تفسير سورة الزخرف
وهي مكية.
بسم الله
الرحمن الرحيم
حم ( 1 ) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ ( 2 ) إِنَّا جَعَلْنَاهُ
قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ( 3 ) وَإِنَّهُ
فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ( 4 ) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ
الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ ( 5 ) وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ
نَبِيٍّ فِي الأَوَّلِينَ ( 6 ) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ
نَبِيٍّ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ( 7 )
فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ ( 8 )
يقول تعالى: ( حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ ) أي:البين الواضح الجلي
المعاني والألفاظ؛ لأنه نـزل بلغة العرب التي هي أفصح اللغات للتخاطب بين الناس؛
ولهذا قال: (
إِنَّا جَعَلْنَاهُ )
أي:أنـزلناه (
قُرْآنًا عَرَبِيًّا )
أي:بلغة العرب فصيحا واضحا، (
لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ )
أي:تفهمونه وتتدبرونه، كما قال: بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [ الشعراء:195 ] .
وقوله تعالى: ( وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ
حَكِيمٌ ) بين
شرفه في الملأ الأعلى، ليشرفه ويعظمه ويطيعه أهل الأرض، فقال تعالى: ( وإنه ) أي:القرآن ( فِي أُمِّ الْكِتَابِ ) أي:اللوح المحفوظ، قاله ابن
عباس، ومجاهد، ( لدينا
)
أي:عندنا، قاله قتادة وغيره، ( لعلي ) أي:ذو مكانة عظيمة وشرف وفضل،
قاله قتادة ( حكيم ) أي:محكم بريء من اللبس
والزيغ.
وهذا كله تنبيه على شرفه وفضله، كما قال: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ
كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ * تَنْزِيلٌ
مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ [
الواقعة:77 - 80 ] وقال:
كَلا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ * فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ *
مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ [ عبس:11 - 16 ] ؛ ولهذا استنبط العلماء،
رحمهم الله، من هاتين الآيتين:أن المُحدِثَ لا يمس المصحف، كما ورد به الحديث إن
صح؛ لأن الملائكة يعظمون المصاحف المشتملة على القرآن في الملأ الأعلى، فأهل الأرض
بذلك أولى وأحرى، لأنه نـزل عليهم، وخطابه متوجه إليهم، فهم أحق أن يقابلوه
بالإكرام والتعظيم، والانقياد له بالقبول والتسليم، لقوله: ( وَإِنَّهُ فِي أُمِّ
الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ )
وقوله: (
أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ ) اختلف المفسرون في معناها،
فقيل:معناها:أتحسبون أن نصفح عنكم فلا نعذبكم ولم تفعلوا ما أمرتم به؟ قاله ابن
عباس، ومجاهد وأبو صالح، والسدي، واختاره ابن جرير.
وقال قتادة في قوله:: ( أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا ) :والله لو أن هذا القرآن رفع
حين ردته أوائل هذه الأمة لهلكوا، ولكن الله عاد بعائدته ورحمته، وكرره عليهم
ودعاهم إليه عشرين سنة، أو ما شاء الله من ذلك.
وقول قتادة لطيف المعنى جدا، وحاصله أنه يقول في معناه:أنه
تعالى من لطفه ورحمته بخلقه لا يترك دعاءهم إلى الخير والذكر الحكيم - وهو القرآن-
وإن كانوا مسرفين معرضين عنه، بل أمر به ليهتدي من قَدّر هدايته، وتقوم الحجة على
من كتب شقاوته.
ثم قال تعالى - مسليا لنبيه في تكذيب من كذبه من قومه، وآمرا
له بالصبر عليهم- : (
وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الأوَّلِينَ ) أي:في شيع الأولين، ( وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلا كَانُوا بِهِ
يَسْتَهْزِئُونَ )
أي:يكذبونه ويسخرون به.
وقوله: (
فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا ) أي:فأهلكنا المكذبين بالرسل، وقد كانوا أشد بطشا من هؤلاء المكذبين
لك يا محمد. كقوله: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ
عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً
[
غافر:82 ]
والآيات في ذلك كثيرة.
وقوله: (
وَمَضَى مَثَلُ الأوَّلِينَ ) قال
مجاهد:سنتهم. وقال قتادة:عقوبتهم. وقال غيرهما:عبرتهم، أي:جعلناهم عبرة لمن بعدهم
من المكذبين أن يصيبهم ما أصابهم، كقوله في آخر هذه السورة: فَجَعَلْنَاهُمْ
سَلَفًا وَمَثَلا لِلآخِرِينَ [
الزخرف:56 ] .
وكقوله: سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ [ غافر:85 ] وقال: وَلَنْ تَجِدَ
لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا [
الأحزاب:62 ] .
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ
وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ( 9 ) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ
الأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ( 10 )
يقول
تعالى:ولئن سألت - يا محمد- هؤلاء المشركين بالله العابدين معه غيره: ( مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ
وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ) أي:ليعترفن بأن الخالق لذلك
هو الله [
تعالى ] وحده
لا شريك له، وهم مع هذا يعبدون معه غيره من الأصنام والأنداد.
ثم قال:
(
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا ) أي:فراشًا قرارًا ثابتة، يسيرون عليها ويقومون وينامون
وينصرفون، مع أنها مخلوقة على تيار الماء، لكنه أرساها بالجبال لئلا تميد هكذا ولا
هكذا، (
وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلا )
أي:طرقا بين الجبال والأودية (
لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) أي:في
سيركم من بلد إلى بلد، وقطر إلى قطر، وإقليم إلى إقليم.
وَالَّذِي
نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا
كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ ( 11 ) وَالَّذِي
خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا
تَرْكَبُونَ ( 12 )
لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا
اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا
لَهُ مُقْرِنِينَ ( 13 )
وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ ( 14 )
(
وَالَّذِي نـزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ )
أي:بحسب الكفاية لزروعكم وثماركم وشربكم، لأنفسكم ولأنعامكم. وقوله: (
فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا )
أي:أرضا ميتة، فلما جاءها الماء اهتزت وربت، وأنبتت من كل زوج بهيج.
ثم نبه
بإحياء الأرض على إحياء الأجساد يوم المعاد بعد موتها، فقال: (
كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ ) .
ثم قال:
( وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا ) أي:مما
تنبت الأرض من سائر الأصناف، من نبات وزروع وثمار وأزاهير، وغير ذلك [ أي ] من
الحيوانات على اختلاف أجناسها وأصنافها، (
وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ ) أي:السفن (
وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ ) أي:ذللها لكم وسخرها ويسرها
لأكلكم لحومها، وشربكم ألبانها وركوبكم ظهورها؛ ولهذا قال: (
لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ) أي:لتستووا متمكنين مرتفقين ( عَلَى
ظُهُورِهِ ) أي:على ظهور هذا الجنس، ( ثُمَّ
تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ ) أي:فيما سخر لكم ( إِذَا
اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا
كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ ) أي:مقاومين. ولولا تسخير الله
لنا هذا ما قدرنا عليه.
قال ابن
عباس ، وقتادة، والسدي وابن زيد: (
مقرنين ) أي:مطيقين .
(
وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ )
أي:لصائرون إليه بعد مماتنا، وإليه سيرنا الأكبر. وهذا من باب التنبيه بسير الدنيا
على سير الآخرة، كما نبه بالزاد الدنيوي على [
الزاد ] الأخروي في قوله: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ
التَّقْوَى [ البقرة:197 ]
وباللباس الدنيوي على الأخروي في قوله تعالى: وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى
ذَلِكَ خَيْرٌ [ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ
اللَّهِ ] [ الأعراف:26 ] .
ذكر
الأحاديث الواردة عند ركوب الدابة:
حديث
أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، رضي الله عنه:
قال
الإمام أحمد:حدثنا يزيد، حدثنا شريك بن عبد الله، عن أبي إسحاق، عن علي بن ربيعة
قال:رأيت عليا، رضي الله عنه، أتى بدابة، فلما وضع رجله في الرِّكاب قال:باسم
الله. فلما استوى عليها قال:الحمد لله، (
سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا
إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ ) ثم حمد الله ثلاثا، وكبر
ثلاثا، ثم قال:سبحانك، لا إله إلا أنت، قد ظلمت نفسي فاغفر لي. ثم ضحك فقلت له:من
أي شيء ضحكت يا أمير المؤمنين؟ فقال:رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع كما
صنعت ، ثم ضحك. فقلت:مم ضحكت يا رسول الله؟ فقال: « يعجب
الرب من عبده إذا قال:رب اغفر لي. ويقول:علم عبدي أنه لا يغفر الذنوب غيري » .
وهكذا رواه
أبو داود، والترمذي، والنسائي، من حديث أبي الأحوص - زاد النسائي:ومنصور- عن أبي
إسحاق السَّبِيعي، عن علي بن ربيعة الأسدي الوالبي، به . وقال الترمذي:حسن صحيح.
وقد قال
عبد الرحمن بن مَهْدِيّ، عن شعبة:قلت لأبي إسحاق السَّبِيعي:ممن سمعت هذا الحديث؟
قال:من يونس بن خباب. فلقيت يونس بن خباب فقلت:ممن سمعته؟ فقال:من رجل سمعه من علي
بن ربيعة. ورواه بعضهم عن يونس بن خباب، عن شقيق بن عقبة الأسدي، عن علي بن ربيعة
الوالبي، به .
حديث عبد
الله بن عباس، رضي الله عنهما:
قال
الإمام أحمد:حدثنا أبو المغيرة، حدثنا أبو بكر بن عبد الله، عن علي بن أبي طلحة،
عن عبد الله بن عباس؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أردفه على دابته، فلما
استوى عليها كبّر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا، وحمد ثلاثا، وهلل الله
واحدة. ثم استلقى عليه فضحك، ثم أقبل عليه فقال: « ما من
امرئ مسلم يركب دابة فيصنع كما صنعت، إلا أقبل الله، عز وجل، عليه، فضحك إليه كما
ضحكت إليك » . تفرد به أحمد .
حديث عبد
الله بن عمر، رضي الله عنهما:
قال
الإمام أحمد:حدثنا أبو كامل حدثنا حماد بن سلمة، عن أبي الزبير، عن علي بن عبد
الله البارقي، عن عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم
كان إذا ركب راحلته كبر ثلاثا، ثم قال: (
سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا
إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ ) . ثم يقول: « اللهم
إني أسألك في سفري هذا البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى. اللهم، هون علينا السفر
واطو لنا البعيد. اللهم، أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل. اللهم، اصحبنا
في سفرنا، واخلفنا في أهلنا » . وكان إذا رجع إلى أهله قال: « آيبون
تائبون إن شاء الله، عابدون، لربنا حامدون » .
وهكذا
رواه مسلم وأبو داود والنسائي، من حديث ابن جريج، والترمذي من حديث حماد بن سلمة،
كلاهما عن أبي الزبير، به .
حديث
آخر:
قال
الإمام أحمد:حدثنا محمد بن عبيد، حدثنا محمد بن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم، عن
عمرو بن الحكم بن ثوبان ، عن أبي لاس الخزاعي قال:حملنا رسول الله صلى الله عليه
وسلم على إبل من إبل الصدقة إلى الحج. فقلنا:يا رسول الله، ما نرى أن تحملنا هذه!
فقال: « ما من بعير إلا في ذروته شيطان، فاذكروا اسم الله عليها إذا
ركبتموها كما آمركم ، ثم امتهنوها لأنفسكم، فإنما يحمل الله عز وجل » .
أبو لاس
اسمه:محمد بن الأسود بن خَلَف.
حديث آخر
في معناه:
قال
أحمد:حدثنا عَتَّاب، أخبرنا عبد الله ( ح ) وعلي
بن إسحاق، أخبرنا عبد الله - يعني ابن المبارك- أخبرنا أسامة بن زيد، أخبرني محمد
بن حمزة؛ أنه سمع أباه يقول:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « على
ظهر كل بعير شيطان، فإن ركبتموها فسموا الله، عز وجل، ثم لا تقصروا عن حاجاتكم » .
وَجَعَلُوا
لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ ( 15 ) أَمِ
اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ ( 16 )
وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا
وَهُوَ كَظِيمٌ ( 17 )
أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ ( 18 )
وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا
خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ ( 19 )
وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ
عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ ( 20 )
يقول
تعالى مخبرا عن المشركين فيما افتروه وكذبوه في جعلهم بعض الأنعام لطواغيتهم
وبعضها لله، كما ذكر الله عنهم في سورة «
الأنعام » ، في قوله: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ
وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا
لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا
كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [
الأنعام:136 ] . وكذلك جعلوا له من قسمي البنات والبنين أخسَّهما وأردأهما
وهو البنات، كما قال تعالى: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى * تِلْكَ إِذًا
قِسْمَةٌ ضِيزَى [ النجم:21، 22 ] . وقال
هاهنا: ( وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الإِنْسَانَ
لَكَفُورٌ مُبِينٌ )
ثم قال:
( أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ
بِالْبَنِينَ ) وهذا إنكار عليهم غاية الإنكار. ثم ذكر تمام الإنكار فقال:
( وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ
مَثَلا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ) أي:إذا
بشر أحد هؤلاء بما جعلوه لله من البنات يأنف من ذلك غاية الأنفة، وتعلوه كآبة من
سوء ما بشر به، ويتوارى من القوم من خجله من ذلك، يقول تعالى:فكيف تأنفون أنتم من
ذلك، وتنسبونه إلى الله عز وجل؟.
ثم قال:
( أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ
غَيْرُ مُبِينٍ ) أي:المرأة ناقصة يكمل نقصها
بلبس الحلي منذ تكون طفلة، وإذا خاصمت فلا عبارة لها، بل هي عاجزة عَيِيَّة، أوَ
مَنْ يكون هكذا ينسب إلى جناب الله عز وجل ؟! فالأنثى ناقصة الظاهر والباطن، في الصورة
والمعنى، فيكمل نقص ظاهرها وصورتها بلبس الحلي وما في معناه، ليجبر ما فيها من
نقص، كما قال بعض شعراء العرب:
وَمَـا
الحَـلْي إلا زينَـةٌ مـن نقيصـةٍ يتمّـمُ مـن حُسْـن إذا الحُسْـن قَصَّرا
وأمَّــا
إذَا كـان الجمـالُ مــوفَّـرا كحُسْـنك, لـم يَحْـتَجْ إلـى أن يزَوَّرا
وأما نقص
معناها، فإنها ضعيفة عاجزة عن الانتصار عند الانتصار، لا عبارة لها ولا همة، كما
قال بعض العرب وقد بشر ببنت: « ما هي بنعم الولد:نصرها
بالبكاء، وبرها سرقة » .
وقوله: (
وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا )
أي:اعتقدوا فيهم ذلك، فأنكر عليهم تعالى قولهم ذلك، فقال: (
أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ ) أي:شاهدوه وقد خلقهم الله
إناثا، ( سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ )
أي:بذلك، ( ويسألون ) عن ذلك يوم القيامة. وهذا
تهديد شديد، ووعيد أكيد.
( وَقَالُوا
لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ ) أي:لو
أراد الله لحال بيننا وبين عبادة هذه الأصنام، التي هي على صور الملائكة التي هي
بنات الله، فإنه عالم بذلك وهو يقررنا عليه، فجمعوا بين أنواع كثيرة من الخطأ:
أحدها:جَعْلُهم
لله ولدا، تعالى وتقدس وتنـزه عن ذلك علوا كبيرا.
الثاني:دعواهم
أنه اصطفى البنات على البنين، فجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا.
الثالث:عبادتهم
لهم مع ذلك كله، بلا دليل ولا برهان، ولا إذن من الله عز وجل، بل بمجرد الآراء
والأهواء، والتقليد للأسلاف والكبراء والآباء، والخبط في الجاهلية الجهلاء.
الرابع:احتجاجهم
بتقديرهم على ذلك قَدَرا [ والحجة إنما تكون بالشرع ] ، وقد
جهلوا في هذا الاحتجاج جهلا كبيرًا، فإنه تعالى قد أنكر ذلك عليهم أشد الإنكار،
فإنه منذ بعث الرسل وأنـزل الكتب يأمر بعبادته وحده لا شريك له، وينهى عن عبادة ما
سواه، قال [ تعالى ] ، وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي
كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ
فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ
فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [
النحل:36 ] ، وقال تعالى: وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ
مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [
الزخرف:45 ] .
وقال في
هذه الآية - بعد أن ذكر حجتهم هذه- : ( مَا
لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ ) أي:بصحة ما قالوه واحتجوا به
( إِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ )
أي:يكذبون ويتقولون.
وقال
مجاهد في قوله: ( مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ
عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ ) أي ما
يعلمون قدرة الله على ذلك.
أَمْ
آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ ( 21 ) بَلْ
قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ
مُهْتَدُونَ ( 22 )
يقول تعالى منكرا على المشركين
في عبادتهم غير الله بلا برهان ولا دليل ولا حجة: ( أَمْ
آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ ) أي:من
قبل شركهم، ( فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ )
أي:فيما هم فيه، أي:ليس الأمر كذلك، كقوله: أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ
سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ [
الروم:35 ] أي:لم يكن ذلك.
ثم قال: ( بَلْ
قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ
مُهْتَدُونَ ) أي:ليس لهم مستند فيما هم فيه من الشرك سوى تقليد الآباء
والأجداد، بأنهم كانوا على أمة، والمراد بها الدين هاهنا، وفي قوله: إِنَّ هَذِهِ
أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً [ الأنبياء:92 ] .
وقولهم: (
وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ ) أي:ورائهم ( مهتدون
) ، دعوى منهم بلا دليل.
وَكَذَلِكَ
مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا
إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ
( 23 )
قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ
قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ( 24 )
فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ( 25 )
ثم بين
تعالى أن مقالة هؤلاء قد سبقهم إليها أشباههم ونظراؤهم من الأمم السالفة المكذبة
للرسل، تشابهت قلوبهم، فقالوا مثل مقالتهم: كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ
بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ [ الذاريات:52 ، 53 ] ،
وهكذا قال هاهنا: ( وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا
مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا
وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ )
ثم قال
تعالى: ( قل ) أي:يا محمد لهؤلاء المشركين:
( أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ
آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ) أي:ولو
علموا وتيقنوا صحة ما جئتهم به، لما انقادوا لذلك بسوء قصدهم ومكابرتهم للحق
وأهله.
قال الله
تعالى: ( فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ ) أي:من
الأمم المكذبة بأنواع من العذاب، كما فصله تعالى في قصصهم، (
فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ) ؟
أي:كيف بادوا وهلكوا، وكيف نجى الله المؤمنين؟ .
وَإِذْ
قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ ( 26 ) إِلا
الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ ( 27 )
وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ( 28 ) بَلْ
مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ ( 29 )
وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ ( 30 )
وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ
عَظِيمٍ ( 31 )
أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ
فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ
لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا
يَجْمَعُونَ ( 32 )
وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ
بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا
يَظْهَرُونَ ( 33 )
يقول تعالى مخبرا عن عبده ورسوله
وخليله إمام الحنفاء، ووالد من بعث بعده من الأنبياء، الذي تنتسب إليه قريش في
نسبها ومذهبها:أنه تبرأ من أبيه وقومه في عبادتهم الأوثان، فقال: (
إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ
سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ ) أي:هذه
الكلمة، وهي عبادة الله تعالى وحده لا شريك له، وخلع ما سواه من الأوثان وهي « لا إله
إلا الله » أي:جعلها دائمة في ذريته يقتدي به فيها من هداه الله من ذرية
إبراهيم، عليه السلام، ( لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ )
أي:إليها.
وقال عكرمة، ومجاهد، والضحاك،
وقتادة، والسدي، وغيرهم في قوله تعالى: (
وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ )
يعني:لا إله إلا الله، لا يزال في ذريته من يقولها. ورُوي نحوه عن ابن عباس.
وقال ابن زيد:كلمة الإسلام. وهو
يرجع إلى ما قاله الجماعة.
ثم قال تعالى: ( بَلْ
مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ ) يعني:المشركين، (
وآباءهم ) أي:فتطاول عليهم العمر في ضلالهم ، (
حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ ) أي:بين
الرسالة والنذارة.
( وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ
قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ )
أي:كابروه وعاندوه ودفعوا بالصدور والراح كفرا وحسدا وبغيا، (
وقالوا ) [ أي ]
كالمعترضين على الذي أنـزله تعالى وتقدس: (
لَوْلا نـزلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) أي:هلا
كان إنـزال هذا القرآن على رجل عظيم كبير في أعينهم من القريتين؟ يعنون مكة والطائف.
قاله ابن عباس، وعكرمة، ومحمد بن كعب القرظي، وقتادة والسدي، وابن زيد.
وقد ذكر غير واحد منهم :أنهم
أرادوا بذلك الوليد بن المغيرة، وعروة بن مسعود الثقفي.
وقال مالك عن زيد بن أسلم،
والضحاك، والسدي:يعنون الوليد بن المغيرة، ومسعود بن عمرو الثقفي.
وعن مجاهد:عمير بن عمرو بن
مسعود الثقفي. وعنه أيضا:أنهم يعنون الوليد بن المغيرة، وحبيب بن عمرو بن عمير
الثقفي.
وعن مجاهد:يعنون عتبة بن ربيعة
بمكة، وابن عبد يا ليل بالطائف.
وقال السدي:عنوا [
بذلك ] الوليد بن المغيرة، وكنانة بن عمرو بن عمير الثقفي.
والظاهر:أن مرادهم رجل كبير من
أي البلدتين كان.
قال الله تعالى رادا عليهم في
هذا الاعتراض: ( أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ
رَبِّكَ ) ؟ أي:ليس الأمر مردودا إليهم، بل إلى الله، عز وجل، والله
أعلم حيث يجعل رسالاته، فإنه لا ينـزلها إلا على أزكى الخلق قلبا ونفسا، وأشرفهم بيتا
وأطهرهم أصلا.
ثم قال تعالى مبينا أنه قد فاوت
بين خلقه فيما أعطاهم من الأموال والأرزاق والعقول والفهوم، وغير ذلك من القوى
الظاهرة والباطنة، فقال: ( نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ
مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ
)
وقوله: (
لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا )
قيل:معناه ليسخر بعضهم بعضا في الأعمال، لاحتياج هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا، قاله
السدي وغيره.
وقال قتادة والضحاك:ليملك بعضهم
بعضا. وهو راجع إلى الأول.
ثم قال: (
وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ )
أي:رحمة الله بخلقه خير لهم مما بأيديهم من الأموال ومتاع الحياة الدنيا.
ثم قال تعالى: (
وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً )
أي:لولا أن يعتقد كثير من الناس الجهلة أن إعطاءنا المال دليل على محبتنا لمن
أعطيناه، فيجتمعوا على الكفر لأجل المال - هذا معنى قول ابن عباس، والحسن، وقتادة،
والسدي، وغيرهم- ( لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ
بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ [
عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ ] )
أي:سلالم ودرجا من فضة - قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والسدي:وابن زيد، وغيرهم-
( عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ ) ،
أي:يصعدون .
وَلِبُيُوتِهِمْ
أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ ( 34 )
وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ ( 35 )
(
وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا ) أي:أغلاقا على أبوابهم (
وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ ) ،
أي:جميع ذلك يكون فضة، ( وزخرفا ) ،
أي:وذهبا. قاله ابن عباس، وقتادة، والسدي، وابن زيد.
ثم قال:
( وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
) أي:إنما ذلك من الدنيا الفانية الزائلة الحقيرة عند الله [
تعالى ] أي:يعجل لهم بحسناتهم التي يعملونها في الدنيا مآكل ومشارب،
ليوافوا الآخرة وليس لهم عند الله حسنة يجزيهم بها، كما ورد به الحديث الصحيح . [ وقد
] ورد في حديث آخر: « لو أن
الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة، ما سقى منها كافرا شربة ماء » ، أسنده
البغوي من رواية زكريا بن منظور، عن أبى حازم، عن سهل بن سعد، عن النبي صلى الله
عليه وسلم فذكره ورواه الطبراني من طريق زمعة بن صالح، عن أبي حازم عن سهل بن سعد
عن النبي صلى الله عليه وسلم: « لو عدلت الدنيا جناح بعوضة، ما
أعطى كافرا منها شيئا » .
ثم قال:
( وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ ) أي:هي
لهم خاصة لا يشاركهم:فيها [ أحد ] غيرهم
ولهذا لما قال عمر بن الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين صعد إليه في تلك
المشربه لما آلى من نسائه، فرآه [ عمر
] على رمال حصير قد أثر بجنبه فابتدرت عيناه بالبكاء وقال:يا
رسول الله هذا كسرى وقيصر فيما هما فيه وأنت صفوة الله من خلقه. وكان رسول الله
صلى الله عليه وسلم متكئا فجلس وقال: « أوَ في
شك أنت يا ابن الخطاب؟ » ثم قال: « أولئك
قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا » وفي
رواية: « أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟ »
وفي
الصحيحين أيضا وغيرهما:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « لا
تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها، فإنها لهم في الدنيا ولنا في
الآخرة » . وإنما خولهم الله تعالى في الدنيا لحقارتها، كما روى
الترمذي وابن ماجه، من طريق أبي حازم، عن سهل بن سعد قال:قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: « لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة، ما سقى منها كافرا
شربة ماء أبدا » ، قال الترمذي:حسن صحيح .
وَمَنْ
يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ( 36 )
وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ
مُهْتَدُونَ ( 37 )
حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ
الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ ( 38 )
وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ
مُشْتَرِكُونَ ( 39 )
أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلالٍ
مُبِينٍ ( 40 )
فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ ( 41 ) أَوْ
نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ ( 42 )
فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ( 43 )
وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ ( 44 )
وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ
الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ ( 45 )
يقول
تعالى: ( وَمَنْ يَعْشُ )
أي:يتعامى ويتغافل ويعرض، ( عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ ) والعشا
في العين:ضعف بصرها. والمراد هاهنا:عشا البصيرة، (
نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ) كقوله:
وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ
غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ
وَسَاءَتْ مَصِيرًا [ النساء:115 ] ،
وكقوله: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [
الصف:5 ] ، وكقوله: وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا
لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي
أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا
خَاسِرِينَ [ فصلت:25 ] ؛
ولهذا قال هاهنا: ( وَإِنَّهُمْ
لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ * حَتَّى
إِذَا جَاءَنَا ) أي:هذا الذي تغافل عن الهدى
نقيض له من الشياطين من يضله، ويهديه إلى صراط الجحيم. فإذا وافى الله يوم القيامة
يتبرم بالشيطان الذي وكل به، ( قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي
وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ ) [
أي:فبئس القرين كنت لي في الدنيا ] وقرأ
بعضهم: « حتى إذا جاءانا »
يعني:القرين والمقارن.
قال عبد
الرزاق:أخبرنا معمر، عن سعيد الجُرَيري قال:بلغنا أن الكافر إذا بعث من قبره يوم
القيامة سَفَع بيده شيطان فلم يفارقه، حتى يصيرهما الله تعالى إلى النار، فذلك حين
يقول: ( يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ
فَبِئْسَ الْقَرِينُ )
والمراد
بالمشرقين هنا هو ما بين المشرق والمغرب. وإنما استعمل هاهنا تغليبا، كما يقال
القمران، والعمران، والأبوان، [ والعسران ] . قاله
ابن جرير وغيره.
[
ولما كان الاشتراك في المصيبة في الدنيا يحصل به تسلية لمن شاركه في مصيبته، كما
قالت الخنساء تبكي أخاها:
ولَــوْلا كــثرةُ البــاكين حَــوْلي عَــلَى قَتْلاهــم
لقتلـــتُ نَفْســي
ومــا يَبْكُــون مثـلَ أخـي ولكـن أُسَـــلِّي النفسَ
عنـــه بالتأسِّــي
قطع الله بذلك بين أهل النار، فلا يحصل لهم بذلك تأسي
وتسلية ولا تخفيف ] .
ثم قال
تعالى: ( وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ
فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ ) أي:لا يغني عنكم اجتماعكم في النار
واشتراككم في العذاب الأليم.
وقوله: (
أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلالٍ
مُبِينٍ ) أي:ليس ذلك إليك، إنما عليك البلاغ، وليس عليك هداهم، ولكن
الله يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، وهو الحكم العدل في ذلك.
ثم قال:
( فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ
مُنْتَقِمُونَ ) أي:لا بد أن ننتقم منهم
ونعاقبهم، ولو ذهبت أنت، ( أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي
وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ ) أي:نحن
قادرون على هذا وعلى هذا. ولم يقبض الله رسوله حتى أقر عينه من أعدائه، وحكمه في
نواصيهم، وملكه ما تضمنته صياصيهم. هذا معنى قول السدي، واختاره ابن جرير.
وقال ابن
جرير حدثنا ابن عبد الأعلى، حدثنا ابن ثور، عن معمر قال:تلا قتادة: (
فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ )
فقال:ذهب النبي صلى الله عليه وسلم وبقيت النقمة، ولم يُرِ الله نبيه صلى الله
عليه وسلم في أمته شيئا يكرهه، حتى مضى ، ولم يكن نبي قط إلا ورأى العقوبة في
أمته، إلا نبيكم صلى الله عليه وسلم. قال:وذُكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم أرِيَ ما يصيب أمته من بعده، فما رُئِي ضاحكا منبسطا حتى قبضه الله عز وجل .
وذكر من
رواية سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة نحوه. ثم روى ابن جرير عن الحسن نحو ذلك أيضا.
وفي
الحديث: « النجوم أمنة للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما
تُوعَدُ، وأنا أمَنَة لأصحابي، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون » .
ثم قال
تعالى: ( فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى
صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) أي:خذ بالقرآن المنـزل على
قلبك، فإنه هو الحق، وما يهدي إليه هو الحق المفضي إلى صراط الله المستقيم، الموصل
إلى جنات النعيم، والخير الدائم المقيم.
ثم قال:
( وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ )
قيل:معناه لشرف لك ولقومك، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والسدي، وابن زيد.
واختاره ابن جرير، ولم يحك سواه.
وأورد
البغوي هاهنا حديث الزهري، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن معاوية قال:سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول: « إن هذا الأمر في قريش لا ينازعهم
فيه أحد إلا أكَبَّه الله على وجهه ما أقاموا الدين » . رواه
البخاري .
و [ قيل
] معناه:أنه شرف لهم من حيث إنه أنـزل بلغتهم، فهم أفهم الناس
له، فينبغي أن يكونوا أقوم الناس به وأعملهم بمقتضاه، وهكذا كان خيارهم وصفوتهم من
الخُلَّص من المهاجرين السابقين الأولين، ومن شابههم وتابعهم.
وقيل:معناه:
( وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ )
أي:لتذكير لك ولقومك، وتخصيصهم بالذكر لا ينفي من سواهم، كقوله: لَقَدْ
أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ [
الأنبياء:10 ] ، وكقوله: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ [
الشعراء:214 ] .
(
وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ ) أي:عن هذا القرآن وكيف كنتم
في العمل به والاستجابة له.
وقوله: (
وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ
الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ ) ؟
أي:جميع الرسل دعوا إلى ما دعوت الناس إليه من عبادة الله وحده لا شريك له، ونهوا
عن عبادة الأصنام والأنداد، كقوله: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا
أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [
النحل:36 ] . قال مجاهد:في قراءة عبد الله بن مسعود: « واسأل
الذين أرسلنا إليهم قبلك رسلنا » . وهكذا حكاه قتادة والضحاك
والسدي، عن ابن مسعود. وهذا كأنه تفسير لا تلاوة، والله أعلم.
وقال عبد
الرحمن بن زيد بن أسلم:واسألهم ليلة الإسراء، فإن الأنبياء جُمِعوا له. واختار ابن
جرير الأول، [ والله أعلم ] .
وَلَقَدْ
أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي
رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( 46 )
فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ ( 47 )
يقول تعالى مخبرا عن عبده
ورسوله موسى، عليه السلام، أنه ابتعثه إلى فرعون وملئه من الأمراء والوزراء
والقادة، والأتباع والرعايا، من القبط وبني إسرائيل، يدعوهم إلى عبادة الله وحده
لا شريك له، وينهاهم عن عبادة ما سواه، وأنه بعث معه آيات عظاما، كيده وعصاه، وما
أرسل معه من الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، ومن نقص الزروع والأنفس والثمرات،
ومع هذا كله استكبروا عن اتباعها والانقياد لها، وكذبوها وسخروا منها، وضحكوا ممن
جاءهم بها.
وَمَا
نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ
بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ( 48 )
وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ
إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ ( 49 )
فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ ( 50 )
( وَمَا
نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا ) ومع
هذا ما رجعوا عن غيهم وضلالهم، وجهلهم وخبالهم. وكلما جاءتهم آية من هذه الآيات
يضرعون إلى موسى، عليه السلام، ويتلطفون له في العبارة بقولهم: ( يَا
أَيُّهَا السَّاحِرُ ) أي:العالم، قاله ابن جرير.
وكان علماء زمانهم هم السحرة. ولم يكن السحر عندهم في زمانهم مذموما، فليس هذا
منهم على سبيل الانتقاص منهم؛ لأن الحال حال ضرورة منهم إليه لا تناسب ذلك، وإنما
هو تعظيم في زعمهم، ففي كل مرة يَعِدُون موسى [
عليه السلام ] إن كشف عنهم هذا أن يؤمنوا ويرسلوا معه بني إسرائيل. وفي كل
مرة ينكثون ما عاهدوا عليه، وهذا كقوله [
تعالى ] فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ
وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا
وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ * وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا
يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا
الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ *
فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ
يَنْكُثُونَ [ الأعراف:133 - 135 ] .
وَنَادَى
فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ
الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ ( 51 ) أَمْ
أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ ( 52 )
فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ
الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ ( 53 )
فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ( 54 )
فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ( 55 )
فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلا لِلآخِرِينَ ( 56 ) .
يقول تعالى مخبرا عن فرعون وتمرده
وعتوه وكفره وعناده:أنه جمع قومه، فنادى فيهم متبجحا مفتخرا بملك مصر وتصرفه فيها:
( أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأنْهَارُ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِي ) ، قال قتادة قد كانت لهم جنان وأنهار ماء، (
أَفَلا تُبْصِرُونَ ) ؟ أي:أفلا ترون ما أنا فيه من
العظمة والملك، يعني:وموسى وأتباعه فقراء ضعفاء. وهذا كقوله تعالى: فَحَشَرَ
فَنَادَى * فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى * فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ
الآخِرَةِ وَالأُولَى [ النازعات:23 - 25 ] .
وقوله: ( أَمْ
أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ ) قال السدي:يقول:بل
أنا خير من هذا الذي هو مهين. وهكذا قال بعض نحاة البصرة:إن « أم » هاهنا
بمعنى « بل » . ويؤيد هذا ما حكاه الفراء عن
بعض القراء أنه قرأها: « أما أنا خير من هذا الذي هو
مهين » . قال ابن جرير:ولو صحت هذه القراءة لكان معناها صحيحا
واضحا، ولكنها خلاف قراءة الأمصار، فإنهم قرؤوا: ( أَمْ
أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ ) ؟ على
الاستفهام.
قلت:وعلى كل تقدير فإنما يعني
فرعون - عليه اللعنة - أنه خير من موسى، عليه السلام، وقد كذب في قوله هذا كذبا
بينا واضحا، فعليه لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة.
ويعني بقوله: ( مهين ) كما
قال سفيان:حقير. وقال قتادة والسدي:يعني:ضعيف. وقال ابن جرير:يعني:لا ملك له ولا
سلطان ولا مال.
( وَلا
يَكَادُ يُبِينُ ) يعني:لا يكاد يفصح عن كلامه ،
فهو عيي حصر .
قال السدي: ( وَلا
يَكَادُ يُبِينُ ) أي:لا يكاد يفهم. وقال قتادة،
والسدي، وابن جرير:يعني عيي اللسان. وقال سفيان:يعني في لسانه شيء من الجمرة حين
وضعها في فيه وهو صغير.
وهذا الذي قاله فرعون - لعنه
الله- كذب واختلاق، وإنما حمله على هذا الكفر والعناد، وهو ينظر إلى موسى، عليه السلام،
بعين كافرة شقية، وقد كان موسى ، عليه السلام، من الجلالة والعظمة والبهاء في صورة
يبهر أبصار ذوي [ الأبصار و ]
الألباب. وقوله: ( مهين ) كذب،
بل هو المهين الحقير خِلْقةً وخلقا ودينا. وموسى [
عليه السلام ] هو الشريف الرئيس الصادق البار الراشد . وقوله: ( وَلا
يَكَادُ يُبِينُ ) افتراء أيضا، فإنه وإن كان قد
أصاب لسانه في حال صغره شيء من جهة تلك الجمرة، فقد سأل الله، عز وجل، أن يحل عقدة
من لسانه ليفقهوا قوله، وقد استجاب الله له في [ ذلك
في ] قوله: قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى [
طه:26 ] ، وبتقدير أن يكون قد بقى شيء لم يسأل إزالته، كما قاله
الحسن البصري، وإنما سأل زوال ما يحصل معه الإبلاغ والإفهام، فالأشياء الخلقية
التي ليست من فعل العبد لا يعاب بها ولا يذم عليها، وفرعون وإن كان يفهم وله عقل
فهو يدري هذا، وإنما أراد الترويج على رعيته، فإنهم كانوا جهلة أغبياء، وهكذا
كقوله: ( فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسَاوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ ) أي:وهي
ما يجعل في الأيدي من الحلي، قاله ابن عباس وقتادة وغير واحد، ( أَوْ
جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ )
أي:يكتنفونه خدمة له ويشهدون بتصديقه، نظر إلى الشكل الظاهر، ولم يفهم السر
المعنوي الذي هو أظهر مما نظر إليه، لو كان يعلم؛ ولهذا قال تعالى: (
فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ )
أي:استخف عقولهم، فدعاهم إلى الضلالة فاستجابوا له، (
إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ) .
قال الله تعالى: (
فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ) ، قال
علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( آسفونا )
أسخطونا.
وقال الضحاك، عنه:أغضبونا.
وهكذا قال ابن عباس أيضا، ومجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، ومحمد بن كعب القرظي،
وقتادة، والسدي، وغيرهم من المفسرين.
وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو
عبيد الله ابن أخي ابن وهب، حدثنا عمي، حدثنا ابن لهيعة، عن عقبة بن مسلم التجيبي
عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إذا
رأيت الله عز وجل يعطي العبد ما شاء، وهو مقيم على معاصيه، فإنما ذلك استدراج منه
له » ثم تلا ( فَلَمَّا آسَفُونَا
انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ ) .
وحدثنا أبي، حدثنا يحيى بن عبد
الحميد الحِمَّاني، حدثنا قيس بن الربيع، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب
قال:كنت عند عبد الله فذكر عنده موت الفجأة، فقال:تخفيف على المؤمن، وحسرة على
الكافر. ثم قرأ: ( فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا
مِنْهُمْ ) .
وقال عمر بن عبد العزيز رضي
الله عنه:وجدت النقمة مع الغفلة، يعني قوله: (
فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ) .
وقوله: (
فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلا لِلآخِرِينَ ) :قال
أبو مجلز: ( سَلَفًا ) لمثل من عمل بعملهم.
وقال هو ومجاهد: ( ومثلا
) أي:عبرة لمن بعدهم.
وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ
مَثَلا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ( 57 )
وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلا بَلْ
هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ( 58 ) إِنْ هُوَ
إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ( 59 ) وَلَوْ
نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ ( 60 ) يقول
تعالى مخبرا عن تعنت قريش في كفرهم وتعمدهم العناد والجدل: (
وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ) قال
غير واحد، عن ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، والضحاك، والسدي:يضحكون ، أي:أعجبوا بذلك.
وقال قتادة:يجزعون ويضحكون.
وقال إبراهيم النخعي:يعرضون.
وكان السبب في ذلك ما ذكره محمد
بن إسحاق في السيرة حيث قال:وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني- يوما
مع الوليد بن المغيرة في المسجد، فجاء النضر بن الحارث حتى جلس معهم، وفي المجلس
غير واحد من رجال قريش، فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرض له النضر بن
الحارث، فكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أفحمه، ثم تلا عليه وعليهم:
إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا
وَارِدُونَ ) الآيات [ الأنبياء:98 ] . ثم
قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقبل عبد الله بن الزّبعَرى التميمي حتى جلس،
فقال الوليد بن المغيرة له:والله ما قام النضر بن الحارث لابن عبد المطلب وما قعد،
وقد زعم محمد أنا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم، فقال عبد الله بن الزبعرى:أما
والله لو وجدته لَخَصَمْتُه، سلوا محمدا:أكلّ ما يعبد من دون الله في جهنم مع من
عبده، فنحن نعبد الملائكة، واليهود تعبد عزيرا، والنصارى تعبد المسيح [
عيسى ] ابن مريم؟ فعجب الوليد ومن كان معه في المجلس من قول عبد
الله بن الزبعرى، ورأوا أنه قد احتج وخاصم، فذُكِر ذلك لرسول الله صلى الله عليه
وسلم فقال: « كل من أحب أن يعبد من دون الله، فهو مع من عبده، فإنهم إنما
يعبدون الشيطان ومن أمرهم بعبادته » فأنـزل
الله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ
عَنْهَا مُبْعَدُونَ [ الأنبياء:101 ]
أي:عيسى وعزير ومن عبد معهما من الأحبار والرهبان الذين مضوا على طاعة الله، عز
وجل، فاتخذهم من يعبدهم من أهل الضلالة أربابا من دون الله. ونـزل فيما يذكرون
أنهم يعبدون الملائكة وأنهم بنات الله: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا
سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ الآيات [
الأنبياء:26 ] ، ونـزل فيما يذكر من أمر عيسى وأنه يعبد من دون الله. وعجب
الوليد ومن حضره من حجته وخصومته: (
وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ )
أي:يصدون عن أمرك بذلك من قوله. ثم ذكر عيسى فقال: ( إِنْ
هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ
* وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأرْضِ يَخْلُفُونَ *
وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ ) أي:ما وضعت على يديه من
الآيات من إحياء الموتى وإبراء الأسقام، فكفى به دليلا على علم الساعة، يقول: ( فَلا
تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ) .
وذكر ابن جرير من رواية
العَوفي، عن ابن عباس قوله: ( وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ
مَرْيَمَ مَثَلا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ )
قال:يعني قريشا، لما قيل لهم: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ
حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ [
الأنبياء:98 ] إلى آخر الآيات، فقالت له قريش:فما ابن مريم؟ قال: « ذاك
عبد الله ورسوله » . فقالوا:والله ما يريد هذا
إلا أن نتخذه ربا، كما اتخذت النصارى عيسى ابن مريم ربا، فقال الله تعالى ( مَا
ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ) .
وقال الإمام أحمد:حدثنا هاشم بن
القاسم، حدثنا شيبان، عن عاصم بن أبي النَّجُود، عن أبي رَزِين، عن أبي يحيى -
مولى ابن عقيل الأنصاري- قال:قال ابن عباس:لقد علمت آية من القرآن ما سألني عنها
رجل قط، فما أدري أعلمها الناس فلم يسألوا عنها، أم لم يفطنوا لها فيسألوا عنها.
قال:ثم طفق يحدثنا، فلما قام تلاومنا ألا نكون سألناه عنها. فقلت:أنا لها إذا راح
غدا. فلما راح الغد قلت:يا ابن عباس، ذكرت أمس أن آية من القرآن لم يسألك عنها رجل
قط، فلا تدري أعلمها الناس أم لم يفطنوا لها؟ فقلت:أخبرني عنها وعن اللاتي قرأت
قبلها. قال:نعم، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لقريش: « يا
معشر قريش، إنه ليس أحد يعبد من دون الله فيه خير » ، وقد
علمت قريش أن النصارى تعبد عيسى ابن مريم، وما تقول في محمد، فقالوا:يا محمد، ألست
تزعم أن عيسى كان نبيا وعبدا من عباد الله صالحا، فإن كنت صادقا كان آلهتهم كما
تقولون؟ قال:فأنـزل الله: ( وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ
مَثَلا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ) .
قلت:ما يَصِدون؟ قال:يضحكون، ( وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ
لِلسَّاعَةِ ) قال:هو خروج عيسى ابن مريم قبل القيامة .
وقال ابن أبي حاتم:حدثنا محمد
بن يعقوب الدمشقي، حدثنا آدم، حدثنا شيبان، عن عاصم بن أبي النَّجُود، عن أبي أحمد
مولى الأنصار ، عن ابن عباس قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يا
معشر قريش، إنه ليس أحد يعبد من دون الله فيه خير » .
فقالوا له:ألست تزعم أن عيسى كان نبيا وعبدا من عباد الله صالحا، فقد كان يُعبد من
دون الله ؟ فأنـزل الله عز وجل: (
وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ) .
وقال مجاهد في قوله: (
وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ) :قالت
قريش:إنما يريد محمد أن نعبده كما عبد قوم عيسى عيسى. ونحو هذا قال قتادة.
وقوله: (
وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ) :قال
قتادة:يقولون:آلهتنا خير منه. وقال قتادة:قرأ ابن مسعود: « وقالوا
أآلهتنا خير أم هذا » ، يعنون محمدا صلى الله عليه
وسلم.
وقوله: ( مَا
ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلا ) أي:مراء، وهم يعلمون أنه ليس
بوارد على الآية؛ لأنها لما لا يعقل، وهي قوله: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ
دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [
الأنبياء:98 ] . ثم هي خطاب لقريش، وهم إنما كانوا يعبدون الأصنام
والأنداد، ولم يكونوا يعبدون المسيح حتى يوردوه، فتعين أن مقالتهم إنما كانت جدلا
منهم، ليسوا يعتقدون صحتها.
وقد قال الإمام أحمد، رحمه الله
تعالى:حدثنا ابن نمير، حدثنا حجاج بن دينار، عن أبي غالب، عن أبي أمامة قال:قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما ضل قوم بعد هدى كانوا
عليه، إلا أورثوا الجدل » ، ثم تلا هذه الآية: ( مَا
ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ) .
وقد رواه الترمذي، وابن ماجه،
وابن جرير، من حديث حجاج بن دينار، به . ثم قال الترمذي:حسن صحيح لا نعرفه إلا من
حديثه كذا قال.
وقد روي من وجه آخر عن أبي
أمامة بزيادة فقال ابن أبي حاتم:حدثنا حميد بن عياش الرملي، حدثنا مؤمَّل، حدثنا حماد،
أخبرنا ابن مخزوم، عن القاسم أبي عبد الرحمن الشامي، عن أبي أمامة - قال حماد:لا
أدري رفعه أم لا؟ - قال:ما ضلت أمة بعد نبيها إلا كان أول ضلالها التكذيب بالقدر،
وما ضلت أمة بعد نبيها إلا أعطوا الجدل، ثم قرأ: ( مَا
ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ )
وقال ابن جرير أيضا:حدثنا أبو
كريب، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن، عن عباد بن عباد، عن جعفر، عن القاسم ، عن أبي
أمامة قال:إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على الناس وهم يتنازعون في القرآن،
فغضب غضبا شديدا حتى كأنما صب على وجهه الخل، ثم قال: « لا
تضربوا كتاب الله بعضه ببعض، فإنه ما ضل قوم قط إلا أوتوا الجدل » ، ثم
تلا ( مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلا بَلْ هُمْ قَوْمٌ
خَصِمُونَ )
وقوله: ( إِنْ
هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ )
يعني:عيسى، عليه السلام، ما هو إلا عبد [ من
عباد الله ] أنعم الله عليه بالنبوة والرسالة، (
وَجَعَلْنَاهُ مَثَلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ )
أي:دلالة وحجة وبرهانا على قدرتنا على ما نشاء.
وقوله: (
وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ )
أي:بدلكم ( مَلائِكَةً فِي الأرْضِ يَخْلُفُونَ ) ، قال
السدي:يخلفونك فيها. وقال ابن عباس، وقتادة:يخلف بعضهم بعضا، كما يخلف بعضكم بعضا.
وهذا القول يستلزم الأول. وقال مجاهد:يعمرون الأرض بدلكم.
وَإِنَّهُ
لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ
مُسْتَقِيمٌ ( 61 ) وَلا
يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ( 62 )
وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ
وَلأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ
وَأَطِيعُونِ ( 63 )
إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ( 64 )
فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ
عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ ( 65 ) هَلْ
يَنْظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ( 66 )
الأَخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ ( 67 ) يَا
عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ ( 68 )
الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ ( 69 )
ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ ( 70 )
يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ
الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( 71 )
وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( 72 )
لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ ( 73 ) .
وقوله: (
وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ ) :تقدم تفسير ابن إسحاق:أن
المراد من ذلك:ما بُعث به عيسى، عليه السلام، من إحياء الموتى وإبراء الأكمه
والأبرص، وغير ذلك من الأسقام. وفي هذا نظر. وأبعد منه ما حكاه قتادة، عن الحسن
البصري وسعيد بن جبير:أي الضمير في ( وإنه ) ، عائد
على القرآن، بل الصحيح أنه عائد على عيسى [
عليه السلام ] ، فإن السياق في ذكره، ثم المراد بذلك نـزوله قبل يوم
القيامة، كما قال تبارك وتعالى: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ
بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ أي:قبل موت عيسى، عليه الصلاة والسلام، ثم وَيَوْمَ
الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا [
النساء:159 ] ، ويؤيد هذا المعنى القراءة الأخرى: « وإنه
لعَلَم للساعة » أي:أمارة ودليل على وقوع
الساعة، قال مجاهد: ( وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ
) أي:آية للساعة خروج عيسى ابن مريم قبل يوم القيامة. وهكذا
روي عن أبي هريرة [ رضي الله عنه ] ، وابن
عباس، وأبي العالية، وأبي مالك، وعكرمة، والحسن وقتادة، والضحاك، وغيرهم.
وقد تواترت الأحاديث عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم أنه أخبر بنـزول عيسى [ ابن
مريم ] ، عليه السلام قبل يوم القيامة إماما عادلا وحكما مقسطا.
وقوله: ( فَلا
تَمْتَرُنَّ بِهَا ) أي:لا تشكوا فيها، إنها واقعة
وكائنة لا محالة، ( واتبعون )
أي:فيما أخبركم به ( هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ *
وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ ) أي:عن
اتباع الحق ( إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى
بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ )
أي:بالنبوة ( وَلأبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ )
قال ابن جرير:يعني من الأمور
الدينية لا الدنيوية . وهذا الذي قاله حسن جيد، ثم رد قول من زعم أن « بعض » هاهنا
بمعنى « كل » ، واستشهد بقول لبيد الشاعر:
تَــرّاك
أمْكنَــة إذَا لــم أرْضَهـا أو يَعْتَلــق بَعْضَ النفوس حمَامُها
وأولوه على أنه أراد جميع
النفوس. قال ابن جرير:وإنما أراد نفسه فقط، وعبر بالبعض عنها. وهذا الذي قاله
محتمل.
وقوله: (
فَاتَّقُوا اللَّهَ ) أي: [
فيما ] أمركم به، (
وأطيعون ) ، فيما جئتكم به، ( إِنَّ
اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ) أي:أنا
وأنتم عبيد له، فقراء إليه، مشتركون في عبادته وحده لا شريك له، ( هَذَا
صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ) أي:هذا الذي جئتكم به هو
الصراط المستقيم، وهو عبادة الرب، عز وجل، وحده.
وقوله: (
فَاخْتَلَفَ الأحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ )
أي:اختلفت الفرق وصاروا شيعا فيه، منهم من يقر بأنه عبد الله ورسوله - وهو الحق-
ومنهم من يدعي أنه ولد الله، ومنهم من يقول:إنه الله - تعالى الله عن قولهم علوا
كبيرا- ولهذا قال: ( فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ
ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ )
يقول تعالى:هل ينتظر هؤلاء
المشركون المكذبون للرسل ( إِلا السَّاعَةَ أَنْ
تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) ؟
أي:فإنها كائنة لا محالة وواقعة، وهؤلاء غافلون عنها غير مستعدين [ لها
] فإذا جاءت إنما تجيء وهم لا يشعرون بها، فحينئذ يندمون كل
الندم، حيث لا ينفعهم ولا يدفع عنهم.
وقوله: (
الأخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ ) أي:كل
صداقة وصحابة لغير الله فإنها تنقلب يوم القيامة عداوة إلا ما كان لله، عز وجل،
فإنه دائم بدوامه. وهذا كما قال إبراهيم، عليه السلام، لقومه: إِنَّمَا
اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ
بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [
العنكبوت:25 ] .
وقال عبد الرزاق:أخبرنا
إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن الحارث ، عن علي، رضي الله عنه: (
الأخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ ) قال:خليلان
مؤمنان، وخليلان كافران، فتوفي أحد المؤمنين وبشر بالجنة فذكر خليله، فقال:اللهم،
إن فلانا خليلي كان يأمرني بطاعتك وطاعة رسولك، ويأمرني بالخير وينهاني عن الشر،
وينبئني أني ملاقيك، اللهم فلا تضله بعدي حتى تريه مثل ما أريتني، وترضى عنه كما
رضيت عني. فيقال له:اذهب فلو تعلم ما له عندي لضحكت كثيرا وبكيت قليلا. قال:ثم
يموت الآخر، فتجتمع أرواحهما، فيقال:ليثن أحدكما علىصاحبه، فيقول كل واحد منهما
لصاحبه:نعم الأخ، ونعم الصاحب، ونعم الخليل. وإذا مات أحد الكافرين، وبشر بالنار
ذكر خليله فيقول:اللهم إن خليلي فلانا كان يأمرني بمعصيتك ومعصية رسولك، ويأمرني
بالشر وينهاني عن الخير، ويخبرني أني غير ملاقيك، اللهم فلا تهده بعدي حتى تريه
مثل ما أريتني، وتسخط عليه كما سخطت علي. قال:فيموت الكافر الآخر، فيجمع بين
أرواحهما فيقال:ليثن كل واحد منكما على صاحبه. فيقول كل واحد منهما لصاحبه:بئس
الأخ، وبئس الصاحب، وبئس الخليل. رواه ابن أبي حاتم .
وقال ابن عباس، ومجاهد،
وقتادة:صارت كل خلة عداوة يوم القيامة إلا المتقين.
وروى الحافظ ابن عساكر - في
ترجمة هشام بن أحمد- عن هشام بن عبد الله بن كثير:حدثنا أبو جعفر محمد بن الخضر
بالرقة، عن معافي:حدثنا حكيم بن نافع، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، رضي
الله عنه، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لو أن
رجلين تحابا في الله، أحدهما بالمشرق والآخر بالمغرب، لجمع الله بينهما يوم
القيامة، يقول:هذا الذي أحببته في » .
وقوله: ( يَا
عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ ) ثم
بشرهم .
فقال: (
الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ )
أي:آمنت قلوبهم وبواطنهم، وانقادت لشرع الله جوارحهم وظواهرهم.
قال المعتمر بن سليمان، عن أبيه:إذا
كان يوم القيامة فإن الناس حين يبعثون لا يبقى أحد منهم إلا فزع، فينادي مناد: ( يَا
عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ )
فيرجوها الناس كلهم، قال:فيتبعُها: (
الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ ) ،
قال:فييأس الناس منها غير المؤمنين. (
ادْخُلُوا الْجَنَّةَ ) أي:يقال لهم:ادخلوا الجنة (
أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ ) أي:نظراؤكم (
تُحْبَرُونَ ) أي:تنعمون وتسعدون، وقد تقدم تفسيرها في سورة الروم.
(
يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ )
أي:زبادي آنية الطعام، ( وَأَكْوَابٍ )
وهي:آنية الشراب، أي:من ذهب لا خراطيم لها ولا عُرَى، (
وَفِيهَا مَا تَشْهِي الأنْفُسُ ) - وقرأ بعضهم: « تشتهيه
الأنفس » - ( وَتَلَذُّ الأعْيُنُ ) أي:طيب
الطعم والريح وحسن المنظر.
قال عبد الرزاق:أخبرنا مَعْمَر،
أخبرني إسماعيل بن أبي سعيد ، عن عكرمة - مولى ابن عباس- أخبره أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال: « إن أدنى أهل الجنة منـزلة
وأسفلهم درجة لرجل لا يدخل الجنة بعده أحد، يفسح له في بصره مسيرة مائة عام في
قصور من ذهب، وخيام من لؤلؤ، ليس فيها موضع شبر إلا معمور يغدى عليه ويراح بسبعين
ألف صحفة من ذهب، ليس فيها صحفة إلا فيها لون ليس في الأخرى، مثله شهوته في آخرها
كشهوته في أولها، لو نـزل به جميع أهل الأرض لوسع عليهم مما أعطي، لا ينقص ذلك مما
أوتي شيئا » .
وقال ابن أبي حاتم:حدثنا علي بن
الحسين بن الجنيد، حدثنا عمرو بن سواد السرحي، حدثنا عبد الله بن وهب، عن ابن
لهيعة، عن عقيل بن خالد، عن الحسن، عن أبي هريرة:أن أبا أمامة، رضي الله عنه، حدث
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثهم - وذكر الجنة- فقال: « والذي
نفس محمد بيده، ليأخذن أحدكم اللقمة فيجعلها في فيه، ثم يخطر على باله طعام آخر،
فيتحول الطعام الذي في فيه على الذي اشتهى » ثم قرأ:
( وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنْفُسُ وَتَلَذُّ الأعْيُنُ
وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) .
وقال الإمام أحمد:حدثنا حسن -
هو ابن موسى- حدثنا سُكَيْن بن عبد العزيز، حدثنا الأشعث الضرير، عن شهر بن
حَوْشَب، عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن
أدنى أهل الجنة منـزلة إن له لسبع درجات، وهو على السادسة وفوقه السابعة، وإن له
ثلثمائة خادم، ويغدى عليه ويراح كل يوم بثلثمائة صحفة - ولا أعلمه إلا قال:من ذهب-
في كل صحفة لون ليس في الأخرى، وإنه ليلذ أوله كما يلذ آخره، ومن الأشربة ثلاثمائة
إناء، في كل إناء لون ليس في الآخر، وإنه ليلذ أوله كما يلذ آخره، وإنه يقول:يا
رب، لو أذنت لي لأطعمت أهل الجنة وسقيتهم، لم ينقص مما عندي شيء، وإن له من الحور
العين لاثنين وسبعين زوجة، سوى أزواجه من الدنيا، وإن الواحدة منهن ليأخذ مقعدها
قدر ميل من الأرض » .
(
وَأَنْتُمْ فِيهَا ) أي:في الجنة (
خَالِدُونَ ) أي:لا تخرجون منها ولا تبغون عنها حولا. ثم قيل لهم على وجه
التفضل والامتنان: ( وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي
أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ )
أي:أعمالكم الصالحة كانت سببا لشمول رحمة الله إياكم، فإنه لا يدخل أحدًا عمله
الجنة، ولكن بفضل من الله ورحمته. وإنما الدرجات تفاوتها بحسب عمل الصالحات.
قال ابن أبي حاتم:حدثنا الفضل
بن شاذان المقرئ، حدثنا يوسف بن يعقوب - يعني الصفار- حدثنا أبو بكر بن عياش، عن
الأعمش، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال:قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: « كل أهل النار يرى منـزله من الجنة حسرة، فيقول: لَوْ أَنَّ
اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [
الزمر:57 ] وكل أهل الجنة يرى منـزله من النار فيقول: وَمَا كُنَّا
لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ [
الأعراف:43 ] ، ليكون له شكرا » .
قال:وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما من
أحد إلا وله منـزل في الجنة ومنـزل في النار، فالكافر يرث المؤمنَ منـزلَه من
النار، والمؤمن يرث الكافرَ منـزله من الجنة » وذلك
قوله تعالى: ( وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا
كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) .
وقوله: (
لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ ) أي:من
جميع الأنواع، ( مِنْهَا تَأْكُلُونَ )
أي:مهما اخترتم وأردتم. ولما ذكر [
الله تعالى ] الطعام والشراب، ذكر بعده الفاكهة لتتم [ هذه
] النعمة والغبطة.
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ( 74 ) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ
وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ( 75 ) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ
وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ ( 76 ) وَنَادَوْا
يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ ( 77 ) لَقَدْ جِئْنَاكُمْ
بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ( 78 ) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا
فَإِنَّا مُبْرِمُونَ ( 79 ) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا
نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ( 80 ) .
لما ذكر [
تعالى ] حال
السعداء، ثنى بذكر الأشقياء، فقال: ( إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ *
لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ )
أي:ساعة واحدة (
وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ) أي:آيسون
من كل خير، ( وَمَا
ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ ) أي:بأعمالهم السيئة بعد قيام
الحجج عليهم وإرسال الرسل إليهم، فكذبوا وعصوا، فجوزوا بذلك جزاء وفاقا، وما ربك
بظلام للعبيد.
(
وَنَادَوْا يَا مَالِكُ )
وهو:خازن النار.
قال البخاري:حدثنا حجاج بن مِنْهال، حدثنا سفيان بن عيينة، عن
عمرو بن عطاء ، عن صفوان بن يعلى، عن أبيه قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقرأ على المنبر: (
وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ ) أي:ليقبض أرواحنا فيريحنا مما
نحن فيه، فإنهم كما قال تعالى: لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ
عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا [
فاطر:36 ] .
وقال: وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ
لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا [
الأعلى:11 - 13 ] ، فلما
سألوا أن يموتوا أجابهم مالك، ( قَالَ
إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ ) :قال
ابن عباس:مكث ألف سنة، ثم قال:إنكم ماكثون. رواه ابن أبي حاتم.
أي:لا خروج لكم منها ولا محيد لكم عنها.
ثم ذكر سبب شقوتهم وهو مخالفتهم للحق ومعاندتهم له فقال: ( لَقَدْ جِئْنَاكُمْ
بِالْحَقِّ )
أي:بيناه لكم ووضحناه وفسرناه، ( وَلَكِنَّ
أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ) أي:ولكن كانت سجاياكم لا تقبله ولا تقبل عليه، وإنما تنقاد
للباطل وتعظمه، وتصد عن الحق وتأباه، وتبغض أهله، فعودوا على أنفسكم بالملامة،
واندموا حيث لا تنفعكم الندامة.
ثم قال تعالى: ( أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ ) قال مجاهد:أرادوا كيد شر
فكدناهم.
وهذا الذي قاله مجاهد كما قال تعالى: وَمَكَرُوا مَكْرًا
وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [ النمل:50 ] ، وذلك لأن المشركين كانوا يتحيلون في رد الحق بالباطل بحيل
ومكر يسلكونه، فكادهم الله، ورد وبال ذلك عليهم؛ ولهذا قال: ( أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا
نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ ) أي:سرهم وعلانيتهم، ( بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ) أي:نحن نعلم ما هم عليه،
والملائكة أيضا يكتبون أعمالهم، صغيرها وكبيرها.
قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ
الْعَابِدِينَ ( 81 ) سُبْحَانَ رَبِّ
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ( 82 ) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا
وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ( 83 ) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ
إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ( 84 ) وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ
مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ
وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( 85 ) وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ
يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ
يَعْلَمُونَ ( 86 ) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ
خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ( 87 ) وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ
هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ ( 88 ) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ
سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ( 89 )
يقول
تعالى: ( قُلْ ) يا محمد: ( إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ
وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ ) أي:لو فرض هذا لعبدته على ذلك لأني عبد من عبيده، مطيع
لجميع ما يأمرني به، ليس عندي استكبار ولا إباء عن عبادته، فلو فرض كان هذا، ولكن
هذا ممتنع في حقه تعالى، والشرط لا يلزم منه الوقوع ولا الجواز أيضا، كما قال
تعالى: لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ
مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [ الزمر:4 ] .
[ و ] قال بعض المفسرين في قوله: ( فَأَنَا أَوَّلُ
الْعَابِدِينَ )
أي:الآنفين. ومنهم سفيان الثوري، والبخاري حكاه فقال:ويقال: ( أَوَّلُ الْعَابِدِينَ ) الجاحدين، من عبد يعبد.
وذكر ابن
جرير لهذا القول من الشواهد ما رواه عن يونس بن عبد الأعلى، عن ابن وهب، حدثني ابن
أبي ذئب، عن أبي قُسَيْط ، عن بَعَجة بن زيد الجهني؛ أن امرأة منهم دخلت على زوجها
- وهو رجل منهم أيضا- فولدت له في ستة أشهر، فذكر ذلك زوجها لعثمان بن عفان، رضي
الله عنه، فأمر بها أن ترجم، فدخل عليه علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، فقال:إن
الله يقول في كتابه: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا [ الأحقاف:15 ] ، وقال وَفِصَالُهُ فِي
عَامَيْنِ [
لقمان:14 ] ،
قال:فوالله ما عبد عثمان، رضي الله عنه، أن بعث إليها:ترد - قال يونس:قال ابن
وهب:عبد:استنكف.
[ و ] قال الشاعر:
مَتَـى
مَـا يَشَـأ ذُو الوُدِّ يصْرِمْ خَليله ويَعْبَــدُ عَلَيــه لا مِحَالَــة
ظَالمًـا
وهذا
القول فيه نظر؛ لأنه كيف يلتئم مع الشرط فيكون تقديره:إن كان هذا فأنا ممتنع منه؟
هذا فيه نظر، فليتأمل. اللهم إلا أن يقال: « إن » ليست
شرطا، وإنما هي نافية كما قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: ( قُلْ إِنْ كَانَ
لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ ) ،
يقول:لم يكن للرحمن ولد فأنا أول الشاهدين.
وقال
قتادة:هي كلمة من كلام العرب: ( قُلْ
إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ ) أي:إن ذلك لم يكن فلا ينبغي.
وقال أبو
صخر: ( قُلْ
إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ ) أي:فأنا أول من عبده بأن لا
ولد له، وأول من وحده. وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
وقال
مجاهد: (
فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ ) أي:أول
من عبده ووحده وكذبكم.
وقال
البخاري: (
فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ ) الآنفين.
وهما لغتان، رجل عابد وعبد .
والأول
أقرب على أنه شرط وجزاء، ولكن هو ممتنع.
وقال
السدي [ في
قوله ] ( قُلْ إِنْ كَانَ
لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ ) يقول:لو كان له ولد كنت أول
من عبده، بأن له ولدا، لكن لا ولد له. وهو اختيار ابن جرير، وردّ قول من زعم أن « إن » نافية.
ولهذا
قال: (
سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ) أي:تعالى وتقدس وتنـزه خالق
الأشياء عن أن يكون له ولد، فإنه فرد أحد صمد، لا نظير له ولا كفء له، فلا ولد له.
وقوله: ( فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا ) أي:في جهلهم وضلالهم ( وَيَلْعَبُوا ) في دنياهم ( حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ
الَّذِي يُوعَدُونَ ) وهو
يوم القيامة، أي:فسوف يعلمون كيف يكون مصيرهم، ومآلهم، وحالهم في ذلك اليوم.
وقوله: ( وَهُوَ الَّذِي فِي
السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأرْضِ إِلَهٌ ) أي:هو إله من في السماء، وإله من في الأرض، يعبده أهلهما،
وكلهم خاضعون له، أذلاء بين يديه، ( وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ )
وهذه
الآية كقوله تعالى: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ
سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ [ الأنعام:3 ] أي:هو المدعو الله في السموات
والأرض.
( وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ
مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ) أي:هو خالقهما ومالكهما
والمتصرف فيهما، بلا مدافعة ولا ممانعة، فسبحانه وتعالى عن الولد، وتبارك:أي استقر
له السلامة من العيوب والنقائص؛ لأنه الرب العلي العظيم، المالك للأشياء، الذي
بيده أزمة الأمور نقضا وإبراما، (
وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ) أي:لا
يجليها لوقتها إلا هو، (
وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ )
أي:فيجازي كلا بعمله، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
ثم قال
تعالى: ( وَلا
يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ) أي:من الأصنام والأوثان ( الشَّفَاعَةَ ) أي:لا يقدرون على الشفاعة لهم، ( إِلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ
وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) هذا
استثناء منقطع، أي:لكن من شهد بالحق على بصيرة وعلم، فإنه تنفع شفاعته عنده بإذنه
له.
ثم قال:
(
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ
)
أي:ولئن سألت هؤلاء المشركين بالله العابدين معه غيره ( مَنْ خَلَقَهُمْ
لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ) أي:هم
يعترفون أنه الخالق للأشياء جميعها، وحده لا شريك له في ذلك، ومع هذا يعبدون معه
غيره، ممن لا يملك شيئا ولا يقدر على شيء، فهم في ذلك في غاية الجهل والسفاهة
وسخافة العقل؛ ولهذا قال: (
فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ )
وقوله: ( وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ
هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ )
أي:وقال:محمد:قيله، أي:شكا إلى ربه شكواه من قومه الذين كذبوه، فقال:يا رب، إن
هؤلاء قوم لا يؤمنون، كما أخبر تعالى في الآية الأخرى: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا
رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا [ الفرقان:30 ] وهذا الذي قلناه هو [ معنى ] قول ابن مسعود، ومجاهد،
وقتادة، وعليه فسر ابن جرير .
قال
البخاري:وقرأ عبد الله - يعني ابن مسعود- : « وقال الرسول يا رب » .
وقال
مجاهد في قوله: (
وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ ) ، قال:فأبر الله قول محمد.
وقال
قتادة:هو قول نبيكم صلى الله عليه وسلم يشكو قومه إلى ربه عز وجل.
ثم حكى ابن
جرير في قوله: (
وَقِيلِهِ يَا رَبِّ )
قراءتين، إحداهما النصب، ولها توجيهان:أحدهما أنه معطوف على قوله: نَسْمَعُ
سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ [
الزخرف:80 ]
والثاني:أن يقدر فعل، وقال:قيلَه. والثانية:الخفض، وقيلِهِ، عطفا على قوله: ( وَعِنْدَهُ عِلْمُ
السَّاعَةِ )
تقديره:وعِلم قيله.
وقوله: ( فَاصْفَحْ عَنْهُمْ ) أي:المشركين، ( وَقُلْ سَلامٌ ) أي:لا تجاوبهم بمثل ما
يخاطبونك به من الكلام السيئ، ولكن تألفهم واصفح عنهم فعلا وقولا ( فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ) ، هذا تهديد منه تعالى لهم،
ولهذا أحل بهم بأسه الذي لا يرد، وأعلى دينه وكلمته، وشرع بعد ذلك الجهاد والجلاد،
حتى دخل الناس في دين الله أفواجا، وانتشر الإسلام في المشارق والمغارب.
آخر
تفسير سورة الزخرف