تفسير سورة الانشقاق
وهي
مكية.
قال مالك،
عن عبد الله بن يزيد، عن أبي سلمة:أن أبا هريرة قرأ بهم: « إِذَا
السَّمَاءُ انْشَقَّتْ » فسجد فيها، فلما انصرف أخبرهم
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد فيها. رواه مسلم والنسائي، من طريق مالك، به
.
وقال
البخاري:حدثنا أبو النعمان، حدثنا معتمر، عن أبيه، عن بكر، عن أبي رافع قال:صليت
مع أبي هُرَيرة العتمة فقرأ: « إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ
» فسجد، فقلت له، قال:سجدتُ خلف أبي القاسم صلى الله عليه وسلم
فلا أزال أسجد بها حتى ألقاه .
ورواه
أيضا عن مسدد، عن معتمر، به. ثم رواه عن مسدد، عن يزيد بن زُرَيع، عن التيمي، عن
بكر، عن أبي رافع، فذكره وأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي من طرق، عن سليمان بن
طِرْخان التيمي، به وقد روى مسلم وأهل السنن من حديث سفيان بن عُيَينة- زاد
النَّسائي:وسفيان الثوري- كلاهما عن أيوب بن موسى، عن عطاء بن ميناء، عن أبي هريرة
قال:سجدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ( إِذَا
السَّمَاءُ انْشَقَّتْ ) و (
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ) .
بسم الله الرحمن الرحيم
إِذَا
السَّمَاءُ انْشَقَّتْ ( 1 )
وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ ( 2 )
وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ ( 3 )
وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ ( 4 )
وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ ( 5 ) يَا
أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ ( 6 )
فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ( 7 )
فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا ( 8 ) وَيَنْقَلِبُ
إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا ( 9 )
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ ( 10 )
فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا ( 11 )
وَيَصْلَى سَعِيرًا ( 12 )
إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا ( 13 )
إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ ( 14 )
بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا ( 15 )
يقول
تعالى: ( إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ ) وذلك
يوم القيامة، ( وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا )
أي:استمعت لربها وأطاعت أمره فيما أمرها به من الانشقاق (
وَحُقَّتْ ) أي:وحق لها أن تطيع أمره؛ لأنه العظيم الذي لا يُمانَع ولا
يغالب، بل قد قهر كلّ شيء وذل له كل شيء.
ثم قال:
( وَإِذَا الأرْضُ مُدَّتْ )
أي:بُسطت وفرشت وَوُسِّعَت.
قال ابن
جرير، رحمه الله:حدثنا ابن عبد الأعلى، حدثنا ابن
ثور، عن
معمر، عن الزهري، عن علي بن الحسين:أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إذا
كان يومُ القيامة مَدَّ الله الأرض مَدَّ الأديم حتى لا يكون لبشر من الناس إلا
موضع قدميه، فأكون أول من يدعى، وجبريل عن يمين الرحمن، والله ما رآه قبلها،
فأقول:يا رب، إن هذا أخبرني أنك أرسلته إلي؟ فيقول الله عز وجل:صدق. ثم أشفع
فأقول:يا رب، عبادك عبدوك في أطراف الأرض. قال:وهو المقام المحمود » .
وقوله: (
وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ )
أي:ألقت ما في بطنها من الأموات، وتخلت منهم. قاله مجاهد، وسعيد، وقتادة، (
وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ ) كما
تقدم.
وقوله: ( يَا
أَيُّهَا الإنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا ) أي:ساع
إلى ربك سعيا، وعامل عملا ( فَمُلاقِيهِ ) ثم إنك
ستلقى ما عملتَ من خير أو شر. ويشهد له ما رواه أبو داود الطيالسي، عن الحسن بن
أبي جعفر، عن أبي الزبير، عن جابر قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « قال
جبريل:يا محمد، عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب ما شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك
ملاقيه » .
ومن
الناس من يعيد الضمير على قوله: (
رَبِّك ) أي:فملاق ربك، ومعناه:فيجازيك بعملك ويكافئك على سعيك. وعلى
هذا فكلا القولين متلازم.
قال
العوفي، عن ابن عباس: ( يَا أَيُّهَا الإنْسَانُ
إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا )
يقول:تعمل عملا تلقى الله به، خيرا كان أو شرا.
وقال
قتادة: ( يَا أَيُّهَا الإنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ
كَدْحًا ) إن كدحك- يا ابن آدم- لضعيف، فمن استطاع أن يكون كدحه في
طاعة الله فليفعل، ولا قوة إلا بالله.
ثم قال:
( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ
يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا ) أي:سهلا بلا تعسير، أي:لا
يحقق عليه جَميعُ دقائق أعماله؛ فإن من حوسب كذلك يهلك لا محالة.
قال
الإمام أحمد:حدثنا إسماعيل، أخبرنا أيوب، عن عبد الله بن أبي مُلَيْكة، عن عائشة
قالت:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من
نُوِقش الحساب عُذِّب » . قالت:فقلت:أليس قال الله: (
فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا ) ؟ ،
قال: « ليس ذاك بالحساب ولكن ذلك العَرْض، من نوقش الحساب يوم
القيامة عذب » .
وهكذا
رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن جرير، من حديث أيوب السختياني، به
وقال ابن
جرير:حدثنا ابن وَكِيع، حدثنا روح بن عبادة، حدثنا أبو عامر الخَرَاز، عن ابن أبي
مُلَيْكة، عن عائشة قالت:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إنه
ليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا معذبا » .
فقلت:أليس الله يقول: ( فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا
يَسِيرًا ) ؟ ، قال: « ذاك العرض، إنه من نُوِقش
الحساب عُذب » ، وقال بيده على إصبعه كأنه يَنكُتُ.
وقد رواه
أيضا عن عمرو بن علي، عن ابن أبي عدي، عن أبي يونس القُشَيري، عن ابن أبي
مُلَيْكة، عن القاسم، عن عائشة، فذكر الحديث أخرجاه من طريق أبي يونس القُشَيري،
واسمه حاتم بن أبي صغيرة به .
قال ابن
جرير:حدثنا نصر بن علي الجهضمي، حدثنا مسلم، عن الحريش بن الخَرِّيت أخى الزبير،
عن ابن أبي مليكة، عن عائشة قالت:من نُوِقش الحساب- أو:من حُوسِب - عُذِّبَ.
قال:ثم قالت:إنما الحسابُ اليسيرُ عَرض على الله عز وجل وهو يراهم .
وقال
أحمد:حدثنا إسماعيل، حدثنا محمد بن إسحاق، حدثني عبد الواحد بن حمزة بن عبد الله
بن الزبير، عن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن عائشة قالت:سمعتُ رسولَ الله صلى
الله عليه وسلم يقول في بعض صلاته: « اللهم
حاسبني حسابا يسيرا » . فلما انصرف قلت:يا رسول
الله، ما الحساب اليسير؟ قال: « أن ينظر في كتابه فيتجاوز له
عنه، إنه من نُوِقش الحسابَ يا عائشةُ يومئذ هَلَكَ » . صحيح
على شرط مسلم .
قوله
تعالى: ( وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا )
أي:ويرجع إلى أهله في الجنة. قاله قتادة، والضحاك، (
مَسْرُورًا ) أي:فرحان مغتبطا بما أعطاه الله عز وجل.
وقد روى
الطبراني عن ثوبان- مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم- أنه قال:إنكم تعملون
أعمالا لا تعرف، ويوشك العازب أن يثوب إلى أهله، فمسرور ومكظوم .
وقوله: (
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ )
أي:بشماله من وراء ظهره، تُثْنى يده إلى ورائه ويعطى كتابه بها كذلك، (
فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا ) أي:خسارا وهلاكا، (
وَيَصْلَى سَعِيرًا * إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا )
أي:فرحا لا يفكر في العواقب، ولا يخاف مما أمامه، فأعقبه ذلك الفرح اليسير الحزن
الطويل، ( إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ ) أي:كان
يعتقد أنه لا يرجع إلى الله ولا يعيده بعد موته. قاله ابن عباس، وقتادة، وغيرهما.
والحَوْرُ:هو الرجوع. قال الله: ( بَلَى
إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا )
يعني:بلى سيعيده الله كما بدأه، ويجازيه على أعماله خيرها وشرها، فإنه ( كَانَ
بِهِ بَصِيرًا ) أي:عليما خبيرا.
فَلا
أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ ( 16 )
وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ ( 17 )
وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ ( 18 )
لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ ( 19 )
فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ( 20 )
وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ ( 21 ) بَلِ
الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ ( 22 )
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ ( 23 )
فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( 24 ) إِلا
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ( 25 )
رُوي عن علي، وابن عباس،
وعُبادة بن الصامت، وأبي هُرَيرة، وشداد بن أوس، وابن عمر، ومحمد بن علي بن
الحسين، ومكحول، وبكر بن عبد الله المزني، وبُكَيْر بن الأشج، ومالك، وابن أبي
ذئب، وعبد العزيز بن أبي سلمة الماجَشُون أنهم قالوا:الشفق:الحمرة.
وقال عبد الرزاق، عن مَعْمَر،
عن ابن خُثَيم عن ابن لبيبة، عن أبي هُرَيرة قال:الشفق:البياض .
فالشفق هو:حمرة الأفق إما قبل
طلوع الشمس- كما قاله مجاهد- وإما بعد غروبها- كما هو معروف عند أهل اللغة.
قال الخليل بن
أحمد:الشفق:الحمرة من غروب الشمس إلى وقت العشاء الآخرة، فإذا ذهب قيل:غاب الشفق.
وقال الجوهري:الشفق:بقية ضوء
الشمس وحمرتُها في أول الليل إلى قريب من العَتمَة. وكذا قال عكرمة:الشفق الذي
يكون بين المغرب والعشاء.
وفي صحيح مسلم، عن عبد الله بن
عمرو، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « وقت
المغرب ما لم يغب الشفق » .
ففي هذا كله دليل على أن الشفق
هو كما قاله الجوهري والخليل. ولكن صح عن مجاهد أنه قال في هذه الآية: ( فَلا
أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ ) هو النهار كله. وفي رواية عنه
أيضا أنه قال:الشفق:الشمس. رواهما ابن أبي حاتم.
وإنما حمله على هذا قَرْنهُ
بقوله تعالى: ( وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ )
أي:جمع. كأنه أقسم بالضياء والظلام.
وقال ابن جرير:أقسم الله
بالنهار مدبرًا، وبالليل مقبلا . وقال ابن جرير:وقال آخرون:الشفق اسم للحمرة
والبياض. وقالوا:هو من الأضداد .
قال ابن عباس، ومجاهد، والحسن،
وقتادة: ( وَمَا وَسَقَ ) وما
جمع. قال قتادة:وما جمع من نجم ودابة. واستشهد ابن عباس بقول الشاعر:
مُستَوسقات لو تَجِدْنَ سَائقا
قد قال عكرمة: (
وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ ) يقول:ما ساق من ظلمة، إذا كان
الليل ذهب كل شيء إلى مأواه.
وقوله: (
وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ ) قال ابن عباس:إذا اجتمع
واستوى. وكذا قال عكرمة، ومجاهد، وسعيد بن جبير، ومسروق، وأبو صالح، والضحاك، وابن
زيد.
(
وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ ) إذا استوى. وقال الحسن:إذا
اجتمع، إذا امتلأ. وقال قتادة:إذا استدار.
ومعنى كلامهم:أنه إذا تكامل
نوره وأبدر، جعله مقابلا لليل وما وسق.
وقوله: (
لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ ) قال
البخاري:أخبرنا سعيد بن النضر، أخبرنا هُشَيم، أخبرنا أبو بشر، عن مجاهد قال:قال
ابن عباس: ( لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ ) حالا
بعد حال- قال هذا نبيكم صلى الله عليه وسلم.
هكذا رواه البخاري بهذا اللفظ ،
وهو محتمل أن يكون ابن عباس أسند هذا التفسير عن النبي صلى الله عليه وسلم، كأنه
قال:سمعت هذا من نبيكم صلى الله عليه وسلم، فيكون قوله: « نبيكم
» مرفوعا على الفاعلية من « قال » وهو
الأظهر، والله أعلم، كما قال أنس:لا يأتي عام إلا والذي بعده شَرٌّ منه، سمعته من نبيكم
صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن جرير:حدثني يعقوب بن
إبراهيم، حدثنا هُشَيْم، أخبرنا أبو بشر، عن مجاهد؛ أن ابن عباس كان يقول: (
لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ )
قال:يعني نبيكم صلى الله عليه وسلم، يقول:حالا بعد حال. وهذا لفظه .
وقال علي ابن أبي طلحة، عن ابن
عباس: ( طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ ) حالا
بعد حال. وكذا قال عكرمة ومُرَة الطّيِّب، ومجاهد، والحسن، والضحاك [
ومسروق وأبو صالح ] .
ويحتمل أن يكون المراد: (
لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ ) حالا
بعد حال. قال:هذا، يعني المراد بهذا نبيكم صلى الله عليه وسلم، فيكون مرفوعا على
أن « هذا » و « نبيكم
» يكونان مبتدأ وخبرا، والله أعلم. ولعل هذا قد يكون هو
المتبادر إلى كثير من الرواة، كما قال أبو داود الطيالسي وغُنْدَر:حدثنا شعبة، عن
أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (
لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ ) قال:محمد
صلى الله عليه وسلم. ويؤيد هذا المعنى قراءةُ عمر، وابن مسعود، وابن عباس، وعامة
أهل مكة والكوفة: « لَتَرْكَبَنّ » بفتح
التاء والباء.
قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو
سعيد الأشج، حدثنا أبو أسامة، عن إسماعيل، عن الشعبي: (
لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ ) قال:لتركَبن
يا محمد سماء بعد سماء. وهكذا رُوي عن ابن مسعود، ومسروق، وأبي العالية: (
طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ ) سماء بعد سماء.
قلت:يعنون ليلة الإسراء.
وقال أبو إسحاق، والسدي عن رجل،
عن ابن عباس: ( طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ ) منـزلا
على منـزل. وكذا رواه العوفي، عن ابن عباس مثله- وزاد: «
ويقال:أمرا بعد أمر، وحالا بعد حال » .
وقال السدي نفسهُ: (
لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ ) أعمال
من قبلكم منـزلا بعد منـزل.
قلت:كأنه أراد معنى الحديث
الصحيح: « لتركبن سَنَنَ من كان قبلكم، حَذْو القُذَّة بالقُذَّة، حتى
لو دخلوا جُحر ضَبِّ لدخلتموه » . قالوا:يا رسول الله، اليهود
والنصارى؟ قال: « فمن؟ » وهذا
محتمل.
وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي،
حدثنا هشام بن عمار، حدثنا صدقة، حدثنا ابن جابر، أنه سمع مكحولا يقول في قول
الله: ( لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ ) قال:في
كل عشرين سنة، تحدثون أمرا لم تكونوا عليه.
وقال الأعمش:حدثني إبراهيم
قال:قال عبد الله: ( لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ
طَبَقٍ ) قال:السماء تنشق ثم تحمر، ثم تكون لونا بعد لون.
وقال الثوري، عن قيس بن وهب، عن
مرة، عن ابن مسعود: ( طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ )
قال:السماء مَرةً كالدهان، ومرة تنشق.
وروى البزار من طريق جابر
الجعفي، عن الشعبي، عن علقمة، عن عبد الله بن مسعود: (
لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ ) يا
محمد، يعني حالا بعد حال. ثم قال:ورواه جابر، عن مجاهد، عن ابن عباس.
وقال سعيد بن جبير: (
لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ ) قال:قوم
كانوا في الدنيا خسيس أمرهم، فارتفعوا في الآخرة، وآخرون كانوا أشرافا في الدنيا،
فاتضعوا في الآخرة.
وقال عكرمة: (
طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ ) حالا بعد حال، فطيما بعد ما
كان رضيعًا، وشيخًا بعد ما كان شابا.
وقال الحسن البصري: (
طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ ) يقول:حالا بعد حال، رخاء بعد
شدة، وشدة بعد رخاء، وغنى بعد فقر، وفقرا بعد غنى، وصحة بعد سقم، وسَقَما بعد صحة.
وقال ابن أبي حاتم:ذكر عن عبد
الله بن زاهر:حدثني أبي، عن عمرو بن شَمِر، عن جابر- هو الجعفي- عن محمد بن علي،
عن جابر بن عبد الله قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إن ابن
آدم لفي غفلة مما خُلِقَ له؛ إن الله إذا أراد خلقه قال للملك:اكتب رزقه، اكتب
أجله، اكتب أثره، اكتب شقيا أو سعيدًا، ثم يرتفع ذلك الملك ويبعث الله إليه مَلَكا
آخر فيحفظه حتى يدرك، ثم يرتفع ذلك الملك، ثم يوكل الله به ملكين يكتبان حسناته
وسيئاته، فإذا حَضَره الموتُ ارتفع ذانك الملكان، وجاءه ملك الموت فقبض روحه، فإذا
دخل قبره رَدَّ الروح في جسده، ثم ارتفع ملك الموت، وجاءه مَلَكا القبر فامتحناه،
ثم يرتفعان، فإذا قامت الساعة انحط عليه ملك الحسنات وملك السيئات، فانتشطا كتابا
معقودا في عنقه، ثم حضرا معه:واحدٌ سائقا وآخر شهيدا » ، ثم
قال الله عز وجل:لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا [
ق:22 ] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (
لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ ) قال: « حالا
بعد حال » . ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: « إن
قدامكم لأمرا عظيما لا تَقدرُونه، فاستعينوا بالله العظيم » .
هذا حديث منكر، وإسناده فيه
ضعفاء، ولكن معناه صحيح، والله- سبحانه وتعالى- أعلم.
ثم قال ابن جرير بعد ما حكى
أقوال الناس في هذه الآية من القراء والمفسرين:والصواب من التأويل قول من قال
لَتَرْكَبَنّ أنت- يا محمد- حالا بعد حال وأمرًا بعد أمر من الشَّدَائد. والمراد
بذلك- وإن كان الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مُوَجَّها - جَميعَ الناس،
وأنهم يلقون من شدائد يوم القيامة وأهواله أحوالا .
وقوله: ( فَمَا
لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ )
أي:فماذا يمنعهم من الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر؟ وما لهم إذا قرأت عليهم
آيات الرحمن وكلامه- وهو هذا القرآن- لا يسجدون إعظاما وإكرامًا واحتراما؟.
وقوله: ( بَلِ
الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ ) أي:من سجيتهم
التكذيب والعناد والمخالفة للحق.
(
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ ) قال
مجاهد وقتادة:يكتمون في صدورهم.
(
فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ )
أي:فأخبرهم- يا محمد- بأن الله عز وجل قد أعد لهم عذابا أليما.
وقوله ( إِلا
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) هذا
استثناء منقطع، يعني لكن الذين آمنوا- أي:بقلوبهم- وعملوا الصالحات بجوارحهم (
لَهُمْ أَجْرٌ ) أي:في الدار الآخرة.
(
غَيْرُ مَمْنُونٍ ) قال ابن عباس:غير منقوص. وقال
مجاهد، والضحاك:غير محسوب.
وحاصل قولهما أنه غير مقطوع،
كما قال تعالى:عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [
هود:108 ] . وقال السدي:قال بعضهم: (
غَيْرُ مَمْنُونٍ ) غير منقوص. وقال بعضهم: (
غَيْرُ مَمْنُونٍ ) عليهم.
وهذا القول الآخر عن بعضهم قد
أنكره غير واحد؛ فإن الله عز وجل له المنة على أهل الجنة في كل حال وآن ولحظة،
وإنما دخلوها بفضله ورحمته لا بأعمالهم، فله عليهم المنة دائما سرمدًا، والحمد لله
وحده أبدا؛ ولهذا يلهمون تسبيحه وتحميده كما يلهمون النَّفَس:وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ
أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [
يونس:10 ] .
آخر تفسير سورة «
الانشقاق » ولله الحمد.