فهرس تفسير بن كثير للسور

29 - تفسير بن كثير سورة العنكبوت

التالي السابق

 

تفسير سورة العنكبوت

 

بسم الله الرحمن الرحيم

[ وهي ] مكية.

الم ( 1 ) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ ( 2 ) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ( 3 ) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ( 4 ) .

أما الكلام على الحروف المقطعة فقد تقدم في أول سورة « البقرة » .

وقوله: ( أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ ) استفهام إنكار، ومعناه:أن الله سبحانه وتعالى لا بد أن يبتلي عباده المؤمنين بحسب ما عندهم من الإيمان، كما جاء في الحديث الصحيح: « أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في البلاء » . وهذه الآية كقوله: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [ آل عمران:142 ] ، ومثلها في سورة « براءة » وقال في البقرة: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [ البقرة:214 ] ؛ ولهذا قال هاهنا: ( وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ) أي:الذين صدقوا في دعواهم الإيمان مِمَّنْ هو كاذب في قوله ودعواه. والله سبحانه وتعالى يعلم ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون . وهذا مجمع عليه عند أئمة السنة والجماعة؛ ولهذا يقول ابن عباس وغيره في مثل: إِلا لِنَعْلَمَ [ البقرة:143 ] :إلا لنرى؛ وذلك أن الرؤية إنما تتعلق بالموجود، والعلم أعم من الرؤية، فإنه [ يتعلق ] بالمعدوم والموجود.

وقوله: ( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ) أي:لا يحسبن الذين لم يدخلوا في الإيمان أنهم يتخلصون من هذه الفتنة والامتحان، فإن من ورائهم من العقوبة والنكال ما هو أغلظ من هذا وأطم؛ ولهذا قال: ( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا ) أي:يفوتونا، ( سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ) أي:بئس ما يظنون.

مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( 5 ) وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ( 6 )

يقول تعالى: ( مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ ) أي:في الدار الآخرة، وعمل الصالحات رجاء ما عند الله من الثواب الجزيل، فإن الله سيحقق له رجاءه ويوفيه عمله كاملا موفورا ، فإن ذلك كائن لا محالة؛ لأنه سميع الدعاء، بصير بكل الكائنات ؛ ولهذا قال: ( مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) .

وقوله: ( وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ ) ، كقوله: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ [ فصلت:46 ] أي:من عمل صالحا فإنما يعود نفع عمله على نفسه، فإن الله غني عن أفعال العباد، ولو كانوا كلهم على أتقى قلب رجل [ واحد ] منهم، ما زاد ذلك في ملكه شيئا؛ ولهذا قال: ( وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ) .

قال الحسن البصري:إن الرجل ليجاهد، وما ضرب يوما من الدهر بسيف.

 

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 7 ) .

ثم أخبر أنه مع غناه عن الخلائق جميعهم من إحسانه وبره بهم يجازي الذين آمنوا وعملوا الصالحات أحسن الجزاء، وهو أنه يكفر عنهم أسوأ الذي عملوا، ويجزيهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون، فيقبل القليل من الحسنات، ويثيب عليها الواحدة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، ويجزي على السيئة بمثلها أو يعفو ويصفح، كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [ النساء:40 ] ، وقال هاهنا: ( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ )

وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( 8 ) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ ( 9 ) .

يقول تعالى آمرا عباده بالإحسان إلى الوالدين بعد الحث على التمسك بتوحيده، فإن الوالدين هما سبب وجود الإنسان، ولهما عليه غاية الإحسان، فالوالد بالإنفاق والوالدة بالإشفاق؛ ولهذا قال تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [ الإسراء:23، 24 ] .

ومع هذه الوصية بالرأفة والرحمة والإحسان إليهما، في مقابلة إحسانهما المتقدم، قال: ( وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا ) أي:وإن حَرَصا عليك أن تتابعهما على دينهما إذا كانا مشركين، فإياك وإياهما، لا تطعهما في ذلك، فإن مرجعكم إلي يوم القيامة، فأجزيك بإحسانك إليهما، وصبرك على دينك، وأحشرك مع الصالحين لا في زمرة والديك، وإن كنت أقرب الناس إليهما في الدنيا، فإن المرء إنما يحشر يوم القيامة مع مَنْ أحب، أي:حبا دينيا؛ ولهذا قال: ( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ ) .

وقال الترمذي عند تفسير هذه الآية:حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن سِمَاك بن حرب قال:سمعت مُصعَب بن سعد يحدث عن أبيه سعد، قال:نـزلت فيَّ أربع آيات. فذكر قصة، وقالت أم سعد:أليس قد أمرك الله بالبر؟ والله لا أطعَمُ طعاما ولا أشرب شرابا حتى أموت أو تكفر، قال:فكانوا إذا أرادوا أن يطعموها شَجَروا فاها، فأنـزل الله ( وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ ) الآية.

وهذا الحديث رواه الإمام أحمد، ومسلم، وأبو داود، والنسائي أيضا ، وقال الترمذي:حسن صحيح.

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ ( 10 ) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ ( 11 ) .

يقول تعالى مخبرًا عن صفات قوم من [ المكذبين ] الذين يدعون الإيمان بألسنتهم، ولم يثبت الإيمان في قلوبهم، بأنهم إذا جاءتهم فتنة ومحنة في الدنيا، اعتقدوا أن هذا من نقمة الله تعالى بهم، فارتدوا عن الإسلام؛ ولهذا قال: ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ ) .

قال ابن عباس:يعني فتنته أن يرتد عن دينه إذا أوذي في الله. وكذا قال غيره من علماء السلف. وهذه الآية كقوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [ الحج:11 ] .

ثم قال: ( وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ ) أي:ولئن جاء نصر قريب من ربك - يا محمد - وفتح ومغانم، ليقولن هؤلاء لكم:إنا كنا معكم، أي [ كنا ] إخوانكم في الدين، كما قال تعالى: الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [ النساء:141 ] ، وقال تعالى: فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ [ المائدة:52 ] .

وقال تعالى مخبرا عنهم هاهنا: ( وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ ) ، ثم قال تعالى: ( أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ ) أي:أوليس الله بأعلم بما في قلوبهم، وما تكنُّه ضمائرهم، وإن أظهروا لكم الموافقة؟

وقوله: ( وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ ) أي:وليختبرَنّ الله الناس بالضراء والسراء، ليتميز هؤلاء من هؤلاء، ومن يطيع الله في الضراء والسراء، إنما يطيعه في حظ نفسه، كما قال تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [ محمد:31 ] ، وقال تعالى بعد وقعة أحد، التي كان فيها ما كان من الاختبار والامتحان: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ الآية [ آل عمران:179 ] ، [ والله أعلم ] .

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ( 12 ) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ ( 13 ) .

يقول تعالى مخبرا عن كفار قريش:أنهم قالوا لِمَنْ آمن منهم واتبع الهدى:ارجعوا عن دينكم إلى ديننا، واتبعوا سبيلنا، ( وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ ) أي:وآثامكم - إن كانت لكم آثام في ذلك - علينا وفي رقابنا، كما يقول القائل: « افعل هذا وخطيئتك في رقبتي » . قال الله تكذيبا لهم: ( وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ) أي:فيما قالوه:إنهم يحملون عن أولئك خطاياهم، فإنه لا يحمل أحد وزر أحد، وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى [ فاطر:18 ] ، وقال تعالى: وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا * يُبَصَّرُونَهُمْ [ المعارج:10، 11 ] .

وقوله: ( وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالا مَعَ أَثْقَالِهِمْ ) :إخبار عن الدعاة إلى الكفر والضلالة، أنهم يوم القيامة يحملون أوزار أنفسهم، وأوزارًا أخَر بسبب مَنْ أضلوا مِنَ الناس، من غير أن ينقص من أوزار أولئك شيئا، كما قال تعالى: لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ [ النحل:25 ] .

وفي الصحيح: « من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه إلى يوم القيامة، من غير أن ينقص من أجورهم شيئا، وَمَنْ دعا إلى ضلالة كان عليه مِنَ الإثم مثل آثام مَنِ اتبعه إلى يوم القيامة، من غير أن ينقص من آثامهم شيئا » وفي الصحيح: « ما قتلت نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها؛ لأنه أول من سَنّ القتل » .

وقوله: ( وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ ) أي:يكذبون ويختلقون من البهتان.

وقد ذكر ابن أبي حاتم هاهنا حديثا فقال:حدثنا أبي، حدثنا هشام بن عمار، حدثنا صدقة، حدثنا عثمان بن حفص بن أبي العالية، حدثني سليمان بن حبيب المحاربي عن أبي أمامة، رضي الله عنه، قال:إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغ ما أرسل به، ثم قال: « إياكم والظلم، فإن الله يعزم يوم القيامة فيقول:وعزتي لا يجوزني اليوم ظلم! ثم ينادي مناد فيقول:أين فلان ابن فلان؟ فيأتي يتبعه من الحسنات أمثال الجبال، فيشخص الناس إليها أبصارهم حتى يقوم بين يدي الله الرحمن عز وجل ثم يأمر المنادي فينادي من كانت له تِبَاعة - أو:ظُلامة - عند فلان ابن فلان، فهلمّ. فيقبلون حتى يجتمعوا قياما بين يدي الرحمن، فيقول الرحمن:اقضوا عن عبدي. فيقولون:كيف نقضي عنه؟ فيقول لهم:خذوا لهم من حسناته. فلا يزالون يأخذون منها حتى لا يبقى له حسنة، وقد بقي من أصحاب الظلامات، فيقول:اقضوا عن عبدي. فيقولون:لم يبق له حسنة. فيقول:خذوا من سيئاتهم فاحملوها عليه » . ثم نـزع النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الآية الكريمة: ( وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ ) .

وهذا الحديث له شاهد في الصحيح من غير هذا الوجه.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أحمد بن أبي الحواري، حدثنا أبو بشر الحذاء، عن أبي حمزة الثمالي، عن معاذ بن جبل، رضي الله عنه، قال:قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يا معاذ، إن المؤمن يسأل يوم القيامة عن جميع سعيه، حتى عن كُحْل عينيه، وعن فتات الطينة بإصبعيه ، فلا ألْفَيَنَّكَ تأتي يوم القيامة وأحد أسعد بما آتاك الله منك » .

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ ( 14 )

هذه تسلية من الله تعالى لعبده ورسوله محمد صلوات الله وسلامه عليه، يخبره عن نوح عليه السلام:أنه مكث في قومه هذه المدة يدعوهم إلى الله ليلا ونهارًا، وسرا، وجهارًا، ومع هذا ما زادهم ذلك إلا فرارا عن الحق، وإعراضا عنه وتكذيبا له، وما آمن معه منهم إلا قليل؛ ولهذا قال: ( فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ ) أي:بعد هذه المدة الطويلة ما نجع فيهم البلاغ والإنذار، فأنت - يا محمد - لا تأسف على مَنْ كفر بك من قومك، ولا تحزن عليهم؛ فإن الله يهدي مَنْ يشاء ويضل مَنْ يشاء، وبيده الأمر وإليه ترجع الأمور ، إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ [ يونس:96 ،97 ] ، واعلم أن الله سيظهرك وينصرك ويؤيدك، ويذل عدوّك، ويكبتهم ويجعلهم أسفل السافلين.

قال حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن يوسف بن ماهَك ، عن ابن عباس قال:بعث نوح وهو لأربعين سنة، ولبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، وعاش بعد الطوفان ستين عاما، حتى كثر الناس وفشوا.

وقال قتادة:يقال إن عمره كله [ كان ] ألف سنة إلا خمسين عاما، لبث فيهم قبل أن يدعوهم ثلثمائة سنة، ودعاهم ثلثمائة ولبث بعد الطوفان ثلثمائة وخمسين سنة.

وهذا قول غريب، وظاهر السياق من الآية أنه مكث في قومه يدعوهم إلى الله ألف سنة إلا خمسين عاما.

وقال عون بن أبي شداد:إن الله أرسل نوحا إلى قومه وهو ابن خمسين وثلثمائة سنة، فدعاهم ألف سنة إلا خمسين عاما، ثم عاش بعد ذلك ثلثمائة وخمسين سنة.

وهذا أيضا غريب، رواه ابن أبي حاتم، وابن جرير، وقول ابن عباس أقرب، والله أعلم.

وقال الثوري، عن سلمة بن كُهَيْل، عن مجاهد قال:قال لي ابن عمر:كم لبث نوح في قومه؟ قال:قلت ألف سنة إلا خمسين عاما. قال:فإن الناس لم يزالوا في نقصان من أعمارهم وأحلامهم وأخلاقهم إلى يومك هذا.

فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ ( 15 ) .

وقوله: ( فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ ) أي:الذين آمنوا بنوح عليه السلام. وقد تقدَّم ذكر ذلك مفصلا في سورة « هود » ، وتقدَّم تفسيره بما أغنى عن إعادته.

وقوله: ( وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ ) أي:وجعلنا تلك السفينة باقية، إما عينها كما قال قتادة:إنها بقيت إلى أول الإسلام على جبل الجودي، أو نوعها جعله للناس تذكرة لنعمه على الخلق، كيف نجاهم من الطوفان، كما قال تعالى: وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ * وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ * إِلا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ [ يس:41- 44 ] ، وقال تعالى: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ * لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ [ الحاقة:11، 12 ] ، وقال هاهنا: ( فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ ) ، وهذا من باب التدريج من الشخص إلى الجنس، كقوله تعالى: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ [ الملك:5 ] أي:وجعلنا نوعها، فإن التي يرمى بها ليست هي التي زينة للسماء . وقال تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ [ المؤمنون:12، 13 ] ، ولهذا نظائر كثيرة.

وقال ابن جرير:لو قيل:إنّ الضمير في قوله: ( وَجَعَلْنَاهَا ) ، عائد إلى العقوبة، لكان وجهًا، والله أعلم.

وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ( 16 ) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( 17 ) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ ( 18 ) .

يخبر تعالى عن عبده ورسوله وخليله إبراهيم إمام الحنفاء:أنه دعا قومه إلى عبادة الله وحده لا شريك له، والإخلاص له في التقوى، وطلب الرزق منه وحده لا شريك له، وتوحيده في الشكر ، فإنه المشكور على النعم، لا مُسْدٍ لها غيره، فقال لقومه: ( اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ) أي:أخلصوا له العبادة والخوف، ( ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) أي:إذا فعلتم ذلك حصل لكم الخير في الدنيا والآخرة، واندفع عنكم الشر في الدنيا والآخرة.

ثم أخبرهم أن الأصنام التي يعبدونها والأوثان، لا تضر ولا تنفع، وإنما اختلقتم أنتم لها أسماء، سميتموها آلهة، وإنما هي مخلوقة مثلكم. هكذا روى العوفي عن ابن عباس. وبه قال مجاهد، والسدي.

وروى الوالبي ، عن ابن عباس:وتصنعون إفكا، أي:تنحتونها أصناما. وبه قال مجاهد - في رواية - وعكرمة، والحسن، وقتادة وغيرهم، واختاره ابن جرير، رحمه الله.

وهي لا تملك لكم رزقا، ( فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ ) وهذا أبلغ في الحصر، كقوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [ الفاتحة:5 ] ، رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ [ التحريم:11 ] ، ولهذا قال: ( فَابْتَغُوا ) أي:فاطلبوا ( عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ ) أي:لا عند غيره، فإن غيره لا يملك شيئا، ( وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ ) أي:كلوا من رزقه واعبدوه وحده ، واشكروا له على ما أنعم به عليكم، ( إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) أي:يوم القيامة، فيجازي كل عامل بعمله.

وقوله: ( وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ) أي:فبلغكم ما حل بهم من العذاب والنكال في مخالفة الرسل، ( وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ ) يعني:إنما على الرسول أن يبلغكم ما أمره الله تعالى به من الرسالة، والله يضل مَنْ يشاء ويهدي مَنْ يشاء، فاحرصوا لأنفسكم أن تكونوا من السعداء.

وقال قتادة في قوله: ( وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ) قال:يُعزي نبيه صلى الله عليه وسلم. وهذا من قتادة يقتضي أنه قد انقطع الكلام الأول، واعترض بهذا إلى قوله: ( فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ ) . وهكذا نص على ذلك ابن جرير أيضا .

والظاهر من السياق أن كل هذا من كلام إبراهيم الخليل، عليه السلام [ لقومه ] يحتج عليهم لإثبات المعاد، لقوله بعد هذا كله: ( فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ ) ، والله أعلم.

أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ( 19 ) قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 20 ) يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ ( 21 ) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ( 22 ) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 23 ) .

يقول تعالى مخبرًا عن الخليل عليه السلام، أنه أرشدهم إلى إثبات المعاد الذي ينكرونه، بما يشاهدونه في أنفسهم من خلق الله إياهم، بعد أن لم يكونوا شيئا مذكورا، ثم وجدوا وصاروا أناسا سامعين مبصرين، فالذي بدأ هذا قادر على إعادته؛ فإنه سهل عليه يسير لديه.

ثم أرشدهم إلى الاعتبار بما في الآفاق من الآيات المشاهدة من خلق الله الأشياء:السموات وما فيها من الكواكب النيرة:الثوابت، والسيارات، والأرضين وما فيها من مهاد وجبال، وأودية وبرارٍ وقفار، وأشجار وأنهار، وثمار وبحار، كل ذلك دال على حدوثها في أنفسها، وعلى وجود صانعها الفاعل المختار، الذي يقول للشيء:كن، فيكون؛ ولهذا قال: ( أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ) ، كقوله: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [ الروم:27 ] .

ثم قال تعالى: ( قُلْ سِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ ) أي:يوم القيامة، ( إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) . وهذا المقام شبيه بقوله تعالى: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [ فصلت:53 ] ، وكقوله تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ [ الطور:35، 36 ] .

وقوله: ( يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ ) أي:هو الحاكم المتصرف، الذي يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، لا معقب لحكمه، ولا يُسأل عما يفعل وهم يسألون، فله الخلق والأمر، مهما فعل فَعَدْلٌ؛ لأنه المالك الذي لا يظلم مثقال ذرة، كما جاء في الحديث الذي رواه أهل السنن: « إن الله لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه، لعذبهم وهو غير ظالم لهم » . ولهذا قال تعالى: ( يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ ) أي:ترجعون يوم القيامة.

وقوله: ( وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ ) أي:لا يعجزه أحد من أهل سماواته وأرضه، بل هو القاهر فوق عباده، وكل شيء خائف منه، فقير إليه، وهو الغني عما سواه.

( وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ ) أي:جحدوها وكفروا بالمعاد، ( أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي ) أي:لا نصيب لهم فيها، ( وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) أي:موجع في الدنيا والآخرة.

فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( 24 ) وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ( 25 ) .

يقول تعالى مخبرا عن قوم إبراهيم في كفرهم وعنادهم ومكابرتهم، ودفعهم الحق بالباطل:أنه ما كان لهم جواب بعد مقالة إبراهيم هذه المشتملة على الهدى والبيان، ( إِلا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ ) ، وذلك لأنهم قام عليهم البرهان، وتوجهت عليهم الحجة، فعدلوا إلى استعمال جاههم وقوة ملكهم، قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ * فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ [ الصافات:97، 98 ] ، وذلك أنهم حَشَدوا في جمع أحطاب عظيمة مدة طويلة، وحَوّطوا حولها، ثم أضرموا فيها النار، فارتفع لها لهب إلى عَنَان السماء:ولم توقد نار قط أعظم منها، ثم عمدوا إلى إبراهيم فكتفوه وألقوه في كفَّة المنجنيق، ثم قذفوا به فيها، فجعلها الله عليه بردا وسلاما، وخرج منها سالما بعد ما مكث فيها أياما. ولهذا وأمثاله جعله الله للناس إماما. فإنه بذل نفسه للرحمن، وجسده للنيران، وسخا بولده للقربان، وجعل ماله للضيفان، ولهذا اجتمع على محبته جميع أهل الأديان.

وقوله: ( فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ ) أي:سَلَّمه [ الله ] منها، بأن جعلها عليه بردا وسلاما، ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) يقول لقومه مقرِّعا لهم وموبخا على سوء صنيعهم، في عبادتهم الأوثان:إنما اتخذتم هذه لتجتمعوا على عبادتها في الدنيا، صداقة وألفة منكم، بعضكم لبعض في الحياة الدنيا. وهذا على قراءة من نصب ( مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ ) ، على أنه مفعول له، وأما على قراءة الرفع فمعناه:إنما اتخاذكم هذا يُحَصّل لكم المودة في الدنيا فقط ( ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) ينعكس هذا الحال، فتبقى هذه الصداقة والمودة بَغْضَة وشنآنا، فـ ( يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ ) أي:تتجاحدون ما كان بينكم، ( وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ) أي:يلعن الأتباع المتبوعين، والمتبوعون الأتباع، كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا [ الأعراف:38 ] ، وقال تعالى: الأَخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ [ الزخرف:67 ] ، وقال هاهنا ( ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ) أي:ومصيركم ومرجعكم بعد عرصات القيامة إلى النار، وما لكم من ناصر ينصركم، ولا منقذ ينقذكم من عذاب الله. وهذا حال الكافرين، فأما المؤمنون فبخلاف ذلك.

قال ابن أبي حاتم:حدثنا محمد بن إسماعيل الأحْمَسي حدثنا أبو عاصم الثقفي [ حدثنا ] الربيع بن إسماعيل بن عمرو بن سعيد بن جعدة بن هُبَيْرة المخزومي، عن أبيه، عن جده عن أم هانئ - أخت علي بن أبي طالب - قالت:قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: « أخبرِك أن الله تعالى يجمع الأولين والآخرين يوم القيامة في صعيد واحد، فَمَنْ يدري أين الطرفان » ، فقالت الله ورسوله أعلم . « ثم ينادي مناد من تحت العرش:يا أهل التوحيد، فيشرئبون » قال أبو عاصم:يرفعون رؤوسهم . « ثم ينادي:يا أهل التوحيد، ثم ينادي الثالثة:يا أهل التوحيد، إن الله قد عفا عنكم » قال: « فيقول الناس قد تعلق بعضهم ببعض في ظُلامات الدنيا - يعني:المظالم - ثم ينادي:يا أهل التوحيد، ليعف بعضكم عن بعض، وعلى الله الثواب » .

فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 26 ) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ( 27 ) .

يقول تعالى مخبرًا عن إبراهيم:أنه آمن له لوط، يقال:إنه ابن أخي إبراهيم، يقولون هو:لوط بن هاران بن آزر، يعني:ولم يؤمن به من قومه سواه، وسارة امرأة [ إبراهيم ] الخليل. لكن يقال:كيف الجمع بين هذه الآية، وبين الحديث الوارد في الصحيح :أن إبراهيم حين مَرّ على ذلك الجبار، فسأل إبراهيم عن سارة:ما هي منه؟ فقال: [ هي ] أختي، ثم جاء إليها فقال لها:إني قد قلت له: « إنك:أختي » ، فلا تكذبيني، فإنه ليس على وجه الأرض [ أحد ] مؤمن غيرك وغيري ، فأنت أختي في الدين. وكأن المراد من هذا - والله أعلم - أنه ليس على وجه الأرض زوجان على الإسلام غيري وغيرك، فإن لوطا عليه السلام، آمن به من قومه، وهاجر معه إلى بلاد الشام، ثم أرسِل في حياة الخليل إلى أهل « سَدوم » وإقليمها، وكان من أمرهم ما تقدم وما سيأتي.

وقوله: ( وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي ) يحتمل عود الضمير في قوله: ( وَقَالَ ) ، على لوط، لأنه أقرب المذكورين، ويحتمل عوده إلى إبراهيم - قال ابن عباس، والضحاك:وهو المكنى عنه بقوله: ( فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ ) أي:من قومه.

ثم أخبر عنه بأنه اختار المهاجرة من بين أظهرهم، ابتغاء إظهار الدين والتمكن من ذلك؛ ولهذا قال: ( إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ ) أي:له العزة ولرسوله وللمؤمنين به، ( الْحَكِيمُ ) في أقواله وأفعاله وأحكامه القدرية والشرعية.

وقال قتادة:هاجرا جميعا من « كوثى » ، وهي من سواد الكوفة إلى الشام. قال:وذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال: « إنها ستكون هجرة بعد هجرة، ينحاز أهل الأرض إلى مُهَاجَر إبراهيم، ويبقى في الأرض شرار أهلها، حتى تلفظهم أرضهم وتقذرُهم روح الله، وتحشرهم النار مع القردة والخنازير، تبيت معهم إذا باتوا، وتَقِيل معهم إذا قالوا، وتأكل ما سقط منهم » .

وقد أسند الإمام أحمد هذا الحديث، فرواه مطولا من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، قال :حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا مَعْمَر، عن قتادة، عن شَهْر بن حَوْشَب قال:لما جاءتنا بيعة يزيد بن معاوية، قدمت الشام فأخبرت بمقام يقومه نوف البِكَالي، فجئته؛ إذ جاء رجل، فانتبذَ الناس وعليه خَمِيصة، وإذا هو عبد الله بن عمرو بن العاص. فلما رآه نوف أمسك عن الحديث، فقال عبد الله:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إنها ستكون هجرة بعد هجرة، فينحاز الناس إلى مُهَاجرَ إبراهيم، لا يبقى في الأرض إلا شرار أهلها، فتلفظهم أرضوهم، تقْذَرهم نفسُ الرحمن، تحشرهم النار مع القردة والخنازير فتبيت معهم إذا باتوا، وتَقِيل معهم إذا قالوا، وتأكل منهم من تَخَلَّف » . قال:وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « سيخرج أناس من أمتي من قبل المشرق، يقرؤون القرآن لا يجاوز تَرَاقِيهم، كلما خرج منهم قرن قُطع، كلما خرج منهم قرن قطع » حتى عَدّها زيادة على عشرين مرة « كلما خرج منهم قرن قطع، حتى يخرج الدجال في بقيتهم » .

ورواه أحمد عن أبي داود، وعبد الصمد، كلاهما عن هشام الدَّسْتُوائي، عن قتادة، به

وقد رواه أبو داود في سننه، فقال في كتاب الجهاد، باب ما جاء في سكنى الشام:

حدثنا عبيد الله بن عمر، حدثنا معاذ بن هشام، حدثني [ أبي ] ، عن قتادة، عن شهر بن حوشب، عن عبد الله بن عمرو قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « ستكون هجرة بعد هجرة، فخيار أهل الأرض ألزمهم مُهاجَر إبراهيم، ويبقى في الأرض شرار أهلها تلفظهم أرضهم وتَقْذرهم نفس الرحمن، وتحشرهم النار مع القردة والخنازير » .

وقال الإمام أحمد أيضا:حدثنا يزيد، أخبرنا أبو جَنَاب يحيى بن أبي حيَّة، عن شهر بن حوشب قال:سمعت عبد الله بن عُمَر يقول لقد رأيتُنا وما صاحب الدينار والدرهم بأحق من أخيه المسلم، ثم لقد رأيتنا بآخِرَة الآن، والدينار والدرهم أحب إلى أحدنا من أخيه المسلم، ولقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « لئن أنتم اتبعتم أذناب البقر، وتبايعتم بالعينة، وتركتم الجهاد في سبيل الله، ليلزمنكم الله مذلَّة في أعناقكم، ثم لا تنـزع منكم حتى ترجعوا إلى ما كنتم عليه، وتتوبوا إلى الله عز وجل » . وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « لتكونن هجرة بعد هجرة إلى مُهاجر أبيكم إبراهيم حتى لا يبقى في الأرضين إلا شرار أهلها وتلفظهم أرضوهم، وتقذرهم روح الرحمن، وتحشرهم النار مع القردة والخنازير، تقيل حيث يقيلون ، وتبيت حيث يبيتون، وما سقط منهم فلها » . ولقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « يخرج من أمتي قوم يسيئون الأعمال، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم - قال يزيد:لا أعلمه إلا قال - يحقر أحدكم علمه مع علمهم، يقتلون أهل الإسلام، فإذا خرجوا فاقتلوهم، ثم إذا خرجوا فاقتلوهم، ثم إذا خرجوا فاقتلوهم، فطوبى لمن قتلهم، وطوبى لمن قتلوه. كلما طلع منهم قرن قَطعَه الله » . فردد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرين مرة، أو أكثر، وأنا أسمع .

وقال الحافظ أبو بكر البيهقي:أخبرنا أبو الحُسَيْن بن الفضل، أخبرنا عبد الله بن جعفر، حدثنا يعقوب بن سفيان، حدثنا أبو النضر إسحاق بن يزيد وهشام بن عمار الدمشقيان قالا حدثنا يحيى بن حمزة، حدثنا الأوزاعي، عن نافع - وقال أبو النضر، عمن حدَّثه، عن نافع - عن عبد الله بن عمر:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « سيهاجر أهل الأرض هجرة بعد هجرة، إلى مهاجَر إبراهيم، حتى لا يبقى إلا شرار أهلها، تلفظهم الأرضون وتقذرهم روح الرحمن، وتحشرهم النار مع القردة والخنازير، تبيت معهم حيث باتوا، وتقيل معهم حيث قالوا، لها ما سقط منهم » .

غريب من حديث نافع. والظاهر أن الأوزاعي قد رواه عن شيخ له من الضعفاء، والله أعلم. وروايته من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أقرب إلى الحفظ.

وقوله: ( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ) ، كقوله تعالى: فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلا جَعَلْنَا نَبِيًّا [ مريم:49 ] أي:إنه لما فارق قومَه أقرّ الله عينه بوجود ولد صالح نبي [ وولد له ولد صالح ] في حياة جده. وكذلك قال الله: وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً [ الأنبياء:72 ] أي:زيادة، كما قال: فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ أي:ويولَد لهذا الولد ولد في حياتكما، تقر به أعينكما. وكون يعقوب ولد لإسحاق نص عليه القرآن، وثبتت به السنة النبوية، قال الله: أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [ البقرة:133 ] ، وفي الصحيحين: « إن الكريم ابنَ الكريم ابنِ الكريم ابن الكريم يوسفُ بنُ يعقوبَ بن إسحاقَ بن إبراهيم » .

فأما ما رواه العوفي عن ابن عباس في قوله: ( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ [ نَافِلَةً ] ) ، قال: « هما ولدا إبراهيم » . فمعناه:أن ولد الولد بمنـزلة الولد؛ فإن هذا أمر لا يكاد يخفى على من هو دون ابن عباس.

وقوله: ( وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ ) ، هذه خِلْعَة سَنية عظيمة، مع اتخاذ الله إياه خليلا وجعله للناس إماما، أن جعل في ذريته النبوة والكتاب، فلم يوجد نبي بعد إبراهيم عليه السلام، إلا وهو من سلالته، فجميع أنبياء بني إسرائيل من سُلالة يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، حتى كان آخرهم عيسى ابن مريم، فقام في ملئهم مبشرا بالنبي العربي القرشي الهاشمي، خاتم الرسل على الإطلاق، وسيد ولد آدم في الدنيا والآخرة، الذي اصطفاه الله من صميم العرب العَرْباء، من سلالة إسماعيل بن إبراهيم، عليهم السلام:ولم يوجد نبي من سلالة إسماعيل سواه، عليه أفضل الصلاة والسلام [ من الله تعالى ] .

وقوله: ( وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ) أي:جمع الله له بين سعادة الدنيا الموصولة بسعادة الآخرة، فكان له في الدنيا الرزق الواسع الهنيَّ والمنـزل الرَّحْب، والمورد العذب، والزوجة الحسنة الصالحة، والثناء الجميل، والذكر الحسن، فكل أحد يحبه ويتولاه، كما قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم، مع القيام بطاعة الله من جميع الوجوه، كما قال تعالى: وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى [ النجم:37 ] ، أي:قام بجميع ما أمر به، وكمل طاعة ربه؛ ولهذا قال تعالى: ( وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ) ، كما قال تعالى: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [ النحل:120- 122 ] .

وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ ( 28 ) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ( 29 ) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ ( 30 )

يقول تعالى مخبرا عن نبيه لوط عليه السلام، إنه أنكر على قومه سُوء صنيعهم، وما كانوا يفعلونه من قبيح الأعمال، في إتيانهم الذكران من العالمين، ولم يسبقهم إلى هذه الفعلة أحد من بني آدم قبلهم. وكانوا مع هذا يكفرون بالله، ويكذّبون رسوله ويخالفونه ويقطعون السبيل، أي:يقفون في طريق الناس يقتلونهم ويأخذون أموالهم، ( وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ ) أي:يفعلون ما لا يليق من الأقوال والأفعال في مجالسهم التي يجتمعون فيها، لا ينكر بعضهم على بعض شيئًا من ذلك، فمن قائل:كانوا يأتون بعضهم بعضا في الملأ قاله مجاهد. ومن قائل:كانوا يتضارطون ويتضاحكون؛ قالته عائشة، رضي الله عنها، والقاسم. ومن قائل:كانوا يناطحون بين الكباش، ويناقرون بين الديوك، وكل ذلك كان يصدر عنهم، وكانوا شرًا من ذلك.

وقال الإمام أحمد:حدثنا حماد بن أسامة، أخبرني حاتم بن أبي صغيرة، حدثنا سِمَاك بن حرب، عن أبي صالح - مولى أم هانئ - عن أم هانئ قالت:سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن قوله عز وجل: ( وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ ) ، قال: « يحذفون أهل الطريق، ويسخرون منهم، وذلك المنكر الذي كانوا يأتونه » .

ورواه الترمذي، وابن جرير، وابن أبي حاتم من حديث أبي أسامة حماد بن أسامة عن أبي يونس القُشَيري، حاتم بن أبي صَغِيرة به . ثم قال الترمذي:هذا حديث حسن لا نعرفه إلا من حديث حاتم بن أبي صغيرة عن سِمَاك.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا الحسن بن عرفة، حدثنا محمد بن كثير، عن عمرو بن قيس، عن الحكم ، عن مجاهد: ( وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ ) قال:الصفير، ولعب الحمام والجُلاهق، والسؤال في المجلس، وحل أزرار القباء.

وقوله: ( فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) ، وهذا من كفرهم واستهزائهم وعنادهم؛ ولهذا استنصر عليهم نبي الله فقال: ( رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ ) .

وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ ( 31 ) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ( 32 ) وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ( 33 ) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ( 34 ) وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ( 35 ) .

لما استنصر لوط عليه السلام، الله عليهم، بعث الله لنصرته ملائكة فمروا على إبراهيم عليه السلام، في هيئة أضياف، فجاءهم بما ينبغي للضيف، فلما رأى أنه لا همَّة لهم إلى الطعام نَكِرَهم، وأوجس منهم خيفة، فشرعوا يؤانسونه ويبشرونه بوجود ولد صالح من امرأته سارة - وكانت حاضرة - فتعجبت من ذلك، كما تقدم بيانه في سورة « هود » و « الحجر » . فلما جاءت إبراهيم بالبشرى، وأخبروه بأنهم أرسلوا لهلاك قوم لوط، أخذ يدافع لعلهم يُنظَرون، لعل الله أن يهديهم، ولما قالوا: ( إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ ) ، ( قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ) أي:من الهالكين؛ لأنها كانت تمالئهم على كفرهم وبغيهم ودبرهم. ثم ساروا من عنده فدخلوا على لوط في صورة شباب حسان، فلما رآهم كذلك ، ( سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا ) أي:اهتمَّ بأمرهم، إن هو أضافهم خاف عليهم من قومه، وإن لم يضفهم خشي عليهم منهم، ولم يعلم بأمرهم في الساعة الراهنة. ( قَالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ * إِنَّا مُنـزلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ) ، وذلك أن جبريل عليه السلام اقتلع قراهم من قرار الأرض، ثم رفعها إلى عَنَان السماء، ثم قلبها عليهم. وأرسل الله عليهم حجارة من سجيل منضود، مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد، وجعل [ الله ] مكانها بحيرة خبيثة منتنة، وجعلهم عبرة إلى يوم التناد , وهم من أشد الناس عذابا يوم المعاد؛ ولهذا قال تعالى: ( وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً ) أي:واضحة، ( لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) ، كَمَا قَالَ وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [ الصافات:137، 138 ] .

وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ ( 36 ) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ( 37 ) .

يخبر تعالى عن عبده ورسوله شعيب عليه السلام، أنه أنذر قومه أهل مَدين، فأمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له، وأن يخافوا بأس الله ونقمته وسطوته يوم القيامة، فقال: ( يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الآخِرَ ) .

قال ابن جرير:قال بعضهم:معناه:واخشوا اليوم الآخر، وهذا كقوله تعالى: لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ [ الممتحنة:6 ] .

ثم نهاهم عن العيث في الأرض بالفساد، وهو السعي فيها والبغي على أهلها، وذلك أنهم كانوا ينقصون المكيال والميزان، ويقطعون الطريق على الناس، هذا مع كفرهم بالله ورسوله، فأهلكهم الله برجفة عظيمة زلزلت عليهم بلادهم، وصيحة أخرجت القلوب من حناجرها . وعذاب يوم الظلة الذي أزهق الأرواح من مستقرها، إنه كان عذاب يوم عظيم. وقد تقدمت قصتهم مبسوطة في سورة « الأعراف، وهود، والشعراء » .

وقوله: ( فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ) ، قال قتادة:ميتين. وقال غيره:قد ألقي بعضهم على بعض.

وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ ( 38 )

يخبر تعالى عن هؤلاء الأمم المكذبة للرسل كيف أبادهم وتنوع في عذابهم، فأخذهم بالانتقام منهم، فعاد قوم هود، وكانوا يسكنون الأحقاف وهي قريبة من حضرموت بلاد اليمن، وثمود قوم صالح، وكانوا يسكنون الحجر قريبًا من وادي القرى. وكانت العرب تعرف مساكنهما جيدا، وتمر عليها كثيرًا.

 

وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ ( 39 ) فَكُلا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ( 40 ) .

وقارون صاحب الأموال الجزيلة ومفاتيح الكنوز الثقيلة. وفرعون ملك مصر في زمان موسى ووزيره هامان القبطيان الكافران بالله ورسوله .

( فَكُلا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ ) أي:كانت عقوبته بما يناسبه ، ( فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا ) ، وهم عاد، وذلك أنهم قالوا:مَنْ أشدُّ منا قوة؟ فجاءتهم ريح صرصر باردة شديدة البرد، عاتية شديدة الهبوب جدا، تحمل عليهم حصباء الأرض فتقلبها عليهم، وتقتلعهم من الأرض فترفع الرجل منهم إلى عَنَان السماء، ثم تنكسه على أم رأسه فتشدخه فيبقى بدنًا بلا رأس، كأنهم أعجاز نخل منقعر . ( وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ ) ، وهم ثمود، قامت عليهم الحجة وظهرت لهم الدلالة، من تلك الناقة التي انفلقت عنها الصخرة، مثل ما سألوا سواء بسواء، ومع هذا ما آمنوا بل استمروا على طغيانهم وكفرهم، وتهددوا نبي الله صالحا ومَنْ آمن معه، وتوعَّدوهُم بأن يخرجوهم ويرجموهم، فجاءتهم صيحة أخمدت الأصوات منهم والحركات. ( وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرْضَ ) ، وهو قارون الذي طغى وبغى وعتا، وعصى الرب الأعلى، ومشى في الأرض مرحًا، وفرح ومرح وتاه بنفسه، واعتقد أنه أفضل من غيره، واختال في مشيته، فخسف الله به وبداره الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة. ( وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا ) ، وهم فرعون ووزيره هامان، وجنوده عن آخرهم، أغرقوا في صبيحة واحدة، فلم ينج منهم مخبر، ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ ) أي:فيما فعل بهم، ( وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) أي:إنما فعل ذلك بهم جزاء وفاقا بما كسبت أيديهم.

وهذا الذي ذكرناه ظاهر سياق الآية، وهو من باب اللف والنشر، وهو أنه ذكر الأمم المكذبة، ثم قال: ( فَكُلا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ ) [ الآية ] ، أي:من هؤلاء المذكورين، وإنما نبهتُ على هذا لأنه قد روي أن ابن جريج قال:قال ابن عباس في قوله: ( فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا ) ، قال:قوم لوط. ( وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا ) ، قال:قوم نوح.

وهذا منقطع عن ابن عباس؛ فإن ابن جُرْيَج لم يدركه. ثم قد ذكر في هذه السورة إهلاك قوم نوح بالطوفان، وقوم لوط بإنـزال الرجز من السماء، وطال السياقُ والفصلُ بين ذلك وبين هذا السياق.

وقال قتادة: ( فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا ) قال:قوم لوط ، ( وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ ) ، قوم شعيب. وهذا بعيد أيضا لما تقدم، والله أعلم.

مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ( 41 ) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 42 ) وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ ( 43 )

هذا مثل ضربه الله تعالى للمشركين في اتخاذهم آلهة من دون الله، يرجون نصرهم ورزقهم، ويتمسكون بهم في الشدائد، فهم في ذلك كبيت العنكبوت في ضعفه ووهنه فليس في أيدي هؤلاء من آلهتهم إلا كمَنْ يتمسك ببيت العنكبوت، فإنه لا يجدي عنه شيئا، فلو عَلموا هذا الحال لما اتخذوا من دون الله أولياء، وهذا بخلاف المسلم المؤمن قلبه لله، وهو مع ذلك يحسن العمل في اتباع الشرع فإنه مستمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها، لقوتها وثباتها.

ثم قال تعالى متوعدا لِمَنْ عبد غيره وأشرك به:إنه تعالى يعلم ما هم عليه من الأعمال، ويعلم ما يشركون به من الأنداد، وسيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم.

ثم قال تعالى: ( وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ ) أي:وما يفهمها ويتدبرها إلا الراسخون في العلم المتضلعون منه.

قال الإمام أحمد:حدثنا إسحاق بن عيسى، حدثني ابن لَهِيعة، عن أبي قَبِيل ، عن عمرو بن العاص، رضي الله عنه، قال:عَقَلْتُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألف مثل .

وهذه منقبة عظيمة لعمرو بن العاص - رضي الله عنه - حيث يقول [ الله ] تعالى: ( وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ ) .

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا علي بن الحسين، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن، حدثنا أبي، حدثنا ابن سنان، عن عمرو بن مرة قال:ما مررت بآية من كتاب الله لا أعرفها إلا أحزنني، لأني سمعت الله تعالى يقول: ( وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ ) .

خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ ( 44 ) اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ( 45 ) .

يقول تعالى [ مخبرا ] عن قدرته العظيمة:أنه خلق السموات والأرض بالحق، يعني:لا على وجه العبث واللعب، لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى [ طه:15 ] ، لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [ النجم:31 ] .

وقوله: ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ ) أي:لدلالة واضحة على أنه تعالى المتفرد بالخلق والتدبير والإلهية.

ثم قال تعالى آمرا رسوله والمؤمنين بتلاوة القرآن، وهو قراءته وإبلاغه للناس: ( وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ) يعني:أن الصلاة تشتمل على شيئين:على ترك الفواحش والمنكرات، أي:إن مواظبتها تحمل على ترك ذلك. وقد جاء في الحديث من رواية عمران، وابن عباس مرفوعا: « مَنْ لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر، لم تزده من الله إلا بعدا » .

[ ذكر الآثار الواردة في ذلك ] :

قال ابن أبي حاتم:حدثنا محمد بن هارون المخرمي الفلاس، حدثنا عبد الرحمن بن نافع أبو زياد، حدثنا عمر بن أبي عثمان، حدثنا الحسن، عن عمران بن حصين قال:سُئِل النبي صلى الله عليه وسلم عن قول الله: ( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ) قال: « مَنْ لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر، فلا صلاة له » .

وحدثنا علي بن الحسين، حدثنا يحيى بن أبي طلحة اليربوعي حدثنا أبو معاوية، عن ليث، عن طاوس، عن ابن عباس قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « مَنْ لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر، لم يزدد بها من الله إلا بعدا » . ورواه الطبراني من حديث أبي معاوية .

وقال ابن جرير:حدثنا القاسم، حدثنا الحسين، حدثنا خالد بن عبد الله، عن العلاء بن المسيب، عمن ذكره، عن ابن عباس في قوله: ( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ) قال:فَمَنْ لم تأمره صلاته بالمعروف وتنهه عن المنكر، لم يزدد بصلاته من الله إلا بعدا. فهذا موقوف

. قال ابن جرير:وحدثنا القاسم، حدثنا الحسين، حدثنا علي بن هاشم بن البريد، عن جويبر، عن الضحاك، عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « لا صلاة لِمَنْ لم يطع الصلاة، وطاعة الصلاة أن تنهى عن الفحشاء والمنكر » . قال:وقال سفيان: قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ [ هود:87 ] قال:فقال سفيان:أي والله، تأمره وتنهاه.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو سعيد الأشَجّ، حدثنا أبو خالد، عن جويبر، عن الضحاك، عن عبد الله قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - وقال أبو خالد مَرَّة:عن عبد الله - : « لا صلاة لِمَنْ لم يطع الصلاة، وطاعة الصلاة تنهاه عن الفحشاء والمنكر » .

والموقوف أصح، كما رواه الأعمش، عن مالك بن الحارث، عن عبد الرحمن بن يزيد قال:قيل لعبد الله:إن فلانا يطيل الصلاة؟ قال:إن الصلاة لا تنفع إلا من أطاعها .

وقال ابن جرير:قال علي:حدثنا إسماعيل بن مسلم ، عن الحسن قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من صلى صلاة لم تنهه عن الفحشاء والمنكر، لم يزدد بها من الله إلا بُعْدا » .

والأصح في هذا كله الموقوفات عن ابن مسعود، وابن عباس، والحسن وقتادة، والأعمش وغيرهم، والله أعلم.

وقال الحافظ أبو بكر البزار:حدثنا يوسف بن موسى، حدثنا جرير - يعني ابن عبد الحميد - عن الأعمش، عن أبي صالح قال:أراه عن جابر - شك الأعمش - قال:قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم:إن فلانا يصلي فإذا أصبح سرق، قال: « سينهاه ما يقول » .

وحدثنا محمد بن موسى الحَرشي حدثنا زياد بن عبد الله، عن الأعمش عن أبي صالح، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه - ولم يشك - ثم قال:وهذا الحديث قد رواه غير واحد عن الأعمش واختلفوا في إسناده، فرواه غير واحد عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة أو غيره، وقال قيس عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، وقال جرير وزياد:عن عبد الله، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن جابر.

وقال الإمام أحمد:حدثنا وَكِيع، حدثنا الأعمش قال:أنبأنا أبو صالح عن أبي هريرة قال:جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:إن فلانا يصلي بالليل فإذا أصبح سرق؟ فقال: « إنه سينهاه ما يقول » .

وتشتمل الصلاة أيضا على ذكر الله تعالى، وهو المطلوب الأكبر؛ ولهذا قال تعالى: ( وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ) أي:أعظم من الأول، ( وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ) أي:يعلم جميع أقوالكم وأعمالكم.

وقال أبو العالية في قوله: ( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ) ، قال:إن الصلاة فيها ثلاث خصال فكل صلاة لا يكون فيها شيء من هذه الخلال فليست بصلاة:الإخلاص، والخشية، وذكر الله. فالإخلاص يأمره بالمعروف، والخشية تنهاه عن المنكر، وذكر القرآن يأمره وينهاه.

وقال ابن عَوْن الأنصاري:إذا كنت في صلاة فأنت في معروف، وقد حجزتك عن الفحشاء والمنكر، والذي أنت فيه من ذكر الله أكبر.

وقال حماد بن أبي سليمان: ( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ) يعني:ما دمت فيها.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: ( وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ) ، يقول:ولذكر الله لعباده أكبر، إذا ذكروه من ذكرهم إياه.

وكذا روى غير واحد عن ابن عباس. وبه قال مجاهد، وغيره.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن داود بن أبي هند، عن رجل، عن ابن عباس: ( وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ) قال:ذكر الله عند طعامك وعند منامك. قلت:فإن صاحبًا لي في المنـزل يقول غير الذي تقول:قال:وأي شيء يقول؟ قلت:قال:يقول الله: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [ البقرة:152 ] ، فلذكر الله إيانا أكبر من ذكرنا إياه. قال:صدق.

قال:وحدثنا أبي، حدثنا النفيلي، حدثنا إسماعيل، عن خالد، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس في قوله: ( وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ) قال:لها وجهان، قال:ذكر الله عندما حرمه، قال:وذكر الله إياكم أعظم من ذكركم إياه.

وقال ابن جرير:حدثني يعقوب بن إبراهيم، حدَّثنا هُشَيْم، أخبرنا عطاء بن السائب، عن عبد الله بن ربيعة قال:قال لي ابن عباس:هل تدري ما قوله تعالى: ( وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ) ؟ قال:قلت:نعم. قال:فما هو؟ قلت:التسبيح والتحميد والتكبير في الصلاة، وقراءة القرآن، ونحو ذلك. قال:لقد قلت قولا عجبًا، وما هو كذلك، ولكنه إنما يقول:ذكر الله إياكم عندما أمر به أو نهى عنه إذا ذكرتموه، أكبر من ذكركم إياه .

وقد روي هذا من غير وجه عن ابن عباس. وروي أيضا عن ابن مسعود، وأبي الدرداء، وسلمان الفارسي، وغيرهم. واختاره ابن جرير.

 

وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ( 46 ) .

قال قتادة وغير واحد:هذه الآية منسوخة بآية السيف، ولم يبق معهم مجادلة، وإنما هو الإسلام أو الجزية أو السيف.

وقال آخرون:بل هي باقية أو محكمة لِمَنْ أراد الاستبصار منهم في الدين، فيجادل بالتي هي أحسن، ليكون أنجع فيه، كما قال تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [ النحل:125 ] ، وقال تعالى لموسى وهارون حين بعثهما إلى فرعون: فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [ طه:44 ] . وهذا القول اختاره ابن جرير ، وحكاه عن ابن زيد.

وقوله: ( إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ) أي:حادوا عن وجه الحق ، وعَمُوا عن واضح المحجة، وعاندوا وكابروا، فحينئذ ينتقل من الجدال إلى الجلاد، ويقاتلون بما يردعهم ويمنعهم، قال الله تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [ الحديد:25 ] .

قال جابر:أمرْنَا من خالف كتاب الله أن نضربه بالسيف.

قال مجاهد: ( إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ) يعني:أهل الحرب، وَمَنِ امتنع منهم عن أداء الجزية.

وقوله: ( وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنـزلَ إِلَيْنَا وَأُنـزلَ إِلَيْكُمْ ) ، يعني:إذا أخبروا بما لا يعلم صدقه ولا كذبه، فهذا لا نُقدم على تكذيبه لأنه قد يكون حقا، ولا على تصديقه، فلعله أن يكون باطلا ولكن نؤمن به إيمانا مجملا معلقا على شرط وهو أن يكون منـزلا لا مبدلا ولا مؤولا.

وقال البخاري، رحمه الله:حدثنا محمد بن بشار، حدثنا عثمان بن عُمَر، أخبرنا علي بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه قال:كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية، ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا:آمنا بالله وما أنـزل إلينا وما أنـزل إليكم، وإلهنا وإلهكم واحد، ونحن له مسلمون » . وهذا الحديث تفرَّد به البخاري .

وقال الإمام أحمد:حدثنا عثمان بن عُمَر، أخبرنا يونس، عن الزهري، أخبرني ابن أبي نملة أن أبا نَمْلَةَ الأنصاري أخبره، أنه بينما هو جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاءه رجل من اليهود، فقال:يا محمد، هل تتكلم هذه الجنازة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « الله أعلم » . قال اليهودي:أنا أشهد أنها تتكلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم، وقولوا:آمنا بالله ورسله وكتبه، فإن كان حقًّا لم تكذبوهم، وإن كان باطلا لم تصدقوهم »

قلت:وأبو نَمْلَةَ هذا هو:عُمَارة. وقيل:عمار. وقيل:عمرو بن معاذ بن زُرَارة الأنصاري، رضي الله عنه.

ثم ليعلم أن أكثر ما يُحدّثون به غالبُه كذب وبهتان؛ لأنه قد دخله تحريف وتبديل وتغيير وتأويل، وما أقل الصدق فيه، ثم ما أقل فائدة كثير منه لو كان صحيحا.

قال ابن جرير:حدثنا ابن بشار، حدثنا أبو عاصم، حدثنا سفيان، عن سليمان بن عامر، عن عمارة بن عمير، عن حُرَيْث بن ظهير، عن عبد الله - هو ابن مسعود - قال:لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء، فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا، إما أن تكذبوا بحق أو تصدقوا بباطل، فإنه ليس أحد من أهل الكتاب إلا وفي قلبه تالية، تدعوه إلى دينه كتالية المال .

وقال البخاري:حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا إبراهيم بن سعد، أخبرنا ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس قال:كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء، وكتابكم الذي أنـزل على رسوله صلى الله عليه وسلم أحدث تقرؤونه محضا لم يُشَب، وقد حدَثَكم أن أهل الكتاب بدَّلوا كتاب الله، وغيروه وكتبوا بأيديهم الكتاب، وقالوا:هو من عند الله، ليشتروا به ثمنا قليلا؟ ألا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم؟ لا والله ما رأينا منهم رجلا يسألكم عن الذي أنـزل عليكم .

وقال البخاري:وقال أبو اليمان:أخبرنا شعيب، عن الزهري، أخبرني حُمَيد بن عبد الرحمن:أنه سمع معاوية يحدث رهطا من قريش بالمدينة - وذكرَ كعبَ الأحبار - فقال:إن كان من أصدق هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب، وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب .

قلت:معناه أنه يقع منه الكذب لغة من غير قصد؛ لأنه يحدث عن صحف هو يحسن بها الظن، وفيها أشياء موضوعة ومكذوبة؛ لأنهم لم يكن في ملتهم حفاظ متقنون كهذه الأمة العظيمة، ومع ذلك وقرب العهد وضعت أحاديث كثيرة في هذه الأمة، لا يعلمها إلا الله ومن منحه الله علما بذلك، كل بحسبه، ولله الحمد والمنة.

وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا الْكَافِرُونَ ( 47 ) وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ( 48 ) بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا الظَّالِمُونَ ( 49 ) .

قال ابن جرير:يقول الله تعالى:كما أنـزلنا الكُتُب على مَنْ قبلك - يا محمد - من الرسل، كذلك أنـزلنا إليك هذا الكتاب.

وهذا الذي قاله حسن ومناسبة وارتباط جيد.

وقوله: ( فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ) أي:الذين أخذوه فتلَوْه حق تلاوته من أحبارهم العلماء الأذكياء، كعبد الله بن سلام، وسلمان الفارسي، وأشباههما.

وقوله: ( وَمِنْ هَؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ ) ، يعني العرب من قريش وغيرهم، ( وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا الْكَافِرُونَ ) ، أي:ما يكذب بها ويجحد حقها إلا مَنْ يستر الحق بالباطل، ويغطي ضوء الشمس بالوصائل، وهيهات.

ثم قال تعالى: ( وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ) ، أي:قد لبثت في قومك - يا محمد - ومن قبل أن تأتي بهذا القرآن عُمرا لا تقرأ كتابا ولا تحسن الكتابة، بل كل أحد من قومك وغيرهم يعرف أنك رجل أمي لا تقرأ ولا تكتب . وهكذا صفته في الكتب المتقدمة، كما قال تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ الآية [ الأعراف:157 ] . وهكذا كان، صلوات الله وسلامه عليه [ دائما أبدا ] إلى يوم القيامة ، لا يحسن الكتابة ولا يخط سطرا ولا حرفا بيده، بل كان له كتاب يكتبون بين يديه الوحي والرسائل إلى الأقاليم. ومن زعم من متأخري الفقهاء، كالقاضي أبي الوليد الباجي ومن تابعه أنه عليه السلام ، كتب يوم الحديبية: « هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله » فإنما حمله على ذلك رواية في صحيح البخاري: « ثم أخذ فكتب » :وهذه محمولة على الرواية الأخرى: « ثم أمر فكتب » . ولهذا اشتد النكير بين فقهاء المغرب والمشرق على من قال بقول الباجي، وتبرؤوا منه، وأنشدوا في ذلك أقوالا وخطبوا به في محافلهم:وإنما أراد الرجل - أعني الباجي، فيما يظهر عنه - أنه كتب ذلك على وجه المعجزة، لا أنه كان يحسن الكتابة، كما قال، عليه الصلاة والسلام إخبارا عن الدجال: « مكتوب بين عينيه كافر » وفي رواية: « ك ف ر، يقرؤها كل مؤمن » ، وما أورده بعضهم من الحديث أنه لم يمت، عليه السلام حتى تعلم الكتابة، فضعيف لا أصل له؛ قال الله تعالى: ( وَمَا كُنْتَ تَتْلُو ) أي:تقرأ ( مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ ) لتأكيد النفي، ( وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ) تأكيد أيضا، وخرج مخرج الغالب، كقوله تعالى: وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ [ الأنعام:38 ] .

وقوله: ( إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ) أي:لو كنت تحسنها لارتاب بعض الجهلة من الناس فيقول:إنما تعلم هذا من كُتب قبله مأثورة عن الأنبياء، مع أنهم قالوا ذلك مع علمهم بأنه أمي لا يحسن الكتابة: وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلا [ الفرقان:5 ] ،قال الله تعالى: قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا [ الفرقان:6 ] ، وقال هاهنا: ( بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ) أي: [ هذا ] القرآن آيات بينة واضحة في الدلالة على الحق، أمرًا ونهيًا وخبرًا، يحفظه العلماء، يَسَّره الله عليهم حفظًا وتلاوةً وتفسيرًا، كما قال تعالى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [ القمر:17 ] ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما مِنْ نبي إلا وقد أعطي ما آمن على مثله البشر وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إليَّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا » .

وفي حديث عياض بن حمار ، في صحيح مسلم: « يقول الله تعالى:إني مبتليك ومبتل بك، ومنـزل عليك كتابًا لا يغسله الماء، تقرؤه نائما ويقظان » . أي:لو غسل الماء المحلَّ المكتوب فيه لما احتيج إلى ذلك المحل، كما جاء في الحديث الآخر: « لو كان القرآن في إهاب، ما أحرقته النار » ، لأنه محفوظ في الصدور، ميسر على الألسنة، مهيمن على القلوب، معجز لفظًا ومعنى؛ ولهذا جاء في الكتب المتقدمة، في صفة هذه الأمة: « أناجيلهم في صدورهم » .

واختار ابن جرير أن المعنى في قوله تعالى: ( بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ) ، بل العلم بأنك ما كنت تتلو من قبل هذا الكتاب كتابًا ولا تخطه بيمينك، آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم من أهل الكتاب . ونقله عن قتادة، وابن جريج. وحكى الأول عن الحسن [ البصري ] فقط.

قلت:وهو الذي رواه العوفي عن عبد الله بن عباس، وقاله الضحاك، وهو الأظهر، والله أعلم.

وقوله: ( وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا الظَّالِمُونَ ) أي:ما يكذب بها ويبخس حقها ويردها إلا الظالمون، أي:المعتدون المكابرون، الذين يعلمون الحق ويحيدون عنه، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ [ يونس:96، 97 ] .

وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ( 50 ) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( 51 ) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ( 52 ) .

يقول تعالى مخبرًا عن المشركين في تعنتهم وطلبهم آيات - يعنون - ترشدهم إلى أن محمدا رسول الله كما جاء صالح بناقته، قال الله تعالى: ( قُلْ ) يا محمد: ( إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ ) أي:إنما أمر ذلك إلى الله، فإنه لو علم أنكم تهتدون لأجابكم إلى سؤالكم؛ لأن ذلك سهل عليه، يسير لديه، ولكنه يعلم منكم أنما قصدكم التعنت والامتحان، فلا يجيبكم إلى ذلك، كما قال تعالى: وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا [ الإسراء:59 ] .

وقوله: ( وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ) أي:إنما بعثت نذيرًا لكم بَيِّنَ النذارة فَعَليَّ أن أبلغكم رسالة الله و مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا [ الكهف:17 ] ، وقال تعالى: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [ البقرة:272 ] .

ثم قال تعالى مبينا كثرة جهلهم، وسخافة عقلهم، حيث طلبوا آيات تدلهم على صدق محمد فيما جاءهم [ به ] - وقد جاءهم بالكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه تنـزيل من حكيم حميد، الذي هو أعظم من كل معجزة، إذ عجزت الفصحاء والبلغاء عن معارضته، بل عن معارضة عشر سور من مثله، بل عن معارضة سورة منه - فقال تعالى: ( أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنـزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ ) أي:أولم يكفهم آية أنا أنـزلنا عليك هذا الكتاب العظيم، الذي فيه خبر ما قبلهم، ونبأ ما بعدهم، وحكم ما بينهم، وأنت رجل أمي لا تقرأ ولا تكتب، ولم تخالط أحدا من أهل الكتاب، فجئتهم بأخبار ما في الصحف الأولى، ببيان الصواب مما اختلفوا فيه، وبالحق الواضح البين الجلي، كما قال تعالى: أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ [ الشعراء:197 ] ، وقال تعالى: وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى [ طه:133 ] .

وقال الإمام أحمد:حدثنا حجاج، حدثنا ليث، حدثني سعيد بن أبي سعيد، عن أبيه عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما من الأنبياء من نبي إلا قد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة » . أخرجاه من حديث الليث .

وقال الله تعالى: ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) أي:إن في هذا القرآن: ( لَرَحْمَةً ) أي:بيانًا للحق، وإزاحة للباطل و ( ذِكْرَى ) بما فيه حلول النقمات ونـزول العقاب بالمكذبين والعاصين، ( لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) .

ثم قال تعالى:قل: ( كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا ) أي:هو أعلم بما تفيضون فيه من التكذيب، ويعلم ما أقول لكم من إخباري عنه، بأنه أرسلني، فلو كنت كاذبا عليه لانتقم مني، كما قال تعالى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ [ الحاقة:44- 47 ] ، وإنما أنا صادق عليه فيما أخبرتكم به، ولهذا أيدني بالمعجزات الواضحات، والدلائل القاطعات.

( يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) [ أي ] :لا تخفى عليه خافية.

( وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ) أي:يوم معادهم سيجزيهم على ما فعلوا، ويقابلهم على ما صنعوا، من تكذيبهم بالحق واتباعهم الباطل، كذبوا برسل الله مع قيام الأدلة على صدقهم، وآمنوا بالطواغيت والأوثان بلا دليل، سيجازيهم على ذلك، إنه حكيم عليم.

 

وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ( 53 ) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ( 54 ) يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( 55 ) .

يقول تعالى مخبرا عن جهل المشركين في استعجالهم عذاب الله أن يقع بهم، وبأس الله أن يحل عليهم، كما قال تعالى: وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [ الأنفال:32 ] ، وقال هاهنا: ( وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ ) أي:لولا ما حَتَّم الله من تأخير العذاب إلى يوم القيامة لجاءهم العذاب قريبا سريعا كما استعجلوه.

ثم قال: ( وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً ) أي:فجأة ، ( وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ) أي:يستعجلون بالعذاب، وهو واقع بهم لا محالة.

قال شعبة، عن سِمَاك، عن عِكْرِمة قال في قوله: ( وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ) ، قال:البحر.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا علي بن الحسين. حدثنا عمر بن إسماعيل بن مجالد، حدثنا أبي عن مجالد، عن الشعبي؛ أنه سمع ابن عباس يقول: ( وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ) :وجهنم هو هذا البحر الأخضر، تنتثر الكواكب فيه، وتُكور فيه الشمس والقمر، ثم يستوقد فيكون هو جهنم.

وقال الإمام أحمد:حدثنا أبو عاصم، حدثنا عبد الله بن أمية، حدثني محمد بن حُيَي، حدثنا صفوان بن يعلى، عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « البحر هو جهنم » . قالوا:ليعلى، فقال:ألا ترون أن الله يقول: نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا [ الكهف:29 ] ، قال:لا والذي نفس يعلى بيده لا أدخلها أبدا حتى أعرض على الله، ولا يصيبني منها قطرة حتى أعرض على الله عز وجل .

هذا تفسير غريب، وحديث غريب جدا، والله أعلم.

ثم قال تعالى: ( يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ) ، كقوله تعالى: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ [ الأعراف:41 ] ، وقال: لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ [ الزمر:16 ] ، وقال: لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ [ الأنبياء:39 ] ، فالنار تغشاهم من سائر جهاتهم، وهذا أبلغ في العذاب الحسي.

وقوله: ( وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) ، تهديد وتقريع وتوبيخ، وهذا عذاب معنوي على النفوس، كقوله: يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [ القمر:48، 49 ] ، وقال يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا * هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ * اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [ الطور:13- 16 ] .

يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ ( 56 ) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ( 57 ) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ( 58 ) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ( 59 ) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( 60 ) .

هذا أمر من الله لعباده المؤمنين بالهجرة من البلد الذي لا يقدرون فيه على إقامة الدين، إلى أرض الله الواسعة، حيث يمكن إقامة الدين، بأن يوحدوا الله ويعبدوه كما أمرهم؛ ولهذا قال: ( يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ ) .

قال الإمام أحمد:حدثنا يزيد بن عبد ربه، حدثنا بَقِيَّةُ بن الوليد، حدثني جُبَيْر بن عمرو القرشي، حدثني أبو سعد الأنصاري، عن أبي يحيى مولى الزبير بن العوام قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « البلاد بلاد الله، والعباد عباد الله، فحيثما أصبتَ خيرًا فأقم » .

ولهذا لما ضاق على المستضعفين بمكة مقامهم بها، خرجوا مهاجرين إلى أرض الحبشة، ليأمنوا، على دينهم هناك، فوجدوا هناك خير المنـزلين، أصحمة النجاشي ملك الحبشة، رحمه الله، آواهم وأيدهم بنصره، وجعلهم شُيُوما ببلاده. ثم بعد ذلك هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الباقون إلى المدينة النبوية يثرب المطهرة

ثم قال: ( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ) أي:أينما كنتم يدرككم الموت، فكونوا في طاعة الله وحيث أمركم الله، فهو خير لكم، فإن الموت لا بد منه، ولا محيد عنه، ثم إلى الله المرجع [ والمآب ] ، فَمَنْ كان مطيعا له جازاه أفضل الجزاء، ووافاه أتمَّ الثواب؛ ولهذا قال: ( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ ) أي:لنسكننهم منازل عاليةً في الجنة تجري من تحتها الأنهار، على اختلاف أصنافها، من ماء وخمر، وعسل ولبن، يصرفونها ويجرونها حيث شاؤوا، ( خَالِدِينَ فِيهَا ) أي:ماكثين فيها أبدا لا يبغون عنها حولا ( نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ) :نعمت هذه الغرفُ أجرًا على أعمال المؤمنين.

( الَّذِينَ صَبَرُوا ) أي:على دينهم، وهاجروا إلى الله، ونابذوا الأعداء، وفارقوا الأهل والأقرباء، ابتغاء وجه الله، ورجاء ما عنده وتصديق موعوده.

قال ابن أبي حاتم، رحمه الله:حدثني أبي، حدثنا صفوان المؤذِنَ، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا معاوية بن سلام، عن أخيه زيد بن سلام، عن جده أبي سلام الأسود، حدثني أبو معَاتق الأشعري، أن أبا مالك الأشعري حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثه:أن في الجنة غُرَفا يُرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، أعدَّها الله لِمَنْ أطعم الطعام، وأطاب الكلام، وأباح الصيام، وأقام الصلاة والناس نيام .

[ وقوله ] : ( وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) ، في أحوالهم كلها، في دينهم ودنياهم.

ثم أخبرهم تعالى أن الرزق لا يختص ببقعة، بل رزقه تعالى عام لخلقه حيث كانوا وأين كانوا، بل كانت أرزاق المهاجرين حيث هاجروا أكثر وأوسع وأطيب، فإنهم بعد قليل صاروا حكام البلاد في سائر الأقطار والأمصار؛ ولهذا قال: ( وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا ) أي:لا تطيق جمعه وتحصيله ولا تؤخر شيئًا لغد، ( اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ ) أي:الله يقيض لها رزقها على ضعفها، وييسره عليها، فيبعث إلى كل مخلوق من الرزق ما يصلحه، حتى الذر في قرار الأرض، والطير في الهواء والحيتان في الماء، قال الله تعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [ هود:6 ] .

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا محمد بن عبد الرحمن الهروي، حدثنا يزيد - يعني ابن هارون - حدثنا الجراح بن مِنْهَال الجزري - هو أبو العطوف - عن الزهري، عن رجل ، عن ابن عمر قال:خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل بعض حيطان المدينة، فجعل يلتقط من التمر ويأكل، فقال لي: « يا بن عمر، ما لك لا تأكل؟ » قال:قلت:لا أشتهيه يا رسول الله، قال: « لكني أشتهيه، وهذه صبح رابعة منذ لم أذق طعاما ولم أجده، ولو شئت لدعوت ربي فأعطاني مثل ملك قيصر وكسرى فكيف بك يا بن عمر إذا بَقِيتَ في قوم يخبئون رزق سنتهم بضعف اليقين؟ » . قال:فوالله ما برحنا ولا رِمْنا حتى نـزلت: ( وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الله لم يأمرني بكنـز الدنيا، ولا باتباع الشهوات، فَمَنْ كنـز دنياه يريد بها حياة باقية فإن الحياة بيد الله، ألا وإني لا أكنـز دينارًا ولا درهمًا، ولا أخبئ رزقا لغد » .

وهذا حديث غريب، وأبو العطوف الجزري ضعيف.

وقد ذكروا أن الغراب إذا فَقسَ عن فراخه البَيض، خرجوا وهم بيضٌ فإذا رآهم أبواهم كذلك، نفرا عنهم أياما حتى يسود الريش، فيظل الفرخ فاتحًا فاه يتفقد أبويه، فيقيض الله له طيرًا صغارًا كالبَرغَش فيغشاه فيتقوت منه تلك الأيام حتى يسود ريشه، والأبوان يتفقدانه كل وقت، فكلما رأوه أبيض الريش نفرا عنه، فإذا رأوه قد اسودّ ريشه عطفا عليه بالحضانة والرزق، ولهذا قال الشاعر:

يـــا رازق النعَّـــاب فــي عُشــه وجَــابر العَظْـم الكَسِـير المهيـض

وقد قال الشافعي في جملة كلام له في الأوامر، كقول النبي صلى الله عليه وسلم « سافروا تصحوا وترزقوا » .

قال البيهقي أخبرنا إملاء أبو الحسن علي بن عبدان، أخبرنا أحمد بن عبيد، أخبرنا محمد بن غالب، حدثني محمد بن سِنان، حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن رَدّاد - شيخ من أهل المدينة - حدثنا عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « سافروا تصحوا وتغنموا » . قال:ورويناه عن ابن عباس .

وقال الإمام أحمد:حدثنا قتيبة، حدثنا ابن لَهِيعة، عن دَرّاج، عن عبد الرحمن بن حُجَيرة، عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « سافروا تربحوا، وصوموا تصحوا، واغزوا تغنموا » .

وقد ورد مثل حديث ابن عمر عن ابن عباس مرفوعا، وعن معاذ بن جبل موقوفا . وفي لفظ: « سافروا مع ذوي الجدود والميسرة »

وقوله تعالى: ( وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) أي:السميع لأقوال عباده، العليم بحركاتهم وسكناتهم.

وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ( 61 ) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( 62 ) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ( 63 ) .

يقول تعالى مقررا أنه لا إله إلا هو؛ لأن المشركين - الذين يعبدون معه غيره - معترفون أنه المستقل بخلق السموات والأرض والشمس والقمر، وتسخير الليل والنهار، وأنه الخالق الرازق لعباده، ومقدر آجالهم، واختلافها واختلاف أرزاقهم ففاوت بينهم، فمنهم الغني والفقير، وهو العليم بما يصلح كُلا منهم، ومَنْ يستحق الغنى ممن يستحق الفقر، فذكر أنه المستبدُّ بخلق الأشياء المتفرد بتدبيرها، فإذا كان الأمر كذلك فلم يُعبد غيره؟ ولم يتوكل على غيره؟ فكما أنه الواحد في ملكه فليكن الواحد في عبادته، وكثيرًا ما يقرر تعالى مقام الإلهية بالاعتراف بتوحيد الربوبية. وقد كان المشركون يعترفون بذلك، كما كانوا يقولون في تلبيتهم: « لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك » .

 

وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ( 64 ) فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ ( 65 ) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ( 66 ) .

يقول تعالى مخبرا عن حقارة الدنيا وزوالها وانقضائها، وأنها لا دوام لها، وغاية ما فيها لهو ولعب: ( وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ ) أي:الحياة الدائمة الحق الذي لا زوال لها ولا انقضاء، بل هي مستمرة أبد الآباد.

وقوله: ( لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) أي:لآثروا ما يبقى على ما يفنى.

ثم أخبر تعالى عن المشركين أنهم عند الاضطرار يدعونه وحده لا شريك له، فهلا يكون هذا منهم دائما، ( فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) كقوله وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ [ الإسراء::67 ] . وقال هاهنا: ( فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ ) .

وقد ذكر محمد بن إسحاق، عن عكرمة بن أبي جهل:أنه لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ذهب فارًّا منها، فلما ركب في البحر ليذهب إلى الحبشة، اضطربت بهم السفينة، فقال أهلها:يا قوم، أخلصوا لربكم الدعاء، فإنه لا ينجي هاهنا إلا هو. فقال عكرمة:والله إن كان لا ينجي في البحر غيره، فإنه لا يُنَجّي غيره في البر أيضا، اللهم لك عليَّ عهد لئن خرجتُ لأذهبن فلأضعَنّ يدي في يد محمد فلأجدنه رؤوفًا رحيما، وكان كذلك.

وقوله: ( لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا ) :هذه اللام يسميها كثير من أهل العربية والتفسير وعلماء الأصول لام العاقبة؛ لأنهم لا يقصدون ذلك، ولا شك أنها كذلك بالنسبة إليهم، وأما بالنسبة إلى تقدير الله عليهم ذلك وتقييضه إياهم لذلك فهي لام التعليل. وقد قدَّمْنا تقرير ذلك في قوله: لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا [ القصص:8 ] .

أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ ( 67 ) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ ( 68 ) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ( 69 )

يقول تعالى ممتنا على قريش فيما أحلهم من حرمه، الذي جعله للناس سواء العاكف فيه والبادي، ومن دخله كان آمنا، فهم في أمن عظيم، والأعراب حوله ينهب بعضهم بعضا ويقتل بعضهم بعضا، كما قال تعالى: لإِيلافِ قُرَيْشٍ * إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [ قريش:1- 4 ] .

وقوله: ( أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ ) أي:أفكان شكرهم على هذه النعمة العظيمة أن أشركوا به، وعبدوا معه [ غيره من ] الأصنام والأنداد، و بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ [ إبراهيم:28 ] ، وكفروا بنبي الله وعبده ورسوله، فكان اللائق بهم إخلاص العبادة لله، وألا يشركوا به، وتصديق الرسول وتعظيمه وتوقيره، فكذبوه وقاتلوه وأخرجوه من بين ظهرهم؛ ولهذا سلبهم الله ما كان أنعم به عليهم، وقتل من قتل منهم ببدر، وصارت الدولة لله ولرسوله وللمؤمنين، ففتح الله على رسوله مكة، وأرغم آنافهم وأذل رقابهم.

ثم قال تعالى: ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ ) أي:لا أحد أشد عقوبة ممن كذب على الله فقال:إن الله أوحى إليه شيء، ولم يوح إليه شيء. ومن قال:سأنـزل مثل ما أنـزل الله. وهكذا لا أحد أشد عقوبة ممن كذب بالحق لما جاءه، فالأول مفتر، والثاني مكذب؛ ولهذا قال: ( أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ ) .

ثم قال ( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا ) يعني:الرسول، صلوات الله وسلامه عليه، وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين ( لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ) ، أي:لنُبَصرنهم سبلنا، أي:طرقنا في الدنيا والآخرة.

قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا أحمد بن أبي الحَواري، حدثنا عباس الهمداني أبو أحمد - من أهل عكا - في قول الله : ( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ) قال:الذين يعملون بما يعلمون، يهديهم لما لا يعلمون. قال أحمد بن أبي الحواري:فحدثت به أبا سليمان الداراني فأعجبه، وقال:ليس ينبغي لِمَنْ ألهم شيئا من الخير أن يعمل به حتى يسمعه في الأثر، فإذا سمعه في الأثر عمل به، وحمد الله حين وافق ما في نفسه .

وقوله: ( وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ) ، قال ابن أبي حاتم:

حدثنا أبي، حدثنا عيسى بن جعفر - قاضي الري - حدثنا أبو جعفر الرازي، عن المغيرة، عن الشعبي قال:قال عيسى بن مريم، عليه السلام:إنما الإحسان أن تحسن إلى مَنْ أساء إليك، ليس الإحسان أن تحسن إلى مَنْ أحسن إليك. [ وفي حديث جبريل لما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإحسان قال: « أخبرني عن الإحسان » . قال: « أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك » .

[ انتهى تفسير سورة العنكبوت، ولله الحمد والمنة ]

 

أعلى