تفسير سورة الذاريات
وهي
مكية.
بسم الله الرحمن الرحيم
وَالذَّارِيَاتِ
ذَرْوًا ( 1 ) فَالْحَامِلاتِ
وِقْرًا ( 2 )
فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا ( 3 )
فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا ( 4 )
إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ ( 5 )
وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ ( 6 )
قال شعبة بن الحجاج، عن سِمَاك،
عن خالد بن عَرْعَرَة أنه سمع عليا وشعبة أيضًا، عن القاسم بن أبي بزَّة، عن أبي
الطُّفَيْل، سمع عليًا. وثبت أيضًا من غير وجه، عن أمير المؤمنين علي بن أبي
طالب:أنه صعد منبر الكوفة فقال:لا تسألوني عن آية في كتاب الله، ولا عن سنة عن
رسول الله، إلا أنبأتكم بذلك. فقام إليه ابن الكواء فقال:يا أمير المؤمنين، ما
معنى قوله تعالى: ( وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا ) ؟
قال:الريح [ قال ] : (
فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا ) ؟ قال:السحاب. [ قال
] : ( فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا ) ؟
قال:السفن. [ قال ] : (
فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا ) ؟ قال:الملائكة .
وقد روي في ذلك حديث مرفوع،
فقال الحافظ أبو بكر البزار:حدثنا إبراهيم بن هانئ، حدثنا سعيد بن سلام العطار،
حدثنا أبو بكر بن أبي سَبْرَة، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب قال:جاء صَبِيغ
التميمي إلى عمر بن الخطاب فقال:يا أمير المؤمنين، أخبرني عن (
الذَّارِيَاتِ ذَرْوًا ) ؟ فقال:هي الرياح، ولولا أنى
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله ما قلته. قال:فأخبرني عن (
الْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا ) قال:هي الملائكة، ولولا أني
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله ما قلته. قال:فأخبرني عن (
الْجَارِيَاتِ يُسْرًا ) قال:هي السفن، ولولا أني سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله ما قلته. ثم أمر به فضرب مائة، وجعل في بيت،
فلما برأ [ دعا به و ] ضربه
مائة أخرى، وحمله على قَتَب، وكتب إلى أبي موسى الأشعري:امنع الناس من مجالسته.
فلم يزل كذلك حتى أتى أبا موسى فحلف بالأيمان الغليظة ما يجد في نفسه مما كان يجد
شيئا. فكتب في ذلك إلى عمر، فكتب عمر:ما إخاله إلا صدق، فخل بينه وبين مجالسة
الناس.
قال أبو بكر البزار:فأبو بكر بن
أبي سبرة لين، وسعيد بن سلام ليس من أصحاب الحديث .
قلت:فهذا الحديث ضعيف رفعه،
وأقرب ما فيه أنه موقوف على عمر، فإن قصة صَبِيغ بن عسل مشهورة مع عمر ، وإنما
ضربه لأنه ظهر له من أمره فيما يسأل تعنتا وعنادا، والله أعلم.
وقد ذكر الحافظ ابن عساكر هذه
القصة في ترجمة صبيغ مطولة . وهكذا فسرها ابن عباس، وابن عمر، ومجاهد، وسعيد بن
جبير، والحسن، وقتادة، والسدي، وغير واحد. ولم يحك ابن جرير وابن أبي حاتم غير
ذلك.
وقد قيل:إن المراد بالذاريات:الريح
كما تقدم وبالحاملات وقرًا:السحاب كما تقدم؛ لأنها تحمل الماء، كما قال زيد بن
عمرو بن نفيل:
وَأسْــلَمْتُ
نَفْســي لمَــنْ أسْـلَمَتْ لَــهُ المــزْنُ تَحْــمِلُ عَذْبـا زُلالا
فأما الجاريات يسرًا، فالمشهور عن
الجمهور - كما تقدم- :أنها السفن، تجري ميسرة في الماء جريا سهلا. وقال بعضهم:هي
النجوم تجري يسرا في أفلاكها، ليكون ذلك ترقيا من الأدنى إلى الأعلى، إلى ما هو
أعلى منه، فالرياح فوقها السحاب، والنجوم فوق ذلك، والمقسمات أمرا الملائكة فوق
ذلك، تنـزل بأوامر الله الشرعية والكونية. وهذا قسم من الله عز جل على وقوع
المعاد؛ ولهذا قال: ( إِنَّمَا تُوعَدُونَ
لَصَادِقٌ ) أي:لخبر صدق، (
وَإِنَّ الدِّينَ ) ، وهو:الحساب ( لواقع
) أي:لكائن لا محالة.
وَالسَّمَاءِ
ذَاتِ الْحُبُكِ ( 7 )
إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ ( 8 )
يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ ( 9 )
قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ ( 10 )
الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ ( 11 )
يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ ( 12 )
يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ( 13 )
ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ( 14 )
ثم قال:
( وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ ) قال
ابن عباس:ذات البهاء والجمال والحسن والاستواء. وكذا قال مجاهد، وعكرمة، وسعيد بن
جُبَيْر، وأبو مالك ، وأبو صالح، والسدي، وقتادة، وعطية العوفي، والربيع بن أنس،
وغيرهم.
وقال
الضحاك، والمِنْهَال بن عمرو، وغيرهما:مثل تجعد الماء والرمل والزرع إذا ضربته
الريح، فينسج بعضه بعضا طرائق [ طرائق ] ، فذلك
الحبك.
قال ابن
جرير:حدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن عُلَيَّة، حدثنا أيوب، عن أبي قلابة، عن
رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أنه
قال: « إن من ورائكم الكذاب المضل، وإن رأسه من ورائه حُبُك حُبُك
» يعني بالحبك:الجعودة .
وعن أبي
صالح: ( ذَاتِ الْحُبُكِ )
:الشدة. وقال خصيف: ( ذَاتِ الْحُبُكِ ) :ذات
الصفافة. وقال الحسن بن أبي الحسن البصري: ( ذَاتِ
الْحُبُكِ ) :حبكت بالنجوم.
وقال
قتادة:عن سالم بن أبي الجَعْد، عن مَعْدان بن أبي طلحة، عن عمرو البكالي، عن عبد
الله بن عمرو: ( وَالسَّمَاءِ ذَاتِ
الْحُبُكِ ) :يعني:السماء السابعة.
وكأنه -
والله أعلم- أراد بذلك السماء التي فيها الكواكب الثابتة، وهي عند كثير من علماء
الهيئة في الفلك الثامن الذي فوق السابع، والله أعلم. وكل هذه الأقوال ترجع إلى
شيء واحد، وهو الحسن والبهاء، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما ، فإنها من حسنها
مرتفعة شفافة صفيقة، شديدة البناء، متسعة الأرجاء، أنيقة البهاء، مكللة بالنجوم
الثوابت والسيارات، موشحة بالشمس والقمر والكواكب الزاهرات.
وقوله: (
إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ )
أي:إنكم أيها المشركون المكذبون للرسل لفي قول مختلف مضطرب، لا يلتئم ولا يجتمع.
وقال
قتادة:إنكم لفي قول مختلف، [ يعني ] ما بين
مصدق بالقرآن ومكذب به.
( يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ
) أي:إنما يروج على من هو ضال في نفسه؛ لأنه قول باطل إنما
ينقاد له ويضل بسببه ويؤفك عنه من هو مأفوك ضال غَمْر، لا فهم له، كما قال تعالى:
فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ * مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ * إِلا مَنْ
هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ [ الصافات:161 - 163 ] .
قال ابن عباس،
والسدي: ( يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ ) :يضل
عنه من ضل. وقال مجاهد: ( يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ
) يؤفن عنه من أفن. وقال الحسن البصري:يصرف عن هذا القرآن من
كذب به.
وقوله: (
قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ ) قال مجاهد:الكذابون. قال:وهي
مثل التي في عبس: قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ [
عبس:17 ] ، والخراصون الذين يقولون لا نبعث ولا يوقنون.
وقال علي
بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ ) أي:لعن
المرتابون.
وهكذا
كان معاذ، رضي الله عنه، يقول في خطبه:هلك المرتابون. وقال قتادة:الخراصون أهل
الغرة والظنون.
وقوله: (
الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ ) :قال
ابن عباس وغير واحد:في الكفر والشك غافلون لاهون.
(
يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ ) :وإنما
يقولون هذا تكذيبا وعنادا وشكا واستبعادا. قال الله تعالى: (
يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ) .
قال ابن
عباس، ومجاهد، والحسن، وغير واحد: (
يفتنون ) :يعذبون [ قال مجاهد ] :كما
يفتن الذهب على النار.
وقال
جماعة آخرون كمجاهد أيضا، وعكرمة، وإبراهيم النَّخَعِي، وزيد بن أسلم، وسفيان
الثوري: ( يفتنون ) :يحرقون.
(
ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ ) :قال مجاهد:حريقكم. وقال
غيره:عذابكم. ( هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ
تَسْتَعْجِلُونَ ) :أي:يقال لهم ذلك تقريعًا
وتوبيخًا وتحقيرًا وتصغيرًا.
إِنَّ
الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ( 15 )
آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ ( 16 ) كَانُوا
قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ( 17 )
وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ( 18 )
وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ( 19 )
وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ ( 20 )
وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ ( 21 )
وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ( 22 )
فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ
تَنْطِقُونَ ( 23 )
يقول
تعالى مخبرا عن المتقين لله، عز وجل:إنهم يوم معادهم يكونون في جنات وعيون، بخلاف
ما تَنْطِقُونَ قياء فيه من العذاب والنكال، والحريق والأغلال.
وقوله: (
آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ ) :قال
ابن جرير:أي عاملين بما آتاهم الله من الفرائض. (
إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ ) أي:قبل
أن يفرض عليهم الفرائض. كانوا محسنين في الأعمال أيضا. ثم روى عن ابن حميد، حدثنا
مهْرَان، عن سفيان، عن أبي عمر، عن مسلم البطين، عن ابن عباس في قوله: (
آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ ) قال:من
الفرائض، ( إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ ) :قبل
الفرائض يعملون. وهذا الإسناد ضعيف، ولا يصح عن ابن عباس. وقد رواه عثمان بن أبي
شيبة، عن معاوية بن هشام، عن سفيان، عن أبي عمر البزار، عن مسلم البطين، عن سعيد
بن جبير، عن ابن عباس، فذكره. والذي فسر به ابن جرير فيه نظر؛ لأن قوله: (
آَخِذِينَ ) حال من قوله: ( فِي
جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ) :فالمتقون في حال كونهم في الجنات
والعيون آخذون ما آتاهم ربهم ، أي:من النعيم والسرور والغبطة.
وقوله :
( إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ ) أي:في
الدار الدنيا ( محسنين ) ،
كقوله: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ
الْخَالِيَةِ [ الحاقة:24 ] ثم إنه
تعالى بَيَّن إحسانهم في العمل فقال: (
كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ) ،
اختلف المفسرون في ذلك على قولين:
أحدهما:أن
« ما » نافية، تقديره:كانوا قليلا من
الليل لا يهجعونه. قال ابن عباس:لم تكن تمضي عليهم ليلة إلا يأخذون منها ولو شيئا.
وقال قتادة، عن مطرف بن عبد الله:قلَّ ليلة تأتي عليهم لا يصلون فيها لله، عز وجل،
إما من أولها وإما من أوسطها. وقال مجاهد:قلَّ ما يرقدون ليلة حتى الصباح لا
يتهجدون. وكذا قال قتادة. وقال أنس بن مالك، وأبو العالية:كانوا يصلون بين المغرب
والعشاء. وقال أبو جعفر الباقر، كانوا لا ينامون حتى يصلوا العتمة.
والقول
الثاني:أن « ما » مصدرية، تقديره:كانوا قليلا من
الليل هجوعهم ونومهم. واختاره ابن جرير. وقال الحسن البصري: (
كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ) :كابدوا
قيام الليل، فلا ينامون من الليل إلا أقله، ونشطوا فمدوا إلى السحر، حتى كان
الاستغفار بسحر. وقال قتادة:قال الأحنف بن قيس: (
كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ) :كانوا
لا ينامون إلا قليلا ثم يقول:لست من أهل هذه الآية. وقال الحسن البصري:كان الأحنف
بن قيس يقول:عرضت عملي على عمل أهل الجنة، فإذا قوم قد باينونا بونًا بعيدا، إذا
قوم لا نبلغ أعمالهم، كانوا قليلا من الليل ما يهجعون. وعرضت عملي على عمل أهل
النار فإذا قوم لا خير فيهم يكذبون بكتاب الله وبرسل الله، يكذبون بالبعث بعد
الموت، فوجدت من خيرنا منـزلة قومًا خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا.
وقال عبد
الرحمن بن زيد بن أسلم:قال رجل من بني تميم لأبي:يا أبا أسامة، صفة لا أجدها فينا،
ذكر الله قوما فقال: ( كَانُوا قَلِيلا مِنَ
اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ) ، ونحن والله قليلا من الليل
ما نقوم. فقال له أبي:طوبى لمن رقد إذا نعس، واتقى الله إذا استيقظ.
وقال عبد
الله بن سلام:لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، انجفل الناس إليه،
فكنت فيمن انجفل. فلما رأيت وجهه عرفت أن وجهه ليس بوجه رَجُل كذاب، فكان أول ما
سمعته يقول: « يا أيها الناس، أطعموا الطعام، وصِلُوا الأرحام، وأفشوا
السلام، وصَلُّوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام » .
وقال
الإمام أحمد:حدثنا حسن بن موسى، حدثنا ابن لَهِيعة، حدثني حيي بن عبد الله، عن أبي
عبد الرحمن الحُبُلى، عن عبد الله بن عمرو؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إن في
الجنة غرفا يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها » . فقال
أبو موسى الأشعري:لمن هي يا رسول الله؟ قال: « لمن
ألان الكلام، وأطعم الطعام، وبات لله قائما، والناس نيام » .
وقال
مَعْمَر في قوله: ( كَانُوا قَلِيلا مِنَ
اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ) :كان الزهري والحسن يقولان:
كانوا كثيرا من الليل ما يصلون.
وقال ابن
عباس، وإبراهيم النَّخَعِي: ( كَانُوا قَلِيلا مِنَ
اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ) :ما ينامون.
وقال
الضحاك: ( إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا
قَلِيلا ) ثم ابتدأ فقال: ( مِنَ
اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) .
وقوله عز
وجل: ( وَبِالأسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) . قال
مجاهد، وغير واحد:يصلون. وقال آخرون:قاموا الليل، وأخروا الاستغفار إلى الأسحار.
كما قال تعالى: وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ [ آل
عمران:17 ] ، فإن كان الاستغفار في صلاة فهو أحسن. وقد ثبت في الصحاح
وغيرها عن جماعة من الصحابة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « إن
الله ينـزل كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير، فيقول:هل من تائب
فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من سائل فيعطى سؤله؟ حتى يطلع الفجر » .
وقال
كثير من المفسرين في قوله تعالى إخبارا عن يعقوب:أنه قال لبنيه: سَوْفَ
أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي [ يوسف 98 ]
قالوا:أخرهم إلى وقت السحر.
وقوله: ( وَفِي
أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ) :لما
وصفهم بالصلاة ثنى بوصفهم بالزكاة والبر والصلة، فقال: ( وَفِي
أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ ) أي:جزء مقسوم قد أفرزوه (
لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ) ، أما السائل فمعروف، وهو
الذي يبتدئ بالسؤال، وله حق، كما قال الإمام أحمد:
حدثنا
وَكِيع وعبد الرحمن قالا حدثنا سفيان، عن مصعب بن محمد، عن يعلى بن أبي يحيى، عن
فاطمة بنت الحسين، عن أبيها الحسين بن علي قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « للسائل
حق وإن جاء على فرس » .
ورواه
أبو داود من حديث سفيان الثوري، به ثم أسنده من وجه آخر عن علي بن أبي طالب . وروي
من حديث الهِرْماس بن زياد مرفوعا .
وأما (
المحروم ) ، فقال ابن عباس، ومجاهد:هو المحارف الذي ليس له في الإسلام
سهم. يعني:لا سهم له في بيت المال، ولا كسب له، ولا حرفة يتقوت منها.
وقالت أم
المؤمنين عائشة:هو المحارَف الذي لا يكاد يتيسر له مكسبه. وقال الضحاك:هو الذي لا
يكون له مال إلا ذهب، قضى الله له ذلك.
وقال أبو
قِلابَة:جاء سيل باليمامة فذهب بمال رجل، فقال رجل من الصحابة:هذا المحروم.
وقال ابن
عباس أيضا، وسعيد بن المسيَّب، وإبراهيم النخعي، ونافع - مولى ابن عمر- وعطاء بن
أبي رباح ( المحروم ) :المحارف.
وقال
قتادة، والزهري: ( الْمَحْرُوم ) :الذي
لا يسأل الناس شيئا، قال الزهري وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ليس
المسكين بالطوَّاف الذي ترده اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين
الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يُفطن له فيتصدق عليه » .
وهذا
الحديث قد أسنده الشيخان في صحيحيهما من وجه آخر .
وقال
سعيد بن جبير:هو الذي يجيء وقد قُسِّم المغنم، فيرضخ له.
وقال
محمد بن إسحاق:حدثني بعض أصحابنا قال:كنا مع عمر بن عبد العزيز في طريق مكة فجاء
كلب فانتزع عمر كتف شاة فرمى بها إليه، وقال:يقولون:إنه المحروم.
وقال
الشعبي:أعياني أن أعلم ما المحروم.
واختار
ابن جرير أن المحروم: [ هو ] الذي
لا مال له بأي سبب كان، قد ذهب ماله، سواء كان لا يقدر على الكسب، أو قد هلك ماله
أو نحوه بآفة أو نحوها.
وقال
الثوري، عن قيس بن مسلم، عن الحسن بن محمد؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث
سرية فغنموا، فجاء قوم لم يشهدوا الغنيمة فنـزلت هذه الآية: ( وَفِي
أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ) .
وهذا
يقتضي أن هذه مدنية، وليس كذلك، بل هي مكية شاملة لما بعدها.
وقوله: ( وَفِي
الأرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ ) أي:فيها من الآيات الدالة على
عظمة خالقها وقدرته الباهرة، مما قد ذرأ فيها من صنوف النبات والحيوانات، والمهاد
والجبال، والقفار والأنهار والبحار، واختلاف ألسنة الناس وألوانهم، وما جبلوا عليه
من الإرادات والقوى، وما بينهم من التفاوت في العقول والفهوم والحركات، والسعادة
والشقاوة، وما في تركيبهم من الحكم في وضع كل عضو من أعضائهم في المحل الذي هو
محتاج إليه فيه؛ ولهذا قال: ( وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا
تُبْصِرُونَ ) :قال قتادة:من تفكر في خلق نفسه عرف أنه إنما خلق ولينت
مفاصله للعبادة.
ثم قال:
( وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ )
يعني:المطر، ( وَمَا تُوعَدُونَ ) يعني:الجنة.
قاله ابن عباس، ومجاهد وغير واحد.
وقال
سفيان الثوري:قرأ واصل الأحدب هذه الآية: ( وَفِي
السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ )
فقال:ألا إني أرى رزقي في السماء، وأنا أطلبه في الأرض؟ فدخل خربة فمكث [
فيها ] ثلاثا لا يصيب شيئا، فلما أن كان في اليوم الثالث إذا هو
بِدَوْخَلَة من رطب، وكان له أخ أحسن نية منه، فدخل معه فصارتا دوخلتين، فلم يزل
ذلك دأبهما حتى فرق الموت بينهما .
وقوله: (
فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ
) يقسم تعالى بنفسه الكريمة أن ما وعدهم به من أمر القيامة
والبعث والجزاء، كائن لا محالة، وهو حق لا مرية فيه، فلا تشكوا فيه كما لا تشكوا
في نطقكم حين تنطقون. وكان معاذ، رضي الله عنه، إذا حدث بالشيء يقول لصاحبه:إن هذا
لحق كما أنك هاهنا.
قال مسدد،
عن ابن أبي عَدِيّ، عن عَوْف، عن الحسن البصري قال:بلغني أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: « قاتل الله أقوامًا أقسم لهم
ربهم ثم لم يصدقوا » .
ورواه
ابن جرير، عن بُنْدَار، عن ابن أبي عدي، عن عوف، عن الحسن، فذكره مرسلا .
هَلْ
أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ ( 24 ) إِذْ
دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ ( 25 )
فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ ( 26 )
فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ ( 27 )
فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ ( 28 )
فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ
عَقِيمٌ ( 29 )
قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ( 30 )
هذه القصة قد تقدمت في سورة « هود » و « الحجر
» أيضا. وقوله: ( هَلْ
أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ )
أي:الذين أرصد لهم الكرامة. وقد ذهب الإمام أحمد وطائفة من العلماء إلى وجوب
الضيافة للنـزيل، وقد وردت السنة بذلك كما هو ظاهر التنـزيل.
وقوله: (
قَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ ) :الرفع أقوى وأثبت من النصب،
فرده أفضل من التسليم؛ ولهذا قال تعالى: وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا
بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا [
النساء:86 ] ، فالخليل اختار الأفضل.
وقوله: (
قَوْمٌ مُنْكَرُونَ ) :وذلك أن الملائكة وهم:جبريل
وإسرافيل وميكائيل قدموا عليه في صور شبان حسان عليهم مهابة عظيمة؛ ولهذا قال: (
قَوْمٌ مُنْكَرُونَ ) .
وقوله: (
فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ ) أي:انسل خفية في سرعة، (
فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ ) أي:من خيار ماله. وفي الآية
الأخرى: فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ [
هود:69 ] أي:مشوي على الرَّضف، (
فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ ) أي:أدناه منهم، ( قَالَ
أَلا تَأْكُلُونَ ) :تلطف في العبارة وعرض حسن.
وهذه الآية انتظمت آداب
الضيافة؛ فإنه جاء بطعامه من حيث لا يشعرون بسرعة، ولم يمتن عليهم أولا فقال: « نأتيكم
بطعام؟ » بل جاء به بسرعة وخفاء، وأتى بأفضل ما وجد من ماله، وهو عجل
فتي سمين مشوي، فقربه إليهم، لم يضعه، وقال:اقتربوا، بل وضعه بين أيديهم، ولم
يأمرهم أمرا يشق على سامعه بصيغة الجزم، بل قال: ( أَلا
تَأْكُلُونَ ) على سبيل العرض والتلطف، كما يقول القائل اليوم:إن رأيت أن
تتفضل وتحسن وتتصدق، فافعل .
وقوله: (
فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً ) :هذا محال على ما تقدم في
القصة في السورة الأخرى، وهو قوله: فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ
إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ إِنَّا
أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ * وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ [
هود:70 ، 71 ] أي:استبشرت بهلاكهم؛ لتمردهم وعتوهم على الله، فعند ذلك
بشرتها الملائكة ( بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ
إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ) . (
قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ
هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ
اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ) [ هود
72 ، 73 ] ؛ ولهذا قال هاهنا: (
وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ ) ، فالبشارة له هي بشارة لها؛
لأن الولد منهما، فكل منهما بشر به.
وقوله: (
فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ ) أي:في
صرخة عظيمة ورنة، قاله ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وأبو صالح، والضحاك، وزيد بن
أسلم والثوري والسدي وهي قولها: يَا وَيْلَتَى (
فَصَكَّتْ وَجْهَهَا ) أي:ضربت بيدها على جبينها،
قاله مجاهد وابن سابط.
وقال ابن عباس:لطمت، أي تعجبا
كما تتعجب النساء من الأمر الغريب، (
وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ ) أي:كيف ألد وأنا عجوز [
عقيم ] ، وقد كنتُ في حال الصبا عقيما لا أحبل؟.
(
قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ )
أي:عليم بما تستحقون من الكرامة، حكيم في أقواله وأفعاله.
قَالَ
فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ ( 31 )
قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ ( 32 )
لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ ( 33 )
مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ ( 34 )
فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ( 35 )
فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ( 36 )
وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الأَلِيمَ ( 37 )
قال الله
مخبرا عن إبراهيم، عليه السلام: فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ
وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ * إِنَّ إِبْرَاهِيمَ
لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ * يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ
جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ [
هود:74 - 76 ] .
وقال
هاهنا: ( قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ ) أي:ما
شأنكم وفيم جئتم؟.
( قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا
إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ ) يعنون قوم لوط.
( لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ
حِجَارَةً مِنْ طِينٍ* مُسَوَّمَةً ) أي:معلمة
( عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ )
أي:مكتتبة عنده بأسمائهم، كل حجر عليه اسم صاحبه، فقال في سورة العنكبوت: قَالَ
إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ
وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ [ العنكبوت:32
] .وقال هاهنا: (
فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) ، وهم
لوط وأهل بيته إلا امرأته.
( فَمَا
وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) احتج
بهذه [ الآية ] من ذهب إلى رأي المعتزلة، ممن
لا يفرق بين مسمى الإيمان والإسلام؛ لأنه أطلق عليهم المؤمنين والمسلمين. وهذا
الاستدلال ضعيف؛ لأن هؤلاء كانوا قوما مؤمنين، وعندنا أن كل مؤمن مسلم لا ينعكس،
فاتفق الاسمان هاهنا لخصوصية الحال، ولا يلزم ذلك في كل حال.
وقوله: (
وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الألِيمَ )
أي:جعلناها عبرة، لما أنـزلنا بهم من العذاب والنكال وحجارة السجيل، وجعلنا محلتهم
بحيرة منتنة خبيثة، ففي ذلك عبرة للمؤمنين، (
لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الألِيمَ )
وَفِي
مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ( 38 )
فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ( 39 )
فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ ( 40 )
وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ ( 41 ) مَا
تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ ( 42 )
وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ ( 43 )
فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ
( 44 )
فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ ( 45 )
وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ( 46 )
يقول
تعالى: ( وَفِي مُوسَى ) [ آية
] ( إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى
فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ) أي:بدليل باهر وحجة قاطعة، (
فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ ) أي:فأعرض فرعون عما جاءه به موسى
من الحق المبين، استكبارا وعنادا.
وقال
مجاهد:تعزز بأصحابه. وقال قتادة:غلب عدُو الله على قومه. وقال ابن زيد: (
فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ ) أي:بجموعه التي معه، ثم قرأ:
لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ [
هود:80 ] .
والمعنى
الأول قوي كقوله: ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [
الحج:9 ] أي:معرض عن الحق مستكبر، (
وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ) أي:لا يخلو أمرك فيما جئتني
به من أن تكون ساحرا، أو مجنونا.
قال الله
تعالى: ( فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ )
أي:ألقيناهم في اليم، وهو البحر، (
وَهُوَ مُلِيمٌ ) أي:وهو ملوم كافر جاحد فاجر
معاند.
ثم قال:
( وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ
الْعَقِيمَ ) أي:المفسدة التي لا تنتج شيئا. قاله الضحاك، وقتادة،
وغيرهما.
ولهذا
قال: ( مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ ) أي:مما
تفسده الريح ( إِلا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ )
أي:كالشيء الهالك البالي.
وقد قال
ابن أبي حاتم:حدثنا أبو عبيد الله بن أخي ابن وهب، حدثنا عمي عبد الله بن وهب،
حدثني عبد الله - يعني:ابن عياش - القتباني، حدثني عبد الله بن سليمان، عن دراج، عن
عيسى بن هلال الصَّدَفِي، عن عبد الله بن عمرو قال:قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: « الريح مسخرة من الثانية - يعني من الأرض الثانية- فلما أراد
الله أن يهلك عادًا أمر خازن الريح أن يرسل عليهم ريحا تهلك عادا، قال:أي رَبَ،
أرسل عليهم [ من ] الريح قدر منخر الثور؟ قال له
الجبار:لا إذًا تكفأ الأرض ومن عليها، ولكن أرسل [
عليهم ] بقدر خاتم. فهي التي يقول الله في كتابه: ( مَا
تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ ) »
هذا
الحديث رفعه منكر ، والأقرب أن يكون موقوفا على عبد الله بن عمرو، من زاملتيه
اللتين أصابهما يوم اليرموك، والله أعلم.
قال سعيد
بن المسيب وغيره في قوله: ( إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ
الرِّيحَ الْعَقِيمَ ) قالوا:هي الجنوب. وقد ثبت في
الصحيح من رواية شعبة، عن الحكم، عن مجاهد، عن ابن عباس قال:قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: « نصرت بالصّبا، وأهلكت عاد
بالدبور » .
( وَفِي
ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ ) قال
ابن جرير:يعني إلى وقت فناء آجالكم.
.
والظاهر
أن هذه كقوله: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى
الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ [
فصلت:17 ] .
وهكذا
قال هاهنا: ( وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ
* فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ
يَنْظُرُونَ ) ، وذلك أنهم انتظروا العذاب ثلاثة أيام وجاءهم في صبيحة
اليوم الرابع بُكْرَة النهار ( فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ
قِيَامٍ ) أي:من هَرَبٍ ولا نهوض، ( وَمَا
كَانُوا مُنْتَصِرِينَ ) أي:ولا يقدرون على أن ينتصروا
مما هم فيه.
وقوله: (
وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ ) أي:وأهلكنا قوم نوح من قبل
هؤلاء ( إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ) وكل
هذه القصص قد تقدمت مبسوطة في أماكن كثيرة، من سور متعددة.
وَالسَّمَاءَ
بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ( 47 )
وَالأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ ( 48 )
وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ( 49 )
فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ ( 50 ) وَلا
تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ ( 51 )
يقول تعالى منبها على خلق
العالم العلوي والسفلي: ( وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا )
أي:جعلناها سقفا [ محفوظا ] رفيعا
( بأيد ) أي:بقوة. قاله ابن عباس،
ومجاهد، وقتادة، والثوري، وغير واحد، (
وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ) ، أي:قد وسعنا أرجاءها
ورفعناها بغير عمد، حتى استقلت كما هي.
(
وَالأرْضَ فَرَشْنَاهَا ) أي:جعلناها فراشًا للمخلوقات،
( فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ ) أي:وجعلناها
مهدا لأهلها.
(
وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ )
أي:جميع المخلوقات أزواج:سماء وأرض، وليل ونهار، وشمس وقمر، وبر وبحر، وضياء
وظلام، وإيمان وكفر، وموت وحياة، وشقاء وسعادة، وجنة ونار، حتى الحيوانات [ جن
وإنس، ذكور وإناث ] والنباتات، ولهذا قال: (
لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) أي:لتعلموا أن الخالق واحدٌ
لا شريك له.
(
فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ ) أي:الجئوا إليه، واعتمدوا في
أموركم عليه، ( إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ
نَذِيرٌ مُبِينٌ ) .
( وَلا
تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ ) أي: [ و ] لا
تشركوا به شيئا، ( إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ
نَذِيرٌ مُبِينٌ ) .
كَذَلِكَ
مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ
مَجْنُونٌ ( 52 )
أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ( 53 )
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ ( 54 ) وَذَكِّرْ
فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ( 55 )
وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ ( 56 ) مَا
أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ ( 57 )
إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ( 58 ) فَإِنَّ
لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ
( 59 )
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ( 60 )
يقول
تعالى مسليا نبيه صلى الله عليه وسلم:وكما قال لك هؤلاء المشركون، قال المكذبون
الأولون لرسلهم: ( كَذَلِكَ مَا أَتَى
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ) !.
قال الله
تعالى: ( أَتَوَاصَوْا بِهِ )
أي:أوصى بعضُهم بعضا بهذه المقالة؟ « ( بَلْ
هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ) أي:لكن هم قوم طغاة، تشابهت قلوبهم،
فقال متأخرهم كما قال متقدمهم. »
قال الله
تعالى: ( فَتَوَلَّ عَنْهُمْ )
أي:فأعرض عنهم يا محمد، ( فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ )
يعني:فما نلومك على ذلك.
( وَذَكِّرْ فَإِنَّ
الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ )
أي:إنما تنتفع بها القلوب المؤمنة.
ثم قال:
( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ )
أي:إنما خلقتهم لآمرهم بعبادتي، لا لاحتياجي إليهم.
وقال علي
بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( إِلا لِيَعْبُدُونِ ) أي:إلا
ليقروا بعبادتي طوعا أو كرها وهذا اختيار ابن جرير.
وقال ابن
جُرَيْج:إلا ليعرفون. وقال الربيع بن أنس: ( إِلا
لِيَعْبُدُونِ ) أي:إلا للعبادة. وقال
السدي:من العبادة ما ينفع ومنها ما لا ينفع، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [
لقمان:25 ] هذا منهم عبادة، وليس ينفعهم مع الشرك. وقال الضحاك:المراد
بذلك المؤمنون.
وقوله: ( مَا
أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ
هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ) قال
الإمام أحمد:
حدثنا
يحيى بن آدم وأبو سعيد قالا حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن يزيد ،
عن عبد الله بن مسعود قال:أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إني
لأنا الرزاق ذو القوة المتين » .
ورواه
أبو داود، والترمذي، والنسائي، من حديث إسرائيل، وقال الترمذي:حسن صحيح .
ومعنى
الآية:أنه تعالى خلق العباد ليعبدوه وحده لا شريك له، فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء،
ومن عصاه عذبه أشد العذاب، وأخبر أنه غير محتاج إليهم، بل هم الفقراء إليه في جميع
أحوالهم، فهو خالقهم ورازقهم.
قال
الإمام أحمد:حدثنا محمد بن عبد الله، حدثنا عمران - يعني ابن زائدة بن نَشِيط- عن أبيه،
عن أبي خالد - هو الوالبي- عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:قال
الله: « يا ابن آدم، تَفَرَّغ لعبادتي أملأ صدرك غِنًى، وأسدّ فقرك،
وإلا تفعل ملأت صدرك شغلا ولم أسد فقرك » .
ورواه
الترمذي وابن ماجه، من حديث عمران بن زائدة، وقال الترمذي:حسن غريب .
وقد روى
الإمام أحمد عن وكيع وأبي معاوية، عن الأعمش، عن سلام أبي شُرحْبِيل، سمعت حَبَّة
وسواء ابني خالد يقولان:أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يعمل عملا أو يبني
بناء - وقال أبو معاوية:يصلح شيئا- فأعناه عليه، فلما فرغ دعا لنا وقال: « لا تيأسا
من الرزق ما تهززت رءوسكما، فإن الإنسان تلده أمه أحمر ليس عليه قشرة، ثم يعطيه
الله ويرزقه » . و [ قد ورد ] في بعض
الكتب الإلهية: « يقول الله تعالى:ابن آدم،
خلقتك لعبادتي فلا تلعب، وتكفلت برزقك فلا تتعب فاطلبني تجدني؛ فإن وجدتني وجدت كل
شيء، وإن فُتك فاتك كل شيء، وأنا أحب إليك من كل شيء » .
وقوله: (
فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا )
أي:نصيبا من العذاب، ( مِثْلَ ذَنُوبِ
أَصْحَابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ ) أي:فلا
يستعجلون ذلك، فإنه واقع [ بهم ] لا
محالة.
(
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ )
يعني:يوم القيامة.
آخر
تفسير سورة الذاريات