تفسير سورة فاطر
بسم الله الرحمن الرحيم
الْحَمْدُ
لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلا أُولِي أَجْنِحَةٍ
مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 1 ) .
قال
سفيان الثوري، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد، عن ابن عباس قال:كنت لا أدري ما فاطر
السموات والأرض، حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما [
لصاحبه ] : أنا فطرتها، أنا بدأتها. فقال ابن عباس أيضًا: (
فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ ) بديع السموات والأرض .
وقال
الضحاك:كل شيء في القرآن فاطر السموات والأرض فهو:خالق السموات والأرض.
وقوله: (
جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلا ) أي:بينه وبين أنبيائه، (
أُولِي أَجْنِحَةٍ ) أي:يطيرون بها ليبلغوا ما
أمروا به سريعًا ( مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ )
أي:منهم مَنْ له جناحان، ومنهم مَنْ له ثلاثة ومنهم مَنْ له أربعة، ومنهم مَنْ له
أكثر من ذلك، كما جاء في الحديث:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى جبريل ليلة
الإسراء وله ستمَائة جناح، بين كل جناحين كما بين المشرق والمغرب؛ ولهذا قال: (
يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) . قال
السدي:يزيد في الأجنحة وخلقهم ما يشاء.
وقال
الزهري، وابن جُرَيْج في قوله: ( يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا
يَشَاءُ ) يعني:حسن الصوت. رواه عن الزهري البخاري في الأدب، وابن أبي
حاتم في تفسيره.
وقرئ في
الشاذ: « يَزِيدُ في الحلق » ،
بالحاء المهملة، والله أعلم.
مَا
يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ
فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 2 ) .
يخبر
تعالى أنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما
منع. قال الإمام أحمد:حدثنا علي بن عاصم، حدثنا مغيرة، أخبرنا عامر، عن ورَّاد -
مولى المغيرة بن شعبة- قال:كتب معاوية إلى المغيرة بن شعبة:اكتب لي بما سمعتَ من
رسول الله صلى الله عليه وسلم. فدعاني المغيرة فكتبت إليه:إني سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم إذا انصرف من الصلاة قال: « لا إله
إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، اللهم لا
مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجَدّ منك الجَدّ » ،
وسمعته ينهى عن قيل وقال، وكثرة السؤال وإضاعة المال، وعن وأد البنات، وعقوق
الأمهات، ومَنْع وهَات.
وأخرجاه
من طرق عن وَرّاد، به .
وثبت في
صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان
إذا رفع رأسه من الركوع يقول: « سمع الله لمن حمده، اللهم
ربنا لك الحمد، ملء السماء والأرض وملء ما شئت من شيء بعد. اللهم، أهلَ الثناء
والمجد. أحقّ ما قال العبد، وكلنا لك عبد. اللهمّ لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما
منعت، ولا ينفع ذا الجَدّ منك الجدّ » .
وهذه
الآية كقوله تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا
هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ [
يونس:107 ] . ولهذا نظائر كثيرة.
وقال
الإمام مالك:كان أبو هريرة إذا مُطِروا يقول:مُطِرنا بِنَوْء الفتح، ثم يقرأ هذه
الآية: ( مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا
مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) . ورواه ابن أبي حاتم، عن
يونس عن ابن وهب، عنه .
يَا
أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ
غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ
فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ( 3 ) .
ينبه تعالى عباده ويرشدهم إلى الاستدلال
على توحيده في إفراد العبادة له، كما أنه المستقل بالخلق والرزق فكذلك فَليفرد
بالعبادة ، ولا يشرك به غيره من الأصنام والأنداد والأوثان؛ ولهذا قال: ( لا
إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ) ،
أي:فكيف تؤفكون بعد هذا البيان، ووضوح هذا البرهان، وأنتم بعد هذا تعبدون الأنداد
والأوثان؟
وَإِنْ
يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ
الأُمُورُ ( 4 ) يَا
أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ
الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ( 5 )
إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو
حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ( 6 ) .
يقول:وإن
يكذبك - يا محمد- هؤلاء المشركون بالله ويخالفوك فيما جئتهم به من التوحيد، فلك فيمن
سلف قبلك من الرسل أسوة، فإنهم كذلك جاؤوا قومهم بالبينات وأمروهم بالتوحيد
فكذبوهم وخالفوهم، ( وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ
الأمُورُ ) أي:وسنجزيهم على ذلك أوفر الجزاء .
ثم قال:
( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ )
أي:المعاد كائن لا محالة، ( فَلا تَغُرَّنَّكُمُ
الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ) أي:العيشة الدنيئة بالنسبة
إلى ما أعد الله لأوليائه وأتباع رسله من الخير العظيم فلا تَتَلَهَّوا عن ذلك
الباقي بهذه الزهرة الفانية، ( وَلا يَغُرَّنَّكُمْ
بِاللَّهِ الْغَرُورُ ) وهو الشيطان. قاله ابن عباس.
أي:لا يفتننكم الشيطان ويصرفنكم عن اتباع رسل الله وتصديق كلماته فإنه غرَّار كذاب
أفاك. وهذه الآية كالآية التي في آخر لقمان: فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ
الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [
لقمان:33 ] . قال مالك، عن زيد بن أسلم:هو الشيطان. كما قال:يقول
المؤمنون للمنافقين يوم القيامة حين يضرب بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ
فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ
نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ
وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ
اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [
الحديد:13 ، 14 ] .
ثم بين
تعالى عداوة إبليس لابن آدم فقال: ( إِنَّ
الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ) أي:هو
مبارز لكم بالعداوة، فعادوه أنتم أشد العداوة، وخالفوه وكذبوه فيما يغركم به، (
إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ )
أي:إنما يقصد أن يضلكم حتى تدخلوا معه إلى عذاب السعير، فهذا هو العدو المبين.
فنسأل الله القوي العزيز أن يجعلنا أعداء الشيطان ،وأن يرزقنا اتباع كتابه،
والاقتفاء بطريق رسوله، إنه على ما يشاء قدير، وبالإجابة جدير. وهذه كقوله: وَإِذْ
قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ
الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ
أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا [
الكهف:50 ] .
[ وقال بعض العلماء:وتحت هذا
الخطاب نوع لطيف من العتاب كأنه يقول:إنما عاديت إبليس من أجل أبيكم ومن أجلكم،
فكيف يحسن بكم أن توالوه؟ بل اللائق بكم أن تعادوه وتخالفوه ولا تطاوعوه ] .
الَّذِينَ
كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ( 7 )
أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ
مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ
إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ( 8 ) .
لما ذكر
[ الله ] تعالى أن أتباع إبليس مصيرهم
إلى [ عذاب ] السعير، ذكر بعد ذلك أن الذين
كفروا لهم عذاب شديد ؛ لأنهم أطاعوا الشيطان وعَصَوا الرحمن، وأن الذين آمنوا
بالله ورسله ( وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ ) أي:لما
كان منهم من ذنب، ( وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ) على ما
عملوه من خير.
ثم قال:
( أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا )
يعني:كالكفار والفجار، يعملون أعمالا سيئة، وهم في ذلك يعتقدون ويحسون أنهم يحسنون
صنعًا، أي:أفمن كان هكذا قد أضله الله، ألك فيه حيلة؟ لا حيلة لك فيه، (
فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ )
أي:بقدره كان ذلك، ( فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ
عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ ) أي:لا تأسف على ذلك فإن الله
حكيم في قدره، إنما يضل من يضل ويهدي من يهدي ، لما له في ذلك من الحجة البالغة،
والعلم التام؛ ولهذا قال: ( إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا
يَصْنَعُونَ ) .
وقال ابن
أبي حاتم عند هذه الآية:حدثنا أبي، حدثنا محمد بن عوف الحِمْصي، حدثنا محمد بن
كثير، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي عمرو السَّيباني - أو:ربيعة- عن عبد الله بن
الديلمي قال:أتيت عبد الله بن عمرو، وهو في حائط بالطائف يقال له:الوهط، قال:سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إن
الله خلق خلقه في ظلمة، ثم ألقى عليهم من نوره، فمن أصابه من نوره يومئذ فقد
اهتدى، ومن أخطأه منه ضل، فلذلك أقول:جف القلم على ما علم الله عز وجل » .
ثم
قال:حدثنا يحيى بن عبدك القزويني، حدثنا حسان بن حسان البصري، حدثنا إبراهيم بن
بشر حدثنا يحيى بن معين حدثنا إبراهيم القرشي، عن سعد بن شرحبيل عن زيد بن أبي
أوفى قال:خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: « الحمد
لله الذي يهدي من الضلالة، ويلبس الضلالة على من أحب » .
وهذا
أيضًا حديث غريب جدًّا.
وَاللَّهُ
الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ
فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ ( 9 ) مَنْ
كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ
الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ
السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ ( 10 )
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ
أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِهِ وَمَا
يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ إِنَّ
ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ( 11 ) .
كثيرا ما يستدل تعالى على
المعاد بإحيائه الأرض بعد موتها - كما في [ أول
] سورة الحج - ينبه عباده أن يعتبروا بهذا على ذلك، فإن الأرض
تكون ميتة هامدة لا نبات فيها، فإذا أرسل إليها السحاب تحمل الماء وأنـزله عليها،
اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [
الحج:5 ] ، كذلك الأجساد ، إذا أراد الله سبحانه بعثها ونشورها،
أنـزل من تحت العرش مطرا يعم الأرض جميعًا فتنبت الأجساد في قبورها كما ينبت الحب
في الأرض؛ ولهذا جاء في الصحيح: « كل ابن آدم يبلى إلا عَجْب
الذَّنَب، منه خلق ومنه يركب » ؛ ولهذا قال تعالى: (
كَذَلِكَ النُّشُورُ ) .
وتقدم في « الحج » حديث
أبي رَزِين:قلت:يا رسول الله، كيف يحيي الله الموتى؟ وما آية ذلك في خلقه؟ قال: « يا أبا
رزين، أما مررت بوادي قومك محْلا ثم مررت به يهتز خَضِرًا ؟ »
قلت:بلى. قال: « فكذلك يحيي الله الموتى » .
وقوله: ( مَنْ
كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا )
أي:مَنْ كان يحب أن يكون عزيزًا في الدنيا والآخرة، فليلزم طاعة الله، فإنه يحصل
له مقصوده؛ لأن الله مالك الدنيا والآخرة، وله العزة جميعها، كما قال تعالى:
الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ
عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا [
النساء:139 ] .
وقال تعالى: وَلا يَحْزُنْكَ
قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا [
يونس:65 ] ، وقال: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ
وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ [
المنافقون:8 ] .
قال مجاهد: ( مَنْ
كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ ) بعبادة الأوثان، فَإِنَّ
الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا .
وقال قتادة: ( مَنْ
كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا ) أي:فليتعزز
بطاعة الله عز وجل.
وقيل:مَنْ كان يريد علْم العزة،
لمن هي، فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا ، حكاه ابن جرير.
وقوله: (
إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ )
يعني:الذكر والتلاوة والدعاء. قاله غير واحد من السلف.
وقال ابن جرير:حدثني محمد بن
إسماعيل الأحْمَسِيّ، أخبرني جعفر بن عَوْن، عن عبد الرحمن بن عبد الله المسعودي،
عن عبد الله بن المخارق، عن أبيه المخارق بن سليم قال: قال لنا عبد الله - هو ابن
مسعود- إذا حدثناكم حديثا أتيناكم بتصديق ذلك من كتاب الله:إن العبد المسلم إذا
قال: « سبحان الله وبحمده، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله
أكبر، تبارك الله » ، أخذهن ملك فجعلهن تحت جناحه،
ثم صَعد بهن إلى السماء فلا يمُرّ بهن على جمْعٍ من الملائكة إلا استغفروا
لقائلهن، حتى يجيء بهن وجه الرحمن عز وجل، ثم قرأ عبد الله: (
إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) .
وحدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا
ابن عُلَيَّة، أخبرنا سعيد الجُرَيْرِي ، عن عبد الله بن شقيق قال :قال كعب
الأحبار:إن لـ « سبحان الله، والحمد لله، ولا
إله إلا الله، والله أكبر » لدويا حول العرش كدويّ النحل،
يُذَكِّرْنَ بصاحبهن، والعمل الصالح في الخزائن .
وهذا إسناد صحيح إلى كعب
الأحبار، رحمه الله، وقد روي مرفوعًا.
قال الإمام أحمد:حدثنا ابن
نُمَيْر، حدثنا موسى - يعني:ابن مسلم الطحان - عن عون بن عبد الله، عن أبيه -
أو:عن أخيه - عن النعمان بن بشير قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « الذين
يذكرون من جلال الله، من تسبيحه وتكبيره وتحميده وتهليله، يتعاطفن حول العرش، لهن
دوي كدوي النحل، يذكرون بصاحبهن ألا يحب أحدكم ألا يزال له عند الله شيء يذكر به؟
» .
وهكذا رواه ابن ماجه عن أبي بشر
بكر بن خلف، عن يحيى بن سعيد القطان، عن موسى بن أبي [
عيسى ] الطحان، عن عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن أبيه -
أو:عن أخيه- عن النعمان بن بشير، به .
وقوله: (
وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) :قال
علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:الكلم الطيب:ذكر الله، يصعد به إلى الله، عز وجل،
والعمل الصالح:أداء فرائضه. ومن ذكر الله ولم يؤد فرائضه، رد كلامه على عمله ،
فكان أولى به.
وكذا قال مجاهد:العمل الصالح
يرفع الكلام الطيب. وكذا قال أبو العالية، وعكرمة، وإبراهيم النَّخعِيّ، والضحاك،
والسُّدِّيّ، والربيع بن أنس، وشَهْر بن حَوْشَب، وغير واحد [ من
السلف ] .
وقال إياس بن معاوية
القاضي:لولا العمل الصالح لم يرفع الكلام.
وقال الحسن، وقتادة:لا يقبل
قولٌ إلا بعمل.
وقوله: (
وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ ) :قال
مجاهد، وسعيد بن جُبَيْر، وشَهْر بن حَوْشَب:هم المراؤون بأعمالهم، يعني:يمكرون بالناس،
يوهمون أنهم في طاعة الله، وهم بُغَضَاء إلى الله عز وجل، يراؤون بأعمالهم، وَلا
يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلا [
النساء:142 ] .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن
أسلم:هم المشركون.
والصحيح أنها عامة، والمشركون
داخلون بطريق الأولى، ولهذا قال: (
لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ ) ،
أي:يفسد ويبطل ويظهر زيفهم عن قريب لأولي البصائر والنهى، فإنه ما أسر عبد سريرة
إلا أبداها الله على صفحات وجهه وفلتات لسانه، وما أسر أحد سريرة إلا كساه الله
رداءها، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر. فالمرائي لا يروج أمره ويستمر إلا على غبي،
أما المؤمنون المتفرسون فلا يروج ذلك عليهم، بل يُكشَف لهم عن قريب، وعالم الغيب
لا تخفى عليه خافية.
وقوله: (
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ )
أي:ابتدأ خلق أبيكم آدم من تراب، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين، ( ثُمَّ
جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا ) أي:ذكرًا وأنثى، لطفًا منه
ورحمة أن جعل لكم أزواجًا من جنسكم، لتسكنوا إليها.
وقوله: ( وَمَا
تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِهِ ) أي:هو
عالم بذلك، لا يخفى عليه من ذلك شيء، بل مَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا
وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ
مُبِينٍ [ الأنعام:59 ] .
وقد تقدم الكلام على قوله تعالى: اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى
وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ [ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ
شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ * عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ ]
الْمُتَعَالِ [ الرعد:8، 9 ] .
وقوله: ( وَمَا
يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ ) أي:ما
يعطى بعض النطف من العمر الطويل يعلمه، وهو عنده في الكتاب الأول، ( وَلا
يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ ) الضمير عائد على الجنس، لا
على العين؛ لأن العين الطويل للعمر في الكتاب وفي علم الله لا ينقص من عمره، وإنما
عاد الضمير على الجنس.
قال ابن جرير:وهذا كقولهم: « عندي
ثوب ونصفه » أي:ونصف آخر.
وروي من طريق العوفي، عن ابن
عباس في قوله: ( وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ
مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى
اللَّهِ يَسِيرٌ ) ، يقول:ليس أحد قضيت له طول
عُمُر وحياة إلا وهو بالغ ما قدرت له من العمر وقد قضيت ذلك له، فإنما ينتهي إلى
الكتاب الذي قدرت لا يزاد عليه، وليس أحد قَضَيْتُ له أنه قصير العمر والحياة
ببالغ للعمر، ولكن ينتهي إلى الكتاب الذي كتبت له، فذلك قوله: ( وَلا
يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ) ،
يقول:كل ذلك في كتاب عنده.
وهكذا قال الضحاك بن مزاحم.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن
أسلم، عن أبيه: ( وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ
إِلا فِي كِتَابٍ ) قال:ما لَفَظت الأرحام من
الأولاد من غير تمام.
وقال عبد الرحمن في تفسيرها:ألا
ترى الناس، يعيش الإنسان مائة سنة، وآخر يموت حين يولد فهذا هذا.
وقال قتادة:والذي ينقص من
عمره:فالذي يموت قبل ستين سنة.
وقال مجاهد: ( وَمَا
يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ ) أي:في
بطن أمه يكتب له ذلك، لم يخلق الخلق على عمر واحد، بل لهذا عمر، ولهذا عمر هو أنقص
من عمره، وكل ذلك مكتوب لصاحبه، بالغ ما بلغ.
وقال بعضهم:بل معناه: ( وَمَا
يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ ) أي:ما يكتب من الأجل ( وَلا
يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ ) ، وهو ذهابه قليلا قليلا
الجميع معلوم عند الله سنة بعد سنة، وشهرًا بعد شهر، وجمعة بعد جمعة، ويومًا بعد
يوم، وساعة بعد ساعة، الجميع مكتوب عند الله في كتاب.
نقله ابن جرير عن أبي مالك،
وإليه ذهب السُّدِّيّ، وعطاء الخراساني. واختار ابن جرير [
القول ] الأول، وهو كما قال.
وقال النسائي عند تفسير هذه
الآية الكريمة:حدثنا أحمد بن يحيى بن أبي زيد بن سليمان، سمعت ابن وهب يقول:حدثني
يونس، عن ابن شهاب، عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، قال:سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول: « مَنْ سرَّه أن يُبْسَط له في
رزقه، ويُنْسَأ له في أجله فليصل رَحِمَه » .
وقد رواه البخاري ومسلم وأبو
داود، من حديث يونس بن يزيد الأيلي، به .
وقال ابن أبي حاتم:حدثنا علي بن
الحسين، حدثنا الوليد بن عبد الملك بن عبيد الله أبو مسرح، حدثنا عثمان بن عطاء،
عن مسلمة بن عبد الله، عن عمه أبي مَشْجَعَة بن ربعي، عن أبي الدرداء، رضي الله
عنه، قال:ذكرنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: « إن
الله لا يؤخر نفسًا إذا جاء أجلها، وإنما زيادة العمر بالذرية الصالحة يرزقها
العبد، فيدعون له من بعده، فيلحقه دعاؤهم في قبره، فذلك زيادة العمر » .
وقوله: ( إِنَّ
ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ) أي:سهل عليه، يسير لديه علمه
بذلك وبتفصيله في جميع مخلوقاته، فإن علمه شامل لجميع ذلك لا يخفى منه عليه شيء.
وَمَا يَسْتَوِي
الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ
وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً
تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ
وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( 12 ) .
يقول
تعالى منبها على قدرته العظيمة في خلقه الأشياء المختلفة:وخلق البحرين العذب
الزلال، وهو هذه الأنهار السارحة بين الناس، من كبار وصغار، بحسب الحاجة إليها في
الأقاليم والأمصار، والعمران والبراري والقفار، وهي عذبة سائغ شرابها لمن أراد
ذلك، ( وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ ) ، وهو
البحر الساكن الذي تسير فيه السفن الكبار، وإنما تكون مالحة زُعَاقًا مُرَّة،
ولهذا قال: ( وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ ) ،
أي:مُرّ.
ثم قال:
( وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا )
يعني:السمك، ( وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا ) ، كما
قال تعالى: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ * فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [ الرحمن:22، 23 ] .
وقوله: (
وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ )
أي:تمخره وتشقه بحيزومها، وهو مقدمها المُسَنَّم الذي يشبه جؤجؤ الطير - وهو:صدره.
وقال
مجاهد:تمخر الريح السفن، ولا يمخر الريح من السفن إلا العظام.
وقوله: (
لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ) أي:بأسفاركم بالتجارة، من قطر
إلى قطر، وإقليم إلى إقليم، ( وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) أي
تشكرون ربكم على تسخيره لكم هذا الخلق العظيم، وهو البحر، تتصرفون فيه كيف شئتم،
وتذهبون أين أردتم، ولا يمتنع عليكم شيء منه، بل بقدرته قد سخر لكم ما في السموات
وما في الأرض، الجميع من فضله ومن رحمته.
يُولِجُ
اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ
الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ ( 13 ) إِنْ
تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ
وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ
( 14 ) .
وهذا
أيضًا من قدرته التامة وسلطانه العظيم، في تسخيره الليل بظلامه والنهار بضيائه،
ويأخذ من طول هذا فيزيده في قصر هذا فيعتدلان. ثم يأخذ من هذا في هذا، فيطول هذا
ويقصر هذا، ثم يتقارضان صيفًا وشتاء، (
وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ )
أي:والنجوم السيارات، والثوابت الثاقبات بأضوائهن أجرام السموات، الجميع يسيرون
بمقدار معين، وعلى منهاج مقنن محرر، تقديرًا من عزيز عليم.
( كُلٌّ
يَجْرِي لأجَلٍ مُسَمًّى ) أي:إلى يوم القيامة.
( ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ )
أي:الذي فعل هذا هو الرب العظيم، الذي لا إله غيره، (
وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ) أي:من
الأنداد والأصنام التي هي على صورة من تزعمون من الملائكة المقربين، ( مَا
يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ ) .
قال ابن
عباس ، ومجاهد، وعِكْرِمَة، وعطاء وعطية العَوْفي، والحسن، وقتادة
وغيرهم:القطمير:هو اللفافة التي تكون على نواة التمرة، أي:لا يملكون من السموات
والأرض شيئًا، ولا بمقدار هذا القطمير.
ثم قال:
( إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ )
يعني:الآلهة التي تدعونها من دون الله لا يسمعون دعاءكم ؛ لأنها جماد لا أرواح
فيها ( وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ ) أي:لا
يقدرون على ما تطلبون منها، ( وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ
يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ ) ، أي:يتبرؤون منكم، كما قال
تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ
لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا
حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [
الأحقاف:5، 6 ] ، وقال: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً
لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا * كَلا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ
عَلَيْهِمْ ضِدًّا [ مريم:81، 82 ] .
وقوله: ( وَلا
يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ) أي:ولا يخبرك بعواقب الأمور
ومآلها وما تصير إليه، مثلُ خبير بها.
قال
قتادة:يعني نفسه تبارك وتعالى، فإنه أخبر بالواقع لا محالة.
يَا أَيُّهَا
النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ
الْحَمِيدُ ( 15 ) إِنْ
يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ( 16 )
وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ ( 17 ) وَلا
تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا
يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ
يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى
فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ( 18 ) .
يخبر تعالى بغنائه عما سواه،
وبافتقار المخلوقات كلها إليه، وتذللها بين يديه، فقال: ( يَا
أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ) أي:هم
محتاجون إليه في جميع الحركات والسكنات، وهو الغني عنهم بالذات؛ ولهذا قال: (
وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ) أي:هو
المنفرد بالغنى وحده لا شريك له، وهو الحميد في جميع ما يفعله ويقوله، ويقدره
ويشرعه.
وقوله: ( إِنْ
يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ) أي:لو
شاء لأذهبكم أيها الناس وأتى بقوم غيركم، وما هذا عليه بصعب ولا ممتنع؛ ولهذا قال:
( وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ ) .
وقوله: ( وَلا
تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) أي:يوم
القيامة، ( وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا ) أي:وإن
تدع نفس مثقلة بأوزارها إلى أن تُسَاعَد على حمل ما عليها من الأوزار أو بعضه، ( لا
يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ) ،
أي:ولو كان قريبًا إليها، حتى ولو كان أباها أو ابنها، كل مشغول بنفسه وحاله، [ كما
قال تعالى: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ *
وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ] [
عبس:34- 37 ] .
قال عكرمة في قوله: (
وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا ) الآية،
قال:هو الجار يتعلق بجاره يوم القيامة، فيقول:يا رب، سل هذا:لم كان يغلق بابه
دوني. وإن الكافر ليتعلق بالمؤمن يوم القيامة، فيقول له:يا مؤمن، إن لي عندك يدًا،
قد عرفت كيف كنت لك في الدنيا؟ وقد احتجت إليك اليوم، فلا يزال المؤمن يشفع له عند
ربه حتى يرده إلى [ منـزل دون ] منـزله
، وهو في النار. وإن الوالد ليتعلق بولده يوم القيامة، فيقول:يا بني، أيّ والد
كنتُ لك؟ فيثني خيرا، فيقول له:يا بني إني قد احتجت إلى مثقال ذرة من حسناتك أنجو
بها مما ترى. فيقول له ولده:يا أبت، ما أيسر ما طلبت، ولكني أتخوف مثل ما تتخوف،
فلا أستطيع أن أعطيك شيئا، ثم يتعلق بزوجته فيقول:يا فلانة - أو:يا هذه- أي زوج
كنت لك؟ فتثني خيرا، فيقول لها:إني أطلب إليك حسنة واحدة تَهَبِينَها لي، لعلي
أنجو بها مما ترين. قال:فتقول:ما أيسر ما طلبت. ولكني لا أطيق أن أعطيك شيئا، إني
أتخوف مثل الذي تتخوف، يقول الله: (
وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا ) الآية،
ويقول الله: لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ
وَالِدِهِ شَيْئًا [ لقمان:33 ] ،
ويقول تعالى: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ *
وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ
رواه ابن أبي حاتم رحمه الله، عن أبي عبد الله الطهراني ، عن حفص بن عمر، عن الحكم
بن أبان، عن عِكْرِمة، به.
ثم قال: ( إِنَّمَا
تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ )
أي:إنما يتعظ بما جئت به أولو البصائر والنهى، الخائفون من ربهم، الفاعلون ما
أمرهم به، ( وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ )
أي:ومَنْ عمل صالحا فإنما يعود نفعه على نفسه، (
وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ) أي:وإليه المرجع والمآب، وهو
سريع الحساب، وسيجزي كل عامل بعمله، إن خيرا فخير، وإن شرًّا فشر.
وَمَا
يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ ( 19 ) وَلا
الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ ( 20 ) وَلا
الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ ( 21 )
وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ
يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ( 22 ) إِنْ
أَنْتَ إِلا نَذِيرٌ ( 23 )
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلا
خَلا فِيهَا نَذِيرٌ ( 24 )
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ
رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ( 25 )
ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ( 26 ) .
يقول تعالى:كما
لا تستوي هذه الأشياء المتباينة المختلفة، كالأعمى والبصير لا يستويان، بل بينهما
فرق وبون كثير، وكما لا تستوي الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور، كذلك لا
تستوي الأحياء ولا الأموات، وهذا مثل ضربه الله للمؤمنين وهم الأحياء، وللكافرين
وهم الأموات، كقوله تعالى: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا
لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ
بِخَارِجٍ مِنْهَا [ الأنعام:122 ] ، وقال
تعالى: مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ
هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا [ هود:24 ]
فالمؤمن سميع بصير في نور يمشي، على صراط مستقيم في الدنيا والآخرة، حتى يستقر به
الحال في الجنات ذات الظلال والعيون، والكافر أعمى أصم، في ظلمات يمشي، لا خروج له
منها، بل هو يتيه في غَيِّه وضلاله في الدنيا والآخرة، حتى يفضي به ذلك إلى الحرور
والسموم والحميم، وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ [
الواقعة:43، 44 ] .
وقوله: ( إِنَّ
اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ ) أي:يهديهم إلى سماع الحجة
وقبولها والانقياد لها ( وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ
مَنْ فِي الْقُبُورِ ) أي:كما لا [
يسمع و ] ينتفع الأموات بعد موتهم وصيرورتهم إلى قبورهم، وهم كفار
بالهداية والدعوة إليها، كذلك هؤلاء المشركون الذين كُتِب عليهم الشقاوة لا حيلةَ
لك فيهم، ولا تستطيع هدايتهم.
( إِنْ أَنْتَ إِلا نَذِيرٌ )
أي:إنما عليك البلاغ والإنذار، والله يضل من يشاء ويهدي من يشاء.
( إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ
بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ) أي:بشيرًا للمؤمنين ونذيرًا
للكافرين، ( وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ ) أي:وما
من أمة خلت من بني آدم إلا وقد بعث الله إليهم النُّذر، وأزاح عنهم العلل، كما قال
تعالى: إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ [
الرعد:7 ] ، وكما قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ
رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى
اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ الآية [ النحل:136
] ، والآيات في هذا كثيرة.
وقوله
تبارك وتعالى: ( وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ
كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ )
وهي:المعجزات الباهرات، والأدلة القاطعات، (
وَبِالزُّبُرِ ) وهي الكتب، (
وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ) أي:الواضح البين.
( ثُمَّ
أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا ) أي:ومع هذا كله كَذّب أولئك
رسلَهم فيما جاؤوهم به، فأخذتهم، أي:بالعقاب والنكال، (
فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ) أي:فكيف رأيت إنكاري عليهم
عظيما شديدًا بليغا؟
أَلَمْ
تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ
مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ
أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ ( 27 )
وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ
إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ
غَفُورٌ ( 28 )
يقول
تعالى منبها على كمال قدرته في خلقه الأشياء المتنوعة المختلفة من الشيء الواحد،
وهو الماء الذي ينـزله من السماء، يخرج به ثمرات مختلفا ألوانها، من أصفر وأحمر وأخضر
وأبيض، إلى غير ذلك من ألوان الثمار، كما هو المشاهد من تنوع ألوانها وطعومها
وروائحها، كما قال تعالى في الآية الأخرى: وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ
وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ
يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ
فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [
الرعد:4 ] .
وقوله
تبارك وتعالى: ( وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ
بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا )
أي:وخلق الجبال كذلك مختلفة الألوان، كما هو المشاهد أيضا من بيض وحمر، وفي بعضها
طرائق - وهي:الجُدَد، جمع جُدّة- مختلفة الألوان أيضا.
قال ابن
عباس، رضي الله عنهما:الجُدَد:الطرائق. وكذا قال أبو مالك، والحسن، وقتادة، والسدي
.
ومنها (
وَغَرَابِيبُ سُودٌ ) ، قال عكرمة:الغرابيب:الجبال
الطوال السود. وكذا قال أبو مالك، وعطاء الخراساني وقتادة.
وقال ابن
جرير:والعرب إذا وصفوا الأسود بكثرة السواد، قالوا:أسود غربيب.
ولهذا
قال بعض المفسرين في هذه الآية:هذا من المقدم والمؤخر في قوله تعالى: (
وَغَرَابِيبُ سُودٌ ) أي:سود غرابيب. وفيما قاله
نظر.
وقوله
تعالى: ( وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأنْعَامِ مُخْتَلِفٌ
أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ ) أي: [ و ] كذلك
الحيوانات من الأناسي والدواب - وهو:كل ما دب على قوائم- والأنعام، من باب عطف
الخاص على العام. كذلك هي مختلفة أيضا، فالناس منهم بربر وحُبُوش وطُمَاطم في غاية
السواد، وصقالبة وروم في غاية البياض، والعرب بين ذلك، والهنود دون ذلك؛ ولهذا قال
تعالى في الآية الأخرى: وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي
ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ [ الروم:22 ] .
وكذلك الدواب والأنعام مختلفة الألوان، حتى في الجنس الواحد، بل النوع الواحد منهن
مختلف الألوان، بل الحيوان الواحد يكون أبلق، فيه من هذا اللون وهذا اللون، فتبارك
الله أحسن الخالقين.
وقد قال
الحافظ أبو بكر البزار في مسنده:حدثنا الفضل بن سهل، حدثنا عبد الله بن عمر بن
أبان بن صالح، حدثنا زياد بن عبد الله، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن
ابن عباس قال:جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:أيصبغ ربك؟ قال: « نعم
صبغا لا يُنفَض، أحمر وأصفر وأبيض » . ورُوي
مرسلا وموقوفا، والله أعلم.
ولهذا
قال تعالى بعد هذا: ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ
مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ) أي:إنما يخشاه حق خشيته
العلماء العارفون به؛ لأنه كلما كانت المعرفة للعظيم القدير العليم الموصوف بصفات
الكمال المنعوت بالأسماء الحسنى - كلما كانت المعرفة به أتمّ والعلم به أكمل، كانت
الخشية له أعظم وأكثر.
قال علي
بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله تعالى: (
إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ )
قال:الذين يعلمون أن الله على كل شيء قدير.
وقال ابن
لَهِيعَة، عن ابن أبي عمرة، عن عِكْرِمَة، عن ابن عباس قال:العالم بالرحمن مَنْ لم
يشرك به شيئا، وأحل حلاله، وحرم حرامه، وحفظ وصيته، وأيقن أنه ملاقيه ومحاسب بعمله.
وقال
سعيد بن جبير:الخشية هي التي تحول بينك وبين معصية الله عز وجل.
وقال
الحسن البصري:العالم مَن خشي الرحمن بالغيب، ورغب فيما رغب الله فيه، وزهد فيما
سَخط الله فيه، ثم تلا الحسن: ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ
مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ) .
وعن ابن
مسعود، رضي الله عنه، أنه قال:ليس العلم عن كثرة الحديث، ولكن العلم عن كثرة
الخشية.
وقال
أحمد بن صالح المصري، عن ابن وهب، عن مالك قال:إن العلم ليس بكثرة الرواية، وإنما
العلم نور يجعله الله في القلب.
قال أحمد
بن صالح المصري :معناه:أن الخشية لا تدرك بكثرة الرواية، وأما العلم الذي فرض
الله، عز وجل، أن يتبع فإنما هو الكتاب والسنة، وما جاء عن الصحابة، رضي الله
عنهم، ومن بعدهم من أئمة المسلمين، فهذا لا يدرك إلا بالرواية ويكون تأويل قوله: « نور » يريد به
فهم العلم، ومعرفة معانيه.
وقال
سفيان الثوري، عن أبي حيان [ التميمي ] ، عن
رجل قال:كان يقال:العلماء ثلاثة:عالم بالله عالم بأمر الله، وعالم بالله ليس بعالم
بأمر الله، وعالم بأمر الله ليس بعالم بالله. فالعالم بالله وبأمر الله:الذي يخشى
الله ويعلم الحدود والفرائض. والعالم بالله ليس بعالم بأمر الله:الذي يخشى الله
ولا يعلم الحدود ولا الفرائض. والعالم بأمر الله ليس بعالم بالله:الذي يعلم الحدود
والفرائض، ولا يخشى الله عز وجل.
إِنَّ
الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا
رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ ( 29 )
لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ
( 30 ) .
يخبر تعالى عن عباده المؤمنين
الذين يتلون كتابه ويؤمنون به ويعملون بما فيه، من إقام الصلاة، والإنفاق مما
رزقهم الله في الأوقات المشروعة ليلا ونهارا، سرا وعلانية، (
يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ )
أي:يرجون ثوابا عند الله لا بد من حصوله. كما قدمنا في أول التفسير عند فضائل
القرآن أنه يقول لصاحبه: « إن كل تاجر من وراء تجارته،
وإنك اليوم من وراء كل تجارة » ؛ ولهذا قال تعالى: (
لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ )
أي:ليوفيهم ثواب ما فعلوه ويضاعفه لهم بزيادات لم تخطر لهم، (
إِنَّهُ غَفُورٌ ) أي:لذنوبهم، (
شَكُورٌ ) للقليل من أعمالهم.
قال قتادة:كان مُطَرف، رحمه
الله، إذا قرأ هذه الآية يقول:هذه آية القراء.
قال الإمام أحمد:حدثنا أبو عبد
الرحمن، حدثنا حيوة، حدثنا سالم بن غيلان أنه سمع دَرَّاجا أبا السمح يحدث عن أبي
الهيثم، عن أبي سعيد الخُدْريّ، رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول: « إن الله تعالى إذا رضي عن العبد أثنى عليه سَبْعةَ أصناف من
الخير لم يعمله، وإذا سخط على العبد أثنى عليه سَبْعة أصناف من الشر لم يعمله ،
غريب جدا.»
وَالَّذِي
أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ
يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ ( 31 ) .
يقول
تعالى: ( وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ) يا
محمد من الكتاب، وهو القرآن ( هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا
لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ) أي:من الكتب المتقدمة يصدقها،
كما شهدت له بالتنويه ، وأنه منـزل من رب العالمين.
( إِنَّ
اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ ) أي:هو
خبير بهم، بصير بمن يستحق ما يفضله به على مَنْ سواه. ولهذا فضل الأنبياء والرسل
على جميع البشر، وفضل النبيين بعضهم على بعض، ورفع بعضهم درجات، وجعل منـزلة محمد
صلى الله عليه وسلم فوق جميعهم، صلوات الله عليهم أجمعين.
ثُمَّ
أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ
ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ
بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ( 32 ) .
يقول
تعالى:ثم جعلنا القائمين بالكتاب العظيم، المصدق لما بين يديه من الكتب، الذين
اصطفينا من عبادنا، وهم هذه الأمة، ثم قسمهم إلى ثلاثة أنواع ، فقال: (
فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ ) وهو:المفرط في فعل بعض
الواجبات، المرتكب لبعض المحرمات. (
وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ ) وهو:المؤدي للواجبات، التارك
للمحرمات، وقد يترك بعض المستحبات، ويفعل بعض المكروهات. (
وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ )
وهو:الفاعل للواجبات والمستحبات، التارك للمحرمات والمكروهات وبعض المباحات.
قال علي
بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: ( ثُمَّ
أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ [
اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ] ) ،
قال:هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم وَرَّثهم الله كل كتاب أنـزله، فظالمهم
يُغْفَر له، ومقتصدهم يحاسب حسابا يسيرا، وسابقهم يدخل الجنة بغير حساب.
وقال أبو
القاسم الطبراني:حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح، وعبد الرحمن بن معاوية العُتْبِيّ
قالا حدثنا أبو الطاهر بن السرح، حدثنا موسى بن عبد الرحمن الصنعاني، حدثني ابن
جُرَيْج، عن عطاء، عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ذات يوم:
« شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي » . قال
ابن عباس:السابق بالخيرات يدخل الجنة بغير حساب، والمقتصد يدخل الجنة برحمة الله،
والظالم لنفسه وأصحاب الأعراف يدخلون الجنة بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم .
وهكذا
رُوي عن غير واحد من السلف:أن الظالم لنفسه من هذه الأمة من المصطفين، على ما فيه
من عوج وتقصير.
وقال
آخرون:بل الظالم لنفسه ليس من هذه الأمة، ولا من المصطفين الوارثين الكتاب.
قال ابن أبي
حاتم، حدثنا أبي، حدثنا علي بن هاشم بن مرزوق، حدثنا ابن عيينة، عن عمرو ، عن ابن
عباس، رضي الله عنهما: ( فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ
لِنَفْسِهِ ) قال:هو الكافر. وكذا رَوَى عنه عكرمة، وبه قال عكرمة أيضا
فيما رواه ابن جرير.
وقال ابن
أبي نَجِيح، عن مجاهد في قوله: ( فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ
لِنَفْسِهِ ) قال:هم أصحاب المشأمة.
وقال
مالك عن زيد بن أسلم، والحسن، وقتادة:هو المنافق.
ثم قد
قال ابن عباس، والحسن، وقتادة:وهذه الأقسام الثلاثة كالأقسام الثلاثة المذكورة في
أول سورة « الواقعة » وآخرها.
والصحيح:أن
الظالم لنفسه من هذه الأمة وهذا اختيار ابن جرير كما هو ظاهر الآية، وكما جاءت به
الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، من طرق يشد بعضها بعضا، ونحن نورد منها
ما تيسر:
الحديث
الأول:قال الإمام أحمد:حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن الوليد بن العيزار، أنه
سمع رجلا من ثقيف يُحَدِّث عن رجل من كنانة، عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في هذه الآية: ( ثُمَّ
أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ
ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ
بِإِذْنِ اللَّهِ ) ، قال: « هؤلاء
كلهم بمنـزلة واحدة وكلهم في الجنة » . هذا
حديث غريب من هذا الوجه وفي إسناده من لم يسمّ، وقد رواه ابن جرير وابن أبي حاتم،
من حديث شعبة، به نحوه .
ومعنى
قوله: « بمنـزلة واحدة » أي:في أنهم
من هذه الأمة، وأنهم من أهل الجنة، وإن كان بينهم فرق في المنازل في الجنة.
الحديث
الثاني:قال الإمام أحمد:حدثنا إسحاق بن عيسى، حدثنا أنس بن عياض الليثي أبو
ضَمْرة، عن موسى بن عقبة، عن [ علي ] بن عبد
الله الأزدي، عن أبي الدرداء، رضي الله عنه، قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول: « قال الله: ( ثُمَّ
أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ
ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ
بِإِذْنِ اللَّهِ ) ، فأما الذين سبقوا فأولئك
الذين يدخلون الجنة بغير حساب، وأما الذين اقتصدوا فأولئك يحاسبون حسابا يسيرا،
وأما الذين ظلموا أنفسهم فأولئك الذين يحبسون في طول المحشر، ثم هم الذين تلافاهم
برحمته، فهم الذين يقولون: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ
إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ
فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ .»
طريق
أخرى: قال ابن أبي حاتم:حدثنا أسيد بن عاصم، حدثنا الحسين بن حفص، حدثنا سفيان، عن
الأعمش، عن رجل، عن أبي ثابت، عن أبي الدرداء قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول: ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ
عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ ) قال: « فأما
الظالم لنفسه فيحبس حتى يصيبه الهم والحزن، ثم يدخل الجنة » .
ورواه
ابن جرير من حديث سفيان الثوري، عن الأعمش قال:ذكر أبو ثابت أنه دخل المسجد، فجلس
إلى جنب أبي الدرداء، فقال:اللهم، آنس وحشتي، وارحم غربتي، ويسر لي جليسا صالحا.
قال أبو الدرداء:لئن كنت صادقا لأنا أسعد بك منك، سأحدثك حديثا سمعته من رسول الله
صلى الله عليه وسلم لم أحدث به منذ سمعته منه، ذكر هذه الآية: ( ثُمَّ
أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ
ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ ) ، فأما
السابق بالخيرات فيدخلها بغير حساب وأما المقتصد فيحاسب حسابا يسيرا، وأما الظالم
لنفسه فيصيبه في ذلك المكان من الغم والحزن، وذلك قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي
أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ .
الحديث
الثالث:قال الحافظ أبو القاسم الطبراني:حدثنا عبد الله بن محمد بن العباس، حدثنا
ابن مسعود، أخبرنا سهل بن عبد ربه الرازي، حدثنا عمرو بن أبي قيس، عن ابن أبي ليلى،
عن أخيه، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن أسامة بن زيد: (
فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ
بِالْخَيْرَاتِ ) الآية، قال:قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: « كلهم من هذه الأمة » .
الحديث
الرابع:قال ابن أبي حاتم:حدثنا محمد بن عَزيز، حدثنا سلامة، عن عَقِيل، عن ابن
شهاب، عن عَوْف بن مالك، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « أمتي
ثلاثة أثلات:فثلث يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، وثلث يحاسبون حسابا يسيرا ثم
يدخلون الجنة، وثلث يُمَحَّصون ويكشفون، ثم تأتي الملائكة فيقولون:وجدناهم يقولون:
» لا إله إلا الله وحده « . يقول
الله عز وجل:صدقوا، لا إله إلا أنا، أدخلوهم الجنة بقولهم: » لا إله
إلا الله وحده « واحملوا خطاياهم على أهل
النار، وهي التي قال الله تعالى: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالا مَعَ
أَثْقَالِهِمْ [ العنكبوت:13 ]
،وتصديقها في التي فيها ذكر الملائكة، قال الله تعالى: ( ثُمَّ
أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ) فجعلهم
ثلاثة أنواع ، وهم أصناف كلهم، فمنهم ظالم لنفسه، فهذا الذي يكشف ويمحص » . غريب
جدا .
أثر عن
ابن مسعود:قال ابن جرير:حدثني ابن حميد، حدثنا الحكيم بن بشير، عن عمرو بن قيس، عن
عبد الله بن عيسى، عن يزيد بن الحارث، عن شَقِيق أبي وائل، عن عبد الله بن مسعود،
أنه قال:هذه الأمة ثلاثة أثلاث يوم القيامة:ثلث يدخلون الجنة بغير حساب، وثلث
يحاسبون حسابا يسيرا، وثلث يجيئون بذنوب عظام حتى يقول:ما هؤلاء؟ - وهو أعلم تبارك
وتعالى- فتقول الملائكة:هؤلاء جاءوا بذنوب عظام، إلا أنهم لم يشركوا بك فيقول الرب
عز وجل:أدخلوا هؤلاء في سعة رحمتي:وتلا عبد الله هذه الآية: ( ثُمَّ
أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا [
فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ ] ) الآية.
أثر
آخر:قال أبو داود الطيالسي، عن الصلت بن دينار أبو شُعيب ، عن عقبة بن صُهْبَان
الهُنَائي قال:سألت عائشة، رضي الله عنها، عن قول الله: ( ثُمَّ
أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ
ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ ) الآية، فقالت لي:يا بني،
هؤلاء في الجنة، أما السابق بالخيرات فمن مضى على عهد رسول الله صلى الله عليه
وسلم، ، شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحياة والرزق، وأما المقتصد فمن
اتبع أثره من أصحابه حتى لحق به، وأما الظالم لنفسه فمثلي ومثلكم. قال:فجعلت نفسها
معنا .
وهذا
منها، رضي الله عنها، من باب الهَضْم والتواضع، وإلا فهي من أكبر السابقين
بالخيرات؛ لأن فضلها على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام.
وقال عبد
الله بن المبارك، رحمه الله:قال أمير المؤمنين عثمان بن عفان، رضي الله عنه:في
قوله تعالى: ( فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ ) قال:هي
لأهل بدونا، ومقتصدنا أهل حضرنا، وسابقنا أهل الجهاد. رواه ابن أبي حاتم.
وقال
عَوْف الأعرابي:حدثنا عبد الله بن الحارث بن نوفل قال:حدثنا كعب الأحبار قال:إن
الظالم لنفسه من هذه الأمة، والمقتصد والسابق بالخيرات كلهم في الجنة، ألم تر أن
الله تعالى قال: ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا
الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ
وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ
هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا ) إلى
قوله: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ قال:فهؤلاء أهل النار.
[ و ] رواه
ابن جرير من طرق، عن عوف، به. ثم قال:
حدثني
يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن عُلَيَّة، أخبرنا حميد، عن إسحاق بن عبد الله بن
الحارث، عن أبيه أن ابن عباس سأل كعبا عن قوله: ( ثُمَّ
أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ) إلى
قوله: ( بِإِذْنِ اللَّهِ )
قال:تماسَّت مناكبهم ورَب كعب ، ثم أعطوا الفضل بأعمالهم.
ثم قال
ابن جرير:حدثنا ابن حميد، حدثنا الحكم بن بشير، حدثنا عمرو بن قيس، عن أبي إسحاق السَّبِيعي
في هذه الآية: ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا
الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ) الآية،
قال أبو إسحاق:أما ما سمعت منذ ستين سنة فكلهم ناج.
ثم
قال:حدثنا ابن حميد، حدثنا الحكم، حدثنا عمرو، عن محمد بن الحنفية قال:إنها أمة
مرحومة، الظالم مغفور له، والمقتصد في الجنان عند الله، والسابق بالخيرات في
الدرجات عند الله.
ورواه
الثوري، عن إسماعيل بن سَمِيع، عن رجل، عن محمد بن الحنفية، بنحوه.
وقال أبو
الجارود:سألت محمد بن علي - يعني:الباقر- عن قوله: (
فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ ) فقال:هو الذي خلط عملا صالحا
وآخر سيئا.
فهذا ما
تيسر من إيراد الأحاديث والآثار المتعلقة بهذا المقام. وإذا تقرر هذا فإن الآية
عامة في جميع الأقسام الثلاثة من هذه الأمة، فالعلماء أغبط الناس بهذه النعمة،
وأولى الناس بهذه الرحمة، فإنهم كما قال الإمام أحمد، رحمه الله:
حدثنا
محمد بن يزيد، حدثنا عاصم بن رجاء بن حَيْوَة ، عن قيس بن كثير قال:قدم رجل من أهل
المدينة إلى أبي الدرداء - وهو بدمشق- فقال:ما أقدمك أيْ أخي؟ قال:حديث بلغني أنك
تحدث به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال أما قدمت لتجارة؟ قال:لا. قال:أما
قدمت لحاجة؟ قال:لا؟ قال:أما قدمت إلا في طلب هذا الحديث؟ قال:نعم. قال:فإني سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « من سلك
طريقا يطلب فيه علمًا، سلك الله به طريقا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها
رضًا لطالب العلم، وإنه ليستغفر للعالم مَنْ في السموات والأرض حتى الحيتان في
الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب. إن العلماء هم ورثة
الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذ
به أخذ بحظ وافر » .
وأخرجه
أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، من حديث كثير بن قيس - ومنهم من يقول:قيس بن كثير-
عن أبي الدرداء . وقد ذكرنا طرقه واختلاف الرواة فيه في شرح « كتاب
العلم » من « صحيح البخاري » ، ولله
الحمد والمنة.
وقد تقدم
في أول « سورة طه » حديث ثعلبة بن الحكم، عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال: « يقول الله تعالى يوم القيامة
للعلماء:إني لم أضع علمي وحكمي فيكم إلا وأنا أريد [ أن ] أغفر
لكم، على ما كان منكم، ولا أبالي » .
جَنَّاتُ
عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا
وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ( 33 ) وَقَالُوا
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ
شَكُورٌ ( 34 )
الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ
وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ ( 35 ) .
يخبر تعالى
أن مأوى هؤلاء المصطفين من عباده، الذين أورثوا الكتاب المنـزل من رب العالمين يوم
القيامة ( جَنَّاتُ عَدْنٍ )
أي:جنات الإقامة يدخلونها يوم معادهم وقدومهم على ربهم، عز وجل، (
يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا ) ، كما
ثبت في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه
قال: « تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء » .
(
وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ) ولهذا كان محظورا عليهم في
الدنيا، فأباحه الله لهم في الدار الآخرة، وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: « من لبس الحرير في الدنيا لم
يلبسه في الآخرة » . وقال: « [ لا
تشربوا في آنية الذهب والفضة ] هي لهم في الدنيا ولكم في
الآخرة » .
وقال ابن
أبي حاتم:حدثنا عمرو بن سواد السَّرْحي، أخبرنا ابن وهب، عن ابن لَهِيعَة، عن عقيل
بن خالد، عن الحسن، عن أبي هريرة، رضي الله عنه؛ أن أبا أمامة حدث:أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم حدثهم، وذكر حلي أهل الجنة فقال: « مسورون
بالذهب والفضة، مُكَلَّلة بالدّر، وعليهم أكاليل من دُرّ وياقوت متواصلة، وعليهم
تاج كتاج الملوك، شباب جُرْدٌ مُردٌ مكحَّلُون » .
(
وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ) وهو
الخوف من المحذور، أزاحه عنا، وأراحنا مما كنا نتخوفه، ونحذره من هموم الدنيا
والآخرة.
وقال عبد
الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن ابن عمر قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
« ليس على أهل » لا إله
إلا الله « وحشة في قبورهم ولا في منشرهم، وكأني بأهل » لا إله
إلا الله « ينفضون التراب عن رؤوسهم، ويقولون: (
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ) رواه
ابن أبي حاتم من حديثه . »
وقال
الطبراني:حدثنا جعفر بن محمد الفريابي، حدثنا يحيى بن موسى المروزي، حدثنا سليمان
بن عبد الله بن وهب الكوفي، عن عبد العزيز بن حكيم، عن ابن عمر قال:قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: « ليس على أهل » لا إله
إلا الله « وحشة في الموت ولا في قبورهم ولا في النشور . وكأني أنظر
إليهم عند الصيحة ينفضون رؤوسهم من التراب، يقولون: ( الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ) »
قال ابن
عباس، وغيره:غَفَر لهم الكثير من السيئات، وشكر لهم اليسير من الحسنات.
(
الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ )
:يقولون:الذي أعطانا هذه المنـزلة، وهذا المقام من فضله وَمَنِّه ورحمته، لم تكن
أعمالنا تساوي ذلك. كما ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « لن
يدخل أحدا منكم عمله الجنة » . قالوا:ولا أنت يا رسول الله؟
قال: « ولا أنا، إلا أن يَتَغَمَّدَنِي الله برحمة منه وفضل » .
( لا
يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ ) أي:لا
يمسنا فيها عناء ولا إعياء.
والنصَب
واللغوب:كل منهما يستعمل في التعب، وكأن المراد ينفي هذا وهذا عنهم أنهم لا تعب
على أبدانهم ولا أرواحهم ، والله أعلم. فمن ذلك أنهم كانوا يُدْئبُون أنفسهم في
العبادة في الدنيا، فسقط عنهم التكليف بدخولها، وصاروا في راحة دائمة مستمرة، قال
الله تعالى: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ
الْخَالِيَةِ [ الحاقة:24 ] .
وَالَّذِينَ
كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ
عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ ( 36 )
وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ
الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ
تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ ( 37 ) .
لما ذكر
تعالى حال السعداء، شرع في بيان مآل الأشقياء، فقال: (
وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا ) ، كما
قال تعالى: لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا [
طه:74 ] . وثبت في صحيح مسلم:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « أما
أهل النار الذين هم أهلها، فلا يموتون فيها ولا يحيون » . قال [
الله ] تعالى: وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ
قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ [ الزخرف:77 ] . فهم
في حالهم ذلك يرون موتهم راحة لهم، ولكن لا سبيل إلى ذلك، قال الله تعالى: ( لا
يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا ) ، كما
قال تعالى: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * لا يُفَتَّرُ
عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ [
الزخرف:74 ، 75 ] ، وقال كُلَّمَا خَبَتْ
زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا [ الإسراء:97 ]
فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلا عَذَابًا [
النبأ:30 ] .
ثم قال:
( كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ ) أي:هذا
جزاء كل من كفر بربه وكذب بالحق.
وقوله: (
وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا ) أي:ينادون فيها، يجأرون إلى
الله، عز وجل بأصواتهم: ( رَبَّنَا أَخْرِجْنَا
نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ )
أي:يسألون الرجعة إلى الدنيا، ليعملوا غير عملهم الأول، وقد علم الرب، جل جلاله،
أنه لو ردهم إلى الدار الدنيا، لعادوا لما نهوا عنه، وإنهم لكاذبون. فلهذا لا
يجيبهم إلى سؤالهم، كما قال تعالى مخبرا عنهم في قولهم: فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ
سَبِيلٍ * ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ
يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا [ غافر:11، 12 ] ،
أي:لا يجيبكم إلى ذلك لأنكم كنتم كذلك، ولو رددتم لعدّتم إلى ما نهيتم عنه؛ ولهذا
قال هاهنا: ( أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ
تَذَكَّرَ ) أي:أوما عشتم في الدنيا أعمارا لو كنتم ممن ينتفع بالحق
لانتفعتم به في مدة عمركم؟
وقد
اختلف المفسرون في مقدار العمر المراد هاهنا فروي عن علي بن الحسين زين العابدين
أنه قال:مقدار سبع عشرة سنة.
وقال
قتادة:اعلموا أن طول العمر حجة، فنعوذ بالله أن نُعَيَّر بطول العمر، قد نـزلت هذه
الآية: ( أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ
تَذَكَّرَ ) ، وإن فيهم لابن ثماني عشرة سنة ، وكذا قال أبو غالب
الشيباني.
وقال عبد
الله بن المبارك، عن مَعْمَر، عن رجل، عن وهب بن مُنَبِّه في قوله: (
أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ )
قال:عشرين سنة.
وقال
هشيم، عن منصور، عن زاذان، عن الحسن في قوله: (
أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ )
قال:أربعين سنة.
وقال
هُشَيْم [ أيضا ] ، عن مجاهد، عن الشعبي، عن
مسروق أنه كان يقول:إذا بلغ أحدكم أربعين سنة، فليأخذ حذره من الله عز وجل.
وهذه
رواية عن ابن عباس فيما قال ابن جرير:حدثنا ابن عبد الأعلى، حدثنا بشر بن المفضل،
حدثنا عبد الله بن عثمان بن خُثَيْم، عن مجاهد قال:سمعت ابن عباس يقول:العمر الذي
أعذر الله إلى ابن آدم: ( أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا
يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ ) أربعون
سنة.
هكذا
رواه من هذا الوجه، عن ابن عباس. وهذا القول هو اختيار ابن جرير. ثم رواه من طريق
الثوري وعبد الله بن إدريس، كلاهما عن عبد الله بن عثمان بن خثيم ، عن مجاهد ، عن
ابن عباس قال:العمر الذي أعذر الله فيه لابن آدم في قوله: (
أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ ) ستون
سنة.
فهذه
الرواية أصح عن ابن عباس، وهي الصحيحة في نفس الأمر أيضًا، لما ثبت في ذلك من
الحديث - كما سنورده- لا كما زعمه ابن جرير، من أن الحديث لم يصح؛ لأن في إسناده
مَنْ يجب التثبت في أمره.
وقد روى
أصبغ بن نُباتة، عن علي، رضي الله عنه، أنه قال:العمر الذي عَيَّرهم الله به في
قوله تعالى: ( أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ
تَذَكَّرَ ) ستون سنة.
وقال ابن
أبي حاتم:حدثنا أبي:حدثنا دُحَيْم، حدثنا ابن أبي فُدَيْك، حدثني إبراهيم بن الفضل
المخزومي، عن ابن أبي حُسَين المكي؛ أنه حدثه عن عَطاء - هو ابن أبي رباح- عن ابن
عباس رضي الله عنهما ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إذا
كان يوم القيامة قيل:أين أبناء الستين؟ وهو العمر الذي قال الله فيه: (
أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ
النَّذِير ) . »
وكذا رواه
ابن جرير، عن علي بن شعيب، عن محمد بن إسماعيل بن أبي فُدَيك، به. وكذا رواه
الطبراني من طريق ابن أبي فديك، به . وهذا الحديث فيه نظر؛ لحال إبراهيم بن الفضل،
والله أعلم.
حديث
آخر:قال الإمام أحمد:حدثنا عبد الرزاق، حدثنا مَعْمَر، عن رَجُل من بني غفَار، عن
سعيد المَقْبُرِيّ، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « لقد
أعذر الله إلى عبد أحياه حتى بلغ ستين أو سبعين سنة، لقد أعذر الله إليه، لقد أعذر
الله إليه » .
وهكذا
رواه الإمام البخاري في « كتاب الرقاق » من
صحيحه:حدثنا عبد السلام بن مُطَهَّر، عن عُمَر بن علي، عن مَعْن بن محمد الغفَاري،
عن سعيد المَقْبُرِيّ، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال:قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: « أعذر الله عز وجل إلى امرئ أخَّر عمره حتى بَلَّغَه ستين
سنة » . ثم قال البخاري:تابعه أبو حازم وابن عَجْلان، عن سعيد
المَقْبُرِيّ .
فأما أبو
حازم فقال ابن جرير:حدثنا أبو صالح الفَزَاريّ، حدثنا محمد بن سَوَّار، أخبرنا
يعقوب بن عبد الرحمن بن عبد القاريّ الإسكندريّ، حدثنا أبو حازم، عن سعيد
المَقْبُرِيّ، عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « [ من
عَمَّرَه ] الله ستين سنة، فقد أعذر إليه في العمر » .
وقد رواه
الإمام أحمد والنسائي في الرقاق جميعا عن قتيبة، عن يعقوب بن عبد الرحمن به .
ورواه
البزار قال:حدثنا هشام بن يونس، حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم، عن أبيه، عن سعيد
المقبري، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « العمر
الذي أعذر الله فيه إلى ابن آدم ستون سنة » . يعني:
( أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ
تَذَكَّرَ ) .
وأما
متابعة « ابن عجلان » فقال
ابن أبي حاتم:حدثنا أبو السفر يحيى بن محمد بن عبد الملك بن قرعة بسامراء، حدثنا
أبو عبد الرحمن المقري، حدثنا سعيد بن أبي أيوب، حدثني محمد بن عجلان، عن سعيد
المقبري، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « مَنْ
أتت عليه ستون سنة فقد أعذر الله، عز وجل، إليه في العمر » . وكذا
رواه الإمام أحمد عن أبي عبد الرحمن هو المقرئ ، به . ورواه أحمد أيضًا عن خلف عن
أبي مَعْشَر، عن سعيد المَقْبُرِيّ.
طريق
أخرى عن أبي هريرة:قال ابن جرير:حدثني أحمد بن الفرج أبو عُتْبَة الحِمْصِي، حدثنا
بَقِيَّة بن الوليد، حدثنا المطرف بن مازن الكناني، حدثني مَعْمَر بن راشد
قال:سمعت محمد بن عبد الرحمن الغفَاري يقول:سمعت أبا هريرة يقول:قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: « لقد أعذر الله عز وجل، إلى
صاحب الستين سنة والسبعين » .
فقد صح
هذا الحديث من هذه الطرق، فلو لم يكن إلا الطريق التي ارتضاها أبو عبد الله
البخاري شيخ هذه الصناعة لكفت. وقول ابن جرير: « إن في
رجاله بعض من يجب التثبت في أمره » ، لا
يلتفت إليه مع تصحيح البخاري، والله أعلم.
وذكر
بعضهم أن العمر الطبيعي عند الأطباء مائة وعشرون سنة، فالإنسان لا يزال في ازدياد
إلى كمال الستين، ثم يشرع بعد هذا في النقص والهرم، كما قال الشاعر:
إذَا بَلَــغَ الفتَــى ســتينَ عَامــا فقــد ذَهَــبَ
المَسَــرَّةُ والفَتَــاءُ
ولما كان
هذا هو العمر الذي يعذر الله إلى عباده به، ويزيح به عنهم العلل، كان هو الغالب
على أعمار هذه الأمة، كما ورد بذلك الحديث، قال الحسن بن عرفة، رحمه الله:
حدثنا
عبد الرحمن بن محمد المحاربي، حدثنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة
قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أعمار
أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وأقلهم مَن يجوز ذلك » .
وهكذا
رواه الترمذي وابن ماجه جميعا في كتاب الزهد، عن الحسن بن عرفة، به. ثم قال
الترمذي:هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه .
وهذا
عَجَب من الترمذي، فإنه قد رواه أبو بكر بن أبي الدنيا من وجه آخر وطريق أخرى، عن
أبي هريرة حيث قال:
حدثنا
سليمان بن عمر، عن محمد بن ربيعة، عن كامل أبي العلاء، عن أبي صالح، عن أبي هريرة
قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أعمار
أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وأقلهم من يجوز ذلك » .
وقد رواه
الترمذي في « كتاب الزهد » أيضا،
عن إبراهيم بن سعيد الجوهري، عن محمد بن ربيعة، به . ثم قال:هذا حديث حسن غريب، من
حديث أبي صالح عن أبي هريرة، وقد روي من غير وجه عنه. هذا نصه بحروفه في الموضعين،
والله أعلم.
وقال
الحافظ أبو يعلى:حدثنا أبو موسى الأنصاري، حدثنا ابن أبي فُدَيْك، حدثني إبراهيم
بن الفضل - مولى بني مخزوم- عن المَقْبُريّ، عن أبي هريرة، قال:قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: « مُعْتَرك المنايا ما بين
الستين إلى السبعين » .
وبه
قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أقل
أمتي أبناء سبعين » . إسناده ضعيف .
حديث آخر
في معنى ذلك:قال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده:
حدثنا
إبراهيم بن هانئ، حدثنا إبراهيم بن مهدي، حدثنا عثمان بن مطر، عن أبي مالك، عن
رِبْعِي عن حذيفة أنه قال:يا رسول الله، أنبئنا بأعمار أمتك. قال: « ما بين
الخمسين إلى الستين » قالوا:يا رسول الله، فأبناء
السبعين؟ قال: « قَلّ مَنْ يبلغها من أمتي،
رحم الله أبناء السبعين، ورحم الله أبناء الثمانين » .
ثم قال
البزار:لا يروى بهذا اللفظ إلا بهذا الإسناد، وعثمان بن مطر من أهل البصرة ليس
بقوي .
وقد ثبت
في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاش ثلاثا وستين سنة. وقيل:ستين.
وقيل:خمسًا وستين سنة. والمشهور الأول، والله أعلم.
وقوله: (
وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ ) :روي عن ابن عباس،
وعِكْرِمَة، وأبي جعفر الباقر، وقتادة، وسفيان بن عُيَيْنَة أنهم
قالوا:يعني:الشيب.
وقال
السُّدِّيّ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم:يعني به الرسول صلى الله عليه وسلم وقرأ
ابن زيد: هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأُولَى [
النجم:56 ] . وهذا هو الصحيح عن قتادة، فيما رواه شيبان، عنه أنه
قال:احتج عليهم بالعمر والرسل.
وهذا
اختيار ابن جرير، وهو الأظهر؛ لقوله تعالى: وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ
عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ * لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ
وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ [
الزخرف:77 ، 78 ] ، أي:لقد بينا لكم الحق على
ألسنة الرسل، فأبيتم وخالفتم، وقال تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى
نَبْعَثَ رَسُولا [ الإسراء:15 ] ، وقال
تبارك وتعالى: كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ
يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا
مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ [
الملك:8، 9 ] .
وقوله: (
فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ )
أي:فذوقوا عذابَ النار جزاء على مخالفتكم للأنبياء في مدة أعماركم، فما لكم اليوم
ناصر ينقذكم مما أنتم فيه من العذاب والنكال والأغلال.
إِنَّ
اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ
الصُّدُورِ ( 38 )
يخبر تعالى بعلمه غيب السموات
والأرض، وأنه يعلم ما تكنه السرائر وتنطوي عليه الضمائر، وسيجازي كل عامل بعمله.
هُوَ الَّذِي
جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ
الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلا مَقْتًا وَلا يَزِيدُ
الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلا خَسَارًا ( 39 ) .
ثم قال:
( هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأرْضِ )
أي:يخلف قوم لآخرين قبلهم، وجيل لجيل قبلهم، كما قال: وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ
الأَرْضِ [ النمل:62 ] (
فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ )
أي:فإنما يعود وبال ذلك على نفسه دون غيره، ( وَلا
يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلا مَقْتًا )
أي:كلما استمروا على كفرهم أبغضهم الله، وكلما استمروا فيه خسروا أنفسهم وأهليهم
يوم القيامة، بخلاف المؤمنين فإنهم كلما طال عمر أحدهم وحَسُن عمله، ارتفعت درجته
ومنـزلته في الجنة، وزاد أجره وأحبه خالقه وبارئه رب العالمين، [
فسبحان المقدر المدبر رب العالمين ] .
قُلْ
أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي
مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ
آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ
الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلا غُرُورًا ( 40 )
إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا
إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ( 41 ) .
يقول
تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين: (
أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ) أي:من
الأصنام والأنداد، ( أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا
مِنَ الأرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ) أي:ليس
لهم شيء من ذلك، ما يملكون من قطمير.
وقوله: ( أَمْ
آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ ) أي:أم
أنـزلنا عليهم كتابا بما يقولون من الشرك والكفر؟ ليس الأمر كذلك، ( بَلْ
إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلا غُرُورًا ) أي:بل
إنما اتبعوا في ذلك أهواءهم وآراءهم وأمانيهم التي تمنوها لأنفسهم، وهي غرور وباطل
وزور.
ثم أخبر
تعالى عن قدرته العظيمة التي بها تقوم السماء والأرض عن أمره، وما جعل فيهما من
القوة الماسكة لهما، فقال: ( إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ
السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ أَنْ تَزُولا ) أي:أن
تضطربا عن أماكنهما، كما قال: وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ
إِلا بِإِذْنِهِ [ الحج:65 ] ، وقال
تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ [
الروم:25 ] ( وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ
أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ ) أي:لا
يقدر على دوامهما وإبقائهما إلا هو، وهو مع ذلك حليم غفور، أي:يرى عباده وهم
يكفرون به ويعصونه، وهو يحلم فيؤخر وينظر ويؤجل ولا يَعْجَل، ويستر آخرين ويغفر؛
ولهذا قال: ( إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ) .
وقد أورد
ابن أبي حاتم هاهنا حديثا غريبا بل منكرًا، فقال:حدثنا علي بن الحسين بن الجنيد،
حدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثني هشام بن يوسف، عن أمية بن شبل، عن الحكم بن أبان،
عن عِكْرِمَة، عن أبي هريرة قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي عن موسى،
عليه السلام على المنبر قال: « وقع في نفس موسى عليه
السلام:هل ينام الله عز وجل فأرسل الله إليه ملكا، فأرقه ثلاثا ، وأعطاه قارورتين،
في كل يد قارورة، وأمره أن يحتفظ بهما. قال:فجعل ينام وتكاد يداه تلتقيان، ثم
يستيقظ فيحبس إحداهما عن الأخرى، حتى نام نومه، فاصطفقت يداه فَتَكَسَّرت
القارورتان. قال:ضرب الله له مثلا إن الله لو كان ينام لم تستمسك السماء والأرض » .
والظاهر أن
هذا الحديث ليس بمرفوع، بل من الإسرائيليات المنكرة فإن موسى عليه السلام أجَلّ من
أن يُجَوّز على الله سبحانه وتعالى النوم، وقد أخبر الله تعالى في كتابه العزيز
بأنه: الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [
البقرة:255 ] . وثبت في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري، رضي الله عنه
قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن
الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القِسْطَ ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل
قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل، حجابه النور أو النار، لو كشفه لأحرقت سبُحات
وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه » .
وقد قال
أبو جعفر بن جرير :حدثنا ابن بشار، حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن
أبي وائل قال:جاء رجل إلى عبد الله - هو ابن مسعود- فقال:من أين جئت؟ قال:من
الشام. قال:مَنْ لقيت؟ قال:لقيت كعبًا. قال:ما حدثك كعب؟ قال:حدثني أن السموات
تدور على مِنْكَب مَلَك. قال:أفصدقته أو كذبته؟ قال:ما صدقته ولا كذبته. قال:لوددت
أنك افتديت مَن رحلتك إليه براحلتك ورَحْلِها، كَذَب كعب. إن الله تعالى يقول: ( إِنَّ
اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ
أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ ) .
وهذا
إسناد صحيح إلى كعب وإلى ابن مسعود. ثم رواه ابن جرير عن ابن حميد، عن جرير، عن
مغيرة، عن إبراهيم قال:ذهب جُنْدب البَجَلي إلى كعب بالشام، فذكر نحوه . وقد رأيت
في مصنف الفقيه يحيى بن إبراهيم بن مُزَين الطليطلي، سماه « سير
الفقهاء » ، أورد هذا الأثر عن محمد بن عيسى بن الطَّبَّاع، عن وَكِيع،
عن الأعمش، به. ثم قال:وأخبرنا زونان - يعني:عبد الملك بن الحسن- عن ابن وهب، عن
مالك أنه قال:السماء لا تدور. واحتج بهذه الآية، وبحديث: « إن
بالمغرب بابا للتوبة لا يزال مفتوحا حتى تطلع الشمس منه » .
قلت:وهذا
الحديث في الصحيح، والله أعلم.
وَأَقْسَمُوا
بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى
مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلا نُفُورًا ( 42 )
اسْتِكْبَارًا فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ
السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا سُنَّتَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ
تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلا ( 43 ) .
يخبر
تعالى عن قريش والعرب أنهم أقسموا بالله جهد أيمانهم، قبل إرسال الرسول إليهم: (
لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأمَمِ ) أي:من
جميع الأمم الذين أرسل إليهم الرسل. قاله الضحاك وغيره، كقوله تعالى: أَنْ
تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا
وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا
أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ
بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ
بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا [
الأنعام:156 ، 157 ] ، وكقوله تعالى: وَإِنْ
كَانُوا لَيَقُولُونَ * لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الأَوَّلِينَ *
لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ
[ الصافات:167- 170 ] .
قال الله
تعالى: ( فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ ) -
وهو:محمد صلى الله عليه وسلم- بما أنـزل معه من الكتاب العظيم، وهو القرآن المبين،
( مَا زَادَهُمْ إِلا نُفُورًا ) ،
أي:ما ازدادوا إلا كفرًا إلى كفرهم، ثم بين ذلك بقوله: (
اسْتِكْبَارًا فِي الأرْضِ ) أي:استكبروا عن اتباع آيات
الله، ( وَمَكْرَ السَّيِّئِ )
أي:ومكروا بالناس في صدِّهم إياهم عن سبيل الله، ( وَلا
يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ ) [
أي:وما يعود وبال ذلك إلا عليهم أنفسهم دون غيرهم.
قال
ابن أبي حاتم:ذكر علي بن الحسين، حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان، عن أبي زكريا
الكوفي عن رجل حدثه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إياك
ومكر السيئ، فإنه لا يحيق المكر السيئ إلا بأهله ] ،
ولهم من الله طالب » ، ، وقد قال محمد بن كعب
القُرَظِي:ثلاث من فعلهن لم ينجُ حتى ينـزل به من مكر أو بغي أو نكث، وتصديقها في
كتاب الله: ( وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ ) .
إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ [
يونس:23 ] ، فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ [
الفتح:10 ] .
وقوله: (
فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا سُنَّتَ الأوَّلِينَ ) يعني:عقوبة
الله لهم على تكذيبهم رسله ومخالفتهم أمره ، (
فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلا ) أي لا
تغير ولا تبدل، بل هي جارية كذلك في كل مكذب، (
وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلا ) أي:
وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ [
الرعد:11 ] ، ولا يكشف ذلك عنهم، ويحوله عنهم أحد.
أَوَلَمْ
يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ
مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا
( 44 ) .
يقول تعالى:قل يا محمد لهؤلاء
المكذبين بما جئتهم به من الرسالة:سيروا في الأرض، فانظروا كيف كان عاقبة الذين
كذبوا الرسل؟ كيف دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها، فَخُلِيَتْ منهم منازلهم،
وسلبوا ما كانوا فيه من النَّعَم بعد كمال القوة، وكثرة العدد والعُدَد، وكثرة
الأموال والأولاد، فما أغنى ذلك شيئا، ولا دفع عنهم من عذاب الله من شيء، لما جاء
أمر ربك لأنه تعالى لا يعجزه شيء، إذا أراد كونه في السموات والأرض؟ (
إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا )
أي:عليم بجميع الكائنات، قدير على مجموعها.
وَلَوْ
يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ
دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ
فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا ( 45 ) .
ثم قال
تعالى: ( وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا
تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ ) أي:لو
آخذهم بجميع ذنوبهم، لأهلك جميع أهل الأرض، وما يملكونه من دواب وأرزاق.
قال ابن
أبي حاتم:حدثنا أحمد بن سِنان، حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان الثوري، عن أبي
إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله قال:كاد الجَعْلُ أن يعذب في جُحْره بذنب ابن
آدم، ثم قرأ: ( وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ
النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ ) .
وقال
سعيد بن جُبَيْر، والسُّدِّيّ في قوله: ( مَا
تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ ) أي:لما
سقاهم المطر، فماتت جميع الدواب.
( وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ
إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ) أي:ولكن يُنْظرهُم إلى يوم
القيامة، فيحاسبهم يومئذ، ويوفي كل عامل بعمله، فيجازي بالثواب أهلَ الطاعة،
وبالعقاب أهل المعصية؛ ولهذا قال تعالى: (
فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا ) .
آخر
تفسير سورة « فاطر » ولله الحمد والمنة.