيضاء من غير سوء فقال:هذا سحر، جئت
به لتسحرنا وتستولي به على الناس، فيتبعونك وتكاثرنا بهم، ولا يتم هذا معك، فإن
عندنا سحرًا مثل سحرك، فلا يغرنك ما أنت فيه (
فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا )
أي:يومًا نجتمع نحن وأنت فيه، فنعارض ما جئت به بما عندك من السحر في مكان معين
ووقت معين فعند ذلك ( قال ) لَهُمْ
مُوسَى ( مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ ) وهو
يوم عيدهم ونَوروزُهم وتفرغهم من أعمالهم واجتماعهم جميعهم؛ ليشاهد الناس قدرة
الله على ما يشاء، ومعجزات الأنبياء، وبطلان معارضة السحر لخوارق العادات النبوية،
ولهذا قال: ( وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ )
أي:جميعهم ( ضُحًى ) أي:ضحوة من النهار ليكون أظهر
وأجلى وأبين وأوضح، وهكذا شأن الأنبياء، كل أمرهم واضح، بيّن، ليس فيه خفاء ولا
ترويج؛ ولهذا لم يقل « ليلا » ولكن
نهارًا ضحى.
قال ابن
عباس:وكان يوم الزينة يوم عاشوراء.
وقال
السدي، وقتادة، وابن زيد:كان يوم عيدهم.
وقال
سعيد بن جبير:يوم سوقهم.
ولا منافاة.
قلت:وفي مثله أهلك الله فرعون وجنوده، كما ثبت في الصحيح.
وقال وهب
بن مُنَبِّه:قال فرعون:يا موسى، اجعل بيننا وبينك أجلا ننظر فيه. قال موسى:لم أومر
بهذا، إنما أمرت بمناجزتك، إن أنت لم تخرج دخلت إليك. فأوحى الله إلى موسى أن اجعل
بينك وبينه أجلا وقل له أن يجعل هو. قال فرعون:اجعله إلى أربعين يومًا. ففعل.
وقال
مجاهد، وقتادة: ( مَكَانًا سُوًى )
مَنْصَفًا. وقال السدي:عدلا. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: (
مَكَانًا سُوًى ) [
مستوى ] يتبين الناس ما فيه، لا يكون صَوَب ولا شيء يتغيب بعض ذلك
عن بعض مستوٍ حتى يُرى.
فَتَوَلَّى
فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى ( 60 )
قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا
فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى ( 61 )
فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى ( 62 )
قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ
بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى ( 63 )
فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ
اسْتَعْلَى ( 64 )
يقول تعالى مخبرًا عن فرعون أنه
لما تواعد هو بموسى عليه السلام، إلى وقت ومكان معلومين، تولى، أي:شرع في جمع
السحرة من مدائن مملكته، كل من ينسب إلى سحر في ذلك الزمان. وقد كان السحر فيهم
كثيرًا نافقًا جدًا، كما قال تعالى: وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ
عَلِيمٍ [ يونس:79 ] .
( ثُمَّ
أَتَى ) أي:اجتمع الناس لميقات يوم معلوم وهو يوم الزينة، وجلس
فرعون على سرير مملكته، واصطف له أكابر دولته، ووقفت الرعايا يمنة ويسرة وأقبل
موسى، عليه السلام، يتوكأ على عصاه، ومعه أخوه هارون، ووقف السحرة بين يدي فرعون
صفوفًا، وهو يحرضهم ويحثهم، ويرغبهم في إجادة عملهم في ذلك اليوم، ويتمنون عليه،
وهو يعدهم ويمنيهم، فيقولون: أَئِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ
الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ [
الشعراء:41 ، 42 ] . ( قَالَ
لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ) أي:لا
تُخَيّلُوا للناس بأعمالكم إيجاد أشياء لا حقائق لها، وأنها مخلوقة، وليست مخلوقة،
فتكونون قد كذبتم على الله، ( فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ )
أي:يهلككم بعقوبة هلاكًا لا بقية له، (
وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى * فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ )
قيل:معناه:أنهم تشاجروا فيما بينهم فقائل يقول:ليس هذا بكلام ساحر، إنما هذا كلام
نبي. وقائل يقول:بل هو ساحر. وقيل غير ذلك، والله أعلم.
وقوله: (
وَأَسَرُّوا النَّجْوَى ) أي:تناجوا فيما بينهم، (
قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ ) هذه لغة
لبعض العرب، جاءت هذه القراءة على إعرابها، ومنهم من قرأ: « إنْ
هَذَينِ لَسَاحِرَانِ » وهذه اللغة المشهورة، وقد توسع
النحاة في الجواب عن القراءة الأولى بما ليس هذا موضعه.
والغرض أن السحرة قالوا فيما
بينهم:تعلمون أن هذا الرجل وأخاه - يعنون:موسى وهارون- ساحران عالمان خبيران
بصناعة السحر، يريدان في هذا اليوم أن يغلباكم وقومكم ويستوليا على الناس،
وتتبعهما العامة ويقاتلا فرعون وجنوده، فينتصرا عليه ويخرجاكم من أرضكم.
وقوله: (
وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى )
أي:ويستبدا بهذه الطريقة، وهي السحر، فإنهم كانوا معظَّمين بسببها، لهم أموال
وأرزاق عليها، يقولون: إذا غلب هذان أهلكاكم وأخرجاكم من الأرض، وتفردا بذلك،
وتمحضت لهما الرياسة بها دونكم.
وقد تقدم في حديث الفتون عن ابن
عباس [ قال ] في قوله: (
وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى )
يعني:ملكهم الذي هم فيه والعيش.
وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي،
حدثنا نعيم بن حماد، حدثنا هُشَيْم، عن عبد الرحمن بن إسحاق، سمع الشعبي يحدث عن
علي في قوله: ( وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ
الْمُثْلَى ) قال:يصرفا وجوه الناس إليهما.
وقال مجاهد: (
وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى )
قال:أولي الشرف والعقل والأسنان.
وقال أبو صالح: (
بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى ) أشرافكم وسرواتكم. وقال
عكرمة:بخيركم. وقال قتادة:وطريقتهم المثلى يومئذ بنو إسرائيل، كانوا أكثر القوم
عددا وأموالا فقال عدو الله:يريدان أن يذهبا بها لأنفسهما.
وقال عبد الرحمن بن زيد: (
بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى ) بالذي أنتم عليه.
وقوله (
فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا ) أي
اجتمعوا كلكم صفًّا واحدًا، وألقوا ما في أيديكم مرة واحدة، لتبهروا الأبصار،
وتغلبوا هذا وأخاه، ( وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ
مَنِ اسْتَعْلَى ) أي:منا ومنه، أما نحن فقد
وعدنا هذا الملك العطاء الجزيل، وأما هو فينال الرياسة العظيمة.
قَالُوا
يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى ( 65 )
قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ
سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى ( 66 )
فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى ( 67 )
قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى ( 68 )
وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ
سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى ( 69 )
فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى ( 70 ) .
يقول
تعالى مخبرًا عن السحرة حين توافقوا هم وموسى، عليه السلام، أنهم قالوا لموسى: (
إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ ) أي:أنت أولا (
إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى * قَالَ بَلْ
أَلْقُوا ) أي:أنتم أولا ليُرى ماذا تصنعون من السحر، وليظهر للناس
جلية أمرهم، ( فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ
مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى ) . وفي
الآية الأخرى أنهم لما ألقوا وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ
الْغَالِبُونَ [ الشعراء:44 ] وقال
تعالى: سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ
[ الأعراف:116 ] ، وقال
هاهنا ( فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ
مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى ) .
وذلك
أنهم أودعوها من الزئبق ما كانت تتحرك بسببه وتضطرب وتميد، بحيث يخيل للناظر أنها
تسعى باختيارها، وإنما كانت حيلة، وكانوا جمًّا غفيرًا وجمعًا كبيرًا فألقى كل
منهم عصا وحبلا حتى صار الوادي ملآن حيات يركب بعضها بعضًا.
وقوله: (
فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى ) أي خاف
على الناس أن يَفْتَتِنوا بسحرهم ويغتروا بهم قبل أن يلقي ما في يمينه، فأوحى الله
تعالى إليه في الساعة الراهنة أن (
وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ ) يعني:عصاه، فإذا هي (
تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا ) وذلك أنها صارت تِنِّينًا
عظيما هائلا ذا عيون وقوائم وعنق ورأس وأضراس، فجعلت تتبع تلك الحبال والعصي حتى
لم تبق منها شيئًا إلا تلقفته وابتلعته، والسحرة والناس ينظرون إلى ذلك عيانًا
جَهْرة، نهارًا ضحوة. فقامت المعجزة، واتضح البرهان، وبطل ما كانوا يعملون ؛ ولهذا
قال تعالى: ( إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ
السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى ) .
وقال ابن
أبي حاتم حدثنا أبي، حدثنا محمد بن موسى الشيباني حدثنا حماد بن خالد، حدثنا ابن
معاذ - أحسبه الصائغ- عن الحسن، عن جُنْدَب بن عبد الله البجلي قال:قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم « إذا أخذتم - يعني الساحر-
فاقتلوه » ثم قرأ: ( وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ
حَيْثُ أَتَى ) قال: « لا يؤمن به حيث وجد » .
وقد روى
أصله الترمذي موقوفًا ومرفوعًا .
فلما
عاين السحرة ذلك وشاهدوه، ولهم خبرة بفنون السحر وطرقه ووجوهه، علموا علم اليقين أن
هذا الذي فعله موسى ليس من قبيل السحر والحيل، وأنه حق لا مرية فيه، ولا يقدر على
هذا إلا الذي يقول للشيء:كن فيكون، فعند ذلك وقعوا سُجَّدًا لله وقالوا: آمَنَّا
بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ [
الشعراء:47 ، 48 ] .
ولهذا
قال ابن عباس، وعُبَيد بن عُمَير:كانوا أول النهار سحرة، وفي آخر النهار شهداء
بررة.
قال محمد
بن كعب:كانوا ثمانين ألفًا، وقال القاسم بن أبي بزَّة:كانوا سبعين ألفًا.
وقال
السدي:بضعة وثلاثين ألفًا.
وقال الثوري:عن
عبد العزيز بن رُفَيْع، عن أبي ثمامة:كان سحرة فرعون تسعة عشر ألفًا.
وقال
محمد بن إسحاق:كانوا خمسة عشر ألفًا.
وقال كعب
الأحبار كانوا اثني عشر ألفًا.
وقال ابن
أبي حاتم:حدثنا علي بن الحسين، حدثنا محمد بن علي بن حمزة، حدثنا علي بن الحسين بن
واقد، عن أبيه، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس قال:كانت السحرة سبعين رجلا
أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء.
قال ابن
أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا المسيب بن واضح بمكة، حدثنا ابن المبارك قال:قال
الأوزاعي:لما خرَّ السحرة سُجَّدًا رُفعت لهم الجنة حتى نظروا إليها.
قال:وذُكر
عن سعيد بن سلام:حدثنا إسماعيل بن عبد الله بن سليمان، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن
جبير قوله: ( فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا )
قال:رأوا منازلهم تبني لهم وهم في سجودهم. وكذا قال عكرمة والقاسم بن أبي بَزَّة .
قَالَ
آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي
عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ
وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ
عَذَابًا وَأَبْقَى ( 71 )
قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي
فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ
الدُّنْيَا ( 72 )
إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا
عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ( 73 ) .
يقول تعالى
مخبرًا عن كفر فرعون وعناده وبغيه ومكابرته الحق بالباطل، حين رأى ما رأى من
المعجزة الباهرة والآية العظيمة، ورأى الذين قد استنصر بهم قد آمنوا بحضرة الناس
كلهم وغُلِب كل الغلب - شرع في المكابرة والبهت، وعدل إلى استعمال جاهه وسلطانه في
السحرة، فتهددهم وأوعدهم وقال ( آمَنْتُمْ لَهُ )
أي:صدقتموه ( قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ ) أي:وما
أمرتكم بذلك، وافتتم عليّ في ذلك. وقال قولا يعلم هو والسحرة والخلق كلهم أنه
بَهْت وكذب: ( إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ ) أي
أنتم إنما أخذتم السحر عن موسى، واتفقتم أنتم وإياه عليّ وعلى رعيتي، لتظهروه، كما
قال في الآية الأخرى: إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ
لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [
الأعراف 123 ] .
ثم أخذ
يتهددهم فقال: ( فَلأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ
وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ )
أي:لأجعلنكم مثلة [ ولأقتلنكم ]
ولأشهرنكم.
قال ابن
عباس:فكان أول من فعل ذلك. رواه ابن أبي حاتم.
وقوله: (
وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى ) أي
أنتم تقولون:إني وقومي على ضلالة، وأنتم مع موسى وقومه على الهدى. فسوف تعلمون من
يكون له العذاب ويبقى فيه.
فلما صال
عليهم بذلك وتوعدهم، هانت عليهم أنفسهم في الله عز وجل، و (
قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ ) أي:لن
نختارك على ما حصل لنا من الهدى واليقين. (
وَالَّذِي فَطَرَنَا ) يحتمل أن يكون قسمًا، ويحتمل
أن يكون معطوفًا على البينات.
يعنون:لا
نختارك على فاطرنا وخالقنا الذي أنشأنا من العدم، المبتدئ خلقنا من الطين، فهو
المستحق للعبادة والخضوع لا أنت.
(
فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ ) أي:فافعل ما شئت وما وَصَلَت
إليه يدك، ( إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا )
أي:إنما لك تَسَلُّط في هذه الدار، وهي دار الزَّوال ونحن قد رغبنا في دار القرار
.
(
إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا ) أي:ما
كان منا من الآثام، خصوصًا ما أكرهتنا عليه من السحر لنعارض به آية الله تعالى
ومعجزة نبيه.
وقال ابن
أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا نعيم بن حماد، حدثنا سفيان بن عُيَيْنَة، عن أبي سعيد،
عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله: ( وَمَا
أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ ) قال:أخذ
فرعون أربعين غلامًا من بني إسرائيل فأمر أن يعلموا السحر بالفَرَمَا، وقال:علموهم
تعليمًا لا يعلمه أحد في الأرض.قال ابن عباس:فهم من الذين آمنوا بموسى، وهم من
الذين قالوا: ( [
إِنَّا ] آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا
أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ ) .
وكذا قال
عبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
وقوله: (
وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ) أي:خير لنا منك (
وَأَبْقَى ) أي:أدوم ثوابًا مما كنت وعدتنا ومنيتنا. وهو رواية عن ابن
إسحاق، رحمه الله.
وقال
محمد بن كعب القُرَظِي: ( وَاللَّهُ خَيْرُ ) أي:لنا
منك إن أطيع، ( وَأَبْقَى ) أي:منك
عذابًا إن عُصِيَ.
وروي
نحوه عن ابن إسحاق أيضًا:
والظاهر
أن فرعون - لعنه الله- صمم على ذلك وفعله بهم، رحمهم الله؛ ولهذا قال ابن عباس
وغيره من السلف:أصبحوا سحرة، وأمسَوْا شهداء.
إِنَّهُ
مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا
يَحْيَا ( 74 )
وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ
الدَّرَجَاتُ الْعُلا ( 75 )
جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ
جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى ( 76 ) .
الظاهر من السياق أن هذا من
تمام ما وعظ به السحرة لفرعون، يحذرونه من نقمة الله وعذابه الدائم السرمدي،
ويرغبونه في ثوابه الأبدي المخلد، فقالوا: (
إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا )
أي:يلقى الله يوم القيامة وهو مجرم، (
فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا ) كقوله:
لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا
كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ [
فاطر:36 ] ، وقال: وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى
النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا [
الأعلى:11- 13 ] ، وقال تعالى: وَنَادَوْا
يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ [
الزخرف:77 ] .
وقال الإمام أحمد بن حنبل:حدثنا
إسماعيل، أخبرنا سعيد بن يزيد، عن أبي نَضْرَة، عن أبي سعيد الخدري قال:قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: « أما أهل النار الذين هم
أهلها، فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون ولكن [
الناس ] تصيبهم النار بذنوبهم، فتميتهم إماتة، حتى إذا صاروا فحمًا،
أذن في الشفاعة، جيء بهم ضبائر، ضبائر، فبُثُّوا على أنهار الجنة، فيقال:يا أهل
الجنة، أفيضوا عليهم فينبتون نبات الحبة تكون في حميل السيل » فقال
رجل من القوم:كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بالبادية.
وهكذا أخرجه مسلم في كتابه
الصحيح من رواية شعبة وبشر بن المفضل، كلاهما عن أبي مَسْلَمة سعيد بن يزيد به .
وقال ابن أبي حاتم:ذكر عن عبد
الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث قال:حدثنا أبي حدثنا حيان، سمعت سليمان التيمي،
عن أبي نَضْرَة، عن أبي سعيد؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خَطَبَ فأتى على
هذه الآية: ( إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ
جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا ) ، قال
النبي صلى الله عليه وسلم: « أما أهلها الذين هم أهلها،
فلا يموتون فيها ولا يحيون، وأما الذين ليسوا من أهلها، فإن النار تمسهم، ثم يقوم
الشفعاء فيشفعون، فتجعل الضبائر، فيؤتى بهم نهرا يقال له:الحياة - أو:الحيوان-
فينبتون كما ينبت القثَّاء في حميل السيل » .
وقوله: (
وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ ) أي:ومن
لقي ربه يوم المعاد مؤمن القلب، قد صدق ضميره بقوله وعمله، (
فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلا )
أي:الجنة ذات الدرجات العاليات، والغرف الآمنات، والمساكن الطيبات.
قال الإمام أحمد:حدثنا عفان،
أنبأنا هَمَّام، حدثنا زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن عبادة بن الصامت، عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: « الجنة مائة درجة، ما بين كل
درجتين كما بين السماء والأرض، والفردوس أعلاها درجة ومنها تخرج الأنهار الأربعة،
والعرش فوقها، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس » .
ورواه الترمذي، من حديث يزيد بن
هارون، عن همام، به .
وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي،
حدثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي، أخبرنا خالد بن يزيد بن أبي مالك، عن أبيه
قال:كان يقال:الجنة مائة درجة، في كل درجة مائة درجة، بين كل درجتين كما بين
السماء والأرض، فيهن الياقوت والحلي، في كل درجة أمير، يرون له الفضل والسؤدد.
وفي الصحيحين: « أن أهل
عليين ليرون من فوقهم كما ترون الكوكب الغابر في أفق السماء، لتفاضل ما بينهم » .
قالوا:يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء؟ قال: « بلى
والذي نفسي بيده، رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين » .
وفي السنن: « وإن
أبا بكر وعمر لمنهم وأنعما » .
وقوله: (
جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي ) أي:إقامة وهو بدل من الدرجات
العلى، ( [ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الأنْهَارُ ] خَالِدِينَ فِيهَا )
أي:ماكثين أبدا، ( وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ
تَزَكَّى ) أي:طهر نفسه من الدنس والخبث والشرك، وعبد الله وحده لا
شريك له ، وصدق المرسلين فيما جاءوا به من خَبَر وطلب.
وَلَقَدْ
أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي
الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى ( 77 )
فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ
( 78 )
وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى ( 79 ) .
يقول
تعالى مخبرًا أنه أمر موسى، عليه السلام، حين أبى فرعون أن يرسل معه بني إسرائيل،
أن يسري بهم في الليل، ويذهب بهم من قبضة فرعون. وقد بسط الله هذا المقام في غير
هذه السورة الكريمة. وذلك أن موسى لما خرج ببني إسرائيل أصبحوا وليس منهم بمصر لا
داع ولا مجيب، فغضب فرعون غضبًا شديدًا وأرسل في المدائن حاشرين، أي من يجمعون له
الجند من بلدانه ورَسَاتيقه، يقول: إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ *
وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ [
الشعراء:54 ، 55 ] ثم لما جمع جنده واستوثق له
جيشه، ساق في طلبهم فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ [
الشعراء:60 ] أي:عند طلوع الشمس فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ أي:نظر
كل من الفريقين إلى الآخر قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ
كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [
الشعراء:61 ، 62 ] ، ووقف موسى ببني إسرائيل،
البحر أمامهم، وفرعون وراءهم، فعند ذلك أوحى الله إليه أن (
اضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا ) فضرب
البحر بعصاه، وقال: « انفلق بإذن الله فَانْفَلَقَ
فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ [
الشعراء:63 ] أي:الجبل العظيم. فأرسل الله الريح على أرض البحر فلفحته
حتى صار يابسا كوجه الأرض؛ فلهذا قال: (
فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا ) أي:من
فرعون، ( وَلا تَخْشَى )
يعني:من البحر أن يغرق قومك. »
ثم قال
تعالى: ( فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ
الْيَمِّ ) أي:البحر ( مَا
غَشِيَهُمْ ) أي:الذي هو معروف ومشهور. وهذا يقال عند الأمر المعروف
المشهور، كما قال تعالى: وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى * فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى [
النجم:53 ، 54 ] ، وكما قال الشاعر:
أنَا
أبُو النَّجْم وشِعْري شِعْري
أي:الذي
يعرف، وهو مشهور. وكما تقدمهم فرعون فسلك بهم في اليم فأضلهم وما هداهم إلى سبيل
الرشاد، كذلك يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ
وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ [
هود:98 ] .
يَا
بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ
جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى ( 80 ) كُلُوا
مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ
غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى ( 81 )
وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ( 82 ) .
يذكر
تعالى نعمه على بني إسرائيل العظام، ومننه الجسام، حيث نَجَّاهم من عدوهم فرعون،
وأقر أعينهم منه، وهم ينظرون إليه وإلى جنده قد غرقوا في صبيحة واحدة، لم ينج منهم
أحد، كما قال [ تعالى ] :
وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [
البقرة:50 ] .
وقال
البخاري:حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا رَوْح بن عبادة، حدثنا شعبة، حدثنا أبو
بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم
المدينة واليهود تصوم عاشوراء، فسألهم فقالوا:هذا اليوم الذي أظفر الله فيه موسى
على فرعون، فقال: « نحن أولى بموسى فصوموه » رواه مسلم
أيضًا في صحيحه .
ثم إنه
تعالى واعد موسى وبني إسرائيل بعد هلاك فرعون إلى جانب الطور الأيمن، وهو الذي
كلمه تعالى عليه، وسأل فيه الرؤية، وأعطاه التوراة هناك . وفي غُضُون ذلك عَبَدَ
بنو إسرائيل العجل، كما يقصه تعالى قريبا.
وأما
المن والسلوى، فقد تقدم الكلام على ذلك في سورة « البقرة
» وغيرها. فالمن:حلوى كانت تنـزل عليه من السماء.
والسّلوى:طائر يسقط عليهم، فيأخذون من كل، قدر الحاجة إلى الغد، لطفًا من الله
ورحمة بهم، وإحسانًا إليهم؛ ولهذا قال تعالى: (
كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ
عَلَيْكُمْ غَضَبِي ) أي:كلوا من هذا [
الرزق ] الذي رزقتكم، ولا تطغوا في رزقي، فتأخذوه من غير حاجة،
وتخالفوا ما آمركم به، ( فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ
غَضَبِي ) أي:أغضب عليكم (
وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى ) قال
علي بن أبي طلحة عن ابن عباس:أي:فقد شقي.
وقال
شُفَيّ بن ماتع:إن في جهنم قصرًا يُرمى الكافر من أعلاه، فيهوي في جهنم أربعين
خريفًا قبل أن يبلغ الصلصال، وذلك قوله: (
وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى ) رواه
ابن أبي حاتم.
وقوله: (
وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ) أي:كل
من تاب إليّ تبتُ عليه من أي ذنب كان، حتى إنه تعالى تاب على من عبد العجل من بني
إسرائيل.
وقوله: ( تَابَ
) أي:رجع عما كان فيه من كفر أو شرك أو نفاق أو معصية.
وقوله: (
وَآمَنَ ) أي:بقلبه (
وَعَمِلَ صَالِحًا ) أي:بجوارحه .
وقوله: ( ثُمَّ
اهْتَدَى ) قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:أي ثم لم يشكك.
وقال
سعيد بن جبير: ( ثُمَّ اهْتَدَى )
أي:استقام على السنة والجماعة. ورُوي نحوه عن مجاهد، والضحاك، وغير واحد من السلف.
وقال
قتادة: ( ثُمَّ اهْتَدَى ) أي:لزم
الإسلام حتى يموت.
وقال سفيان
الثوري: ( ثُمَّ اهْتَدَى ) أي:علم
أن لهذا ثوابًا.
وثم
هاهنا لترتيب الخبر على الخبر، كقوله: ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا
وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ [
البلد:17 ] .
وَمَا
أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى ( 83 ) قَالَ
هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى ( 84 )
قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ
( 85 )
فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ
يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ
أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ
مَوْعِدِي ( 86 )
قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا
مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ ( 87 )
لما سار موسى عليه السلام ببني
إسرائيل بعد هلاك فرعون، وافوا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ
قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ
تَجْهَلُونَ * إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ [ الأعراف:138 ، 139 ] وواعده
ربه ثلاثين ليلة ثم أتبعها له عشرًا، فتمت [ له ] أربعين
ليلة، أي:يصومها ليلا ونهارًا. وقد تقدم في حديث « الفتون
» بيان ذلك. فسارع موسى عليه السلام مبادرًا إلى الطور،
واستخلف على بني إسرائيل أخاه هارون؛ ولهذا قال تعالى: ( وَمَا
أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي )
أي:قادمون ينـزلون قريبًا من الطور، (
وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى )
أي:لتزداد عني رضا ، ( قَالَ فَإِنَّا قَدْ
فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ ) أخبر
تعالى نبيه موسى بما كان بعده من الحدث في بني إسرائيل، وعبادتهم العجل الذي عمله
لهم ذلك السامري. وفي الكتب الإسرائيلية:أنه كان اسمه هارون أيضًا، وكتب الله
تعالى له في هذه المدة الألواح المتضمنة للتوراة، كما قال تعالى: وَكَتَبْنَا لَهُ
فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلا لِكُلِّ شَيْءٍ
فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ
دَارَ الْفَاسِقِينَ [ الأعراف:145 ] أي:عاقبة
الخارجين عن طاعتي المخالفين لأمري .
وقوله: (
فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا ) أي:بعد
ما أخبره تعالى بذلك، في غاية الغضب والحَنَق عليهم، هو فيما هو فيه من الاعتناء
بأمرهم، وتَسَلّم التوراة التي فيها شريعتهم، وفيها شرف لهم. وهم قوم قد عبدوا غير
الله ما يَعْلَمُ كل عاقل له لب [
وحزم ] بطلان [ ما هم فيه ] وسخافة
عقولهم وأذهانهم؛ ولهذا رجع إليهم غضبان أسفًا، والأسف:شدة الغضب.
وقال مجاهد: (
غَضْبَانَ أَسِفًا ) أي:جزعًا. وقال قتادة،
والسدي: ( أَسِفًا ) أي:حزينًا على ما صنع قومه من
بعده.
( قَالَ
يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا ) أي:أما
وعدكم على لساني كل خير في الدنيا والآخرة، وحسن العاقبة كما شاهدتم من نصرته
إياكم على عدوكم، وإظهاركم عليه، وغير ذلك من أياديه عندكم؟ (
أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ ) أي:في انتظار ما وعدكم الله.
ونسيان ما سلف من نعمه، وما بالعهد من قدم. ( أَمْ
أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ ) « أم » هاهنا
بمعنى « بل » وهي للإضراب عن الكلام الأول،
وعدول إلى الثاني، كأنه يقول:بل أردتم بصنيعكم هذا أن يحل عليكم غضب من ربكم ( فَأَخْلَفْتُمْ
مَوْعِدِي * قَالُوا ) أي:بنو إسرائيل في جواب ما
أنبهم موسى وقرعهم: ( مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ
بِمَلْكِنَا ) أي:عن قدرتنا واختيارنا.
ثم شرعوا يعتذرون بالعذر
البارد، يخبرونه عن تورعهم عما كان بأيديهم من حُلي القبط الذي كانوا قد استعاروه
منهم، حين خرجوا من مصر، ( فَقَذَفْنَاهَا )
أي:ألقيناها عنا. وقد تقدم في حديث « الفتون
» أن هارون عليه السلام هو الذي كان أمرهم بإلقاء الحلي في
حفرة فيها نار.
وفي رواية السُّدِّيّ، عن أبي
مالك، عن ابن عباس:إنما أراد هارون أن يجتمع الحُلي كله في تلك الحفيرة ويجعل
حجرًا واحدًا. حتى إذا رجع موسى يرى فيه ما يشاء. ثم جاء [ بعد
] ذلك السامري فألقى عليها تلك القبضة التي أخذها من أثر
الرسول، وسأل هارون أن يدعو الله أن يستجيب له في دعوته، فدعا له هارون - وهو لا
يعلم ما يريد - فأجيب له فقال السامري عند ذلك:أسأل الله أن يكون عجلا. فكان عجلا
له خُوار، أي:صوت، استدراجًا وإمهالا ومحنة واختبارًا ؛ ولهذا قالوا: فَكَذَلِكَ
أَلْقَى السَّامِرِيُّ * فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ
فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا
هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ ( 88 )
أَفَلا يَرَوْنَ أَلا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا
وَلا نَفْعًا ( 89 ) .
وقال ابن أبي حاتم:حدثنا محمد بن عبادة بن البَخْتَريّ حدثنا
يزيد بن هارون أخبرنا حَمَّاد عن سماك، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس؛ أن هارون مَرَّ
بالسامري وهو ينحت العجل، فقال له:ما تصنع؟ فقال:أصنع ما يضر ولا ينفع فقال
هارون:اللهم اعطه ما سأل على ما في نفسه ومضى هارون، فقال السامري:اللهم إني أسألك
أن يَخُور فَخَار، فكان إذا خار سجدوا له، وإذا خار رفعوا رؤوسهم.
ثم رواه من وجه آخر عن حماد وقال: [ أعمل ] ما ينفع ولا يضر.
وقال السدي:كان يخور ويمشي.
فقالوا - أي:الضُّلال منهم، الذين افتتنوا بالعجل وعبدوه - :
( هَذَا
إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ ) أي:نسيه هاهنا، وذهب يتطلبه. كذا تقدم في حديث « الفتون » عن ابن عباس. وبه قال مجاهد.
وقال سِماك عن عكرمة عن ابن عباس: ( فَنَسِيَ ) أي:نسي أن يذكركم أن هذا
إلهكم.
وقال محمد بن إسحاق، عن حكيم بن جبير، عن سعيد بن جبير، عن
ابن عباس فقالوا: ( هَذَا
إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى )
قال:فعكفوا عليه وأحبوه حبًّا لم يحبوا شيئًا قط يعني مثله، يقول الله: ( فَنَسِيَ ) أي:ترك ما كان عليه من
الإسلام يعني:السامري.
قال الله تعالى ردًّا عليهم، وتقريعًا لهم، وبيانًا لفضيحتهم
وسخافة عقولهم فيما ذهبوا إليه: (
أَفَلا يَرَوْنَ أَلا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا
وَلا نَفْعًا )
أي:العجل ( أَفَلا
يَرَوْنَ ) أنه لا
يجيبهم إذا سألوه، ولا إذا خاطبوه، ( وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا ) أي:في دنياهم ولا في أخراهم.
قال ابن عباس رضي الله عنه لا والله ما كان خواره إلا أن يدخل
الريح في دبره فيخرج فيه، فيسمع له صوت.
وقد تقدم في متون الحديث عن الحسن البصري:أن هذا العجل اسمه
بهموت.
وحاصل ما اعتذر به هؤلاء الجهلة أنهم تورعوا عن زينة القبط،
فألقوها عنهم، وعبدوا العجل. فتورعوا عن الحقير وفعلوا الأمر الكبير، كما جاء في
الحديث الصحيح عن ابن عمر:أنه سأله رجل من أهل العراق عن دم البعوض إذا أصاب الثوب
- يعني:هل يصلي فيه أم لا؟ - فقال ابن عمر، رضي الله عنه: انظروا إلى أهل العراق،
قتلوا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعني:الحسين - وهم يسألون عن دم
البعوض؟ .
وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ
إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي
وَأَطِيعُوا أَمْرِي ( 90 ) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ
عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى ( 91 ) .
يخبر تعالى عما كان من نَهْي هارون، عليه السلام، لهم عن
عبادة العجل، وإخباره إياهم:إنما هذا فتنة لكم ( وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ ) الذي خلق كل شيء فقدره
تقديرًا، ذو العرش المجيد، الفعال لما يريد ( فَاتَّبِعُونِي ) أي:فيما آمركم به، واتركوا ما أنهاكم عنه.
( قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ
عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى ) أي:لا نترك عبادته حتى نسمع كلام
موسى فيه. وخالفوا هارون في ذلك وحاربوه وكادوا أن يقتلوه.
قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا
( 92 ) أَلا تَتَّبِعَنِ
أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي ( 93 ) قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا
تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ
بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ( 94 ) .
يقول مخبرًا عن موسى، عليه السلام، حين رجع إلى قومه، فرأى ما
قد حدث فيهم من الأمر العظيم، فامتلأ عند ذلك غيظًا، وألقى ما كان في يده من
الألواح الإلهية، وأخذ برأس أخيه يجره إليه، وقد قدمنا في « الأعراف » بسط ذلك، وذكرنا هناك حديث « ليس الخبر كالمعاينة » .
وشرع يلوم أخاه هارون فقال: ( مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلا
تَتَّبِعَنِ )
أي:فتخبرني بهذا الأمر أول ما وقع ( أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي ) أي:فيما كنت تقدمت إليك، وهو قوله: اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي
وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ [ الأعراف:142 ] . قال: ( يَا ابْنَ أُمَّ ) ترفق له بذكر الأم مع أنه
شقيقه لأبويه؛ لأن ذكر الأم هاهنا أرق وأبلغ، أي:في الحنو والعطف؛ ولهذا قال: ( يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ
بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي
إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ) .
هذا اعتذار من هارون عند موسى في سبب تأخره عنه، حيث لم يلحقه
فيخبره بما كان من هذا الخطب الجسيم قال ( إِنِّي خَشِيتُ ) أن أتبعك فأخبرك بهذا، فتقول لي:لم تركتهم وحدهم وفرقت
بينهم (
وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ) أي:وما
راعيت ما أمرتك به حيث استخلفتك فيهم .
قال ابن عباس:وكان هارون هائبًا له مطيعًا .
قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ ( 95 ) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا
بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ
سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي ( 96 ) قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ
لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ
تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا
لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا ( 97 ) إِنَّمَا إِلَهُكُمُ
اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ( 98 ) .
يقول
موسى، عليه السلام، للسامري:ما حملك على ما صنعت؟ وما الذي عرض لك حتى فعلت ما
فعلت؟
قال محمد
بن إسحاق، عن حكيم بن جبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:كان السامري رجلا من
أهل بَاجَرْمَا، وكان من قوم يعبدون البقر، وكان حُبُّ عبادة البقر في نفسه، وكان
قد أظهر الإسلام مع بني إسرائيل. وكان اسم السامري:موسى بن ظفر.
وفي
رواية عن ابن عباس: [ إنه
] كان من
كرمان.
وقال
قتادة:كان من قرية اسمها سامرا .
( قال بصرت بما لم يبصروا به ) أي:رأيت جبريل حين جاء لهلاك
فرعون، (
فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ ) أي:من أثر فرسه. وهذا هو المشهور عند كثير من المفسرين أو
أكثرهم.
وقال ابن
أبي حاتم:حدثنا محمد بن عمار بن الحارث، أخبرنا عبيد الله بن موسى، أخبرنا
إسرائيل، عن السدي، عن أبي بن عمارة، عن علي، رضي الله عنه، قال:إن جبريل، عليه
السلام، لما نـزل فصعد بموسى إلى السماء، بصر به السامري من بين الناس، فقبض قبضة
من أثر الفرس قال:وحمل جبريل موسى خلفه، حتى إذا دنا من باب السماء، صعد وكتب الله
الألواح وهو يسمع صرير الأقلام في الألواح. فلما أخبره أن قومه قد فتنوا من بعده
قال:نـزل موسى، فأخذ العجل فأحرقه. غريب. وقال مجاهد: ( فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ
أَثَرِ الرَّسُولِ ) قال:من
تحت حافر فرس جبريل، قال:والقبضة ملء الكف، والقبضة بأطراف الأصابع.
قال
مجاهد:نبذ السامري، أي:ألقى ما كان في يده على حلية بني إسرائيل، فانسبك عجلا
جسدًا له خُوار حفيف الريح فيه، فهو خواره.
وقال ابن
أبي حاتم:حدثنا محمد بن يحيى، أخبرنا علي بن المديني، حدثنا يزيد بن زُرَيْع،
حدثنا عمارة، حدثنا عكرمة؛ أن السامري رأى الرسول، فألقي في روعه أنك إن أخذت من
أثر هذا الفرس قبضة فألقيتها في شيء، فقلت له: « كن فكان » فقبض
قبضة من أثر الرسول، فيبست أصابعه على القبضة، فلما ذهب موسى للميقات وكان بنو
إسرائيل استعاروا حلي آل فرعون، فقال لهم السامري:إنما أصابكم من أجل هذا الحلي،
فاجمعوه. فجمعوه، فأوقدوا عليه، فذاب، فرآه السامري فألقي في روعه أنك لو قذفت هذه
القبضة في هذه فقلت: « كن » كان. فقذف القبضة وقال: « كن » ، فكان عجلا له خوار، فقال:
هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى .
ولهذا
قال: ( فَنَبَذْتُهَا
)
أي:ألقيتها مع من ألقى، (
وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي ) أي:حَسَّنَتْهُ وأعجبها إذ ذاك .
( قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ
لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ ) أي:كما أخذت ومَسَسْتَ ما لم يكن أخذه ومسه من أثر الرسول،
فعقوبتك في الدنيا أن تقول: « لا
مساس » أي:لا
تماسّ الناس ولا يمسونك.
( وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا ) أي:يوم القيامة، ( لَنْ تُخْلَفَهُ ) أي:لا محيد لك عنه.
وقال
قتادة: ( أَنْ
تَقُولَ لا مِسَاسَ )
قال:عقوبة لهم، وبقاياهم اليوم يقولون:لا مساس.
وقوله: ( وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ
تُخْلَفَهُ ) قال
الحسن، وقتادة، وأبو نَهِيك:لن تغيب عنه.
وقوله: ( وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ ) أي:معبودك، ( الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ
عَاكِفًا )
أي:أقمت على عبادته، يعني:العجل (
لنحرقنه ) قال
الضحاك عن ابن عباس، والسدي:سَحَله بالمبارد، وألقاه على النار.
وقال
قتادة:استحال العجل من الذهب لحمًا ودمًا، فحرقه بالنار، ثم ألقاه، أي:رماده في
البحر؛ ولهذا قال: ( ثُمَّ
لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا ) .
وقال ابن
أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن رجاء، أنبأنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن
عمارة بن عبد وأبي عبد الرحمن، عن علي، رضي الله عنه، قال:إن موسى لما تعجل إلى
ربه، عمد السامري فجمع ما قدر عليه من حلي نساء بني إسرائيل، ثم صوره عجلا
قال:فعمد موسى إلى العجل، فوضع عليه المبارد، فبرّده بها، وهو على شط نهر، فلم
يشرب أحد من ذلك الماء ممن كان يعبد العجل إلا اصفر وجهه مثل الذهب. فقالوا
لموسى:ما توبتنا ؟ قال:يقتل بعضكم بعضًا.
وهكذا
قال السدي:وقد تقدم في تفسير سورة « البقرة » ثم في
حديث « الفتون
» بسط ذلك
.
وقوله: ( إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ
الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ [
وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ) يقول
لهم موسى، عليه السلام:ليس هذا إلهكم، إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو ] أي:لا يستحق ذلك على العباد
إلا هو، ولا تنبغي العبادة إلا له، فإن كل شيء فقير إليه، عبد لربه.
وقوله: ( وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا
) نصب
على التمييز، أي:هو عالم بكل شيء، أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [ الطلاق:12 ] ، وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ
عَدَدًا [
الجن:28 ] ، فلا
يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ [ سبأ:3 ] ،
وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ
الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [ الأنعام:59 ] ، وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي
الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا
وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [ هود:6 ]
والآيات في هذا كثيرة جدًّا .
كَذَلِكَ
نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا
ذِكْرًا ( 99 ) مَنْ
أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا ( 100
) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
حِمْلا ( 101 ) .
يقول
تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:كما قَصَصْنَا عليك خبر موسى، وما جرى له مع
فرعون وجنوده على الجلية والأمر الواقع، كذلك نقص عليك الأخبار الماضية كما وقعت
من غير زيادة ولا نقص، هذا ( وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ
لَدُنَّا ) أي:عندنا (
ذِكْرًا ) وهو القرآن العظيم، الذي لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ
يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [
فصلت:42 ] ، الذي لم يعط نبي من الأنبياء [ منذ
بعثوا إلى أن ختموا ] بمحمد صلى الله عليه وسلم
تسليما، كتابًا مثله ولا أكمل منه، ولا أجمع لخبر ما سبق وخبر ما هو كائن، وحكم
الفصل بين الناس منه؛ ولهذا قال تعالى: ( مَنْ
أَعْرَضَ عَنْهُ ) أي:كذب به وأعرض عن اتباعه
أمرًا وطلبًا، وابتغى الهدى في غيره، فإن الله يضله ويهديه إلى سواء الجحيم؛ ولهذا
قال: ( مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ وِزْرًا ) أي:إثمًا، كما قال [
الله ] تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ
مَوْعِدُهُ [ هود:17 ] .
وهذا عام
في كل من بلغه القرآن من العرب والعجم، أهل الكتاب وغيرهم، كما قال تعالى:
لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [
الأنعام:19 ] . فكل من بلغه القرآن فهو نذير له وداع، فمن اتبعه هدي، ومن
خالفه وأعرض عنه ضَلَّ وشقي في الدنيا، والنار موعده يوم القيامة؛ ولهذا قال: ( مَنْ
أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا * خَالِدِينَ
فِيهِ ) أي:لا مَحِيد لهم عنه ولا انفكاك (
وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلا ) أي:بئس
الحمل حملهم .
يَوْمَ
يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا ( 102
) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا عَشْرًا
( 103 )
نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ
لَبِثْتُمْ إِلا يَوْمًا ( 104 ) .
ثبت في
الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئِل عن الصُّور، فقال: « قَرنٌ
يُنفَخ فيه » .
وقد جاء
في حديث « الصور » من رواية أبي هريرة:أنه قرن
عظيم، الدَّارة منه بقدر السماوات والأرض، ينفخ فيه إسرافيل، عليه السلام.
وجاء في
الحديث: « كيف أنعَمُ وصاحب القَرْن قد التقم القَرْن، وحنى جبهته،
وانتظر أن يؤذن له » فقالوا:يا رسول الله، كيف
نقول؟ قال: « قولوا:حسبنا الله ونعم الوكيل، على الله توكلنا » .
وقوله: (
وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا )
قيل:معناه زُرْق العيون من شدة ما هم فيه من الأهوال .
(
يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ ) قال ابن عباس:يتسارّون بينهم،
أي:يقول بعضهم لبعض: ( إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا
عَشْرًا ) أي:في الدار الدنيا، لقد كان لبثكم فيها قليلا عشرة أيام أو
نحوها .
قال الله
تعالى: ( نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ ) أي:في
حال تناجيهم بينهم ( إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ
طَرِيقَةً ) أي:العاقل الكامل فيهم، ( إِنْ
لَبِثْتُمْ إِلا يَوْمًا ) أي لقصر مدة الدنيا في أنفسهم
[ يوم المعاد؛ لأن الدنيا كُلَّها وإن تكررت أوقاتها
وتعاقبت لياليها وأيامها ] وساعاتها كأنها يوم واحد؛ ولهذا
تستقصر مدة الحياة الدنيا يوم القيامة:وكان غرضهم في ذلك [ درء
] قيام الحجة عليهم، لقصر المدة؛ ولهذا قال تعالى: وَيَوْمَ
تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ
كَانُوا يُؤْفَكُونَ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ
لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ
وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [
الروم:55 ، 56 ] ، وقال تعالى: أَوَلَمْ
نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا
فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [
فاطر:37 ] ، وقال تعالى: كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ
* قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ
إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [
المؤمنون:112- 114 ] أي:إنما كان لُبثكم فيها
قليلا لو كنتم تعلمون لآثرتم الباقي على الفاني، ولكن تصرفتم فأسأتم التصرف،
قَدَّمتُم الحاضر الفاني على الدائم الباقي.
وَيَسْأَلُونَكَ
عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا ( 105
) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا ( 106
) لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا ( 107
) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ
وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا ( 108
)
يقول
تعالى: ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ ) أي:هل
تبقى يوم القيامة أو تزول؟ ( فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي
نَسْفًا ) أي:يذهبها عن أماكنها ويمحقها ويسيرها تسييرًا.
(
فَيَذَرُهَا ) أي:الأرض (
قَاعًا صَفْصَفًا ) أي:بساطًا واحدًا.
والقاع:هو
المستوي من الأرض. والصفصف تأكيد لمعنى ذلك، وقيل:الذي لا نبات فيه. والأول أولى،
وإن كان الآخر مرادًا أيضًا باللازم؛ ولهذا قال: ( لا
تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا ) أي:لا
ترى في الأرض يومئذ واديًا ولا رابية، ولا مكانًا منخفضًا ولا مرتفعًا، كذلك قال
ابن عباس، وعكرمة، ومجاهد، والحسن البصري، والضحاك، وقتادة، وغير واحد من السلف.
(
يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ ) أي:يوم
يرون هذه الأحوال والأهوال، يستجيبون مسارعين إلى الداعي، حيثما أمروا بادروا
إليه، ولو كان هذا في الدنيا لكان أنفع لهم، ولكن حيث لا ينفعهم، كما قال تعالى:
أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا [
مريم:38 ] ، وقال: مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِي يَقُولُ الْكَافِرُونَ
هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ [ القمر:8 ] .
قال محمد
بن كعب القُرَظِي:يحشر الله الناس يوم القيامة في ظلمة، وتطوي السماء، وتتناثر
النجوم، وتذهب الشمس والقمر، وينادي مناد، فيتبع الناس الصوت [
فيأتونه ] فذلك قوله: (
يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ ) .
وقال
قتادة: ( لا عِوَجَ لَهُ ) لا
يميلون عنه.
وقال أبو
صالح: ( لا عِوَجَ لَهُ ) لا عوج
عنه.
وقوله: (
وَخَشَعَتِ الأصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ ) :قال
ابن عباس:سكنت:وكذا قال السدي.
( فَلا تَسْمَعُ
إِلا هَمْسًا ) قال سعيد بن جبير، عن ابن عباس:يعني:وطء الأقدام. وكذا قال
عكرمة، ومجاهد، والضحاك، والربيع بن أنس، وقتادة، وابن زيد، وغيرهم.
وقال علي
بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا ) :الصوت
الخفي. وهو رواية عن عكرمة، والضحاك.
وقال
سعيد بن جبير: ( فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا )
:الحديث، وسره، ووطء الأقدام. فقد جمع سعيد كلا القولين وهو محتمل، أما وطء
الأقدام فالمراد سعي الناس إلى المحشر، وهو مشيهم في سكون وخضوع. وأما الكلام
الخفي فقد يكون في حال دون حال، فقد قال تعالى: يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ
إِلا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ [
هود:105 ] .
يَوْمَئِذٍ
لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلا
( 109 )
يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا ( 110
) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ
مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا ( 111 )
وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا
هَضْمًا ( 112 ) .
يقول
تعالى: ( يَوْمَئِذٍ ) أي:يوم
القيامة ( لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ )
أي:عنده ( إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلا ) كقوله:
مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ [
البقرة:255 ] ,وقوله: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي
شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ
وَيَرْضَى [ النجم:26 ] ،
وقال: وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى [
الأنبياء:28 ] وقال: وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ
أَذِنَ لَهُ [ سبأ:23 ] ،
وقال: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلا
مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا [
النبأ:38 ] .
وفي
الصحيحين، من غير وجه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو سيد ولد آدم، وأكرم
الخلائق على الله عز وجل أنه قال: « آتي
تحت العرش، وأخر لله ساجدًا، ويَفْتَح عليّ بمحامد لا أحصيها الآن، فيدعني ما شاء
الله أن يدعني، ثم يقول:يا محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع واشفع تشفع » . قال: « فيحد
لي حدًّا، فأدخلهم الجنة، ثم أعود » , فذكر
أربع مرات، صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر الأنبياء.
وفي
الحديث [ أيضًا ] « يقول
تعالى:أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان، فَيُخْرِجُون خلقا
كثيرا، ثم يقول:أخرجوا من النار من كان في قلبه نصف مثقال من إيمان، أخرجوا من
النار من كان في قلبه ما يزن ذرّة، من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال ذرّة من
إيمان » الحديث .
وقوله: (
يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ )
أي:يحيط علما بالخلائق كلهم، ( وَلا يُحِيطُونَ بِهِ
عِلْمًا ) كقوله: وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا
شَاءَ [ البقرة:255 ] .
وقوله: (
وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ ) قال ابن
عباس، وغير واحد:خضعت وذلت واستسلمت الخلائق لجبارها الحي الذي لا يموت،
القيوم:الذي لا ينام، وهو قيم على كل شيء، يدبره ويحفظه، فهو الكامل في نفسه، الذي
كل شيء فقير إليه، لا قوام له إلا به.
وقوله: (
وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا ) أي:يوم
القيامة، فإن الله سيؤدي كل حق إلى صاحبه، حتى يقتص للشاة الجماء من الشاة
القرناء.
وفي
الحديث: « يقول الله تعالى:وعزتي وجلالي، لا يجاوزني اليوم ظلم ظالم » .
وفي
الصحيح: « إياكم والظلم؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة » .
والخيبة كل الخيبة من لقي الله وهو مشرك به ؛ فإن الله تعالى يقول: إِنَّ
الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [ لقمان:13 ]
وقوله: (
وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا
هَضْمًا ) لما ذكر الظالمين ووعيدهم، ثنى بالمتقين وحكمهم، وهو أنهم
لا يُظْلَمُون ولا يُهضَمون، أي:لا يزاد في سيئاتهم ولا ينقص من حسناتهم . قاله
ابن عباس، ومجاهد، والضحاك، والحسن، وقتادة، وغير واحد. فالظلم:الزيادة بأن يحمل
عليه ذنب غيره، والهضم:النقص.
وَكَذَلِكَ
أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ
لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا ( 113
)
يقول:ولما كان يوم المعاد
والجزاء بالخير والشر واقعا لا محالة، أنـزلنا القرآن بشيرًا ونذيرًا، بلسان عربي
مبين فصيح لا لبس فيه ولا عيّ ، (
وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) أي:يتركون
المآثم والمحارم والفواحش، ( أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ
ذِكْرًا ) وهو إيجاد الطاعة وفعل القربات.
فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ
بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي
عِلْمًا ( 114
)
( فَتَعَالَى
اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ )
أي:تنـزه وتقدس الملك الحق، الذي هو حق، ووعده حق، ووعيده حق، ورسله حق، والجنة
حق، والنار حق، وكل شيء منه حق. وعدله تعالى ألا يعذب أحدًا قبل الإنذار وبعثة
الرسل والإعذار إلى خلقه؛ لئلا يبقى لأحد حجة ولا شبهة.
وقوله: ( وَلا
تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ ) كقوله تعالى في سورة لا
أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ *
إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ
* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ [ القيامة:16- 19 ] ، وثبت في الصحيح عن ابن عباس؛ أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم كان يعالج من الوحي شدّة، فكان مما يحرّك لسانه، فأنـزل الله هذه الآية
يعني:أنه، عليه السلام، كان إذا جاءه جبريل بالوحي، كلما قال جبريل آية قالها معه،
من شدّة حرصه على حفظ القرآن، فأرشده الله تعالى إلى ما هو الأسهل والأخف في حقه؛
لئلا يشق عليه. فقال: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ
عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ أي:أن نجمعه في صدرك، ثم تقرأه على الناس من غير
أن تنسى منه شيئًا، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ
عَلَيْنَا بَيَانَهُ وقال في هذه الآية: ( وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى
إِلَيْكَ وَحْيُهُ ) أي:بل
أنصت، فإذا فرغ الملك من قراءته عليك فاقرأه بعده، ( وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي
عِلْمًا ) أي:زدني
منك علمًا.
قال ابن عُيَيْنَة، رحمه الله:ولم يزل صلى الله عليه وسلم في
زيادة [ من
العلم ] حتى
توفاه الله عز وجل.
ولهذا جاء في الحديث: « إن الله تابع الوحي على رسوله، حتى كان الوحي أكثر ما كان
يوم تُوُفِّيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم » وقال ابن ماجه:حدثنا أبو بكر بن أبى شيبة، حدثنا عبد الله بن
نُمَيْر، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن ثابت، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال:كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « اللهم انفعني بما علَّمتني، وعلمني ما ينفعني، وزدني علمًا،
والحمد لله على كل حال » .
وأخرجه الترمذي، عن أبي كُرَيْب، عن عبد الله بن نُمَيْر، به.
وقال:غريب من هذا الوجه. ورواه البزار عن عمرو بن علي الفلاس، عن أبي عاصم، عن
موسى بن عبيدة، به. وزاد في آخره: « وأعوذ بالله من حال أهل النار » .
وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ
نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ( 115
)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ أَبَى
( 116
)
فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا
مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى ( 117
)
إِنَّ لَكَ أَلا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى ( 118 )
وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى ( 119 )
فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ
الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى ( 120
)
فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ
عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ( 121 ) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ
فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى ( 122
)
قال ابن أبي حاتم:حدثنا أحمد بن سِنَان، حدثنا أسباط بن محمد،
حدثنا الأعمش، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:إنما سمي الإنسان لأنه عهد إليه
فنسي. وكذا رواه علي بن أبي طلحة، عنه.
وقال مجاهد والحسن:تَرَكَ.
وقوله: (
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ ) يذكر تعالى تشريف آدم وتكريمه، وما فضله به على كثير ممن
خلق تفضيلا.
وقد تقدم الكلام على هذه القصة في سورة « البقرة » وفي « الأعراف » وفي « الحجر » و « الكهف » وسيأتي في آخر سورة « ص » [ إن شاء الله تعالى ] . يذكر فيها تعالى خَلْقَ آدم
وأَمْرَه الملائكة بالسجود له تشريفًا وتكريمًا، ويبين عداوة إبليس لبني آدم
ولأبيهم قديمًا؛ ولهذا قال تعالى: ( فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ أَبَى ) أي:امتنع واستكبر. ( فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ
هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ )
يعني:حواء، عليهما السلام ( فَلا
يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى ) أي:إياك أن يسعى في إخراجك منها، فتتعب وتعنى وتشقى في طلب
رزقك، فإنك هاهنا في عيش رغيد هنيء، لا كلفة ولا مشقة.
( إِنَّ لَكَ أَلا تَجُوعَ
فِيهَا وَلا تَعْرَى ) إنما
قرن بين الجوع والعُرْي؛ لأن الجوع ذُلّ الباطن، والعري ذُلّ الظاهر .
( وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ
فِيهَا وَلا تَضْحَى ) وهذان
أيضًا متقابلان، فالظمأ:حر الباطن، وهو العطش. والضحى:حر الظاهر.
وقوله: (
فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ
الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى ) قد
تقدم أنه فَدَلاهُمَا بِغُرُورٍ [
الأعراف:22 ] ؛
وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ [ الأعراف:21 ] . وقد تقدم أن الله تعالى
أوحى إلى آدم وزوجته أن يأكلا من كل الثمار، ولا يقربا هذه الشجرة المعينة في
الجنة. فلم يزل بهما إبليس حتى أكلا منها، وكانت شجرةَ الخلد - يعني:التي من أكل
منها خلد ودام مكثه. وقد جاء في الحديث ذكر شجرة الخلد، فقال أبو داود
الطيالسي:حدثنا شعبة عن أبي الضحاك سمعت أبا هريرة يحدث، عن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: « إن في
الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام، ما يقطعها وهي شجرة الخلد » . ورواه الإمام أحمد. .
وقوله: (
فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا ) قال ابن أبي حاتم:
حدثنا علي بن الحسين بن إشكاب، حدثنا علي بن عاصم، عن سعيد بن
أبي عَرُوبة، عن قتادة، عن الحسن، عن أبي بن كعب قال:قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: « إن
الله خلق آدم رجلا طوالا كثير شعر الرأس، كأنه نخلة سَحُوق. فلما ذاق الشجرة سقط
عنه لباسه، فأول ما بدا منه عورته. فلما نظر إلى عورته جعل يَشْتَد في الجنة،
فأخذتْ شعرَه شجرة، فنازعها، فنادى الرحمن:يا آدم، منِّي تفر؟ فلما سمع كلام
الرحمن قال:يا رب، لا ولكن استحياء أرأيت إن تبت ورجعت، أعائدي إلى الجنة؟ قال:نعم
فذلك قوله: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ »
وهذا منقطع بين الحسن وأُبيّ بن كعب، فلم يسمعه منه، وفي رفعه
نظر أيضًا.
وقوله: (
وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ ) قال مجاهد:يرقعان كهيئة
الثوب. وكذا قال قتادة، والسدي.
وقال ابن أبي حاتم:حدثنا جعفر، عن عون، حدثنا سفيان، عن ابن
أبي ليلى، عن المِنْهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: ( وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ
عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ ) قال:ينـزعان ورق التين، فيجعلانه على سوآتهما .
وقوله: (
وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ
وَهَدَى ) قال
البخاري:
حدثنا قتيبة، حدثنا أيوب بن النجار، عن يحيى بن أبي كثير، عن
أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « حاجّ موسى آدم، فقال له:أنت
الذي أخرجت الناس من الجنة بذنبك وأشقيتهم؟ قال آدم:يا موسى، أنت الذي اصطفاك الله
برسالاته وبكلامه، أتلومني على أمر قد كتبه الله عليّ قبل أن يخلقني - أو:قدره
الله عليّ قبل أن يخلقني - » قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: « فحج
آدم موسى » .
وهذا الحديث له طرق في الصحيحين، وغيرهما من المسانيد .
وقال ابن أبي حاتم:حدثنا يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهب،
أخبرني أنس بن عياض، عن الحارث بن أبي ذُبَابَ، عن يزيد بن هرمز قال:سمعت أبا
هريرة يقول:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « حَجَّ آدمُ وموسى عند ربهما، فحج آدم موسى، قال موسى:أنت
الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، وأسكنك في جنته، ثم
أهبطت الناس إلى الأرض بخطيئتك؟ قال آدم:أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته
وكلامه، وأعطاك الألواح فيها تبيان كل شيء، وقربك نَجِيًّا، فبكم وجدتَ الله كتب
التوراة [ قبل
أن أخلق ] قال
موسى:بأربعين عامًا. قال آدم:فهل وجدتَ فيها ( وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ) قال:نعم. قال:أفتلومني على أن
عملتُ عملا كتب الله عليّ أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة » . قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: « فحج
آدم موسى » .
قال الحارث:وحدثني عبد الرحمن بن هُرْمزُ بذلك، عن أبى هريرة،
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . .
قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ
عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا
يَضِلُّ وَلا يَشْقَى ( 123
)
وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ أَعْمَى ( 124
)
قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا ( 125 )
يقول
تعالى لآدم وحواء وإبليس:اهبطوا منها جميعًا، أي:من الجنة كلكم. وقد بسطنا ذلك في
سورة البقرة بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ قال:آدم وذريته، وإبليس وذريته.
وقوله: ( فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ
مِنِّي هُدًى ) قال
أبو العالية:الأنبياء والرسل والبيان.
( فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ
فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى ) قال
ابن عباس:لا يضل في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة.
( وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ
ذِكْرِي )
أي:خالف أمري، وما أنـزلته على رسولي، أعرض عنه وتناساه وأخذ من غيره هداه ( فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً
ضَنْكًا ) أي:في
الدنيا، فلا طمأنينة له، ولا انشراح لصدره، بل صدره [ ضيق ] حَرَج لضلاله، وإن تَنَعَّم
ظاهره، ولبس ما شاء وأكل ما شاء، وسكن حيث شاء، فإن قلبه ما لم يخلص إلى اليقين
والهدى، فهو في قلق وحيرة وشك، فلا يزال في ريبة يتردد. فهذا من ضنك المعيشة.
قال علي
بن أبي طلحة، عن ابن عباس: (
فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا )
قال:الشقاء.
وقال
العوفي، عن ابن عباس: (
فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ) قال:كل
مال أعطيته عبدًا من عبادي، قل أو كثر، لا يتقيني فيه، فلا خير فيه، وهو الضنك في
المعيشة. ويقال:إن قومًا ضُلالا أعرضوا عن الحق، وكانوا في سعة من الدنيا متكبرين،
فكانت معيشتهم ضنكا؛ [ و ] ذلك أنهم كانوا يرون أن الله
ليس مخلفًا لهم معايشهم، من سوء ظنّهم بالله والتكذيب، فإذا كان العبد يكذب بالله،
ويسيء الظن به والثقة به اشتدت عليه معيشته، فذلك الضنك.
وقال
الضحاك:هو العمل السيئ، والرزق الخبيث، وكذا قال عكرمة، ومالك بن دينار.
وقال
سفيان بن عيينة، عن أبي حازم، عن أبي سلمة، عن أبي سعيد في قوله: ( مَعِيشَةً ضَنْكًا ) قال:يضيق عليه قبره، حتى
تختلف أضلاعه فيه. قال أبو حاتم الرازي:النعمان بن أبي عياش يكنى أبا سلمة.
وقال ابن
أبي حاتم:حدثنا أبو زُرْعة، حدثنا صفوان، حدثنا الوليد، حدثنا عبد الله بن لهيعة،
عن دَرَّاج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في
قول الله عز وجل: (
فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ) قال: « ضمة القبر » الموقوف أصح .
وقال ابن
أبي حاتم أيضًا:حدثنا الربيع بن سليمان، حدثنا أسد بن موسى، حدثنا ابن لهيعة،
حدثنا دراج أبو السمح، عن ابن حُجَيْرة - اسمه عبد الرحمن - عن أبي هريرة، عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال:المؤمن في قبره في روضة خضراء، ويرحب له في قبره
سبعون ذراعا، وينور له قبره كالقمر ليلة البدر، أتدرون فيم أنـزلت هذه الآية: ( فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً
ضَنْكًا ) ؟
أتدرون ما المعيشة الضنك؟ «
قالوا:الله ورسوله أعلم. قال:عذاب الكافر في قبره، والذي نفسي بيده، إنه ليسلط
عليه تسعة وتسعون تِنِّينًا، أتدرون ما التنين؟ تسعة وتسعون حية، لكل حية سبعة
رؤوس، ينفخون في جسمه، ويلسعونه ويخدشونه إلى يوم يبعثون » . .
رفعه
منكر جدًا.
وقال
البزار:حدثنا محمد بن يحيى الأزدي، حدثنا محمد بن عمرو حدثنا هشام بن سعد، عن سعيد
بن أبي هلال، [ عن
أبي حُجَيْرة ] عن أبي
هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قول الله عز وجل: ( فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً
ضَنْكًا ) قال: « المعيشة الضنك الذي قال الله
تعالى:أنه يسلط عليه تسعة وتسعون حية، ينهشون لحمه حتى تقوم الساعة » .
وقال
أيضًا:حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا أبو الوليد، حدثنا حماد بن سلمة، عن محمد بن عمرو،
عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً
ضَنْكًا ) قال: « عذاب القبر » . إسناد جيد .
وقوله: ( وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ أَعْمَى ) قال
مجاهد، وأبو صالح، والسدي:لا حجة له.
وقال
عكرمة:عُمِّي عليه كل شيء إلا جهنم.
ويحتمل
أن يكون المراد:أنه يُحشَر أو يبعث إلى النار أعمى البصر والبصيرة أيضًا، كما قال
تعالى: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا
وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا [ الإسراء:97 ] . ولهذا يقول: ( رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي
أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا ) أي:في
الدنيا.
قَالَ
كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ( 126
) .
( قَالَ
كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ) أي:لما
أعرضت عن آيات الله، وعامَلْتها معاملة من لم يذكرها، بعد بلاغها إليك تناسيتها
وأعرضت عنها وأغفلتها، كذلك نعاملك [
اليوم ] معاملة من ينساك فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ
يَوْمِهِمْ هَذَا [ الأعراف:51 ] فإن
الجزاء من جنس العمل، فأما نسيان لفظ القرآن مع فهم معناه والقيام بمقتضاه، فليس
داخلا في هذا الوعيد الخاص، وإن كان مُتَوَعدًا عليه من جهة أخرى، فإنه قد وردت
السنة بالنهي الأكيد، والوعيد الشديد في ذلك، قال الإمام أحمد:
حدثنا
خلف بن الوليد، حدثنا خالد، عن يزيد بن أبي زياد، عن عيسى بن فائد، عن رجل، عن سعد
بن عبادة، رضي الله عنه، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما من
رجل قرأ القرآن فنسيه، إلا لقي الله يوم يلقاه وهو أجذم » .
ثم رواه
الإمام أحمد من حديث يزيد بن أبي زياد، عن عيسى بن فائد، عن عبادة بن الصامت عن
النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر مثله سواء .
وَكَذَلِكَ
نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ
أَشَدُّ وَأَبْقَى ( 127 )
يقول
تعالى:وهكذا نجازي المسرفين المكذبين بآيات الله في الدنيا والآخرة، لَهُمْ
عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ
مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ [ الرعد:34 ] ولهذا
قال: ( وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى ) أي:أشد
ألمًا من عذاب الدنيا، وأدوم عليهم، فهم مخلدون فيه؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم للمتلاعنين: « إن عذاب الدنيا أهون من عذاب
الآخرة » .
أَفَلَمْ
يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي
مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُولِي النُّهَى ( 128
) وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ
لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى ( 129 )
فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ
الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ
النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى ( 130 ) .
يقول تعالى:
( أَفَلَمْ يَهْدِ ) لهؤلاء
المكذبين بما جئتهم به:يا محمد، كم أهلكنا من الأمم المكذبين بالرسل قبلهم، فبادوا
فليس لهم باقية ولا عين ولا أثر، كما يشاهدون ذلك من ديارهم الخالية التي خلفوهم
فيها، يمشون فيها، ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ
لأولِي النُّهَى ) أي:العقول الصحيحة والألباب
المستقيمة، كما قال تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ
قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى
الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [
الحج:46 ] ، وقال في سورة « الم
السجدة » : أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ
مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ أَفَلا
يَسْمَعُونَ [ السجدة:26 ] .
قال
تعالى: ( وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا
وَأَجَلٌ مُسَمًّى ) أي:لولا الكلمة السابقة من
الله وهو أنه لا يعذب أحدًا إلا بعد قيام الحجة عليه، والأجل المسمى الذي ضربه
الله تعالى لهؤلاء المكذبين إلى مدة معينة لجاءهم العذاب بغتة؛ ولهذا قال لنبيه مسليًا
له: ( فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ ) أي:من
تكذيبهم لك، ( وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ )
يعني:صلاة الفجر، ( وَقَبْلَ غُرُوبِهَا )
يعني:صلاة العصر، كما جاء في الصحيحين عن جرير بن عبد الله البَجَليّ رضي الله عنه
قال:كنا جلوسًا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر،
فقال: « إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر، لا تُضَامُّون في
رؤيته، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها، فافعلوا » ثم قرأ
هذه الآية .
وقال
الإمام أحمد:حدثنا سفيان بن عيينة، عن عبد الملك بن عمير، عن عمارة بن رُوَيْبة
قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « لن
يَلجَ النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها » .
رواه
مسلم من حديث عبد الملك بن عمير، به .
وفي
المسند والسنن، عن ابن عمر قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن
أدنى أهل الجنة منـزلة من ينظر في ملكه مسيرة ألف سنة، ينظر إلى أقصاه كما ينظر
إلى أدناه، وإن أعلاهم منـزلة لَمَنْ ينظر إلى الله عز وجل في اليوم مرتين » .
وقوله: (
وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ ) أي:من
ساعاته فتهجد به. وحمله بعضهم على المغرب والعشاء، (
وَأَطْرَافَ النَّهَارِ ) في مقابلة آناء الليل، (
لَعَلَّكَ تَرْضَى ) كما قال تعالى: وَلَسَوْفَ
يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى [ الضحى:5 ] .
وفي
الصحيح: « يقول الله:يا أهل الجنة، فيقولون:لبيك ربنا وسعديك.
فيقول:هل رضيتم؟ فيقولون:وما لنا لا نرضى، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك؟
فيقول:إني أعطيكم أفضل من ذلك. فيقولون:وأي شيء أفضل من ذلك ؟ فيقول:أحل عليكم
رضواني، فلا أسخط عليكم بعده أبدًا » .
وفي
الحديث [ الآخر ] يقال: « يا أهل
الجنة، إن لكم عند الله موعدا يريد أن يُنْجزكُمُوه. فيقولون:وما هو ؟ ألم يبيض
وجوهنا ويثقل موازيننا ويزحزحنا عن النار، ويدخلنا الجنة؟ فيكشف الحجاب فينظرون
إليه فوالله ما أعطاهم خيرًا من النظر إليه، وهي الزيادة » .
وَلا
تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى ( 131
) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا
نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ( 132
)
يقول
تعالى لنبيه محمد صلوات الله وسلامه عليه:لا تنظر إلى هؤلاء المترفين وأشباههم ونظرائهم،
وما فيه من النعم فإنما هو زهرة زائلة، ونعمة حائلة، لنختبرهم بذلك، وقليل من
عبادي الشكور.
وقال
مجاهد: ( أَزْوَاجًا مِنْهُمْ )
يعني:الأغنياء فقد آتاك [ الله ] خيرًا
مما آتاهم، كما قال في الآية الأخرى:وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي
وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ * لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ
أَزْوَاجًا مِنْهُمْ [ الحجر:87 ، 88 ] ،
وكذلك ما ادخره الله تعالى لرسوله في الدار الآخرة أمر عظيم لا يُحَدّ ولا يوصف،
كما قال تعالى: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى [
الضحى:5 ] ولهذا قال: (
وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى ) .
وفي
الصحيح:أن عمر بن الخطاب لما دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك المشربة
التي كان قد اعتزل فيها نساءه، حين آلى منهم فرآه متوسدًا مضطجعًا على رمال حصير
وليس في البيت إلا صُبْرَة من قَرَظ، وأهَب معلقة، فابتدرت عينا عمر بالبكاء، فقال
رسول الله: « ما يبكيك ؟ » .
فقال:يا رسول الله، إن كسرى وقيصر فيما هما فيه، وأنت صفوة الله من خلقه؟ فقال: « أوفي
شك أنت يا ابن الخطاب ؟ أولئك قوم عُجِّلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا » .
فكان
صلوات الله وسلامه عليه أزهد الناس في الدنيا مع القدرة عليها، إذا حصلت له ينفقها
هكذا وهكذا، في عباد الله، ولم يدخر لنفسه شيئًا لغد.
قال ابن
أبي حاتم:أنبأنا يونس، أخبرني ابن وهب، أخبرني مالك، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن
يَسَار، عن أبي سعيد؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إن
أخوف ما أخاف عليكم ما يفتح الله من زهرة الدنيا » .
قالوا:وما زهرة الدنيا يا رسول الله؟ قال: « بركات
الأرض » .
وقال
قتادة والسدي:زهرة الحياة الدنيا، يعني:زينة الحياة الدنيا.
وقال
قتادة ( لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ )
لنبتليهم .
وقوله: (
وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا )
أي:استنقذهم من عذاب الله بإقام الصلاة، واصطبر أنت على فعلها كما قال تعالى: يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا [
التحريم:6 ] .
وقال ابن
أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا أحمد بن صالح، حدثنا ابن وهب أخبرني هشام بن سعد، عن
زيد بن أسلم، عن أبيه:أن عمر بن الخطاب كان يبيت عنده أنا ويرفأ، وكان له ساعة من
الليل يصلي فيها، فربما لم يقم فنقول:لا يقوم الليلة كما كان يقوم، وكان إذا [
استيقظ أقام ] - يعني أهله - وقال: (
وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ) .
وقوله: ( لا
نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ ) يعني
إذا أقمت الصلاة أتاك الرزق من حيث لا تحتسب، كما قال تعالى:وَمَنْ يَتَّقِ
اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [
الطلاق:2، 3 ] ، وقال تعالى:وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا
لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ
* إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [
الذاريات:56- 58 ] ولهذا قال: ( لا
نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ ) وقال
الثوري: ( لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا ) أي:لا
نكلفك الطلب. وقال ابن أبي حاتم [
أيضًا ] حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا حفص بن غياث، عن هشام، عن
أبيه؛ أنه كان إذا دخل على أهل الدنيا، فرأى من دنياهم طرفًا فإذا رجع إلى أهله،
فدخل الدار قرأ: ( وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ ) إلى
قوله: ( نَحْنُ نَرْزُقُكَ ) ثم
يقول:الصلاة الصلاة، رحمكم الله.
وقال ابن
أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن أبي زياد القَطَوَاني، حدثنا سَيَّار،
حدثنا جعفر، عن ثابت قال:كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أصابه خصاصة نادى أهله:
« يا أهلاه، صلوا، صلوا » . قال
ثابت:وكانت الأنبياء إذا نـزل بهم أمر فزعوا إلى الصلاة .
وقد روى
الترمذي وابن ماجه، من حديث عمران بن زائدة، عن أبيه، عن أبي خالد الوالبي، عن أبي
هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يقول
الله تعالى:يا ابن آدم تَفَرَّغ لعبادتي أمْلأ صدرك غنى، وأسدّ فقرك، وإن لم تفعل
ملأتُ صدرك شغلا ولم أسدّ فقرك » .
وروى ابن
ماجه من حديث الضحاك، عن الأسود، عن ابن مسعود:سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم
يقول: « من جعل الهموم هما واحدا هم المعاد كفاه الله هَمّ دنياه.
ومن تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديته هلك » .
وروي
أيضًا من حديث شعبة، عن عُمَر بن سليمان عن عبد الرحمن بن أبان، عن أبيه، عن زيد
بن ثابت:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « من
كانت الدنيا هَمَّه فرَّق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من
الدنيا إلا ما كُتِبَ له. ومن كانت الآخرة نيَّته، جمع له أمره، وجعل غناه في
قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة » .
(
وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ) أي:وحسن العاقبة في الدنيا
والآخرة، وهي الجنة، لمن اتقى الله.
وفي
الصحيح:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « رأيت
الليلة كأنا في دار عقبة بن رافع وأنا أتينا برطب [ من
رطب ] ابن طاب، فأولت ذلك أن العاقبة لنا في الدنيا والرفعة وأن
ديننا قد طاب » .
وَقَالُوا
لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي
الصُّحُفِ الأُولَى ( 133 ) وَلَوْ
أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا
أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ
وَنَخْزَى ( 134 ) قُلْ
كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ
وَمَنِ اهْتَدَى ( 135 ) .
يقول تعالى مخبرًا عن الكفار في
قولهم: ( لَوْلا ) أي:هلا (
يَأْتِينَا ) محمد ( بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ )
أي:بعلامة دالة على صدقه في أنه رسول الله؟ قال الله تعالى: (
أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأولَى ) يعني:القرآن
العظيم الذي أنـزله عليه الله وهو أمي، لا يحسن الكتابة، ولم يدارس أهل الكتاب،
وقد جاء فيه أخبار الأولين، بما كان منهم في سالف الدهور، بما يوافقه عليه الكتب
المتقدمة الصحيحة منها؛ فإن القرآن مهيمن عليها، يصدق الصحيح، ويُبَيّن خطأ
المكذوب فيها وعليها. وهذه الآية كقوله تعالى في سورة «
العنكبوت » : وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ
قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ *
أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [
العنكبوت:50 ، 51 ] وفي الصحيح عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم أنه قال: « ما من نبي إلا وقد أوتي من
الآيات ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إليّ، وإني
لأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة » .
وإنما ذكر هاهنا أعظم الآيات
التي أعطيها، عليه السلام، وهو القرآن، وله من المعجزات ما لا يحد ولا يحصر، كما
هو مودع في كتبه، ومقرر في مواضعه .
ثم قال تعالى: ( وَلَوْ
أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا
أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا ) أي:لو أنا أهلكنا هؤلاء
المكذبين قبل أن نرسل إليهم هذا الرسول الكريم، وننـزل عليهم هذا الكتاب العظيم
لكانوا قالوا: ( رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ
إِلَيْنَا رَسُولا ) قبل أن تهلكنا، حتى نؤمن به
ونتبعه؟ كما قال: ( فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ
قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى ) ، يبين تعالى أن هؤلاء
المكذبين متعنتون معاندون لا يؤمنون وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى
يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ [ يونس:97 ] ، كما
قال تعالى: وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا
لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى
طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ *
أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى
مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ
أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ
يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ [
الأنعام:155- 157 ] وقال: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ
جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى
الأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلا نُفُورًا [
فاطر:42 ] وقال:وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ
جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ
وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ * وَنُقَلِّبُ
أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ
فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [ الأنعام:109 ، 110 ] .
ثم قال تعالى ( قُلْ ) أي:يا
محمد لمن كذبك وخالفك واستمر على كفره وعناده ( كُلٌّ
مُتَرَبِّصٌ ) أي:منا ومنكم (
فَتَرَبَّصُوا ) أي:فانتظروا، (
فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ )
أي:الطريق المستقيم، ( وَمَنِ اهْتَدَى ) إلى
الحق وسبيل الرشاد، وهذا كقوله تعالى وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ
الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلا [
الفرقان:42 ] ، سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الأَشِرُ [
القمر:26 ] .
آخر تفسير سورة طه، ولله الحمد
والمنة.