فهرس تفسير بن كثير للسور

22 - تفسير بن كثير سورة الحج

التالي السابق

 

تفسير سورة الحجر

 

وهي مكية.

بسم الله الرحمن الرحيم

الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ ( 1 ) رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ ( 2 ) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ( 3 )

قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور.

وقوله: ( رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ ) إخبار عنهم أنهم سيندمون على ما كانوا فيه من الكفر، ويتمنون لو كانوا مع المسلمين في الدار الدنيا.

ونقل السُّدِّيّ في تفسيره بسنده المشهور عن ابن عباس، وابن مسعود، وغيرهما من الصحابة:أن الكفار لما عُرضوا على النار، تمنوا أن لو كانوا مسلمين.

وقيل:المراد أن كل كافر يود عند احتضاره أن لو كان مؤمنا.

وقيل:هذا إخبار عن يوم القيامة، كما في قوله تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [ الأنعام:27 ]

وقال سفيان الثوري:عن سلمة بن كُهَيْل، عن أبي الزعراء، عن عبد الله في قوله: ( رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ ) قال:هذا في الجُهنَمين إذ رأوهم يخرجون من النار.

وقال ابن جرير:حدثنا المثنى، حدثنا مسلم، حدثنا القاسم، حدثنا ابن أبي فَرْوة العَبْدي؛ أن ابن عباس وأنس بن مالك كانا يتأولان هذه الآية: ( رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ ) يتأولانها:يوم يحبس الله أهل الخطايا من المسلمين مع المشركين في النار. قال:فيقول لهم المشركون:ما أغنى عنكم ما كنتم تعبدون في الدنيا. قال:فيغضب الله لهم بفضل رحمته، فيخرجهم، فذلك حين يقول: ( رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ )

وقال عبد الرزاق:أخبرنا الثوري، عن حماد، عن إبراهيم، عن خصيف، عن مجاهد قالا يقول أهل النار للموحدين:ما أغنى عنكم إيمانكم؟ فإذا قالوا ذلك. قال:أخرجوا من كان في قلبه مثقال ذرة. قال:فعند ذلك قوله: ( [ رُبَمَا ] يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ )

وهكذا روي عن الضحاك، وقتادة، وأبي العالية، وغيرهم. وقد ورد في ذلك أحاديث مرفوعة، فقال الحافظ أبو القاسم الطبراني.

حدثنا محمد بن العباس، هو الأخرم، حدثنا محمد بن منصور الطوسي، حدثنا صالح بن إسحاق الجهبذ دلني عليه يحيى بن معين حدثنا مُعَرّف بن واصل، عن يعقوب بن أبي نباتة عن عبد الرحمن الأغر، عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن ناسا من أهل لا إله إلا الله يدخلون النار بذنوبهم، فيقول لهم أهل اللات والعزى:ما أغنى عنكم قولكم:لا إله إلا الله وأنتم معنا في النار؟. فيغضب الله لهم، فيخرجهم، فيلقيهم في نهر الحياة، فيبرءون من حرقهم كما يبرأ القمر من خسوفه، فيدخلون الجنة، ويسمَّون فيها الجهنميين » فقال رجل:يا أنس، أنت سمعتَ هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال أنس:سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « من كذب علي متعمدًا، فليتبوأ مقعده من النار » . نعم، أنا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا.

ثم قال الطبراني:تفرد به الجهبذ

الحديث الثاني:وقال الطبراني أيضا:حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثنا أبو الشعثاء علي بن حسن الواسطي، حدثنا خالد بن نافع الأشعري، عن سعيد بن أبي بردة، عن أبيه، عن أبي موسى، رضي الله عنه، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إذا اجتمع أهل النار في النار، ومعهم من شاء الله من أهل القبلة، قال الكفار للمسلمين:ألم تكونوا مسلمين؟ قالوا:بلى. قالوا:فما أغنى عنكم الإسلام! فقد صرتم معنا في النار؟ قالوا:كانت لنا ذنوب فأخذنا بها. فسمع الله ما قالوا، فأمر بمن كان في النار من أهل القبلة فأخرجوا، فلما رأى ذلك من بقي من الكفار قالوا:يا ليتنا كنا مسلمين فنخرج كما خرجوا » . قال:ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم:أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ( الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ * رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ )

ورواه ابن أبي حاتم، من حديث خالد بن نافع، به، وزاد فيه: ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ، عوض الاستعاذة.

الحديث الثالث:وقال الطبراني أيضا:حدثنا موسى بن هارون، حدثنا إسحاق بن راهويه قال:قلت لأبي أسامة:أحدثكم أبو روق - واسمه عطية بن الحارث- :حدثني صالح بن أبي طريف قال:سألت أبا سعيد الخدري فقلت له:هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في هذه الآية: ( رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ ) ؟ قال:نعم، سمعته يقول: « يُخرج الله ناسا من المؤمنين من النار بعد ما يأخذ نقمته منهم » ، وقال: « لما أدخلهم الله النار مع المشركين قال لهم المشركون:تزعمون أنكم أولياء الله في الدنيا، فما بالكم معنا في النار؟ فإذا سمع الله ذلك منهم، أذن في الشفاعة لهم فتشفع الملائكة والنبيون، ويشفع المؤمنون، حتى يخرجوا بإذن الله، فإذا رأى المشركون ذلك، قالوا:يا ليتنا كنا مثلهم، فتدركنا الشفاعة، فنخرج معهم » . قال: « فذلك قول الله: ( رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ ) فيسمون في الجنة الجُهَنَّمِيِّين من أجل سَواد في وجوههم، فيقولون:يا رب، أذهب عنا هذا الاسم، فيأمرهم فيغتسلون في نهر الجنة، فيذهب ذلك الاسم عنهم » ، فأقر به أبو أسامة، وقال:نعم.

الحديث الرابع وقال ابن أبي حاتم:حدثنا علي بن الحسين، حدثنا العباس بن الوليد النرسي حدثنا مسكين أبو فاطمة، حدثني اليمان بن يزيد، عن محمد بن حِمْير عن محمد بن علي، عن أبيه، عن جده قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « منهم من تأخذه النار إلى ركبتيه، ومنهم من تأخذه النار إلى حجزته، ومنهم من تأخذه النار إلى عنُقه، على قدر ذنوبهم وأعمالهم، ومنهم من يمكث فيها شهرا ثم يخرج منها، ومنهم من يمكث فيها سنة ثم يخرج منها، وأطولهم فيها مكثا بقدر الدنيا منذ يوم خلقت إلى أن تفنى، فإذا أراد الله أن يخرجوا منها قالت اليهود والنصارى ومن في النار من أهل الأديان والأوثان، لمن في النار من أهل التوحيد:آمنتم بالله وكتبه ورسله، فنحن وأنتم اليوم في النار سواء، فيغضب الله لهم غضبا لم يغضبه لشيء فيما مضى، فيخرجهم إلى عين في الجنة، وهو قوله: ( رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ ) . »

وقوله: ( ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا ) تهديد لهم شديد، ووعيد أكيد، كقوله تعالى: قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ [ إبراهيم:30 ] وقوله: كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ [ المرسلات:46 ] ولهذا قال: ( وَيُلْهِهِمُ الأمَلُ ) أي:عن التوبة والإنابة، ( فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ) أي:عاقبة أمرهم.

وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ ( 4 ) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ ( 5 )

يقول تعالى:إنه ما أهلك قرية إلا بعد قيام الحجة عليها وانتهاء أجلها، وإنه لا يؤخر أمة حان هلاكها عن ميقاتها ولا يتقدمون عن مدتهم. وهذا تنبيه لأهل مكة، وإرشاد لهم إلى الإقلاع عما هم فيه من الشرك والعناد والإلحاد، الذي يستحقون به الهلاك.

وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ( 6 ) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ( 7 ) مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ ( 8 ) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ( 9 )

يخبر تعالى عن كفرهم وعتوهم وعنادهم في قولهم: ( يَا أَيُّهَا الَّذِي نـزلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ ) أي:الذي يدعي ذلك ( إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ) أي:في دعائك إيانا إلى اتباعك وترك ما وجدنا عليه آباءنا. ( لَوْ مَا ) أي:هلا ( تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ ) أي:يشهدون لك بصحة ما جئت به ( إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) كما قال فرعون: ( فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسَاوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ ) [ الزخرف:53 ] وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا * يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا [ الفرقان:21 ، 22 ]

وكذا قال في هذه الآية: ( مَا نُنـزلُ الْمَلائِكَةَ إِلا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ )

وقال مجاهد في قوله: ( مَا نُنـزلُ الْمَلائِكَةَ إِلا بِالْحَقِّ ) بالرسالة والعذاب.

ثم قرر تعالى أنه هو الذي أنـزل الذكر، وهو القرآن، وهو الحافظ له من التغيير والتبديل.

ومنهم من أعاد الضمير في قوله تعالى: ( لَهُ لَحَافِظُونَ ) على النبي صلى الله عليه وسلم، كقوله: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [ المائدة:67 ] والمعنى الأول أولى، وهو ظاهر السياق، [ والله أعلم ]

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأَوَّلِينَ ( 10 ) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ( 11 ) كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ( 12 ) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ ( 13 )

يقول تعالى مسليًا لرسوله في تكذيب من كذَّبه من كفار قريش:إنه أرسل من قَبْله في الأمم الماضية، وإنه ما أتى أمة رسول إلا كذبوه واستهزؤوا به.

ثم أخبر أنه سلك التكذيب في قلوب المجرمين الذين عاندوا واستكبروا عن اتباع الهدى.

قال أنس، والحسن البصري: ( كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ) يعني:الشرك.

وقوله: ( وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ ) أي:قد علم ما فعل تعالى بمن كذب رسله من الهلاك والدمار، وكيف أنجى الله الأنبياء وأتباعهم في الدنيا والآخرة.

وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ ( 14 ) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ ( 15 )

يخبر تعالى عن قوة كفرهم وعنادهم ومكابرتهم للحق:أنه لو فتح لهم بابًا من السماء، فجعلوا يصعدون فيه، لما صدّقوا بذلك، بل قالوا: ( سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا )

قال مجاهد وابن كثير، والضحاك:سدت أبصارنا.

وقال قتادة، عن ابن عباس:أخذت أبصارنا.

وقال العوفي عن ابن عباس:شُبه علينا، وإنما سحرنا.

وقال الكلبي:عَميت أبصارنا.

وقال ابن زيد: ( سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا ) السكران الذي لا يعقل.

 

وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ ( 16 ) وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ ( 17 ) إِلا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ ( 18 ) وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ ( 19 ) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ ( 20 )

يذكر تعالى خلقه السماء في ارتفاعها وما زَيَّنَها به من الكواكب الثواقب، لمن تأملها، وكرر النظر فيها، يرى فيها من العجائب والآيات الباهرات، ما يحار نظره فيه. ولهذا قال مجاهد وقتادة:البروج هاهنا هي:الكواكب.

قلت:وهذا كقوله تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا [ الفرقان:61 ] ومنهم من قال:البروج هي:منازل الشمس والقمر.

وقال عطية العوفي:البروج هاهنا:هي قصور الحرس

وجعل الشُهب حرسًا لها من مَرَدة الشياطين، لئلا يسمعوا إلى الملأ الأعلى، فمن تمرد منهم [ وتقدم ] لاستراق السمع، جاءه شِهَابٌ مُبِينٌ فأتلفه، فربما يكون قد ألقى الكلمة التي سمعها قبل أن يدركه الشهاب إلى الذي هو دونه، فيأخذها الآخر، ويأتي بها إلى وليه، كما جاء مصرحا به في الصحيح، كما قال البخاري في تفسير هذه الآية:

حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان عن عمرو، عن عكرمة، عن أبي هريرة، يبلُغُ به النبي صلى الله عليه وسلم، قال: « إذا قضى الله الأمر في السماء، ضربت الملائكة بأجنحتها خُضعانًا لقوله كأنه سلسلة على صَفوان » . قال علي، وقال غيره:صفوان يَنفُذهم ذلك، فإذا فُزّع عن قلوبهم قالوا:ماذا قال ربكم؟ قالوا:الذي قال:الحق، وهو العلي الكبير. فيسمعها مسترقو السمع، ومسترقو السمع، هكذا واحد فوق آخر - ووصف سفيان بيده فَفَرَّج بين أصابع يده اليمنى، نَصبَها بعضها فوق بعض - فربما أدرك الشهاب المستمع قبل أن يَرْمي بها إلى صاحبه فيحرقَه، وربما لم يدركه [ حتى ] يَرْمي بها إلى الذي يليه، [ إلى الذي ] هو أسفل منه، حتى يلقوها إلى الأرض - وربما قال سفيان:حتى تنتهي إلى الأرض فتلقى على فم الساحر - أو:الكاهن - فيكذب معها مائة كذبة فيقولون:ألم يخبرنا يوم كذا وكذا يكون كذا وكذا، فوجدناه حقًّا؟ للكلمة التي سمعت من السماء « »

ثم ذكر، تعالى، خلقه الأرض، ومده إياها وتوسيعها وبسطها، وما جعل فيها من الجبال الرواسي، والأودية والأراضي والرمال، وما أنبت فيها من الزروع والثمار المتناسبة.

وقال ابن عباس: ( مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ ) أي:معلوم. وكذا قال سعيد بن جبير، وعكرمة، وأبو مالك، ومجاهد، والحكم بن عُتَيبة والحسن بن محمد، وأبو صالح، وقتادة.

ومنهم من يقول:مقدر بقدر.

وقال ابن زيد:من كل شيء يُوزَن ويقدر بقدر. وقال ابن زيد:ما تزنه [ أهل ] الأسواق.

وقوله: ( وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ ) يذكر، تعالى، أنه صرفهم في الأرض في صنوف [ من ] الأسباب والمعايش، وهي جمع معيشة.

وقوله: ( وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ ) قال مجاهد:وهي الدواب والأنعام.

وقال ابن جرير:هم العبيد والإماء والدواب والأنعام.

والقصد أنه، تعالى، يمتن عليهم بما يسر لهم من أسباب المكاسب ووجوه الأسباب وصنوف المعايش، وبما سخر لهم من الدواب التي يركبونها والأنعام التي يأكلونها، والعبيد والإماء التي يستخدمونها، ورزْقهم على خالقهم لا عليهم فلهم هم المنفعة، والرزق على الله تعالى.

[ وقوله ] وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ( 21 ) وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ ( 22 ) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ ( 23 ) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ ( 24 ) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ( 25 )

يخبر، تعالى، أنه مالك كل شيء، وأن كل شيء سهل عليه، يسير لديه، وأن عنده خزائن الأشياء من جميع الصنوف، ( وَمَا نُنـزلُهُ إِلا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ) كما يشاء وكما يريد، ولما لَهُ في ذلك من الحكمة البالغة، والرحمة بعباده، لا على [ وجه ] الوجوب، بل هو كتب على نفسه الرحمة.

قال يزيد بن أبي زياد، عن أبي جحيفة، عن عبد الله:ما من عام بأمطر من عام، ولكن الله يقسمه حيث شاء عامًا هاهنا، وعامًا هاهنا. ثم قرأ: ( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنـزلُهُ إِلا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ) رواه ابن جرير

وقال أيضا:حدثنا القاسم، حدثنا الحسن حدثنا هُشَيْم، أخبرنا إسماعيل بن سالم، عن الحكم بن عُتَيْبَة في قوله: ( وَمَا نُنـزلُهُ إِلا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ) قال:ما عام بأكثر مطرًا من عام ولا أقل، ولكنه يُمطر قوم ويحرم آخرون وربما كان في البحر. قال:وبلغنا أنه ينـزل مع المطر من الملائكة أكثر من عدد ولد إبليس وولد آدم، يُحصُون كل قطرة حيث تقع وما تنبت

وقال البزار:حدثنا داود - وهو ابن بكر التُّسْتُري - حدثنا حبَّان بن أغلب بن تميم، حدثني أبي، عن هشام، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « خزائن الله الكلام، فإذا أراد شيئا قال له:كن، فكان »

ثم قال:لا يرويه إلا أغلب، ولم يكن بالقوي، وقد حدث عنه غير واحد من المتقدمين، ولم يروه عنه إلا ابنه.

وقوله: ( وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ ) أي:تلقح السحاب فتدر ماء، وتلقح الشجر فتتفتح عن أوراقها وأكمامها.

هذه « الرياح » ذكرها بصيغة الجمع، ليكون منها الإنتاج، بخلاف الريح العقيم فإنه أفردها، ووصفها بالعقيم، وهو عدم الإنتاج؛ لأنه لا يكون إلا من شيئين فصاعدا.

وقال الأعمش، عن المِنْهَال بن عمرو، عن قيس بن السكن، عن عبد الله بن مسعود في قوله: ( وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ ) قال:ترسل الرياح، فتحمل الماء من السماء، ثم تَمْرى السحاب، حتى تدر كما تَدر اللَّقحَة.

وكذا قال ابن عباس، وإبراهيم النخعي، وقتادة.

وقال الضحاك:يبعثها الله على السحاب، فتُلقحه، فيمتلئ ماء.

وقال عُبَيْد بن عُمَير الليثي:يبعث الله المُبشرّة فتَقمُّ الأرض قَمًّا ثم بعث الله المثيرة فتثير السحاب، ثم يبعث الله المؤلفة فتؤلف السحاب، ثم يبعث الله اللواقح فتلقح الشجر، ثم تلا ( وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ )

وقد روى ابن جرير، من حديث عُبَيْس بن ميمون، عن أبي المُهَزَّم، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « الريح الجنوب من الجنة، وهي [ الريح اللواقح، وهي التي ] ذكر الله في كتابه، وفيها منافع للناس » وهذا إسناد ضعيف.

وقال الإمام أبو بكر عبد الله بن الزبير الحُمَيدي في مسنده:حدثنا سفيان، حدثنا عمرو بن دينار، أخبرني يزيد بن جُعْدبة الليثي:أنه سمع عبد الله بن مِخْراق، يحدث عن أبي ذر قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الله خلق في الجنة ريحا بعد الريح بسبع سنين، وإن من دونها بابا مغلقا، وإنما يأتيكم الريح من ذلك الباب، ولو فتح لأذرت ما بين السماء والأرض من شيء، وهي عند الله الأزيبُ، وهي فيكم الجنوب »

وقوله: ( فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ ) أي:أنـزلناه لكم عَذْبًا يُمكنكم أن تشربوا منه، ولو نشاء لجعلناه أجاجًا. كما ينبه الله على ذلك في الآية الأخرى في سورة « الواقعة » ، وهو قوله: أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلا تَشْكُرُونَ [ الواقعة:68- 70 ] وفي قوله: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ [ النحل:10 ]

وقوله: ( وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ ) قال سفيان الثوري:بمانعين.

ويحتمل أن المراد:وما أنتم له بحافظين، بل نحن ننـزله ونحفظه عليكم، ونجعله معينا وينابيع في الأرض، ولو شاء تعالى لأغاره وذهب به، ولكن من رحمته أنـزله وجعله عذبا، وحفظه في العيون والآبار والأنهار وغير ذلك. ليبقى لهم في طول السنة، يشربون ويسقون أنعامهم وزروعهم وثمارهم.

وقوله: ( وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ ) إخبار عن قدرته تعالى على بدء الخلق وإعادته، وأنه هو الذي أحيا الخلق من العدم، ثم يميتهم ثم يبعثهم كلهم ليوم الجمع.

وأخبر أنه، تعالى، يرث الأرض ومن عليها وإليه يرجعون.

ثم قال مخبرًا عن تمام علمه بهم، أولهم وآخرهم: ( وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ ) قال ابن عباس، رضي الله عنهما المستقدمون:كل من هلك من لدن آدم، عليه السلام، والمستأخرون:من هو حي ومن سيأتي إلى يوم القيامة.

وروي نحوه عن عكرمة، ومجاهد، والضحاك، وقتادة، ومحمد بن كعب، والشعبي، وغيرهم. وهو اختيار ابن جرير، رحمه الله

وقال ابن جرير:حدثنا محمد بن عبد الأعلى، حدثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، عن رجل عن مَرْوان بن الحكم أنه قال:كان أناس يستأخرون في الصفوف من أجل النساء فأنـزل الله: ( وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ )

وقد ورد في هذا حديث غريب جدا، فقال ابن جرير:

حدثني محمد بن موسى الحَرَشِي، حدثنا نوح بن قيس، حدثنا عمرو بن مالك، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال:كانت تصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة - قال ابن عباس:لا والله ما إنْ رأيت مثلها قط، وكان بعض المسلمين إذا صلوا استقدموا يعني:لئلا يراها - وبعض يستأخرون، فإذا سجدوا نظروا إليها من تحت أيديهم!! فأنـزل الله: ( وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ )

وكذا رواه أحمد وابن أبي حاتم في تفسيره، والترمذي والنسائي في كتاب التفسير من سننيهما وابن ماجه من طرق عن نوح بن قيس الحُداني وقد وثقه أحمد وأبو داود وغيرهما، وحكي عن ابن معين تضعيفه، وأخرج له مسلم وأهل السنن.

وهذا الحديث فيه نكارة شديدة، وقد رواه عبد الرزاق، عن جعفر بن سليمان، عن عمرو بن مالك وهو النكري أنه سمع أبا الجوزاء يقول في قوله: ( وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ ) في الصفوف في الصلاة ( وَالْمُسْتَأْخِرِينَ ) فالظاهر أنه من كلام أبي الجوزاء فقط، ليس فيه لابن عباس ذكر وقد قال الترمذي:هذا أشبه من رواية نوح بن قيس والله أعلم.

وهكذا روى ابن جرير عن محمد بن أبي معشر، عن أبيه:أنه سمع عون بن عبد الله يُذاكر محمد بن كعب في قوله: ( وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ ) وأنها في صفوف الصلاة، فقال محمد بن كعب:ليس هكذا، ( وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ ) الميت والمقتول و ( الْمُسْتَأْخِرِينَ ) من يُخلقُ بَعْدُ، ( وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ) فقال عون بن عبد الله:وفقك الله وجزاك خيرًا

وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ( 26 ) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ ( 27 )

قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة:المراد بالصلصال هاهنا:التراب اليابس.

والظاهر أنه كقوله تعالى: خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ * وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ [ الرحمن:14- 15 ]

وعن مجاهد أيضا:الصلصال:المنتن.

وتفسير الآية بالآية أولى

وقوله: ( مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ) أي:الصلصال من حمأ، وهو:الطين. والمسنون:الأملس، كما قال الشاعر

ثم خاصرتهـا إلى القبـة الخضـراء تمشـي في مـرمر مسنـون

أي:أملس صقيل.

ولهذا روي عن ابن عباس:أنه قال:هو التراب الرطب. وعن ابن عباس، ومجاهد، والضحاك أيضا:أن الحمأ المسنون هو المنتن. وقيل:المراد بالمسنون هاهنا:المصبوب.

وقوله: ( وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ ) أي:من قبل الإنسان ( مِنْ نَارِ السَّمُومِ ) قال ابن عباس:هي السموم التي تقتل.

وقال بعضهم:السموم بالليل والنهار. ومنهم من يقول:السموم بالليل، والحرور بالنهار.

وقال أبو داود الطيالسي:حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق قال:دخلت على عَمْرو الأصم أعوده، فقال:ألا أحدّثك حديثا سمعته من عبد الله بن مسعود، يقول:هذه السموم جزء من سبعين جزءا من السموم التي خلق منها الجان، ثم قرأ: ( وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ )

وعن ابن عباس:أن الجان خُلق من لهب النار، وفي رواية:من أحسن النار.

وعن عمرو بن دينار:من نار الشمس، وقد ورد في الصحيح: « خُلقت الملائكة من نور، وخُلقت الجان من مارج من نار، وخُلق بنو آدم مما وصِف لكم » ومقصود الآية:التنبيه على شرف آدم، عليه السلام، وطيب عنصره، وطهارة مَحْتده

وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ( 28 ) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ( 29 ) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ( 30 ) إِلا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ ( 31 )

يذكر تعالى تنويهه بذكر آدم في ملائكته قبل خلقه له، وتشريفه إياه بأمره الملائكة بالسجود له. ويذكر تخلف إبليس عدوّه عن السجود له من بين سائر الملائكة، حَسَدًا وكفرًا، وعنادًا واستكبارًا، وافتخارًا بالباطل، ولهذا قال: لَمْ أَكُنْ لأسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ كما قال في الآية الأخرى: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [ الأعراف:12 ] وقوله: أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلا [ الإسراء:62 ]

 

قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ ( 32 ) قَالَ لَمْ أَكُنْ لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ( 33 )

وقد روى ابن جرير هاهنا أثرًا غريبًا عجيبًا، من حديث شبيب بن بشر، عن عِكْرمة، عن ابن عباس قال:لما خلق الله الملائكة قال:إني خالق بشرًا من طين، فإذا سويته فاسجدوا له. قالوا:لا نفعل. فأرسل عليهم نارا فأحرقتهم، ثم خلق ملائكة فقال لهم مثل ذلك، [ فقالوا:لا نفعل. فأرسل عليهم نارًا فأحرقتهم. ثم خلق ملائكة أخرى فقال:إني خالق بشرًا من طين، فإذا أنا خلقته فاسجدوا له فأبوا، فأرسل عليهم نارا فأحرقتهم. ثم خلق ملائكة فقال:إني خالق بشرا من طين، فإذا أنا خلقته فاسجدوا له ] قالوا سمعنا وأطعنا، إلا إبليس كان من الكافرين الأولين

وفي ثبوت هذا عنه بعد، والظاهر أنه إسرائيلي، والله أعلم.

قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ ( 34 ) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ ( 35 ) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ( 36 ) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ( 37 ) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ( 38 )

يقول آمرًا لإبليس أمرًا كونيًّا لا يخالف ولا يمانع، بالخروج من المنـزلة التي كان فيها من الملأ الأعلى، وإنه ( رَجِيمٌ ) أي:مرجوم. وإنه قد أتبعه لعنةً لا تزال متصلة به، لاحقةً له، متواترة عليه إلى يوم القيامة.

وعن سعيد بن جبير أنه قال:لما لعن الله إبليس، تغيرت صورته عن صورة الملائكة، ورن رنةً، فكل رنة في الدنيا إلى يوم القيامة منها. رواه ابن أبي حاتم.

وإنه لما تحقق الغضب الذي لا مَرَدَّ له، سأل من تمام حسده لآدم وذريته النظرة إلى يوم القيامة، وهو يوم البعث وأنه أجيب إلى ذلك استدراجًا له وإمهالا فلما تحقق النظرة قبحه الله:

قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ( 39 ) إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ( 40 ) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ ( 41 ) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ ( 42 ) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ ( 43 ) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ ( 44 )

يقول تعالى مخبرًا عن إبليس وتمرده وعتوه أنه قال للرب: ( بِمَا أَغْوَيْتَنِي ) قال بعضهم:أقسم بإغواء الله له.

قلت:ويحتمل أنه بسبب ما أغويتني وأضللتني ( لأزَيِّنَنَّ لَهُمْ ) أي:لذرية آدم، عليه السلام ( فِي الأرْضِ ) أي:أحبب إليهم المعاصي وأرغّبهم فيها، وأؤزّهم إليها، وأزعجهم إزعاجًا، ( وَلأغْوِيَنَّهُمْ ) أي:كما أغويتني ونَدَّرت علي ذلك، ( أَجْمَعِينَ * إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) كَمَا قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلا [ الإسراء:62 ]

قال الله تعالى له متهددًا ومتوعدًا ( هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ ) أي:مرجعكم كلكم إلي، فأجازيكم بأعمالكم، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر، كما قال تعالى: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ [ الفجر:14 ]

وقيل:طريق الحق مرجعها إلى الله تعالى، وإليه تنتهي. قاله مجاهد، والحسن، وقتادة كما قال: وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ [ النحل:9 ]

وقرأ قيس بن عُبَاد، ومحمد بن سيرين، وقتادة: « هذا صراط عَلِيّ مستقيم » ، كقوله: وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ [ الزخرف:4 ] أي:رفيع. والمشهور القراءة الأولى.

وقوله: ( إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ) أي:الذين قدرت لهم الهداية، فلا سبيل لك عليهم، ولا وصول لك إليهم، ( إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ ) استثناء منقطع.

وقد أورد ابن جَرير هاهنا من حديث عبد الله بن المبارك، عن عبد الله بن موهب حدثنا يزيد بن قُسَيْط قال:كانت الأنبياء يكون لهم مساجد خارجةً من قراهم، فإذا أراد النبي أن يستنبئ ربه عن شيء، خرج إلى مسجده فصلى ما كتب الله له، ثم سأل ما بدا له، فبينا نبي في مسجده إذ جاء عدو الله - يعني:إبليس - حتى جلس بينه وبين القبلة، فقال النبي:أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. [ فقال عدو الله:أرأيت الذي تَعَوّذ منه؟ فهو هو. فقال النبي:أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ] قال:فَردّد ذلك ثلاث مرات، فقال عدو الله:أخبرني بأي شيء تنجو مني؟ فقال النبي:بل أخبرني بأي شيء تغلب ابن آدم؟ مرتين، فأخذ كل [ واحد ] منهما على صاحبه، فقال النبي:إن الله تعالى يقول: ( إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ ) قال عدو الله:قد سمعت هذا قبل أن تولد. قال النبي:ويقول الله: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [ الأعراف:200 ] وإني والله ما أحسست بك قط إلا استعذت بالله منك. قال عدو الله:صدقت، بهذا تنجو مني. فقال النبي: « أخبرني بأي شيء تغلبُ ابن آدم » ؟ قال:آخذه عند الغضب والهوى

وقوله: ( وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ ) أي:جهنم موعد جميع من اتبع إبليس، كما قال عن القرآن: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [ هود:17 ]

ثم أخبر أن لجهنم سبعة أبواب: ( لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ ) أي:قد كتب لكل باب منها جزء من أتباع إبليس يدخلونه، لا محيد لهم عنه - أجارنا الله منها- وكل يدخل من باب بحسب عمله، ويستقر في دَرَك بقدر فعله.

قال إسماعيل ابن عُلَيَّة وشعبة كلاهما، عن أبي هارون الغَنَويّ، عن حطان بن عبد الله أنه قال:سمعت علي بن أبي طالب وهو يخطب قال:إن أبواب جهنم هكذا - قال أبو هارون:أطباقًا بعضها فوق بعض

وقال إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن هُبَيْرة بن يريم عن علي، رضي الله عنه، قال:أبواب جهنم سبعة بعضها فوق بعض، فيمتلئ الأول، ثم الثاني، ثم الثالث، حتى تُمْلأ كلها

وقال عِكْرمة: ( سَبْعَةُ أَبْوَابٍ ) سبعة أطباق.

وقال ابن جريج: ( سَبْعَةُ أَبْوَابٍ ) أولها جهنم، ثم لظَى، ثم الحُطَمَة، ثم سعير، ثم سقر، ثم الجحيم، ثم الهاوية.

وروى الضحاك عن ابن عباس، نحوه. وكذا [ روي ] عن الأعمش بنحوه أيضًا.

وقال قتادة: ( لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ ) وهي والله منازل بأعمالهم. رواهن ابن جرير.

وقال جويبر، عن الضحاك: ( لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ ) قال:باب لليهود، وباب للنصارى، وباب للصابئين، وباب للمجوس، وباب للذين أشركوا - وهم كفار العرب - وباب للمنافقين، وباب لأهل التوحيد، فأهل التوحيد يُرجى لهم ولا يُرجى لأولئك أبدًا.

وقال الترمذي:حدثنا عبد بن حُمَيْد، حدثنا عثمان بن عمر، عن مالك بن مِغْوَل، عن جُنَيْد عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « لجهنم سبعة أبواب:باب منها لمن سلَّ السيف على أمتي - أو قال:على أمة محمد » .

ثم قال:لا نعرفه إلا من حديث مالك بن مِغْوَل

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا، عباس بن الوليد الخلال، حدثنا زيد - يعني:ابن يحيى - حدثنا سعيد بن بشير، عن قتادة، عن أبي نضرة، عن سَمُرَة بن جُنْدَب، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ( لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ ) ‌‌‌قال: « إن من أهل النار من تأخذه النار إلى كعبيه، وإن منهم من تأخذه النار إلى حُجزته، ومنهم من تأخذه النار إلى تراقيه، منازل بأعمالهم، فذلك قوله: ( لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ ) »

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ( 45 ) ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ ( 46 ) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ ( 47 ) لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ ( 48 ) نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ( 49 ) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ ( 50 )

لما ذكر تعالى حال أهل النار، عطف على ذكر أهل الجنة، وأنهم في جنات وعيون.

وقوله: ( ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ) أي:سالمين من الآفات، مسلمًا عليكم، ( آمِنِينَ ) من كل خوف وفزع، ولا تخشوا من إخراج، ولا انقطاع، ولا فناء.

وقوله: ( وَنـزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ ) روى القاسم، عن أبي أمامة قال:يدخل أهل الجنة الجنة على ما في صدورهم في الدنيا من الشحناء والضغائن، حتى إذا توافوا وتقابلوا نـزع الله ما في صدورهم في الدنيا من غل، ثم قرأ: ( وَنـزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ )

هكذا في هذه الرواية، والقاسم بن عبد الرحمن - في روايته عن أبي أمامة - ضعيف.

وقد روى سُنَيْد في تفسيره:حدثنا ابن فضالة، عن لقمان، عن أبي أمامة قال:لا يدخل مؤمن الجنة حتى ينـزع الله ما في صدورهم من غل، حتى ينـزع منه مثل السبع الضاري

وهذا موافق لما في الصحيح، من رواية قتادة، حدثنا أبو المتوكل الناجي:أن أبا سعيد الخدري حدثهم:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « يَخْلُص المؤمنون من النار، فيُحبسون على قنطرة بين الجنة والنار، فيُقتص لبعضهم من بعضهم، مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هُذِّبوا ونُقّوا، أذن لهم في دخول الجنة »

وقال ابن جرير:حدثنا الحسن، حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا هشام، عن محمد - هو ابن سيرين - قال:استأذن الأشتر على عليٍّ، رضي الله عنه، وعنده ابن لطلحة، فحبسه ثم أذن له. فلما دخل قال:إني لأراك إنما احتبستني لهذا؟ قال:أجل. قال:إني لأراه لو كان عندك ابن لعثمان لحبستني؟ قال:أجل إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان ممن قال الله تعالى: ( وَنـزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ [ إِخْوَانًا ] عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ )

وحدثنا الحسن:حدثنا أبو معاوية الضرير، حدثنا أبو مالك الأشجعي، عن أبي حبيبة - مولى لطلحة - قال:دخل عمران بن طلحة على عليٍّ، رضي الله عنه، بعدما فرغ من أصحاب الجمل، فرحب به وقال:إني لأرجو أن يجعلني الله وأباك من الذين قال الله: ( وَنـزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ ) - قال:ورجلان جالسان على ناحية البساط، فقالا الله أعدل من ذلك، تقتلهم بالأمس، وتكونون إخوانا! فقال علي، رضي الله عنه:قُوما أبعد أرض وأسحقها! فمن هو إذا إن لم أكن أنا وطلحة، وذكر أبو معاوية الحديث بطوله

وروى وَكِيع، عن أبان بن عبد الله البجلي، عن نُعَيْم بن أبي هند، عن رِبْعِي بن خِرَاش، عن علي، نحوه، وقال فيه:فقام رجل من هَمْدان فقال:الله أعدل من ذاك يا أمير المؤمنين. قال:فصاح به علي صيحة، فظننت أن القصر تَدهدَه لها، ثم قال:إذا لم نكن نحن فمن هو؟

وقال سعيد بن مسروق، عن أبي طلحة - وذكره- فيه:فقال الحارث الأعور ذلك، فقام إليه علي، رضي الله عنه، فضربه بشيء كان في يده في رأسه، وقال:فمن هم يا أعور إذا لم نكن نحن؟

وقال سفيان الثوري:عن منصور، عن إبراهيم قال:جاء ابن جرموز قاتل الزبير يستأذن على عليٍّ، رضي الله عنه فحجبه طويلا ثم أذن له، فقال له:أما أهل البلاء فتجفوهم. فقال علي:بفيك التراب، إني لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير، ممن قال الله: ( وَنـزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ )

وكذا روى الثوري، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي، بنحوه.

وقال سفيان بن عُيَيْنة، عن إسرائيل، عن أبي موسى، سمع الحسن البصري يقول:قال علي:فينا والله - أهل بدر - نـزلت هذه الآية: ( وَنـزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ )

وقال كثير النَّواء:دخلت على أبي جعفر محمد بن علي فقلت:وليي وليكم، وسلمي سلمكم، وعدوي عدوكم، وحربي حربكم. إني أسألك بالله:أتبرأ من أبي بكر وعمر؟ فقال: قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ [ الأنعام:56 ] تولهما يا كثير، فما أدركك فهو في رقبتي هذه، ثم تلا هذه الآية: ( إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ ) قال:أبو بكر، وعمر، وعلي، رضي الله عنهم أجمعين.

وقال الثوري، عن رجل، عن أبي صالح في قوله: ( إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ ) قال:هم عشرة:أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد، وعبد الله بن مسعود، رضي الله عنهم أجمعين.

وقوله: ( مُتَقَابِلِينَ ) قال مجاهد:لا ينظر بعضهم في قفا بعض.

وفيه حديث مرفوع، قال ابن أبي حاتم.

حدثنا يحيى بن عبدك القزويني، حدثنا حسان بن حسان، حدثنا إبراهيم بن بشر حدثنا يحيى بن معين، عن إبراهيم القرشي، عن سعيد بن شرحبيل، عن زيد بن أبي أوفى قال:خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلا هذه الآية: ( إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ ) في الله، ينظر بعضهم إلى بعض

وقوله: ( لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ ) يعني:المشقة والأذى، كما جاء في الصحيحين: « إن الله أمرني أن أبشر خديجة ببيت في الجنة من قصَب، لا صخب فيه ولا نصب »

وقوله: ( وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ ) كما جاء في الحديث: « يقال يا أهل الجنة، إن لكم أن تصحوا فلا تمرضوا أبدًا، وإن لكم أن تعيشوا فلا تموتوا أبدا، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا، وإن لكم أن تقيموا فلا تظعنوا أبدا » ، وقال الله تعالى: خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلا [ الكهف:108 ]

وقوله: ( نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الألِيمُ ) أي:أخبر يا محمد عبادي أني ذو رحمة وذو عقاب أليم.

وقد تقدم ذكر نظير هذه الآية الكريمة، وهي دالة على مقامي الرجاء والخوف، وذكر في سبب نـزولها ما رواه موسى بن عبيدة عن مصعب بن ثابت قال:مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناس من أصحابه يضحكون، فقال: « اذكروا الجنة، واذكروا النار » . فنـزلت: ( نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الألِيمُ ) رواه ابن أبي حاتم. وهو مرسل

وقال ابن جرير، حدثني المثنى، حدثنا إسحاق، أخبرنا ابن المكي، أخبرنا ابن المبارك، أخبرنا مصعب بن ثابت، حدثنا عاصم بن عبيد الله، عن ابن أبي رباح، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال:طلع علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الباب الذي يدخل منه بنو شيبة، فقال: « ألا أراكم تضحكون؟ » ثم أدبر، حتى إذا كان عند الحجر رجع إلينا القهقرى، فقال: « إني لما خرجت جاء جبريل، عليه السلام، فقال:يا محمد، إن الله يقول لم تقنط عبادي؟ ( نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الألِيمُ ) »

وقال سعيد، عن قتادة في قوله تعالى: ( نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) قال:بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « لو يعلم العبد قدر عفو الله لما تورع من حرام، ولو يعلم قدر عقابه لبخع نفسه »

وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ ( 51 )

يقول تعالى:وخبرهم يا محمد عن قصة ( ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ ) والضيف:يطلق على الواحد والجمع، كالزور والسُّفْر .

 

إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ ( 52 ) قَالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ ( 53 ) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ ( 54 ) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ ( 55 ) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلا الضَّالُّونَ ( 56 )

وكيف ( دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ ) أي:خائفون.

وقد ذكر سبب خوفه منهم لما رأى أيديهم لا تصل إلى ما قربه لهم ضيافة، وهو العجل السمين الحنيذ.

( قَالُوا لا تَوْجَلْ ) أي:لا تخف، وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ [ الذاريات:28 ] وهو إسحاق، عليه السلام، كما تقدم في سورة هود.

ثم قال متعجبًا من كبره وكبر زوجته ومتحققًا للوعد: ( أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُون ) فأجابوه مؤكدين لما بشروه به تحقيقًا وبشارة بعد بشارة، ( قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ ) وقرأ بعضهم: « القنطين » - فأجابهم بأنه ليس يقنط، ولكن يرجو من الله الولد، وإن كان قد كبر وأسنَّت امرأته، فإنه يعلم من قدرة الله ورحمته ما هو أبلغ من ذلك.

قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ ( 57 ) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ ( 58 ) إِلا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ ( 59 ) إِلا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ ( 60 )

يقول تعالى إخبارًا عن إبراهيم، عليه السلام، لما ذهب عنه الروع وجاءته البشرى:إنه شرع يسألهم عما جاءوا له، فقالوا: ( إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ ) يعنون:قوم لوط. وأخبروه أنهم سينجون آل لوط من بينهم إلا امرأته فإنها من المهلكين؛ ولهذا قالوا: ( إِلا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ ) أي:الباقين المهلكين.

فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ ( 61 ) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ ( 62 ) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ ( 63 ) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ( 64 )

يخبر تعالى عن لوط لما جاءته الملائكة في صورة شباب حسان الوجوه، فدخلوا عليه داره، قال: ( إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنْكَرُونَ * قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ ) يعنون:بعذابهم وهلاكهم ودمارهم الذي كانوا يشكون في وقوعه بهم، وحلوله بساحتهم، ( وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ ) كما قال تعالى: مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلا بِالْحَقِّ [ الحجر:8 ]

وقوله: ( وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ) تأكيد لخبرهم إياه بما أخبروه به، من نجاته وإهلاك قومه، [ والله أعلم ]

فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ ( 65 ) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ ( 66 )

يذكر تعالى عن الملائكة أنهم أمروه أن يَسري بأهله بعد مضي جانب من الليل، وأن يكون لوط، عليه السلام، يمشي وراءهم، ليكون أحفظ لهم.

وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي في الغَزاة بما كان يكون ساقة، يُزجي الضعيف، ويحمل المنقطع

وقوله: ( وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ ) أي:إذا سمعتم الصيحة بالقوم فلا تلتفتوا إليهم، وذروهم فيما حل بهم من العذاب والنكال، ( وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ ) كأنه كان معهم من يهديهم السبيل.

( وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمْرَ ) أي:تقدمنا إليه في هذا ( أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ ) أي:وقت:الصباح كما قال في الآية الأخرى: إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ [ هود:81 ]

وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ ( 67 ) قَالَ إِنَّ هَؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ ( 68 ) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ ( 69 ) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ ( 70 )

يخبر تعالى عن مجيء قوم لوط لما علموا بأضيافه وصباحة وجوههم، وأنهم جاءوا مستبشرين بهم فرحين، ( قَالَ إِنَّ هَؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ * وَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ )

وهذا إنما قاله لهم قبل أن يعلم بأنهم رسل الله كما قال في سياق سورة هود، وأما هاهنا فتقدم ذِكرُ أنهم رسل الله، وعطف بذكر مجيء قومه ومحاجته لهم. ولكن الواو لا تقتضي الترتيب، ولا سيما إذا دل دليل على خلافه، فقالوا له مجيبين: ( أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ ) أي:أو ما نهيناك أن تضيف أحدًا؟ فأرشدهم إلى نسائهم، وما خلق لهم ربهم منهن من الفروج المباحة. وقد تقدم أيضا القول في ذلك، بما أغنى عن إعادته.

 

قَالَ هَؤُلاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ( 71 ) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ( 72 )

هذا كله وهم غافلون عما يراد بهم، وما قد أحاط بهم من البلاء، وماذا يُصبحهم من العذاب المستقر؛ ولهذا قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: ( لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ) أقسم تعالى بحياة نبيه، صلوات الله وسلامه عليه، وفي هذا تشريف عظيم، ومقام رفيع وجاه عريض.

قال عمرو بن مالك النُّكْري عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس، أنه قال:ما خلق الله وما ذرأ وما برأ نفسًا أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم، وما سمعت الله أقسم بحياة أحد غيره، قال الله تعالى: ( لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ) [ يقول:وحياتك وعمرك وبقائك في الدنيا « إنهم لفي سكرتهم يعمهون » ] رواه ابن جرير.

وقال قتادة: ( فِي سَكْرَتِهِمْ ) أي:في ضلالتهم، ( يَعْمَهُونَ ) أي:يلعبون.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( لَعَمْرُكَ ) لعيشك، ( إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ) قال:يتحيرون

فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ ( 73 ) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ ( 74 ) إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ( 75 ) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ ( 76 ) إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ ( 77 )

يقول:تعالى: ( فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ ) وهي ما جاءهم من الصوت القاصف عند شروق الشمس، وهو طلوعها، وذلك مع رفع بلادهم إلى عَنان السماء ثم قلْبها، وجعل عاليها سافلها، وإرسال حجارة السجيل عليهم. وقد تقدم الكلام على السجيل في [ سورة ] هود بما فيه كفاية.

وقوله: ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ) أي:إن آثار هذه النقم ظاهرة على تلك البلاد لمن تأمل ذلك وتوسَّمه بعين بصره وبصيرته، كما قال مجاهد في قوله: ( لِلْمُتَوَسِّمِينَ ) قال:المتفرسين.

وعن ابن عباس، والضحاك:للناظرين. وقال قتادة:للمعتبرين. وقال مالك عن بعض أهل المدينة: ( لِلْمُتَوَسِّمِينَ ) للمتأملين.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا الحسن بن عرفة، حدثنا محمد بن كثير العَبْدي، عن عمرو بن قيس، عن عطية، عن أبي سعيد قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « اتقوا فِرَاسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله » . ثم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم: ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ )

رواه الترمذي، وابن جرير، من حديث عمرو بن قيس الملائي وقال الترمذي:لا نعرفه إلا من هذا الوجه.

وقال ابن جرير أيضًا:حدثني أحمد بن محمد الطوسي، حدثنا الحسن بن محمد، حدثنا الفرات بن السائب، حدثنا ميمون بن مِهْران، عن ابن عمر قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « اتقوا فِرَاسَة المؤمن؛ فإن المؤمن ينظر بنور الله »

وقال ابن جرير:حدثني أبو شرحبيل الحِمْصِيّ، حدثنا سليمان بن سلمة، حدثنا المُؤَمَّل بن سعيد بن يوسف الرحبي، حدثنا أبو المعلى أسد بن وداعة الطائي، حدثنا وهب بن مُنَبِّه، عن طاوس بن كَيْسَان، عن ثوبان قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « احذروا فراسة المؤمن؛ فإنه ينظر بنور الله وينطق بتوفيق الله »

وقال أيضًا:حدثنا عبد الأعلى بن واصل، حدثنا سعيد بن محمد الجرمي، حدثنا عبد الواحد بن واصل، حدثنا أبو بشر المزلق، عن ثابت، عن أنس بن مالك قال:قال النبي صلى الله عليه وسلم: « إن لله عبادًا يعرفون الناس بالتوسم »

ورواه الحافظ أبو بكر البزار:حدثنا سهل بن بحر، حدثنا سعيد بن محمد الجرمي، حدثنا أبو بشر - يقال له:ابن المزلق، قال:وكان ثقة - عن ثابت، عن أنس قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن لله عبادًا يعرفون الناس بالتوسم »

وقوله: ( وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ ) أي:وإن قرية سدوم التي أصابها ما أصابها من القلب الصوري والمعنوي، والقذف بالحجارة، حتى صارت بحيرة منتنة خبيثة لبطريق مَهْيَع مسالكه مستمرة إلى اليوم، كما قال تعالى: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [ الصافات:137، 138 ]

وقال مجاهد، والضحاك: ( وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ ) قال:مُعَلَّم. وقال قتادة:بطريق واضح. وقال قتادة أيضًا:بصقع من الأرض واحد.

وقال السدي:بكتاب مبين، يعني كقوله: وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ [ يس:12 ] ولكن ليس المعنى على ما قال هاهنا، والله أعلم.

وقوله: ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ ) أي:إن الذي صنعنا بقوم لوط من الهلاك والدمار وإنجائنا لوطا وأهله، لدلالة واضحة جلية للمؤمنين بالله ورسله.

وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ ( 78 ) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ ( 79 )

أصحاب الأيكة:هم قوم شعيب.

قال الضحاك، وقتادة، وغيرهما:الأيكة:الشجر الملتف.

وكان ظلمهم بشركهم بالله وقطعهم الطريق، ونقصهم المكيال والميزان. فانتقم الله منهم بالصيحة والرجفة وعذاب يوم الظلة، وقد كانوا قريبًا من قوم لوط، بَعْدَهم في الزمان، ومسامتين لهم في المكان؛ ولهذا قال تعالى: ( وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ ) أي:طريق مبين.

قال ابن عباس، ومجاهد، والضحاك:طريق ظاهر؛ ولهذا لما أنذر شعيب قومه قال في نذارته إياهم: وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ

وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ ( 80 ) وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ ( 81 ) وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ ( 82 ) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ ( 83 ) فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ( 84 )

أصحاب الحجر هم:ثمود الذين كذبوا صالحا نبيهم، ومن كذب برسول فقد كذب بجميع المرسلين؛ ولهذا أطلق عليهم تكذيب المرسلين.

وذكر تعالى أنه آتاهم من الآيات ما يدلهم على صدق ما جاءهم به صالح، كالناقة التي أخرجها الله لهم بدعاء صالح من صخرة صماء فكانت تسرح في بلادهم، لها شرب ولهم شرب يوم معلوم. فلما عَتَوا وعقروها قال لهم: تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ [ هود:65 ] وقال تعالى: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى [ فصلت:17 ]

وذكر تعالى:أنهم ( كَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ ) أي:من غير خوف ولا احتياج إليها، بل أشرا وبطرا وعبثا، كما هو المشاهد من صنيعهم في بيوتهم بوادي الحجر، الذي مر به رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ذاهب إلى تبوك فَقَنَّع رأسه وأسرع دابته، وقال لأصحابه: « لا تدخلوا بيوت القوم المعذبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تبكوا فتباكوا خشية أن يصيبكم ما أصابهم »

وقوله: ( فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ ) أي:وقت الصباح من اليوم الرابع، ( فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) أي:ما كانوا يستغلونه من زروعهم وثمارهم التي ضَنُّوا بمائها عن الناقة، حتى عقروها لئلا تضيق عليهم في المياه، فما دفعت عنهم تلك الأموال، ولا نفعتهم لما جاء أمر ربك.

وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ( 85 ) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ ( 86 )

يقول تعالى: ( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ ) أي:بالعدل؛ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [ النجم:31 ] وقال تعالى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [ ص:27 ] وقال: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [ المؤمنون:115- 116 ]

ثم أخبر نبيه بقيام الساعة، وأنها كائنة لا محالة، ثم أمره بالصفح الجميل عن المشركين، في أذاهم له وتكذيبهم ما جاءهم به، كما قال تعالى: فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [ الزخرف:89 ]

وقال مجاهد وقتادة وغيرهما:كان هذا قبل القتال. وهو كما قالا فإن هذه مكية، والقتال إنما شرع بعد الهجرة.

وقوله: ( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ ) تقرير للمعاد، وأنه تعالى قادر على إقامة الساعة، فإنه الخلاق الذي لا يعجزه خلق ما يشاء، وهو العليم بما تمزق من الأجساد، وتفرق في سائر أقطار الأرض، كما قال تعالى: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ * إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [ يس:81- 83 ] .

وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ( 87 ) لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ( 88 )

يقول تعالى لنبيه:كما آتيناك القرآن العظيم، فلا تنظرن إلى الدنيا وزينتها، وما متعنا به أهلها من الزهرة الفانية لنفتنهم فيه، فلا تغبطهم بما هم فيه، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات حزنا عليهم في تكذيبهم لك، ومخالفتهم دينك. وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [ الشعراء:215 ] أي:ألِن لهم جانبك كما قال تعالى: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [ التوبة:128 ]

وقد اختلف في السبع المثاني:ما هي؟

فقال ابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، والضحاك وغير واحد:هي السبع الطُّوَل. يعنون:البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، ويونس، نص عليه ابن عباس، وسعيد بن جبير.

وقال سعيد:بيَّن فيهن الفرائض، والحدود، والقصص، والأحكام.

وقال ابن عباس:بين الأمثال والخَبَر والعِبَر

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا ابن أبي عمر قال:قال سفيان: ( الْمَثَانِي ) الْمُثَنَّى: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والأنفال وبراءة سورة واحدة.

قال ابن عباس:ولم يُعْطهن أحد إلا النبي صلى الله عليه وسلم، وأعطي موسى منهن

ثنتين. رواه هُشَيْم، عن الحجاج، عن الوليد بن العيزار عن سعيد بن جبير عنه.

[ و ] قال الأعمش، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:أوتي النبي صلى الله عليه وسلم سبعا من المثاني الطُّوَل، وأوتي موسى، عليه السلام، ستًّا، فلما ألقى الألواح ارتفع اثنتان وبقيت أربع.

وقال مجاهد:هي السبع الطُوَل. ويقال:هي القرآن العظيم.

وقال خَصِيف، عن زياد بن أبي مريم في قوله تعالى: ( سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي ) قال:أعطيتك سبعة أجزاء:آمر، وأنهى، وأبشر وأنذر، وأضرب الأمثال، وأعدد النعم، وأنبئك بنبأ القرآن. رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم.

والقول الثاني:أنها الفاتحة، وهي سبع آيات. رُوي ذلك عن عمر وعلي، وابن مسعود، وابن عباس. قال ابن عباس:والبسملة هي الآية السابعة، وقد خصكم الله بها. وبه قال إبراهيم النخعي، وعبد الله بن عبيد بن عُمَيْر، وابن أبي مليكة، وشَهْر بن حَوْشَب، والحسن البصري، ومجاهد.

وقال قتادة:ذكر لنا أنهن فاتحة الكتاب، وأنهن يثنين في كل قراءة. وفي رواية:في كل ركعة مكتوبة أو تطوع.

واختاره ابن جرير، واحتج بالأحاديث الواردة في ذلك، وقد قدمناها في فضائل سورة « الفاتحة » في أول التفسير، ولله الحمد.

وقد أورد البخاري، رحمه الله، هاهنا حديثين:

أحدهما:قال:حدثنا محمد بن بشار، حدثنا غُنْدر، حدثنا شعبة، عن خبيب بن عبد الرحمن، عن حفص بن عاصم، عن أبي سعيد بن المعلى قال:مر بي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أصلي، فدعاني فلم آته حتى صليت، ثم أتيته فقال: « ما منعك أن تأتيني ؟ » . فقلت:كنت أصلي. فقال: « ألم يقل الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ [ الأنفال:24 ] ألا أعلمك أعظم سورة في القرآن قبل أن أخرج من المسجد ؟ » فذهب النبي صلى الله عليه وسلم ليخرج، فذكرته فقال: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [ الفاتحة:2 ] هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته « »

[ و ] الثاني:قال:حدثنا آدم، حدثنا ابن أبي ذئب، حدثنا المقبري، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أم القرآن هي:السبع المثاني والقرآن العظيم »

فهذا نص في أن الفاتحة السبع المثاني والقرآن العظيم، ولكن لا ينافي وصف غيرها من السبع الطُّوَل بذلك، لما فيها من هذه الصفة، كما لا ينافي وصف القرآن بكماله بذلك أيضًا، كما قال تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ [ الزمر:23 ] فهو مثاني من وجه، ومتشابه من وجه، وهو القرآن العظيم

أيضًا، كما أنه، عليه السلام لما سُئل عن المسجد الذي أسس على التقوى، فأشار إلى مسجده، والآية نـزلت في مسجد قُباء، فلا تنافي، فإن ذكر الشيء لا ينفي ذكر ما عداه إذا اشتركا في تلك الصفة، والله أعلم.

وقوله: ( لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ ) أي:استغن بما آتاك الله من القرآن العظيم عما هم فيه من المتاع والزهرة الفانية.

ومن هاهنا ذهب ابن عُيَيْنَة إلى تفسير الحديث الصحيح: « ليس منا من لم يتغَنَّ بالقرآن » إلى أنه يُستغنى به عما عداه، وهو تفسير صحيح، ولكن ليس هو المقصود من الحديث، كما تقدم في أول التفسير.

وقال ابن أبي حاتم:ذكر عن وَكِيع بن الجراح، حدثنا موسى بن عبيدة، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن أبي رافع صاحب النبي صلى الله عليه وسلم قال:أضاف النبي صلى الله عليه وسلم ضيف ولم يكن عند النبي صلى الله عليه وسلم شيء يصلحه، فأرسل إلى رجل من اليهود:يقول لك محمد رسول الله:أسلفني دقيقا إلى هلال رجب. قال:لا إلا بِرَهْن. فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم [ فأخبرته ] فقال: « أما والله إني لأمين من في السماء وأمين من في الأرض ولئن أسلفني أو باعني لأؤدين إليه » . فلما خرجت من عنده نـزلت هذه الآية: ( لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) إلى آخر الآية. [ طه:131 ] كأنه يعزيه عن الدنيا

وقال العوفي، عن ابن عباس: ( لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ ) قال:نهي الرجل أن يتمنى مال صاحبه.

وقال مجاهد: ( إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ ) هم الأغنياء.

وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ ( 89 ) كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ ( 90 )

يأمر تعالى نبيه، صلوات الله وسلامه عليه، أن يقول للناس:إنه ( النَّذِيرُ الْمُبِينُ ) البين النذارة، نذير للناس من عذاب أليم أن يحل بهم على تكذيبه كما حل بمن تقدمهم من الأمم المكذبة لرسلها، وما أنـزل الله عليهم من العذاب والانتقام.

وقوله: ( الْمُقْتَسِمِينَ ) أي:المتحالفين، أي:تحالفوا على مخالفة الأنبياء وتكذيبهم وأذاهم، كما قال تعالى إخبارًا عن قوم صالح أنهم: قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ [ النمل:49 ] أي:نقتلهم ليلا قال مجاهد:تقاسموا:تحالفوا.

وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ [ النحل:38 ] أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ [ إبراهيم:44 ] أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ [ الأعراف:49 ] فكأنهم كانوا لا يكذبون بشيء إلا أقسموا عليه، فسموا مقتسمين.

قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم:المقتسمون أصحاب صالح، الذين تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله.

وفي الصحيحين، عن أبي موسى [ الأشعري ] عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إنما مثلي ومثل ما بعثني الله به، كمثل رجل أتى قومه فقال:يا قوم، إني رأيت الجيش بعيني، وإني أنا النذير العريان، فالنجاء النجاء! فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا، وانطلقوا على مهلهم فنجوا، وكذبه طائفة منهم فأصبحوا مكانهم، فصبَّحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم، فذلك مثل من أطاعني واتبع ما جئت به، ومثل من عصاني وكَذب ما جئت به من الحق »

 

الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ ( 91 ) فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ( 92 ) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 93 )

وقوله: ( الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ ) أي:جَزَّؤوا كتبهم المنـزلة عليهم، فآمنوا ببعض وكفروا ببعض.

قال البخاري:حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا هشيم، أنبأنا أبو بشر، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس: ( جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ ) قال:هم أهل الكتاب، جَزَّؤوه أجزاء، فآمنوا ببعضه، وكفروا ببعضه

حدثنا عبيد الله بن موسى، عن الأعمش، عن أبي ظَبْيان، عن ابن عباس: ( كَمَا أَنـزلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ ) قال:آمنوا ببعض، وكفروا ببعض:اليهُود والنصارى

قال ابن أبي حاتم:وروي عن مجاهد، وعِكْرِمة، وسعيد بن جبير، والحسن، والضحاك، مثل ذلك.

وقال الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس: ( جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ ) قال:السحر وقال عكرمة:العَضْه:السحر بلسان قريش، تقول للساحرة:إنها العاضهة

وقال مجاهد:عَضوه أعضاء، قالوا:سحر، وقالوا:كهانة، وقالوا:أساطير الأولين.

وقال عطاء:قال بعضهم:ساحر، وقال بعضهم:مجنون. وقال بعضهم كاهن. فذلك

العضين وكذا روي عن الضحاك وغيره.

وقال محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن سعيد أو عكرمة، عن ابن عباس:أن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش، وكان ذا شرف فيهم، وقد حضر الموسم فقال لهم:يا معشر قريش، إنه قد حضر هذا الموسم، وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فأجمعوا فيه رأيا واحدا ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا، ويرد قولكم بعضه بعضًا. فقالوا:وأنت يا أبا عبد شمس، فقل وأقم لنا رأيا نقول به. قال:بل أنتم قولوا لأسمع. قالوا:نقول « كاهن » . قال:ما هو بكاهن. قالوا:فنقول: « مجنون » . قال:ما هو بمجنون! قالوا فنقول: « شاعر » . قال:ما هو بشاعر! قالوا:فنقول: « ساحر » . قال:ما هو بساحر! قالوا:فماذا نقول؟ قال:والله إن لقوله حلاوة، فما أنتم بقائلين من هذا شيئًا إلا عُرف أنه باطل، وإن أقرب القول أن تقولوا:هو ساحر. فتفرقوا عنه بذلك، وأنـزل الله فيهم: ( الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ ) أصنافا ( فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) دُوينك النفر الذين قالوا:ذلك لرسول الله.

وقال عطية العوفي، عن ابن عمر في قوله: ( لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) قال:عن لا إله إلا الله.

وقال عبد الرزاق. أنبأنا الثوري، عن ليث - هو ابن أبي سليم - عن مجاهد، في قوله: ( لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) قال:عن لا إله إلا الله

وقد روى الترمذي، وأبو يعلى الموصلي، وابن جرير، وابن أبي حاتم، من حديث شريك القاضي، عن ليث بن أبي سليم، عن بَشِير بن نَهِيك، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ) [ قال ] عن لا إله إلا الله

ورواه ابن إدريس، عن ليث، عن بشير عن أنس موقوفا

وقال ابن جرير:حدثنا أحمد، حدثنا أبو أحمد، حدثنا شريك، عن هلال، عن عبد الله بن عُكَيم قال:قال عبد الله - هو ابن مسعود - :والذي لا إله غيره، ما منكم من أحد إلا سيخلو الله به يوم القيامة، كما يخلو أحدكم بالقمر ليلة البدر، فيقول:ابن آدم، ماذا غرك مني بي؟ ابن آدم، ماذا عملتَ فيما علمت؟ ابن آدم، ماذا أجبت المرسلين ؟

وقال أبو جعفر:عن الربيع، عن أبي العالية:قال:يسأل العباد كلهم عن خُلَّتين يوم القيامة، عما كانوا يعبدون، وماذا أجابوا المرسلين.

وقال ابن عيينة عن عملك، وعن مالك.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا أحمد بن أبي الحُوَّاري، حدثنا يونس الحذاء، عن أبي حمزة الشيباني، عن معاذ بن جبل قال:قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يا معاذ، إن المؤمن ليسأل يوم القيامة عن جميع سعيه، حتى كحل عينيه، وعن فتات الطينة بأصبعيه، فلا ألفينك يوم القيامة وأحد أسعد بما آتى الله منك »

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) ثُمَّ قَالَ فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ [ الرحمن:39 ] قال:لا يسألهم:هل عملتم كذا؟ لأنه أعلم بذلك منهم، ولكن يقول:لم عملتم كذا وكذا؟

فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ( 94 ) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ( 95 ) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ( 96 ) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ ( 97 ) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ( 98 ) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ( 99 )

يقول تعالى آمرًا رسوله، صلوات الله وسلامه عليه، بإبلاغ ما بعثه به وبإنفاذه والصَّدع به، وهو مواجهة المشركين به، كما قال ابن عباس: ( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ ) أي:أمضه. وفي رواية:افعل ما تؤمر.

وقال مجاهد:هو الجهر بالقرآن في الصلاة.

وقال أبو عبيدة، عن عبد الله بن مسعود:ما زال النبي صلى الله عليه وسلم مستخفيا، حتى نـزلت: ( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ ) فخرج هو وأصحابه

وقوله: ( وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ) أي:بلغ ما أنـزل إليك من ربك، ولا تلتفت إلى المشركين الذين يريدون أن يصدوك عن آيات الله. وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ [ القلم:9 ] ولا تخفْهم؛ فإن الله كافيك إياهم، وحافظك منهم، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [ المائدة:67 ]

وقال الحافظ أبو بكر البزار:حدثنا يحيى بن محمد بن السكن، حدثنا إسحاق بن إدريس، حدثنا عون بن كَهْمَس، عن يزيد بن درهم، قال:سمعت أنسًا يقول في هذه الآية: ( إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ * الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ ) قال:مر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فغمزه بعضهم، فجاء جبريل - أحسبه قال:فغمزهم فوقع في أجسادهم - كهيئة الطعنة حتى ماتوا

وقال محمد بن إسحاق:كان عظماء المستهزئين - كما حدثني يزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير - خمسة نفر، كانوا ذوي أسنان وشرف في قومهم، من بني أسد بن عبد العزى بن قُصي:الأسود بن المطلب أبو زمعة، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني - قد دعا عليه، لما كان يبلغه من أذاه واستهزائه [ به ] فقال:اللهم، أعم بصره، وأثكله ولده. ومن بني زهرة:الأسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف بن زُهرة. ومن بني مخزوم:الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عُمَر بن مخزوم. ومن بني سهم بن عمرو بن هُصيص بن كعب بن لؤي:العاص بن وائل بن هشام بن سعيد بن سعد. ومن خزاعة:الحارث بن الطلاطلة بن عمرو بن الحارث بن عبد عمرو بن ملكان - فلما تمادوا في الشر وأكثروا برسول الله صلى الله عليه وسلم الاستهزاء، أنـزل الله تعالى: ( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ) إلى قوله: ( فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ )

وقال ابن إسحاق:فحدث يزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير، أو غيره من العلماء، أن جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالبيت، فقام وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه، فمر به الأسود [ ابن المطلب فرمى في وجهه بورقة خضراء، فعمي، ومر به الأسود ] بن عبد يغوث، فأشار إلى بطنه، فاستسقى بطنه، فمات منه حَبَنَا، ومر به الوليد بن المغيرة، فأشار إلى أثر جُرح بأسفل كعب رجله - كان أصابه قبل ذلك بسنتين وهو يجر إزاره، وذلك أنه مر برجل من خزاعة يريش نبلا له، فتعلق سهم من نبله بإزاره، فخدش رجله ذلك الخدش، وليس بشيء، فانتقض به فقتله. ومر به العاص بن وائل، فأشار إلى أخمص قدمه، فخرج على حمار له يريد الطائف، فربض على شِبْرِقَةٍ فدخلت في أخمص رجله منها شوكة فقتلته. ومر به الحارث بن الطلاطلة، فأشار إلى رأسه، فامتخط قيحا، فقتله

قال محمد بن إسحاق:حدثني محمد بن أبي محمد، عن رجل، عن ابن عباس قال:كان رأسُهم الوليد بن المغيرة، وهو الذي جمعهم.

وهكذا روي عن سعيد بن جبير وعكرمة، نحو سياق محمد بن إسحاق، عن يزيد، عن عروة، بطوله، إلا أن سعيدًا يقول:الحارث بن غيطلة. وعكرمة يقول:الحارث بن قيس.

قال الزهري:وصدقا، هو الحارث بن قيس، وأمه غيطلة.

وكذا روي عن مجاهد، ومقسم، وقتادة، وغير واحد، أنهم كانوا خمسة.

وقال الشعبي:كانوا سبعة.

والمشهور الأول.

وقوله: ( الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ) تهديد شديد، ووعيد أكيد، لمن جعل مع الله معبودا آخر.

وقوله: ( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ) أي:وإنا لنعلم يا محمد أنك يحصل لك من أذاهم لك انقباض وضيق صدر. فلا يهيدنك ذلك، ولا يثنينك عن إبلاغك رسالة الله، وتوكل على الله فإنه كافيك وناصرك عليهم، فاشتغل بذكر الله وتحميده وتسبيحه وعبادته التي هي الصلاة؛ ولهذا قال: ( وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ) كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد:

حدثنا عبد الرحمن بن مَهْدِي، حدثنا معاوية بن صالح، عن أبي الزاهرية، عن كثير بن مُرَّة، عن نعيم بن هَمَّار أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « قال الله:يا ابن آدم، لا تعجز عن أربع ركعات من أول النهار أكفك آخره » .

ورواه أبو داود من حديث مكحول، عن كثير بن مرة، بنحوه

ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حَزبه أمر صلَّى.

وقوله: ( وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ) قال البخاري:قال سالم:الموت

وسالم هذا هو:سالم بن عبد الله بن عمر، كما قال ابن جرير:

حدثنا محمد بن بشار، حدثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان، حدثني طارق بن عبد الرحمن، عن سالم بن عبد الله: ( وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ) قال:الموت

وهكذا قال مجاهد، والحسن، وقتادة، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وغيره

والدليل على ذلك قوله تعالى إخبارًا عن أهل النار أنهم قالوا: لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ [ المدثر:43- 47 ]

وفي الصحيح من حديث الزهري، عن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أم العلاء - امرأة من الأنصار - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل على عثمان بن مظعون - وقد مات - قلت:رحمة الله عليك أبا السائب، فشهادتي عليك لقد أكرمك الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « وما يدريك أن الله أكرمه؟ » فقلت:بأبي وأمي يا رسول الله، فمن؟ فقال: « أما هو فقد جاءه اليقين، وإني لأرجو له الخير »

ويستدل من هذه الآية الكريمة وهي قوله: ( وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ) - على أن العبادة كالصلاة ونحوها واجبة على الإنسان ما دام عقله ثابتا فيصلي بحسب حاله، كما ثبت في صحيح البخاري، عن عمران بن حصين، رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « صَلِّ قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جَنْب »

ويستدل بها على تخطئة من ذهب من الملاحدة إلى أن المراد باليقين المعرفة، فمتى وصل أحدهم إلى المعرفة سقط عنه التكليف عندهم. وهذا كفر وضلال وجهل، فإن الأنبياء، عليهم السلام، كانوا هم وأصحابهم أعلم الناس بالله وأعرفهم بحقوقه وصفاته، وما يستحق من التعظيم، وكانوا مع هذا أعبد الناس وأكثر الناس عبادة ومواظبة على فعل الخيرات إلى حين الوفاة. وإنما المراد باليقين هاهنا الموت، كما قدمناه. ولله الحمد والمنة، والحمد لله على الهداية، وعليه الاستعانة والتوكل، وهو المسؤول أن يتوفانا على أكمل الأحوال وأحسنها [ فإنه جواد كريم ]

[ وحسبنا الله ونعم الوكيل ]

 

أعلى