فهرس تفسير بن كثير للسور

59 - تفسير بن كثير سورة الحشر

التالي السابق

 

تفسير سورة الحشر

 

[ وكان ابن عباس يقول:سورة بني النضير ] .وهي مدنية.

قال سعيد بن منصور:حدثنا هُشَيم، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير قال:قلت لابن عباس:سورة الحشر؟ قال:أنـزلت في بني النضير. ورواه البخاري ومسلم من وجه آخر، عن هُشَيْم، به .ورواه البخاري من حديث أبي عَوانة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير قال:قلت لابن عباس:سورة الحشر؟ قال:قُل:سورة النَّضير

بسم الله الرحمن الرحيم

سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 1 ) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ ( 2 ) وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ ( 3 )

يخبر تعالى أن جميع ما في السموات وما في الأرض من شيء يسبح له ويمجده ويقدسه، ويصلي له ويوحده كقوله: تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ] [ الإسراء:44 ] . وقوله: ( وَهُوَ الْعَزِيزُ ) أي:منيع الجناب ( الْحَكِيمُ ) في قدره وشرعه.

وقوله: ( هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ) يعني:يهود بني النضير. قاله ابن عباس، ومجاهد، والزهري، وغير واحد:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة هادنهم وأعطاهم عهدًا وذمة، على ألا يقاتلهم ولا يقاتلوه، فنقضوا العهد الذي كان بينهم وبينه، فأحل الله بهم بأسه الذي لا مَرَدَّ له، وأنـزل عليهم قضاءه الذي لا يُصَدّ، فأجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم، وأخرجهم من حصونهم الحصينة التي ما طمع فيها المسلمون، وظنوا هم أنها مانعتهم من بأس الله، فما أغنى عنهم من الله شيئًا، وجاءهم ما لم يكن ببالهم، وسيّرهم رسول الله وأجلاهم من المدينة، فكان منهم طائفة ذهبوا إلى أذرعات من أعالي الشام، وهي أرض المحشر والمنشر، ومنهم طائفة ذهبوا إلى خيبر. وكان قد أنـزلهم منها على أن لهم ما حملت إبلهم، فكانوا يخربون ما في بيوتهم من المنقولات التي يمكن أن تحمل معهم؛ ولهذا قال: ( يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأبْصَارِ ) أي:تفكروا في عاقبة من خالف أمر الله وخالف رسوله، وكذب كتابه، كيف يحل به من بأسه المخزي له في الدنيا، مع ما يدخره له في الآخرة من العذاب الأليم.

قال أبو داود:حدثنا محمد بن داود وسفيان، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا مَعْمَر، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أن كفار قريش كتبوا إلى ابن أبي، ومن كان معه يعبد [ معه ] الأوثان من الأوس والخزرج، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ بالمدينة قبل وقعة بدر:إنكم آويتم صاحبنا، وإنا نقسم بالله لنقاتلنه، أو لتخرجنه، أو لنسيرن إليكم بأجمعنا، حتى نقتل مُقَاتلتكم ونستبيح نساءكم، فلما بلغ ذلك عبد الله بن أبي ومن كان معه من عبدة الأوثان، اجتمعوا لقتال النبي صلى الله عليه وسلم، فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم لقيهم، فقال: « لقد بلغ وعيد قريش منكم المبالغ، ما كانت تكيدكم بأكثر مما تريد أن تكيدوا به أنفسكم، تريدون أن تقاتلوا أبناءكم وإخوانكم؟ » ، فلما سمعوا ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم تفرقوا، فبلغ ذلك كفار قريش، فكتبت كفار قريش بعد وقعة بدر إلى اليهود:إنكم أهل الحلقة والحصون، وإنكم لتقاتلن مع صاحبنا أو لنفعلن كذا وكذا، ولا يحول بيننا وبين خدم نسائكم شيء - وهي الخلاخيل - فلما بلغ كتابهم النبي صلى الله عليه وسلم اجتمعت بنو النضير بالغدر، فأرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم:اخرج إلينا في ثلاثين رجلا من أصحابك ليخرج منا ثلاثون حبرًا، حتى نلتقي بمكان المنصف فيسمعوا منك، فإن صدقوك وآمنوا بك آمنا بك، فلما كان الغد غدا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم [ بالكتائب ] فحصرهم، قال لهم: « إنكم والله لا تأمنوا عندي إلا بعهد تعاهدوني عليه » . فأبوا أن يعطوه عهدًا، فقاتلهم يومهم ذلك، ثم غدا الغَد على بني قريظة بالكتائب، وترك بني النضير، ودعاهم إلى أن يعاهدوه، فعاهدوه، فانصرف عنهم. وغدا إلى بني النضير بالكتائب فقاتلهم، حتى نـزلوا على الجلاء. فجلت بنو النضير، واحتملوا ما أقلت الإبل من أمتعتهم وأبواب بيوتهم وخشبها، وكان نخل بني النضير لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة، أعطاه الله أياها وخصه بها، فقال: وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ يقول:بغير قتال، فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم أكثرها للمهاجرين، قسمها بينهم، وقسم منها لرجلين من الأنصار وكانا ذوي حاجة، ولم يقسم من الأنصار غيرهما، وبقي منها صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي في أيدي بني فاطمة .

ولنذكر ملخص غزوة بني النضير على وجه الاختصار، وبالله المستعان.

وكان سبب ذلك فيما ذكره أصحاب المغازي والسير:أنه لما قُتِل أصحابُ بئر معونة، من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا سبعين، وأفلت منهم عمرو بن أمية الضمري، فلما كان في أثناء الطريق راجعًا إلى المدينة قتل رجلين من بني عامر، وكان معهما عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمان لم يعلم به عمرو، فلما رجع أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لقد قتلت رجلين، لأدينَّهما » وكان بين بني النضير وبني عامر حلف وعهد، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني النضير يستعينهم في دية ذينك الرجلين، وكان منازل بني النضير ظاهر المدينة على أميال منها شرقيها.

قال محمد بن إسحاق بن يسار في كتابه السيرة:ثم خرج رسول الله إلى بني النضير، يستعينهم في دية ذينك القتيلين من بني عامر، اللذين قتل عمرو بن أمية الضمري؛ للجوار الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عقد لهما، فيما حدثني يزيد بن رُومان، وكان بين بني النضير وبني عامر عَقد وحلف. فلما أتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعينهم في دية ذينك القتيلين قالوا:نعم، يا أبا القاسم، نعينك على ما أحببت، مما استعنت بنا عليه. ثم خلا بعضهم ببعض فقالوا:إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه - ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنب جدار من بيوتهم- فَمَن رجل يعلو على هذا البيت، فيلقي عليه صخرة، فيريحنا منه؟ فانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب أحدُهم، فقال:أنا لذلك، فصعَدَ ليلقي عليه صخرة كما قال، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه، فيهم أبو بكر وعمر وعلي، رضي الله عنهم. فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء بما أراد القوم، فقام وخرج راجعًا إلى المدينة، فلما استلبث النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه قاموا في طلبه فلقوا رجلا مقبلا من المدينة، فسألوه عنه، فقال:رأيته داخلا المدينة. فأقبل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهوا إليه، فأخبرهم الخبر بما كانت يهود أرادت من الغدر به، وأمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالتهيؤ لحربهم والمسير إليهم. ثم سار حتى نـزل بهم فتحصنوا منه في الحصون، فأمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بقطع النخل والتَّحريق فيها. فنادوه:أن يا محمد، قد كنت تنهى عن الفساد وتعيبه على من صنعه، فما بال قطع النخل وتحريقها؟

وقد كان رهط من بني عوف بن الخزرج، منهم عبد الله بن أبي [ بن ] سلول، ووديعة، ومالك بن أبي قوقل وسُوَيد وداعس، قد بعثوا إلى بني النضير:أن اثبتوا وتَمَنَّعوا فإنا لن نسلمكم، إن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن أخرجتم خَرَجنا معكم فتربصوا ذلك من نصرهم، فلم يفعلوا، وقذف الله في قلوبهم الرعب، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجليهم ويكف عن دمائهم، على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا الحلقة، ففعل، فاحتملوا من أموالهم ما استقلت به الإبل، فكان الرجل منهم يهدم بيته عن نجاف بابه، فيضعه على ظهر بعيره فينطلق به. فخرجوا إلى خيبر، ومنهم من سار إلى الشام، وَخَلّوا الأموال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت لرسول الله خاصة يضعها حيث شاء، فقسمها على المهاجرين الأولين دون الأنصار. إلا أن سهل بن حُنَيف وأبا دُجانة سماك بن خَرشَة ذكرا فَقْرًا، فأعطاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال:ولم يسلم من بني النضير إلا رجلان:يامين بن عُمَير بن كعب بن عمرو بن جحاش، وأبو سعد بن وهب أسلما على أموالهما فأحرزاها.

قال:ابن إسحاق:قد حدثني بعض آل يامين:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ليامين: « ألم تر ما لقيتُ من ابن عمك، وما هم به من شأني » . فجعل يامين بن عُمَير لرجل جُعل علي أن يقتل عمرو بن جحاش، فقتله فيما يزعمون.

قال ابن إسحاق:ونـزل في بني النضير سورة الحشر بأسرها .

وهكذا روي يونس بن بُكَيْر، عن ابن إسحاق، بنحو ما تقدم .

فقوله: ( هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ) يعني:بني النضير ( مِنْ دِيَارِهِمْ لأوَّلِ الْحَشْرِ ) .

قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان، عن أبي سعد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال:من شك في أن أرض المحشر هاهنا - يعني الشام فَلْيَتْل هذه الآية: ( هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأوَّلِ الْحَشْرِ ) قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: « اخرجوا » . قالوا:إلى أين؟ قال: « إلى أرض المحشر » .

وحدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو أسامة، عن عوف، عن الحسن قال:لما أجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير، قال: « هذا أول الحشر، وأنا على الأثر » .

ورواه ابن جرير، عن بُنْدَار، عن ابن أبي عدي، عن عوف، عن الحسن، به .

وقوله: ( مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا ) أي:في مدة حصاركم لهم وقصَرها، وكانت ستة أيام، مع شدة حصونهم ومنعتها؛ ولهذا قال: ( وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا ) أي:جاءهم من أمر الله ما لم يكن لهم في بال، كما قال في الآية الأخرى: قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ [ النحل:26 ] .

وقوله: ( وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ) أي:الخوف والهَلَع والجَزَع، وكيف لا يحصل لهم ذلك وقد حاصرهم الذي نُصر بالرعب مسيرةَ شهر، صلوات الله وسلامه عليه.

وقوله: ( يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ ) قد تقدم تفسير ابن إسحاق لذلك، وهو نقض ما استحسنوه من سقوفهم وأبوابهم، وتَحملها على الإبل، وكذا قال عروة بن الزبير، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وغير واحد.

وقال مقاتل ابن حيان:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقاتلهم، فإذا ظهر على دَرْب أو دار، هدم حيطانها ليتسع المكان للقتال. وكان اليهود إذا علوا مكانًا أو غلبوا على درب أو دار، نقبوا من أدبارها ثم حصنوها ودربوها، يقول الله تعالى: ( فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأبْصَارِ ) .

وقوله: ( وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا ) أي:لولا أن كتب الله عليهم هذا الجلاء، وهو النفي من ديارهم وأموالهم، لكان لهم عند الله عذاب آخر من القتل والسبي، ونحو ذلك، قاله الزهري، عن عُرْوَة، والسُّدِّي وابن زيد؛ لأن الله قد كتب عليهم أنه سيعذبهم في الدار الدنيا مع ما أعد لهم في الآخرة من العذاب في نار جهنم.

قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن صالح - كاتب الليث- حدثني الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب قال:أخبرني عروة بن الزبير قال:ثم كانت وقعة بني النضير، وهم طائفة من اليهود، على رأس ستة أشهر من وقعة بدر. وكان منـزلهم بناحية من المدينة، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نـزلوا من الجلاء، وأن لهم ما أقَلَّت الإبل من الأموال والأمتعة إلا الحلقة، وهي السلاح، فأجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الشام. قال:والجلاء أنه كُتب عليهم في آي من التوراة، وكانوا من سبط لم يصبهم الجلاء قبل ما سلط عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنـزل الله فيهم: ( سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ ) إلى قوله وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ .

وقال عكرمة:الجلاء:القتل. وفي رواية عنه:الفناء.

وقال قتادة:الجلاء:خروج الناس من البلد إلى البلد.

وقال الضحاك:أجلاهم إلى الشام، وأعطى كل ثلاثة بعيرًا وسقاء، فهذا الجلاء.

وقد قال الحافظ أبو بكر البيهقي:أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا أحمد بن كامل القاضي، حدثنا محمد بن سعيد العوفي، حدثني أبي، عن عمي، حدثني أبي عن جدي، عن ابن عباس قال:كان النبي صلى الله عليه وسلم قد حاصرهم حتى بلغ منهم كل مَبْلَغ، فأعطوه ما أراد منهم، فصالحهم على أن يحقن لهم دمائهم، وأن يخرجهم من أرضهم ومن ديارهم وأوطانهم، وأن يسيرهم إلى أذرعات الشام، وجعل لكل ثلاثة منهم بعيرًا وسقاء، والجلاء إخراجهم من أرضهم إلى أرض أخرى

وروي أيضًا من حديث يعقوب بن محمد الزهري، عن إبراهيم بن جعفر بن محمود بن محمد بن مسلمة، عن أبيه، عن جده، عن محمد بن مسلمة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى بني النضير، وأمره أن يؤجلهم في الجلاء ثلاث ليال .

وقوله: ( وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ ) أي:حتم لازم لا بد لهم منه.

 

ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ( 4 ) مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ ( 5 )

وقوله: ( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ) أي:إنما فَعلَ الله بهم ذلك وسَلَّط عليهم رسوله وعباده المؤمنين؛ لأنهم خالفوا الله ورسوله، وكذبوا بما أنـزل الله على رسله المتقدمين في البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم، وهم يعرفون ذلك كما يعرفون أبناءهم، ثم قال: ( وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) .

وقوله تعالى: ( مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ ) اللين:نوع من التمر، وهو جيد.

قال:أبو عبيدة:وهو ما خالف العجوة والبَرْنِيّ من التمر.

وقال كثيرون من المفسرين:اللينة:ألوان التمر سوى العجوة.

قال:ابن جرير:هو جميع النخل. ونقله عن مجاهد:وهو البُوَيرة أيضًا؛ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حاصرهم أمر بقطع نخيلهم إهانة لهم، وإرهابًا وإرعابًا لقلوبهم. فروى محمد بن إسحاق عن يزيد بن رومان، وقتادة، ومقاتل بن حيان أنهم قالوا: [ فبعث بنو النضير ] يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم:إنك تنهى عن الفساد، فما بالك تأمر بقطع الأشجار؟ فأنـزل الله هذه الآية الكريمة، أي:ما قطعتم وما تركتم من الأشجار، فالجميع بإذن الله ومشيئته وقدرته ورضاه، وفيه نكاية بالعدو وخزي لهم، وإرغام لأنوفهم.

وقال مجاهد:نهى بعض المهاجرين بعضًا عن قطع النخل، وقالوا:إنما هي مغانم المسلمين. فنـزل القرآن بتصديق من نهى عن قطعه، وتحليل من قطعه من الإثم، وإنما قطعه وتركه بإذنه. وقد روي نحو هذا مرفوعًا، فقال النسائي:أخبرنا الحسن بن محمد، عن عفان، حدثنا حفص بن غياث، حدثنا حبيب بن أبي عمرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، في قوله: ( مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ ) قال:يستنـزلونهم من حصونهم وأمروا بقطع النخل، فحاك في صدورهم، فقال المسلمون:قطعنا بعضًا وتركنا بعضًا، فلنسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم:هل لنا فيما قطعنا من أجر؟ وهل علينا فيما تركنا من وزر؟ فأنـزل الله: ( مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ )

وقال الحافظ أبو يعلى في مسنده:حدثنا سفيان بن وَكِيع، حدثنا حفص، عن ابن جريج، عن سليمان بن موسى، عن جابر - وعن أبي الزبير، عن جابر- قال:رخص لهم في قطع النخل، ثم شدد عليهم فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا:يا رسول الله، علينا إثم فيما قطعنا؟ أو علينا وزر فيما تركنا؟ فأنـزل الله، عز وجل: ( مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ ) .

وقال الإمام أحمد:حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع نخل بني النضير وحَرّق.

وأخرجه صاحبا الصحيح من رواية موسى بن عقبة، بنحوه ولفظ البخاري من طريق عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر قال:حاربت النضيرُ وقريظة، فأجلى بني النضير وأقر قريظة ومَنّ عليهم حتى حاربت قريظة فقتل من رجالهم وقسم نساءهم وأولادهم وأموالهم بين المسلمين، إلا بعضهم لحقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم فأمَّنهم وأسلموا، وأجلى يهود المدينة كلهم بني قينقاع، وهم رهط عبد الله بن سلام، ويهود بني حارثة، وكلّ يهود بالمدينة.

ولهما أيضًا عن قتيبة، عن الليث بن سعد، عن نافع، عن ابن عمر:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حَرّق نخل بني النضير وقطع - وهي البُوَيرةُ- فأنـزل الله، عز وجل فيه: ( مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ ) .

وللبخاري، رحمه الله، من رواية جُوَيْرية بن أسماء عن نافع، عن عبد الله بن عمر؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حَرّق نخل بني النضير . ولها يقول حسان بن ثابت، رضي الله عنه:

وَهَــان عَــلى سَـراة بنـي لُـؤيّ حَـــريق بـــالبُوَيْرة مُسْــتَطيرُ

فأجابه أبو سفيان بن الحارث يقول:

أدَام اللــهُ ذلــكَ مــن صَنيــع وَحَــرّق فــي نَوَاحيهــا السَّـعير

سَـــتَعلم أيُّنــا منْهــا بِــنـزهٍ وَتَعْلـــمُ أيّ أرْضينَـــا نَضِــيرُ

كذا رواه البخاري ولم يذكره ابن إسحاق.

وقال محمد ابن إسحاق:وقال كعب بن مالك يذكر إجلاء بني النضير وقتل ابن الأشرف:

لَقَــــد خَــزيتبغَدْرَتِها الحُبُور كَــذَاكَ الدهـرُ ذو صَـرْف يَـدُورُ

وَذَلـــك أنَّهــم كفَــرُوا بِــرَبّ عَظيـــم أمــرُهُ أمــرٌ كَبِــيرُ

وقَــد أوتــوا معًـا فَهمًـا وعلمـا وَجَــاءهُمُ مــن اللــه النَّذيــرُ

نَذيــر صَــــادق أدّى كتــابا وآيــــات مُبَيَّنَــــةً تُنـــيرُ

فقـــال ما أتيت بــأمر صـدق وأنـــت بمنكــر منــا جَــديرُ

فقــال:بَــلى لقــد أديـتُ حقًـا يُصَــدّقني بــه الفَهــم الخَــبيرُ

فَمــن يَتْبعــه يُهــدَ لِكُـل رُشـد وَمَــن يَكفُــر بـه يُجـزَ الكَفُـورُ

فَلَمَّــا أْشــربُوا غَــدْرًا وكُفْــرًا وَجَــدّ بهــم عـن الحَـقّ النّفـورُ

أرَى اللــه النبـيّ بِــرَأي صـدْق وكــانَ اللــه يَحــكُم لا يَجُــورُ

فَــــأيَّدَهُ وَسَـــلَّطَه عَلَيهـــم وكــانَ نَصــيرهُ نعْـــم النَّصـيرُ

فَغُــودرَ منْهمُــو كَـعـب صريعًـا فَــذَلَّتْ بعــدَ مَصْرَعـة النَّضــيرُ

عَــلى الكَــفَّين ثــمَّ وقَـدْ عَلَتْـهُ بأيدينــــا مُشَـــهَّرة ذكُـــورُ

بـــأمْر مُحَـــمَّد إذ دَس لَيـــلا إلــى كَــعـب أخَـا كَـعب يَسـيرُ

فَمَـــا كَــرَه فَأنـزلَــه بِمَكْــر وَمحــمودُ أخُــو ثقَــة جَسُــورُ

فَتلْــك بَنُـو النَّضـير بـدار سَـوء أبَــارَهُمُ بمــا اجــترموا المُبـيرُ

غَــداة أتـاهُمُ فـي الزّحْـف رَهـوًا رَسُــولُ اللــه وَهـوَ بهـم بَصـيرُ

وَغَسَّـــانُ الحمـــاةُ مُــوازرُوه عَــلَى الأعـداء وهـو لهـم وَزيـرُ

فَقَــالَ:الســلم ويحــكمُ فَصَـدّوا وَحَــالفَ أمْـــرَهم كَــذبٌ وَزُورُ

فَذَاقُــوا غــبّ أمْــرهم دَبَــالا لكُـــلّ ثَلاثَـــة منهُــم بَعــيرُ

وَأجــلوا عَـــامدين لقَينُقَـــاع وَغُـــودرَ مِنْهُـــم نَخْــل ودُورُ

قال:وكان مما قيل من الأشعار في بني النضير قولُ ابن لُقَيم العَبْسيّ - ويقال:قالها قيس بن بحر بن طريف، قال ابن هشام الأشجعي:

أهــلي فـدَاءٌ لامـرئ غَـير هَـالك أحَــلّ اليهودَ بالحَسِـي المُزَنَّم

يَقيلُـونَ فـي جَـمْر الغَضـاة وبُدّلُـوا أهَيضــبَ عــودا بـالوَدي المُكَـمَّم

فــإن يَـكُ ظَنـي صَادقًـا بمُحَــمد يَـرَوا خَيلَـه بيـنَ الصّـلا وَيَرمْـرَم

يَـؤمّ بهـا عَمـرو بـنُ بُهثَـةَ إنَّهُـمْ عَـــدُو مـا حَـيّ صَـديق كمُجْـرم

عَلَيهـنّ أبطـالُ مَسـاعيرُ في الـوَغَى يَهُــزّونَ أطـرافَ الوَشـيج المُقَـوّم

وكُــلّ رَقيــق الشَّــفرتَين مُهَنَّـدٍ تُـورثْنَ مـن أزْمـان عـاد وَجُـرْهُمِ

فَمَــن مُبلـغٌ عَنـي قُرَيشًـا رسَـالة فَهَـلْ بَعـدَهُم فـي المجْـد من مُتَكرّم

بــأنّ أخــاكمُ فــاعلَمنّ مُحَــمَّدًا تَليـدُ النَّـدى بيـنَ الحَجُـون وزَمْـزَم

فَدينُـوا لـه بـالحقّ تَجْسُـمْ أمُـورُكم وتَسْـمُوا مـنَ الدنْيـا إلـى كُل مُعْظَم

نبــي تلافَتــه مـنَ اللـه رَحَمـةٌ ولا تَسْــألُوهُ أمْــرَ غَيـب مُرَجَّـم

فَقَـدْ كـانَ فـي بَـدْر لَعَمْـري عِبرَةٌ لَكُــم يـا قُـرَيش والقَليـب المُلَمَّـم

غَـدَاة أتَـى فـي الخَزْرَجيَّـةِ عـامِدًا إليكُــم مُطيعًــا للعَظيــمِ المُكَـرّم

مُعَانًـا بـرُوح القُـدْس يَنْكـي عَـدوه رَسُـولا مِـنَ الرّحـمن حَقّـا بِمَعْلـم

رَسُـولا مِـنَ الرّحـمن يَتْلُـو كِتابَـهُ فَلَمّــا أنــارَ الحَــقّ لـم يَتَلعْثَـم

أرَى أمْــرَهُ يَـزْدَادُ فـي كُـلّ مَوْطن عُلُــوّا لأمــرْ حَمَّـه اللـهُ مُحْـكَم

وقد أورد ابن إسحاق، رحمه الله، هاهنا أشعارًا كثيرة، فيها آداب ومواعظ وحكم، وتفاصيل للقصة، تركنا باقيها اختصارًا واكتفاء بما ذكرناه، ولله الحمد والمنة.

قال ابن إسحاق:كانت وقعة بني النضير بعد وقعة أحد وبعد بئر معونة. وحكى البخاري، عن الزهري، عن عروة أنه قال:كانت وقعة بني النضير بعد بدر بستة أشهر .

وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 6 ) مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ( 7 )

يقول تعالى مبينًا لمال الفيء وما صفته؟ وما حكمه؟ فالفيء:كلّ مال أخذ من الكفار بغير قتال ولا إيجاف خيل ولا ركاب، كأموال بني النضير هذه، فإنها مما لم يُوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، أي:لم يقاتلوا الأعداء فيها بالمبارزة والمصاولة، بل نـزل أولئك من الرعب الذي ألقى الله في قلوبهم من هيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأفاءه الله على رسوله؛ ولهذا تصرف فيه كما شاء، فردّه على المسلمين في وجوه البر والمصالح التي ذكرها الله، عز وجل، في هذه الآيات، فقال: ( وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ ) أي:من بني النضير ( فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ ) يعني:الإبل، ( وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) أي:هو قدير لا يغالب ولا يمانع، بل هو القاهر لكل شيء.

ثم قال: ( مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى ) أي:جميع البلدان التي تُفتَح هكذا، فحكمها حكم أموال بني النضير؛ ولهذا قال: ( فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ ) إلى آخرها والتي بعدها. فهذه مصارفُ أموال الفيء ووجوهه.

قال الإمام أحمد:حدثنا سفيان، عن عمرو ومَعْمَر، عن الزهري، عن مالك بن أوس بن الحَدَثان، عن عمر، رضي الله عنه، قال:كانت أموال بني النضير مما أفاء الله إلى رسوله مما لم يُوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خالصة فكان ينفق على أهله منها نفقة سنته - وقال مَرّة:قوت سنته- وما بقي جعله في الكُرَاع والسلاح في سبيل الله، عز وجل.

هكذا أخرجه أحمد هاهنا مختصرًا، وقد أخرجه الجماعة في كتبهم - إلا ابن ماجة- من حديث سفيان، عن عمرو بن دينار، عن الزهري، به وقد رويناه مطولا فقال أبو داود، رحمه الله:

حدثنا الحسن بن علي ومحمد بن يحيى بن فارس - المعنى واحد- قالا حدثنا بشرِ بن عُمَر الزهراني، حدثني مالك بن أنس، عن ابن شهاب، عن مالك بن أوس قال:أرسل إليَّ عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، حين تعالى النهار، فجئته فوجدته جالسًا على سرير مُفضيًا إلى رُماله، فقال حين دخلت عليه:يا مال، إنه قد دَفّ أهل أبيات من قومك، وقد أمرت فيهم بشيء، فاقسم فيهم. قلت:لو أمرتَ غيري بذلك؟ فقال:خذه. فجاءه يرفا، فقال:يا أمير المؤمنين، هل لك في عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص؟ فقال:نعم. فأذن لهم فدخلوا، ثم جاءه يرفا فقال:يا أمير المؤمنين، هل لك في العباس وعلي؟ قال:نعم. فأذن لهم فدخلوا، فقال العباس:يا أمير المؤمنين، اقض بيني وبين هذا - يعني:عليًا- فقال بعضهم:أجل يا أمير المؤمنين، اقض بينهما وأرحهما. قال مالك بن أوس:خُيّل إليَّ أنهما قَدّما أولئك النفر لذلك. فقال عمر، رضي الله عنه:اتئدا. ثم أقبل على أولئك الرهط فقال:أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض، هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « لا نُورَث، ما تركنا صدقة » . قالوا:نعم. ثم أقبل على عليّ والعباس فقال:أنشدُكُما بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض، هل تعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « لا نورث، ما تركنا صدقة » . فقالا نعم. فقال:فإن الله خص رسوله بخاصة لم يخص بها أحدًا من الناس، فقال: ( وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) فكان الله أفاء إلى رسوله أموال بني النضير، فوالله ما استأثر بها عليكم ولا أحرزها دونكم، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ منها نفقة سنة - أو:نفقته ونفقة أهله سنة- ويجعل ما بقي أسوة المال. ثم أقبل على أولئك الرهط فقال:أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض:هل تعلمون ذلك؟ قالوا:نعم. ثم أقبل على عليٍّ والعباس فقال:أنشدُكما بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض:هل تعلمان ذلك؟ قالا نعم. فلما تُوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو بكر: « أنا وليّ رسول الله » ، فجئت أنتَ وهذا إلى أبي بكر، تطلب أنت ميراثك عن ابن أخيك، ويطلب هذا ميراث امرأته من أبيها، فقال أبو بكر، رضي الله عنه:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا نورث، ما تركنا صدقة » . والله يعلم إنه لصادق بار راشد تابع للحق. فوليها أبو بكر، فلما توفي قلتُ:أنا وَلِيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ووليّ أبي بكر، فَوليتها ما شاء الله أن أليها، فجئت أنت وهذا، وأنتما جَميع وأمركما واحد، فسألتمانيها، فقلت:إن شئتما فأنا أدفعها إليكما على أنّ عليكما عهد الله أن تلياها بالذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يليها، فأخذتماها مني على ذلك، ثم جئتماني لأقضي بينكما بغير ذلك. والله لا أقضي بينكما بغير ذلك حتى تقوم الساعة، فإن عَجَزتُما عنها فَرُدّاها إلي.

أخرجوه من حديث الزهري، به . وقال الإمام أحمد:

حدثنا عارم وعفان قالا حدثنا معتمر، سمعت أبي يقول:حدثنا أنس بن مالك، عن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم أن الرجل كان يجعل له من ماله النخلات، أو كما شاء الله، حتى فُتحَت عليه قريظة والنضير. قال:فجعل يَرُدّ بعد ذلك، قال:وإن أهلي أمروني أن آتي النبي صلى الله عليه وسلم فأسأله الذي كان أهله أعطوه أو بعضه، وكان نبي الله صلى الله عليه وسلم قد أعطاه أمّ أيمن، أو كما شاء الله، قال:فسألتُ النبي صلى الله عليه وسلم فأعطانيهن، فجاءت أم أيمن فجعلت الثوبَ في عنقي وجعلت تقول:كلا والله الذي لا إله إلا هو لا يُعطيكَهُنّ وقد أعطانيهن، أو كما قالت، فقال نبي الله: « لك كذا وكذا » . قال:وتقول: كلا والله. قال ويقول: « لك كذا وكذا » . قال:وتقول:كلا والله. قال: « ويقول:لك كذا وكذا » . قال:حتى أعطاها، حسبت أنه قال:عشرة أمثال أو قال قريبًا من عشرة أمثاله، أو كما قال.

رواه البخاري ومسلم من طُرُق عن معتمر، به .

وهذه المصارف المذكورة في هذه الآية هي المصارف المذكورة في خُمس الغَنيمة. وقد قدمنا الكلام عليها في سورة « الأنفال » بما أغنى عن إعادته هاهنا، ولله الحمد .

وقوله: ( كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغْنِيَاءِ مِنْكُمْ ) أي:جعلنا هذه المصارف لمال الفيء لئلا يبقى مأكلة يتغلب عليها الأغنياء ويتصرفون فيها، بمحض الشهوات والآراء، ولا يصرفون منه شيئًا إلى الفقراء.

وقوله: ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) أي:مهما أمركم به فافعلوه، ومهما نهاكم عنه فاجتنبوه، فإنه إنما يأمر بخير وإنما ينهى عن شر.

قال ابن أبي حاتم:حدثنا يحيى بن أبي طالب، حدثنا عبد الوهاب، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن العوفي، عن يحيى بن الجزار، عن مسروق قال:جاءت امرأة إلى ابن مسعود فقالت:بلغني أنك تنهى عن الواشمة والواصلة، أشيء وجدته في كتاب الله أو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال:بلى، شيء وجدته في كتاب الله وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت:والله لقد تصفحت ما بين دفتي المصحف فما وجدت فيه الذي تقول!. قال:فما وجدت فيه: ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) ؟ قالت:بلى. قال:فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن الواصلة والواشمة والنامصة. قالت:فلعله في بعض أهلك. قال:فادخلي فانظري. فدخلت فَنَظرت ثم خرجَت، قالت:ما رأيتُ بأسا. فقال لها:أما حفظت وصية العبد الصالح: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ

وقال الإمام أحمد:حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان، عن منصور، [ عن إبراهيم ] عن علقمة، عن عبد الله - هو ابن مسعود- قال:لعن الله الواشمات والمستوشمات، والمتنمصات، والمُتفَلجات للحُسْن، المغيرات خلق الله، عز وجل. قال:فبلغ امرأة في البيت يقال لها: « أم يعقوب » ، فجاءت إليه فقالت:بلغني أنك قلت كيتَ وكيتَ. قال:ما لي لا ألعن من لعن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وفي كتاب الله. فقالت:إني لأقرأ ما بين لوحيه فما وجدته. فقال:إن كنت قرأتيه فقد وجدتيه. أما قرأت: ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) ؟ قالت:بلى. قال:فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه. قالت: [ إني ] لأظن أهلك يفعلونه. قال:اذهبي فانظري. فذهَبت فلم تر من حاجتها شيئا، فجاءت فقالت:ما رأيتُ شيئًا. قال:لو كانت كذلك لم تُجَامعنا.

أخرجاه في الصحيحين، من حديث سفيان الثوري .

وقد ثبت في الصحيحين أيضًا عن أبي هُرَيرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه » . .

وقال النسائي:أخبرنا أحمد بن سعيد، حدثنا يزيد، حدثنا منصور بن حيان، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عُمَر وابن عباس:أنهما شهدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم:أنه نهى عن الدُّباء والحَنْتَم والنَّقير والمزَفَّت، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) .

وقوله: ( وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) أي:اتقوه في امتثال أوامره وترك زواجره؛ فإنه شديد العقاب لمن عصاه وخالف أمره وأباه، وارتكب ما عنه زجره ونهاه.

لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ( 8 ) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( 9 )

يقول تعالى مبينًا حال الفقراء المستحقين لمال الفيء أنهم ( الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا ) أي:خرجوا من ديارهم وخالفوا قومهم ابتغاء مرضاة الله ورضوانه ( وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) أي:هؤلاء الذين صَدَقوا قولهم بفعلهم، وهؤلاء هم سادات المهاجرين.

ثم قال تعالى مادحًا للأنصار، ومبينًا فضلهم وشرفهم وكرمهم وعدم حَسَدهم، وإيثارهم مع الحاجة، فقال: ( وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) أي:سكنوا دار الهجرة من قبل المهاجرين وآمنوا قبل كثير منهم.

قال عمر:وأوصي الخليفة [ من ] بعدي بالمهاجرين الأولين أن يعرف لهم حقهم، ويحفظ لهم كرامتهم. وأوصيه بالأنصار خيرًا الذين تَبوّءوا الدار والإيمان من قبل، أن يقبل من محسنهم، وأن يعفو عن مسيئهم. رواه البخاري هاهنا أيضًا .

وقوله: ( يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ ) أي:مِنْ كَرَمهم وشرف أنفسهم، يُحبّون المهاجرين ويواسونهم بأموالهم.

قال الإمام أحمد:حدثنا يزيد، حدثنا حميد، عن أنس قال:قال المهاجرون:يا رسول الله، ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن مواساةً في قليل ولا أحسن بذلا في كثير، لقد كَفَونا المؤنة، وأشركونا في المهنأ، حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله! قال: « لا ما أثنيتم عليهم ودَعَوتُمُ الله لهم » .

لم أره في الكتب من هذا الوجه.

وقال البخاري:حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا سفيان، عن يحيى بن سعيد، سمع أنس بن مالك حين خرج معه إلى الوليد قال:دعا النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار أن يُقطع لهم البحرين، قالوا:لا إلا أن تُقطع لإخواننا من المهاجرين مثلها. قال: « إما لا فاصبروا حتى تلقوني، فإنه سيصيبكم [ بعدي ] أثرة » .

تفرد به البخاري من هذا الوجه

قال البخاري:حدثنا الحكم بن نافع، أخبرنا شعيب، حدثنا أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال:قالت الأنصار:اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل. قال:لا. فقالوا:تكفونا المؤنَةَ ونَشرككُم في الثمرة؟ قالوا:سمعنا وأطعنا. تفرد به دون مسلم .

( وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا ) أي:ولا يجدون في أنفسهم حسدًا للمهاجرين فيما فضلهم الله به من المنـزلة والشرف، والتقديم في الذكر والرتبة.

قال:الحسن البصري: ( وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً ) يعني:الحسد.

( مِمَّا أُوتُوا ) قال قتادة:يعني فيما أعطي إخوانهم. وكذا قال ابن زيد. ومما يستدل به على هذا المعنى ما رواه الإمام أحمد حيث قال:حدثنا عبد الرزاق، حدثنا مَعْمَر، عن الزهري، عن أنس قال:كنا جُلوسًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: « يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة » . فطلع رجل من الأنصار تَنظُف لحيته من وضوئه، قد تَعَلَّق نعليه بيده الشمال، فلما كان الغد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى. فلما كان اليوم الثالث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل مقالته أيضًا، فطلع ذلك الرجل على مثل حالته الأولى فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم تبعه عبد الله بن عمرو بن العاص، فقال:إني لاحيت أبي فأقسمت ألا أدخل عليه ثلاثًا، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي فعلت. قال:نعم. قال أنس:فكان عبد الله يحدث أنه بات معه تلك الثلاث الليالي فلم يره يقوم من الليل شيئًا، غير أنه إذا تَعارّ تقلب على فراشه، ذكر الله وكبر، حتى يقوم لصلاة الفجر. قال عبد الله:غير أني لم أسمعه يقول إلا خيرًا، فلما مضت الثلاث ليال وكدت أن أحتقر عمله، قلت:يا عبد الله، لم يكن بيني وبين أبي غَضَب ولا هَجْر ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لك ثلاث مرَار « يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة » . فطلعت أنت الثلاث المرار فأردت أن آوي إليك لأنظر ما عملكَ فأقتدي به، فلم أرك تعمل كثير عمل، فما الذي بلغ بك ما قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم؟ قال:ما هو إلا ما رأيت. فلما وليت دعاني فقال:ما هو إلا ما رأيت، غير أني لا أجدُ في نفسي لأحد من المسلمين غِشّا، ولا أحسدُ أحدًا على خير أعطاه الله إياه. قال عبد الله:هذه التي بلغت بك، وهي التي لا تطاق .

ورواه النسائي في اليوم والليلة، عن سُوَيد بن نصر، عن ابن المبارك، عن معمر به وهذا إسناد صحيح على شرط الصحيحين، لكن رواه عقيل وغيره عن الزهري، عن رجل، عن أنس . فالله أعلم.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله: ( وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا ) يعني ( مِمَّا أُوتُوا ) المهاجرون. قال:وتكلم في أموال بني النضير بعض من تكلم من الأنصار، فعاتبهم الله في ذلك، فقال: وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ قال:وقال رسول الله: « إن إخوانكم قد تركوا الأموال والأولاد وخرجوا إليكم » . فقالوا:أموالنا بيننا قطائع. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أو غير ذلك؟ » . قالوا:وما ذاك يا رسول الله؟ قال: « هم قوم لا يعرفون العمل، فتكفونهم وتقاسمونهم الثمر » . فقالوا:نعم يا رسول الله

وقوله: ( وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ) يعني:حاجة، أي:يقدمون المحاويج على حاجة أنفسهم، ويبدءون بالناس قبلهم في حال احتياجهم إلى ذلك.

وقد ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « أفضلُ الصدقة جُهْدُ المُقِلّ » . وهذا المقام أعلى من حال الذين وَصَف اللهُ بقوله: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ [ الإنسان:8 ] . وقوله: وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ [ البقرة:177 ] .

فإن هؤلاء يتصدقون وهم يحبون ما تصدقوا به، وقد لا يكون لهم حاجة إليه ولا ضرورة به، وهؤلاء آثروا على أنفسهم مع خصاصتهم وحاجتهم إلى ما أنفقوه. ومن هذا المقام تصدق الصديق، رضي الله عنه، بجميع ماله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما أبقيت لأهلك؟ » . فقال:أبقيت لهم الله ورسوله. وهذا الماء الذي عُرض على عكرمة وأصحابه يوم اليرموك، فكل منهم يأمر بدفعه إلى صاحبه، وهو جريح مثقل أحوجَ ما يكون إلى الماء، فرده الآخر إلى الثالث، فما وصل إلى الثالث حتى ماتوا عن آخرهم ولم يشربه أحد منهم، رضي الله عنهم وأرضاهم.

وقال البخاري:حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن كثير، حدثنا أبو أسامة، حدثنا فُضيل بن غَزوان، حدثنا أبو حازم الأشجعي، عن أبي هُرَيرة قال:أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:يا رسول الله، أصابني الجهدُ، فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « ألا رجل يُضَيّفُ هذا الليلة، رحمه الله؟ » . فقام رجل من الأنصار فقال:أنا يا رسول الله. فذهب إلى أهله فقال لامرأته:ضَيفُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تَدّخريه شيئًا. فقالت:والله ما عندي إلا قوتُ الصبية. قال:فإذا أراد الصبيةُ العَشَاء فنوّميهم وتعالى فأطفئي السراج ونَطوي بطوننا الليلة. ففعلَت، ثم غدا الرجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: « لقد عجب الله، عز وجل - أو:ضحك- من فلان وفلانة » . وأنـزل الله عز وجل: ( وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ) .

وكذا رواه البخاري في موضع آخر، ومسلم والترمذي والنسائي من طرق، عن فضيل بن غزوان، به نحوه . وفي رواية لمسلم تسمية هذا الأنصاري بأبي طلحة، رضي الله عنه.

وقوله: ( وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) أي:من سلم من الشح فقد أفلح وأنجح.

قال أحمد:حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا داود بن قيس الفراء، عن عُبَيد الله بن مِقْسَم، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إياكم والظلّم، فإن الظُّلم ظلماتٌ يوم القيامة، واتقوا الشُحَّ، فإن الشّحَّ أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سَفَكُوا دماءهم واستَحلُّوا محارمهم » .

انفرد بإخراجه مسلم، فرواه عن القَعْنَبِيّ، عن داود بن قيس، به .

وقال الأعمش وشعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن الحارث، عن زهير بن الأقمر، عن عبد الله بن عمرو قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « اتقوا الظُّلْم؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الفُحْش، فإن الله لا يحب الفحش ولا التَّفَحُّشَ، وإياكم والشُّحَّ؛ فإنه أهلكَ من كان قبلكم، أمرهم بالظلم فظلموا، وأمرهم بالفجور ففجروا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا » .

ورواه أحمد وأبو داود من طريق شعبة، والنسائي من طريق الأعمش، كلاهما عن عمرو بن مُرّة، به .

وقال الليث، عن يزيد [ بن الهاد ] عن سُهَيل بن أبي صالح، عن صفوان بن أبي يزيد، عن القعقاع بن اللجلاج عن أبي هريرة، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخانُ جهنم في جوف عبد أبدًا، ولا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبدًا » .

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا عبدة بن سليمان، أخبرنا ابن المبارك، حدثنا المسعودي، عن جامع بن شداد، عن الأسود بن هلال قال:جاء رجل إلى عبد الله فقال:يا أبا عبد الرحمن، إني أخاف أن أكون قد هلكت فقال له عبد الله:وما ذاك؟ قال:سمعت الله يقول: ( وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) وأنا رجل شحيح، لا أكاد أن أخرج من يدي شيئًا! فقال عبد الله: « ليس ذلك بالشح الذي ذكر الله في القرآن، إنما الشح الذي ذكر الله في القرآن أن تأكل مال أخيك ظلمًا، ولكن ذلك البخل، وبئس الشيء البخل »

وقال سفيان الثوري، عن طارق بن عبد الرحمن، عن سعيد بن جبير، عن أبي الهياج الأسدي قال:كنت أطوف بالبيت، فرأيت رجلا يقول: « اللهم قني شح نفسي » . لا يزيد على ذلك، فقلت له، فقال: « إني إذا وقيت شح نفسي لم أسرق ولم أزن ولم أفعل » ، وإذا الرجل عبد الرحمن بن عوف، رضي الله عنه، رواه ابن جرير

وقال ابن جرير:حدثني محمد بن إسحاق، حدثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي، حدثنا إسماعيل بن عَيّاش، حدثنا مُجَمع بن جارية الأنصاري، عن عمه يزيد بن جارية، عن أنس بن مالك، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « بَرِئ من الشح مَن أدى الزكاة، وقَرَى الضيف، وأعطى في النائبة » .

 

وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ( 10 )

وقوله: ( وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ) هؤلاء هم القسم الثالث ممن يستحق فقراؤهم من مال الفيء، وهم المهاجرون ثم الأنصار، ثم التابعون بإحسان، كما قال في آية براءة: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ [ التوبة:100 ] فالتابعون لهم بإحسان هم:المتبعون لآثارهم الحسنة وأوصافهم الجميلة، الداعون لهم في السر والعلانية؛ ولهذا قال في هذه الآية الكريم: ( وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ ) أي:قائلين: ( رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا ) أي:بغضًا وحسدًا ( لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ) وما أحسن ما استنبط الإمام مالك من هذه الآية الكريمة:أن الرافضي الذي يسبّ الصحابة ليس له في مال الفيء نصيب لعدم اتصافه بما مدح الله به هؤلاء في قولهم: ( رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ) .

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا موسى بن عبد الرحمن المسروقي، حدثنا محمد بن بشر، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر، عن أبيه، عن عائشة أنها قالت:أمروا أن يستغفروا لهم، فسبوهم! ثم قرأت هذه الآية: ( وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ ) الآية.

وقال إسماعيل بن عُلَية، عن عبد الملك بن عمير، عن مسروق، عن عائشة قالت:أمرتم بالاستغفار لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فسببتموهم. سمعتُ نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: « لا تذهب هذه الأمة حتى يلعن آخرها أولها » . رواه البغوي ..

وقال أبو داود:حدثنا مُسَدَّد، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، حدثنا أيوب، عن الزهري قال:قال عمر، رضي الله عنه: وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ قال الزهري:قال عمر:هذه لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة، قُرى [ عربية:فَدَك وكذا ] وكذا، فما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربي واليتامي والمساكين وابن السبيل وللفقراء الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم، وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ ( وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ ) فاستوعبت هذه الآية الناس، فلم يبق أحد من المسلمين إلا له فيها حق - قال أيوب:أو قال:حظ- إلا بعض من تملكون من أرقائكم. كذا رواه أبو داود، وفيه انقطاع .

وقال ابن جرير:حدثنا ابن عبد الأعلى، حدثنا ابن ثور، عن مَعْمَر، عن أيوب، عن عكرمة ابن خالد، عن مالك بن أوس بن الحَدَثان قال:قرأ عمر بن الخطاب: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ حتى بلغ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [ التوبة:60 ] ، ثم قال هذه لهؤلاء، ثم قرأ: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى [ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ ] [ الأنفال:41 ] ، ثم قال:هذه لهؤلاء، ثم قرأ: مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى حتى بلغ للفقراء وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ ( وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ ) ثم قال:استوعبت هذه الآية المسلمين عامة، وليس أحد إلا له فيها حق ، ثم قال:لئن عشت ليأتين الراعي - وهو بَسرو حِمير- نصيبه فيها، لم يعرق فيها جبينه.

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ( 11 ) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ ( 12 ) لأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ ( 13 ) لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ ( 14 ) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 15 ) كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ( 16 )

يخبر تعالى عن المنافقين كعبد الله بن أبي وأضرابه، حين بعثوا إلى يهود بني النضير يَعدُونهم النصر من أنفسهم، فقال تعالى: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ ) قال الله تعالى: ( وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ) أي:لكاذبون فيما وعدوهم به إما أنهم قالوا لهم قولا من نيتهم ألا يفوا لهم به، وإما أنهم لا يقع منهم الذي قالوه؛ ولهذا قال: ( وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ ) أي:لا يقاتلون معهم، ( وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ ) أي:قاتلوا معهم ( لَيُوَلُّنَّ الأدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ ) وهذه بشارة مستقلة بنفسها.

ثم قال تعالى: ( لأنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ) أي:يخافون منكم أكثر من خوفهم من الله، كقوله: إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً [ النساء:77 ] ؛ ولهذا قال: ( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ )

ثم قال ( لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ ) يعني:أنهم من جُبنهم وهَلَعهم لا يقدرون على مواجهة جيش الإسلام بالمبارزة والمقابلة بل إما في حصون أو من وراء جدر محاصرين، فيقاتلون للدفع عنهم ضرورة.

ثم قال ( بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ ) أي:عداوتهم [ فيما ] بينهم شديدة، كما قال: وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ [ الأنعام:65 ] ؛ ولهذا قال: ( تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ) أي:تراهم مجتمعين فتحسبهم مؤتلفين، وهم مختلفون غاية الاختلاف.

قال:إبراهيم النخعي:يعني:أهل الكتاب والمنافقين ( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ )

ثم قال: ( كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) قال مجاهد، والسدى، ومقاتل بن حيان: [ يعني ] كمثل ما أصاب كفار قريش يوم بدر.

وقال ابن عباس: ( كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) يعني:يهود بني قينقاع. وكذا قال قتادة، ومحمد ابن إسحاق.

وهذا القول أشبه بالصواب، فإن يهود بني قينقاع كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أجلاهم قبل هذا.

وقوله: ( كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ ) يعني:مثل هؤلاء اليهود في اغترارهم بالذين وعدوهم النصر من المنافقين، وقول المنافقين لهم: ( وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ ) ثم لما حقت الحقائق وجَدَّ بهم الحصار والقتال، تخلوا عنهم وأسلموهم للهلكة، مثالهم في هذا كمثل الشيطان إذ سول للإنسان - والعياذ بالله- الكفر، فإذا دخل فيما سوله تبرأ منه وتنصل، وقال: ( إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ )

وقد ذكر بعضهم هاهنا قصة لبعض عباد بني إسرائيل هي كالمثال لهذا المثل، لا أنها المرادة وحدها بالمثل، بل هي منه مع غيرها من الوقائع المشاكله لها، فقال ابن جرير:

حدثنا خلاد بن أسلم، أخبرنا النضر بن شُمَيْل، أخبرنا شعبة، عن أبي إسحاق، سمعت عبد الله بن نَهِيك قال:سمعت عليًا، رضي الله عنه، يقول:إن راهبًا تعبد ستين سنة، وإن الشيطان أراده فأعياه، فعمد إلى امرأة فأجنَّها ولها إخوة، فقال لإخوتها:عليكم بهذا القس فيداويها. قال:فجاءوا بها إليه فداواها، وكانت عنده، فبينما هو يوما عندها إذ أعجبته، فأتاها فحملت، فعمد إليها فقتلها، فجاء إخوتها، فقال الشيطان للراهب:أنا صاحبك، إنك أعييتني، أنا صنعت هذا بك فأطعني أنجك مما صنعت بك، فاسجد لي سجدة. فسجد له، فلما سجد له قال:إني بريء منك، إني أخاف الله رب العالمين، فذلك قوله: ( كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ) .

وقال ابن جرير:حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي، حدثنا أبي، عن أبيه، عن جده، عن الأعمش، عن عمارة، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن عبد الله بن مسعود في هذه الآية: ( كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ) قال:كانت امرأة ترعى الغنم، وكان لها أربعة أخوة، وكانت تأوي بالليل إلى صومعة راهب. قال:فنـزل الراهب ففجَر بها، فحملت، فأتاه الشيطان فقال له:اقتلها ثم ادفنها، فإنك رجل مُصدَّق يسمع قولك. فقتلها ثم دفنها. قال:فأتى الشيطانُ إخوتها في المنام فقال لهم:إن الراهب صاحب الصومعة فجَر بأختكم، فلما أحبلها قتلها ثم دفنها في مكان كذا وكذا. فلما أصبحوا قال رجل منهم:والله لقد رأيت البارحة رؤيا ما أدري أقصها عليكم أم أترك؟ قالوا:لا بل قصها علينا. قال:فقصها، فقال الآخر:وأنا والله لقد رأيت ذلك، فقال الآخر:وأنا والله لقد رأيت ذلك. فقالوا:فوالله ما هذا إلا لشيء. قال:فانطلقوا فاستعدوا ملكهم على ذلك الراهب، فأتوه فأنـزلوه ثم انطلقوا به فلقيه الشيطان فقال:إني أنا الذي أوقعتك في هذا، ولن ينجيك منه غيري، فاسجد لي سجدة واحدةً وأنجيك مما أوقعتك فيه. قال:فسجد له، فلما أتوا به مَلكهم تَبَرأ منه، وأُخِذَ فقتل .

وكذا روي عن ابن عباس، وطاوس، ومقاتل بن حيان، نحو ذلك. واشتهر عند كثير من الناس أن هذا العابد هو برصيصا، والله أعلم. وهذه القصة مخالفة لقصة جُرَيج العابد، فإن جريجًا اتهمته امرأة بَغي بنفسها، وادعت أن حَملها منه، ورفعت أمره إلى ولي الأمر، فأمر به فأنـزل من صومعته وخُربت صومعته وهو يقول:ما لكم؟ ما لكم؟ فقالوا:يا عدو الله، فعلت بهذه المرأة كذا وكذا. فقال:جريج:اصبروا. ثم أخذ ابنها وهو صغير جدًا ثم قال:يا غلام، من أبوك؟ قال أبي الراعي - وكانت قد أمكنته من نفسها فحملت منه- فلما رأى بنو إسرائيل ذلك عظموه كلهم تعظيمًا بليغًا وقالوا:نعيد صومعتك من ذهب. قال:لا بل أعيدوها من طين، كما كانت.

 

فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ ( 17 )

وقوله: ( فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا ) أي:فكانت عاقبة الآمر بالكفر والفاعل له، وتصيرهما إلى نار جهنم خالدين فيها، ( وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ ) أي:جزاء كل ظالم.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ( 18 ) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ( 19 ) لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ ( 20 )

قال الإمام أحمد:حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن عون بن أبي جُحَيْفة، عن المنذر ابن جرير، عن أبيه قال:كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر النهار، قال:فجاءه قوم حُفَاة عُراة مُجْتَابي النمار - أو:العَبَاء- مُتَقَلِّدي السيوف عامتهم من مُضَر، بل كلهم من مضر، فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى بهم من الفاقة، قال:فدخل ثم خرج، فأمر بلالا فأذن وأقام الصلاة، فصلى ثم خطب، فقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ إلى آخر الآية: إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [ النساء:1 ] . وقرأ الآية التي في الحشر: ( وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ) تَصَدَّق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بُرِّه، من صاع تمره - حتى قال- :ولو بشق تمرة « . قال:فجاء رجل من الأنصار بصُرة كادت كفه تَعجز عنها، بل قد عجزت، ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل وجهه كأنه مُذْهبة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: » مَن سَنَّ في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها بعده، من غير أن يَنقُص من أجورهم شيء، ومن سَنَّ في الإسلام سنة سيئة، كان عليه وِزْرُها ووزر من عمل بها، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء « .»

انفرد بإخراجه مسلم من حديث شعبه، بإسناد مثله .

فقوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ ) أمر بتقواه، وهي تشمل فعل ما به أمر، وترك ما عنه زجر.

وقوله: ( وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ) أي:حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وانظروا ماذا ادخرتم لأنفسكم من الأعمال الصالحة ليوم معادكم وعرضكم على ربكم، ( وَاتَّقُوا اللَّهَ ) تأكيد ثان، ( إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) أي:اعلموا أنه عالم بجميع أعمالكم وأحوالكم لا تخفى عليه منكم خافية، ولا يغيب عنه من أموركم جليل ولا حقير.

وقال ( وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ ) أي:لا تنسوا ذكر الله فينسيكم العمل لمصالح أنفسكم التي تنفعكم في معادكم، فإن الجزاء من جنس العمل؛ ولهذا قال: ( أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) أي:الخارجون عن طاعة الله، الهالكون يوم القيامة، الخاسرون يوم معادهم، كما قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [ المنافقون:9 ] .

وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني:حدثنا أحمد بن عبد الوهاب بن نجدة الحوطي، حدثنا [ أبو ] المغيرة، حدثنا حَريز بن عثمان، عن نعيم بن نَمحة قال:كان في خطبة أبي بكر الصديق، رضي الله عنه:أما تعلمون أنكم تغدون وتروحون لأجل معلوم؟ فمن استطاع أن يقضي الأجل وهو في عمل الله، عز وجل، فليفعل، ولن تنالوا ذلك إلا بالله، عز وجل. إن قومًا جعلوا آجالهم لغيرهم، فنهاكم الله تكونوا أمثالهم: ( وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ ) أين من تعرفون من إخوانكم؟ قدموا على ما قدموا في أيام سلفهم، وخلوا بالشقوة والسعادة، أين الجبارون الأولون الذين بنوا المدائن وحصنوها بالحوائط؟ قد صاروا تحت الصخر والآبار، هذا كتاب الله لا تفنى عجائبه فاستضيئوا منه ليوم ظلمة، [ وائتضحوا بسنائه وبيانه ] إن الله أثنى على زكريا وأهل بيته فقال: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [ الأنبياء:90 ] ، لا خير في قول لا يراد به وجه الله، ولا خير في مال لا ينفق في سبيل الله، ولا خير فيمن يغلب جهله حلمه، ولا خير فيمن يخاف في الله لومة لائم .

هذا إسناد جيد، ورجاله كلهم ثقات، وشيخ حَريز بن عثمان، وهو نعيم بن نمحة، لا أعرفه بنفي ولا إثبات، غير أن أبا داود السجستاني قد حكم بأن شيوخ حَريز كلهم ثقات. وقد روي لهذه الخطبة شواهد من وجوه أخر، والله أعلم.

وقوله: ( لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ ) أي لا يستوي هؤلاء وهؤلاء في حكم الله يوم القيامة، كما قال: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [ الجاثية:21 ] ، وقال وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ الآية [ غافر:58 ] . قال: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ ص:28 ] ؟ في آيات أخر دالات على أن الله، سبحانه، يكرم الأبرار، ويهين الفجار؛ ولهذا قال هاهنا: ( أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ ) أي:الناجون المسلمون من عذاب الله، عز وجل.

لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ( 21 ) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ( 22 ) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ( 23 ) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 24 )

يقول تعالى معظمًا لأمر القرآن، ومبينا علو قدره، وأنه ينبغي وأن تخشع له القلوب، وتتصدع عند سماعه لما فيه من الوعد والوعيد الأكيد: ( لَوْ أَنـزلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ) أي:فإن كان الجبل في غلظته وقساوته، لو فهم هذا القرآن فتدبر ما فيه، لخشع وتصدع من خوف الله، عز وجل، فكيف يليق بكم أيها البشر ألا تلين قلوبكم وتخشع، وتتصدع من خشية الله، وقد فهمتم عن الله أمره وتدبرتم كتابه؟ ولهذا قال تعالى: ( وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) .

قال العوفي:عن ابن عباس في قوله: ( لَوْ أَنـزلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ [ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا ] ) إلى آخرها، يقول:لو أني أنـزلت هذا القرآن على جبل حَمّلته إياه، لتصدع وخشع من ثقله، ومن خشية الله. فأمر الله الناس إذا نـزل عليهم القرآنُ أن يأخذوه بالخشية الشديدة والتخشع. ثم قال:كذلك يضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتفكرون. وكذا قال قتادة، وابن جرير.

وقد ثبت في الحديث المتواتر:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عمل له المنبر، وقد كان يوم الخطبة يقف إلى جانب جذع من جذوع المسجد، فلما وضع المنبر أول ما وضع، وجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليخطب فجاوز الجذع إلى نحو المنبر، فعند ذلك حَنّ الجذع وجعل يئن كما يئن الصبي الذي يُسَكَّن ، لما كان يُسمَع من الذكر والوحي عنده. ففي بعض روايات هذا الحديث قال الحسن البصري بعد إيراده: « فأنتم أحق أن تشتاقوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجذع » . وهكذا هذه الآية الكريمة، إذا كانت الجبال الصم لو سمعت كلام الله وفهمته، لخشعت وتصدعت من خشيته فكيف بكم وقد سمعتم وفهمتم؟ وقد قال تعالى: وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى الآية [ الرعد:31 ] . وقد تقدم أن معنى ذلك:أي لكان هذا القرآن. وقال تعالى: وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [ البقرة:74 ] .

ثم قال تعالى: ( هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ) أخبر تعالى أنه الذي لا إله إلا هو فلا رب غيره، ولا إله للوجود سواه، وكل ما يعبد من دونه فباطل، وأنه عالم الغيب والشهادة، أي:يعلم جميع الكائنات المشاهدات لنا والغائبات عنا فلا يخفى عليه شيء في الأرض، ولا في السماء من جليل وحقير وصغير وكبير، حتى الذر في الظلمات.

وقوله: ( هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ) قد تقدم الكلام على ذلك في أول التفسير، بما أغنى عن إعادته هاهنا. والمراد أنه ذو الرحمة الواسعة الشاملة لجميع المخلوقات، فهو رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما، وقد قال تعالى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [ الأعراف:156 ] ، وقال كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [ الأنعام:54 ] ، وقال قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [ يونس:58 ] .

وقوله ( هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ ) أي:المالك لجميع الأشياء المتصرف فيها بلا ممانعة ولا مدافعة.

وقوله: ( الْقُدُّوسُ ) قال وهب بن منبه:أي الطاهر. وقال مجاهد، وقتادة:أي المبارك:وقال ابن جريج:تقدسه الملائكة الكرام.

( السَّلامُ ) أي:من جميع العيوب والنقائص؛ بكماله في ذاته وصفاته وأفعاله.

وقوله: ( الْمُؤْمِنُ ) قال الضحاك، عن ابن عباس: [ أي ] أمن خلقه من أن يظلمهم. وقال قتادة:أمَّن بقوله:إنه حق. وقال ابن زيد:صَدّق عبادَه المؤمنين في أيمانهم به.

وقوله: ( الْمُهَيْمِنُ ) قال ابن عباس وغير واحد:أي الشاهد على خلقه بأعمالهم، بمعنى:هو رقيب عليهم، كقوله: وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [ البروج:9 ] ، وقوله ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ [ يونس:46 ] .

وقوله: أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ الآية [ الرعد:33 ] .

وقوله: ( الْعَزِيزُ ) أي:الذي قد عزّ كل شيء فقهره، وغلب الأشياء فلا ينال جنابه؛ لعزته وعظمته وجبروته وكبريائه؛ ولهذا قال: ( الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ ) أي:الذي لا تليق الجَبْريّة إلا له، ولا التكبر إلا لعظمته، كما تقدم في الصحيح: « العَظَمة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني واحدًا منهما عَذَّبته » .

وقال قتادة:الجبار:الذي جَبَر خلقه على ما يشاء.

وقال ابن جرير:الجبار:المصلحُ أمورَ خلقه، المتصرف فيهم بما فيه صلاحهم.

وقال قتادة:المتكبر:يعني عن كل سوء.

ثم قال: ( سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) .

وقوله: ( هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ ) الخلق:التقدير، والبَراء:هو الفري، وهو التنفيذ وإبراز ما قدره وقرره إلى الوجود، وليس كل من قدر شيئًا ورتبه يقدر على تنفيذه وإيجاده سوى الله، عز وجل. قال الشاعر يمدح آخر

ولأنـــت تَفــري مــا خَــلَقت وبعـضُ القـوم يَخـلُق ثـم لا يَفْري

أي:أنت تنفذ ما خلقت، أي:قدرت، بخلاف غيرك فإنه لا يستطيع ما يريد. فالخلق:التقدير. والفري:التنفيذ. ومنه يقال:قدر الجلاد ثم فَرَى، أي:قطع على ما قدره بحسب ما يريده.

وقوله تعالى: ( الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ ) أي:الذي إذا أراد شيئًا قال له:كن، فيكون على الصفة التي يريد، والصورة التي يختار. كقوله: فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ [ الانفطار:8 ] ولهذا قال: ( الْمُصَوِّرُ ) أي:الذي ينفذ ما يريد إيجاده على الصفة التي يريدها.

وقوله: ( لَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى ) قد تقدم الكلام على ذلك في « سورة الأعراف » ، وذكر الحديث المروي في الصحيحين عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن لله تعالى تسعة وتسعين اسمًا، مائة إلا واحدًا، من أحصاها دخل الجنة، وهو وتر يحب الوتر » . وتقدم سياق الترمذي وابن ماجة له، عن أبي هريرة أيضا، وزاد بعد قوله: « وهو وتر يحب الوتر » - واللفظ للترمذي- : « هو الله الذي لا إله إلا هو، الرحمن، الرحيم، الملك، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، الخالق، البارئ، المصور، الغفار، القهار، الوهاب، الرزاق، الفتاح، العليم، القابض، الباسط، الخافض، الرافع، المعز، المذل، السميع، البصير، الحكم، العدل، اللطيف، الخبير، الحليم، العظيم، الغفور، الشكور، العلي، الكبير، الحفيظ، المقيت، الحسيب، الجليل، الكريم، الرقيب، المجيب، الواسع، الحكيم، الودود، المجيد، الباعث، الشهيد، الحق، الوكيل، القوي، المتين، الولي، الحميد، المحصي، المبدئ، المعيد، المحيي، المميت، الحي، القيوم، الواجد، الماجد، الواحد، الصمد، القادر، المقتدر، المقدم، المؤخر، الأول، الآخر، الظاهر، الباطن، الولي، المتعالي، البر، التواب، المنتقم، العفو، الرءوف، مالك الملك، ذو الجلال والإكرام، المقسط، الجامع، الغني، المغني، المانع، الضار، النافع، النور، الهادي، البديع، الباقي، الوارث، الرشيد، الصبور » .

وسياق ابن ماجة بزيادة ونقصان، وتقديم وتأخير، وقد قدمنا ذلك مبسوطًا مطولا بطرقه وألفاظه بما أغنى عن إعادته هنا .

وقوله: ( يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) كقوله تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا [ الإسراء:44 ] .

وقوله: ( وَهُوَ الْعَزِيزُ ) أي:فلا يرام جَنَابه ( الحَكِيمُ ) في شرعه وقدره. وقد قال الإمام أحمد:

حدثنا أبو أحمد الزبيري، حدثنا خالد - يعني:ابن طَهْمَان، أبو العلاء الخَفَّاف- حدثنا نافع ابن أبي نافع، عن مَعقِل بن يسار، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « من قال حين يصبح ثلاث مرات:أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، ثم قرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر، وَكَّل الله به سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي، وإن مات في ذلك اليوم مات شهيدًا، ومن قالها حين يمسي كان بتلك المنـزلة » .

ورواه الترمذي عن محمود بن غَيْلان، عن أبي أحمد الزبيري، به ، وقال:غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.

 

أعلى