تفسير
سورة النور
وهي مدنية.
بسم الله
الرحمن الرحيم
سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا
فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ( 1 ) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي
فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا
رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ( 2 )
يقول تعالى:هذه ( سُورَةٌ أَنـزلْنَاهَا ) فيه تنبيه على الاعتناء بها ولا ينفى ما عداها.
( وفرضناها ) قال مجاهد وقتادة:أيْ بيّنا
الحلال والحرام والأمر والنهي، والحدود.
وقال البخاري:ومن قرأ « فَرَضْناها » يقول:فَرَضْنا عليكم وعلى من بعدكم .
(
وَأَنـزلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ) أي:مفسَّرات واضحَات، ( لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) .
ثم قال تعالى: ( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ) هذه
الآية الكريمة فيها حكم الزاني في الحد، وللعلماء فيه تفصيل ونـزاع؛ فإن الزاني لا
يخلو إما أن يكون بكرًا، وهو الذي لم يتزوج، أو محصنا، وهو الذي قد وَطِئَ في نكاح
صحيح، وهو حر بالغ عاقل. فأما إذا كان بكرًا لم يتزوج، فإن حدَّه مائة جلدة كما في
الآية ويزاد على ذلك أن يُغرّب عاما [ عن بلده ] عند جمهور العلماء،خلافا لأبي حنيفة، رحمه الله؛ فإن عنده
أن التغريبَ إلى رأي الإمام، إن شاء غَرَّب وإن شاء لم يغرِّب .
وحجة الجمهور في ذلك ما ثبت في الصحيحين، من رواية الزهري، عن
عُبَيْد الله بن عبد الله بن عُتبة بن مسعود، عن أبي هريرة وزيد بن خالد
الجُهَنيّ، في الأعرابيين اللذين أتيا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم- فقال
أحدهما:يا رسول الله، إن ابني كان عَسِيفا - يعني أجيرا - على هذا فزنى بامرأته،
فافتديت [
ابني ] منه
بمائة شاة وَوَليدَة، فسألت أهل العلم، فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريبَ
عام، وأن على امرأة هذا الرجم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « والذي نفسي بيده، لأقضين
بينكما بكتاب الله:الوليدة والغنم رَدٌّ عليك، وعلى ابنك جَلْدُ مائة وتغريبُ عام.
واغد يا أنيس - لرجل من أسلم - إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها » . فغدا عليها فاعترفت، فرجمها
.
ففي هذا دلالة على تغريب الزاني مع جلد مائة إذا كان بكرا لم
يتزوج، فأما إن كان محصنا فإنه يرجم، كما قال الإمام مالك:
حدثني ابن شهاب، أخبرنا عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن
مسعود، أن ابن عباس أخبره أن عمر، رضي الله عنه، قام فحمد الله وأثنى عليه، ثم
قال:أما بعد، أيها الناس، فإن الله بعث محمدًا بالحق، وأنـزل عليه الكتاب، فكان
فيما أنـزل عليه آية الرجم، فقرأناها وَوَعَيْناها، وَرَجمَ رسول الله صلى الله
عليه وسلم وَرَجمْنا بعده، فأخشى أن يطول بالناس زمان أن يقول قائل:لا نجد آية
الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة قد أنـزلها الله، فالرجم في كتاب الله حق
على من زنى، إذا أحصن، من الرجال والنساء، إذا قامت البينة، أو الحبل، أو
الاعتراف.
أخرجاه في الصحيحين من حديث مالك مطولا وهذا قطعة منه، فيها
مقصودنا هاهنا.
وروى الإمام أحمد، عن هُشَيْم، عن الزهري، عن عُبَيد الله بن
عبد الله، عن ابن عباس:حدثني عبد الرحمن بن عوف؛ أن عمر بن الخطاب خطب الناس فسمعته
يقول:ألا وَإنّ أناسا يقولون:ما بالُ الرجم؟ في كتاب الله الجلدُ. وقد رَجَم رسول
الله صلى الله عليه وسلم ورَجمَنا بعده. ولولا أن يقول قائلون - أو يتكلم متكلمون
- أن عمر زاد في كتاب الله ما ليس منه لأثبتها كما نـزلت .
وأخرجه النسائي، من حديث عُبَيْد الله بن عبد الله، به .
وقد روى أحمد أيضًا، عن هُشَيْم، عن علي بن زيد، عن يوسف بن
مِهْران، عن ابن عباس قال:خطب عمر بن الخطاب فذكر الرجم فقال:لا تُخْدَعُن عنه؛
فإنه حَدٌّ من حدود الله ألا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رجم ورَجمَنا
بعده، ولولا أن يقول قائلون:زاد عمر في كتاب الله ما ليس فيه، لكتبت في ناحية من
المصحف:وشهد عمر بن الخطاب، وعبد الرحمن بن عوف، وفلان وفلان:أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قد رجم ورجمنا بعده. ألا وإنه سيكون من بعدكم قوم يكذبون بالرجم
وبالدجال وبالشفاعة وبعذاب القبر، وبقوم يخرجون من النار بعدما امتُحِشُوا .
وروى أحمد أيضا، عن يحيى القَطَّان، عن يحيى الأنصاري، عن
سعيد بن المسيَّب، عن عمر بن الخطاب :إياكم أن تهَلكوا عن آية الرجم.
الحديث رواه الترمذي، من حديث سعيد، عن عُمَر، وقال:صحيح .
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي:حدثنا عُبَيْد الله بن عمر
القواريري، حدثنا يزيد بن زُرَيْع، حدثنا ابن عَوْن، عن محمد - هو ابن سِيرِين -
قال:نُبِّئتُ عن كَثِير بن الصلت قال:كنا عند مروان وفينا زيد، فقال زيد:كنا نقرأ:
« والشيخ
والشيخة فارجموهما البتة » . قال
مروان:ألا كتبتَها في المصحف؟ قال:ذكرنا ذلك وفينا عمر بن الخطاب، فقال:أنا أشفيكم
من ذلك.قال:قلنا:فكيف؟ قال:جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال:فذكر كذا
وكذا، وذكر الرجم، فقال:يا رسول الله، أكْتِبْني آية الرجم:قال: « لا أستطيع الآن » . هذا أو نحو ذلك.
وقد رواه النسائي، عن محمد بن المثنى، عن غُنْدَر، عن شعبة،
عن قتادة، عن يونس بن جُبَير، عن كَثِير بن الصَّلْت، عن زيد بن ثابت، به .
وهذه طرق كلها متعددة ودالة على أن آية الرجم كانت مكتوبة
فنسخ تلاوتها، وبقي حكمها معمولا به، ولله الحمد .
وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجم هذه المرأة، وهي
زوجة الرجل الذي استأجر الأجير لما زَنَت مع الأجير. ورجم النبي صلى الله عليه
وسلم ماعزًا والغامِدِيَّة. وكل هؤلاء لم يُنقَل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
أنه جَلدهم قبل الرجم. وإنما وردت الأحاديث الصِّحَاح المتعددة الطرق والألفاظ،
بالاقتصار على رجمهم، وليس فيها ذكر الجلد؛ ولهذا كان هذا مذهب جمهور العلماء،
وإليه ذهب أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، رحمهم الله. وذهب الإمام أحمد، رحمه الله،
إلى أنه يجب أن يجمع على الزاني المحصَن بين الجلد للآية والرجم للسنة، كما روي،
عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أنه لما أتي بشُرَاحة وكانت قد
زنت وهي مُحْصَنَةٌ، فجلدها يوم الخميس، ورجمها يوم الجمعة، ثم قال:جلدتهُا بكتاب
الله، ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد روى الإمام أحمد ومسلم، وأهل السنن الأربعة، من حديث
قتادة، عن الحسن، عن حِطَّان بن عبد الله الرَّقَاشِيّ، عن عبادة بن الصامت
قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا البِكْر
بالبِكْر، جَلْد مائة وتغريب سنة والثيب بالثيب، جلد مائة والرجم » .
وقوله: ( وَلا
تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ ) أي:في حكم الله. لا ترجموهما وترأفوا بهما في شرع الله،
وليس المنهي عنه الرأفة الطبيعية [ ألا تكون حاصلة ] على ترك الحد، [ وإنما هي الرأفة التي تحمل الحاكم على ترك الحد ] فلا يجوز ذلك.
قال مجاهد: ( وَلا
تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ ) قال:إقامة الحدود إذا رُفعت إلى السلطان، فتقام ولا تعطل.
وكذا رُوي عن سعيد بن جُبَيْر، وعَطَاء بن أبي رَبَاح. وقد جاء في الحديث: « تعافَوُا الحدود فيما بينكم،
فما بلغني من حَدٍّ فقد وَجَب » . وفي
الحديث الآخر: «
لَحَدٌّ يقام في الأرض، خير لأهلها من أن يُمطَروا أربعين صباحا » .
وقيل:المراد: ( وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ ) فلا تقيموا الحد كما ينبغي،
من شدة الضرب الزاجر عن المأثم، وليس المراد الضرب المبرِّح.
قال عامر الشعبي: ( وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ ) قال:رحمة في شدة الضرب. وقال
عطاء:ضرب ليس بالمبرِّح. وقال سعيد بن أبي عَرُوُبة، عن حماد بن أبي سليمان:يجلد
القاذف وعليه ثيابه، والزاني تخلع ثيابه، ثم تلا ( وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ ) فقلت:هذا في الحكم؟ قال:هذا
في الحكم والجلد - يعني في إقامة الحد، وفي شدة الضرب.
وقال ابن أبي حاتم:حدثنا عمرو بن عبد الله الأوْدِيّ حدثنا
وَكيع، عن نافع، [ عن ] ابن عمرو، عن ابن أبي
مُلَيْكَة، عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر:أن جارية لابن عمر زنت، فضرب رجليها -
قال نافع:أراه قال:وظهرها - قال:قلت: ( وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ ) قال:يا بني، ورأيتَني
أخَذَتْني بها رأفة؟ إن الله لم يأمرني أن أقتلها، ولا أن أجعل جَلدها في رأسها،
وقد أوجعت حيث ضربت .
وقوله: ( إِنْ
كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ) أي:فافعلوا ذلك:أقيموا الحدود
على من زنى، وشددوا عليه الضرب، ولكن ليس مبرِّحا؛ ليرتدع هو ومن يصنع مثله بذلك.
وقد جاء في المسند عن بعض الصحابة أنه قال:يا رسول الله، إني لأذبح الشاة وأنا
أرحمها، فقال: « ولك في
ذلك أجر » .
وقوله: (
وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) :هذا فيه تنكيل للزانيين إذا
جُلِدا بحضرة الناس، فإن ذلك يكون أبلغ في زجرهما، وأنجع في ردعهما، فإن في ذلك
تقريعًا وتوبيخا وفضيحة إذا كان الناس حضورا .
قال الحسن البصري في قوله: ( وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) يعني:علانية.
ثم قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا
طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ )
الطائفة:الرجل فما فوقه.
وقال مجاهد:الطائفة:رجل إلى الألف. وكذا قال عكرمة؛ ولهذا قال
أحمد:إن الطائفة تصدُق على واحد.
وقال عطاء بن أبي رباح:اثنان. وبه قال إسحاق بن رَاهَويه.
وكذا قال سعيد بن جبير: (
طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ )
قال:يعني:رجلين فصاعدا .
وقال الزهري:ثلاث نفر فصاعدا .
وقال عبد الرزاق:حدثني ابن وَهْب، عن الإمام مالك في قوله: ( وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا
طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ )
قال:الطائفة:أربعة نفر فصاعدا؛ لأنه لا يكون شهادة في الزنى دون أربعة شهداء
فصاعدًا. وبه قال الشافعي .
وقال ربيعة:خمسة. وقال الحسن البصري:عشرة. وقال قتادة:أمر
الله أن يشهد عذابهما طائفة من المؤمنين، أي:نفر من المسلمين؛ ليكون ذلك موعظة
وعبرة ونكالا .
وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا يحيى بن عثمان، حدثنا
بَقِيَّةُ قال:سمعت نصر بن علقمة في قوله: ( وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) قال:ليس ذلك للفضيحة، إنما
ذلك ليدعى اللهُ تعالى لهما بالتوبة والرحمة.
الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً
وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ ( 3 )
هذا خَبَر من الله تعالى بأن الزاني لا يَطأ إلا زانية أو
مشركة. أي:لا يطاوعه على مراده من الزنى إلا زانية عاصية أو مشركة، لا ترى حرمة
ذلك، وكذلك: ( الزَّانِيَةُ
لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ ) أي:عاص
بزناه، ( أَوْ
مُشْرِكٌ ) لا
يعتقد تحريمه .
قال سفيان الثوري، عن حبيب بن أبي عَمَرة، عن سعيد بن جبير،
عن ابن عباس، رضي الله عنهما: (
الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ) قال:ليس هذا بالنكاح، إنما هو
الجماع، لا يزني بها إلا زانٍ أو مشرك .
وهذا إسناد صحيح عنه، وقد رُوي عنه من غير وجه أيضا. وقد رُوي
عن مجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، وعُرْوَة بن الزبير، والضحاك، ومكحول، ومُقَاتِل
بن حَيَّان، وغير واحد، نحوُ ذلك .
وقوله تعالى: ( وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) أي:تعاطيه والتزويج بالبغايا،
أو تزويج العفائف بالفجار من الرجال.
وقال أبو داود الطيالسي:حدثنا قَيْس، عن أبي حُصَين، عن سعيد
بن جُبَيْرٍ، عن ابن عباس: (
وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) قال:حَّرم الله الزنى على المؤمنين.
وقال قتادة، ومقاتل بن حَيّان:حرم الله على المؤمنين نكاح
البغايا، وتَقَدّم في ذلك فقال: (
وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ )
وهذه الآية كقوله تعالى: مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ
وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ [
النساء:25 ] وقوله
مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ الآية [ المائدة:5 ] ومن هاهنا ذهب الإمام أحمد بن
حنبل، رحمه الله، إلى أنه لا يصح العقد من الرجل العفيف على المرأة البغي ما دامت
كذلك حتى تستتاب، فإن تابت صح العقد عليها وإلا فلا وكذلك لا يصح تزويج المرأة الحرة
العفيفة بالرجل الفاجر المسافح، حتى يتوب توبة صحيحة؛ لقوله تعالى: ( وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ )
وقال الإمام أحمد:حدثنا عارم ، حدثنا مُعْتَمِر بن سليمان
قال:قال أبي:حدثنا الحضرمي، عن القاسم بن محمد، عن عبد الله بن عَمْرو، رضي الله
عنهما، أن رجلا من المسلمين استأذنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأة يقال
لها: « أم
مهزول » كانت
تسافح، وتشترط له أن تنفق عليه - قال:فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم -
أو:ذكر له أمرها - قال:فقرأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً
أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ
وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) .
وقال النسائي:أخبرنا عمرو بن علي، حدثنا المعتمر بن سليمان،
عن أبيه، عن الحضرمي، عن القاسم بن محمد، عن عبد الله بن عمرو قال:كانت امرأة يقال
لها: « أم
مهزول » وكانت
تسافح، فأراد رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوجها، فأنـزل الله
عز وجل: (
الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا
يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) .
[ و ] قال الترمذي:حدثنا عبد بن
حميد، حدثنا روح بن عُبَادة بن عُبَيد الله بن الأخنس، أخبرني عمرو بن شُعَيب عن
أبيه، عن جده قال:كان رجل يقال له « مَرْثَد بن أبي مرثد » وكان رجلا يحمل الأسارى من مكة حتى يأتي بهم المدينة.
قال:وكانت امرأةٌ بَغي بمكة يقال لها « عَنَاق » ، وكانت
صديقة له، وأنه واعد رجلا من أسارى مكة يحمله. قال:فجئت حتى انتهيتُ إلى ظل حائط
من حوائط مكة في ليلة مقمرة، قال:فجاءت « عناق » فأبصرت
سواد ظلي تحت الحائط، فلما انتهت إليّ عرفتني ، فقالت:مَرْثَد؟ فقلت:مرثد
فقالت:مرحبًا وأهلا هلم فبت عندنا الليلة. قال:فقلت يا عناق، حرم الله الزنى.
فقالت يا أهل الخيام، هذا الرجل يحمل أسراكم. قال:فتبعني ثمانية ودخلت الحَندمة
فانتهيت إلى غار - أو كهف فدخلت فيه فجاءوا حتى قاموا على رأسي فبالوا، فظل بولهم
على رأسي، فأعماهم الله عني - قال:ثم رجعوا، فرجعت إلى صاحبي فحملته، وكان رجلا
ثقيلا حتى انتهيت إلى الإذخَر، ففككت عنه أكبُله، فجعلت أحمله ويعِينني، حتى أتيت
به المدينة، فأتيت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقلت:يا رسول الله، أنكح عناقا؟
أنكح عناقا؟ - مرتين- فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يرد علي شيئا، حتى
نـزلت (
الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا
يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: « يا
مرثد، (
الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً [ وَالزَّانِيَةُ لا
يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ ] ) فلا
تنكحها » ثم قال
الترمذي:هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه .
وقد رواه أبو داود والنسائي، في كتاب النكاح من سننهما من
حديث عبيد الله بن الأخنس، به .
وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا مُسَدَّد أبو الحسن،
حدثنا عبد الوارث، عن حبيب المعلم، حدثني عمرو بن شعيب، عن سعيد المَقْبُرِيّ، عن
أبي هريرة، رضي الله عنه، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا ينكح الزاني المجلود إلا
مثله » .
وهكذا أخرجه أبو داود في سننه، عن مسدد وأبي معمر - عبد الله
بن عمرو - كلاهما، عن عبد الوارث، به .
وقال الإمام أحمد:حدثنا يعقوب، حدثنا عاصم بن محمد بن زيد بن
عبد الله بن عمر بن الخطاب، عن أخيه عمر بن محمد، عن عبد الله بن يسار - مولى ابن
عمر - قال:أشهد لسمعت سالما يقول:قال عبد الله:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ثلاثة لا يدخلون الجنة، ولا
ينظر الله إليهم يوم القيامة:العاق لوالديه، والمرأة المترجلة - المتشبهة بالرجال
- والديوث. وثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة:العاق لوالديه، ومُدْمِن الخمر،
والمنَّان بما أعطى » .
ورواه النسائي، عن عمرو بن علي الفلاس، عن يزيد بن زُرَيع، عن
عُمَر بن محمد العُمَري، عن عبد الله بن يسار، به .
وقال الإمام أحمد أيضا:حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، حدثنا الوليد
بن كثير، عن قَطَن بن وهب، عن عُوَيْمر بن الأجدع، عمن حدثه، عن سالم بن عبد الله
بن عمر قال:حدثني عبد الله بن عمر:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « ثلاثة حرم الله عليهم
الجنة:مدمن الخمر، والعاق، والدَّيُّوث الذي يقر في أهله الخبث » .
وقال أبو داود الطيالسي في مسنده:حدثنا شعبة، حدثني رجل - من
آل سهل بن حُنَيْف - ، عن محمد بن عَمَّار، عن عمار بن ياسر قال:قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: « لا
يدخل الجنة دَيُّوث » .
يستشهد به لما قبله من الأحاديث .
وقال ابن ماجه:حدثنا هشام بن عمار، حدثنا سَلام بن سَوَّار،
حدثنا كَثِير بن سُلَيم، عن الضحاك بن مُزَاحِم:سمعت أنس بن مالك يقول:سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم [
يقول ] « من أراد أن يلقى الله طاهرًا
مُطَهَّرًا، فليتزوج الحرائر » .
في إسناده ضعف .
قال الإمام أبو نصر إسماعيل بن حَمَّاد الجوهري في كتاب « الصحاح في اللغة: » الدَّيُّوث القُنذُع وهو الذي
لا غَيرَةَ له .
فأما الحديث الذي رواه الإمام أبو عبد الرحمن النسائي في كتاب
« النكاح
» من
سننه:أخبرنا محمد بن إسماعيل بن عُلَيَّة، عن يزيد بن هارون، عن حماد بن سلمة
وغيره، عن هارون ابن رئاب، عن عبد الله بن عُبَيد بن عمير - وعبد الكريم، عن عبد
الله بن عبيد بن عمير، عن ابن عباس - عبدُ الكريم رفعه إلى ابن عباس، وهارون لم
يرفعه - قالا جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:إن عندي امرأة [ هي ] من أحبِّ الناس إلي وهي لا
تمنع يد لامِس قال: « طلقها
» .
قال:لا صبر لي عنها قال: « استمتع
بها » ، ثم
قال النسائي:هذا الحديث غير ثابت، وعبد الكريم ليس بالقوي، وهارون أثبت منه، وقد
أرسل الحديث وهو ثقة، وحديثه أولى بالصواب من حديث عبد الكريم. .
قلت:وهو ابن أبي المخارق البصري المؤدب تابعي ضعيف الحديث،
وقد خالفه هارون بن رئاب، وهو تابعي ثقة من رجال مسلم، فحديثه المرسل أولى كما قال
النسائي. لكن قد رواه النسائي في كتاب « الطلاق » ، عن
إسحاق بن راهويه، عن النضر بن شُمَيل عن حماد بن سلمة، عن هارون بن رئاب، عن عبد
الله بن عُبَيد بن عمير، عن ابن عباس مسندا، فذكره بهذا الإسناد، رجاله على شرط
مسلم، إلا أن النسائي بعد روايته له قال: « وهذا خطأ، والصواب مرسل » ورواه غير النضر على الصواب.
وقد رواه النسائي أيضا وأبو داود، عن الحسين بن حُرَيث،
أخبرنا الفضل بن موسى، أخبرنا الحسين بن واقد، عن عُمَارة بن أبي حفصة، عن عكرمة،
عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره. وهذا إسناد جيد .
وقد اختلف الناس في هذا الحديث ما بين مُضَعِّف له، كما
تقدَّم، عن النسائي، وكما قال الإمام أحمد:هو حديث منكر.
وقال ابن قتيبة:إنما أراد أنها سخية لا تمنع سائلا . وحكاه
النسائي في سننه، عن بعضهم فقال:وقيل: « سخية تعطي » ، ورُدّ هذا بأنه لو كان المراد لقال:لا تَرُدّ يد ملتمس.
وقيل:المراد أن سجيتها لا تَرُدّ يد لامس، لا أن المراد أن
هذا واقع منها، وأنها تفعل الفاحشة؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأذن في
مصاحبة من هذه صفتها. فإن زوجها - والحالة هذه - يكون دَيّوثا، وقد تقدم الوعيد
على ذلك. ولكن لما كانت سجيتها هكذا ليس فيها ممانعة ولا مخالفة لمن أرادها لو خلا
بها أحد، أمره رسولُ صلى الله عليه وسلم بفراقها. فلما ذكر أنه يحبها أباح له
البقاء معها؛ لأن محبته لها محققة، ووقوع الفاحشة منها متوهم فلا يُصَار إلى الضرر
العاجل لتوهم الآجل، والله سبحانه وتعالى أعلم .
قالوا:فأما إذا حصلت توبة فإنه يحل التزويج، كما قال الإمام
أبو محمد بن أبي حاتم رحمه الله:
حدثنا أبو سعيد الأشَجّ، حدثنا أبو خالد، عن ابن أبي ذئب،
قال:سمعت [
شعبة ] - مولى
ابن عباس، رضي الله عنه - قال:سمعت ابن عباس وسأله رجل قال :إني كنت ألم بامرأة
آتي منها ما حَرّم الله عز وجل عليّ، فرزق الله عز وجل من ذلك توبة، فأردت أن
أتزوجها، فقال أناس:إن الزاني لا ينكح إلا زانية. فقال ابن عباس:ليس هذا في هذا،
انكحها فما كان من إثم فعلي .
وقد ادعى طائفة آخرون من العلماء أن هذه الآية منسوخة، قال
ابن أبي حاتم:
حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو خالد، عن يحيى بن سعيد، عن
سعيد ابن المسيب. قال:ذُكر عنده (
الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا
يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ ) قال:كان يقال:نسختها [ الآية ] التي
بعدها: وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ [ النور:32 ] قال:كان يقال الأيامى من المسلمين.
وهكذا رواه الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب « الناسخ والمنسوخ » له، عن سعيد بن المسيب. ونص
على ذلك أيضا الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي، رحمه الله .
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا
بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا
لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ( 4 ) إِلا الَّذِينَ تَابُوا
مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 5 )
هذه الآية الكريمة فيها بيان حكم جلد القاذف للمحصنة، وهي
الحرة البالغة العفيفة، فإذا كان المقذوف رجلا فكذلك يجلد قاذفه أيضًا، ليس في هذا
نـزاع بين العلماء. فأما إن أقام القاذف بينة على صحة ما قاله، رُدّ عنه الحد؛
ولهذا قال تعالى: ( ثُمَّ
لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا
تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) ، فأوجب على القاذف إذا لم
يقم بينة على صحة ما قاله ثلاثة أحكام:
أحدها:أن يجلد ثمانين جلدة.
الثاني:أنه ترد شهادته دائما.
الثالث:أن يكون فاسقًا ليس بعدل، لا عند الله ولا عند الناس .
ثم قال تعالى: ( إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا
فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) ،
اختلف العلماء في هذا الاستثناء:هل يعود إلى الجملة الأخيرة فقط فترفع التوبة الفسق
فقط، ويبقى مردود الشهادة دائما وإن تاب، أو يعود إلى الجملتين الثانية والثالثة ؟
وأما الجلد فقد ذهب وانقضى، سواء تاب أو أصر، ولا حكم له بعد ذلك بلا خلاف - فذهب
الإمام مالك والشافعي وأحمد بن حنبل إلى أنه إذا تاب قبلت شهادته، وارتفع عنه حكم
الفسق. ونص عليه سعيد بن المسيب - سيد التابعين - وجماعة من السلف أيضًا.
وقال الإمام أبو حنيفة:إنما يعود الاستثناء إلى الجملة
الأخيرة فقط، فيرتفع الفسق بالتوبة، ويبقى مردود الشهادة أبدًا. وممن ذهب إليه من
السلف القاضي - شُرَيح، وإبراهيم النَّخَعِيّ، وسعيد بن جُبَيْر، ومكحول، وعبد
الرحمن بن زيد بن أسلم .
وقال الشعبي والضحاك:لا تقبل شهادته وإن تاب، إلا أن يعترف
على نفسه بأنه قد قال البهتان، فحينئذ تقبل شهادته، والله أعلم .
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ
شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ
بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ( 6 )
وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ( 7 ) وَيَدْرَأُ عَنْهَا
الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ
( 8 ) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ
غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ ( 9 ) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ
عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ ( 10 )
هذه
الآية الكريمة فيها فَرَج للأزواج وزيادة مخرج، إذا قذف أحدهم زوجته وتعسر عليه
إقامة البينة، أن يلاعنها، كما أمر الله عز وجل وهو أن يحضرها إلى الإمام، فيدعي
عليها بما رماها به، فيحلفه الحاكم أربع شهادات بالله في مقابلة أربعة شهداء، ( إِنَّهُ لَمِنَ
الصَّادِقِينَ )
أي:فيما رماها به من الزنى، (
وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ) فإذا قال ذلك، بانت منه بنفس
هذا اللعان عند الشافعي وطائفة كثيرة من العلماء، وحرمت عليه أبدًا، ويعطيها
مهرها، ويتوجه عليها حد الزنى، ولا يدرأ عنها العذاب إلا أن تلاعن، فتشهد أربع
شهادات بالله إنه لمن الكاذبين، أي:فيما رماها به، ( وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ
اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) ولهذا قال: ( وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ ) يعني:الحد، ( أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ
شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ * وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ
اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) فخصها بالغضب، كما أن الغالب أن الرجل لا يتجشم فضيحة أهله
ورميها بالزنى إلا وهو صادق معذور، وهي تعلم صدقه فيما رماها به. ولهذا كانت
الخامسة في حقها أن غضب الله عليها. والمغضوب عليه هو الذي يعلم الحق ثم يحيد عنه.
ثم ذكر
تعالى لطفه بخلقه، ورأفته بهم، وشرعه لهم الفرج والمخرج من شدة ما يكون فيه من
الضيق، فقال: (
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ) أي:لحرجتم ولشق عليكم كثير من أموركم، ( وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ ) [ أي ] :على عباده - وإن كان ذلك بعد
الحلف والأيمان المغلظة- (
حَكِيمٌ ) فيما
يشرعه ويأمر به وفيما ينهى عنه.
وقد وردت
الأحاديث بمقتضى العمل بهذه الآية، وذكر سبب نـزولها، وفيمن نـزلت فيه من الصحابة،
فقال الإمام أحمد:
حدثنا
يزيد، أخبرنا عَبَّاد بن منصور، عن عكْرمَة، عن ابن عباس قال:لما نـزلت: وَالَّذِينَ
يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ
فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا ،
قال سعد بن عبادة - وهو سيد الأنصار - :هكذا أنـزلت يا رسول الله؟ فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم « :يا
معشر الأنصار ألا تسمعون ما يقول سيدكم؟ » قالوا:يا رسول الله، لا تَلُمه فإنه رجل غيور، والله ما تزوج
امرأة قَطّ [ إلا
بكرًا، وما طلق امرأة له قط ] فاجترأ
رجل منا أن يتزوجها، من شدة غيرته. فقال سعد:والله - يا رسول الله - إني لأعلم
أنها حق وأنها من الله، ولكني قد تعجَبت أني لو وجدت لَكاعًا قد تَفَخَّذها رجل،
لم يكن لي أن أهيّجه ولا أحركه حتى آتي بأربعة شهداء، فوالله لا آتي بهم حتى يقضي
حاجته. قال:فما لبثوا إلا يسيرًا حتى جاء هلال بن أمية - وهو أحد الثلاثة الذين
تِيبَ عليهم - فجاء من أرضه عشاء، فوجد عند أهله رجلا فرأى بعينيه، وسمع بأذنيه،
فلم يُهَيّجه حتى أصبح، فغدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:يا رسول الله
إني جئت أهلي عشاء، فوجدتُ عندها رجلا فرأيت بعيني، وسمعت بأذني. فَكَرِهَ رسولُ
الله صلى الله عليه وسلم ما جاء به، واشتدّ عليه، واجتمعت الأنصار فقالوا:قد
ابتلينا بما قال سعد بن عبادة، الآن يضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم هلالَ بن
أمية، ويبْطل شهادته في المسلمين . فقال هلال:والله إني لأرجو أن يجعل الله لي
منها مخرجًا. وقال هلال:يا رسول الله، إني قد أرى ما اشتد عليك مما جئت به، والله
يعلم إني لصادق . فوالله إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يأمر بضربه، إذ
أنـزل الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي - وكان إذا نـزل عليه الوحي
عرفوا ذلك، في تَرَبُّد وجهه . يعني:فأمسكوا عنه حتى فرغ من الوحي - فنـزلت: ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ
أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ
أَحَدِهِمْ ) الآية،
فَسُرّي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: « أبشر يا هلال، قد جعل الله لك فرجًا ومخرجًا » . فقال هلال:قد كنت أرجو ذلك
من ربي، عز وجل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أرسلوا إليها » . فأرسلوا إليها، فجاءت،
فتلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهما، وذكرهما وأخبرهما أن عذابَ الآخرة
أشدّ من عذاب الدنيا. فقال هلال:والله - يا رسول الله - لقد صَدَقتُ عليها .
فقالت:كذب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لاعنوا بينهما » . فقيل لهلال:اشهد. فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن
الصادقين، فلما كان في الخامسة قيل له:يا هلال، اتق الله، فإن عذاب الدنيا أهونُ
من عذاب الآخرة، وإن هذه الموجبةُ التي توجب عليك العذاب. فقال:والله لا يعذبني
الله عليها، كما لم يجلدني عليها. فشهد في الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من
الكاذبين. ثم قيل [
لها:اشهدي أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين، فلما كانت الخامسة قيل ] لها:اتقي الله، فإن عذاب
الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وإن هذه الموجبةُ التي توجب عليك العذاب. فتلكأت
ساعة، ثم قالت:والله لا أفضح قومي فشهدت في الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من
الصادقين. ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما، وقضى ألا يدعى ولدها لأب ولا
يرمى ولدها، ومن رماها أو رمى ولدها فعليه الحد، وقضى ألا [ بيت لها عليه ولا ] قوت لها، من أجل أنهما
يتفرقان من غير طلاق، ولا مُتَوَفى عنها. وقال: « إن جاءت به أصَيْهِب أرَيسح حَمْش الساقين فهو لهلال، وإن
جاءت به أورق جَعدًا جَمَاليًّا خَدلَّج الساقين سابغ الأليتين، فهو الذي رميت به
» فجاءت
به أورق جعدا جماليًّا خدلج الساقين سابغ الأليتين، فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: « لولا
الأيمان لكان لي ولها شأن » .
قال
عكرمة:فكان بعد ذلك أميرًا على مصر، وكان يدعى لأمه ولا يدعى لأب.
ورواه
أبو داود عن الحسن بن عليّ، عن يزيد بن هارون، به نحوه مختصرًا .
ولهذا
الحديث شواهد كثيرة في الصحاح وغيرها من وجوه كثيرة. فمنها ما قال البخاري:حدثني
محمد بن بَشَّار، حدثنا ابن أبي عَدِيّ، عن هشام بن حسان، حدثني عِكْرِمَة، عن ابن
عباس؛ أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشَرِيك بن
سَحْماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « البينة أو حَدُّ في ظهرك » فقال:يا رسول الله، إذا أري أحدنا على امرأته رجلا ينطلقُ
يلتمس البينة؟ فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: « البينة وإلا حدّ في ظهرك » . فقال هلال:والذي بعثك بالحق
إني لصادق، ولينـزلن الله ما يُبرئ ظهري من الحد. فنـزل جبريل، وأنـزل عليه: ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ
أَزْوَاجَهُمْ ) ، فقرأ
حتى بلغ: ( إِنْ
كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) فانصرف
النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليهما، فجاء هلال فشهد، والنبي صلى الله عليه
وسلم يقول: « الله
يشهد أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب » ؟ ثم قامت فشهدت، فلما كانت عند الخامسة وَقَّفُوها
وقالوا:إنها مُوجبة. قال ابن عباس:فتلكأت ونكصت حتى ظننا أنها ترجع، ثم قالت:لا
أفضح قومي سائر اليوم. فمضت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « أبْصِرُوها، فإن جاءت به
أكحلَ العينين، سابغ الأليتين، خَدَلَّج الساقين، فهو لشَرِيك بن سَحْمَاءَ » . فجاءت به كذلك، فقال النبي
صلى الله عليه وسلم: « لولا
ما مضى من كتاب الله، لكان لي ولها شأن » .
انفرد به
البخاري من هذا الوجه وقد رواه من غير وجه، عن ابن عباس وغيره.
وقال ابن
أبي حاتم:حدثنا أحمد بن منصور الزيادي حدثنا يونس بن محمد، حدثنا صالح - وهو ابن
عمر - حدثنا عاصم - يعني:ابن كُلَيْب - ، عن أبيه، حدثني ابن عباس قال:جاء رجل إلى
رسول الله، فرمى امرأته برجل، فكره ذلك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فلم يزل
يُرَدّده حتى أنـزل الله: (
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ [ إِلا أَنْفُسُهُمْ ] ) [ فقرأ ] حتى فرغ من الآيتين، فأرسل إليهما
فدعاهما، فقال: « إن
الله، عَزّ وجل، قد أنـزل فيكما » . فدعا
الرجل فقرأ عليه، فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين. ثم أمر به فأمسك على
فيه فوعظه، فقال له: « كل شيء
أهون عليه من لعنة الله » . ثم
أرسله فقال: (
لَعْنتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ) ثم دعا بها، فقرأ عليها،
فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين، ثم أمر بها فأمسك على فيها فوعظها،
وقال: « ويحك.
كل شيء أهون من غضب الله » . ثم
أرسلها، فقالت: (
غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: « أما
والله لأقضينّ بينكما قضاء فصلا » .
قال:فولدت، فما رأيت مولودًا بالمدينة أكثر غاشية منه، فقال: « إن جاءت به لكذا وكذا فهو
كذا، وإن جاءت به لكذا وكذا فهو لكذا » . فجاءت به يشبه الذي قُذفت به.
وقال
الإمام أحمد:حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا عبد الملك بن أبي سليمان قال:سمعت سعيد بن
جُبَير قال:سُئلْتُ عن المتلاعنين أيفرّق بينهما - في إمارة ابن الزبير؟ فما
دَرَيتُ ما أقول، فقمت من مكاني إلى منـزل ابن عمر فقلتُ:أبا عبد الرحمن،
المتلاعنان أيفرق بينهما؟ فقال:سبحان الله، إن أول من سأل عن ذلك فلان بن فلان
فقال:يا رسول الله، أرأيت الرجل يرى امرأته على فاحشة فإن تَكَلَّم تكلم بأمر
عظيم، وإن سكت سكت على مثل ذلك. فسكت فلم يجبه، فلما كان بعد ذلك أتاه فقال:الذي
سألتك عنه قد ابتُليت به. فأنـزل الله عز وجل هذه الآيات في سورة النور: ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ
) حتى
بلغ: ( أَنَّ
غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) . فبدأ بالرجل فوعظه وذكَّره،
وأخبره أن عذاب الدنيا أهونُ من عذاب الآخرة، فقال:والذي بعثك بالحق ما كَذَبْتُك.
ثم ثنى بالمرأة فوعظها وذَكَّرها، وأخبرها أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة،
فقالت:والذي بعثك بالحق إنه لكاذب. قال:فبدأ بالرجل، فشهد أربع شهادات بالله إنه
لمن الصادقين، والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين. ثم ثنى بالمرأة
فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين، والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من
الصادقين، ثم فَرَّقَ بينهما.
رواه
النسائي في التفسير، من حديث عبد الملك بن أبي سليمان، به وأخرجاه في الصحيحين من
حديث سعيد بن جبير، عن ابن عباس .
وقال
الإمام أحمد:حدثنا يحيى بن حماد، حدثنا أبو عَوَانة، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن
علقمة، عن عبد الله قال:كنَّا جلوسًا عشية الجمعة في المسجد، فقال رجل من
الأنصار:أحدنا إذا رأى مع امرأته رجلا فقتله قتلتموه، وإن تكلم جلدتموه، وإن سكت
سكت عن غيظ؟ والله لَئن أصبحت صالحًا لأسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال:فسأله. فقال:يا رسول الله، إن أحدنا إذا رأى مع امرأته رجلا فقتله قتلتموه،
وإن تكلم جلدتموه، وإن سكت سكت على غيظ؟ اللهم احكم. قال:فأنـزل آية اللعان، فكان
ذلك الرجل أول من ابتلي به.
انفرد
بإخراجه مسلم، فرواه من طُرُق، عن سليمان بن مِهْران الأعمش، به .
وقال
الإمام أحمد أيضًا:حدثنا أبو كامل:حدثنا إبراهيم بن سعد، حدثنا ابن شهاب، عن سهل
بن سعد، قال:جاء عُوَيْمر إلى عاصم بن عَدِيّ فقال:سَلْ رسول الله صلى الله عليه
وسلم:أرأيت رجلا وجد رجلا مع امرأته فقتله، أيقتل به أم كيف يصنع؟ فسأل عاصم رسول
الله صلى الله عليه وسلم، فعابَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم المسائل. قال:فلقيه
عُوَيمر فقال:ما صنعْتَ؟ قال:ما صنعت! إنك لم تأتني بخير؛ سألت رسول الله صلى الله
عليه وسلم فعاب المسائل فقال عُوَيمر:والله لآتين رسول الله صلى الله عليه وسلم
فَلأسألنه. فأتاه فوجده قد أنـزل عليه فيهما. قال:فدعا بهما فَلاعَن بينهما. قال
عُوَيمر:لئن انطلقتُ بها يا رسول الله لقد كذبت عليها. قال:ففارقها قبل أن يأمره
رسول الله صلى الله عليه وسلم فصارت سنة المتلاعنين، فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: «
أبصروها، فإن جاءت به أسحم أدعج العينين عظيم الأليتين، فلا أراه إلا قد صدق، وإن
جاءت به أحيمر كأنه وَحَرَة فلا أراه إلا كاذبًا » . فجاءت به على النعت المكروه.
أخرجاه
في الصحيحين وبقية الجماعة إلا الترمذي، من طرق، عن الزهري، به .
وقال
الحافظ أبو بكر البزار:حدثنا إسحاق بن الضيف، حدثنا النضر بن شُمَيْل، حدثنا يونس
بن أبي إسحاق، عن أبيه، عن زيد بن يُثَيْع، عن حذيفة، رضي الله عنه، قال:قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: « لو رأيت مع أم رومان رجلا ما كنت فاعلا به؟ قال:كنت والله
فاعلا به شرًا. قال: » فأنتَ
يا عمر؟ « .
قال:كنتُ والله فاعلا كنت أقول:لعن الله الأعجز، وإنه خبيث. قال:فنـزلت: ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ
أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ ) . »
ثم
قال:لا نعلم أحدًا أسنده إلا النَّضر بن شُميْل، عن يونس بن أبي إسحاق، ثم رواه من
حديث الثوري عن [ أبي
] أبي
إسحاق، عن زيد بن يُثَيْع مرسلا فالله أعلم .
وقال الحافظ
أبو يعلى:حدثنا مسلم بن أبي مسلم الجَرْمي، حدثنا مُخَلَّدُ بن الحسين، عن هشام،
عن ابن سيرين، عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، قال:لأول لعان كان في الإسلام أن
شَرِيكَ بن سَحْمَاء قذَفه هلال بن أمية بامرأته، فرفعه إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أربعة شهود وإلا فَحَدٌّ في ظهرك » ، فقال:يا رسول الله، إن الله
يعلم إني لصادق، ولينـزلن الله عليك ما يبرئ به ظهري من الجلد. فأنـزل الله آية
اللعان: (
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ
) إلى
آخر الآية. قال:فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: « اشهد بالله إنك لمن الصادقين
فيما رميتها به من الزنى » فشهد
بذلك أربع شهادات، ثم قال له في الخامسة: « ولعنة الله عليك إن كنتَ من الكاذبين فيما رميتها به من
الزنى » ، ففعل.
ثم دعاها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: « قومي فاشهدي بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماك به من الزنى
» . فشهدت
بذلك أربع شهادات، ثم قال لها في الخامسة: « وغَضب الله عليك إن كان من الصادقين فيما رماك به من الزنى
» ،
فقالت:فلما كانت الرابعة أو الخامسة سكتت سكتة، حتى ظنوا أنها ستعترف، ثم قالت:لا
أفضح قومي سائر اليوم. فمضت على القول، ففرَّق رسول الله صلى الله عليه وسلم
بينهما، وقال: «
انظروه، فإن جاءت به جَعْدًا حَمْشَ الساقين، فهو لشَرِيك بن سَحْماء، وإن جاءت به
أبيض سبطا فَضيء العينين فهو لهلال بن أمية » . فجاءت به آدَمَ جَعَدًا حَمْش الساقين، فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: « لولا
ما نـزل فيهما من كتاب الله، لكان لي ولها شأن » .
إِنَّ
الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ
هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ
وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( 11 )
هذه
العشر الآيات كلها نـزلت في شأن عائشة أم المؤمنين، رضي الله عنها، حين رماها أهل
الإفك والبهتان من المنافقين بما قالوه من الكذب البحت والفرية التي غار الله
تعالى لها ولنبيه، صلوات الله وسلامه عليه، فأنـزل [
الله عز وجل ] براءتها صيانة لعرض الرسول، عليه أفضل الصلاة والسلام فقال:
( إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ )
أي:جماعة منكم، يعني:ما هو واحد ولا اثنان بل جماعة، فكان المقدَّم في هذه اللعنة
عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين، فإنه كان يجمعه ويستوشيه، حتى دخل ذلك في
أذهان بعض المسلمين، فتكلموا به، وَجوّزه آخرون منهم، وبقي الأمر كذلك قريبًا من
شهر، حتى نـزل القرآن، وسياق ذلك في الأحاديث الصحيحة.
وقال الإمام
أحمد:حدثنا عبد الرزاق، حدثنا مَعْمَر،عن الزهري قال:أخبرني سعيد بن المسَيَّب،
وعُرْوَة بن الزبير، وعلقمة بن وقاص، وعُبَيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود،
عن حديث عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، حين قال لها أهل الإفك ما قالوا،
فبرأها الله، وكلّهم قد حدثني بطائفة من حديثها، وبعضهم كان أوعى لحديثها من بعض
وأثبت اقتصاصًا، وقد وعيت عن كل واحد منهم الحديث الذي حدثني، وبعض حديثهم يصدق
بعضًا:ذكروا أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت:كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم إذا أراد أن يخرج سَفَرًا أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها
رسول الله صلى الله عليه وسلم معه، قالت عائشة:فأقرع بيننا في غزوة غزاها، فخرج
فيها سهمي، وخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك بعدما أنـزل الحجابُ،
فأنا أحْمَل في هَودَجي وأنـزل فيه مسيرنا، حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه
وسلم من غَزْوه وقفل ودنونا من المدينة، آذن ليلة بالرحيل، فقمت حين آذنوا
بالرحيل، فمشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني أقبلت إلى الرحل فلمست صدري، فإذا
عقْد من جَزْع ظَفار قد انقطع، فرجعت فالتمست عقدي، فحَبَسني ابتغاؤه. وأقبل الرهط
الذين كانوا يرحلون بي فحملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب - وهم يحسبون
أني فيه - قالت:وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يُهَلَبْهُنَّ ولم يغشهن اللحمُ، إنما
يأكلن العُلقْة من الطعام. فلم يستنكر القوم ثقل الهودج حين رحلوه ورفعوه، وكنت
جارية حديثة السن، فبعثوا الجمل وساروا، ووجدت عقدي بعدما استمر الجيش، فجئت
منازلهم وليس بها داع ولا مجيب، فتيممت منـزلي الذي كنت فيه، وظننت أن القوم
سيفقدوني فيرجعون إليّ. فبينا أنا جالسة في منـزلي، غلبتني عيني فنمت - وكان صفوان
بن المعطل السلمي ثم الذّكْوَانَي قد عَرَس من وراء الجيش - فادّلج فأصبح عند
منـزلي، فرأى سواد إنسان نائم، فأتاني فعرفني حين رآني. وقد كان يراني قبل أن
يُضْرَب عليّ الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني، فخَمَّرت وجهي بجلبابي، والله
ما كلمني كلمة، ولا سمعت منه كلمة غيرَ استرجاعه، حتى أناخ راحلته، فَوْطئ على
يَدها فركبتُها، فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعدما نـزلوا مُوغرين في
نحر الظهيرة. فهلك من هلك في شأني، وكان الذي تولى كِبْره عبد الله بن أبي بن
سلول. فَقَدمتُ المدينة فاشتكيت حين قدمنا شهرا، والناس يُفيضُون في قول أهل
الإفك، ولا أشعر بشيء من ذلك، وهو يَريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله صلى
الله عليه وسلم اللُّطْف الذي كنت أرى منه حين أشتكي، إنما يدخل رسول الله صلى
الله عليه وسلم فيسلم، ثم يقول: « كيف تِيكُم؟ » فذلك
يَرِيبني ولا أشعر بالشر، حتى خرجت بعدما نَقِهْت وخَرَجَت معي أم مِسطْح قبل
المناصع - وهو مُتَبَرَّزُنا - ولا نخرج إلا ليلا إلى ليل، وذلك قبل أن نَتَّخذَ
الكُنُف قريبا من بيوتنا، وأمرنا أمر العرب الأول في التنـزه، وكنا نتأذى بالكُنُف
أن نتخذها في بيوتنا. فانطلقت أنا وأم مسْطَح - وهي ابنة أبي رُهْم بن المطلب بن
عبد مناف، وأمها ابنة صخر بن عامر، خالة أبي بكر الصديق، وابنها مسْطَح بن أثاثة
بن عَبَّاد بن المطلب - فأقبلت أنا وابنة أبي رهم قِبَلَ بيتي حين فرغنا من شأننا،
فعثرت أم مسْطح في مِرْطها فقالت: « تَعس
مسْطح » . فقلت لها:بئسما قلت، تسبين رجلا [ قد ] شهد
بدرا؟ قالت:أي هَنْتاه، ألم تسمعي ما قال؟ قلت:وماذا قال؟ فأخبرتني بقول أهل
الإفك، فازددتُ مرضًا إلى مرضي. فلما رجعتُ إلى بيتي دخل علي رسول الله صلى الله
عليه وسلم فسلم، ثم قال: « كيف تِيكُم؟ »
قلت:أتأذن لي أن آتي أبويّ؟ - قالت:وأنا حينئذ أريد أن أتيقن الخبر من قبَلهما -
فأذنَ لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجئت أبوي فقلت لأمي:يا أمَّتاه، ما يتحدث
الناس؟ فقالت:أيْ بُنَية هَوِّني عليك، فوالله لقلما كانت امرأة قَطّ وضيئة، عند
رجل يحبها، ولها ضرائر إلا أكثرن عليها. قالت:فقلتُ:سبحان الله أوقد تحدث الناس
بهذا؟ قالت:فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت، لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، ثم أصبحت
أبكي. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عَلِيّا وأسامة بن زيد حين استلبث
الوحيُ، يستشيرهما في فراق أهله، قالت:فأما أسامة بن زيد فأشار على رسول الله صلى
الله عليه وسلم بالذي يعلم من براءة أهله، وبالذي يعلم في نفسه له من الود، فقال:يا
رسول الله، هم أهلك، ولا نعلم إلا خيرا. وأما علي بن أبي طالب فقال:لم يُضيق الله
عليك، والنساء سواها كثير، وإن تسأل الجارية تصدُقك الخبر. قالت :فدعا رسول الله
صلى الله عليه وسلم بَريرة، فقال: « أيْ
بَرِيرة، هل رأيت من شيء يَريبك من عائشة؟ » فقالت
له بريرة:والذي بعثك بالحق إنْ رأيت عليها أمرا قَطّ أغمصُه عليها، أكثر من أنها
جارية حديثة السن، تنام عن عجين أهلها، فتأتي الداجن فتأكله، فقام رسول الله صلى
الله عليه وسلم فاستعذر من عبد الله بن أبي بن سَلُول. قالت:فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم وهو على المنبر: « يا معشر المسلمين مَنْ يعذرني
من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرًا، ولقد ذكروا
رجلا ما علمت عليه إلا خيرًا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي » . فقام
سعد بن معاذ الأنصاري فقال:أنا أعذرك منه يا رسول الله، إن كان من الأوس ضربنا
عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج، أمرتنا ففعلنا أمرك. قالت:فقام سعد بن عبادة
- وهو سيد الخزرج، وكان رجلا صالحا، ولكن احتملته الحمية - فقال لسعد بن معاذ:لعمر
الله لا تقتله ولا تقدر على قتله. فقام أُسَيد بن حُضير _ وهو ابن عم سعد بن معاذ
- فقال لسعد بن عبادة:كذبت! لعمر الله لنقتلنه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين.
فتثاور الحيان الأوس والخزرج حتى هَمّوا أن يقتتلوا، ورسول الله صلى الله عليه
وسلم [ قائم على المنبر. فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ]
يُخَفّضهم حتى سكتوا وسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت:وبكيت يومي ذلك، لا
يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، وأبواي يظنان أن البكاء فالق كبدي. قالت:فبينما هما
جالسان عندي وأنا أبكي، استأذَنَت عليَّ امرأة من الأنصار، فأذنتُ لها، فجلست تبكي
معي، فبينا نحن على ذلك إذ دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم ثم جلس -
قالت:ولم يجلس عندي منذ قيل [ لي ] ما
قيل، وقد لبث شهرًا لا يُوحَى إليه في شأني شيء - قالت:فتشهد رسول الله صلى الله
عليه وسلم حين جلس، ثم قال:أما بعد يا عائشة، فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت
بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألْمَمْت بذنب فاستغفري الله ثم توبي إليه، فإن العبد
إذا اعترف بذنب ثم تاب، تاب الله عليه. قالت:فلما قضى رسول الله صلى الله عليه
وسلم مقالته قَلَص دمعي حتى ما أحس منه قطرة، فقلت لأبي:أجب عني رسول الله صلى
الله عليه وسلم. فقال:والله ما أدري ما أقول للرسول. فقلت لأمي:أجيبي عني رسول
الله.فقالت:والله ما أدري ما أقول لرسول الله. قالت:فقلت - وأنا جارية حديثة السن،
لا أحفظ كثيرا من القرآن - : [ إني ] والله
لقد عرفت أنكم قد سمعتم بهذا، حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به، ولَئَن قلت لكم إني
بريئة - والله يعلم أني بريئة - لا تصدقوني [
بذلك. ولئن اعترفت لكم بأمر والله عز وجل يعلم أني بريئة تصدقوني ] ، وإني
والله ما أجد لي ولكم مثلا إلا كما قال أبو يوسف: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ
الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ [
يوسف:18 ] . قالت:ثم تحولت فاضطجعت على فراشي، قالت:وأنا والله حينئذ
أعلم أني بريئة، وأن الله مُبَرِّئي ببراءتي، ولكن والله ما كنت أظن أن ينـزل في
شأني وحي يتلى، ولشأني كان أحقرَ في نفسي من أن يتكلم الله فِيَّ بأمر يُتلى. ولكن
كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤْيا يبرّئني الله بها.
قالت:فوالله ما رام رسول الله صلى الله عليه وسلم من مجلسه، ولا خرج من أهل البيت
أحد، حتى أنـزل الله على نبيه، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي، حتى إنه
لينحدر منه مثل الجُمَان من العرق في اليوم الشاتي، من ثِقَل القول الذي أنـزل
عليه . قالت :فلما سُرّيَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يضحك، كان أول كلمة
تكلم بها أن قال: « أبشري يا عائشة، أما الله فقد
بَرّأك . فقالت لي أمي:قومي إليه. فقلت:والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله عز
وجل، هو الذي أنـزل براءتي وأنـزل الله عز وجل: ( إِنَّ
الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ ) عشر
آيات. فأنـزل الله هذه الآيات في براءتي قالت:فقال أبو بكر، رضي الله عنه - وكان
ينفق على مسطح لقرابته منه وفقره - :والله لا أنفق عليه شيئًا أبدا بعد الذي قال
لعائشة. فأنـزل الله عز وجل: وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ
إلى قوله أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ [
النور:22 ] فقال أبو بكر :والله إني لأحب أن يغفر الله لي، فَرجّع إلى
مِسْطَح النفقة التي كان ينفق عليه. وقال:لا أنـزعها منه أبدًا. »
قالت
عائشة:وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل زينبَ بنت جحش - زوجَ النبي صلى الله
عليه وسلم - ، عن أمري:يا زينب، ما علمت، أوما رأيت [
أوما بلغك ] ؟ فقالت يا رسول الله، أحمي سمعي وبصري، والله ما علمتُ إلا
خيرًا. قالت عائشة:وهي التي كانت تُسَاميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ،
فعصمها الله تعالى بالورع .وطَفِقَت أختها حَمنة بنت جحش تحارب لها، فهلكت فيمن
هلك.
قال ابن
شهاب:فهذا ما انتهى إلينا من أمر هؤلاء الرهط.
أخرجه
البخاري ومسلم في صحيحيهما، من حديث الزهري . وهكذا رواه ابن إسحاق، عن الزهري
كذلك، قال:وحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن عائشة. وحدثني
عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري، عن عمرة، عن عائشة بنحو ما
تقدم، والله أعلم .
ثم قال
البخاري:وقال أبو أسامة، عن هشام بن عُرْوة قال:أخبَرَني أبي، عن عائشة رضي الله
عنها، قالت:لما ذُكرَ من شأني الذي ذُكر وما عَلمتُ به، قام رسولُ الله صلى الله
عليه وسلم فيَّ خطيبا، فتشهد فَحَمِدَ الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: « أما
بعد، أشيروا عَلَيّ في أناس أبَنُوا أهلي، وَايمُ الله ما علمت على أهلي من سوء ،
وأبَنُوهم بمَن والله ما علمتُ عليه من سوء قطّ، ولا يدخل بيتي قط إلا وأنا حاضر،
ولا غبت في سفر إلا غاب معي » . فقام سعد بن معاذ الأنصاري
فقال:ائذن يا رسول الله أن نضرب أعناقهم، فقام رجل من الخزرج - وكانت أمّ حسان [ بن
ثابت ] من رهط ذلك الرجل - فقال:كذبت، أما والله لو كانوا من الأوس
ما أحببتَ أن تُضرب أعناقهم. حتى كاد أن يكون بين الأوس والخزرج شَرٌّ في المسجد،
وما عَلمتُ. فلما كان مساء ذلك اليوم، خرجت لبعض حاجتي ومعي أم مسطح، فعَثَرتْ
فقالت:تَعس مسطح، فقلت:أيْ أمّ، أتسبين ابنك؟ وسكتت، ثم عَثَرت الثانية فقالت:تَعس
مسطح. فقلت لها:أيْ أمّ، تسبين ابنك؟ ثم عَثَرت الثالثة فقالت:تَعس مسْطح.
فانتهرتها فقالت:والله ما أسبه إلا فيك، فقلت:في أيّ شأني؟ قالت:فَبَقَرت لي
الحديث. فقلت:وقد كان هذا؟ قالت:نعم والله. فرجعتُ إلى بيتي كأن الذي خرجت له لا
أجد منه قليلا ولا كثيرًا، ووُعكت، وقلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم:أرسلني إلى
بيت أبي. فأرسل معي الغلام، فدخلتُ الدار، فوجدت أم رومان في السّفل، وأبا بكر فوق
البيت يقرأ، فقالت [ لي ] أمي:ما
جاء بك يا بنية؟ فأخبرتها، وذكرتُ لها الحديث، وإذا هو لم يبلغ منها مثل ما بلغ
مني، [ فقالت:يا بنية، خَفِّضي عليك الشأن؛ فإنه - والله -
لَقَلَّما كانت امرأة حسناء، عند رجل يحبها، لها ضرائر إلا حَسَدنها، وقيل فيها
وإذا هو لم يبلغ منها ما بلغ مني، فقلت:وقد عَلِم به أبي؟ قالت:نعم. قلت:ورسولُ
الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت:نعم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ]
.فاستَعْبَرْتُ وبكيت، فسمعَ أبو بكر صوتي، وهو فوق البيت يقرأ، فنـزل فقال
لأمي:ما شأنها؟ قالت:بلغها الذي ذُكر من شأنها. ففاضت عيناه وقال :أقسمت عليك -
أيْ بُنَيّة - إلا رجعت إلى بيتك فَرَجعتُ، ولقد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم
بيتي، فسأل عني خادمي فقالت:لا والله ما علمت عليها عيبا، إلا أنها كانت ترقد حتى
تدخل الشاة فتأكل خَميرها - أو:عجينها - وانتهرها بعض أصحابه فقال:اصدُقي رَسُولَ
الله صلى الله عليه وسلم حتى أسقطوا لها به، فقالت:سبحان الله. والله ما علمت
عليها إلا ما يعلم الصائغ على تبْر الذهب الأحمر. وبلغ الأمر ذلك الرجلَ الذي قيل
له، فقال:سبحان الله. والله ما كَشَفت كَنَف أنثى قط - قالت عائشة:فقتل شهيدا في
سبيل الله - قالت:وأصبح أبواي عندي، فلم يزالا حتى دخل علي رسول الله صلى الله
عليه وسلم وقد صَلّى العصر، ثم دخل وقد اكتنفَني أبواي، عن يميني وعن شمالي، فحمد
الله وأثنى عليه، ثم قال: « أما بعد يا عائشة، إن كنت
قارفت سُوءًا أو ظَلَمت فتوبي إلى الله، فإن الله يقبل التوبة عن عباده » .
قالت:وقد جاءت امرأة من الأنصار، فهي جالسة بالباب، فقلت:ألا تستحي من هذه المرأة
أن تذكر شيئًا؟ فوعظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالتفت إلى أبي، فقلت
له:أجبْه. قال:فماذا أقول؟ فالتفتُ إلى أمي فقلت:أجيبيه. قالت:أقول ماذا؟ فلما لم
يجيباه، تَشَّهدتُ فحمدتُ الله وأثنيت عليه بما هو أهله، ثم قلت:أما بعد، فَوَالله
لَئن قلت لكم إني لم أفعل - والله عز وجل يشهد إني لصادقة - ما ذاك بنافعي عندكم،
لقد تكلمتم به، وأشْربته قلوبكم، وإن قلت:إني قد فعلت - والله يعلم أني لم أفعل -
لتقولُنَ:قد باءت به على نفسها، وإني - والله - ما أجد لي ولكم مثلا - والتمستُ
اسم يعقوب فلم أقدر عليه - إلا أبا يوسف حين قال: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ
الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ [
يوسف:18 ] ، وأنـزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من ساعته،
فسكتنا، فَرُفع عنه وإني لأتبين السرور في وجهه، وهو يمسح جبينه ويقول: « أبشري
يا عائشة، فقد أنـزل الله براءتك »
قالت:وكنت أشد ما كنتُ غضبًا، فقال لي أبواي:قومي [
إليه ] فقلت:لا والله لا أقوم إليه ولا أحمده ولا أحمدكما، ولكن أحمد
الله الذي أنـزل براءتي، لقد سمعتموه فما أنكرتموه ولا غَيَّرتموه، وكانت عائشة
تقول:أما زينب بنت جحش فقد عصمها الله بدينها، فلم تقل إلا خيرًا. وأما أختها
حَمنة بنت جحش، فهلكت فيمن هلك. وكان الذي يتكلم به مسطح وحسان بن ثابت. وأما
المنافق عبد الله بن أبي بن سلول فهو الذي [ كان
] يستوشيه ويجمعه، وهو الذي تولى كِبْرَه منهم هو وحمنة.
قالت:وحلف أبو بكر ألا ينفع مسطحًا بنافعة أبدًا، فأنـزل الله: وَلا يَأْتَلِ
أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ إلى آخر الآية، يعني:أبا بكر، وَالسَّعَةِ
أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ يعني:مسطحا، إلى قوله: أَلا
تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [
النور:22 ] . فقال أبو بكر:بلى والله يا رَبّنا، إنا لنُحِبّ أن تغفر
لنا وعاد له بما كان يصنع.
هكذا
رواه البخاري من هذا الوجه مُعَلَّقا بصيغة الجزم عن أبي أسامة حماد بن أسامة [ أحد
الأئمة الثقات. وقد رواه ابن جرير في تفسيره، عن سفيان بن وَكيع، عن أبي أسامة ] به
مطولا مثله أو نحوه. ورواه ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الأشج، عن أبي أسامة، ببعضه.
وقال
الإمام أحمد:حَدَثنا هُشَيْم، أخبرنا عمر بن أبي سلمة، عن أبيه، عن عائشة، رضي
الله عنها، قالت:لما نـزل عُذْري من السماء، جاءني النبي صلى الله عليه وسلم
فأخبرني بذلك، فقلت:نَحمدُ الله لا نَحمدك .
وقال
الإمام أحمد:حدثني ابن أبي عَدِيّ، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، عن
عَمْرَةَ، عن عائشة قالت:لما نـزل عُذْري قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر
ذلك، وتلا القرآن، فلما نـزل أَمَر برجلين وامرأة فَضُربوا حدهم .
وأخرجه
أهل السنن الأربعة، وقال الترمذي:هذا حديث حسن. ووقع عند أبي داود تسميتهم:حسان بن
ثابت، ومِسْطح بن أثاثة، وحَمْنة بنت جحش.
فهذه طرق
متعددة، عن أم المؤمنين عائشة، رضي الله عنها، في المسانيد والصحاح والسنن وغيرها
.
وقد رُوي
من حديث أمها أمّ رومان، رضي الله عنها، فقال الإمام أحمد:
حدثنا
علي بن عاصم، أخبرنا حُصَين، عن أبي وائل، عن مسروق، عن أم رومان قالت:بينا أنا
عند عائشة، إذ دخلت عليها امرأة من الأنصار فقالت:فعل الله - بابنها - وفعل. فقالت
عائشة:ولم؟ قالت:إنه كان فيمن حَدَّث الحديث. قالت عائشة:وأي حديث؟ قالت:كذا وكذا.
قالت:وقد بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت:نعم، وبلغ أبا بكر؟
قالت:نعم، فخرت عائشة، رضي الله عنها، مغشيا عليها، فما أفاقت إلا وعليها حمى
بنافض. قالت:فقمت فدثرتها، قالت:وجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: « ما شأن
هذه؟ » قلت:يا رسول الله، أخذتها حمى بنافض. قال:فلعله في حديث
تُحُدِّث به « . قالت:فاستوت له عائشة قاعدة فقالت:والله لئن حلفت لكم لا
تصدقوني، ولئن اعتذرت إليكم لا تُعذرُوني، فمثلي ومثلكم كمثل يعقوب وبنيه
وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ [
يوسف:18 ] قالت:وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنـزل الله
عذرها، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم معه أبو بكر، [
فدخل فقال: » يا عائشة، إن الله تعالى قد أنـزل عذرك « . فقالت:بحمد الله
لا بحمدك. فقال لها أبو بكر:تقولين هذا لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت:نعم.
قالت:فكان فيمن حدث هذا الحديث رجل كان يعوله أبو بكر ] فحلف أبو بكر ألا يصله،
فأنـزل الله: وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ إلى آخر الآية
[ النور:22 ] ، قال
أبو بكر:بلى، فوصله. »
تفرد به
البخاري دون مسلم، من طريق حُصَين وقد رواه البخاري، عن موسى بن إسماعيل، عن أبي
عَوَانة - وعن محمد بن سلام - ، عن محمد بن فضيل، كلاهما عن حصين، به وفي لفظ أبي
عوانة:حدثتني أم رومان. وهذا صريح في سماع مسروق منها، وقد أنكر ذلك جماعة من
الحفاظ، منهم الخطيب البغدادي، وذلك لما ذكره أهل التاريخ أنها ماتت في زمن النبي
صلى الله عليه وسلم، قال الخطيب:وقد كان مسروق يرسله فيقول: « سئلت
أم رومان » ، ويسوقه، فلعل بعضهم كتب « سُئلت
» بألف، فاعتقد الراوي أنها « سَألت
» ، فظنه متصلا. قال الخطيب: « وقد
رواه البخاري كذلك، ولم تظهر له علته » . كذا
قال، والله أعلم.
فقوله: ( إِنَّ
الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ ) أي:بالكذب والبهت والافتراء،
( عُصْبَةٌ )
أي:جماعة منكم، ( لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا
لَكُمْ ) أي:يا آل أبي بكر ( بَلْ هُوَ
خَيْرٌ لَكُمْ ) أي:في الدنيا والآخرة، لسان
صدق في الدنيا ورفعة منازل في الآخرة، وإظهار شرف لهم باعتناء الله بعائشة أم
المؤمنين، حيث أنـزل الله تعالى براءتها في القرآن العظيم الذي لا يَأْتِيهِ
الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ
حَمِيدٍ [ فصلت:42 ] ولهذا
لما دخل عليها ابن عباس، رضي الله عنه وهي في سياق الموت، قال لها:أبشري فإنك زوجة
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يحبك، ولم يتزوج بكرًا غيرك، وأنـزل براءتك من
السماء .
وقال ابن
جرير في تفسيره:حدثني محمد بن عثمان الواسطي، حدثنا جعفر بن عون، عن المعلى بن
عرفان، عن محمد بن عبد الله بن جَحْش قال:تفاخَرَت عائشةُ وزينبُ، رضي الله عنهما،
فقالت زينب:أنا التي نـزل تزوُّجي [ من
السماء ] قال:وقالت عائشة:أنا التي نـزل عُذري في كتابه، حين حملني
ابن المعطل على الراحلة. فقالت لها زينب:يا عائشة، ما قلت حين ركبتيها؟
قالت:قلت:حسبي الله ونعم الوكيل. قالت:قلت كلمة المؤمنين .
وقوله: (
لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإثْمِ ) أي:لكل
من تكلم في هذه القضية ورَمَى أم المؤمنين عائشة، رضي الله عنها، بشيء من الفاحشة،
نصيب عظيم من العذاب.
(
وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ ) قيل:ابتدأ به. وقيل:الذي كان
يجمعه ويستوشيه ويذيعه ويشيعه، ( لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) أي:على
ذلك.
ثم
الأكثرون على أن المراد بذلك إنما هو عبد الله بن أبي بن سَلُول - قبحه الله ولعنه
- وهو الذي تقدم النص عليه في الحديث، وقال ذلك مجاهد وغير واحد.
وقيل:بل
المراد به حسان بن ثابت، وهو قول غريب، ولولا أنه وقع في صحيح البخاري ما قد يدل
على ذلك لما كان لإيراده كبير فائدة، فإنه من الصحابة الذين كان لهم فضائل ومناقب
ومآثر، وأحسن محاسنه أنه كان يَذُب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم [
بشعره ] ، وهو الذي قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: « هاجهم
وجبريل معك »
وقال
الأعمش، عن أبي الضُّحَى، عن مسروق قال:كنتُ عندَ عائشة، رضي الله عنها، فدخل حسان
بن ثابت، فأمرت فألقي له وسادة، فلما خرج قلت لعائشة:ما تصنعين بهذا؟ يعني:يدخل
عليك - وفي رواية قيل لها:أتأذنين لهذا يدخل عليك، وقد قال الله: (
وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) ؟
قالت:وأيُّ عذاب أشدّ من العمى - وكان قد ذهب بصره - لعل الله أن يجعل ذلك هو
العذاب العظيم. ثم قالت:إنه كان يُنافحُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي
رواية أنه أنشدها عندما دخل عليها [
شعرا ] يمتدحها به، فقال:
حَصَـــان رَزَانٌ مـــا تُـــزَنّ بريبة وتُصْبـح غَـرْثَى
مـن لُحـوم الغَوَافل
فقالت:أما
أنت فلست كذلك. وفي رواية:لكنك لست كذلك .
وقال ابن
جرير:حدثنا الحسن بن قَزْعَة، حدثنا سلمة بن علقمة، حدثنا داود، عن عامر، عن عائشة
أنها قالت:ما سمعت بشيء أحسن من شعر حسان، ولا تمثلت به إلا رجوت له الجنة، قوله
لأبي سفيان - يعني ابن [ الحارث ] بن عبد
المطلب - :
هَجَـوتَ مُحَـمَّدا فَـــأجبتُ عنـه وَعنــدَ اللـه فــي ذاك
الجــزاءُ
فَـإنَ أبـي وَوَالـــده وعِـرْضــي لعــرْضِ مُحَــمَّد
منـكـم وقــاءُ
أَتَشْــتُـمُه, ولـسـتَ لَـه بكُـفءٍ? فَشَــرُّكُمَا
لخَيْركُــمَــا الفـــدَاءُ
لِـسَــانِي صَــارمٌ لا عَيْـبَ فِيـه وَبَـحْـــرِي لا
تُـكَــدِّرُه الــدِّلاءُ
فقيل:يا
أم المؤمنين، أليس هذا لغوا؟ قالت:لا إنما اللغو ما قيل عند النساء. قيل:أليس الله
يقول ( وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ
عَظِيمٌ ) ، قالت:أليس قد أصابه [
عذاب ] عظيم؟ [ أليس ] قد ذهب
بصره وكُنِّع بالسيف؟ تعني:الضربة التي ضربه إياها صفوان بن المعطل [
السلمي ] ، حين بلغه عنه أنه يتكلم في ذلك، فعلاه بالسيف، وكاد أن
يقتله .
لَوْلا
إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا
وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ ( 12 )
لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا
بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ ( 13 )
هذا
تأديب من الله للمؤمنين في قضية عائشة، رضي الله عنها، حين أفاض بعضهم في ذلك
الكلام السيئ، وما ذكر من شأن الإفك، فقال: (
لَوْلا ) بمعنى:هلا ( إِذْ
سَمِعْتُمُوهُ ) أي:ذلك الكلام، أي:الذي رميت
به أم المؤمنين ( ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ
وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا )
أي:قاسوا ذلك الكلام على أنفسهم، فإن كان لا يليق بهم فأم المؤمنين أولى بالبراءة
منه بطريق الأولى والأحرى.
وقد
قيل:إنها نـزلت في أبي أيوب خالد بن زيد الأنصاري وامرأته، رضي الله عنهما، كما
قال الإمام محمد بن إسحاق بن يَسَار، عن أبيه، عن بعض رجال بني النجار؛ أن أبا
أيوب خالدَ بن زيد قالت له امرأته أم أيوب:يا أبا أيوب، أما تسمع ما يقول الناس في
عائشة، رضي الله عنها؟ قال:نعم، وذلك الكذب. أكنتِ فاعلة ذلك يا أم أيوب؟ قالت:لا
والله ما كنتُ لأفعله. قال:فعائشة والله خير منك. قال:فلما نـزل القرآن ذكر الله،
عز وجل، مَنْ قال في الفاحشة ما قال من أهل الإفك: إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا
بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ [ النور:11 ] وذلك
حسان وأصحابه، الذين قالوا ما قالوا، ثم قال: (
لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ ) الآية،
أي:كما قال أبو أيوب وصاحبته .
وقال
محمد بن عمر الواقدي:حدثني ابن أبي حبيبة عن داود بن الحصين، عن أبي سفيان، عن
أفلح مولى أبي أيوب، أن أم أيوب قالت لأبي أيوب:ألا تسمع ما يقول الناس في عائشة؟
قال:بلى، وذلك الكذب، أفكنت يا أم أيوب [
فاعلة ذلك ] ؟ قالت:لا والله. قال:فعائشة والله خير منك. فلما نـزل
القرآن، وذكر أهل الإفك، قال الله عز وجل: (
لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا
وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ ) يعني:أبا أيوب حين قال لأم
أيوب ما قال.
ويقال:إنما
قالها أبي بن كعب.
وقوله: ( ظَنَّ
الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا )
أي:هَلا ظنوا الخير، فإن أم المؤمنين أهله وأولى به، هذا ما يتعلق بالباطن، (
وَقَالُوا ) أي:بألسنتهم ( هَذَا
إِفْكٌ مُبِينٌ ) أي:كذب ظاهر على أم المؤمنين،
فإن الذي وقع لم يكن ريبة، وذلك أن مجيء أم المؤمنين راكبة جَهْرَة على راحلة
صفوان بن المعطل في وقت الظهيرة، والجيش بكماله يشاهدون ذلك، ورسول الله صلى الله
عليه وسلم بين أظهرهم، لو كان هذا الأمر فيه ريبة لم يكن هكذا جَهْرَة، ولا كانا
يُقدمان على مثل ذلك على رؤوس الأشهاد، بل كان يكون هذا - لو قُدر - خفية مستورا،
فتعيَّن أن ما جاء به أهل الإفك مما رَمَوا به أم المؤمنين هو الكذب البحت، والقول
الزور، والرّعُونة الفاحشة [ الفاجرة ] والصفقة
الخاسرة.
قال الله
تعالى: ( لَوْلا ) أي:هلا (
جَاءُوا عَلَيْهِ ) أي:على ما قالوه (
بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ ) يشهدون على صحة ما جاءوا به (
فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ
الْكَاذِبُونَ ) أي:في حكم الله كَذَبَةٌ
فاجرون .
وَلَوْلا
فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ
فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( 14 ) إِذْ
تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ
بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ ( 15 )
يقول [
الله ] : ( وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ
عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ) أيها
الخائضون في شأن عائشة، بأن قبل توبتكم وإنابتكم إليه في الدنيا، وعفا عنكم
لإيمانكم بالنسبة إلى الدار الآخرة، ( لَمَسَّكُمْ
فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ ) ، من قضية الإفك، (
عَذَابٌ عَظِيمٌ ) . وهذا فيمن عنده إيمان رزقه
الله بسببه التوبة إليه، كمِسْطَح، وحسان، وحَمْنةَ بنت جحش، أخت زينبَ بنت جحش.
فأما من خاض فيه من المنافقين كعبد الله بن أبي بن سلول وأضرابه، فليس أولئك مرادين
في هذه الآية؛ لأنه ليس عندهم من الإيمان والعمل الصالح ما يعادل هذا ولا ما
يعارضه. وهكذا شأن ما يرد من الوعيد على فعل معين، يكون مطلقًا مشروطا بعدم
التوبة، أو ما يقابله من عَمَل صالح يوازنُه أو يَرجح عليه .
ثم قال
تعالى: ( إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ ) قال
مجاهد، وسعيد بن جبير:أي:يرويه بعضكم عن بعض، يقول هذا:سمعته من فلان، وقال فلان
كذا، وذكر بعضهم كذا.
وقرأ
آخرون « إِذْ تَلقُونَه بِأَلْسِنَتِكُمْ » . وفي
صحيح البخاري عن عائشة:أنها كانت تقرؤها كذلك وتقول:هو مِنْ وَلَق القول.
يعني:الكذب الذي يستمر صاحبه عليه ، تقول العرب:وَلَق فلان في السير:إذا استمر فيه
، والقراءة الأولى أشهر، وعليها الجمهور، ولكن الثانية مَرْويَّة عن أم المؤمنين
عائشة.
قال ابن
أبي حاتم:حدَّثنا أبو سعيد الأشَجّ، حدثنا أبو أسامة، عن نافع بن عمر ، عن ابن أبي
مليكة، [ عن عائشة أنها كانت تقرأ: « إِذْ
تَلقُونَه » وتقول:إنما هو وَلَق القول - والوَلَق:الكذب. قال ابن
أبي مليكة ] :هي أعلم به من غيرها.
وقوله: (
وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ )
أي:تقولون ما لا تعلمون.
ثم قال
تعالى: ( وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ )
أي:تقولون ما تقولون في شأن أم المؤمنين، وتحسبون ذلك يسيرا [
سهلا ] ولو لم تكن زوجة النبي صلى الله عليه وسلم لما كان هَيِّنا،
فكيف وهي زوجة النبي الأمي، خاتم الأنبياء وسيد المرسلين، فعظيم عند الله أن يقال
في زوجة رسوله ما قيل! الله يغار لهذا، وهو سبحانه وتعالى، لا يُقَدِّر على زوجة
نبي من أنبيائه ذلك، حاشا وكَلا ولما [ لم
يكن ذلك ] فكيف يكون هذا في سيدة نساء الأنبياء، وزوجة سيد ولد آدم
على الإطلاق في الدنيا والآخرة؟! ولهذا قال تعالى ( وَتَحْسَبُونَهُ
هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ ) ، وفي
الصحيحين: إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سَخَط الله، لا يدري ما تَبْلُغ، يهوي بها
في النار أبْعَد ما بين السماء والأرض « وفي
رواية: » لا يلقي لها بالا « . »
وَلَوْلا
إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا
سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ( 16 )
يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
( 17 )
وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( 18 )
هذا
تأديب آخر بعد الأول:الآمر بالظن خيرا أي:إذا ذكر ما لا يليق من القول في شأن
الخيرة فأولى ينبغي الظن بهم خيرا، وألا يشعر نفسه سوى ذلك، ثم إن عَلِق بنفسه شيء
من ذلك - وسوسةً أو خيالا - فلا ينبغي أن يتكلم به، فإن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال: « إن الله تجاوز لأمتي عما حدَّثت به أنفسها ما لم تقل أو
تعمل » أخرجاه في الصحيحين .
وقال
الله تعالى: ( وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا
أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا ) أي:ما ينبغي لنا أن نتفوه
بهذا الكلام ولا نذكره لأحد ( سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ
عَظِيمٌ ) أي:سبحان الله أن يقال هذا الكلام على زوجة [
نبيه و ] رسوله وحليلة خليله.
ثم قال
تعالى: ( يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا )
أي:ينهاكم الله متوعِّدًا أن يقع منكم ما يشبه هذا أبدًا، أي:فيما يستقبل. فلهذا
قال: ( إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) أي:إن
كنتم تؤمنون بالله وشرعه، وتعظمون رسوله صلى الله عليه وسلم، فأما من كان متصفا
بالكفر فذاك له حكم آخر.
ثم قال:
( وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ )
أي:يوضح لكم الأحكام الشرعية والحِكَمَ القَدَريّة، (
وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) أي:عليم بما يصلح عباده، حكيم
في شَرْعه وقَدَره.
إِنَّ
الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ
عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا
تَعْلَمُونَ ( 19 )
وهذا تأديب
ثالث لمن سمع شيئا من الكلام السيئ، فقام بذهنه منه شيء،وتكلم به، فلا يكثر منه
ويشيعه ويذيعه، فقد قال تعالى : ( إِنَّ
الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا )
أي:يختارون ظهور الكلام عنهم بالقبيح، (
لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا )
أي:بالحد، وفي الآخرة بالعذاب ، (
وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ )
أي:فردوا الأمور إليه تَرْشُدُوا.
وقال
الإمام أحمد:حدثنا محمد بن بكر، حدثنا ميمون بن أبي محمد المَرَئيّ، حدثنا محمد بن
عَبّاد المخزومي، عن ثَوْبَان، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « لا
تُؤذوا عِبادَ الله ولا تُعيِّروهم، ولا تطلبوا عوراتهم، فإنه من طلب عورة أخيه
المسلم، طلب الله عورته، حتى يفضحه في بيته » .
وَلَوْلا
فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ( 20 )
يقول تعالى: ( وَلَوْلا
فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ )
أي:لولا هذا لكان أمر آخر، ولكنه تعالى رؤوف بعباده، رحيم بهم. فتاب على من تاب
إليه من هذه [ القضية ]
وطَهَّر من طَهَّر منهم بالحد الذي أقيم عليه.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ
الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ
بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ
مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ
وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( 21 )
ثم قال: ( يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ) يعني:طرائقه ومسالكه وما يأمر
به، (
وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ
) :هذا
تنفير وتحذير من ذلك، بأفصح العبارة وأوجزها وأبلغها وأحسنها.
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ) :عمله. وقال عكرمة:نـزغاته.
وقال قتادة:كل معصية فهي من خطوات الشيطان. وقال أبو مِجْلَز:النذور في المعاصي من
خطوات الشيطان.
وقال مسروق:سأل رجل ابن مسعود فقال:إني حرمت أن آكل طعامًا؟
فقال:هذا من نـزعات الشيطان، كَفِّر عن يمينك، وكُل.
وقال الشعبي في رجل نَذَر ذَبْح ولده:هذا من نـزغات الشيطان،
وأفتاه أن يذبح كبشًا.
وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا حسان بن عبد الله المصري،
حدثنا السريّ بن يحيى، عن سليمان التيمي، عن أبي رافع قال:غضبت عليَّ امرأتي
فقالت:هي يومًا يهودية، ويومًا نصرانية، وكل مملوك لها حر، إن لم تطلق امرأتك.
فأتيت عبد الله بن عمر فقال:إنما هذه من نـزغات الشيطان. وكذلك قالت زينب بنت أم
سلمة، وهي يومئذ أفقه امرأة بالمدينة، وأتيت عاصم بن عمر، فقال مثل ذلك.
ثم قال تعالى: ( وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا
زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا ) أي:لولا هو يرزق من يشاء التوبة والرجوع إليه، ويزكي النفوس
من شركها وفجورها ودسها وما فيها من أخلاق رديئة، كل بحسبه، لما حصل أحد لنفسه
زكاة ولا خيرا (
وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ ) أي:من خلقه، ويضل من يشاء ويرديه في مهالك الضلال والغي.
وقوله: (
وَاللَّهُ سَمِيعٌ )
أي:سميع لأقوال عباده ( عليم ) بهم، مَنْ يستحق منهم الهدى
والضلال.
وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ
يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ
لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 22 )
يقول تعالى: ( وَلا يَأْتَلِ ) من الأليَّة، [ وهي:الحلف ] أي:لا يحلف ( أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ ) أي:الطَّول والصدقة والإحسان
(
وَالسَّعَة )
أي:الجِدَةَ ( أَنْ
يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ ) أي:لا
تحلفوا ألا تصلوا قراباتكم المساكين والمهاجرين. وهذه في غاية الترفق والعطف على
صلة الأرحام؛ ولهذا قال: (
وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ) أي:عما
تقدم منهم من الإساءة والأذى، وهذا من حلمه تعالى وكرمه ولطفه بخلقه مع ظلمهم
لأنفسهم.
وهذه الآية نـزلت في الصدِّيق، حين حلف ألا ينفع مِسْطَح بن
أثاثة بنافعة بعدما قال في عائشة ما قال، كما تقدم في الحديث. فلما أنـزل الله
براءةَ أم المؤمنين عائشة، وطابت النفوس المؤمنة واستقرت، وتاب الله على مَن كان
تكلم من المؤمنين في ذلك، وأقيم الحد على مَن أقيم عليه - شَرَع تبارك وتعالى، وله
الفضل والمنة، يعطفُ الصدِّيق على قريبه ونسيبه، وهو مِسْطَح بن أثاثة، فإنه كان
ابن خالة الصديق، وكان مسكينًا لا مال له إلا ما ينفق عليه أبو بكر، رضي الله عنه،
وكان من المهاجرين في سبيل الله، وقد وَلَق وَلْقَة تاب الله عليه منها، وضُرب
الحد عليها. وكان الصديق، رضي الله عنه، معروفًا بالمعروف، له الفضل والأيادي على
الأقارب والأجانب. فلما نـزلت هذه الآية إلى قوله: ( أَلا تُحِبُّونَ أَنْ
يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) أي:فإن الجزاء من جنس العمل،
فكما تغفر عن المذنب إليك نغفر لك، وكما تصفح نصفح عنك. فعند ذلك قال الصديق:بلى،
والله إنا نحب - يا ربنا - أن تغفر لنا. ثم رَجَع إلى مسطح ما كان يصله من النفقة،
وقال:والله لا أنـزعها منه أبدًا، في مقابلة ما كان قال:والله لا أنفعه بنافعة
أبدًا، فلهذا كان الصدّيق هو الصديق [ رضي الله عنه وعن بنته ] .
إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ
الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( 23 ) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ
أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 24 ) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ
اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ
( 25 )
هذا وعيد من الله تعالى للذين يرمون المحصنات الغافلات -
خُرِّج مخرج الغالب - المؤمنات.
فأمهات المؤمنين أولى بالدخول في هذا من كل محصنة، ولا سيما
التي كانت سبب النـزول، وهي عائشة بنت الصديق، رضي الله عنهما.
وقد أجمع العلماء، رحمهم الله، قاطبة على أن مَنْ سَبَّها بعد
هذا ورماها بما رماها به [ بعد
هذا الذي ذكر ] في هذه
الآية، فإنه كافر؛ لأنه معاند للقرآن. وفي بقية أمهات المؤمنين قولان:أصحهما أنهن
كهي، والله أعلم.
وقوله تعالى: ( لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ
عَظِيمٌ ) كقوله:
إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا
وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا [ الأحزاب:57 ] .
وقد ذهب بعضهم إلى أنها خاصة بعائشة، فقال ابن أبي حاتم:
حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا عبد الله بن خِرَاش، عن
العَوَّام، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: ( إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ
الْمُؤْمِنَاتِ ) [ قال ] :نـزلت في عائشة خاصة.
وكذا قال [
سعيد بن جبير و ] مقاتل
بن حيان، وقد ذكره ابن جرير عن عائشة فقال:
حدثنا أحمد بن عَبْدَة الضَّبِّي، حدثنا أبو عَوَانة، عن عمر
بن أبي سلمة، عن أبيه قال:قالت عائشة:رُميت بما رميت به وأنا غافلة، فبلغني بعد
ذلك. قالت:فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس عندي إذ أوحي ، إليه. قالت:وكان
إذا أوحي إليه أخذه كهيئة السُّبات، وإنه أوحي إليه وهو جالس عندي، ثم استوى جالسا
يمسح على وجهه، وقال: « يا
عائشة أبشري » .
قالت:قلت:بحمد الله لا بحمدك. فقرأ: ( إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ
الْمُؤْمِنَاتِ ) ، حتى
قرأ: أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ [ النور:26 ] .
هكذا أورده، وليس فيه أن الحكم خاص بها، وإنما فيه أنها سبب
النـزول دون غيرها، وإن كان الحكم يعمها كغيرها، ولعله مراد ابن عباس ومن قال
كقوله، والله أعلم.
وقال الضحاك، وأبو الجوزاء، وسلمة بن نُبَيْط:المراد بها
أزواج النبيّ خاصة، دون غيرهن من النساء.
وقال العَوْفِيّ، عن ابن عباس في قوله: ( إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ
الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ ) الآية:يعني أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، رماهن أهل
النفاق، فأوجب الله لهم اللعنة والغضب، وباؤوا بسخط من الله، فكان ذلك في أزواج
النبي صلى الله عليه وسلم ثم نـزل بعد ذلك: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ
ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ إلى قوله: فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ ، فأنـزل الله الجلد والتوبة، فالتوبة تقبل، والشهادة تُرَدّ.
وقال ابن جرير:حدثنا القاسم، حدثنا الحسين، حدثنا هُشَيْم،
أخبرنا العوام بن حوشب، عن شيخ من بني أسد، عن ابن عباس - قال:فسر سورة النور،
فلما أتى على هذه الآية: ( إِنَّ
الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا ) الآية - قال:في شأن عائشة،
وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وهي مبهمة، وليست لهم توبة، ثم قرأ: وَالَّذِينَ
يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ إلى قوله:
إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا الآية [ النور:4 ، 5 ] ، قال:فجعل لهؤلاء توبة ولم
يجعل لمن قذف أولئك توبة، قال:فهمّ بعضُ القوم أن يقوم إليه فيقبل رأسه، من حسن ما
فسَّر به سورة النور .
فقوله: « وهي
مبهمة » ،
أي:عامة في تحريم قذف كل محصنة، ولَعْنته في الدنيا والآخرة.
وهكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم:هذا في عائشة، ومن صنع مثل
هذا أيضًا اليوم في المسلمات، فله ما قال الله، عز وجل، ولكن عائشة كانت إمامَ
ذلك.
وقد اختار ابن جرير عمومها، وهو الصحيح، ويعضد العموم ما رواه
ابن أبي حاتم:
حدثنا أحمد بن عبد الرحمن - ابن أخي ابن وهب - حدثنا عمي،
حدثنا سليمان بن بلال، عن ثور بن زيد، عن أبي الغَيث عن أبي هريرة؛ أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال: «
اجتنبوا السبع الموبقات » .
قيل:يا رسول الله، وما هن؟ قال: « الشرك
بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم،
والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات » .
أخرجاه في الصحيحين، من حديث سليمان بن بلال، به .
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني:حدثنا محمد بن عَمْرو بن
خالد الحَذَّاء الحراني، حدثني أبي، ( ح ) وحدثنا
أبو شُعَيب الحراني، حدثنا جدي أحمد بن أبي شُعَيب، حدثنا موسى بن أعين، عن ليث، عن
أبي إسحاق، عن صِلَة بن زُفَر، عن حذيفة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « قذف المحصنة يهدم عمل مائة
سنة » .
وقوله (
يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا
كَانُوا يَعْمَلُونَ ) قال
ابن أبي حاتم:
حدثنا أبو سعيد الأشَجّ، حدثنا أبو يحيى الرازي، عن عمرو بن
أبي قيس، عن مُطَرِّف، عن المِنْهَال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:إنهم -
يعني:المشركين - إذا رَأوا أنه لا يدخلُ الجنةَ إلا أهل الصلاة، قالوا:تعالوا حتى
نجحد. فيجحدون فيختم [
الله ] على
أفواههم، وتشهد أيديهم وأرجلهم، ولا يكتمون الله حديثًا.
وقال ابن جرير، وابن أبي حاتم أيضًا:حدثنا يونس بن عبد
الأعلى، حدثنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن دَرَّاج، عن أبي الهيثم، عن أبي
سعيد، عن رسول الله صلى عليه وسلم قال: « إذا كان يوم القيامة، عُرف الكافر بعمله، فيجحد ويخاصم، فيقال
له:هؤلاء جيرانك يشهدون عليك. فيقول:كذبوا. فيقول:أهلك وعشيرتك. فيقول:كذبوا،
فيقول:احلفوا. فيحلفون، ثم يُصمِتهم الله، فتشهد عليهم أيديهم وألسنتهم، ثم يدخلهم
النار » .
وقال ابن أبي حاتم أيضًا:حدثنا أبو شيبة إبراهيم بن عبد الله
بن أبي شيبة الكوفي، حدثنا مِنْجَاب بن الحارث التميمي حدثنا أبو عامر الأسَدِيَ،
حدثنا سفيان، عن عبيد المُكْتب، عن فُضَيل بن عمرو الفُقَيمي، عن الشعبي، عن أنس
بن مالك قال:كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فضحك حتى بدت نَوَاجذُه، ثم قال: « أتدرون مِمَّ أضحك؟ » قلنا:الله ورسوله أعلم. قال: « من مجادلة العبد ربه يوم
القيامة، يقول:يا رب ، ألم تُجِرْني من الظلم؟ فيقول:بلى. فيقول:لا أجيز عليَّ
شاهدًا إلا من نفسي. فيقول:كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا، وبالكرام عليك شهودا فيختم
على فيه، ويقال لأركانه:انطقي فتنطق بعمله، ثم يخلى بينه وبين الكلام، فيقول:بُعدًا
لَكُنّ وسُحْقًا، فعنكُنَّ كنتُ أناضل » .
وقد رواه مسلم والنسائي جميعا، عن أبي بكر بن أبي النضر، عن
أبيه، عن عُبَيد الله الأشجعي، عن سفيان الثوري، به ثم قال النسائي:لا أعلم أحدا
روى هذا الحديث عن سفيان الثوري غير الأشجعي، وهو حديث غريب، والله أعلم. هكذا
قال.
وقال قتادة:ابن آدم، والله إن عليك لَشُهودًا غيرَ متهمة من
بدنك، فراقبهم واتق الله في سرك وعلانيتك، فإنه لا يخفى عليه خافية، والظلمة عنده
ضوء والسر عنده علانية، فمن استطاع أن يموت وهو بالله حسن الظن، فليفعل ولا قوة
إلا بالله.
وقوله: (
يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ ) قال ابن عباس: ( دِينَهُمُ ) أي:حسابهم، وكل ما في القرآن
(
دِينَهُمُ )
أي:حسابهم. وكذا قال غير واحد.
ثم إن قراءة الجمهور بنصب ( الْحَقَّ ) على
أنه صفة لدينهم، وقرأ مجاهد بالرفع، على أنه نعت الجلالة. وقرأها بعض السلف في
مصحف أبي بن كعب: « يومئذ
يوفيهم الله الحقّ دينهم » .
وقوله: (
وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ) أي:وعده ووعيده وحسابه هو
العدل، الذي لا جور فيه.
الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ
لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ
أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ( 26 )
قال ابن عباس:الخبيثات من القول للخبيثين من الرجال،
والخبيثون من الرجال للخبيثات من القول. والطيبات من القول، للطيبين من الرجال، والطيبون
من الرجال للطيبات من القول. قال:ونـزلت في عائشة وأهل الإفك.
وهكذا رُوي عن مجاهد، وعطاء، وسعيد بن جُبَير، والشعبي،
والحسن بن أبي الحسن البصري، وحبيب بن أبي ثابت، والضحاك. واختاره ابن جرير،
ووجَّهَهُ بأن الكلام القبيح أولى بأهل القبح من الناس، والكلام الطيب أولى
بالطيبين من الناس، فما نسبه أهل النفاق إلى عائشة هم أولى به، وهي أولى بالبراءة
والنـزاهة منهم؛ ولهذا قال: (
أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ ) .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم:الخبيثات من النساء للخبيثين
من الرجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء، والطيبات من النساء للطيبين
من الرجال، والطيبون من الرجال للطيبات من النساء.
وهذا - أيضًا - يرجع إلى ما قاله أولئك باللازم، أي:ما كان
الله ليجعل عائشة زوجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهي طيبة؛ لأنه أطيب من
كل طيب من البشر، ولو كانت خبيثة لما صلحت له، لا شرعا ولا قدرا؛ ولهذا قال: ( أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ
مِمَّا يَقُولُونَ ) أي:هم
بُعَداء عما يقوله أهل الإفك والعدوان، ( لَهُمْ مَغْفِرَةٌ ) أي:بسبب ما قيل فيهم من الكذب، ( وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ) أي:عند الله في جنات النعيم.
وفيه وعد بأن تكون زوجة النبيّ صلى الله عليه وسلم في الجنة.
وقال ابن أبي حاتم:حدثنا محمد بن مسلم، حدثنا أبو نعيم، حدثنا
عبد السلام بن حرب، عن يزيد بن عبد الرحمن، عن الحكم، عن يحيى بن الجزار قال:جاء
أسير بن جابر إلى عبد الله فقال:لقد سمعت الوليد بن عقبة تكلم بكلام أعجبني. فقال
عبد الله:إن الرجل المؤمن يكون في قلبه الكلمة غير طيبة تتجلجل في صدره ما تستقر
حتى يلفظها، فيسمعها رجل عنده يَتُلّها فيضمها إليه. وإن الرجل الفاجر يكون في
قلبه الكلمة الطيبة تتجلجل في صدره ما تستقر حتى يلفظها، فيسمعها الرجل الذي عنده
يَتُلُّها فيضمها إليه، ثم قرأ عبد الله: ( الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ
لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ ) .
ويشبه هذا ما رواه الإمام أحمد في المسند مرفوعا: « مثل الذي يسمع الحكمة ثم لا
يُحدِّث إلا بشرِّ ما سمع، كمثل رجل جاء إلى صاحب غنم، فقال:أجْزِرني شاة.
فقال:اذهب فَخُذ بأذُن أيها شئتَ. فذهب فأخذ بأذن كَلْب الغنم » وفي الحديث الآخر: « الحكمة ضالة المؤمن حيث وجدها
أخذها » .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا
غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ
خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ( 27 )
هذه آداب
شرعية، أدّب الله بها عباده المؤمنين، وذلك في الاستئذان أمر الله المؤمنين ألا
يدخلوا بيوتًا غير بيوتهم حتى يستأنسوا،أي:يستأذنوا قبل الدخول ويسلموا بعده. وينبغي
أن يستأذن ثلاثًا، فإن أذن له، وإلا انصرف، كما ثبت في الصحيح:أن أبا موسى حين
استأذن على عمر ثلاثًا، فلم يؤذن له، انصرف. ثم قال عمر:ألم أسمع صوت عبد الله بن
قيس يستأذن؟ ائذنوا له. فطلبوه فوجدوه قد ذهب، فلما جاء بعد ذلك قال:ما رَجَعَك؟
قال:إني استأذنت ثلاثًا فلم يؤذن لي، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول: « إذا
استأذن أحدكم ثلاثًا، فلم يؤذن له، فلينصرف » . فقال:لَتَأتِيَنَّ على هذا ببينة وإلا أوجعتك ضربًا. فذهب
إلى ملأ من الأنصار، فذكر لهم ما قال عمر، فقالوا:لا يشهد لك إلا أصغرنا. فقام معه
أبو سعيد الخُدْريّ فأخبر عمر بذلك، فقال:ألهاني عنه الصَّفْق بالأسواق .
وقال
الإمام أحمد:حَدَّثنا عبد الرزاق، أخبرنا مَعْمَر عن ثابت، عن أنس - أو:غيره أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم استأذن على سعد بن عبادة فقال: « السلام عليك ورحمة الله » . فقال سعد:وعليك السلام ورحمة
الله ولم يسمع النبي صلى الله عليه وسلم حتى سلم ثلاثًا. ورد عليه سعد ثلاثًا ولم
يُسْمعه. فرجع النبي صلى الله عليه وسلم، واتبعه سعد فقال:يا رسول الله، بأبي أنت
وأمي، ما سلمتَ تسليمة إلا وهي بأذني، ولقد رَدَدْت عليك ولم أُسْمِعك، وأردتُ أن
أستكثر من سلامك ومن البركة. ثم أدخله البيت، فقرَّب إليه زَبيبًا، فأكل نبي الله.
فلما فرغ قال: « أكل
طعامكم الأبرار، وصَلَّت عليكم الملائكة، وأفطر عندكم الصائمون » .
وقد
رَوَى أبو داود والنسائي، من حديث أبي عمرو الأوزاعي:سمعت يحيى بن أبي كثير يقول:حدثني
محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة، عن قيس بن سعد - هو ابن عبادة - قال:زارنا
رسول الله صلى الله عليه وسلم في منـزلنا، فقال: « السلام عليكم ورحمة الله » . فردّ سعد ردًا خفيًا ، قال قيس:فقلت:ألا تأذن لرسول الله
صلى الله عليه وسلم؟ فقال:ذَرْه يكثر علينا من السلام. فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: « السلام
عليكم ورحمة الله » . فرد
سعد رَدًا خفيًا ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « السلام عليكم ورحمة الله » ثم رَجَع رسول الله صلى الله
عليه وسلم، واتبعه سعد فقال:يا رسول الله، إني كنت أسمع تسليمك، وأرد عليك ردّا
خفيًا ، لتكثر علينا من السلام. قال:فانصرف معه [ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر له سعد بغسل،
فاغتسل، ثم ناوله ملْحَفَة مصبوغة ] بزعفران - أو:وَرس - فاشتمل بها، ثم رفع رسول الله صلى الله
عليه وسلم يديه وهو يقول: « اللهم
اجعل صلاتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة » . قال:ثم أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطعام، فلما
أراد الانصراف قرّب إليه سعد حمارًا قد وَطَّأ عليه بقطيفة، فركب رسول الله صلى
الله عليه وسلم فقال سعد:يا قيس، اصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال
قيس:فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « اركب » .
فأبيت، فقال: « إما أن
تركب وإما أن تنصرف » .
قال:فانصرفت.
وقد روي
هذا من وجه آخر فهو حديث جيد قويّ، والله أعلم.
ثم
ليُعْلمْ أنه ينبغي للمستأذن على أهل المنـزل ألا يقف تلقاء الباب بوجهه، ولكن
ليَكن البابُ، عن يمينه أو يساره؛ لما رواه أبو داود:حدثنا مُؤَمَّل بن الفضل
الحراني - في آخرين - قالوا:حدثنا بَقيَّة، حدثنا محمد بن عبد الرحمن، عن عبد الله
بن بُسْر قال:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى باب قوم، لم يستقبل الباب
من تلقاء وجهه، ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر، ويقول: « السلام عليكم، السلام عليكم » . وذلك أن الدور لم يكن عليها
يومئذ ستور. تَفَرد به أبو داود .
وقال أبو
داود أيضًا:حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جرير، ( ح ) قال أبو داود:وحدثنا أبو بكر
بن أبي شيبة، حدثنا حفص، عن الأعمش، عن طلحة، عن هُزَيل قال:جاء رجل - قال عثمان:سعد
- فوقف على باب النبي صلى الله عليه وسلم يستأذن، فقام على الباب - قال
عثمان:مستقبل الباب - فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: « هكذا عنك - أو:هكذا - فإنما
الاستئذان من النظر » .
وقد رواه
أبو داود الطيالسي، عن سفيان الثوري، عن الأعمش عن طلحة بن مُصَرّف، عن رجل، عن
سعد، عن النبي صلى الله عليه وسلم. رواه أبو داود من حديثه .
وفي
الصحيحين، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « لو أن امرأ اطلع عليك بغير
إذن فَخَذَفته بحصاة، ففقأت عينه، ما كان عليك من جناح » .
وأخرج
الجماعة من حديث شعبة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر قال:أتيتُ النبي صلى الله عليه
وسلم في دَين كان على أبي، فدققت الباب، فقال: « من ذا » ؟
قلت:أنا. قال: « أنا،
أنا » كأنه
كرهه .
وإنما
كره ذلك لأن هذه اللفظة لا يُعرَف صاحبها حتى يُفصح باسمه أو كنيته التي هو مشهور
بها، وإلا فكل أحد يُعبِّر عن نفسه بـ « أنا » ، فلا
يحصل بها المقصود من الاستئذان، الذي هو الاستئناس المأمور به في الآية.
وقال
العَوْفي، عن ابن عباس:الاستئناس:الاستئذان. وكذا قال غيرُ واحد.
وقال ابن
جرير:حدثنا ابن بَشَّار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن أبي بِشْر، عن سعيد
بن جبير، عن ابن عباس في هذه الآية: ( لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى
تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا )
قال:إنما هي خطأ من الكاتب، « حَتَّى
تَسْتَأذنُوا وَتُسَلِّمُوا » .
وهكذا
رواه هُشَيم، عن أبي بشر - وهو جعفر بن إياس - به. وروى معاذ بن سليمان، عن جعفر
بن إياس، عن سعيد، عن ابن عباس، بمثله، وزاد:وكان ابن عباس يقرأ: « حَتَّى تَسْتَأذنُوا
وَتُسَلِّمُوا » ، وكان
يقرأ على قراءة أبي بن كعب رضي الله عنه.
وهذا
غريب جدًّا عن ابن عباس.
وقال
هُشَيْم أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم قال:في مصحف ابن مسعود: « حتى تسلموا على أهلها
وتستأذنوا » . وهذا
أيضًا رواية عن ابن عباس، وهو اختيار ابن جرير.
وقد قال
الإمام أحمد:حدثنا رَوْح، حدثنا ابن جُرَيْج، أخبرني عمرو بن أبي سفيان:أن عمرو بن
أبي صفوان أخبره، أن كَلَدَةَ بن الحنبل أخبره، أن صفوان بن أمية بعثه في الفتح
بِلبَأ وجَدَايَة وضَغَابيس، والنبي صلى الله عليه وسلم بأعلى الوادي. قال:فدخلتُ
عليه ولم أسلم ولم أستأذن. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « ارجع فقل:السلام عليكم،
أأدخل؟ » وذلك
بعدما أسلم صفوان.
ورواه
أبو داود والترمذي والنسائي من حديث ابن جريج، به وقال الترمذي:حسن غريب، لا نعرفه
إلا من حديثه.
وقال أبو
داود:حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا أبو الأحوَص، عن منصور، عن رِبْعي
قال:حدثنا رجل من بني عامر استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو في بيته،
فقال:أألج؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لخادمه: « اخرج إلى هذا فعلِّمه الاستئذان،
فقل له:قل:السلام عليكم، أأدخل؟ » فسمعه
الرجل فقال:السلام عليكم، أأدخل؟ فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم، فدخل .
وقال
هُشَيْم:أخبرنا منصور، عن ابن سِيرِين - وأخبرنا يونس بن عبيد، عن عَمْرو بن سعيد
الثقفي - أن رجلا استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فقال:أألج - أو:أنلج؟ -
فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأمة له، يقال لها روضة: « قومي إلى هذا فعلميه، فإنه لا
يحسن يستأذن، فقولي له يقول:السلام عليكم، أأدخل » . فسمعها الرجل، فقالها، فقال: « ادخل » .
وقال
الترمذي:حدثنا الفضل بن الصباح، حدثنا سعيد بن زكريا، عن عَنْبَسَة بن عبد الرحمن،
عن محمد بن زاذان، عن محمد بن المنْكَدِر، عن جابر بن عبد الله قال:قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: « السلام
قبل الكلام » .
ثم قال
الترمذي:عنبسة ضعيف الحديث ذاهب، ومحمد بن زاذان مُنكَر الحديث.
وقال
هُشَيْم:قال مغيرة:قال مجاهد:جاء ابن عمر من حاجة، وقد آذاه الرمضاء، فأتى
فُسْطَاط امرأة من قريش، فقال:السلام عليكم، أأدخل؟ قالت:ادخل بسلام. فأعاد،
فأعادت، وهو يُرَاوح بين قدميه، قال:قولي:ادخل. قالت:ادخل، فدخل .
وقال ابن
أبي حاتم:حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو نعيم الأحول، حدثنا خالد بن إياس،
حدثتني جدتي أم إياس قالت:كنت في أربع نسوة نستأذن [ على عائشة ] فقلت:ندخل؟ قالت:لا قلن
لصاحبتكن:تستأذن. فقالت:السلام عليكم، أندخل؟ قالت:ادخلوا، ثم قالت: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا
وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ) [ الآية ] .
وقال
هُشَيْم:أخبرنا أشعث بن سَوَّار، عن كُرْدُوس، عن ابن مسعود قال:عليكم أن تستأذنوا
على أمهاتكم وأخواتكم. قال أشعث، عن عدي بن ثابت:إن امرأة من الأنصار قالت:يا رسول
الله، إني أكون في منـزلي على الحال التي لا أحب أن يراني أحد عليها، والد ولا
ولد، وإنه لا يزال يدخل عليَّ رجل من أهلي، وأنا على تلك الحال؟ قال:فنـزلت: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا
وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ) .
وقال ابن
جريج:سمعت عطاء بن أبي رباح يخبر عن ابن عباس، رضي الله عنه، قال:ثلاث آيات
جَحَدها الناس:قال الله: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [ الحجرات:13 ] ، قال:ويقولون:إن أكرمهم عند
الله أعظمهم بيتًا. قال:والإذن كله قد جحده الناس. قال:قلت:أستأذن على أخواتي أيتام
في حجري، معي في بيت واحد؟ قال:نعم. فرددت ليرخِّص لي، فأبى. قال:تحب أن تراها
عريانة؟ قلت:لا. قال:فاستأذن. قال:فراجعته أيضًا، فقال:أتحب أن تطيع الله؟
قلت:نعم. قال:فاستأذن.
قال ابن
جُرَيْج:وأخبرني ابن طاوس عن أبيه قال:ما من امرأة أكره إلي أن أرى عريتها من ذات
محرم. قال:وكان يشدد في ذلك.
وقال ابن
جريج، عن الزهري:سمعت هُزَيل بن شُرَحْبِيل الأوْدِيّ الأعمى، أنه سمع ابن مسعود
يقول:عليكم الإذن على أمهاتكم.
وقال ابن
جريج:قلت لعطاء:أيستأذن الرجل على امرأته؟ قال:لا.
وهذا
محمول على عدم الوجوب، وإلا فالأولى أن يعلمها بدخوله ولا يفاجئها به، لاحتمال أن
تكون على هيئة لا تحب أن يراها عليها.
وقال أبو
جعفر بن جرير:حدثنا القاسم، [ قال
] حدثنا
الحسين، حدثنا محمد بن حازم، عن الأعمش، عن عمرو بن مُرَّة، عن يحيى بن الجزار، عن
ابن أخي زينب - امرأة عبد الله بن مسعود - ، عن زينب، رضي الله عنها، قالت:كان عبد
الله إذا جاء من حاجة فانتهى إلى الباب، تنحنح وبزق؛ كراهية أن يهجُم منا على أمر
يكرهه . إسناد صحيح.
وقال ابن
أبي حاتم:حدثنا أحمد بن سِنَان الواسطي، حدثنا عبد الله بن نُمَيْر، حدثنا الأعمش،
عن عمرو بن مُرَّة، عن أبي هُبَيْرة قال:كان عبد الله إذا دخل الدار استأنس - تكلم
ورفع صوته.
[ و ] قال مجاهد: ( حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا ) قال:تنحنحوا - أو تَنَخَّموا.
وعن
الإمام أحمد بن حنبل، رحمه الله، أنه قال:إذا دخل الرجل بيته، استحب له أن يتنحنح،
أو يحرك نعليه.
ولهذا
جاء في الصحيح، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:أنه نَهَى أن يطرق الرجل أهلَه
طُروقًا - وفي رواية:ليلا يَتَخوَّنهم .
وفي
الحديث الآخر:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة نهارًا، فأناخ بظاهرها،
وقال: «
انتظروا حتى تدخل عشاء - يعني:آخر النهار - حتى تمتشط الشَّعثَة وتستحدّ المُغَيبة
» .
وقال ابن
أبي حاتم:حدَّثنا أبي، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا عبد الرحمن بن سليمان، عن
واصل بن السائب، حدَّثني أبو سَوْرة ابن أخي أبي أيوب، عن أبي أيوب قال:قلت:يا
رسول الله، هذا السلام، فما الاستئناس؟ قال: « يتكلم الرجل بتسبيحة وتكبيرة وتحميدة، ويتنحنح فَيؤذنُ أهل
البيت » . هذا
حديث غريب .
وقال
قتادة في قوله: (
حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا ) قال:هو
الاستئذان. [
قال:وكان يقال:الاستئذان ] ثلاث، فمن
لم يؤذن له فيهن، فليرجع. أما الأولى:فليسمع الحي، وأما الثانية:فليأخذوا حذرهم،
وأما الثالثة:فإن شاءوا أذنوا وإن شاءوا رَدّوا. ولا تَقِفَنَّ على باب قوم ردوك
عن بابهم؛ فإن للناس حاجات ولهم أشغال، والله أولى بالعذر.
وقال
مقاتل بن حيَّان في قوله: ( يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى
تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ) كان الرجل في الجاهلية إذا لقي صاحبه، لا يسلم عليه،
ويقول:حُيِّيتَ صباحًا وحييت مساء، وكان ذلك تحية القوم بينهم. وكان أحدهم ينطلق
إلى صاحبه فلا يستأذن حتى يقتحم، ويقول: « قد دخلتُ » . فيشق
ذلك على الرجل، ولعله يكون مع أهله، فغَيَّر الله ذلك كله، في ستر وعفة، وجعله
نقيًا نـزهًا من الدنس والقذر والدرَن، فقال: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا
غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ) .
وهذا
الذي قاله مقاتل حسن؛ ولهذا قال: ( ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ ) يعني:الاستئذان خير لكم، بمعنى:هو خير للطرفين :للمستأذن
ولأهل البيت، (
لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) .
فَإِنْ
لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ
قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا
تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ( 28 )
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا
مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ( 29 )
وقوله: (
فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ ) ، وذلك
لما فيه من التصرف في ملك الغير بغير إذنه، فإن شاء أذن، وإن شاء لم يأذن (
وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ ) أي:إذا
رَدُّوكم من الباب قبل الإذن أو بعده (
فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ )
أي:رجوعكم أزكى لكم وأطهر ( وَاللهُ بِمَا تَعْملُونَ
عَلِيم ) .
وقال
قتادة:قال بعض المهاجرين:لقد طلبتُ عمري كلَّه هذه الآية فما أدركتها:أن أستأذنَ على
بعض إخواني، فيقول لي: « ارجع » ، فأرجع
وأنا مغتبط [ لقوله ] ، (
وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا
تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ) .
وقال
سعيد بن جبير: ( وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ
ارْجِعُوا فَارْجِعُوا ) أي:لا تقفوا على أبواب الناس.
وقوله: (
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا
مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ) هذه
الآية الكريمة أخصُّ من التي قبلها، وذلك أنها تقتضي جواز الدخول إلى البيوت التي
ليس فيها أحد، إذا كان له فيها متاع، بغير إذن، كالبيت المعد للضيف، إذا أذن له
فيه أول مرة، كفى.
قال ابن
جريج:قال ابن عباس: ( لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا
غَيْرَ بُيُوتِكُمْ ) ، ثم نسخ واستثني فقال (
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا
مَتَاعٌ لَكُمْ ) :وكذا روي عن عكرمة، والحسن
البصري.
وقال
آخرون:هي بيوت التجار، كالخانات ومنازل الأسفار، وبيوت مكة، وغير ذلك. واختار ذلك
ابن جرير، وحكاه، عن جماعة. والأول أظهر، والله أعلم.
وقال
مالك عن زيد بن أسلم:هي بيوت الشَّعر.
قُلْ
لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ
أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ( 30 ) .
هذا أمر
من الله تعالى لعباده المؤمنين أن يغضوا من أبصارهم عما حرم عليهم، فلا ينظروا إلا
إلى ما أباح لهم النظر إليه ، وأن يغضوا أبصارهم عن المحارم، فإن اتفق أن وقع
البصر على مُحرَّم من غير قصد، فليصرف بصره عنه سريعًا، كما رواه مسلم في صحيحه،
من حديث يونس بن عُبَيد، عن عمرو بن سعيد، عن أبي زُرْعَة بن عمرو بن جرير، عن جده
جرير بن عبد الله البجلي، رضي الله عنه، قال:سألت النبي صلى الله عليه وسلم، عن
نظرة الفجأة، فأمرني أن أصرفَ بَصَري.
وكذا
رواه الإمام أحمد، عن هُشَيْم، عن يونس بن عبيد، به. ورواه أبو داود والترمذي
والنسائي، من حديثه أيضًا . وقال الترمذي:حسن صحيح. وفي رواية لبعضهم:فقال: « أطرقْ
بصرك » ، يعني:انظر إلى الأرض. والصرف أعم؛ فإنه قد يكون إلى الأرض،
وإلى جهة أخرى، والله أعلم.
وقال أبو
داود:حدثنا إسماعيل بن موسى الفَزَاري، حدثنا شَريك، عن أبي ربيعة الإيادي، عن عبد
الله بن بُرَيْدة، عن أبيه قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: « يا
علي، لا تتبع النظرة النظرةَ، فإن لك الأولى وليس لك الآخرة »
ورواه
الترمذي من حديث شريك ، وقال:غريب، لا نعرفه إلا من حديثه.
وفي
الصحيح عن أبي سعيد قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إياكم
والجلوس على الطرقات » . قالوا:يا رسول الله، لا بد
لنا من مجالسنا، نتحدث فيها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن
أبيتم، فأعطوا الطريق حقَّه » . قالوا:وما حقّ الطريق يا
رسول الله؟ قال: « غَضُّ البصر، وكَفُّ الأذى،
وردّ السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر » .
وقال أبو
القاسم البغوي:حدثنا طالوت بن عباد، حدثنا فضل بن جبير:سمعت أبا أمامة يقول:سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « اكفلوا
لي بِستّ أكفل لكم بالجنة:إذا حدَّث أحدكم فلا يكذب، وإذا اؤتمن فلا يَخُن، وإذا
وَعَد فلا يخلف. وغُضُّوا أبصاركم، وكُفُّوا أيديكم، واحفظوا فروجكم » .
وفي صحيح
البخاري: « من يكفل لي ما بين لَحْيَيه وما بين رجليه، أكفل له الجنة » .
وقال عبد
الرزاق:أنبأنا مَعْمَر، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن عبيدة قال:كل ما عُصي الله به،
فهو كبيرة. وقد ذكر الطَّرْفين فقال: ( قُلْ
لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ ) .
ولما كان
النظر داعية إلى فساد القلب، كما قال بعض السلف: « النظر
سهام سم إلى القلب » ؛ ولذلك أمر الله بحفظ الفروج
كما أمر بحفظ الأبصار التي هي بواعث إلى ذلك، فقال: ( قُلْ
لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ) .
وحفظُ الفَرج تارةً يكون بمنعه من الزنى، كما قال وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ
حَافِظُونَ * إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ
فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ [ المعارج:29، 30 ] وتارة
يكون بحفظه من النظر إليه، كما جاء في الحديث في مسند أحمد والسنن: احفظ عورتك،
إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك « . »
( ذَلِكَ
أَزْكَى لَهُمْ ) أي:أطهر لقلوبهم وأنقى
لدينهم، كما قيل: « مَنْ حفظ بصره، أورثه الله
نورًا في بصيرته » . ويروى: « في
قلبه » .
وقد قال
الإمام أحمد:حدثنا عتاب، حدثنا عبد الله بن المبارك، أخبرنا يحيى بن أيوب، عن
عُبَيْد الله بن زَحْر، عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة، رضي الله عنه،
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « ما من
مسلم ينظر إلى محاسن امرأة [ أوّل مَرّة ] ثم
يَغُضّ بصره، إلا أخلف الله له عبادة يجد حلاوتها » .
ورُوي
هذا مرفوعًا عن ابن عمر، وحذيفة، وعائشة، رضي الله عنهم ولكن في إسنادها ضعف، إلا
أنها في الترغيب، ومثله يتسامح فيه.
وفي
الطبراني من طريق عبيد الله بن زَحْر، ، عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة
مرفوعا: « لَتغضُنَّ أبصاركم، ولتحفظن فروجكم، ولتقيمُنّ وجوهكم -
أو:لتكسفن وجوهكم » .
وقال
الطبراني:حدثنا أحمد بن زهير التُّسْتُري قال:قرأنا على محمد بن حفص بن عمر الضرير
المقرئ، حدثنا يحيى بن أبي بُكَيْر، حدثنا هُرَيْم بن سفيان، عن عبد الرحمن بن
إسحاق، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه،
قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن
النظر سهم من سهام إبليس مسموم، من تركه مخافتي، أبدلته إيمانا يجد حلاوته في قلبه
» .
وقوله: ( إِنَّ
اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ) ، كما
قال تعالى: يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [
غافر:19 ] .
وفي
الصحيح، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « كُتِبَ
على ابن آدم حَظّه من الزنى، أدرَكَ ذلك لا محالة. فَزنى العينين:النظر. وزنى
اللسان:النطقُ. وزنى الأذنين:الاستماع. وزنى اليدين:البطش. وزنى الرجلين:الخطى.
والنفس تمَنّى وتشتهي، والفرج يُصَدِّق ذلك أو يُكذبه » .
رواه
البخاري تعليقًا، ومسلم مسندًا من وجه آخر بنحو ما تقدم.
وقد قال
كثير من السلف:إنهم كانوا ينهَون أن يحدَّ الرجل بَصَره إلى الأمرد. وقد شَدَّد
كثير من أئمة الصوفية في ذلك، وحَرَّمه طائفة من أهل العلم، لما فيه من الافتتان،
وشَدّد آخرون في ذلك كثيرًا جدًا.
وقال ابن
أبي الدنيا:حدثنا أبو سعيد المدني ، حدثنا عمر بن سهل المازني، حدثني عمر بن محمد
بن صُهْبَان، حدثني صفوان بن سليم، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال:قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: « كل عين باكية يوم القيامة،
إلا عينًا غَضّت عن محارم الله، وعينًا سهِرت في سبيل الله، وعينًا يخرج منها مثل
رأس الذباب، من خشية الله، عز وجل » .
وَقُلْ
لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا
يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ
عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ
آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ
بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي
أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ
التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ
لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ
لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( 31 )
هذا أمْرٌ من الله تعالى للنساء
المؤمنات، وغَيْرَة منه لأزواجهنّ، عباده المؤمنين، وتمييز لهن عن صفة نساء
الجاهلية وفعال المشركات. وكان سبب نـزول هذه الآية ما ذكره مقاتل بن حيَّان
قال:بلغنا - والله أعلم - أن جابر بن عبد الله الأنصاري حَدَّث:أن « أسماء
بنت مُرْشدَة » كانت في محل لها في بني حارثة،
فجعل النساء يدخلن عليها غير مُتَأزّرات فيبدو ما في أرجلهن من الخلاخل، وتبدو
صدورهن وذوائبهن، فقالت أسماء:ما أقبح هذا. فأنـزل الله: (
وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ
) الآية.
فقوله تعالى: (
وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ ) أي:عما
حَرَّم الله عليهن من النظر إلى غير أزواجهن. ولهذا ذهب [
كثير من العلماء ] إلى أنه:لا يجوز للمرأة أن
تنظر إلى الأجانب بشهوة ولا بغير شهوة أصلا. واحتج كثير منهم بما رواه أبو داود
والترمذي، من حديث الزهري، عن نبهان - مولى أم سلمة - أنه حدثه:أن أم سلمة
حَدَّثته:أنها كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وميمونة، قالت:فبينما نحن
عنده أقبل ابنُ أمّ مكتوم، فدخل عليه، وذلك بعدما أُمِرْنا بالحجاب، فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: « احتجبا منه » فقلت:يا
رسول الله، أليس هو أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: « أو عمياوان أنتما؟ ألستما تبصرانه » .
ثم قال الترمذي:هذا حديث حسن
صحيح.
وذهب آخرون من العلماء إلى جواز
نظرهن إلى الأجانب بغير شهوة، كما ثبت في الصحيح:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
جعل ينظر إلى الحبشة وهم يلعبون بحرابهم يوم العيد في المسجد، وعائشة أم المؤمنين
تنظر إليهم من ورائه، وهو يسترها منهم حتى مَلَّت ورجعت .
وقوله: (
وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ) قال سعيد بن جُبَيْر:، عن
الفواحش. وقال قتادة وسفيان:عما لا يحل لهن. وقال مقاتل:، عن الزنى. وقال أبو
العالية:كل آية نـزلت في القرآن يذكر فيها حفظ الفروج، فهو من الزنى، إلا هذه
الآية: ( وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ) ألا
يراها أحد.
وقال : ( وَلا
يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ) أي:لا
يُظهرْنَ شيئا من الزينة للأجانب، إلا ما لا يمكن إخفاؤه.
وقال ابن مسعود:كالرداء
والثياب. يعني:على ما كان يتعاناه نساء العرب، من المِقْنعة التي تُجَلِّل ثيابها،
وما يبدو من أسافل الثياب فلا حرج عليها فيه؛ لأن هذا لا يمكن إخفاؤه. [
ونظيره في زي النساء ما يظهر من إزارها، وما لا يمكن إخفاؤه. وقال ] بقول
ابن مسعود:الحسن، وابن سيرين، وأبو الجوزاء، وإبراهيم النَّخَعي، وغيرهم.
وقال الأعمش، عن سعيد بن
جُبَير، عن ابن عباس: ( وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ
إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ) قال:وجهها وكفيها والخاتم.
ورُوي عن ابن عمر، وعطاء، وعكرمة، وسعيد بن جبير، وأبي الشعثاء، والضحاك، وإبراهيم
النَّخَعي، وغيرهم - نحوُ ذلك. وهذا يحتمل أن يكون تفسيرًا للزينة التي نهين عن
إبدائها، كما قال أبو إسحاق السَّبيعي، عن أبي الأحْوَص، عن عبد الله قال في قوله:
( وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ )
:الزينة القُرْط والدُّمْلُج والخلخال والقلادة. وفي رواية عنه بهذا الإسناد
قال:الزينة زينتان:فزينة لا يراها إلا الزوج:الخاتم والسوار، [
وزينة يراها الأجانب، وهي ] الظاهر من الثياب.
وقال الزهري: [ لا
يبدو ] لهؤلاء الذين سَمَّى الله ممن لا يحل له إلا الأسورة
والأخمرة والأقرطة من غير حسر، وأما عامة الناس فلا يبدو منها إلا الخواتم.
وقال مالك، عن الزهري: ( إِلا
مَا ظَهَرَ مِنْهَا ) الخاتم والخلخال.
ويحتمل أن ابن عباس ومن تابعه
أرادوا تفسير ما ظهر منها بالوجه والكفين، وهذا هو المشهور عند الجمهور، ويستأنس
له بالحديث الذي رواه أبو داود في سننه:
حدثنا يعقوب بن كعب الإنطاكي
ومُؤَمَّل بن الفضل الحَرَّاني قالا حدثنا الوليد، عن سعيد بن بَشِير، عن قتادة،
عن خالد بن دُرَيك، عن عائشة، رضي الله عنها؛ أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على النبي
صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق، فأعرض عنها وقال: « يا
أسماء، إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يُرَى منها إلا هذا » وأشار
إلى وجهه وكفيه .
لكن قال أبو داود وأبو حاتم
الرازي:هذا مرسل؛ خالد بن دُرَيك لم يسمع من عائشة، فالله أعلم .
وقوله: ( وَلْيَضْرِبْنَ
بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ )
يعني:المقانع يعمل لها صَنفات ضاربات على صدور النساء، لتواري ما تحتها من صدرها
وترائبها؛ ليخالفن شعارَ نساء أهل الجاهلية، فإنهن لم يكن يفعلن ذلك، بل كانت
المرأة تمر بين الرجال مسفحة بصدرها، لا يواريه شيء، وربما أظهرت عنقها وذوائب
شعرها وأقرطة آذانها. فأمر الله المؤمنات أن يستترن في هيئاتهن وأحوالهن، كما قال
الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ
الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ
يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ [ الأحزاب:59 ] . وقال
في هذه الآية الكريمة: ( وَلْيَضْرِبْنَ
بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ )
والخُمُر:جمع خِمار، وهو ما يُخَمر به، أي:يغطى به الرأس، وهي التي تسميها الناس
المقانع.
قال سعيد بن جبير: (
وَلْيَضْرِبْن ) :وليشددن ( بِخُمُرِهِنَّ
عَلَى جُيُوبِهِنَّ ) يعني:على النحر والصدر، فلا
يرى منه شيء.
وقال البخاري:وقال أحمد بن
شَبِيب :حدَّثنا أبي، عن يونس، عن ابن شِهَاب، عن عُرْوَةَ، عن عائشة، رضي الله
عنها، قالت:يرحم الله نساء المهاجرات الأول، لما أنـزل الله: (
وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ )
شقَقْنَ مُرُوطهن فاختمرن به .
وقال أيضا:حدثنا أبو نُعَيم،
حدثنا إبراهيم بن نافع، عن الحسن بن مسلم، عن صَفيّة بنت شيبة؛ أن عائشة، رضي الله
عنها، كانت تقول :لما نـزلت هذه الآية: (
وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ ) :أخذن
أزرهن فَشَقَقنها من قبل الحواشي، فاختمرن بها .
وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي،
حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس، حدثني الزنجيّ بن خالد، حدثنا عبد الله بن عثمان
بن خُثَيْم، عن صفية بنت شيبة قالت:بينا نحن عند عائشة، قالت:فذكرنا نساء قريش
وفضلهن. فقالت عائشة، رضي الله عنها:إن لنساء قريش لفضلا وإني - والله - وما رأيت
أفضلَ من نساء الأنصار أشدّ تصديقًا بكتاب الله، ولا إيمانًا بالتنـزيل. لقد
أنـزلت سورة النور: ( وَلْيَضْرِبْنَ
بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ ) ،
انقلب إليهن رجالهن يتلون عليهن ما أنـزل الله إليهم فيها، ويتلو الرجل على امرأته
وابنته وأخته، وعلى كل ذي قرابة ، فما منهن امرأة إلا قامت إلى مِرْطها المُرَحَّل
فاعتجرت به، تصديقًا وإيمانًا بما أنـزل الله من كتابه، فأصبحْنَ وراء رسول الله
صلى الله عليه وسلم الصبح معتجرات، كأن على رؤوسهن الغربان.
ورواه أبو داود من غير وجه، عن
صفية بنت شيبة، به .
وقال ابن جرير:حدثنا يونس،
أخبرنا ابن وهب، أن قُرَّةَ بن عبد الرحمن أخبره، عن ابن شهاب، عن عُرْوَة، عن
عائشة؛ أنها قالت:يرحم الله النساء المهاجرات الأوَل، لما أنـزل الله: (
وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ ) شَقّقن
أكثَف مروطهن فاختمرن به. ورواه أبو داود من حديث ابن وهب، به .
وقوله: ( وَلا
يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ )
يعني:أزواجهن، ( أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ
آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ
إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ ) كل
هؤلاء محارم المرأة يجوز لها أن تظهر عليهم بزينتها، ولكن من غير اقتصاد وتبهرج .
وقال ابن المنذر:حدثنا موسى -
يعني:ابن هارون - حدثنا أبو بكر - يعني ابن أبي شيبة - حدثنا عفان، حدثنا حماد بن
سلمة، أخبرنا داود، عن الشعبي وعِكْرمَة في هذه الآية: ( وَلا
يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ
بُعُولَتِهِنَّ ) - حتى فرغ منها قال:لم يذكر
العم ولا الخال؛ لأنهما ينعَتان لأبنائهما، ولا تضع خمارها عند العم والخال فأما
الزوج فإنما ذلك كله من أجله، فتتصنع له ما لا يكون بحضرة غيره.
وقوله: ( أَوْ
نِسَائِهِنَّ ) يعني:تُظهر زينتها أيضًا للنساء المسلمات دون نساء أهل
الذمة؛ لئلا تصفهن لرجالهن، وذلك - وإن كان محذورًا في جميع النساء - إلا أنه في
نساء أهل الذمة أشدّ، فإنهن لا يمنعهن من ذلك مانع، وأما المسلمة فإنها تعلم أن
ذلك حرام فتنـزجر عنه. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا
تباشر المرأةَ المرأةَ، تنعتها لزوجها كأنه ينظر إليها » .
أخرجاه في الصحيحين، عن ابن مسعود .
وقال سعيد بن منصور في
سننه:حدثنا إسماعيل بن عياش، عن هشام بن الغاز، ، عن عبادة بن نُسَيّ، عن أبيه، عن
الحارث بن قيس قال:كتب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة:أما بعد، فإنه
بلغني أن نساء من نساء المسلمين يدخلن الحمامات مع نساء أهل الشرك، فانْهَ مَنْ
قِبَلَك فلا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن ينظر إلى عورتها إلا أهل ملتها
.
وقال مجاهد في قوله: ( أَوْ
نِسَائِهِنَّ ) قال:نساؤهن المسلمات، ليس المشركات من نسائهن، وليس للمرأة
المسلمة أن تنكشف بين يدي المشركة.
وروى عَبد في تفسيره عن الكلبي،
عن أبي صالح، عن ابن عباس: ( أَوْ نِسَائِهِنَّ ) ، قال:هن
المسلمات لا تبديه ليهودية ولا نصرانية، وهو النَّحْر والقُرْط والوٍشَاح، وما لا
يحل أن يراه إلا محرم.
وروى سعيد:حدثنا جرير، عن ليث،
عن مجاهد قال:لا تضع المسلمة خمارها عند مشركة؛ لأن الله تعالى يقول: ( أَوْ
نِسَائِهِنَّ ) فليست من نسائهن.
وعن مكحول وعبادة بن
نُسَيّ:أنهما كرها أن تقبل النصرانيةُ واليهودية والمجوسية المسلمة.
فأما ما رواه ابن أبي
حاتم:حدثنا علي بن الحسين، حدثنا أبو عمير، حدثنا ضَمْرَة قال:قال ابن عطاء، عن
أبيه:ولما قدم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بيت المقدس، كان قَوَابل نسائهم
اليهوديات والنصرانيات فهذا - إن صح - مَحمولٌ على حال الضرورة، أو أن ذلك من باب
الامتهان، ثم إنه ليس فيه كشف عورة ولا بد، والله أعلم.
وقوله: ( أَوْ
مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ ) قال ابن جُرَيج :يعني:من نساء
المشركين، فيجوز لها أن تظهر [ زينتها لها وإن كانت مشركة؛
لأنها أمتها. وإليه ذهب سعيد بن المسيَّب. وقال الأكثرون:بل يجوز لها أن تظهر ] على
رقيقها من الرجال والنساء، واستدلوا بالحديث الذي رواه أبو داود:
حدثنا محمد بن عيسى، حدثنا أبو
جميع سالم بن دينار، عن ثابت، عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى فاطمة بعبد
قد وهبه لها. قال:وعلى فاطمة ثوب إذا قَنَّعت به رأسها لم يبلغ رجليها، وإذا غطت
به رجليها لم يبلغ رأسها، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما تلقى قال: « إنه
ليس عليك بأس، إنما هو أبوك وغلامك » .
وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في
تاريخه [ في ] ترجمة حُدَيْج الخَصِيّ -
مولى معاوية - أن عبد الله بن مَسْعَدَة الفزاري كان أسود شديد الأدمة، وأنه قد
كان النبي صلى الله عليه وسلم وهبه لابنته فاطمة، فربته ثم أعتقته، ثم قد كان بعد
ذلك كله مع معاوية أيام صفين، وكان من أشد الناس على عليّ بن أبي طالب، رضي الله
عنه .
وقال الإمام أحمد:حدثنا سفيان
بن عُيَيْنَة، عن الزهري، عن نَبْهَان، عن أم سلمة، ذكرت أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: « إذا كان لإحداكن مُكَاتَب،
وكان له ما يؤدي، فلتحتجب منه » .
ورواه أبو داود، عن مُسَدَّد،
عن سفيان، به .
وقوله: ( أَوِ
التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ )
يعني:كالأجراء والأتباع الذين ليسوا بأكفاء، وهم مع ذلك في عقولهم وَله وخَوَث ،
ولا همَّ لهم إلى النساء ولا يشتهونهن.
قال ابن عباس:هو المغفل الذي لا
شهوة له.
وقال مجاهد:هو الأبْلَه.
وقال عكرمة:هو المخَنَّث الذي
لا يقوم زُبُّه. وكذلك قال غير واحد من السلف.
وفي الصحيح من حديث الزهري، عن
عُرْوَةَ، عن عائشة؛ أن مخنثًا كان يدخل على أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وكانوا يعدّونه من غير أولي الإربة، فدخل النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو ينَعت
امرأة:يقول إنها إذا أقبلت أقبلت بأربع، وإذا أدبرت أدبرت بثمان. فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: « ألا أرى هذا يعلم ما هاهنا،
لا يدخلَنّ عليكُنَ » فأخرجه، فكان بالبيداء يدخل
يوم كل جمعة يستطعم .
وقال الإمام أحمد:حدثنا أبو
معاوية، حدثنا هشام بن عُرْوَةَ، عن أبيه، عن زينب بنت أبي سلمة، عن أم سلمة
قالت:دخل عليها [ رسول الله صلى الله عليه
وسلم ] وعندها مخنث، وعندها [
أخوها ] عبد الله بن أبي أمية [
والمخنث يقول لعبد الله:يا عبد الله بن أبي أمية ] إن فتح
الله عليكم الطائف غدًا، فعليك بابنة غيلان، فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان.
قال:فسمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لأم سلمة: « لا
يدخلن هذا عليك » .
أخرجاه في الصحيحين، من حديث
هشام بن عروة، به .
وقال الإمام أحمد:حدثنا عبد
الرزاق، حدثنا مَعْمَر، عن الزهري، عن عروة بن الزبير، عن عائشة، رضي الله عنها،
قالت:كان رجل يدخل على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مخنث، وكانوا يَعُدّونه من
غير أولي الإربة، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم يوما وهو عند بعض نسائه، وهو ينعت
امرأة. فقال:إنها إذا أقبلت أقبلت بأربع، وإذا أدبرت أدبرت بثمان. فقال النبي صلى
الله عليه وسلم: « ألا أرى هذا يعلم ما هاهنا؟ لا
يدخلَنَّ عليكم هذا » فحجبوه.
ورواه مسلم، وأبو داود،
والنسائي من طريق عبد الرزاق، به .
وقوله: ( أَوِ
الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ )
يعني:لصغرهم لا يفهمون أحوال النساء وعوراتهنّ من كلامهن الرخيم، وتعطفهن في المشية
وحركاتهن، فإذا كان الطفل صغيرًا لا يفهم ذلك، فلا بأس بدخوله على النساء .فأما إن
كان مراهقا أو قريبا منه، بحيث يعرف ذلك ويدريه، ويفرق بين الشوهاء والحسناء، فلا
يمكن من الدخول على النساء. وقد ثبت في الصحيحين، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
أنه قال: « إياكم والدخول على النساء » .
قالوا:يا رسول الله، أفرأيت الحَمْو؟ قال: «
الحَمْو الموت » .
وقوله: ( وَلا
يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ ) كانت
المرأة في الجاهلية إذا كانت تمشي في الطريق وفي رجلها خلخال صامت - لا يسمع صوته
- ضربت برجلها الأرض، فيعلم الرجال طنينه، فنهى الله المؤمنات عن مثل ذلك. وكذلك
إذا كان شيء من زينتها مستورًا، فتحركت بحركة لتظهر ما هو خفي، دخل في هذا النهي؛
لقوله تعالى: ( وَلا يَضْرِبْنَ
بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ ) :ومن
ذلك أيضا أنها تنهى عن التعطر والتطيب عند خروجها من بيتها ليَشْتَمَّ الرجال
طيبها، فقد قال أبو عيسى الترمذي:
حدثنا محمد بن بشار، حدثنا يحيى
بن سعيد القَّطَّان، عن ثابت بن عُمَارة الحنفي، عن غُنَيْم بن قيس، عن أبي موسى
رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « كل عين
زانية، والمرأة إذا استعطرت فمرَّت بالمجلس فهي كذا وكذا » يعني
زانية .
قال:وفي الباب، عن أبي هريرة،
وهذا حسن صحيح.
رواه أبو داود والنسائي،من حديث
ثابت بن عمارة، به.
وقال أبو داود:حدثنا محمد بن
كثير، أخبرنا سفيان، عن عاصم بن عبيد الله، عن عبيد مولى أبي رُهْم، عن أبي هريرة،
رضي الله عنه، قال:لقيتْه امرأة وجد منها ريح الطيب، ولذيلها إعصار فقال:يا أمة
الجبار، جئت من المسجد؟ قالت:نعم. قال لها: [ وله
] تَطَيَّبتِ؟ قالت:نعم. قال:إني سمعت حبي أبا القاسم صلى
الله عليه وسلم يقول: « لا يقبل الله صلاة امرأة
تَطَيبت لهذا المسجد، حتى ترجع فتغتسل غُسلها من الجنابة » .
ورواه ابن ماجه، عن أبي بكر بن
أبي شيبة، عن سفيان - هو ابن عيينة - به.
وروى الترمذي أيضًا من حديث
موسى بن عُبَيدة، عن أيوب بن خالد، عن ميمونة بنت سعد؛ أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال: « الرافلة في الزينة في غير أهلها، كمثل ظلمة يوم القيامة لا
نور لها » .
ومن ذلك أيضا أنهن يُنهَين عن
المشي في وسط الطريق؛ لما فيه من التبرج. قال أبو داود:
حدثنا القَعْنَبِيّ، حدثنا عبد
العزيز - يعني:ابن محمد - عن أبي اليمان، عن شداد بن أبي عمرو بن حماس، عن أبيه،
عن حمزة بن أبي أسيد الأنصاري، عن أبيه:أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول
وهو خارج من المسجد - وقد اختلط الرجال مع النساء في الطريق - فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم للنساء: « استأخرن، فإنه ليس لكن أن
تَحْققْن الطريق، عليكن بحافات الطريق » ، فكانت
المرأة تلصق بالجدار، حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار، من لصوقها به .
وقوله: (
وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ ) أي:افعلوا ما آمركم به من هذه الصفات الجميلة والأخلاق
الجليلة، واتركوا ما كان عليه أهل الجاهلية من الأخلاق والصفات الرذيلة، فإن
الفَلاح كل الفَلاح في فعل ما أمر الله به ورسوله، وترك ما نهيا عنه، والله تعالى
هو المستعان [ وعليه التكلان ] .
وَأَنْكِحُوا
الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ
يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ
( 32 )
وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ
مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ
فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ
الَّذِي آتَاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ
تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ
فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 33 )
وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلا مِنَ الَّذِينَ
خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ( 34 )
اشتملت
هذه الآيات الكريمات المبينة على جمل من الأحكام المحكمة، والأوامر المبرمة، فقوله
تعالى: ( وَأَنْكِحُوا الأيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ
عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ ) :هذا أمر بالتزويج. وقد ذهب
طائفة من العلماء إلى وجوبه، على كل من قَدَر عليه. واحتجوا بظاهر قوله صلى الله
عليه وسلم: « يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض
للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء » .
أخرجاه من حديث ابن مسعود .
وجاء في
السنن - من غير وجه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «
تَزَوَّجوا، توالدوا، تناسلوا، فإني مُبَاهٍ بكم الأمم يوم القيامة » وفي
رواية: « حتى بالسقط » .
الأيامى:جمع
أيِّم، ويقال ذلك للمرأة التي لا زوج لها، وللرجل الذي لا زوجة له. وسواء كان قد
تزوج ثم فارق، أو لم يتزوج واحد منهما، حكاه الجوهري عن أهل اللغة، يقال:رجل أيّم
وامرأة أيّم أيضا.
وقوله
تعالى: ( إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ
فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) ، قال
علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:رغبهم الله في التزويج، وأمر به الأحرار والعبيد،
ووعدهم عليه الغنى، فقال: ( إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ
يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ) .
وقال ابن
أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا محمود بن خالد الأزرق، حدثنا عمر بن عبد الواحد، عن
سعيد - يعني:ابن عبد العزيز - قال:بلغني أن أبا بكر الصديق، رضي الله عنه،
قال:أطيعوا الله فيما أمركم به من النكاح، ينجز [ لكم
] ما وعدكم من الغنى، قال: ( إِنْ
يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ) .
وعن ابن
مسعود:التمسوا الغنى في النكاح، يقول الله تعالى: ( إِنْ
يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ) رواه
ابن جرير، وذكر البغوي عن عمر بنحوه.
وعن
الليث، عن محمد بن عَجْلان، عن سعيد المقْبُرِي، عن أبي هريرة، رضي الله عنه،
قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ثلاثة
حَقٌّ على الله عَوْنهم:الناكح يريد العفاف، والمكاتَب يريد الأداء، والغازي في
سبيل الله » . رواه الإمام أحمد، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه
وقد
زوَّج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الرجل الذي لم يجد إلا إزاره ، ولم يقدر
على خاتم من حديد، ومع هذا فزوّجه بتلك المرأة، وجعل صداقها عليه أن يعلمها ما
يحفظه من القرآن.
والمعهود
من كرم الله تعالى ولطفه أن يرزقه [
وإياها ] ما فيه كفاية له ولها. فأما ما يورده كثير من الناس على أنه
حديث: « تزوجوا فقراء يغنكم الله » ، فلا
أصل له، ولم أره بإسناد قوي ولا ضعيف إلى الآن، وفي القرآن غنية عنه، وكذا هذا
الحديث الذي أوردناه. ولله الحمد.
وقوله
تعالى: ( وليستعفف الذين لا يجدون نكاحًا حتى يغنيهم الله من فضله ) . هذا
أمر من الله تعالى لمن لا يجد تزويجًا [
بالتعفف ] عن الحرام، كما قال - عليه الصلاة والسلام - : « يا معشر
الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغَضُّ للبصر، وأحْصَنُ للفرج. ومن
لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وِجَاء » .
وهذه
الآية مطلقة، والتي في سورة النساء أخص منها، وهي قوله تعالى: وَمَنْ لَمْ
يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ
مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ، إلى أن قال:
ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ [
النساء:25 ] أي صبركم عن تزويج الإماء خير؛ لأن الولد يجيء رقيقا،
وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ .
قال
عكرمة في قوله: ( وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ
لا يَجِدُونَ نِكَاحًا ) قال:هو الرجل يرى المرأة
فكأنه يشتهي، فإن كانت له امرأة فليذهب إليها وليقض حاجته منها، وإن لم يكن له
امرأة فلينظر في ملكوت السموات [ والأرض ] حتى
يغنيه الله.
وقوله: ( وَالَّذِينَ
يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ
عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا ) هذا أمر من الله تعالى للسادة
إذا طلب منهم عبيدهم الكتابة أن يكاتبوا ، بشرط أن يكون للعبد حيلة وكسب يؤدي إلى
سيِّده المال الذي شارطه على أدائه. وقد ذهب كثير من العلماء إلى أن هذا الأمر
أمرُ إرشاد واستحباب، لا أمر تحتم وإيجاب، بل السيد مخير، إذا طلب منه عبده
الكتابة إن شاء كاتبه، وإن شاء لم يكاتبه.
وقال
الثوري، عن جابر، عن الشعبي:إن شاء كاتبه وإن شاء لم يكاتبه.
وقال ابن
وهب، عن إسماعيل بن عياش، عن رجل، عن عطاء بن أبي رَبَاح:إن يشأ يكاتبه وإن لم يشأ
لم يكاتبه ، وكذا قال مُقاتل بن حَيَّان، والحسن البصري.
وذهب
آخرون إلى أنه يجب على السيد إذا طلب منه عبدُه ذلك، أن يجيبه إلى ما طلب؛ أخذًا
بظاهر هذا الأمر:
قال
البخاري:وقال روح، عن ابن جُرَيْج قلت لعطاء: [
أواجب عليّ إذا علمت له مالا أن أكاتبه؟ قال:ما أراه إلا واجبًا. وقال عمرو بن
دينار:قلت لعطاء ] ، أتأثُرُه عن أحد؟ قال:لا.
ثم أخبرني أن موسى بن أنس أخبره، أن سيرين سأل أنسًا المكاتبةَ - وكان كثير المال،
فأبى. فانطلق إلى عمر بن الخطاب فقال:كاتبه. فأبى، فضربه بالدّرة، ويتلو عمر، رضي
الله عنه: ( فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا ) ،
فكاتبه
هكذا
ذكره البخاري تعليقا . ورواه عبد الرزاق:أخبرنا ابن جريج قال:قلت لعطاء:أواجب عليّ
إذا علمت له مالا أن أكاتبه؟ قال:ما أراه إلا واجبًا. وقال عمرو بن دينار، قال:قلت
لعطاء:أتأثره عن أحد؟ قال:لا
وقال ابن
جرير:حدثنا محمد بن بَشَّار، حدثنا محمد بن بكر، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن أنس بن
مالك:أن سيرين أراد أن يكاتبه، فتلكأ عليه، فقال له عمر:لتكاتِبَنَّه. إسناد صحيح
.
وقال
سعيد بن منصور:حدثنا هُشَيْم بن جُوَيْبِر، عن الضحاك قال:هي عَزْمة.
وهذا هو
القول القديم من قولي الشافعي، رحمه الله، وذهب في الجديد إلى أنه لا يجب؛ لقوله
عليه الصلاة والسلام: « لا يحلّ مال امرئ مسلم إلا
بطيب من نفسه » .
وقال ابن
وهب:قال مالك:الأمر عندنا أنْ ليس على سيد العبد أن يكاتبه إذا سأله ذلك، ولم أسمع
أحدًا من الأئمة أكره أحدًا على أن يكاتب عبده. قال مالك:وإنما ذلك أمر من الله،
وإذن منه للناس، وليس بواجب.
وكذا قال
الثوري، وأبو حنيفة، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وغيرهم. واختار ابن جرير قول
الوجوب لظاهر الآية.
وقوله: ( إِنْ
عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا ) ، قال بعضهم:أمانة. وقال
بعضهم:صدقا. [ وقال بعضهم:مالا ] وقال
بعضهم:حيلة وكسبا.
وروى أبو
داود في كتاب المراسيل، عن يحيى بن أبي كثير قال:قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: ( فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا ) قال: « إن
علمتم فيهم حرفة، ولا ترسلوهم كَلا على الناس » .
وقوله: (
وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُم ) اختلف
المفسرون فيه، فقال قائلون:معناه اطرحوا لهم من الكتابة بعضها، ثم قال بعضهم:مقدار
الربع. وقيل:الثلث. وقيل:النصف. وقيل:جزء من الكتابة من غير واحد.
وقال
آخرون:بل المراد من قوله: ( وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ
اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ) هو النصيب الذي فرض الله لهم
من أموال الزكوات. وهذا قول الحسن، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وأبيه، ومقاتل بن
حيان. واختاره ابن جرير.
وقال
إبراهيم النَّخَعِيّ في قوله: ( وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ
اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ) قال:حَثَّ الناس عليه مولاه
وغيره. وكذلك قال بُرَيْدة بن الحُصَيب الأسلمي، وقتادة.
وقال ابن
عباس:أمر الله المؤمنين أن يعينوا في الرقاب. وقد تقدَّمَ في الحديث، عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه قال: « ثلاثة حق على الله عونهم » :فذكر
منهم المكاتَب يريد الأداء، والقول الأول أشهر.
وقال ابن
أبي حاتم:حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا وَكِيع، عن ابن شَبِيب، عن عكرمة، عن ابن
عباس، عن عمر؛ أنه كاتب عبدًا له، يكنى أبا أمية، فجاء بنجمه حين حل، فقال:يا أبا
أمية، اذهب فاستعن به في مكاتبتك. قال:يا أمير المؤمنين، لو تركتَه حتى يكون من
آخر نجم؟ قال:أخاف ألا أدرك ذلك. ثم قرأ: (
فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ
الَّذِي آتَاكُمْ ) قال عكرمة:كان أول نجم أدّي
في الإسلام.
وقال ابن
جرير:حدثنا ابن حميد، حدثنا هارون بن المغيرة، عن عنبسَةَ، عن سالم الأفطس، عن
سعيد بن جبير قال:كان ابن عمر إذا كاتب مكاتَبه لم يضع عنه شيئا من أول نجومه،
مخافة أن يعجز فترجع إليه صدقته. ولكنه إذا كان في آخر مكاتبته، وضع عنه ما أحب .
وقال علي
بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ
اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ) قال:يعني:ضعوا عنهم من
مكاتبتهم. وكذلك قال مجاهد، وعطاء، والقاسم بن أبي بَزَّة، وعبد الكريم بن مالك
الجَزَريّ، والسدي.
وقال
محمد بن سيرين في قوله: ( وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ
اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ) :كان يعجبهم أن يدع الرجل
لمكاتَبه طائفة من مكاتبته.
وقال ابن
أبي حاتم:أخبرنا الفضل بن شاذان المقرئ، أخبرنا إبراهيم بن موسى، أخبرنا هشام بن
يوسف، عن ابن جُرَيْج، أخبرني عطاء بن السائب:أن عبد الله بن جندب أخبره، عن علي،
رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « ربع
الكتابة » .
وهذا
حديث غريب، ورفعه منكر، والأشبه أنه موقوف على عليّ، رضي الله عنه، كما رواه عنه
أبو عبد الرحمن السلمي، رحمه الله .
وقوله: ( وَلا
تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا
عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) الآية:كان أهل الجاهلية إذا
كان لأحدهم أمة، أرسلها تزني، وجعل عليها ضريبة يأخذها منها كلّ وقت. فلما جاء
الإسلام، نهى الله المسلمين عن ذلك.
وكان سبب
نـزول هذه الآية الكريمة - فيما ذكره غير واحد من المفسرين، من السلف والخلف - في
شأن عبد الله بن أبي بن سلول [ المنافق ] فإنه
كان له إماء، فكان يكرههن على البِغاء طلبا لخَراجهن، ورغبة في أولادهن، ورئاسة
منه فيما يزعم [ قبحه الله ولعنه ]
[ ذكر
الآثار الواردة في ذلك ]
قال
الحافظ أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزَّار، رحمه الله، في مسنده:حدثنا
أحمد بن داود الواسطي، حدثنا أبو عمرو اللخمي - يعني:محمد بن الحجاج - حدثنا محمد
ابن إسحاق، عن الزهري قال:كانت جارية لعبد الله بن أبي ابن سلول، يقال لها:معاذة،
يكرهها على الزنى، فلما جاء الإسلام نـزلت: ( وَلا
تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ ) إلى
قوله: ( فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ
رَحِيمٌ )
وقال
الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر في هذه الآية: ( وَلا
تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ )
قال:نـزلت في أمة لعبد الله بن أبي بن سلول يقال لها:مُسَيْكَة، كان يكرهها على
الفجور - وكانت لا بأس بها - فتأبى. فأنـزل الله، عز وجل، هذه الآية إلى قوله (
وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .
وروى
النسائي، من حديث ابن جُرَيْج، عن أبي الزبير، عن جابر نحوه
وقال الحافظ
أبو بكر البزار:حدثنا عمرو بن علي، حدثنا علي بن سعيد، حدثنا الأعمش، حدثني أبو
سفيان، عن جابر قال:كان لعبد الله بن أُبَيٍّ ابنِ سلولَ جارية يقال لها:مسيكة،
وكان يكرهها على البغاء، فأنـزل الله: ( وَلا
تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ ) ، إلى
قوله: ( وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ
إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .
صرح
الأعمش بالسماع من أبي سفيان طلحة بن نافع، فدل على بطلان قول من قال: « لم
يسمع منه، إنما هو صحيفة » حكاه البزار.
قال أبو
داود الطيالسي، عن سليمان بن معاذ، عن سِمَاك، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس؛ أن جارية
لعبد الله بن أبي كانت تزني في الجاهلية، فولدت أولادًا من الزنى، فقال لها:ما لك
لا تزنين؟ قالت لا والله لا أزني. فضربها، فأنـزل الله عز وجل: ( وَلا
تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا )
وقال عبد
الرزاق:أخبرنا مَعْمَر، عن الزهري:أن رجلا من قريش أُسر يوم بدر، وكان عند عبد
الله بن أُبَيّ أسيرًا، وكانت لعبد الله بن أُبيّ جارية يقال لها:معاذة، وكان
القرشي الأسير يريدها على نفسها، وكانت مسلمة . وكانت تمتنع منه لإسلامها، وكان
عبد الله بن أبي يكرهها على ذلك ويضربها، رجاء أن تحمل للقرشي، فيطلب فداء ولده،
فقال تبارك وتعالى: ( وَلا تُكْرِهُوا
فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا )
وقال
السدي:أنـزلت هذه الآية الكريمة في عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين، وكانت
له جارية تدعى معاذة، وكان إذا نـزل به ضيف أرسلها إليه ليواقعها، إرادة الثواب
منه والكرامة له. فأقبلت الجارية إلى أبي بكر، رضي الله عنه فشكت إليه ذلك، فذكره
أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم، فأمره بقبضها. فصاح عبد الله بن أبي:من
يَعْذُرني من محمد، يغلبنا على مملوكتنا؟ فأنـزل الله فيهم هذا.
وقال
مُقَاتِل بن حَيَّان:بلغنا - والله أعلم - أن هذه الآية نـزلت في رجلين كانا
يكرهان أمتين لهما، إحداهما اسمها مُسَيْكَة، وكانت للأنصاريّ، وكانت أميمة أم
مسيكة لعبد الله بن أبي، وكانت معاذة وأروى بتلك المنـزلة، فأتت مسيكة وأمها النبي
صلى الله عليه وسلم، فذكرتا ذلك له، فأنـزل الله في ذلك ( وَلا
تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ )
يعني:الزنى.
وقوله: ( إِنْ
أَرَدْنَ تَحَصُّنًا ) هذا خرج مخرج الغالب، فلا
مفهوم له.وقوله: ( لِتَبْتَغُوا عَرَضَ [
الْحَيَاةِ ] الدُّنْيَا ) أي:من
خَرَاجهن ومهورهن وأولادهن. وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن كسب
الحجَّام، ومهر البَغيّ وحُلْوان الكاهن - وفي رواية: « مهر
البغي خبيث، وكسب الحجَّام خبيث، وثمن الكلب خبيث »
وقوله: (
وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) [
أي:لهن، كما تقدم في الحديث عن جابر.
وقال
ابن أبي طلحة، عن ابن عباس:فإن فعلتم فإن الله لهن غفور رحيم ] وإثمهن
على من أكرههن:وكذا قال مجاهد، وعطاء الخراساني، والأعمش، وقتادة.
وقال أبو
عبيد:حدثني إسحاق الأزرق، عن عَوْف، عن الحسن في هذه الآية: ( فَإِنَّ
اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ )
قال:لهن والله. لهن والله.
وعن
الزهري قال:غفور لهن ما أُكْرهْن عليه.
وعن زيد
بن أسلم قال:غفور رحيم للمكرهات.
حكاهن
ابن المنذر في تفسيره بأسانيده.
وقال ابن
أبي حاتم:حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا يحيى بن عبد الله، حدثني ابن لَهِيعَة، حدثني
عطاء، عن سعيد بن جُبَيْر قال:في قراءة عبد الله بن مسعود: «
فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ لَهُنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ » وإثمهن
على من أكرههن.
وفي
الحديث المرفوع، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « رُفِع
عن أمَّتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه » .
ولما فصل
تعالى هذه الأحكام وبَيَّنها قال: (
وَلَقَدْ أَنـزلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ )
يعني:القرآن فيه آيات واضحات مفسرات، (
وَمَثَلا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ )
أي:خبرا عن الأمم الماضية، وما حلَّ بهم في مخالفتهم أوامرَ الله تعالى ، كما قال
تعالى: فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلا لِلآخِرِينَ [
الزخرف:56 ]
(
وَمَوْعِظَةً ) أي:زاجرًا عن ارتكاب المآثم والمحارم (
لِلْمُتَّقِينَ ) أي:لمن اتقى الله وخافه.
قال علي
بن أبي طالب، رضي الله عنه، في صفة القرآن:فيه حكم ما بينكم، وخبر ما قبلكم، ونبأ
ما بعدكم، وهو الفَصْل ليس بالهَزْل، مَنْ تركه من جَبَّار قَصَمَه الله، ومن
ابتغى الهدى من غيره أضله الله.
اللَّهُ
نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ
الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ
مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ
زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي
اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ
وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( 35 )
قال علي
بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ
وَالأرْضِ ) يقول:هادي أهل السموات والأرض.
وقال ابن
جُرَيْج:قال مجاهد وابن عباس في قوله: ( اللَّهُ
نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) يدبر الأمر فيهما، نجومهما
وشمسهما وقمرهما.
وقال ابن
جرير:حدثنا سليمان بن عمر بن خالد الرَقِّي، حدثنا وهب بن راشد، عن فَرْقَد، عن
أنس بن مالك قال:إن إلهي يقول:نوري هداي.
واختار
هذا القول ابن جرير، رحمه الله.
وقال أبو
جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أُبيّ بن كعب في قول الله
تعالى: ( اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) قال:هو
المؤمن الذي جعل [ الله ]
الإيمان والقرآن في صدره، فضرب الله مثله فقال: (
اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) فبدأ
بنور نفسه، ثم ذكر نور المؤمن فقال:مثل نور من آمن به. قال:فكان أُبي بن كعب
يقرؤها: « مثل نور من آمن به فهو المؤمن جعل الإيمان والقرآن في صدره
» .
وهكذا
قال سعيد بن جُبير، وقيس بن سعد، عن ابن عباس أنه قرأها كذلك: « نور من
آمن بالله » .
وقرأ
بعضهم: « اللَّهُ نَوَّر السَّمَوَاتِ وَالأرْض » .
وعن
الضحاك: « اللَّهُ نَوَّر السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ » .
وقال
السدي في قوله: ( اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ
وَالأرْضِ ) :فبنوره أضاءت السموات والأرض.
وفي الحديث
الذي رواه محمد بن إسحاق في السيرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في
دعائه يوم آذاه أهل الطائف: « أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له
الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن يحل بي غَضبك أو ينـزل بي سَخَطُك، لك
العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك » .
وفي
الصحيحين، عن ابن عباس:كان رسول الله صلى الله عليه سلم إذا قام من الليل يقول: « اللهم
لك الحمد، أنت قَيّم السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت نور السموات والأرض
ومن فيهن » الحديث .
وعن ابن
مسعود، رضي الله عنه، قال:إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار، نور العرش من نور وجهه.
وقوله: (
مَثَلُ نُورِهِ ) في هذا الضمير قولان:
أحدهما:أنه
عائد إلى الله، عز وجل، أي:مثل هداه في قلب المؤمن، قاله ابن عباس (
كمشكاة ) .
والثاني:أن
الضمير عائد إلى المؤمن الذي دل عليه سياق الكلام:تقديره:مثل نور المؤمن الذي في
قلبه، كمشكاة. فشبه قلب المؤمن وما هو مفطور عليه من الهدى، وما يتلقاه من القرآن
المطابق لما هو مفطور عليه، كما قال تعالى: أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ
رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ [
هود:17 ] ، فشبه قلب المؤمن في صفائه في نفسه بالقنديل من الزجاج
الشفاف الجوهري، وما يستهديه من القرآن والشرع بالزيت الجيد الصافي المشرق
المعتدل، الذي لا كدر فيه ولا انحراف.
فقوله :
( كَمِشْكَاةٍ ) :قال
ابن عباس، ومجاهد، ومحمد بن كعب، وغير واحد:هو موضع الفتيلة من القنديل. هذا هو
المشهور؛ ولهذا قال بعده: ( فِيهَا مِصْبَاحٌ ) ، وهو
الذُّبالة التي تضيء.
وقال
العوفي، عن ابن عباس [ في ] قوله:
( اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ
كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ) :وذلك أن اليهود قالوا لمحمد
صلى الله عليه وسلم:كيف يخلص نور الله من دون السماء؟ فضرب الله مثل ذلك لنوره،
فقال: ( اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ ) .
والمشكاة:كوَّة في البيت - قال:وهو مثل ضَرَبه الله لطاعته . فسمَّى الله طاعَتَه
نُورًا، ثم سَمَاها أنواعا شَتَّى.
وقال ابن
أبي نَجِيح، عن مجاهد:الكوة بلُغة الحبشة. وزاد غيره فقال:المشكاة:الكوة التي لا
منفذ لها. وعن مجاهد:المشكاة:الحدائد التي يعلق بها القنديل.
والقول
الأول أولى، وهو:أن المشكاة هي موضع الفَتيلة من القنديل؛ ولهذا قال: (
فِيهَا مِصْبَاحٌ ) وهو النور الذي في الذُّبالة.
قال أبيً
بن كعب:المصباح:النور، وهو القرآن والإيمان الذي في صدره.
وقال
السُّدِّي:هو السراج.
(
الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ) أي:هذا الضوء مشرق في زجاجة
صافية.
قال أبيّ
بن كعب وغير واحد:وهي نظير قلب المؤمن. (
الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ ) :قرأ
بعضهم بضم الدال من غير همزة، من الدّر، أي:كأنها كوكب من دُرّ.
وقرأ
آخرون: « دِرّيء » و «
دُرِّيء » بكسر الدال وضمها مع الهمز، من الدَرْء وهو الدفع؛ وذلك أن
النجم إذا رُمي به يكون أشدّ استنارة من سائر الأحوال، والعرب تسمي ما لا يعرف من
الكواكب دراريّ.
قال أبيّ
بن كعب:كوكب مضيء. وقال قتادة:مضيء مبين ضخم. (
يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ )
أي:يستمد من زيت زيتون شجرة مباركة (
زيتونة ) بدل أو عطف بيان ( لا
شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ ) أي:ليست في شرقي بقعتها فلا
تصل إليها الشمس من أول النهار، ولا في غربيها فيتقلّص عنها الفيء قبل الغروب، بل
هي في مكان وسط، تَفْرَعه الشمس من أول النهار إلى آخره، فيجيء زيتها معتدلا صافيا
مشرقا.
وقال ابن
أبي حاتم:حدثنا محمد بن عمار قال:حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن سعد، أخبرنا
عمرو بن أبي قيس، عن سِمَاك بن حرب، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس في قوله: (
زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ )
قال:شجرة بالصحراء، لا يظلها جبل ولا شجر ولا كهف، ولا يواريها شيء، وهو أجود
لزيتها.
وقال
يحيى بن سعيد القَطَّان، عن عمران بن حُدَيْر، عن عكرمة، في قوله: ( لا
شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ ) قال:هي بصحراء، وذلك أصفى
لزينتها.
وقال ابن
أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا أبو نُعَيْم، حدثنا عُمَر بن فَرُّوخ، عن حبيب بن
الزبير، عن عكرمة - وسأله رجل عن: (
زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ ) قال
تلك [ زيتونة ] بأرض
فلاة، إذا أشرقت الشمس أشرقت عليها، وإذا غربت غربت عليها فذاك أصفى ما يكون من
الزيت.
وقال
مجاهد في قوله: ( [
زَيْتُونَةٍ ] لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ )
قال:ليست بشرقية، لا تصيبها الشمس إذا غربت، ولا غربية لا تصيبها الشمس إذا طلعت،
[ ولكنها شرقية وغربية، تصيبها إذا طلعت ] وإذا
غربت.
وقال
سعيد بن جُبَيْر في قوله ( زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ
وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ ) قال:هو
أجود الزيت. قال:إذا طلعت الشمس أصابتها من صوب المشرق، فإذا أخذت في الغروب
أصابتها الشمس، فالشمس تصيبها بالغداة والعَشِيّ، فتلك لا تعد شرقية ولا غربية.
وقال
السدي [ في ] قوله: (
زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ )
يقول:ليست بشرقية يحوزها المشرق، ولا غربية يحوزها المغرب دون المشرق، ولكنها على
رأس جبل، أو في صحراء، تصيبها الشمس النهارَ كلَّه.
وقيل:المراد
بقوله: ( زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ ) أنها
في وسط الشجر، وليست بادية للمشرق ولا للمغرب.
وقال أبو
جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أُبي بن كعب، في قول الله
تعالى: ( زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ )
قال:فهي خضراء ناعمة، لا تصيبها الشمس على أي حال كانت، لا إذا طلعت ولا إذا غربت.
قال:فكذلك هذا المؤمن، قد أجير من أن يصيبه شيء من الفتن، وقد ابتلي بها فيثبته
الله فيها، فهو بين أربع خلال:إن قال صَدَق، وإن حكم عدل، وإن ابتلي صبر، وإن أعطي
شكر، فهو في سائر الناس كالرجل الحي يمشي في قبور الأموات.
وقال ابن
أبي حاتم:حدثنا علي بن الحسين، حدثنا مُسَدَّد قال:حدثنا أبو عَوَانة، عن أبي بشر،
عن سعيد بن جبير في قوله: ( زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ
وَلا غَرْبِيَّةٍ ) قال:هي وسط الشجر، لا تصيبها
الشمس شرقا ولا غربا.
وقال
عطية العوفي: ( لا شَرْقِيَّةٍ وَلا
غَرْبِيَّةٍ ) قال:هي شجرة في موضع من الشجر، يرى ظل ثمرها في ورقها، وهذه
من الشجر لا تطلع عليها الشمس ولا تغرب.
وقال ابن
أبي حاتم:حدثنا محمد بن عمار، حدثنا عبد الرحمن الدَّشْتَكِي، حدثنا عمرو بن أبي
قيس، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، رضي الله عنهما، في قوله تعالى: ( لا
شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ ) ليست شرقية ليس فيها غرب، ولا
غربية ليس فيها شرق، ولكنها شرقية غربية.
وقال
محمد بن كعب القُرَظي: ( لا شَرْقِيَّةٍ وَلا
غَرْبِيَّةٍ ) قال:هي القبْلية.
وقال زيد
بن أسلم: ( لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ )
قال:الشام.
وقال الحسن
البصري:لو كانت هذه الشجرة في الأرض لكانت شرقية أو غربية، ولكنه مثل ضربه الله
لنوره.
وقال
الضحاك، عن ابن عباس: ( توقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ
مُبَارَكَةٍ ) قال:رجل صالح (
زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ ) قال:لا
يهودي ولا نصراني.
وأولى
هذه الأقوال القولُ الأول، وهو أنها في مستوى من الأرض، في مكان فسيح بارز ظاهر
ضاح للشمس، تَفْرعه من أول النهار إلى آخره، ليكون ذلك أصفى لزينتها وألطف، كما
قال غير واحد ممن تقدم؛ ولهذا قال: (
يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ) قال
عبد الرحمن بن زيد بن أسلم:يعني:لضوء إشراق الزيت.
وقوله: ( نُورٌ
عَلَى نُورٍ ) قال العوفي، عن ابن عباس:يعني بذلك إيمان العبد وعمله.
وقال
مجاهد، والسدي:يعني نور النار ونور الزيت.
وقال أبي
بن كعب: ( نُورٌ عَلَى نُورٍ ) فهو
يتقلب في خمسة من النور، فكلامه نور، وعمله نور، ومدخله نور، ومخرجه نور، ومصيره
إلى النور يوم القيامة إلى الجنة.
وقال
شِمْر بن عَطية:جاء ابن عباس إلى كعب الأحبار فقال:حدثني عن قول الله: (
يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ )
قال:يكاد محمد يبين للناس، وإن لم يتكلم، أنه نبي، كما يكاد ذلك الزيت أن يضيء.
وقال
السُّدِّي في قوله: ( نُورٌ عَلَى نُورٍ )
قال:نور النار ونور الزيت، حين اجتمعا أضاءا، ولا يضيء واحد بغير صاحبه [
كذلك نور القرآن ونور الإيمان حين اجتمعا، فلا يكون واحد منهما إلا بصاحبه ]
وقوله: (
يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ )
أي:يرشد الله إلى هدايته من يختاره، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد:
حدثنا
معاوية بن عمرو، حدثنا إبراهيم بن محمد الفزاري، حدثنا الأوزاعي، حدثني ربيعة بن
يزيد، عن عبد الله [ بن ]
الديلمي، عن عبد الله بن عمرو، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إن
الله خلق خلقه في ظلمة، ثم ألقى عليهم من نوره يومئذ، فمن أصاب يومئذ من نوره
اهتدى، ومن أخطأه ضل. فلذلك أقول:جفَّ القلم على علم الله عز وجل »
طريق
أخرى عنه:قال البزار:حدثنا أيوب بن سُوَيْد، عن يحيى بن أبي عمرو الشَّيباني، عن
أبيه، عن عبد الله بن عمر:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إن
الله خلق خلقه في ظلمة، فألقى عليهم نورًا من نوره، فمن أصابه من ذلك النور اهتدى،
ومن أخطأه ضل » . [
ورواه البزار، عن عبد الله بن عمرو من طريق آخر، بلفظه وحروفه ] .
وقوله
تعالى: ( وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) لما ذكر تعالى هذا مثلا لنور
هداه في قلب المؤمن، ختم الآية بقوله: (
وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) أي:هو
أعلم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الإضلال.
قال
الإمام أحمد:حدثنا أبو النضر:حدثنا أبو معاوية - يعني شيبان - ، عن ليث، عن عمرو
بن مُرَّة، عن أبي البَخْتَري، عن أبي سعيد الخدري قال:قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: « القلوب أربعة:قلب أجرد فيه مثل السراج يُزهرُ، وقلب أغلف
مربوط على غلافه، وقلب منكوس، وقلب مُصْفَح:فأما القلب الأجرد فقلب المؤمن، سراجه
فيه نوره. وأما القلب الأغلف فقلب الكافر. وأما القلب المنكوس فقلب [
المنافق ] عَرَفَ ثم أنكر. وأما القلب المُصْفَح فقلب فيه إيمان
ونفاق، ومثل الإيمان فيه كمثل البقلة يَمُدّها الماء الطيب، ومثل النفاق فيه كمثل
القُرحة يَمُدَّها القيح والدم، فأي المدتين غلبت على الأخرى غلبت عليه » .
إسناده جيد ولم يخرجوه.
فِي
بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ
فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ ( 36 )
لما ضرب الله تعالى [ مثل
] قلب المؤمن، وما فيه من الهدى والعلم، بالمصباح في الزجاجة
الصافية المتوقّد من زيت طيب، وذلك كالقنديل، ذكر محلها وهي المساجد، التي هي أحب
البقاع إلى الله تعالى من الأرض، وهي بيوته التي يعبد فيها ويُوَحّد، فقال: ( فِي
بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ ) أي:أمر
الله تعالى برفعها، أي:بتطهيرها من الدنس واللغو، والأفعال والأقوال التي لا تليق
فيها، كما قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في هذه الآية الكريمة: ( فِي
بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ )
قال:نهى الله سبحانه عن اللغو فيها. وكذا قال عكرمة، وأبو صالح، والضحاك، ونافع بن
جبير، وأبو بكر بن سليمان بن أبي حَثْمة وسفيان بن حسين، وغيرهم من علماء
المفسرين.
وقال قتادة:هي هذه المساجد، أمر
الله، سبحانه، ببنائها ورفعها، وأمر بعمارتها وتطهيرها. وقد ذكر لنا أن كعبًا كان
يقول:إن في التوراة مكتوبًا: « ألا إن بيوتي في الأرض
المساجد، وإنه من توضأ فأحسن وضوءه، ثم زارني في بيتي أكرمته، وحَقّ على المَزُور
كرامةُ الزائر » . رواه عبد الرحمن بن أبي حاتم
في تفسيره.
وقد وردت أحاديث كثيرة في بناء
المساجد، واحترامها وتوقيرها، وتطييبها وتبخيرها. وذلك له محل مفرد يذكر فيه، وقد
كتبت في ذلك جزءًا على حدَة، ولله الحمد والمنة. ونحن بعون الله تعالى نذكر هاهنا
طرفا من ذلك، إن شاء الله تعالى، وبه الثقة وعليه التكلان:
فعن أمير المؤمنين عثمان بن
عفان، رضي الله عنه، قال:سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « من بنى
مسجدا يبتغي به وجه الله، بنى الله له مثله في الجنة » .
أخرجاه في الصحيحين .
وروى ابن ماجه، عن عمر بن
الخطاب، رضي الله عنه، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من بنى
مسجدا يذكر فيه اسم الله، بنى الله له بيتا في الجنة » .
وللنسائي عن عمرو بن عَبَسَة
مثله . والأحاديث في هذا كثيرة جدا.
وعن عائشة رضي الله عنها،
قالت:أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور، وأن تنظف وتطيب .
رواه أحمد وأهل السنن إلا النسائي. ولأحمد وأبي داود، عن سَمُرة بن جُنْدب نحوه.
وقال البخاري:قال عمر:ابن للناس
ما يكنهم، وإياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس .
وروى ابن ماجه عنه قال:قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: « ما ساء عملُ قوم قطّ إلا
زخرفوا مساجدهم » . وفي إسناده ضعف.
وروى أبو داود عن ابن عباس رضي
الله عنهما، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما
أمِرْتُ بتشييد المساجد » . قال ابن عباس:لَتُزَخرفُنّها
كما زَخْرَفت اليهود والنصارى
وعن أنس رضي الله عنه، قال:قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا تقوم الساعة حتى يتباهى
الناس في المساجد » . رواه الإمام أحمد وأهل السنن
إلا الترمذي
وعن بُرَيْدَةَ أن رَجُلا أنشدَ
في المسجد، فقال:من دعا إلى الجمل الأحمر؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « لا
وجدت، إنما بُنِيت المساجد لما بنيت له » . رواه
مسلم.
وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن
جده قال:نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن البيع والابتياع، وعن تناشد الأشعار
في المساجد. رواه أحمد وأهل السنن ، وقال الترمذي:حسن.
وعن أبي هريرة، رضي الله عنه،
أن رسول الله صلى الله عليه سلم:قال: « إذا
رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد، فقولوا:لا أربح الله تجارتك. وإذا رأيتم من
يَنشُد ضالة في المسجد، فقولوا:لا رَدَّ الله عليك » . رواه
الترمذي، وقال:حسن غريب.
وقد روى ابن ماجه وغيره، من
حديث ابن عمر مرفوعًا، قال: « خصال لا تنبغي في المسجد:لا
يُتَّخذُ طريقًا، ولا يُشْهَرُ فيه سلاح، ولا يُنبَض فيه بقوس، ولا ينثر فيه نبل،
ولا يُمرّ فيه بلحم نِيء:ولا يُضرَبُ فيه حَدٌّ، ولا يُقْتَص فيه من أحد، ولا
يُتَّخذ سوقًا » .
وعن واثلة بن الأسقع، عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال: « جَنِّبوا المساجد صبيانكم
ومجانينكم، وشراءكم وبيعكم، وخصوماتكم ورفع أصواتكم، وإقامة حدودكم وسل سيوفكم،
واتخذوا على أبوابها المطاهر، وجَمّروها في الجُمَع » .
ورواه ابن ماجه أيضًا وفي إسنادهما
ضعف.
أما أنه « لا
يتخذ طريقًا » فقد كره بعض العلماء المرور فيه إلا لحاجة إذا وَجَد مندوحة
عنه. وفي الأثر: « إن الملائكة لتتعجب من الرجل
يمر بالمسجد لا يصلي فيه » .
وأما أنه « لا
يشهر فيه بسلاح . ولا ينبض فيه بقوس، ولا ينثر فيه نبل » . فلما
يخشى من إصابة بعض الناس به، لكثرة المصلين فيه؛ ولهذا أمر رسول الله صلى الله
عليه وسلم إذا مر أحد بسهام أن يقبض على نصالها؛ لئلا يؤذي أحدًا، كما ثبت في
الصحيح .
وأما النهي عن المرور باللحم
النيء فيه، فَلِما يخشى من تقاطر الدم منه، كما نهيت الحائض عن المرور فيه إذا
خافت التلويث.
وأما أنه « لا
يضرب فيه حد ولا يقتص » ، فلما يخشى من إيجاد نجاسة
فيه من المضروب أو المقطوع.
وأما أنه « لا
يتخذ سوقًا » ، فلما تقدم من النهي عن البيع والشراء فيه، فإنه إنما بني
لذكر الله والصلاة كما قال النبي عليه الصلاة والسلام، لذلك الأعرابي الذي بال في
طائفة المسجد: « إن المساجد لم تبن لهذا، إنما
بنيت لذكر الله والصلاة فيها » . ثم أمر بسَجْل من ماء،
فأهريق على بوله .
وفي الحديث الثاني: «
جَنِّبوا مساجدكم صبيانكم » ، وذلك لأنهم يلعبون فيه ولا يناسبهم،
وقد كان عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، إذا رأى صبيانًا يلعبون في المسجد ، ضربهم
بالمِخْفَقَة - وهي الدِّرَّة - وكان يَعُسّ المسجد بعد العشاء، فلا يترك فيه
أحدًا.
« ومجانينكم »
يعني:لأجل ضعف عقولهم، وسَخْر الناس بهم، فيؤدي إلى اللعب فيها، ولما يخشى من
تقذيرهم المسجد، ونحو ذلك.
« وبيعكم وشراءكم » كما
تقدم.
« وخصوماتكم »
يعني:التحاكم والحكم فيه؛ ولهذا نص كثير من العلماء على أن الحاكم لا ينتصب لفصل
الأقضية في المسجد، بل يكون في موضع غيره؛ لما فيه من كثرة الحكومات والتشاجر
والعياط الذي لا يناسبه؛ ولهذا قال بعده: « ورفع
أصواتكم » .
وقال البخاري:حدثنا علي بن عبد
الله، حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا الجُعَيْد بن عبد الرحمن قال:حدثني يزيد بن
خُصَيفَة ، عن السائب بن يَزيدَ الكنْديِّ قال:كنت قائمًا في المسجد، فحصبني رجل،
فنظرت فإذا عمر بن الخطاب، فقال:اذهب فأتني بهذين. فجئته بهما، فقال:من أنتما؟
أو:من أين أنتما؟ قالا من أهل الطائف. قال:لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما:ترفعان
أصواتكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقال النسائي:حدثنا سُوَيْد بن
نصر، عن عبد الله بن المبارك، عن شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن أبيه إبراهيم بن عبد
الرحمن بن عوف قال:سمع عمر صوت رجل في المسجد فقال:أتدري أين أنت؟ وهذا أيضًا
صحيح.
وقوله: « وإقامة
حدودكم، وسل سيوفكم » :تقدما.
وقوله: «
واتخذوا على أبوابها المطاهر » يعني:المراحيض التي يستعان بها
على الوضوء وقضاء الحاجة. وقد كانت قريبًا من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم
آبار يستقون منها، فيشربون ويتطهرون، ويتوضؤون وغير ذلك.
وقوله: «
وجمِّروها في الجُمَع » يعني:بخروها في أيام الجُمَع
لكثرة اجتماع الناس يومئذ.
وقد قال الحافظ أبو يعلى
الموصلي:حدثنا عبيد الله، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن عبد الله بن عمر، عن نافع
عن ابن عمر؛ أن عمر كان يُجَمِّر مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم كل جمعة.
إسناده حسن لا بأس به والله أعلم.
وقد ثبت في الصحيحين عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « صلاة
الرجل في الجماعة تُضَعَّف على صلاته في بيته وفي سوقه، خمسًا وعشرين ضعفًا. وذلك
أنه إذا توضأ فأحسن وضوءه ثم خرج إلى المسجد، لا يخرجه إلا الصلاة، لم يَخطُ خَطوة
إلا رُفع له بها درجة، وحطّ عنه بها خطيئة، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما
دام في مُصَلاه:اللهم صل عليه، اللهم ارحمه، ولا يزال في صلاة ما انتظر الصلاة »
وعند الدارقطني مرفوعًا: « لا
صلاة لجار المسجد إلا في المسجد » .
وفي السنن: « بشِّر
المشائين إلى المساجد في الظلم بالنور التام يوم القيامة » .
والمستحب لمن دخل المسجد أن
يبدأ برجله اليمنى، وأن يقول كما ثبت في صحيح البخاري عن عبد الله بن عَمرو رضي
الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا دخل المسجد قال: أعوذ بالله
العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم، من الشيطان الرجيم « [
قال:أقط؟ قال:نعم ] . قال:فإذا قال ذلك قال
الشيطان:حُفظ مني سائر اليوم . »
وروى مسلم بسنده عن أبي حميد -
أو:أبي أسَيْد - قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إذا
دخل أحدكم المسجد فليقل:اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج فليقل:اللهم إني
أسألك من فضلك » .
ورواه النسائي عنهما، عن النبي
صلى الله عليه وسلم [ مثله ] .
وعن أبي هريرة، رضي الله عنه،
قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إذا
دخل أحدكم المسجد، فليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وليقل:اللهم افتح لي أبواب
رحمتك. وإذا خرج فليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وليقل:اللهم اعصمني من
الشيطان الرجيم » .
ورواه ابن ماجه، وابن خزيمة
وابن حِبَّان في صحيحيهما .
وقال الإمام أحمد:حدثنا إسماعيل
بن إبراهيم، حدثنا لَيْث بن أبي سليم، عن عبد الله بن حسن . عن أمه فاطمة بنت
حسين، عن جدتها فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت:كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم إذا دخل المسجد صلى على محمد وسلم، ثم قال: « اللهم،
اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك » . وإذا
خرج صلى على محمد وسلم ثم قال: « اللهم، اغفر لي ذنوبي، وافتح
لي أبواب فضلك » .
ورواه الترمذي وابن ماجه ، وقال
الترمذي:هذا حديث حسن وإسناده ليس بمتصل؛ لأن فاطمة بنت الحسين الصغرى لم تدرك
فاطمة الكبرى.
فهذا الذي ذكرناه، مع ما تركناه
من الأحاديث الواردة في ذلك لحال الطول . كله داخل في قوله تعالى: ( فِي
بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ ) .
وقوله: (
وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ) أي:اسم الله، كقوله: يَا
بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [
الأعراف:31 ] ، وقوله وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ
وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [
الأعراف:29 ] ، وقوله وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ
اللَّهِ أَحَدًا [ الجن:18 ] .
قال ابن عباس: (
وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ) يعني:يتلى فيها كتابه.
وقوله: (
يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ ) أي:في
البُكَرات والعَشِيَّات. والآصال:جمع أصيل، وهو آخر النهار.
وقال سعيد بن جُبَير، عن ابن
عباس:كل تسبيح في القرآن هو الصلاة.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن
عباس:يعني بالغدو:صلاة الغداة، ويعني بالآصال:صلاة العصر، وهما أول ما افترض الله
من الصلاة، فأحب أن يَذْكُرهما وأن يُذَكِّر بهما عباده.
وكذا قال الحسن، والضحاك: (
يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ )
يعني:الصلاة.
ومن قرأ من القَرَأَة (
يُسَبَّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ ) - بفتح
الباء من « يُسبح » على أنه مبني لما لم يسم فاعله
- وقف على قوله: ( والآصَال ) وقفًا
تامًا، وابتدأ بقوله: ( رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ
تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ) وكأنه
مفسر للفاعل المحذوف، كما قال الشاعر .
لِيُبْــكَ يزيــدُ, ضـارعٌ لخُصُومـة
ومُخْــتَبطٌ ممــا تُطيـح الطّـوَائحُ
كأنه قال:من يبكيه؟ قال:هذا
يبكيه. وكأنه قيل:من يسبح له فيها؟ قال:رجال .
وأما على قراءة مَنْ قرأ: (
يسبِّح ) - بكسر الباء - فجعله فعلا وفاعله: (
رِجَال ) فلا يحسن الوقف إلا على الفاعل؛ لأنه تمام الكلام.
رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ
اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا
تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ ( 37 )
لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ
وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ( 38 )
فقوله: (
رِجَال ) فيه
إشعار بهممهم السامية، ونياتهم وعزائمهم العالية، التي بها صاروا عُمَّارا
للمساجد، التي هي بيوت الله في أرضه، ومواطن عبادته وشكره، وتوحيده وتنـزيهه، كما
قال تعالى: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ
[
الأحزاب:23 ] .
فأما النساء فَصَلاتهن في بيوتهن أفضل لهن؛ لما رواه أبو
داود، عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « صلاة المرأة في بيتها أفضل من
صلاتها في حجرتها، وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها » .
وقال الإمام أحمد:حدثنا يحيى بن غَيْلان، حدثنا رِشْدِين،
حدثني عمرو، عن أبي السمح، عن السائب مولى أم سلمة عن أم سلمة - رضي الله عنها، -
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « خير مساجد النساء [ قعر ] بيوتهن
» .
وقال الإمام أحمد أيضًا:حدثنا هارون، أخبرني عبد الله بن وهب،
حدثنا داود بن قيس، عن عبد الله بن سُوَيد الأنصاري، عن عمته أم حميد - امرأة أبي
حميد الساعدي - أنها جاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت:يا رسول الله، إني أحب
الصلاة معك قال: « قد
علمت أنك تحبين الصلاة معي، وصلاتك في بيتك خير من صلاتك في حجرتك، وصلاتك في
حُجْرَتك خير من صلاتك في دارك، وصلاتك في دارك خير من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتك
في مسجد قومك خير من صلاتك في مسجدي » . قال:فأمَرَت فبُني لها مسجد في أقصى بيت من بيوتها وأظلمه
، فكانت تصلي فيه حتى لقيت الله، عز وجل. لم يخرجوه.
هذا ويجوز لها شهود جماعة الرجال، بشرط أن لا تؤذي أحدًا من
الرجال بظهور زينة ولا ريح طيب كما ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن عُمَر أنه
قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا تمنعوا إماء الله مساجد الله » .
رواه البخاري ومسلم، ولأحمد وأبي داود: « وبيوتهن خير لهن » وفي رواية: « وليخرجن وهن تَفِلات » أي:لا ريح لهن.
وقد ثبت في صحيح مسلم، عن زينب - امرأة ابن مسعود - قالت:قال
لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمس طيبًا » .
وفي الصحيحين عن عائشة، رضي الله عنها، أنها قالت:كان نساء
المؤمنين يشهدن الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يرجعن متلفعات
بمُرُوطهن، ما يُعْرَفْن من الغَلَس .
وفي الصحيحين أيضًا عنها أنها قالت:لو أدرك رسول الله صلى
الله عليه وسلم ما أحدث النساء لمنعهُنّ المساجد، كما مُنعت نساء بني إسرائيل .
وقوله: (
رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ) ، كقوله يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ
اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [ المنافقون:9 ] ، وقال تعالى يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا
إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ [
الجمعة:9 ]
يقول تعالى:لا تشغلهم الدنيا وزخرفها وزينتها ومَلاذ بَيعها
وريحها، عن ذكر ربهم الذي هو خالقهم ورازقهم، والذين يعلمون أن الذي عنده هو خير
لهم وأنفع مما بأيديهم؛ لأن ما عندهم ينفد وما عند الله باق؛ ولهذا قال: ( لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ
وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ) أي:يقدمون طاعته ومُرَاده
ومحبته على مرادهم ومحبتهم.
قال هُشَيْم:عن سَيَّار : [ قال ]
حُدِّثت عن ابن مسعود أنه رأى قومًا من أهل السوق، حيث نودي بالصلاة، تركوا
بياعاتهم ونهضوا إلى الصلاة، فقال عبد الله:هؤلاء من الذين ذكر الله في كتابه: ( رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ
تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ) .
وهكذا روى عَمْرو بن دينار القَهْرَمَانيّ، عن سالم، عن عبد
الله بن عمر، رضي الله عنهما، أنه كان في السوق فأقيمت الصلاة، فأغلقوا حوانيتهم
ودخلوا المسجد، فقال ابن عمر:فيهم نـزلت: ( رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ
اللَّهِ ) . رواه
ابن أبي حاتم، وابن جرير .
وقال ابن أبي حاتم:حدثنا محمد بن عبد الله بن بكر الصنعاني،
حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم حدثنا عبد الله بن بُجَيْر، حدثنا أبو عبد رب قال:قال
أبو الدرداء، رضي الله عنه:إني قمت على هذا الدرج أبايع عليه، أربح كل يوم
ثلاثمائة دينار، أشهد الصلاة في كل يوم في المسجد، أما إني لا أقول: « إن ذلك ليس بحلال » ولكني أحب أن أكون من الذين
قال الله: (
رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ) .
وقال عمرو بن دينار الأعور:كنت مع سالم بن عبد الله ونحن نريد
المسجد، فمررنا بسوق المدينة وقد قاموا إلى الصلاة وخَمَّرُوا متاعهم، فنظر سالم
إلى أمتعتهم ليس معها أحد، فتلا سالم هذه الآية: ( رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ
اللَّهِ ) ثم
قال:هم هؤلاء.
وكذا قال سعيد بن أبي الحسن، والضحاك:لا تلهيهم التجارة
والبيع أن يأتوا الصلاة في وقتها.
وقال مطر الوَرَّاق:كانوا يبيعون ويشترون، ولكن كان أحدهم إذا
سمع النداء وميزانُه في يده خفضه، وأقبل إلى الصلاة.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس ( لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ
وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ )
يقول:عن الصلاة المكتوبة. وكذا قال الربيع بن أنس ومقاتل بن حيان.
وقال السُّدِّي:عن الصلاة في جماعة.
وعن مقاتل بن حيان:لا يلهيهم ذلك عن حضور الصلاة، وأن يقيموها
كما أمرهم الله، وأن يحافظوا على مواقيتها، وما استحفظهم الله فيها.
وقوله: (
يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأبْصَارُ ) أي:يوم القيامة الذي تتقلب
فيه القلوب والأبصار، أي:من شدة الفزع وعظمة الأهوال، كما قال تعالى
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ [ غافر:18 ] ، وقال تعالى: إِنَّمَا
يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ [ إبراهيم:42 ] ، وقال تعالى: وَيُطْعِمُونَ
الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا
نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا *
إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقَاهُمُ
اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا * وَجَزَاهُمْ
بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا [ الإنسان:8- 12 ] .
وقال هاهنا (
لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا ) أي:هؤلاء من الذين يتقبل عنهم أحسن ما عملوا ويتجاوز عن
سيئاتهم.
وقوله: (
وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ )
أي:يتقبل منهم الحسن ويضاعفه لهم، كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ
مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ
أَجْرًا عَظِيمًا [
النساء:40 ] ، وقال
تعالى: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا [ الأنعام:160 ] ، وقال مَنْ ذَا الَّذِي
يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً [ البقرة:245 ] ، وقال وَاللَّهُ يُضَاعِفُ
لِمَنْ يَشَاءُ [
البقرة:261 ] كما
قال هاهنا: (
وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) .
وعن ابن مسعود:أنه جيء بلبن فعرضه على جلسائه واحدًا واحدًا،
فكلهم لم يشربه لأنه كان صائمًا، فتناوله ابن مسعود وكان مفطرًا فشربه، ثم تلا
قوله تعالى (
يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأبْصَارُ ) ، رواه النسائي، وابن أبي
حاتم، من حديث الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عنه .
وقال [ ابن
أبي حاتم ]
أيضًا:حدثنا أبي، حدثنا سُوَيْد بن سعيد، حدثنا علي بن مُسْهِر عن عبد الرحمن بن
إسحاق، عن شهر بن حَوْشَب عن أسماء بنت يزيد قالت:قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: « إذا
جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة، جاء مناد فنادى بصوت يُسمع الخلائق:سيعلم
أهلُ الجمع من أولى بالكرم، ليقم الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله.
فيقومون، وهم قليل، ثم يحاسب سائر الخلائق » .
وروى الطبراني، من حديث بَقيَّة، عن إسماعيل بن عبد الله
الكندي، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم في
قوله: لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ [ فاطر:30 ] قال: أُجُورَهُمْ يدخلهم
الجنة وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ، الشفاعة لمن وجبت له الشفاعة، لمن صنع لهم
المعروف في الدنيا .
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ
يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ
اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ( 39 ) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي
بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ
ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا
وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ( 40 )
هذان مثلان ضربهما الله تعالى لنوعي الكفار، كما ضرب
للمنافقين في أول « البقرة
» مثلين
ناريًا ومائيًا، وكما ضرب لما يقر في القلوب من الهدى والعلم في سورة « الرعد » مثلين مائيًا وناريًا، وقد
تكلمنا على كل منها في موضعه بما أغنى عن إعادته، ولله الحمد والمنة.
فأما الأول من هذين المثلين:فهو للكفار الدعاة إلى كفرهم،
الذين يحسبون أنهم على شيء من الأعمال والاعتقادات، وليسوا في نفس الأمر على شيء،
فمثلهم في ذلك كالسراب الذي يرى في القيعان من الأرض عن بعد كأنه بحر طام .
والقيعة:جمع قاع، كجار وجيرَةٍ. والقاع أيضًا:واحد القيعان، كما يقال:جار وجيران.
وهي:الأرض المستوية المتسعة المنبسطة، وفيه يكون السراب، وإنما يكون ذلك بعد نصف
النهار. وأما الآل فإنما يكون أول النهار، يرى كأنه ماء بين السماء والأرض، فإذا
رأى السراب من هو محتاج إلى الماء، حسبه ماءً فقصده ليشرب منه، فلما انتهى إليه ( لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا ) ، فكذلك الكافر يحسب أنه قد
عمل عملا وأنه قد حَصَّل شيئًا، فإذا وافى الله يوم القيامة وحاسبه عليها، ونوقش
على أفعاله، لم يجد له شيئًا بالكلية قد قُبل، إما لعدم الإخلاص، وإما لعدم سلوك
الشرع، كما قال تعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ
هَبَاءً مَنْثُورًا [
الفرقان:23 ] .
وقال هاهنا: ( وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ
سَرِيعُ الْحِسَابِ ) . وهكذا
رُوي عن أُبي بن كعب، وابن عباس، ومجاهد، وقتادة وغير واحد.
وفي الصحيحين :أنه يقال يوم القيامة لليهود:ما كنتم تعبدون؟
فيقولون:كنا نعبد عُزَيْر ابن الله. فيقال:كذبتم، ما اتخذ الله من ولد، ماذا
تبغون؟ فيقولون:أي رَبَّنَا، عَطشنا فاسقنا. فيقال:ألا ترون؟ فتمثل لهم النار
كأنها سراب يحطم بعضها بعضًا، فينطلقون فيتهافتون فيها .
وهذا المثال مثال لذوي الجهل المركب. فأما أصحاب الجهل
البسيط، وهم الطَّماطم الأغشام المقلدون لأئمة الكفر، الصم البكم الذين لا يعقلون،
فمثلهم كما قال تعالى: ( أَوْ
كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ ) :قال
قتادة:وهو العميق. (
يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا
فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا ) أي:لم يقارب رؤيتها من شدة
الظلام، فهذا مثل قلب الكافر الجاهل البسيط المقلد الذي لا يدري أين يذهب، ولا [ هو ] يعرف حال من يقوده، بل كما
يقال في المثل للجاهل:أين تذهب؟ قال:معهم. قيل:فإلى أين يذهبون؟ قال:لا أدري.
وقال العوفي، عن ابن عباس، رضي الله عنهما: ( يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ
فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ) يعني بذلك:الغشاوة التي على القلب والسمع والبصر، وهي
كقوله: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى
أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [ البقرة:7 ] ، وكقوله : أَفَرَأَيْتَ مَنِ
اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى
سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ
بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [ الجاثية:23 ] .
وقال أُبيّ بن كعب في قوله: ( ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ ) فهو يتقلب في خمسة من
الظلم:كلامه ظلمة، وعمله ظلمة، ومدخله ظلمة، ومخرجه ظلمة، ومصيره يوم القيامة إلى
الظلمات، إلى النار.
وقال الربيع بن أنس، والسُّدِّي نحو ذلك أيضًا.
وقوله: (
وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ) أي:من لم يهده الله فهو هالك
جاهل حائر بائر كافر، كما قال تعالى: مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ [ الأعراف:186 ] وهذا [ في ] مُقابلة ما قال في مثل
المؤمنين: (
يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ) فنسأل الله العظيم أن يجعل في قلوبنا نورًا، وعن أيماننا
نورًا، وعن شمائلنا نورًا، وأن يعظم لنا نورًا.
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ
وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ( 41 ) وَلِلَّهِ مُلْكُ
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ( 42 )
يخبر تعالى أنه يُسَبِّحه من في السماوات والأرض، أي:من
الملائكة والأناسي، والجان والحيوان، حتى الجماد، كما قال تعالى: تُسَبِّحُ لَهُ
السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا
يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ
حَلِيمًا غَفُورًا [
الإسراء:44 ] .
وقوله: (
وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ ) أي:في
حال طيرانها تسبح ربها وتعبده بتسبيح ألهمها وأرشدها إليه، وهو يعلم ما هي فاعلة؛
ولهذا قال: ( كُلٌّ
قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ) أي:كل قد أرشده إلى طريقته ومسلكه في عبادة الله، عز وجل.
ثم أخبر أنه عالم بجميع ذلك، لا يخفى عليه من ذلك شيء؛ ولهذا
قال: (
وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ) .
ثم أخبر تعالى:أن له ملك السماوات والأرض، فهو الحاكم المتصرف
الذي لا معقب لحكمه، وهو الإله المعبود الذي لا تنبغي العبادة إلا له. ( وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ) أي:يوم القيامة، فيحكم فيه
بما يشاء؛ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ
أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [
النجم:31 ] ، فهو
الخالق المالك، ألا له الحكم في الدنيا والأخرى، وله الحمد في الأولى والآخرة؟!.
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ
يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ
خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ
بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ
يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ ( 43 )
يذكر
تعالى أنه بقدرته يسوق السحاب أول ما ينشئها وهي ضعيفة، وهو الإزجاء ( ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ) أي:يجمعه بعد تفرقه، ( ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا ) أي:متراكمًا، أي:يركب بعضه
بعضًا ، (
فَتَرَى الْوَدْقَ ) أي
المطر (
يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ ) أي:من
خَلَله. وكذا قرأها ابن عباس والضحاك.
قال عبيد
بن عمير الليثي:يبعث الله المثيرة فَتَقُمّ الأرض قمًا، ثم يبعث الله الناشئة فتنشئ
السحاب، ثم يبعث الله المؤلفة فتؤلف بينه، ثم يبعث [ الله ] اللواقح فتلقح السحاب. رواه
ابن أبي حاتم، وابن جرير، رحمهما الله.
وقوله: ( وَيُنـزلُ مِنَ السَّمَاءِ
مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ ) :قال
بعض النحاة: « من » الأولى:لابتداء الغاية،
والثانية:للتبعيض، والثالثة:لبيان الجنس. وهذا إنما يجيء على قول من ذهب من
المفسرين إلى أن قوله: ( مِنْ
جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ )
ومعناه:أن في السماء جبالَ بَرَد ينـزل الله منها البرد. وأما من جعل الجبال هاهنا
عبارة عن السحاب، فإن « من » الثانية عند هذا لابتداء الغاية
أيضا، لكنها بَدَل من الأولى، والله أعلم.
وقوله: ( فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ
وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ ) يحتمل
أن يكون المراد بقوله: (
فَيُصِيبُ بِهِ ) أي:بما
ينـزل من السماء من نوعي البرد والمطر فيكون قوله: ( فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ
) رحمة لهم،
(
وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ )
أي:يؤخر عنهم الغيث.
ويحتمل
أن يكون المراد بقوله: (
فَيُصِيبُ بِهِ )
أي:بالبرد نقمة على من يشاء لما فيه من نثر ثمارهم وإتلاف زروعهم وأشجارهم. ويصرفه
عمن يشاء [ أي:
] رحمة
بهم.
وقوله: ( يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ
يَذْهَبُ بِالأبْصَارِ )
أي:يكاد ضوء برقه من شدته يخطف الأبصار إذا اتبعته وتراءته.
يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ
لَعِبْرَةً لأُولِي الأَبْصَارِ ( 44 )
وقوله (
يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ) أي:يتصرف فيهما، فيأخذ من طول هذا في قصر هذا حتى يعتدلا ثم
يأخذ من هذا في هذا، فيطول الذي كان قصيرًا، ويقصر الذي كان طويلا. والله هو
المتصرف في ذلك بأمره وقهره وعزته وعلمه.
( إِنَّ
فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأولِي الأبْصَارِ ) أي:لدليلا على عظمته تعالى، كما قال الله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي
الأَلْبَابِ [ آل
عمران:190 ] . وما
بعدها من الآيات الكريمات.
وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ
مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ
مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 45 ) .
يذكر تعالى قدرته التامة وسلطانه العظيم، في خلقه أنواع [ المخلوقات ] . على اختلاف أشكالها
وألوانها، وحركاتها وسكناتها، من ماء واحد، ( فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ ) كالحية وما شاكلها، ( وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي
عَلَى رِجْلَيْنِ )
كالإنسان والطير، (
وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ ) كالأنعام وسائر الحيوانات؛ ولهذا قال: ( يَخْلُقُ اللَّهُ مَا
يَشَاءُ )
أي:بقدرته؛ لأنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن؛ ولهذا قال: ( إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ ) .
لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي
مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ( 46 ) .
يقرر تعالى أنه أنـزل في هذا القرآن من الحكم والأمثال البينة
المحكمة، كثيرًا جدًا، وأنه يرشد إلى تفهمها وتعقلها أولي الألباب والبصائر
والنهى؛ ولهذا قال: (
وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ )
وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا
ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ
بِالْمُؤْمِنِينَ ( 47 ) وَإِذَا دُعُوا إِلَى
اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ ( 48 ) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ
الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ ( 49 )
أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( 50 ) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ
الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ
أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( 51 ) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ( 52 )
يخبر تعالى عن صفات المنافقين، الذين يظهرون خلاف ما يبطنون،
يقولون قولا بألسنتهم: (
آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ
مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ )
أي:يخالفون أقوالهم بأعمالهم، فيقولون ما لا يفعلون؛ ولهذا قال تعالى: ( وَمَا أُولَئِكَ
بِالْمُؤْمِنِينَ ) .
وقوله: (
وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ
مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ ) أي:إذا
طلبوا إلى اتباع الهدى، فيما أنـزل الله على رسوله، أعرضوا عنه واستكبروا في
أنفسهم عن اتباعه. وهذه كقوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ
آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا
إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ
أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا
أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ
صُدُودًا [
النساء:60 ، 61 ] .
وفي الطبراني من حديث روح بن عطاء بن أبي ميمونة، عن أبيه، عن
الحسن، عن سَمُرَة مرفوعًا: « من
دُعي إلى سلطان فلم يجب، فهو ظالم لا حق له » .
وقوله: (
وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ ) ، أي:وإذا كانت الحكومة لهم
لا عليهم، جاؤوا سامعين مطيعين وهو معنى قوله: ( مُذْعِنِينَ ) وإذا كانت الحكومة عليه أعرض ودعا إلى غير الحق، وأحب أن
يتحاكم إلى غير النبي صلى الله عليه وسلم ليروج باطله ثَمّ. فإذعانه أولا لم يكن
عن اعتقاد منه أن ذلك هو الحق، بل لأنه موافق لهواه؛ ولهذا لما خالف الحقّ قصده،
عدل عنه إلى غيره؛ ولهذا قال تعالى: ( أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ
أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ ) يعني:لا يخرج أمرهم عن أن يكون في القلوب مَرَض لازم لها،
أو قد عرض لها شك في الدين، أو يخافون أن يجور الله ورسوله عليهم في الحكم. وأيّا
ما كان فهو كفر محض، والله عليم بكل منهم، وما هو عليه منطو من هذه الصفات.
وقوله: ( بَلْ
أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) أي:بل
هم الظالمون الفاجرون، والله ورسوله مبرآن مما يظنون ويتوهمون من الحيف والجور،
تعالى الله ورسوله عن ذلك.
قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا
مبارك، حدثنا الحسن قال: كان الرجل إذا كان بينه وبين الرجل منازعة، فدعي إلى
النبي صلى الله عليه وسلم وهو مُحِقّ أذعن، وعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم
سيقضي له بالحق. وإذا أراد أن يظلم فدُعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم أعرض،
وقال:أنطلقُ إلى فلان. فأنـزل الله هذه الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
« من كان
بينه وبين أخيه شيء، فدُعِي إلى حَكَم من حُكَّام المسلمين فأبى أن يجيب، فهو ظالم
لا حق له » .
وهذا حديث غريب، وهو مرسل.
ثم أخبر تعالى عن صفة المؤمنين المستجيبين لله ولرسوله، الذين
لا يبغون دينا سوى كتاب الله وسنة رسوله، فقال: ( إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى
اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ) أي:سمعًا وطاعة؛ ولهذا وصفهم
تعالى بفلاح، وهو نيل المطلوب والسلامة من المرهوب، فقال: ( وَأُولَئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ ) .
وقال قتادة في هذه الآية: ( أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ) ذُكر لنا أن عُبَادة بن الصامت
- وكان عَقَبيَّا بدريا، أحد نقباء الأنصار - أنه لما حضره الموت قال لابن أخيه
جنادة بن أبي أمية:ألا أنبئك بماذا عليك وَمَاذا لك؟ قال:بلى. قال:فإن عليك السمع
والطاعة، في عسرك ويسرك، ومَنْشَطك ومكرهك، وأثرةً عليك. وعليك أن تقيم لسانك
بالعدل، وألا تنازع الأمرَ أهله، إلا أن يأمروك بمعصية الله بَوَاحا، فما أمرت به
من شيء يخالف كتاب الله، فاتبع كتاب الله.
وقال قتادة:وَذُكر لنا أن أبا الدرداء قال:لا إسلام إلا بطاعة
الله، ولا خير إلا في جماعة، والنصيحة لله ولرسوله، وللخليفة وللمؤمنين عامة.
قال:وقد ذُكر لنا أن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، كان
يقول:عُروة الإسلام شهادةُ أن لا إله إلا الله، وإقامُ الصلاة، وإيتاء الزكاة،
والطاعة لمن ولاه الله أمر المسلمين.
رواه ابن أبي حاتم، والأحاديث والآثار في وجوب الطاعة لكتاب
الله [
وسنة رسوله، وللخلفاء الراشدين، والأئمة إذا أمروا بطاعة الله ] كثيرة جدًا، أكثر من أن تحصر
في هذا المكان.
وقوله (
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ) أي:فيما أمراه به وترك ما نهياه عنه، ( وَيَخْشَ اللَّهَ ) فيما مضى من ذنوبه، ( وَيَتَقِهِ ) فيما يستقبل.
وقوله (
فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ) يعني:الذين
فازوا بكل خير، وأمنُوا من كل شر في الدنيا والآخرة .
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ
أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ
خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ( 53 )
يقول
تعالى مخبرا عن أهل النفاق، الذين كانوا يحلفون للرسول صلى الله عليه وسلم لئن
أمرهم بالخروج [ في
الغزو ] قال
الله تعالى: ( قُلْ
لا تُقْسِمُوا ) أي:لا
تحلفوا.
وقوله: ( طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ ) قيل:معناه طاعتكم طاعة
معروفة، أي:قد عُلمت طاعتكم، إنما هي قول لا فعل معه، وكلما حلفتم كذبتم، كما قال
تعالى: يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ
فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [ التوبة:96 ] ، وقال تعالى: اتَّخَذُوا
أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ [
المنافقون:2 ] ، فهم
من سجيتهم الكذب حتى فيما يختارونه، كما قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ
نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ
لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا
وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ
* لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا
يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا
يُنْصَرُونَ [
الحشر:11 ، 12 ]
وقيل:المعنى
في قوله: (
طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ )
أي:ليكن أمركم طاعة معروفة، أي:بالمعروف من غير حَلف ولا إقسام، كما يطيع الله
ورسوله المؤمنون بغير حلف، فكونوا أنتم مثلهم.
( إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا
تَعْمَلُونَ ) أي:هو
خبير بكم وبمن يطيع ممن يعصي، فالحلف وإظهار الطاعة - والباطن بخلافه، وإن راج على
المخلوق - فالخالق، تعالى، يعلم السر وأخفى، لا يروج عليه شيء من التدليس، بل هو
خبير بضمائر عباده، وإن أظهروا خلافها.
قُلْ
أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا
حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى
الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ ( 54 )
ثم قال
تعالى: ( قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ )
أي:اتبعوا كتاب الله وسنة رسوله.
وقوله: (
فَإِنْ تَوَلَّوْا ) أي:تتولوا عنه وتتركوا ما
جاءكم به، ( فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ )
أي:إبلاغ الرسالة وأداء الأمانة، (
وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ ) أي:من ذلك وتعظيمه والقيام
بمقتضاه، ( وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا ) ، وذلك
لأنه يدعو إلى صراط مستقيم صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ
وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ [
الشورى:53 ] .
وقوله: ( وَمَا
عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ ) كقوله:
فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ [
الرعد:40 ] ، وقوله فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ
عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ [ الغاشية:21 ، 22 ] .
وقال وهب
بن مُنَبِّه:أوحى الله إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل - يقال له:شعياء - أن قم في
بني إسرائيل فإني سأطلق لسانك بوحي. فقام فقال:يا سماء اسمعي، ويا أرض انصتي، فإن
الله يريد أن يقضي شأنًا ويدبر أمرًا هو منفذه، إنه يريد أن يحول الريف إلى
الفلاة، والآجام في الغيطان، والأنهار في الصحاري، والنعمة في الفقراء، والملك في
الرعاة، ويريد أن يبعث أميا من الأميين، ليس بفظ ولا غليظ ولا سَخّاب في الأسواق،
لو يمر إلى جنب السراج لم يطفئه من سكينته، ولو يمشي على القصب اليابس لم يسمع من
تحت قدميه. أبعثه مُبَشِّرا ونذيرًا، لا يقول الخنَا، أفتح به أعينا عُمْيًا،
وآذانًا صُمًّا، وقلوبا غُلْفًا، وأسَدِّده لكل أمر جميل، وأهب له كل خلق كريم،
وأجعل السكينة لباسه، والبر شعاره، والتقوى ضميره، والحكمة منطقه، والصدق والوفاء
طبيعته، والعفو والمعروف خلقه، والحق شريعته، والعدل سيرته، والهدى إمامه،
والإسلام ملته، وأحمد اسمه، أهْدِي به بعد الضلالة، وأعلِّم به من الجهالة،
وأرْفَعُ به بعد الخمَالة، وأعرف به بعد النُّكْرَة، وأكثر به بعد القلة وأغني به
بعد العَيلَة، وأجمع به بعد الفرقة، وأؤلف به بين أمم متفرقة، وقلوب مختلفة،
وأهواء متشتتة، وأستنقذ به فئامًا من الناس عظيما من الهَلَكة، وأجعل أمته خير أمة
أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، موحدين مؤمنين مخلصين، مصدقين
بما جاءت به رُسُلي. رواه ابن أبي حاتم .
وَعَدَ
اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ
مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ
كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ( 55 )
هذا وعد
من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم . بأنه سيجعل أمته خلفاء الأرض، أي:أئمةَ الناس
والولاةَ عليهم، وبهم تصلح البلاد، وتخضع لهم العباد، ولَيُبدلَنّ بعد خوفهم من
الناس أمنا وحكما فيهم، وقد فعل تبارك وتعالى ذلك. وله الحمد والمنة، فإنه لم يمت
رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى فتح الله عليه مكة وخيبر والبحرين، وسائر جزيرة
العرب وأرض اليمن بكمالها. وأخذ الجزية من مَجُوس هَجَر، ومن بعض أطراف الشام، وهاداه
هرقل ملك الروم وصاحب مصر والإسكندرية - وهو المقوقس - وملوك عمان والنجاشي ملك
الحبشة، الذي تَملَّك بعد أصْحَمة، رحمه الله وأكرمه.
ثم لما
مات رسول الله صلى الله عليه وسلم واختار الله له ما عنده من الكرامة، قام بالأمر
بعده خليفته أبو بكر الصديق، فَلَمّ شَعَث ما وَهَى عند موته، عليه الصلاة والسلام
وأطَّدَ جزيرة العرب ومهدها، وبعث الجيوش الإسلامية إلى بلاد فارس صحبة خالد بن
الوليد، رضي الله عنه، ففتحوا طرفا منها، وقتلوا خلقا من أهلها. وجيشا آخر صحبة
أبي عبيدة، رضي الله عنه، ومن معه من الأمراء إلى أرض الشام، وثالثًا صحبة عمرو بن
العاص، رضي الله عنه، إلى بلاد مصر، ففتح الله للجيش الشامي في أيامه بُصرى ودمشق
ومَخَاليفهما من بلاد حَوران وما والاها، وتوفاه الله عز وجل، واختار له ما عنده
من الكرامة. ومَنّ على الإسلام وأهله بأن ألهم الصديق أن استخلف عمر الفاروق، فقام
في الأمر بعده قياما تاما، لم يَدُر الفلك بعد الأنبياء [
عليهم السلام ] على مثله، في قوة سيرته وكمال عدله. وتم في أيامه فتح
البلاد الشامية بكمالها، وديار مصر إلى آخرها، وأكثر إقليم فارس، وكَسَّر كسرى
وأهانه غاية الهوان، وتقهقر إلى أقصى مملكته، وقَصَّر قيصر، وانتزع يده عن بلاد
الشام فانحاز إلى قسطنطينة، وأنفق أموالهما في سبيل الله، كما أخبر بذلك ووعد به
رسول الله، عليه من ربه أتم سلام وأزكى صلاة.
ثم لما
كانت الدولة العثمانية، امتدت المماليك الإسلامية إلى أقصى مشارق الأرض ومغاربها،
ففتحت بلاد المغرب إلى أقصى ما هنالك:الأندلس، وقبرص، وبلاد القيروان، وبلاد
سَبْتَةَ مما يلي البحر المحيط، ومن ناحية المشرق إلى أقصى بلاد الصين، وقتل كسرى،
وباد ملكه بالكلية. وفتحت مدائن العراق، وخراسان، والأهواز، وقتل المسلمون من
الترك مقتلة عظيمة جدا، وخذل الله ملكهم الأعظم خاقان، وجُبي الخراج من المشارق
والمغارب إلى حضرة أمير المؤمنين عثمان بن عفان، رضي الله عنه. وذلك ببركة تلاوته
ودراسته وجمعه الأمة على حفظ القرآن؛ ولهذا ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم أنه قال: « إن الله زَوَى لي الأرض،
فرأيت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زُوي لي منها » فها نحن
نتقلب فيما وعدنا الله ورسوله، وصدق الله ورسوله، فنسأل الله الإيمان به، وبرسوله،
والقيام بشكره على الوجه الذي يرضيه عنا.
قال
الإمام مسلم بن الحجاج:حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان، عن عبد الملك بن عمير، عن
جابر بن سَمُرَة قال:سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: « لا
يزال أمر الناس ماضيا ما وليهم اثنا عشر رجلا » . ثم
تكلم النبي صلى الله عليه وسلم بكلمة خفيت عني فسألت أبي:ماذا قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم؟ فقال: « كلهم من قريش » .
ورواه البخاري
من حديث شعبة، عن عبد الملك بن عمير، به
وفي
رواية لمسلم أنه قال ذلك عشية رجم ماعز بن مالك، وذكر معه أحاديث أخر
وهذا
الحديث فيه دلالة على أنه لا بد من وجود اثني عشر خليفة عادلا وليسوا هم بأئمة
الشيعة الاثني عشر فإن كثيرًا من أولئك لم يكن إليهم من الأمر شيء، فأما هؤلاء
فإنهم يكونون من قريش، يَلُون فيعدلون. وقد وقعت البشارة بهم في الكتب المتقدمة،
ثم لا يشترط أن يكون متتابعين، بل يكون وجودهم في الأمة متتابعا ومتفرقا، وقد
وُجِد منهم أربعة على الولاء، وهم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، رضي الله
عنهم. ثم كانت بعدهم فترة، ثم وُجِد منهم ما شاء الله، ثم قد يُوجَد منهم مَن بقي
في وقت يعلمه الله. ومنهم المهدي الذي يطابق اسمه اسم رسول الله صلى الله عليه
وسلم، وكنيته كنيته، يملأ الأرض عدلا وقسطا، كما ملئت جورًا وظلما.
وقد روى الإمام
أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، من حديث سعيد بن جُمْهان، عن سَفِينة - مولى
رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «
الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثم يكون ملكا عَضُوضا » .
وقال
الربيع بن أنس، عن أبي العالية في قوله: ( وَعَدَ
اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ
مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ) الآية، قال:كان النبي صلى
الله عليه وسلم وأصحابه بمكة نحوا من عشر سنين، يدعون إلى الله وحده، وعبادته وحده
لا شريك له سرًا وهم خائفون، لا يؤمرون بالقتال، حتى أمروا بعدُ بالهجرة إلى
المدينة، فقدموا المدينة، فأمرهم الله بالقتال، فكانوا بها خائفين يُمْسُون في السلاح
ويصبحون في السلاح، فَغَيَّرُوا بذلك ما شاء الله. ثم إن رجلا من أصحابه قال:يا
رسول الله، أبدَ الدهر نحن خائفون هكذا؟ أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع عنا [ فيه
] السلاح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لن
تَغْبروا إلا يسيرا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم مُحْتَبِيًا ليست فيهم
حديدة » . وأنـزل الله هذه الآية، فأظهر الله نبيه على جزيرة العرب،
فأمنوا ووضعوا السلاح. ثم إن الله، عز وجل، قبض نبيه صلى الله عليه وسلم فكانوا
كذلك آمنين في إمارة أبي بكر وعمر وعثمان حتى وقعوا فيما وقعوا، فأدخل [
الله ] عليهم الخوف فاتخذوا الحَجَزَةَ والشرط وغَيّروا، فَغُيَّر
بهم.
وقال بعض
السلف:خلافة أبي بكر وعمر، رضي الله عنهما، حق في كتابه، ثم تلا هذه الآية.
وقال
البراء بن عازب:نـزلت هذه الآية، ونحن في خوف شديد.
وهذه
الآية الكريمة كقوله تعالى: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ
فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ
بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [
الأنفال:26 ] .
وقوله: ( كَمَا
اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) كما
قال تعالى عن موسى، عليه السلام، أنه قال لقومه: عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ
عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [
الأعراف:129 ] ، وقال تعالى: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ
اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ
الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ
وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ [
القصص:5 ، 6 ] .
وقوله: (
وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ
مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ) ، كما قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم لعديّ بن حاتم، حين وفد عليه: « أتعرف
الحيرة؟ » قال :لم أعرفها، ولكن قد سمعت بها. قال: « فوالذي
نفسي بيده، ليُتمنّ الله هذا الأمر حتى تخرج الظعينة من الحِيرَة حتى تطوف بالبيت
في غير جوار أحد، ولتفتحن كنوز كسرى بن هرمز » .
قلت:كسرى بن هرمز؟ قال: « نعم، كسرى بن هرمز،
وليُبذَلَنّ المالُ حتى لا يقبله أحد » . قال
عدي بن حاتم:فهذه الظعينة تخرج من الحيرة فتطوف بالبيت في غير جوار أحد، ولقد كنت
فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز، والذي نفسي بيده، لتكونن الثالثة؛ لأن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قد قالها .
وقال
الإمام أحمد:حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا سفيان، عن أبي سلمة، عن الربيع بن أنس، عن
أبي العالية، عن أبي بن كعب قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « بشر
هذه الأمة بالسَّناء والرفعة، والدين والنصر والتمكين في الأرض، فمن عمل منهم عمل
الآخرة للدنيا، لم يكن له في الآخرة نصيب » .
وقوله: (
يعبدونني لا يشركون بي شيئا ) قال الإمام أحمد:
حدثنا
عفان، حدثنا همام، حدثنا قتادة عن أنس، أن معاذ بن جبل حدثه قال:بينا أنا رديف
رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بيني وبينه إلا آخرة الرَّحْل، قال: « يا
معاذ » ، قلت:لبيك يا رسول الله وسَعْديك. قال:ثم سار ساعة، ثم قال:
« يا معاذ بن جبل » ،
قلت:لبيك يا رسول الله وسعديك. [ ثم سار ساعة ، ثم قال: « يا
معاذ بن جبل » ، قلت:لبيك يا رسول الله وسعديك « ] .
قال: » هل تدري ما حق الله على العباد « ؟
قلت:الله ورسوله أعلم. قال: » [ فإن
] حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا « .
قال:ثم سار ساعة. ثم قال: « يا معاذ بن جبل » ، قلت:لبيك يا رسول الله وسعديك.
قال: » فهل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك « ؟،
قال:قلت:الله ورسوله أعلم. قال: » فإن حق
العباد على الله أن لا يعذبهم « . »
أخرجاه
في الصحيحين من حديث قتادة .
وقوله: (
وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) أي:فمن
خرج عن طاعتي بعد ذلك، فقد فَسَقَ عن أمر ربه وكفى بذلك ذنبًا عظيما. فالصحابة،
رضي الله عنهم، لما كانوا أقوم الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم بأوامر الله عز
وجل، وأطوعهم لله - كان نصرهم بحسبهم، وأظهروا كلمة الله في المشارق والمغارب،
وأيدهم تأييدًا عظيما، وتحكموا في سائر العباد والبلاد. ولما قَصَّر الناس بعدهم
في بعض الأوامر، نقص ظهورهم بحسبهم، ولكن قد ثبت في الصحيحين، من غير وجه، عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « لا
تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم إلى اليوم
القيامة » وفي رواية: « حتى
يأتي أمر الله، وهم كذلك » . وفي رواية: « حتى
يقاتلوا الدجال » . وفي رواية: « حتى
ينـزل عيسى ابن مريم وهم ظاهرون » . وكل
هذه الروايات صحيحة، ولا تعارض بينها.
وَأَقِيمُوا
الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ( 56 ) لا تَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ
الْمَصِيرُ ( 57 ) .
يقول
تعالى آمرًا عباده المؤمنين بإقام الصلاة، وهي عبادة الله وحده لا شريك له، وإيتاء
الزكاة، وهي:الإحسان إلى المخلوقين ضعفائهم وفقرائهم، وأن يكونوا في ذلك مطيعين
للرسول، صلوات الله وسلامه عليه، أي:سالكين وراءه فيما به أمرهم، وتاركين ما عنه
زجرهم، لعل الله يرحمهم بذلك. ولا شك أن من فعل ذلك أن الله سيرحمهم، كما قال
تعالى في الآية الأخرى: أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ [
التوبة:71 ] .
وقوله ( لا
تَحْسَبَنَّ ) أي: [ لا تظن ] يا
محمد ( الَّذِينَ كَفَرُوا )
أي:خالفوك وكذبوك، ( مُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ ) أي:لا
يعجزون الله، بل الله قادر عليهم، وسيعذبهم على ذلك أشد العذاب؛ ولهذا قال: (
وَمَأْوَاهُمُ ) أي:في الدار الآخرة (
النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) أي:بئس المآل مآلُ الكافرين،
وبئس القرار وبئس المهاد.
يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ
وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ
صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ
صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ
جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ
يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( 58 )
هذه الآيات الكريمة اشتملت على
استئذان الأقارب بعضهم على بعض. وما تقدَّم في أول السورة فهو استئذان الأجانب
بعضهم على بعض. فأمر الله تعالى المؤمنين أن يستأذنَهم خَدَمُهم مما ملكَت أيمانهم
وأطفالهم الذين لم يبلغوا الحلم منهم في ثلاثة أحوال:الأول من قبل صلاة الغداة؛
لأن الناس إذ ذاك يكونون نيامًا في فرشهم (
وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ ) أي:في
وقت القيلولة؛ لأن الإنسان قد يضع ثيابه في تلك الحال مع أهله، (
وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ) لأنه
وقت النوم، فيُؤمَرُ الخدمُ والأطفال ألا يهجمُوا على أهل البيت في هذه الأحوال،
لما يخشى من أن يكون الرجل على أهله، ونحو ذلك من الأعمال؛ ولهذا قال: (
ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ ) أي:إذا
دخلوا في حال غير هذه الأحوال فلا جناح عليكم في تمكينكم إياهم من ذلك، ولا عليهم
إن رأوا شيئا في غير تلك الأحوال؛ لأنه قد أذن لهم في الهجوم، ولأنهم (
طَوَّافُونَ ) عليكم، أي:في الخدمة وغير ذلك، ويغتفر في الطوافين ما لا
يغتفر في غيرهم؛ ولهذا رَوَى الإمام مالك وأحمد بن حنبل وأهل السنن أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال في الهِرَّة: « إنها
ليست بنجَس؛ إنها من الطوافين عليكم - أو - والطوافات » .
ولما كانت هذه الآية محكمة ولم
تنسخ بشيء، وكان عمل الناس بها قليلا جدًا، أنكر عبد الله بن عباس ذلك على الناس،
كما قال ابن أبي حاتم:
حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا يحيى
بن عبد الله بن بُكَيْر، حدثني عبد الله بن لَهِيعة، حدثني عطاء بن دينار، عن سعيد
بن جُبَيْر قال:قال ابن عباس:ترك الناس ثلاث آيات فلم يعملوا بهن: ( يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ
وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ [
مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ ] ) إلى
آخر الآية، والآية التي في سورة النساء: وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو
الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ [
النساء:8 ] ، والآية التي في الحجرات: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ
اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [ الحجرات:13 ]
وروي أيضًا من حديث إسماعيل بن
مسلم - وهو ضعيف - عن عمرو بن دينار، عن عطاء بن أبي رَبَاح، عن ابن عباس قال:غلب
الشيطان الناس على ثلاث آيات، فلم يعملوا بهن: ( يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ) إلى
آخر الآية.
وقال أبو داود:حدثنا ابن الصباح
بن سفيان وابن عبدة - وهذا حديثه - أخبرنا سفيان، عن عبيد الله بن أبي يزيد، سمع
ابن عباس يقول:لم يؤمن بها أكثر الناس - آية الإذن - وإني لآمر جاريتي هذه تستأذن
علي.
قال أبو داود:وكذلك رواه عطاء،
عن ابن عباس يأمر به .
وقال الثوري، عن موسى بن أبي
عائشة سألت الشعبي: ( لِيَسْتَأْذِنْكُمُ
الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ) ،
قال:لم تنسخ . قلت:فإن الناس لا يعملون بها. فقال:الله المستعان.
وقال ابن أبي حاتم:حدثنا الربيع
بن سليمان، حدثنا ابن وهب، أخبرنا سليمان بن بلال، عن عمرو بن أبي عَمرو، عن عكرمة
عن ابن عباس؛ أن رجلين سألاه عن الاستئذان في الثلاث عورات التي أمر الله بها في
القرآن، فقال ابن عباس:إن الله ستِّير يحب الستر، كان الناس ليس لهم ستور على
أبوابهم ولا حِجال في بيوتهم، فربما فاجأ الرجلَ خادمُه أو ولده أو يتيمه في حجره،
وهو على أهله، فأمرهم الله أن يستأذنوا في تلك العورات التي سمَّى الله. ثم جاء
الله بعد بالستور ، فبسط [ الله ] عليهم
الرزق، فاتخذوا الستور واتخذوا الحِجَال، فرأى الناس أن ذلك قد كفاهم من الاستئذان
الذي أمروا به.
وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس،
ورواه أبو داود، عن القَعْنَبِيّ، عن الدَّرَاوَرْدِيّ، عن عمرو بن أبي عَمْرو به
.
وقال السُّدِّي:كان أناس من
الصحابة، رضي الله عنهم، يحبون أن يُوَاقعوا نساءهم في هذه الساعات ليغتسلوا ثم
يخرجوا إلى الصلاة، فأمرهم الله أن يأمروا المملوكين والغلمان ألا يدخلوا عليهم في
تلك الساعات إلا بإذن.
وقال مقاتل بن حَيَّان:بلغنا -
والله أعلم - أن رجلا من الأنصار وامرأته أسماء بنت مُرْشدة صنعا للنبي صلى الله
عليه وسلم طعاما، فجعل الناس يدخلون بغير إذن، فقالت أسماء:يا رسول الله، ما أقبح
هذا! إنه ليدخل على المرأة وزوجها وهما في ثوب واحد، غلامهما بغير إذن! فأنـزل
الله في ذلك: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ
يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ [ ثَلاثَ مَرَّاتٍ ] ) الآية.
ومما يدل على أنها محكمة لم
تنسخ، قوله: ( كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ
عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) .
وَإِذَا
بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ
عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( 59 )
وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ
عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ
وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( 60 )
ثم قال
تعالى: ( وَإِذَا بَلَغَ الأطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ
فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ )
يعني:إذا بلغ الأطفال الذين إنما كانوا يستأذنون في العورات الثلاث، إذا بلغوا
الحلم، وجب عليهم أن يستأذنوا على كل حال، يعني بالنسبة إلى أجانبهم وإلى الأحوال
التي يكون الرجل على امرأته، وإن لم يكن في الأحوال الثلاث.
قال
الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير:إذا كان الغلام رباعيا فإنه يستأذن في العورات
الثلاث على أبويه، فإذا بلغ الحلم فليستأذن على كل حال. وهكذا قال سعيد بن جبير.
وقال في
قوله: ( كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ )
يعني:كما استأذن الكبار من ولد الرجل وأقاربه.
وقوله: (
وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ ) قال سعيد بن جُبَيْر،
ومُقَاتل بن حَيَّان، وقتادة، والضحاك:هن اللواتي انقطع عنهن الحيض ويئسن من الولد
، ( اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا ) أي:لم
يبق لهن تَشوُّف إلى التزويج، ( فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ
جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ ) أي:ليس
عليها من الحرج في التستر كما على غيرها من النساء.
قال أبو
داود:حدثنا أحمد بن محمد المروزي حدثني علي بن الحسين بن واقد، عن أبيه، عن يزيد النحوي،
عن عكرمة عن ابن عباس: وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ
الآية [ النور:31 ] فنسخ،
واستثنى من ذلك ( وَالْقَوَاعِدُ مِنَ
النِّسَاءِ اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا ) الآية
قال ابن
مسعود [ في قوله ] : (
فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ )
قال:الجلباب، أو الرداء:وكذا رُوي عن ابن عباس، وابن عمر، ومجاهد، وسعيد بن جبير،
وأبي الشعثاء وإبراهيم النَّخَعِيّ، والحسن، وقتادة، والزهري، والأوزاعي، وغيرهم.
وقال أبو
صالح:تضع الجلباب، وتقوم بين يدي الرجل في الدرع والخمار.
وقال سعيد
بن جُبَيْر وغيره، في قراءة عبد الله بن مسعود: « أن
يضعن من ثيابهن » وهو الجلباب من فوق الخمار فلا
بأس أن يضعن عند غريب أو غيره، بعد أن يكون عليها خمار صَفيق.
وقال
سعيد بن جبير: ( غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ
بِزِينَةٍ ) يقول:لا يتبرجن بوضع الجلباب، أن يرى ما عليها من الزينة.
وقال ابن
أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا هشام بن عبيد الله، حدثنا ابن المبارك، [
حدثني سَوَّار بن ميمون، حدثتنا طلحة بنت عاصم، عن أم المصاعن، عن عائشة، رضي الله
عنها، أنها قالت:دخلت عليّ ] فقلت:يا أم المؤمنين، ما
تقولين في الخضاب، والنفاض، والصباغ، والقُرطين، والخلخال، وخاتم الذهب، وثياب
الرقاق؟ فقالت:يا معشر النساء، قصتكن كلها واحدة، أحل الله لكن الزينة غير
متبرجات. أي:لا يحلّ لكنّ أن يَرَوْا منكن محرما.
وقال
السدي:كان شريك لي يقال له: « مسلم » ، وكان مولى
لامرأة حذيفة بن اليمان، فجاء يوما إلى السوق وأثر الحنّاء في يده، فسألته عن ذلك،
فأخبرني أنه خَضَب رأس مولاته - وهي امرأة حذيفة - فأنكرت ذلك. فقال:إن شئت أدخلتك
عليها؟ فقلت:نعم. فأدخلني عليها، فإذا امرأة جليلة، فقلت:إن مسلما حدثني أنه خضب
رأسك؟ فقالت:نعم يا بني، إني من القواعد اللاتي لا يرجون نكاحًا، وقد قال الله في
ذلك ما سمعت.
وقوله: (
وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ )
أي:وترك وضعهن لثيابهن - وإن كان جائزًا - خير وأفضل لهن، والله سميع عليم.
لَيْسَ
عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ
حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ
آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ
أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ
أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ
صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا
فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ
عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ
لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ( 61 )
اختلف المفسرون - رحمهم الله -
في المعنى الذي رفع من أجله الحرج عن الأعمى والأعرج والمريض هاهنا، فقال عطاء
الخراساني، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم:نـزلت في الجهاد.
وجعلوا هذه الآية هاهنا كالتي
في سورة الفتح وتلك في الجهاد لا محالة، أي:أنهم لا إثم عليهم في ترك الجهاد؛
لضعفهم وعجزهم، وكما قال تعالى في سورة براءة:لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا
عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا
نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ
غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ
لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ
الدَّمْعِ حَزَنًا أَلا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ [
التوبة:91 ، 92 ] .
وقيل:المراد [
هاهنا ] أنهم كانوا يتحرجون من الأكل مع الأعمى؛ لأنه لا يرى الطعام
وما فيه من الطيبات، فربما سبقه غيره إلى ذلك. ولا مع الأعرج؛ لأنه لا يتمكن من
الجلوس، فيفتات عليه جليسُه، والمريض لا يستوفي من الطعام كغيره، فكرهوا أن
يؤاكلوهم لئلا يظلموهم، فأنـزل الله هذه الآية رخصة في ذلك. وهذا قول سعيد بن
جبير، ومِقْسَم.
وقال الضحاك:كانوا قبل المبعث
يتحرجون من الأكل مع هؤلاء تقذرًا وتَقَزُّزًا، ولئلا يتفضلوا عليهم، فأنـزل الله
هذه الآية.
وقال عبد الرزاق:أخبرنا مَعْمَر،
عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد في قوله تعالى: (
لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ ) الآية قال:كان الرجل يذهب
بالأعمى أو الأعرج أو المريض إلى بيت أبيه أو بيت أخيه، أو بيت أخته، أو بيت عمته،
أو بيت خالته. فكان الزَّمنى يتحرجون من ذلك، يقولون:إنما يذهبون بنا إلى بيوت
غيرهم . فنـزلت هذه الآية رخصةً لهم .
وقال السُّدّي:كان الرجل يدخل
بيت أبيه، أو أخيه أو ابنه، فتُتْحفه المرأة بالشيء من الطعام، فلا يأكل من أجل أن
رَبَّ البيت ليس ثَمّ. فقال الله تعالى: (
لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ
حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ
آبَائِكُمْ ) إلى قوله: (
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا ) .
وقوله تعالى: ( وَلا
عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ ) ، إنما
ذَكَر هذا - وهو معلوم - ليعطفَ عليه غيره في اللفظ، وليستأديه ما بعده في الحكم.
وتضمن هذا بيوت الأبناء؛ لأنه لم ينص عليهم. ولهذا استدل بهذا من ذهب إلى أنَّ مال
الولد بمنـزلة مال أبيه، وقد جاء في المسند والسنن، من غير وجه، عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم أنه قال: « أنت ومالك لأبيك »
وقوله: ( أَوْ
بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ ) ، إلى
قوله ( أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ ) ، هذا
ظاهر. وقد يستدل به من يوجب نفقة الأقارب بعضهم على بعض، كما هو مذهب [
الإمام ] أبي حنيفة والإمام أحمد بن حنبل، في المشهور عنهما.
وأما قوله: ( أَوْ
مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ ) فقال سعيد بن جُبَير،
والسُّدِّي:هو خادم الرجل من عبد وقَهْرَمان، فلا بأس أن يأكل مما استودعه من
الطعام بالمعروف.
وقال الزهري، عن عُرْوَة، عن
عائشة، رضي الله عنها، قالت:كان المسلمون يرغبون في النفير مع رسول الله صلى الله
عليه وسلم، فيدفعون مفاتحهم إلى ضُمَنائهم، ويقولون:قد أحللنا لكم أن تأكلوا ما
احتجتم إليه. فكانوا يقولون:إنه لا يحل لنا أن نأكل؛ إنهم أذنوا لنا عن غير طيب
أنفسهم، وإنما نحن أمناء. فأنـزل الله: ( أَوْ
مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ ) .
وقوله: ( أَوْ
صَدِيقِكُمْ ) أي:بيوت أصدقائكم وأصحابكم، فلا جناح عليكم في الأكل منها،
إذا علمتم أن ذلك لا يَشُقُّ عليهم ولا يكرهون ذلك.
وقال قتادة:إذا دخلت بيت صديقك
فلا بأس أن تأكل بغير إذنه.
وقوله: ( لَيْسَ
عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا ) ، قال
علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في هذه الآية:وذلك لما أنـزل الله: يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [
النساء:29 ] قال المسلمون:إن الله قد نهانا أن نأكل أموالنا بيننا
بالباطل، والطعام هو أفضل من الأموال، فلا يحل لأحد منا أن يأكل عند أحد. فكف
الناسُ عن ذلك، فأنـزل الله: ( لَيْسَ عَلَى الأعْمَى ) إلى
قوله: ( أَوْ صَدِيقِكُمْ ) ،
وكانوا أيضًا يأنفون ويتحرجون أن يأكل الرجل الطعام وحده، حتى يكون معه غيره، فرخص
الله لهم في ذلك، فقال: ( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ
أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا ) .
وقال قتادة:وكان هذا الحي من
بني كنانة، يرى أحدهم أن مخزاة عليه أن يأكل وحده في الجاهلية، حتى إن كان الرجلُ
لَيَسوقُ الذُّودَ الحُفَّل وهو جائع، حتى يجد من يؤاكله ويشاربه، فأنـزل الله: (
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا ) .
فهذه رخصة من الله تعالى في أن
يأكل الرجل وحده، ومع الجماعة، وإن كان الأكل مع الجماعة أفضل وأبرك، كما رواه
الإمام أحمد:حدثنا يزيد بن عبد ربه، حدثنا الوليد بن مسلم، عن وَحْشيّ بن حَرْب،
عن أبيه، عن جده؛ أنّ رجلا قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم:إنا نأكلُ ولا نشبَع.
قال: « فلعلكم تأكلون متفرقين، اجتمعوا على طعامكم، واذكروا اسم
الله يُبَاركْ لكم فيه » .
ورواه أبو داود وابن ماجه، من
حديث الوليد بن مسلم، به
وقد رَوَى ابن ماجه أيضًا، من
حديث عمرو بن دينار القهرماني، عن سالم، عن أبيه، عن عمر، عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم أنه قال: « كلوا جميعًا ولا تَفَرّقُوا؛
فإن البركة مع الجماعة » .
وقوله: (
فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ ) قال
سعيد بن جبير، والحسن البصري، وقتادة، والزهري:فليسلم بعضكم على بعض.
وقال ابن جُرَيْج:حدثنا أبو
الزبير:سمعتُ جابر بن عبد الله يقول:إذا دخلتَ على أهلك، فسَلِّمْ عليهم تحية من
عند الله مباركة طيبة. قال:ما رأيته إلا يوجبه.
قال ابن جريج:وأخبرني زياد، عن
ابن طاوس أنه كان يقول:إذا دخلَ أحدكم بيته، فليسلم.
قال ابن جُرَيْج:قلت
لعطاء:أواجب إذا خرجت ثم دخلت أن أسلِّم عليهم؟ قال:لا ولا آثر وجوبه عن أحد، ولكن
هو أحبُّ إلي، وما أدعه إلا نابيًا
وقال مجاهد:إذا دخلت المسجد
فقل:السلام على رسول الله. وإذا دخلت على أهلك فسلِّمْ عليهم، وإذا دخلت بيتًا ليس
فيه أحد فقل:السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.
وروى الثوري، عن عبد الكريم
الجَزَريّ، عن مجاهد:إذا دخلت بيتًا ليس فيه أحد فقل:بسم الله، والحمد لله، السلام
علينا من ربنا، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.
وقال قتادة: [ إذا
دخلت على أهلك فسلم عليهم، وإذا دخلت بيتًا ليس فيه أحد، فقل:السلام علينا وعلى
عباد الله الصالحين ] فإنه كان يؤمر بذلك، وحُدّثنا
أن الملائكة ترد عليه. وقال الحافظ أبو بكر البزار:حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا
عَوْبَدُ بن أبي عمران الجوني، عن أبيه، عن أنس قال:أوصاني النبيّ صلى الله عليه
وسلم بخمس خصال، قال: « يا أنس، أسبغ الوضوء يُزَد في
عمرك، وسَلّم على من لقيك من أمتي تكْثُر حسناتك، وإذا دخلت - يعني:بيتك - فسلم
على أهل بيتك، يكثر خير بيتك، وصل صلاة الضُّحى فإنها صلاة الأوابين قبلك. يا أنس،
ارحم الصغير، ووقِّر الكبير، تَكُنْ من رفقائي يوم القيامة » .
وقوله: (
تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً ) قال
محمد بن إسحاق:حدثني داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه كان يقول:ما أخذت
التشهدَ إلا من كتاب الله، سمعت الله يقول: (
فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ
عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً ) ،
فالتشهد في الصلاة:التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله، أشهد أن لا إله إلا
الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام
علينا وعلى عباد الله الصالحين. ثم يدعو لنفسه ويسلم.
هكذا رواه ابن أبي حاتم، من
حديث ابن إسحاق.
والذي في صحيح مسلم، عن ابن
عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخالف هذا ، والله أعلم .
وقوله: (
كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) لما
ذكر تعالى ما في السورة الكريمة من الأحكام المحكمة والشرائع المتقنة المبرمة،
نَبَّه تعالى على أنه يُبَيّن لعباده الآيات بيانًا شافيًا، ليتدبروها ويتعقلوها.
إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ
عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ
يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا
اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ
وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 62 ) .
وهذا
أيضًا أدب أرشد الله عبادَه المؤمنين إليه، فكما أمرهم بالاستئذان عند الدخول،
كذلك أمرهم بالاستئذان عند الانصراف - لا سيما إذا كانوا في أمر جامع مع الرسول،
صلوات الله وسلامه عليه، من صلاة جمعة أو عيد أو جماعة، أو اجتماع لمشورة ونحو ذلك
- أمرهم الله تعالى ألا ينصرفوا عنه والحالة هذه إلا بعد استئذانه ومشاورته. وإن
من يفعل ذلك فهو من المؤمنين الكاملين.
ثم أمر
رسوله - صلوات الله وسلامه عليه - إذا استأذنه أحد منهم في ذلك أن يأذن له، إن
شاء؛ ولهذا قال: ( فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ
مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .
وقد قال
أبو داود:حدثنا أحمد بن حَنْبَل ومُسَدَّد، قالا حدثنا بشر - هو ابن المفضل - عن
عَجْلان عن سعيد المَقْبُرِيّ، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال:قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: « إذا انتهى أحدكم إلى المجلس
فليسلِّم، فإذا أراد أن يقوم فليسلِّم، فليست الأولى بأحق من الآخرة » .
وهكذا
رواه الترمذي والنسائي، من حديث محمد بن عجلان، به . وقال الترمذي:حسن.
لا
تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ
يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ
الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ
عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 63 ) .
قال
الضحاك، عن ابن عباس:كانوا يقولون:يا محمد، يا أبا القاسم، فنهاهم الله عز وجل، عن
ذلك، إعظامًا لنبيه، صلوات الله وسلامه عليه قال:فقالوا:يا رسول الله، يا نبي
الله. وهكذا قال مجاهد، وسعيد بن جُبَير.
وقال
قتادة:أمر الله أن يهاب نبيه صلى الله عليه وسلم، وأن يُبَجَّل وأن يعظَّم وأن
يسود.
وقال
مقاتل [ بن حَيَّان ] في
قوله: ( لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ
بَعْضِكُمْ بَعْضًا ) يقول:لا تُسَمّوه إذا
دَعَوتموه:يا محمد، ولا تقولوا:يا بن عبد الله، ولكن شَرّفوه فقولوا:يا نبي الله،
يا رسول الله .
وقال
مالك، عن زيد بن أسلم في قوله: ( لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ
الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا )
قال:أمرهم الله أن يشرِّفوه.
هذا قول.
وهو الظاهر من السياق، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا [
البقرة:104 ] ، وقال يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا
أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ
كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا
تَشْعُرُونَ إلى قوله: إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ
أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ
إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ [
الحجرات:2- 5 ]
فهذا كله
من باب الأدب [ في مخاطبة النبي صلى الله
عليه وسلم والكلام معه وعنده كما أمروا بتقديم الصدقة قبل مناجاته ]
والقول الثاني
في ذلك أن المعنى في: ( لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ
الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا ) أي:لا
تعتقدوا أن دعاءه على غيره كدعاء غيره، فإن دعاءه مستجاب، فاحذروا أن يدعو عليكم
فتهلكوا. حكاه ابن أبي حاتم، عن ابن عباس، والحسن البصري، وعطية العَوفي، والله
أعلم.
وقوله: ( قَدْ
يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا ) قال
مقاتل بن حَيَّان:هم المنافقون، كان يثقل عليهم الحديث في يوم الجمعة - ويعني
بالحديث الخطبة - فيلوذون ببعض الصحابة - أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم - حتى
يخرجوا من المسجد، وكان لا يصلح للرجل أن يخرج من المسجد إلا بإذن من النبيّ صلى
الله عليه وسلم في يوم الجمعة، بعدما يأخذ في الخطبة، وكان إذا أراد أحدهم الخروجَ
أشارَ بإصبعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فيأذن له من غير أن يتكلم الرجل؛ لأن
الرجل منهم كان إذا تكلم والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب، بطلتْ جُمعته.
قال
السُّدِّي كانوا إذا كانوا معه في جماعة، لاذ بعضهم ببعض، حتى يتغيبوا عنه، فلا
يراهم.
وقال
قتادة في قوله: ( قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ
الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا ) ،
يعني:لواذا [ عن نبي الله وعن كتابه.
وقال
سفيان: ( قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ
لِوَاذًا ) قال:من الصف. وقال مجاهد في الآية: ( قَدْ
يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا ) ]
قال:خلافًا.
وقوله: (
فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ ) أي:عن
أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، سبيله هو ومنهاجه وطريقته [
وسنته ] وشريعته، فتوزن الأقوال والأعمال بأقواله وأعماله، فما وافق
ذلك قُبِل، وما خالفه فهو مَرْدُود على قائله وفاعله، كائنا ما كان، كما ثبت في
الصحيحين وغيرهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « من عمل
عَمَلا ليس عليه أمرنا فهو رَدّ » .
أي:فليحذر
وليخْشَ من خالف شريعة الرسول باطنًا أو ظاهرًا ( أَنْ
تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ ) أي:في قلوبهم، من كفر أو نفاق
أو بدعة، ( أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) أي:في
الدنيا، بقتل، أو حَد، أو حبس، أو نحو ذلك.
قال
الإمام أحمد:حدثنا عبد الرزاق، حدثنا مَعْمَر، عن همام بن مُنَبِّه قال:هذا ما
حدَّثنا أبو هُرَيرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « مثلي
ومثلكم كمثل رجل استوقد نارًا، فلما أضاءت ما حولها . جعل الفراش وهذه الدواب
اللاتي [ يقعن في النار ] يقعن
فيها، وجعل يحجزهن ويغلبنه ويتقحَّمن فيها » . قال: « فذلك
مثلي ومثلكم، أنا آخذ بحجزِكم عن النار هلم عن النار، فتغلبوني وتقتحمون فيها » .
أخرجاه من حديث عبد الرزاق
أَلا
إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ
عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( 64 ) .
يخبر
تعالى أنه مالك السماوات والأرض، وأنه عالم غيب السماوات والأرض، وهو عالم بما
العباد عاملون في سرهم وجهرهم، فقال: ( قَدْ
يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ ) و « قد »
للتحقيق، كما قال قبلها: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ
لِوَاذًا ، وقال تعالى: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ
وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا [
الأحزاب:18 ] . وقال تعالى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي
تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ
تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [
المجادلة:1 ] ، وقال: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي
يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ
اللَّهِ يَجْحَدُونَ [ الأنعام:33 ] ،
وقال: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ [
فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ] [
البقرة:144 ] فكل هذه الآيات فيها تحقيق الفعل بـ « قد » ، كما يقول
المؤذن تحقيقًا وثبوتًا: « قد قامت الصلاة، قد قامت
الصلاة » فقوله تعالى: ( قَدْ
يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ ) أي:هو عالم به، مشاهد له، لا
يعزب عنه مثقال ذرة، كما قال تعالى: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ *
الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ
السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [ الشعراء:217- 220 ] .
وقال: وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا
تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ
وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي
السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [
يونس:61 ] ، وقال تعالى: أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ
بِمَا كَسَبَتْ [ الرعد:33 ] أي:هو
شهيد على عباده بما هم فاعلون من خير وشر. وقال تعالى: أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ
ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ [
إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ] [
هود:5 ] ، وقال تعالى: سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ
وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ [
الرعد:10 ] ، وقال تعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى
اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ
مُبِينٍ [ هود:6 ] ، وقال: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ
الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ
وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ
الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [
الأنعام:59 ] .والآيات والأحاديث في هذا كثيرة جدًا.
وقوله: (
وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ ) أي:ويوم تَرْجِعُ الخلائق إلى
الله - وهو يوم القيامة - ( فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا
عَمِلُوا ) أي:يخبرهم بما فعلوا في الدنيا، مِنْ جليل وحقير، وصغير
وكبير، كما قال تعالى: يُنَبَّأُ الإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ
[ القيامة:13 ] .
وقال: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ
وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا
كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ
رَبُّكَ أَحَدًا [ الكهف:49 ] .
ولهذا قال هاهنا: ( وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ
إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) والحمد
لله رب العالمين، ونسأله التمام.