فهرس تفسير بن كثير للسور

38 - تفسير بن كثير سورة ص

التالي السابق

 

تفسير سورة ص

 

[ وهي ] مكية.

بسم الله الرحمن الرحيم

ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ( 1 ) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ ( 2 ) كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ ( 3 )

أما الكلام على الحروف المقطعة فقد تقدم في أول سورة « البقرة » بما أغنى عن إعادته هاهنا.

وقوله: ( وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ) أي:والقرآن المشتمل على ما فيه ذكر للعباد ونفع لهم في المعاش والمعاد.

قال الضحاك في قوله: ( ذِي الذِّكْرِ ) كقوله: لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ [ الأنبياء:10 ] أي:تذكيركم. وكذا قال قتادة واختاره ابن جرير.

وقال ابن عباس، وسعيد بن جبير وإسماعيل بن أبي خالد، وابن عيينة وأبو حصين وأبو صالح والسدي ( ذِي الذِّكْرِ ) ذي الشرف أي:ذي الشأن والمكانة.

ولا منافاة بين القولين، فإنه كتاب شريف مشتمل على التذكير والإعذار والإنذار.

واختلفوا في جواب هذا القسم فقال بعضهم:هو قوله: إِنْ كُلٌّ إِلا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ [ ص:14 ] . وقيل قوله: إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ [ ص:64 ] حكاهما ابن جرير وهذا الثاني فيه بعد كبير، وضعفه ابن جرير.

وقال قتادة:جوابه: ( بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ ) واختاره ابن جرير.

وقيل:جوابه ما تضمنه سياق السورة بكمالها، والله أعلم .

ثم حكى ابن جرير عن بعض أهل العلم أنه قال:جوابه « ص » بمعنى:صدق حق والقرآن ذي الذكر.

وقوله: ( بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ ) أي:إن في هذا القرآن لذكراً لمن يتذكر، وعبرة لمن يعتبر. وإنما لم ينتفع به الكافرون لأنهم ( فِي عِزَّةٍ ) أي:استكبار عنه وحمية ( وَشِقَاقٍ ) أي:مخالفة له ومعاندة ومفارقة.

ثم خوفهم ما أهلك به الأمم المكذبة قبلهم بسبب مخالفتهم للرسل وتكذيبهم الكتب المنـزلة من السماء فقال: ( كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ ) أي:من أمة مكذبة، ( فَنَادَوْا ) أي: حين جاءهم العذاب استغاثوا وجأروا إلى الله. وليس ذلك بمجد عنهم شيئا. كما قال تعالى: فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ [ الأنبياء:12 ] أي:يهربون، لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ [ الأنبياء:13 ]

قال أبو داود الطيالسي:حدثنا شعبة عن أبي إسحاق عن التميمي قال:سألت ابن عباس عن قول الله: ( فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ ) قال:ليس بحين نداء، ولا نـزو ولا فرار

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:ليس بحين مغاث.

وقال شبيب بن بشر عن عكرمة عن ابن عباس:نادوا النداء حين لا ينفعهم وأنشد:

تَذَكَّر ليلى لاتَ حين تذَكّر

.

وقال محمد بن كعب في قوله: ( فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ ) يقول:نادوا بالتوحيد حين تولت الدنيا عنهم، واستناصوا للتوبة حين تولت الدنيا عنهم.

وقال قتادة:لما رأوا العذاب أرادوا التوبة في غير حين النداء.

وقال مجاهد: ( فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ ) ليس بحين فرار ولا إجابة.

وقد روي نحو هذا عن عكرمة، وسعيد بن جبير وأبي مالك والضحاك وزيد بن أسلم والحسن وقتادة.

وعن مالك، عن زيد بن أسلم: ( وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ ) ولا نداء في غير حين النداء.

وهذه الكلمة وهي « لات » هي « لا » التي للنفي، زيدت معها « التاء » كما تزاد في « ثم » فيقولون: « ثمت » ، و « رب » فيقولون: « ربت » . وهي مفصولة والوقف عليها. ومنهم من حكى عن المصحف الإمام فيما ذكره [ ابن جرير ] أنها متصلة بحين: « ولا تحين مناص » . والمشهور الأول. ثم قرأ الجمهور بنصب « حين » تقديره:وليس الحين حين مناص. ومنهم من جوز النصب بها، وأنشد:

تَذَكَّــر حُــب ليــلى لاتَ حينـا وأَضْحَـى الشَّـيْبُ قـد قَطَـع القَرينا

ومنهم من جوز الجر بها، وأنشد:

طَلَبُــــوا صُلْحَنَـــا ولاتَ أوانٍ فأجَبْنَـــا أن ليس حـــينُ بقــاءِ

وأنشد بعضهم أيضا:

ولاتَ سَاعةَ مَنْدَم

بخفض الساعة، وأهل اللغة يقولون:النوص:التأخر، والبوص:التقدم. ولهذا قال تعالى: ( وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ ) أي:ليس الحين حين فرار ولا ذهاب.

وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ( 4 ) أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ( 5 ) وَانْطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ ( 6 ) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلا اخْتِلاقٌ ( 7 ) أَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ ( 8 ) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ ( 9 ) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الأَسْبَابِ ( 10 ) جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الأَحْزَابِ ( 11 )

يقول تعالى مخبرا عن المشركين في تعجبهم من بعثة الرسول بشرا، كما قال تعالى: أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ وقال هاهنا: ( وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ ) أي:بشر مثلهم، ( وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا ) أي:أزعم أن المعبود واحد لا إله إلا هو؟! أنكر المشركون ذلك - قبحهم الله تعالى- وتعجبوا من ترك الشرك بالله، فإنهم كانوا قد تلقوا عن آبائهم عبادة الأوثان وأشربته قلوبهم فلما دعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى خلع ذلك من قلوبهم وإفراد الله بالوحدانية أعظموا ذلك وتعجبوا وقالوا: ( أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانْطَلَقَ الْمَلأ مِنْهُمْ ) وهم سادتهم وقادتهم ورؤساؤهم وكبراؤهم قائلين: ( [ أن ] امْشُوا ) أي:استمروا على دينكم ( وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ ) ولا تستجيبوا لما يدعوكم إليه محمد من التوحيد.

وقوله: ( إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ ) قال ابن جرير:إن هذا الذي يدعونا إليه محمد صلى الله عليه وسلم من التوحيد لشيء يريد به الشرف عليكم والاستعلاء، وأن يكون له منكم أتباع ولسنا مجيبيه إليه.

ذكر سبب نـزول هذه الآيات:

قال السدي:إن أناسا من قريش اجتمعوا فيهم:أبو جهل بن هشام والعاص بن وائل، والأسود بن المطلب والأسود بن عبد يغوث في نفر من مشيخة قريش، فقال بعضهم لبعض:انطلقوا بنا إلى أبي طالب فلنكلمه فيه، فلينصفنا منه فليكف عن شتم آلهتنا وندعه وإلهه الذي يعبده؛ فإنا نخاف أن يموت هذا الشيخ فيكون منا إليه شيء. فتعيرنا [ به ] العرب يقولون: تركوه حتى إذا مات عنه تناولوه « . فبعثوا رجلا منهم يقال له المطلب » فاستأذن لهم على أبي طالب فقال:هؤلاء مشيخة قومك وسراتهم يستأذنون عليك. قال:أدخلهم. فلما دخلوا عليه قالوا:يا أبا طالب أنت كبيرنا وسيدنا فأنصفنا من ابن أخيك فمره فليكف عن شتم آلهتنا وندعه وإلهه. قال:فبعث إليه أبو طالب فلما دخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:يا ابن أخي هؤلاء مشيخة قومك وسراتهم وقد سألوك أن تكف عن شتم آلهتهم ويدعوك وإلهك. قال: « يا عم أفلا أدعوهم إلى ما هو خير لهم؟ » قال:وإلام تدعوهم؟ قال: « أدعوهم [ إلى ] أن يتكلموا بكلمة تدين لهم بها العرب ويملكون بها العجم » . فقال أبو جهل من بين القوم:ما هي وأبيك؟ لنعطينها وعشرة أمثالها. قال:تقولون: « لا إله إلا الله » . فنفر وقال:سلنا غير هذا قال: « لو جئتموني بالشمس حتى تضعوها في يدي ما سألتكم غيرها » فقاموا من عنده غضابا، وقالوا:والله لنشتمنك وإلهك الذي أمرك بهذا. ( وَانْطَلَقَ الْمَلأ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ )

رواه ابن أبي حاتم وابن جرير وزاد:فلما خرجوا دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه إلى قول: « لا إله إلا الله » فأبى وقال:بل على دين الأشياخ. ونـزلت: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [ القصص:56 ]

وقال أبو جعفر بن جرير:حدثنا أبو كريب وابن وكيع قالا حدثنا أبو أسامة حدثنا الأعمش حدثنا عباد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال:لما مرض أبو طالب دخل عليه رهط من قريش فيهم أبو جهل فقالوا:إن ابن أخيك يشتم آلهتنا ويفعل ويفعل ويقول ويقول فلو بعثت إليه فنهيته؟ فبعث إليه فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فدخل البيت وبينهم وبين أبي طالب قدر مجلس رجل قال:فخشي أبو جهل إن جلس إلى جنب أبي طالب أن يكون أرق له عليه. فوثب فجلس في ذلك المجلس ولم يجد رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسا قرب عمه فجلس عند الباب. فقال له أبو طالب:أي ابن أخي ما بال قومك يشكونك، يزعمون أنك تشتم آلهتهم وتقول وتقول؟ قال:وأكثروا عليه من القول وتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: « يا عم إني أريدهم على كلمة واحدة! يقولونها تدين لهم بها العرب وتؤدي إليهم بها العجم الجزية » ففزعوا لكلمته ولقوله وقالوا كلمة واحدة! نعم وأبيك عشرا فقالوا:وما هي؟ وقال أبو طالب وأي كلمة هي يا ابن أخي؟ فقال: « لا إله إلا الله » فقاموا فزعين ينفضون ثيابهم وهم يقولون: ( أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ) قال:ونـزلت من هذا الموضع إلى قوله: ( لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ ) لفظ أبي كريب

وهكذا رواه الإمام أحمد والنسائي من حديث محمد بن عبد الله بن نمير، كلاهما عن أبي أسامة عن الأعمش عن عباد غير منسوب به نحوه ورواه الترمذي، والنسائي وابن أبي حاتم وابن جرير أيضا كلهم في تفاسيرهم من حديث سفيان الثوري عن الأعمش عن يحيى بن عمارة الكوفي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فذكر نحوه. وقال الترمذي حسن

وقولهم: ( مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ ) أي:ما سمعنا بهذا الذي يدعونا إليه محمد من التوحيد في الملة الآخرة.

قال مجاهد وقتادة وابن زيد:يعنون دين قريش.

وقال غيرهم:يعنون النصرانية، قاله محمد بن كعب والسدي.

وقال العوفي عن ابن عباس: ( مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ ) يعني:النصرانية قالوا:لو كان هذا القرآن حقا أخبرتنا به النصارى.

( إِنْ هَذَا إِلا اخْتِلاقٌ ) قال مجاهد، وقتادة كذب وقال ابن عباس:تخرص.

وقولهم: ( أَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا ) يعني:أنهم يستبعدون تخصيصه بإنـزال القرآن عليه من بينهم كلهم كما قالوا في الآية الأخرى: لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [ الزخرف:31 ] قال الله تعالى: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ [ الزخرف:32 ] ولهذا لما قالوا هذا الذي دل على جهلهم وقلة عقلهم في استبعادهم إنـزال القرآن على الرسول من بينهم، قال الله تعالى: ( بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ ) أي:إنما يقولون هذا لأنهم ما ذاقوا إلى حين قولهم ذلك عذاب الله ونقمته سيعلمون غب ما قالوا، وما كذبوا به يوم يُدَعّون إلى نار جهنم دَعّا.

ثم قال مبينا أنه المتصرف في ملكه الفعال لما يشاء الذي يعطي من يشاء ما يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء ويهدي من يشاء ويضل من يشاء وينـزل الروح من أمره على من يشاء من عباده ويختم على قلب من يشاء، فلا يهديه أحد من بعد الله وإن العباد لا يملكون شيئا من الأمر وليس إليهم من التصرف في الملك ولا مثقال ذرة وما يملكون من قطمير؛ ولهذا قال تعالى منكرا عليهم: ( أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ ) أي:العزيز الذي لا يرام جنابه الوهاب الذي يعطي ما يريد لمن يريد.

وهذه الآية شبيهة بقوله: أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا * أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا * فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا [ النساء:53:55 ] وقوله قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنْفَاقِ وَكَانَ الإِنْسَانُ قَتُورًا [ الإسراء:100 ] وذلك بعد الحكاية عن الكفار أنهم أنكروا بعثة الرسول البشري وكما أخبر تعالى عن قوم صالح [ عليه السلام ] حين قالوا: أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ * سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الأَشِرُ [ القمر:25:26 ]

وقوله: ( أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الأسْبَابِ ) أي:إن كان لهم ذلك فليصعدوا في الأسباب.

قال ابن عباس، ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وغيرهم:يعني طرق السماء.

وقال الضحاك:فليصعدوا إلى السماء السابعة.

ثم قال: ( جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الأحْزَابِ ) أي:هؤلاء الجند المكذبون الذين هم في عزة وشقاق سيهزمون ويغلبون ويكبتون كما كبت الذين من قبلهم من الأحزاب المكذبين وهذه كقوله: أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ * سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ وكان ذلك يوم بدر بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ [ القمر:44:46 ] .

كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الأَوْتَادِ ( 12 ) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ أُولَئِكَ الأَحْزَابُ ( 13 ) إِنْ كُلٌّ إِلا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ ( 14 ) وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلاءِ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ ( 15 ) وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ ( 16 )

يقول تعالى مخبرا عن هؤلاء القرون الماضية، وما حل بهم من العذاب والنكال والنقمات في مخالفة الرسل وتكذيب الأنبياء وقد تقدمت قصصهم مبسوطة في أماكن متعددة.

وقوله: ( أُولَئِكَ الأحْزَابُ ) أي:كانوا أكثر منكم وأشد قوة وأكثر أموالا وأولادا فما دافع ذلك عنهم من عذاب الله من شيء لما جاء أمر ربك ولهذا قال: ( إِنْ كُلٌّ إِلا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ ) فجعل علة هلاكهم هو تكذيبهم بالرسل فليحذر المخاطبون من ذلك أشد الحذر .

وقوله: ( وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلاءِ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ ) قال مالك عن زيد بن أسلم:أي ليس لها مثنوية أي:ما ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها أي:فقد اقتربت ودنت وأزفت وهذه الصيحة هي نفخة الفزع التي يأمر الله إسرافيل أن يطولها، فلا يبقى أحد من أهل السماوات والأرض إلا فزع إلا من استثنى الله عز وجل .

وقوله: ( وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ ) هذا إنكار من الله على المشركين في دعائهم على أنفسهم بتعجيل العذاب، فإن القط هو الكتاب وقيل:هو الحظ والنصيب.

قال ابن عباس ومجاهد والضحاك والحسن وغير واحد:سألوا تعجيل العذاب - زاد قتادة كما قالوا: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [ الأنفال:32 ]

وقيل:سألوا تعجيل نصيبهم من الجنة إن كانت موجودة أن يلقوا ذاك في الدنيا. وإنما خرج هذا منهم مخرج الاستبعاد والتكذيب .

وقال ابن جرير:سألوا تعجيل ما يستحقونه من الخير أو الشر في الدنيا وهذا الذي قاله جيد، وعليه يدور كلام الضحاك وإسماعيل بن أبي خالد والله أعلم.

 

اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ ( 17 ) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ ( 18 ) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ ( 19 ) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ ( 20 )

ولما كان هذا الكلام منهم على وجه الاستهزاء والاستبعاد قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم آمرا له بالصبر على أذاهم ومبشرا له على صبره بالعاقبة والنصر والظفر .

يذكر تعالى عن عبده ورسوله داود عليه السلام:أنه كان ذا أيد والأيد:القوة في العلم والعمل.

قال [ ابن عباس ] وابن زيد والسدي:الأيد:القوة وقرأ ابن زيد: وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ [ الذاريات:47 ]

وقال مجاهد:الأيد:القوة في الطاعة.

وقال قتادة:أعطي داود [ عليه السلام ] قوة في العبادة وفقها في الإسلام، وقد ذكر لنا أنه عليه السلام كان يقوم ثلث الليل ويصوم نصف الدهر.

وهذا ثابت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « أحب الصلاة إلى الله صلاة داود وأحب الصيام إلى الله صيام داود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه وكان يصوم يوما ويفطر يوما ولا يفر إذا لاقى » وإنه كان أوابا، وهو الرجاع إلى الله عز وجل في جميع أموره وشئونه.

وقوله: ( إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإشْرَاقِ ) أي:إنه تعالى سخر الجبال تسبح معه عند إشراق الشمس وآخر النهار، كما قال تعالى: يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ [ سبأ:10 ] وكذلك كانت الطير تسبح بتسبيحه وترجع بترجيعه إذا مر به الطير وهو سابح في الهواء فسمعه وهو يترنم بقراءة الزبور لا تستطيع الذهاب بل تقف في الهواء وتسبح معه وتجيبه الجبال الشامخات ترجع معه وتسبح تبعا له.

قال ابن جرير:حدثنا أبو كُرَيْب حدثنا محمد بن بشر عن مِسْعَر عن عبد الكريم عن موسى بن أبي كثير عن ابن عباس أنه بلغه:أن أم هانئ ذكرت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة صلى الضحى ثمان ركعات، قال ابن عباس:قد ظننت أن لهذه الساعة صلاة يقول الله تعالى: ( يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإشْرَاقِ )

ثم رواه من حديث سعيد بن أبي عروبة، عن أبي المتوكل عن أيوب بن صفوان عن مولاه عبد الله بن الحارث بن نوفل أن ابن عباس كان لا يصلي الضحى قال:فأدخلته على أم هانئ فقلت:أخبري هذا ما أخبرتني به. فقالت أم هانئ:دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح في بيتي ثم أمر بماء صب في قصعة ثم أمر بثوب فأخذ بيني وبينه فاغتسل ثم رش ناحية البيت فصلى ثمان ركعات، وذلك من الضحى قيامهن وركوعهن وسجودهن وجلوسهن سواء قريب بعضهن من بعض فخرج ابن عباس وهو يقول:لقد قرأت ما بين اللوحين ما عرفت صلاة الضحى إلا الآن: ( يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإشْرَاقِ ) وكنت أقول:أين صلاة الإشراق وكان بعد يقول:صلاة الإشراق.

ولهذا قال: ( وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ) أي:محبوسة في الهواء، ( كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ ) أي:مطيع يسبح تبعا له.

قال سعيد بن جبير وقتادة ومالك عن زيد بن أسلم وابن زيد: ( كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ ) أي:مطيع.

[ وقوله ] ( وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ ) أي:جعلنا له ملكا كاملا من جميع ما يحتاج إليه الملوك.

قال ابن أبي نجيح عن مجاهد:كان أشد أهل الدنيا سلطاناً.

وقال السدي:كان يحرسه في كل يوم أربعة آلاف.

وقال بعض السلف:بلغني أنه كان حَرَسُه في كل ليلة ثلاثة وثلاثين ألفا لا تدور عليهم النوبة إلى مثلها من العام القابل.

وقال غيره:أربعون ألفا مشتملون بالسلاح. وقد ذكر ابن جرير وابن أبي حاتم من رواية عِلْباء بن أحمر عن عِكْرِمة عن ابن عباس:أن نفرين من بني إسرائيل استعدى أحدهما على الآخر إلى داود عليه السلام أنه اغتصبه بقراً فأنكر الآخر، ولم يكن للمدعي بينة فأرجأ أمرهما فلما كان الليل أمر داود عليه السلام، في المنام بقتل المدعي فلما كان النهار طلبهما وأمر بقتل المدعي فقال:يا نبي الله علام تقتلني وقد اغتصبني هذا بقري؟ فقال:إن الله عز وجل أمرني بقتلك فأنا قاتلك لا محالة. فقال:والله يا نبي الله إن الله لم يأمرك بقتلي لأجل هذا الذي ادعيت عليه، وإني لصادق فيما ادعيت ولكني كنت قد اغتلت أباه وقتلته، ولم يشعر بذلك أحد فأمر به داود [ عليه السلام ] فقتل.

قال ابن عباس:فاشتدت هيبته في بني إسرائيل وهو الذي يقول الله عز وجل: ( وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ )

وقوله: ( وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ ) قال مجاهد:يعني:الفهم والعقل والفطنة. وقال مرة:الحكمة والعدل. وقال مرة:الصواب.

وقال قتادة:كتاب الله واتباع ما فيه.

وقال السدي: ( الْحِكْمَةَ ) النبوة.

وقوله: ( وَفَصْلَ الْخِطَابِ ) قال شريح القاضي والشعبي فصل الخطاب:الشهود والأيمان.

وقال قتادة:شاهدان على المدعي أو يمين المدعى عليه هو فصل الخطاب الذي فصل به الأنبياء والرسل - أو قال:المؤمنون والصالحون- وهو قضاء هذه الأمة إلى يوم القيامة وكذا قال أبو عبد الرحمن السلمي.

وقال مجاهد والسدي:هو إصابة القضاء وفهمه.

وقال مجاهد أيضا:هو الفصل في الكلام وفي الحكم

وهذا يشمل هذا كله وهو المراد واختاره ابن جرير.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا عمر بن شبة النميري حدثنا إبراهيم بن المنذر حدثني عبد العزيز بن أبي ثابت عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه عن بلال بن أبي بردة عن أبيه عن أبي موسى رضي الله عنه قال:أول من قال: « أما بعد » داود عليه السلام وهو فصل الخطاب.

وكذا قال الشعبي:فصل الخطاب: « أما بعد » .

وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ ( 21 ) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ ( 22 ) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ( 23 ) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ ( 24 ) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ ( 25 )

قد ذكر المفسرون هاهنا قصة أكثرها مأخوذ من الإسرائيليات ولم يثبت فيها عن المعصوم حديث يجب اتباعه ولكن روى ابن أبي حاتم هنا حديثا لا يصح سنده؛ لأنه من رواية يزيد الرقاشي عن أنس - ويزيد وإن كان من الصالحين- لكنه ضعيف الحديث عند الأئمة فالأولى أن يقتصر على مجرد تلاوة هذه القصة وأن يرد علمها إلى الله عز وجل فإن القرآن حق وما تضمن فهو حق أيضا.

وقوله: ( [ إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ ] فَفَزِعَ مِنْهُمْ ) إنما كان ذلك لأنه كان في محرابه، وهو أشرف مكان في داره وكان قد أمر ألا يدخل عليه أحد ذلك اليوم فلم يشعر إلا بشخصين قد تَسَوَّرا عليه المحراب أي:احتاطا به يسألانه عن شأنهما.

وقوله: ( وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ) أي:غلبني يقال:عز يعز:إذا قهر وغلب.

وقوله: ( وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ ) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس:أي اختبرناه.

وقوله: ( وَخَرَّ رَاكِعًا ) أي:ساجدا ( وَأَنَابَ ) ويحتمل أنه ركع أولا ثم سجد بعد ذلك وقد ذكر أنه استمر ساجدا أربعين صباحا، ( فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ ) أي:ما كان منه مما يقال فيه:إن حسنات الأبرار سيئات المقربين.

وقد اختلف الأئمة رضي الله عنهم في سجدة « ص » هل هي من عزائم السجود؟ على قولين الجديد من مذهب الشافعي رحمه الله أنها ليست من عزائم السجود بل هي سجدة شكر. والدليل على ذلك ما رواه الإمام أحمد حيث قال:

حدثنا إسماعيل - وهو ابن علية- عن أيوب عن ابن عباس أنه قال في السجود في « ص » :ليست من عزائم السجود وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد فيها.

ورواه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي في تفسيره من حديث أيوب به وقال الترمذي:حسن صحيح.

وقال النسائي أيضا عند تفسير هذه الآية:أخبرني إبراهيم بن الحسن - هو المقسمي- حدثنا حجاج بن محمد عن عمرو بن ذر عن أبيه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في « ص » وقال: « سجدها داود عليه السلام توبة ونسجدها شكرا » .

تفرد بروايته النسائي ورجال إسناده كلهم ثقات وقد أخبرني شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي قراءة عليه وأنا أسمع:

أخبرنا أبو إسحاق المدرجي أخبرنا زاهر بن أبي طاهر الثقفي أخبرنا زاهر بن طاهر الشحامي، أخبرنا أبو سعيد الكَنْجَرُوذي أخبرنا الحاكم أبو أحمد محمد بن محمد الحافظ أخبرنا أبو العباس السراج حدثنا هارون بن عبد الله حدثنا محمد بن يزيد ابن خُنَيْس عن الحسن بن محمد بن عبيد الله بن أبي يزيد قال:قال لي ابن جريج:يا حسن حدثني جدك عبيد الله بن أبي يزيد عن ابن عباس قال:جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:يا رسول الله إني رأيت فيما يرى النائم كأني أصلي خلف شجرة فقرأت السجدة فسجدت فسجدت الشجرة لسجودي فسمعتها تقول وهي ساجدة:اللهم اكتب لي بها عندك أجرا واجعلها لي عندك ذخرا وضع عني بها وزرا واقبلها مني كما قبلتها من عبدك داود.

قال ابن عباس:فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم قام فقرأ السجدة ثم سجد فسمعته يقول وهو ساجد كما حكى الرجل من كلام الشجرة

رواه الترمذي عن قتيبة وابن ماجه عن أبي بكر بن خلاد كلاهما عن محمد بن يزيد بن خنيس نحوه وقال الترمذي:غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه

وقال البخاري عند تفسيرها أيضا:حدثنا محمد بن عبد الله حدثنا محمد بن عبيد الطنافسي عن العوام قال:سألت مجاهدا عن سجدة « ص » فقال: سألت ابن عباس:من أين سجدت؟ فقال:أو ما تقرأ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ [ الأنعام:84 ] أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [ الأنعام:90 ] فكان داود عليه السلام ممن أمر نبيكم صلى الله عليه وسلم أن يقتدي به فسجدها داود عليه السلام فسجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم

وقال الإمام أحمد:حدثنا عفان حدثنا يزيد بن زريع حدثنا حميد حدثنا بكر - هو ابن عبد الله المزني- أنه أخبره أن أبا سعيد الخدري رأى رؤيا أنه يكتب « ص » فلما بلغ إلى التي يسجد بها رأى الدواة والقلم وكل شيء بحضرته انقلب ساجدا قال:فقصها على النبي صلى الله عليه وسلم فلم يزل يسجد بها بعد. تفرد به [ الإمام ] أحمد

وقال أبو داود:حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن سعيد بن أبي هلال عن عياض بن عبد الله بن سعد بن أبي سرح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال:قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر « ص » فلما بلغ السجدة نـزل فسجد وسجد الناس معه، فلما كان يوم آخر قرأها فلما بلغ السجدة تَشَزّن الناس للسجود، فقال: « إنما هي توبة نبي ولكني رأيتكم تَشَزّنْتُم » . فنـزل وسجد وسجدوا. تفرد به أبو داود وإسناده على شرط الصحيح .

وقوله: ( وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ ) أي:وإن له يوم القيامة لقربة يقربه الله عز وجل بها وحسن مرجع وهو الدرجات العاليات في الجنة لتوبته وعدله التام في ملكه كما جاء في الصحيح: « المقسطون على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يقسطون في أهليهم وما ولوا »

وقال الإمام أحمد:حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا فضيل عن عطية عن أبي سعيد الخدري قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن أحب الناس إلى الله يوم القيامة وأقربهم منه مجلسا إمام عادل وإن أبغض الناس إلى الله يوم القيامة وأشدهم عذابا إمام جائر » . ورواه الترمذي من حديث فضيل - وهو ابن مرزوق الأغر- عن عطية به وقال:لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو زرعة، حدثنا عبد الله بن أبي زياد حدثنا سيار، حدثنا جعفر بن سليمان:سمعت مالك بن دينار في قوله: ( وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ ) قال:يقام داود يوم القيامة عند ساق العرش ثم يقول:يا داود مجدني اليوم بذلك الصوت الحسن الرخيم الذي كنت تمجدني به في الدنيا. فيقول:وكيف وقد سلبته؟ فيقول:إني أرده عليك اليوم. قال:فيرفع داود بصوت يستفرغ نعيم أهل الجنان .

يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ( 26 )

هذه وصية من الله عز وجل لولاة الأمور أن يحكموا بين الناس بالحق المنـزل من عنده تبارك وتعالى ولا يعدلوا عنه فيضلوا عن سبيله وقد توعد [ الله ] تعالى من ضل عن سبيله، وتناسى يوم الحساب، بالوعيد الأكيد والعذاب الشديد.

قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي حدثنا هشام بن خالد حدثنا الوليد، حدثنا مروان بن جناح، حدثني إبراهيم أبو زرعة - وكان قد قرأ الكتاب- أن الوليد بن عبد الملك قال له: أيحاسب الخليفة فإنك قد قرأت الكتاب الأول، وقرأت القرآن وفقهت؟ فقلت:يا أمير المؤمنين أقول؟ قال:قل في أمان. قلت يا أمير المؤمنين أنت أكرم على الله أو داود؟ إن الله - عز وجل- جمع له النبوة والخلافة ثم توعده في كتابه فقال: ( يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ ) الآية.

وقال عكرمة: ( لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ) هذا من المقدم والمؤخر لهم عذاب شديد يوم الحساب بما نسوا.

وقال السدي:لهم عذاب شديد بما تركوا أن يعملوا ليوم الحساب.

وهذا القول أمشى على ظاهر الآية فالله أعلم.

 

وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ( 27 ) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ( 28 ) كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ ( 29 )

يخبر تعالى أنه ما خلق الخلق عبثا وإنما خلقهم ليعبدوه ويوحدوه ثم يجمعهم ليوم الجمع فيثيب المطيع ويعذب الكافر ولهذا قال تعالى: ( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ) أي:الذين لا يرون بعثا ولا معادا وإنما يعتقدون هذه الدار فقط، ( فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ) أي:ويل لهم يوم معادهم ونشورهم من النار المعدة لهم.

ثم بين تعالى أنه من عدله وحكمته لا يساوي بين المؤمن والكافر فقال: ( أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ) أي:لا نفعل ذلك ولا يستوون عند الله، وإذا كان الأمر كذلك فلا بد من دار أخرى يثاب فيها هذا المطيع ويعاقب فيها هذا الفاجر. وهذا الإرشاد يدل العقول السليمة والفطر المستقيمة على أنه لا بد من معاد وجزاء فإنا نرى الظالم الباغي يزداد ماله وولده ونعيمه ويموت كذلك ونرى المطيع المظلوم يموت بكمده فلا بد في حكمة الحكيم العليم العادل الذي لا يظلم مثقال ذرة من إنصاف هذا من هذا. وإذا لم يقع هذا في هذه الدار فتعين أن هناك داراً أخرى لهذا الجزاء والمواساة. ولما كان القرآن يرشد إلى المقاصد الصحيحة والمآخذ العقلية الصريحة، قال: ( كِتَابٌ أَنـزلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الألْبَابِ ) أي:ذوو العقول وهي الألباب، جمع لب، وهو العقل.

قال الحسن البصري:والله ما تَدَبُّره بحفظ حروفه وإضاعة حدوده، حتى إن أحدهم ليقول:قرأت القرآن [ كله ] ما يرى له القرآنُ في خلق ولا عمل. رواه ابن أبي حاتم .

وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ( 30 ) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ ( 31 ) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ ( 32 ) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ ( 33 )

يقول تعالى مخ وَالأَعْنَاقِ لداود سليمان، أي:ن وَالأَعْنَاقِ: وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ أي:في النبوة وإلا فقد كان له بنون غيره، فإنه قد كان عنده مائة امرأة حرائر.

وقوله: ( نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ) ثناء على سليمان، عليه السلام، بأنه كثير الطاعة والعبادة والإنابة إلى الله عز وجل.

قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي حدثنا محمود بن خالد حدثنا الوليد حدثنا مكحول قال:لما وهب الله لداود سليمان عليه السلام قال له:يا بني ما أحسن؟ قال:سكينة الله وإيمان. قال:فما أقبح؟ قال:كفر بعد إيمان. قال:فما أحلى؟ قال:روح الله بين عباده. قال:فما أبرد؟ قال:عفو الله عن الناس وعفو الناس بعضهم عن بعض. قال داود عليه السلام:فأنت نبي.

وقوله: ( إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ ) أي:إذ عرض على سليمان في حال مملكته وسلطانه الخيل الصافنات.

قال مجاهد:وهي التي تقف على ثلاث وطرف حافر الرابعة، والجياد:السراع. وكذا قال غير واحد من السلف.

وقال ابن جرير:حدثنا محمد بن بشار حدثنا مُؤمَّل حدثنا سفيان عن أبيه سعيد بن مسروق عن إبراهيم التيمي في قوله: ( إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ ) قال:كانت عشرين فرسا ذات أجنحة. كذا رواه ابن جرير.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو زرعة حدثنا إبراهيم بن موسى حدثنا ابن أبي زائدة أخبرني إسرائيل عن سعيد بن مسروق عن إبراهيم التيمي قال:كانت الخيل التي شغلت سليمان، عليه الصلاة والسلام عشرين ألف فرس، فعقرها وهذا أشبه والله أعلم.

وقال أبو داود:حدثنا محمد بن عوف، حدثنا سعيد بن أبي مريم أخبرنا يحيى بن أيوب حدثني عُمَارة بن غَزيَّة:أن محمد بن إبراهيم حدثه عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة رضي الله عنها قالت:قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك - أو خيبر- وفي سهوتها ستر فهبت الريح فكشفت ناحية الستر عن بنات لعائشة - لُعَب- فقال: « ما هذا يا عائشة؟ » قالت:بناتي. ورأى بينهن فرسا له جناحان من رقاع فقال: « ما هذا الذي أرى وسطهن؟ » قالت:فرس. قال: « وما هذا الذي عليه؟ » قالت:جناحان قال: « فرس له جناحان؟! » قالت:أما سمعت أن لسليمان خيل لها أجنحة؟ قالت:فضحك حتى رأيت نواجذه صلى الله عليه وسلم

وقوله: ( فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ ) ذكر غير واحد من السلف والمفسرين أنه اشتغل بعرضها حتى فات وقت صلاة العصر والذي يقطع به أنه لم يتركها عمدا بل نسيانا كما شغل النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق عن صلاة العصر حتى صلاها بعد الغروب وذلك ثابت في الصحيحين من غير وجه، من ذلك عن جابر قال:جاء عمر، رضي الله عنه يوم الخندق بعد ما غربت الشمس فجعل يسب كفار قريش، ويقول:يا رسول الله، والله ما كدت أصلي العصر حتى كادت الشمس تغرب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « والله ما صليتها » فقال: فقمنا إلى بُطْحَان فتوضأ للصلاة وتوضأنا لها فصلى العصر بعد ما غربت الشمس ثم صلى بعدها المغرب

ويحتمل أنه كان سائغا في ملتهم تأخير الصلاة لعذر الغزو والقتال. والخيل تراد للقتال. وقد ادعى طائفة من العلماء أن هذا كان مشروعا فنسخ ذلك بصلاة الخوف ومنهم من ذهب إلى ذلك في حال المسايفة والمضايقة، حيث لا يمكن صلاة ولا ركوع ولا سجود كما فعل الصحابة رضي الله عنهم في فتح تستر، وهو منقول عن مكحول والأوزاعي وغيرهما والأول أقرب؛ لأنه قال بعدها: ( رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأعْنَاقِ )

قال الحسن البصري. قال:لا والله لا تشغليني عن عبادة ربي آخر ما عليك. ثم أمر بها فعقرت. وكذا قال قتادة.

وقال السدي:ضرب أعناقها وعراقيبها بالسيوف.

وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس:جعل يمسح أعراف الخيل، وعراقيبها حبالها. وهذا القول اختاره ابن جرير قال:لأنه لم يكن ليعذب حيوانا بالعرقبة ويهلك مالا من ماله بلا سبب سوى أنه اشتغل عن صلاته بالنظر إليها ولا ذنب لها. وهذا الذي رجح به ابن جرير فيه نظر؛ لأنه قد يكون في شرعهم جواز مثل هذا ولا سيما إذا كان غضبا لله عز وجل بسبب أنه اشتغل بها حتى خرج وقت الصلاة؛ ولهذا لما خرج عنها لله تعالى عوضه الله تعالى ما هو خير منها وهي الريح التي تجري بأمره رخاء حيث أصاب غدوها شهر ورواحها شهر فهذا أسرع وخير من الخيل

وقال الإمام أحمد:حدثنا إسماعيل حدثنا سليمان بن المغيرة عن حميد بن هلال عن أبي قتادة وأبي الدهماء - وكانا يكثران السفر نحو البيت- قالا أتينا على رجل من أهل البادية، فقال البدوي:أخذ بيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يعلمني مما علمه الله تعالى وقال: « إنك لا تدع شيئا اتقاء الله - عز وجل- إلا أعطاك الله خيرا منه »

وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ ( 34 ) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ( 35 ) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ ( 36 ) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ ( 37 ) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ ( 38 ) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ( 39 ) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ ( 40 )

يقول تعالى: ( وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ ) أي:اختبرناه بأن سلبناه الملك مرة، ( وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ) قال ابن عباس، ومجاهد وسعيد بن جبير والحسن وقتادة وغيرهم:يعني شيطانا. ( ثُمَّ أَنَابَ ) أي: رجع إلى ملكه وسلطانه وأبهته.

قال ابن جرير:وكان اسم ذلك الشيطان صخرا. قاله ابن عباس، وقتادة. وقيل:آصف. قاله مجاهد وقيل:آصروا. قاله مجاهد أيضا. وقيل:حبقيق. قاله السدي. وقد ذكروا هذه القصة مبسوطة ومختصرة.

وقد قال سعيد بن أبي عَرُوبة عن قتادة:قال أمر سليمان، عليه السلام ببناء بيت المقدس فقيل له:ابنه ولا يُسمَعُ فيه صوت حديد. فقال:فطلب ذلك فلم يقدر عليه. فقيل له:إن شيطانا في البحر يقال له: « صخر » شبه المارد. قال:فطلبه وكانت عين في البحر يَردهُا في كل سبعة أيام مرة فنـزح ماؤها وجعل فيها خمر، فجاء يوم ورْده فإذا هو بالخمر فقال:إنك لشراب طيب إلا أنك تصبين الحليم، وتزيدين الجاهل جهلا. ثم رجع حتى عطش عطشا شديدا ثم أتاها فقال:إنك لشراب طيب إلا أنك تصبين الحليم، وتزيدين الجاهل جهلا. ثم شربها حتى غلبت على عقله، قال:فأري الخاتم أو ختم به بين كتفيه فَذَلَّ. قال:وكان ملكه في خاتمه فأتي به سليمان فقال:إنه قد أمرنا ببناء هذا البيت وقيل لنا:لا يسمعن فيه صوت حديد. قال:فأتى ببيض الهدهد فجعل عليه زجاجة فجاء الهدهد فدار حولها، فجعل يرى بيضه ولا يقدر عليه فذهب فجاء بالماس فوضعه عليه فقطعها به حتى أفضى إلى بيضه. فأخذ الماس فجعلوا يقطعون به الحجارة. وكان سليمان [ عليه السلام ] إذا أراد أن يدخل الخلاء - أو:الحمام- لم يدخل بخاتمه فانطلق يوما إلى الحمام وذلك الشيطان صخر معه، وذلك عند مقارفة قارف فيه بعض نسائه. قال:فدخل الحمام وأعطى الشيطان خاتمه فألقاه في البحر فالتقمته سمكة، ونـزع مُلك سليمان منه وألقي على الشيطان شَبَه سليمان. قال:فجاء فقعد على كرسيه وسريره وسُلِّط على ملك سليمان كله غير نسائه. قال:فجعل يقضي بينهم، وجعلوا ينكرون منه أشياء حتى قالوا:لقد فتن نبي الله. وكان فيهم رجل يشبهونه بعمر بن الخطاب في القوة فقال:والله لأجربنه. قال:فقال:يا نبي الله - وهو لا يرى إلا أنه نبي الله- أحدنا تصيبه الجنابة في الليلة الباردة فيدع الغسل عمدا حتى تطلع الشمس أترى عليه بأسا؟ فقال: لا. قال:فبينا هو كذلك أربعين ليلة حتى وجد نبي الله خاتمه في بطن سمكة فأقبل فجعل لا يستقبله جني ولا طير إلا سجد له حتى انتهى إليهم، ( وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ) قال:هو الشيطان صخر

وقال السدي: ( وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ ) أي:ابتلينا سليمان، ( وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ) قال:جلس الشيطان على كرسيه أربعين يوما. قال:وكان لسليمان عليه السلام مائة امرأة وكانت امرأة منهن يقال لها: « جرادة » ، وهي آثر نسائه وآمنهن عنده وكان إذا أجنب أو أتى حاجة نـزع خاتمه ولم يأتمن عليه أحدا من الناس غيرها فأعطاها يوما خاتمه ودخل الخلاء فخرج الشيطان في صورته فقال:هاتي الخاتم. فأعطته فجاء حتى جلس على مجلس سليمان وخرج سليمان بعد ذلك فسألها أن تعطيه خاتمه، فقالت:ألم تأخذه قبل؟ قال:لا. وخرج مكانه تائها. قال:ومكث الشيطان يحكم بين الناس أربعين يوما، قال:فأنكر الناس أحكامه فاجتمع قراء بني إسرائيل وعلماؤهم فجاءوا حتى دخلوا على نسائه فقالوا:إنا قد أنكرنا هذا فإن كان سليمان فقد ذهب عقله وأنكرنا أحكامه. قال:فبكى النساء عند ذلك قال:فأقبلوا يمشون حتى أتوا فأحدقوا به ثم نشروا التوراة فقرءوا. قال:فطار من بين أيديهم حتى وقع على شرفة والخاتم معه. ثم طار حتى ذهب إلى البحر فوقع الخاتم منه في البحر فابتلعه حوت من حيتان البحر. قال:وأقبل سليمان في حاله التي كان فيها حتى انتهى إلى صياد من صيادي البحر وهو جائع وقد اشتد جوعه. فاستطعمهم من صيدهم وقال:إني أنا سليمان. فقام إليه بعضهم فضربه بعصا فشجه فجعل يغسل دمه وهو على شاطئ البحر فلام الصيادون صاحبهم الذي ضربه فقالوا بئس ما صنعت حيث ضربته. قال:إنه زعم أنه سليمان. قال:فأعطوه سمكتين مما قد مذر عندهم فلم يشغله ما كان به من الضرب حتى قام إلى شط البحر فشق بطونهما فجعل يغسل [ دمه ] فوجد خاتمه في بطن إحداهما فأخذه فلبسه فرد الله عليه بهاءه وملكه، وجاءت الطير حتى حامت عليه فعرف القوم أنه سليمان عليه السلام فقام القوم يعتذرون مما صنعوا [ به ] فقال:ما أحمدكم على عذركم ولا ألومكم على ما كان منكم، كان هذا الأمر لا بد منه. قال:فجاء حتى أتى ملكه وأرسل إلى الشيطان فجيء به فأمر به فجعل في صندوق من حديد، ثم أطبق عليه وقفل عليه بقفل وختم عليه بخاتمه ثم أمر به فألقي في البحر فهو فيه حتى تقوم الساعة. وكان اسمه حبقيق قال:وسخر له الريح ولم تكن سخرت له قبل ذلك وهو قوله: ( وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ )

وقال ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: ( وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ) قال:شيطانا يقال له:آصف. فقال له سليمان:كيف تفتنون الناس؟ قال:أرني خاتمك أخبرك. فلما أعطاه إياه نبذه آصف في البحر فساح سليمان وذهب ملكه، وقعد آصف على كرسيه ومنعه الله نساء سليمان فلم يقربهن - ولم يقربنه وأنكرنه. قال:فكان سليمان يستطعم فيقول:أتعرفوني ؟ أطعموني أنا سليمان فيكذبونه، حتى أعطته امرأة يوما حوتا فجعل يطيب بطنه، فوجد خاتمه في بطنه فرجع إليه ملكه وفر آصف فدخل البحر فارا.

وهذه كلها من الإسرائيليات ومن أنكرها ما قاله ابن أبي حاتم:

حدثنا علي بن الحسين حدثنا محمد بن العلاء وعثمان بن أبي شيبة وعلي بن محمد قالوا:حدثنا أبو معاوية أخبرنا الأعمش عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس [ رضي الله عنهما ] ( وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ ) قال:أراد سليمان أن يدخل الخلاء فأعطى الجرادة خاتمه - وكانت الجرادة امرأته وكانت أحب نسائه إليه- فجاء الشيطان في صورة سليمان فقال لها:هاتي خاتمي. فأعطته إياه. فلما لبسه دانت له الإنس والجن والشياطين فلما خرج سليمان من الخلاء قال لها:هاتي خاتمي. قالت:قد أعطيته سليمان. قال:أنا سليمان. قالت:كذبت لست سليمان فجعل لا يأتي أحدا يقول له: « أنا سليمان » ، إلا كذبه حتي جعل الصبيان يرمونه بالحجارة. فلما رأى ذلك عَرَف أنه من أمر الله عز وجل. قال:وقام الشيطان يحكم بين الناس فلما أراد الله أن يرد على سليمان سلطانه ألقى في قلوب الناس إنكار ذلك الشيطان. قال:فأرسلوا إلى نساء سليمان فقالوا لهن:أتنكرن من سليمان شيئاً؟ قلن:نعم إنه يأتينا ونحن حيض وما كان يأتينا قبل ذلك. فلما رأى الشيطان أنه قد فطن له ظن أن أمره قد انقطع فكتبوا كتبا فيها سحر وكفر، فدفنوها تحت كرسي سليمان ثم أثاروها وقرءوها على الناس. وقالوا: بهذا كان يظهر سليمان على الناس [ ويغلبهم ] فأكفر الناس سليمان عليه السلام فلم يزالوا يكفرونه وبعث ذلك الشيطانُ بالخاتم فطرحه في البحر فتلقته سمكة فأخذته. وكان سليمان يحمل على شط البحر بالأجر فجاء رجل فاشترى سمكاً فيه تلك السمكة التي في بطنها الخاتم فدعا سليمان فقال:تحمل لي هذا السمك؟ فقال:نعم. قال:بكم؟ قال بسمكة من هذا السمك. قال:فحمل سليمان عليه السلام السمك ثم انطلق به إلى منـزله فلما انتهى الرجل إلى بابه أعطاه تلك السمكة التي في بطنها الخاتم فأخذها سليمان فشق بطنها، فإذا الخاتم في جوفها فأخذه فلبسه. قال:فلما لبسه دانت له الجن والإنس والشياطين وعاد إلى حاله وَهَرب الشيطان حتى دخل جزيرة من جزائر البحر فأرسل سليمان في طلبه وكان شيطاناً مريداً فجعلوا يطلبونه ولا يقدرون عليه حتى وجدوه يوماً نائماً فجاءوا فبنوا عليه بنيانا من رصاص فاستيقظ فوثب فجعل لا يثب في مكان من البيت إلا أنماط معه من الرصاص قال:فأخذوه فأوثقوه وجاءوا به إلى سليمان، فأمر به فنقر له تخت من رخام ثم أدخل في جوفه ثم سد بالنحاس ثم أمر به فطرح في البحر فذلك قوله: ( وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ ) قال:يعني الشيطان الذي كان سلط عليه.

إسناده إلى ابن عباس قوي ولكن الظاهر أنه إنما تلقاه ابن عباس - إن صح عنه- من أهل الكتاب، وفيهم طائفة لا يعتقدون نبوة سليمان عليه السلام فالظاهر أنهم يكذبون عليه ولهذا كان في السياق منكرات من أشدها ذكر النساء فإن المشهور أن ذلك الجني لم يسلط على نساء سليمان بل عصمهن الله منه تشريفاً وتكريماً لنبيه صلى الله عليه وسلم، وقد رويت هذه القصة مطولة عن جماعة من السلف، كسعيد بن المسيب وزيد بن أسلم وجماعة آخرين وكلها متُلقًّاة من قصص أهل الكتاب والله أعلم بالصواب.

وقال يحيى بن أبي عمرو السيباني:وجد سليمان خاتمه في عسقلان، فمشى في خرقة إلى بيت المقدس تواضعا لله عز وجل، رواه ابن أبي حاتم.

وقد روى ابن أبي حاتم عن كعب الأحبار في صفة كرسي سليمان عليه الصلاة والسلام خبرا عجيبا فقال:حدثنا أبي رحمه الله، حدثنا أبو صالح كاتب الليث أخبرني أبو إسحاق المصري عن كعب الأحبار؛ أنه لما فرغ من حديث « إرم ذات العماد » قال له معاوية:يا أبا إسحاق أخبرني عن كرسي سليمان بن داود وما كان عليه؛ ومن أي شيء هو؟ فقال:كان كرسي سليمان من أنياب الفيلة مُفَصّصاً بالدر والياقوت والزبرجد واللؤلؤ. وقد جُعل له درجة منها مُفَصّصة بالدر والياقوت والزبرجد ثم أمر بالكرسي فحُفّ من جانبيه بالنخل، نخل من ذهب شماريخها من ياقوت وزبرجد ولؤلؤ. وجعل على رءوس النخل التي عن يمين الكرسي طواويس من ذهب، ثم جعل على رءوس النخل التي على يسار الكرسي نسور من ذهب مقابلة الطواويس، وجعل على يمين الدرجة الأولى شجرتا صنوبر من ذهب، وعن يسارها أسدان من ذهب وعلى رءوس الأسدين عمودان من زبرجد وجعل من جانبي الكرسي شجرتا كرم من ذهب قد أظلتا الكرسي وجعل عناقيدهما درا وياقوتا أحمر. ثم جُعل فوق دَرَج الكرسي أسَدَان عظيمان من ذهب مجوفان محشوان مسكا وعنبرا. فإذا أراد سليمان أن يصعد على كرسيه استدار الأسدان ساعة ثم يقعان فينضحان ما في أجوافهما من المسك والعنبر حول كرسي سليمان عليه السلام، ثم يوضع منبران من ذهب واحد لخليفته والآخر لرئيس أحبار بني إسرائيل ذلك الزمان. ثم يوضع أمام كرسيه سبعون منبرا من ذهب يقعد عليها سبعون قاضيا من بني إسرائيل وعلمائهم وأهل الشرف منهم والطول ومن خلف تلك المنابر كلها خمسة وثلاثون منبرا من ذهب ليس عليها أحد، فإذا أراد أن يصعد على كرسيه وضع قدميه على الدرجة السفلى فاستدار الكرسي كله بما فيه وما عليه، ويبسط الأسد يده اليمنى وينشر النسر جناحه الأيسر ثم يصعد [ سليمان ] على الدرجة الثانية فيبسط الأسد يده اليسرى وينشر النسر جناحه الأيمن فإذا استوى سليمان على الدرجة الثالثة وقعد على الكرسي أخذ نسر من تلك النسور عظيم تاج سليمان فوضعه على رأسه فإذا وضعه على رأسه استدار الكرسي بما فيه كما تدور الرحى المسرعة. فقال معاوية رضي الله عنه:وما الذي يديره يا أبا إسحاق؟ قال:تنين من ذهب ذلك الكرسي عليه وهو عظيم مما عمله صخر الجني فإذا أحست بدورانه تلك النسور والأسْدُ والطواويس التي في أسفل الكرسي دُرْنَ إلى أعلاه فإذا وقف وقفن كلهن منكسات رءوسهن على رأس سليمان [ ابن داود ] عليه السلام وهو جالس ثم ينضحن جميعًا ما في أجوافهن من المسك والعنبر على رأس سليمان عليه السلام. ثم تتناول حمامة من ذهب واقفة على عمود من جوهر التوراةَ فتجعلها في يده فيقرؤها سليمان على الناس.

وذكر تمام الخبر وهو غريب جدا .

( قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ) قال بعضهم:معناه:لا ينبغي لأحد من بعدي أي:لا يصلح لأحد أن يسلبنيه كما كان من قضية الجسد الذي ألقي على كرسيه لا أنه يحجر على من بعده من الناس. والصحيح أنه سأل من الله تعالى ملكا لا يكون لأحد من بعده من البشر مثله، وهذا هو ظاهر السياق من الآية وبه وردت الأحاديث الصحيحة من طرق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال البخاري عند تفسير هذه الآية:حدثنا إسحاق بن إبراهيم أخبرنا روح ومحمد بن جعفر عن شعبة عن محمد بن زياد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إن عفريتا من الجن تَفَلَّت عليّ البارحة - أو كلمة نحوها- ليقطع علي الصلاة فأمكنني الله منه وأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تُصبحوا وتنظروا إليه كلكم فذكرت قول أخي سليمان: ( رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ بَعْدِي ) »

قال روح:فرده خاسئا

وكذا رواه مسلم والنسائي من حديث شعبة به

وقال مسلم في صحيحه:حدثنا محمد بن سلمة المُرَادي حدثنا عبد الله بن وهب عن معاوية بن صالح حدثني ربيعة بن يَزيد عن أبي إدريس الخولاني عن أبي الدرداء قال:قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فسمعناه يقول: « أعوذ بالله منك » . ثم قال: « ألعنك بلعنة الله » - ثلاثا- وبسط يَدَه كأنه يتناول شيئا فلما فرغ من الصلاة قلنا:يا رسول الله، قد سمعناك تقول في الصلاة شيئا لم نسمعك تقوله قبل ذلك ورأيناك بسطت يدك؟ قال: « إن عدو الله إبليس جاء بشهاب من نار ليجعله في وجهي فقلت:أعوذ بالله منك - ثلاث مرات- ثم قلت:ألعنك بلعنة الله التامة. فلم يستأخر ثلاث مرات ثم أردت أخْذَه والله لولا دعوة أخينا سليمان لأصبح موثقا يلعب به صبيان أهل المدينة »

وقال الإمام أحمد:حدثنا أبو أحمد حدثنا ميسرة بن معبد حدثنا أبو عبيد حاجب سليمان قال:رأيت عطاء بن يزيد الليثي قائما يصلي، فذهبت أمر بين يديه فردني ثم قال حدثني أبو سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام يصلي صلاة الصبح وهو خلفه فقرأ فالتبست عليه القراءة فلما فرغ من صلاته قال: « لو رأيتموني وإبليس فأهويت بيدي فما زلت أخنقه حتى وجدت بَرْدَ لعابه بين أصبعي هاتين - الإبهام والتي تليها- ولولا دعوة أخي سليمان لأصبح مربوطا بسارية من سواري المسجد، يتلاعب به صبيان المدينة فمن استطاع منكم ألا يحول بينه وبين القبلة أحد فليفعل » .

وقد روى أبو داود منه: « من استطاع منكم ألا يحول بينه وبين القبلة أحد فليفعل » عن أحمد بن أبي سُرَيج عن أبي أحمد الزبيري به

وقال الإمام أحمد:حدثنا معاوية بن عمرو حدثنا إبراهيم بن محمد الفزاري حدثنا الأوزاعي، حدثني ربيعة بن يزيد عن عبد الله الديلمي قال:دخلت على عبد الله بن عمرو، وهو في حائط له بالطائف يقال له: « الوهط » ، وهو مُخَاصر فتى من قريش يُزَنّ بشُرْب الخمر، فقلت:بلغني عنك حديث أنه « من شرب شربة خَمْر لم يقبل الله - عز وجل- له تَوبَةً أربعين صباحًا، وإن الشقي من شقي في بطن أمه وإنه من أتى بيت المقدس لا يَنْهَزه إلا الصلاة فيه، خرج من خطيئته مثل يوم ولدته أمه، فلما سمع الفتى ذكر الخمر اجتذب يده من يده ثم انطلق. فقال عبد الله بن عمرو إني لا أحل لأحد أن يقول عَلَيّ ما لم أقل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: » من شرب من الخمر شربة لم تقبل له صلاة أربعين صباحا فإن تاب تاب الله عليه فإن عاد لم تقبل له صلاة أربعين صباحا فإن تاب تاب الله عليه. فإن عاد - قال فلا أدري في الثالثة أو الرابعة- فإن عاد كان حقا على الله أن يسقيه من رَدْغَة الخبال يوم القيامة « قال:وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: » إن الله خلق خلقه في ظلمة ثم ألقى عليهم من نوره فمن أصابه من نوره يومئذ اهتدى ومن أخطأه ضل فلذلك أقول جف القلم على علم الله عز وجل « وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: » إن سليمان سأل الله تعالى ثلاثا فأعطاه اثنتين ونحن نرجو أن تكون لنا الثالثة:سأله حكما يصادف حكمه فأعطاه إياه وسأله ملكا لا ينبغي لأحد من بعده فأعطاه إياه وسأله أيّما رجل خرج من بيته لا يريد إلا الصلاة في هذا المسجد خرج من خطيئته كيوم ولدته أمه فنحن نرجو أن يكون الله تعالى قد أعطانا إياها « »

وقد روى هذا الفصل الأخير من هذا الحديث النسائي وابن ماجه من طرق عن عبد الله بن فيروز الديلمي عن عبد الله بن عمرو قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن سليمان لما بنى بيت المقدس سأل ربه عز وجل خلالا ثلاثا ... » وذكره

وقد روي من حديث رافع بن عمير رضي الله عنه، بإسناد وسياق غريبين فقال الطبراني:

حدثنا محمد بن الحسن بن قُتَيْبة العسقلاني حدثنا محمد بن أيوب بن سُوَيْد حدثني أبي حدثنا إبراهيم بن أبي عَبْلَة عن أبي الزاهرية عن رافع بن عمير قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « قال الله عز وجل لداود عليه السلام:ابن لي بيتًا في الأرض. فبنى داود بيتًا لنفسه قبل البيت الذي أمر به فأوحى الله إليه:يا داود نصبت بيتك قبل بيتي؟ قال:يا رب هكذا قضيت من ملك استأثر ثم أخذ في بناء المسجد فلما تم السور سقط ثلاثا فشكا ذلك إلى الله عز وجل فقال:يا داود إنك لا تصلح أن تبني لي بيتًا قال:ولم يا رب؟ قال:لما جرى على يديك من الدماء. قال:يا رب أو ما كان ذلك في هواك ومحبتك؟ قال:بلى ولكنهم عبادي وأنا أرحمهم فشق ذلك عليه فأوحى الله إليه:لا تحزن فإني سأقضي بناءه على يدي ابنك سليمان. فلما مات داود أخذ سليمان في بنائه فلما تم قرب القرابين وذبح الذبائح وجمع بني إسرائيل فأوحى الله إليه:قد أرى سرورَك ببنيان بيتي فسلني أعطك. قال:أسألك ثلاث خصال حكما يصادف حكمك وملكا لا ينبغي لأحد من بعدي ومن أتي هذا البيت لا يريد إلا الصلاة فيه خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه » . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أما ثنتان فقد أعطيهما وأنا أرجو أن يكون قد أعطي الثالثة »

وقال الإمام أحمد:حدثنا عبد الصمد حدثنا عُمَر بن راشد اليمامي، حدثنا إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه قال:ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا دعاءً إلا استفتحه بـ « سبحان الله ربي الأعلى العلي الوهاب »

وقد قال أبو عبيد:حدثنا علي بن ثابت عن جعفر بن بَرْقان عن صالح بن مسمار قال:لما مات نبي الله داود أوحى الله إلى ابنه سليمان عليهما السلام:أن سلني حاجتك. قال:أسألك أن تجعل لي قلبا يخشاك كما كان قلب أبي وأن تجعل قلبي يحبك كما كان قلب أبي. فقال الله:أرسلت إلى عبدي وسألته حاجته فكانت [ حاجته ] أن أجعل قلبه يخشاني وأن أجعل قلبه يحبني لأهَبَنّ له ملكا لا ينبغي لأحد من بعده. قال الله تعالى: ( فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ ) والتي بعدها، قال:فأعطاه [ الله ] ما أعطاه وفي الآخرة لا حساب عليه.

هكذا أورده أبو القاسم بن عساكر في ترجمة سليمان عليه السلام في تاريخه

وروي عن بعض السلف أنه قال:بلغني عن داود [ عليه السلام ] أنه قال: « إلهي كن لسليمان كما كنت لي » :فأوحى الله إليه:أن قل لسليمان:يكون لي كما كنت لي، أكون له كما كنتُ لك.

وقوله: ( فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ ) قال الحسن البصري رحمه الله:لما عقر سليمان الخيل غضبا لله، عز وجل عوضه الله ما هو خير منها وأسرع الريح التي غدوها شهر ورواحها شهر.

وقوله: ( حَيْثُ أَصَابَ ) أي:حيث أراد من البلاد .

وقوله: ( وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ ) أي:منهم من هو مستعمل في الأبنية الهائلة من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات إلى غير ذلك من الأعمال الشاقة التي لا يقدر عليها البشر وطائفة غواصون في البحار يستخرجون مما فيها من اللآلئ والجواهر والأشياء النفيسة التي لا توجد إلا فيها ( وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأصْفَادِ ) أي:موثقون في الأغلال والأكبال ممن قد تَمَرّد وعصى وامتنع من العمل وأبى أو قد أساء في صنيعه واعتدى .

وقوله: ( هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) أي:هذا الذي أعطيناك من الملك التام والسلطان الكامل كما سألتنا فأعط من شئت واحرم من شئت، لا حساب عليك، أي:مهما فعلتَ فهو جائز لك احكم بما شئت فهو صواب. وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خُيِّر بين أن يكون عبدًا رسولا - وهو الذي يفعل ما يؤمر به وإنما هو قاسم يقسم بين الناس ما أمره الله به- وبين أن يكون ملكا نبيا يعطي من يشاء ويمنع من يشاء بلا حساب ولا جناح، اختار المنـزلة الأولى بعد ما استشار جبريل فقال له:تواضع فاختار المنـزلة الأولى لأنها أرفع قدرا عند الله وأعلى منـزلة في المعاد وإن كانت المنـزلة الثانية وهي النبوة مع الملك عظيمة أيضا في الدنيا والآخرة ولهذا لما ذكر تبارك وتعالى ما أعطى سليمان في الدنيا نبه على أنه ذو حظ عظيم عند الله يوم القيامة أيضا، فقال: ( وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ ) أي:في الدار الآخرة.

وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ( 41 ) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ ( 42 )

يذكر تعالى عبده ورسوله أيوب عليه السلام وما كان ابتلاه تعالى به من الضر في جسده وماله وولده حتى لم يبق من جسده مَغْرز إبرة سليما سوى قلبه ولم يبق له من حال الدنيا شيء يستعين به على مرضه وما هو فيه غير أن زوجته حفظت وده لإيمانها بالله ورسوله فكانت تخدم الناس بالأجرة وتطعمه وتخدمه نحوا من ثماني عشرة سنة. وقد كان قبل ذلك في مال جزيل وأولاد وسعة طائلة من الدنيا فَسُلبَ جميع ذلك حتى آل به الحال إلى أن ألقي على مزبلة من مزابل البلدة هذه المدة بكمالها ورفضه القريب والبعيد سوى زوجته رضي الله عنها فإنها كانت لا تفارقه صباحا و [ لا ] مساء إلا بسبب خدمة الناس ثم تعود إليه قريبًا. فلما طال المطال واشتد الحال وانتهى القدر المقدور وتم الأجل المقدر تضرع إلى رب العالمين وإله المرسلين فقال: أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [ الأنبياء:83 ] وفي هذه الآية الكريمة قال:رب إني مسني الشيطان بنصب وعذاب، قيل:بنصب في بدني وعذاب في مالي وولدي. فعند ذلك استجاب له أرحم الراحمين وأمره أن يقوم من مقامه وأن يركض الأرض برجله. ففعل فأنبع الله عينا وأمره أن يغتسل منها فأذهب جميع ما كان في بدنه من الأذى ثم أمره فضرب الأرض في مكان آخر فأنبع له عينا أخرى وأمره أن يشرب منها فأذهبت ما كان في باطنه من السوء وتكاملت العافية ظاهرا وباطنا ولهذا قال تعالى: ( ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ )

قال ابن جرير، وابن أبي حاتم جميعًا:حدثنا يونس بن عبد الأعلى أخبرنا ابن وهب أخبرني نافع بن يزيد عن عقيل عن ابن شهاب عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إن نبي الله أيوب عليه السلام لبث به بلاؤه ثماني عشرة سنة فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين كانا من أخص إخوانه به كانا يغدوان إليه ويروحان فقال أحدهما لصاحبه:تعلم - والله- لقد أذنب أيوب ذنبا ما أذنبه أحد من العالمين. قال له صاحبه:وما ذاك؟ قال:من ثماني عشرة سنة لم يرحمه الله، فيكشفَ ما به فلما راحا إليه لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك له. فقال أيوب:لا أدري ما تقول غير أن الله يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتنازعان فيذكران الله عز وجل، فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما، كراهية أن يذكرا الله إلا في حق. قال:وكان يخرج إلى حاجته فإذا قضاها أمسكت امرأته بيده حتى يبلغ فلما كان ذات يوم أبطأ عليها وأوحى الله تعالى إلى أيوب، عليه السلام، أن ( ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ ) فاستبطأته فتلقته تنظر فأقبل عليها قد أذهب الله ما به من البلاء وهو على أحسن ما كان. فلما رأته قالت:أي بارك الله فيك هل رأيت نبي الله هذا المبتلى. فوالله على ذلك ما رأيت رجلا أشبه به منك إذ كان صحيحا. قال:فإني أنا هو. قال:وكان له أندران أندر للقمح وأندر للشعير فبعث الله سحابتين فلما كانت إحداهما على أندر القمح أفرغت فيه الذهب حتى فاض وأفرغت الأخرى في أندر الشعير حتى فاض. هذا لفظ ابن جرير رحمه الله »

وقال الإمام أحمد:حدثنا عبد الرزاق حدثنا مَعْمَر عن همام بن مُنَبِّه قال:هذا ما حدثنا أبو هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « بينما أيوب يغتسل عريانا خر عليه جراد من ذهب فجعل أيوب يحثو في ثوبه فناداه ربه يا أيوب ألم أكن أغنيتك عما ترى؟ قال:بلى يا رب ولكن لا غنى بي عن بركتك » .

انفرد بإخراجه البخاري من حديث عبد الرزاق به

 

وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لأُولِي الأَلْبَابِ ( 43 ) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ( 44 )

ولهذا قال تعالى: ( وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لأولِي الألْبَابِ ) قال الحسن وقتادة:أحياهم الله تعالى له بأعيانهم وزادهم مثلهم معهم.

وقوله: ( رَحْمَةً مِنَّا ) أي:به على صبره وثباته وإنابته وتواضعه واستكانته ( وَذِكْرَى لأولِي الألْبَابِ ) أي:لذوي العقول ليعلموا أن عاقبةَ الصبر الفرجُ والمخرجُ والراحة .

وقوله: ( وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ ) وذلك أن أيوب عليه السلام كان قد غضب على زوجته ووجد عليها في أمر فعلته. قيل: [ إنها ] باعت ضفيرتها بخبز فأطعمته إياه فلامها على ذلك وحلف إن شفاه الله ليضربنها مائة جلدة. وقيل:لغير ذلك من الأسباب. فلما شفاه الله وعافاه ما كان جزاؤها مع هذه الخدمة التامة والرحمة والشفقة والإحسان أن تقابل بالضرب فأفتاه الله عز وجل أن يأخذ ضغثًا - وهو:الشِّمراخ- فيه مائة قضيب فيضربها به ضربة واحدة وقد بَرّت يمينه وخرج من حنثه ووفى بنذره وهذا من الفرج والمخرج لمن اتقى الله وأناب إليه ولهذا قال تعالى: ( إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ) أثنى الله تعالى عليه ومدحه بأنه ( نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ) أي:رَجَّاع منيب ولهذا قال تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [ الطلاق:2 ، 3 ]

وقد استدل كثير من الفقهاء بهذه الآية الكريمة على مسائل في الأيمان وغيرها وأخذوها بمقتضاها [ ومنعت طائفة أخرى من الفقهاء من ذلك، وقالوا:لم يثبت أن الكفارة كانت مشروعة في شرع أيوب، عليه السلام، فلذلك رخص له في ذلك، وقد أغنى الله هذه الأمة بالكفارة ]

وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ ( 45 ) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ( 46 ) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ ( 47 ) وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الأَخْيَارِ ( 48 ) هَذَا ذِكْرٌ

يقول تعالى مخبرا عن فضائل عباده المرسلين وأنبيائه العابدين: ( وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأيْدِي وَالأبْصَارِ ) يعني بذلك:العمل الصالح والعلم النافع والقوة في العبادة والبصيرة النافذة.

قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: ( أُولِي الأيْدِي ) يقول:أولي القوة ( وَالأبْصَارِ ) يقول:الفقه في الدين.

وقال مجاهد: ( أُولِي الأيْدِي ) يعني:القوة في طاعة الله ( وَالأبْصَارِ ) يعني:البصر في الحق.

وقال قتادة والسدي:أعطُوا قوة في العبادة وبَصرًا في الدين.

[ وقوله ] ( إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ) قال مجاهد:أي جعلناهم يعملون للآخرة ليس لهم هَمّ غيرها. وكذا قال السدي:ذكرهم للآخرة وعملهم لها.

وقال مالك بن دينار:نـزع الله من قلوبهم حب الدنيا وذكرها وأخلصهم بحب الآخرة وذكرها. وكذا قال عطاء الخراساني.

وقال سعيد بن جُبَيْر:يعني بالدار الجنة يقول:أخلصناها لهم بذكرهم لها وقال في رواية أخرى: ( ذِكْرَى الدَّارِ ) عقبى الدار.

وقال قتادة:كانوا يذَكّرون الناس الدار الآخرة والعمل لها.

وقال ابن زيد:جعل لهم خاصة أفضل شيء في الدار الآخرة.

وقوله: ( وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأخْيَارِ ) أي:لمن المختارين المجتبين الأخيار فهم أخيار مختارون.

وقوله: ( وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الأخْيَارِ ) قد تقدم الكلام على قصصهم وأخبارهم مستقصاة في سورة « الأنبياء » بما أغنى عن إعادته هاهنا.

وقوله: ( هَذَا ذِكْرٌ ) أي:هذا فصل فيه ذكر لمن يتذكر.

وقال السدي:يعني القرآن.

وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ ( 49 ) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الأَبْوَابُ ( 50 ) مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ ( 51 ) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ ( 52 ) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ ( 53 ) إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ ( 54 )

يخبر تعالى عن عباده المؤمنين السعداء أن لهم في [ الدار ] الآخرة ( لَحُسْنَ مَآبٍ ) وهو:المرجع والمنقلب. ثم فسره بقوله: ( جَنَّاتِ عَدْنٍ ) أي:جنات إقامة مفتحة لهم الأبواب.

والألف واللام هنا بمعنى الإضافة كأنه يقول: « مفتحة لهم أبوابها » أي:إذا جاءوها فتحت لهم أبوابها.

قال ابن أبي حاتم:حدثنا محمد بن ثواب الهَبَّاري حدثنا عبد الله بن نُمَيْر، حدثنا عبد الله بن مسلم - يعني:ابن هرمز- عن ابن سابط عن عبد الله بن عمرو [ رضي الله عنهما ] قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن في الجنة قصرا يقال له: » عدن « حوله البروج والمروج له خمسة آلاف باب عند كل باب خمسة آلاف حبَرَة لا يدخله - أو:لا يسكنه- إلا نبي أو صديق أو شهيد أو إمام عدل » .

وقد ورد في [ ذكر ] أبواب الجنة الثمانية أحاديث كثيرة من وجوه عديدة .

وقوله: ( مُتَّكِئِينَ فِيهَا ) قيل:متربعين فيها على سرر تحت الحجال ( يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ ) أي:مهما طلبوا وجدوا وحضر كما أرادوا. ( وَشَرَابٍ ) أي:من أي أنواعه شاءوا أتتهم به الخدام بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ [ الواقعة:18 ]

( وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ ) أي:عن غير أزواجهن فلا يلتفتن إلى غير بعولتهن ( أَتْرَابٌ ) أي:متساويات في السن والعمر. هذا معنى قول ابن عباس، ومجاهد وسعيد بن جبير ومحمد بن كعب والسّدّي .

( هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ ) أي:هذا الذي ذكرنا من صفة الجنة التي وعدها لعباده المتقين التي يصيرون إليها بعد نشورهم وقيامهم من قبورهم وسلامتهم من النار.

ثم أخبر عن الجنة أنه لا فراغ لها ولا انقضاء ولا زوال ولا انتهاء فقال: ( إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ ) كقوله تعالى: مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ [ النحل:96 ] وكقوله عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [ هود:108 ] وكقوله لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ [ فصلت:8 ] أي:غير مقطوع وكقوله: أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ [ الرعد:35 ] والآيات في هذا كثيرة جدا .

هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ ( 55 ) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ ( 56 ) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ ( 57 ) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ ( 58 ) هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ ( 59 ) قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ ( 60 ) قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ ( 61 )

لما ذكر تعالى مآل السعداء ثَنّى بذكر حال الأشقياء ومرجعهم ومآبهم في دار معادهم وحسابهم فقال: ( هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ ) وهم:الخارجون عن طاعة الله المخالفون لرسل الله ( لَشَرَّ مَآبٍ ) أي:لسوء منقلب ومرجع. ثم فسره بقوله: ( جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا ) أي:يدخلونها فتغمرهم من جميع جوانبهم ( فَبِئْسَ الْمِهَادُ * هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ ) أما الحميم فهو:الحار الذي قد انتهى حره وأما الغَسَّاق فهو:ضده، وهو البارد الذي لا يستطاع من شدة برده المؤلم ولهذا قال: ( وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ ) أي:وأشياء من هذا القبيل، الشيء وضده يعاقبون بها.

قال الإمام أحمد:حدثنا حسن بن موسى حدثنا ابن لَهِيعة حدثنا دَرّاج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « لو أن دَلْوًا من غَسَّاق يهراق في الدنيا لأنتن أهل الدنيا »

ورواه الترمذي عن سُوَيْد بن نصر عن ابن المبارك عن رِشْدين بن سعد عن عمرو بن الحارث عن دَرّاج به. ثم قال: « لا نعرفه إلا من حديث رشدين » كذا قال:وقد تقدم من غير حديثه ورواه ابن جرير عن يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب عن عمرو بن الحارث به

وقال كعب الأحبار:غساق:عين في جهنم يسيل إليها حُمَة كل ذات حُمَة من حية وعقرب وغير ذلك فيستنقع فيؤتى بالآدمي فيغمس فيها غمسة واحدة فيخرج وقد سقط جلده ولحمه عن العظام ويتعلق جلده ولحمه في كعبيه وعقبيه ويُجَر لحمه كما يَجُر الرجل ثوبه. رواه ابن أبي حاتم.

وقال الحسن البصري في قوله: ( وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ ) ألوان من العذاب.

وقال غيره:كالزمهرير والسموم وشرب الحميم وأكل الزقوم والصعود والهوى إلى غير ذلك من الأشياء المختلفة والمتضادة والجميع مما يعذبون به ويهانون بسببه.

وقوله: ( هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ ) هذا إخبار عن قيل أهل النار بعضهم لبعض كما قال تعالى: كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا [ الأعراف:38 ] يعني بدل السلام يتلاعنون ويتكاذبون ويكفر بعضهم ببعض فتقول الطائفة التي تدخل قبل الأخرى إذا أقبلت التي بعدها مع الخزنة من الزبانية: ( هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ ) أي:داخل معكم ( لا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ ) [ أي ] لأنهم من أهل جهنم ( قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ ) أي:فيقول لهم الداخلون: ( بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا ) أي:أنتم دعوتمونا إلى ما أفضى بنا إلى هذا المصير ( فَبِئْسَ الْقَرَارُ ) أي:فبئس المنـزل والمستقر والمصير. ( قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ ) كما قال عز وجل قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ [ الأعراف:38 ] أي:لكل منكم عذاب بحسبه .

 

وَقَالُوا مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأَشْرَارِ ( 62 ) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأَبْصَارُ ( 63 ) إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ ( 64 )

هذا إخبار عن الكفار في النار أنهم يفقدون رجالا كانوا يعتقدون أنهم على الضلالة وهم المؤمنون في زعمهم قالوا:ما لنا لا نراهم معنا في النار؟.

قال مجاهد:هذا قول أبي جهل يقول:ما لي لا أرى بلالا وعمارا وصهيبا وفلانا وفلانا. وهذا مثل ضرب، وإلا فكل الكفار هذا حالهم:يعتقدون أن المؤمنين يدخلون النار فلما دخل الكفار النار افتقدوهم فلم يجدوهم فقالوا: ( مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأشْرَارِ * أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأبْصَارُ ) أي:في الدنيا ( أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأبْصَارُ ) يسلون أنفسهم بالمحال يقولون:أو لعلهم معنا في جهنم ولكن لم يقع بصرنا عليهم. فعند ذلك يعرفون أنهم في الدرجات العاليات وهو قوله: وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ إلى قوله: [ وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ * أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ] ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ [ الأعراف:44 - 49 ]

وقوله: ( إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ ) أي:إن هذا الذي أخبرناك به يا محمد من تخاصم أهل النار بعضهم في بعض ولعن بعضهم لبعض لحق لا مرية فيه ولا شك .

قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ( 65 ) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ( 66 ) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ ( 67 ) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ ( 68 ) مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلإِ الأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ ( 69 ) إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ( 70 )

يقول تعالى آمرا رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول للكفار بالله المشركين به المكذبين لرسوله:إنما أنا منذر لست كما تزعمون ( وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) أي:هو وحده قد قهر كل شيء وغلبه. ( رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ) أي:هو مالك جميع ذلك ومتصرف فيه ( الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ) أي:غفار مع عزته وعظمته .

( قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ ) أي:خبر عظيم وشأن بليغ وهو إرسال الله إياي إليكم ( أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ ) أي:غافلون.

قال مجاهد وشريح القاضي والسدي في قوله: ( قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ ) يعني:القرآن.

وقوله: ( مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلإ الأعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ ) أي:لولا الوحي من أين كنت أدري باختلاف الملأ الأعلى؟ يعني:في شأن آدم وامتناع إبليس من السجود له، ومحاجته ربه في تفضيله عليه.

فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد حيث قال:حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم حدثنا جهضم اليمامي عن يحيى بن أبي كثير، عن زيد بن أبي سلام عن أبي سلام عن عبد الرحمن بن عائش عن مالك بن يخامر عن معاذ رضي الله عنه، قال:احتبس علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة عن صلاة الصبح حتى كدنا نتراءى قرن الشمس. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعا فَثَوّب بالصلاة فصلى وتَجَوّز في صلاته فلما سلم قال: « كما أنتم على مصافكم » . ثم أقبل إلينا فقال: « إني سأحدثكم ما حبسني عنكم الغداة، إني قمت من الليل فصليت ما قُدّر لي فنعست في صلاتي حتى استيقظت فإذا أنا بربي في أحسن صورة فقال:يا محمد أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت لا أدري رب - أعادها ثلاثا- فرأيته وضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين صدري فتجلى لي كل شيء وعرفت فقال:يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت:في الكفارات. قال:وما الكفارات؟ قلت نقل الأقدام إلى الجمعات والجلوس في المساجد بعد الصلوات وإسباغ الوضوء عند الكريهات. قال:وما الدرجات؟ قلت:إطعام الطعام ولين الكلام والصلاة والناس نيام. قال:سل. قلت اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لي وترحمني، وإذا أردت فتنة بقوم فتوفني غير مفتون، وأسألك حبك وحب من يحبك، وحب عمل يقربني إلى حبك » . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إنها حق فادرسوها وتعلموها » فهو حديث المنام المشهور ومن جعله يقظة فقد غلط وهو في السنن من طرق.

وهذا الحديث بعينه قد رواه الترمذي من حديث « جهضم بن عبد الله اليمامي » به. وقال: « حسن صحيح » وليس هذا الاختصام هو الاختصام المذكور في القرآن فإن هذا قد فسر وأما الاختصام الذي في القرآن فقد فسر بعد هذا وهو قوله تعالى:

إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ ( 71 ) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ( 72 ) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ( 73 ) إِلا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ( 74 ) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ ( 75 ) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ( 76 ) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ ( 77 ) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ ( 78 ) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ( 79 ) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ( 80 ) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ( 81 ) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ( 82 ) إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ( 83 )

هذه القصة ذكرها الله، تعالى في سورة « البقرة » وفي أول « الأعراف » وفي سورة « الحجر » و [ في ] « سبحان » و « الكهف » ، وهاهنا وهي أن الله سبحانه أعلم الملائكة قبل خلق آدم عليه السلام بأنه سيخلق بشرا من صلصال من حمأ مسنون وتقدم إليهم بالأمر متى فرغ من خلقه وتسويته فليسجدوا له إكراما وإعظاما واحتراما وامتثالا لأمر الله عز وجل. فامتثل الملائكة كلهم ذلك سوى إبليس ولم يكن منهم جنسا كان من الجن فخانه طبعه وجبلته أحوج ما كان إليه فاستنكف عن السجود لآدم وخاصم ربه عز وجل فيه وادعى أنه خير من آدم فإنه مخلوق من نار وآدم خلق من طين والنار خير من الطين في زعمه. وقد أخطأ في ذلك وخالف أمر الله، وكفر بذلك فأبعده الله وأرغم أنفه وطرده عن باب رحمته ومحل أنسه وحضرة قدسه وسماه « إبليس » إعلاما له بأنه قد أبْلَس من الرحمة وأنـزله من السماء مذموما مدحورا إلى الأرض فسأل الله النظرة إلى يوم البعث فأنظره الحليم الذي لا يَعْجَل على من عصاه. فلما أمن الهلاك إلى يوم القيامة تمرد وطغى وقال: ( لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) كما قال: أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلا [ الإسراء:62 ] وهؤلاء هم المستثنون في الآية الأخرى وهي قوله تعالى: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلا [ الإسراء:65 ]

 

قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ ( 84 ) لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ ( 85 )

وقوله: ( قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ * لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ ) قرأ ذلك جماعة منهم مجاهد برفع « الحق » الأولى وفسره مجاهد بأن معناه:أنا الحق، والحق أقول وفي رواية عنه:الحق مني، وأقول الحق.

وقرأ آخرون بنصبهما.

قال السدي:هو قسم أقسم الله به.

قلت:وهذه الآية الكريمة كقوله تعالى: وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [ السجدة:13 ] وكقوله تعالى: قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا [ الإسراء:63 ]

قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ( 86 ) إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ( 87 ) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ ( 88 )

يقول تعالى:قل يا محمد لهؤلاء المشركين:ما أسألكم على هذا البلاغ وهذا النصح أجرا تعطونيه من عرض الحياة الدنيا ( وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ) أي:وما أزيد على ما أرسلني الله به، ولا أبتغي زيادة عليه بل ما أمرت به أديته لا أزيد عليه ولا أنقص منه وإنما أبتغي بذلك وجه الله عز وجل والدار الآخرة.

قال سفيان الثوري عن الأعمش ومنصور عن أبي الضحى عن مسروق قال:أتينا عبد الله بن مسعود قال:يا أيها الناس من علم شيئا فليقل به ومن لا يعلم فليقل:الله أعلم فإن من العلم أن يقول الرجل لما لا يعلم:الله أعلم فإن الله قال لنبيكم صلى الله عليه وسلم: ( قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ) أخرجاه من حديث الأعمش به

وقوله: ( إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ) يعني:القرآن ذكر لجميع المكلفين من الإنس والجن، قاله ابن عباس. ورواه ابن أبي حاتم عن أبيه، عن أبي غسان مالك بن إسماعيل:حدثنا قيس، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله: ( لِلْعَالَمِينَ ) قال:الجن والإنس.

وهذه الآية كقوله تعالى: لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [ الأنعام:19 ] ، [ وكقوله ] وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [ هود:17 ] .

وقوله: ( وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ ) أي:خبره وصدقه ( بَعْدَ حِينٍ ) أي:عن قريب. قال قتادة:بعد الموت. وقال عكرمة:يعني يوم القيامة ولا منافاة بين القولين؛ فإن من مات فقد دخل في حكم القيامة.

وقال قتادة في قوله تعالى: ( وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ ) قال الحسن:يا ابن آدم، عند الموت يأتيك الخبر اليقين.

آخر تفسير سورة « ص » ، ولله الحمد والمنة.

 

أعلى